ﰡ
نعمة القرآن والكون
نعم الله تعالى لا تعدّ ولا تحصى، منها الكبرى المستقرة، ومنها الصغرى المتجددة بتجدّد الحياة الإنسانية وغيرها، فعلى كل إنسان شكر هذه النعم اعترافا بها وإجلالا لها ووفاء لحق المنعم، وربما كان أدق هذه النعم هو النسبية الكائنة بين الأشياء، بحيث لا يكون هناك زيادة ولا نقص، ونجد الحديث عن هذه النعم الكبرى في مطلع سورة الرحمن التي هي مكية النزول في الأصح.
وإنما نزلت حين قالت قريش بمكة: «وما الرحمن؟ أنسجد لما تأمرنا؟». قال الله تعالى:
[سورة الرحمن (٥٥) : الآيات ١ الى ١٣]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الرَّحْمنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (٢) خَلَقَ الْإِنْسانَ (٣) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (٤)الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (٥) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (٦) وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (٧) أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (٨) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (٩)
وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (١٠) فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (١١) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (١٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٣)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» «٧» «٨» [الرحمن: ٥٥/ ١- ١٣].
(٢) بحساب دقيق.
(٣) النبات الذي يظهر من الأرض.
(٤) ينقادان.
(٥) شرع العدل.
(٦) جمع كم: وهو كل ما التفّ على شيء وستره، وهو وعاء الطلع وغطاء النّور.
(٧) ورق الزرع الجاف.
(٨) هو كل مشموم طيب الرائحة من النبات.
الرحمن: هو الله تعالى المنعم بجلائل النعم الدنيوية والأخروية، وهم اسم من أسماء الله الحسنى. وهو الذي أنزل القرآن وعلّمه الناس. أوجد الإنسان: وهو هنا اسم جنس، وعلّمه النطق والفهم والإبانة عن ذلك بقول.
ومن نعم الله تعالى العلوية مجال التعلم: أن الشمس والقمر يجريان بحساب دقيق منظم، معلوم في بروج ومنازل معلومة، لا يتجاوزانها، ويدلان على اختلاف الفصول وعدد الشهور والسنين، ومواسم الزراعة، وآجال المعاملات وأعمار الناس.
ومن نعمه في عوالم الأرض السفلى: أن النبات الذي لا ساق له، والشجر الذي له ساق ينقادان طبعا لله تعالى فيما أراد، كما ينقاد الساجدون من المكلفين اختيارا، فيظهران في وقت محدد ولأجل معين، وهما غذاء الإنسان، ومتعة له.
وظاهرة التوازن أو النسبية بين الأشياء: هي في أن الله رفع السماء فوق الأرض، ووضع شرع العدل وأمر به، كما قال الله تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الحديد: ٥٧/ ٢٥].
وأمر الله بإقامة العدل على الوجه الصحيح، ومنه إقامة الوزن للأشياء بالعدل، ونهى عن نقص المكيال والميزان، كما قال تعالى: وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ [الشعراء:
٢٦/ ١٨٢] وذلك بقدر الإمكان. وأما ما لا يقدر البشر عليه من تحرير الميزان وتسويته بدقة، فهو موضوع عن الناس.
وقوله: وَلا تُخْسِرُوا من أخسر، أي نقص وأفسد.
وهذا لتأكيد الأمر بالعدل، فقد أمر الله سبحانه أولا بالعدل والتسوية، ثم نهى عن التجاوز والزيادة عند استيفاء الحق، ثم منع الخسران الذي هو النقص والبخس.
ثم أوجد الله طرق المعايش في الأرض، ففيها كل ما يتفكه به من أنواع الثمار المختلفة الألوان والطعوم والروائح، وفيها أشجار النخيل ذات أوعية الطلع وأغطية النّور والزهر الذي يتحول بعدئذ إلى تمر، وفيها جميع ما يقتات الإنسان من الحبوب كالحنطة والشعير والذرة ونحوها، ذات العصف: وهو ورق الزرع الجاف، ويتحول إلى التبن الذي هو رزق البهائم، وفيها كل مشموم من النبات ذي الرائحة الجميلة، وتنكير كلمة (فاكهة) وتعريف كلمة (النخل والحب) لأن الفاكهة تكون في بعض الأزمان وعند بعض الأشخاص، أما ثمر النخيل والحب فهو قوت محتاج إليه في كل زمان، متداول في كل وقت، ويحتاج إليه جميع الأشخاص، وكذلك الريحان الذي لا يفارق أغلب النباتات.
فبأي النعم المتقدمة يا معشر الجن والإنس تكذبان؟ فهي من الرب المنعم الذي يتعهد عباده بالتربية والنماء، فيكون هو الجدير بالحمد والشكر على كل حال.
والضمير قوله: رَبِّكُما للجن والإنس. وعرف ذلك إما من قوله: لِلْأَنامِ أي الثّقلان، وإما من تفسيرهما في قوله تعالى: خَلَقَ الْإِنْسانَ ووَ خَلَقَ الْجَانَّ.
ويقال بعد ذلك: لا بشيء من نعمك ربنا نكذب، فلك الحمد ولك الشكر.
وقد تكررت هذه الآية فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٣) في سورة الرحمن إحدى وثلاثين مرة، بعد كل خصلة من النعم، وجعلها الله فاصلة بين كل نعمتين، لتأكيد التذكير بالنعمة، وتقريرهم بها، وللتنبيه على أهميتها، والنعم تشمل دفع المكروه، وتحصيل المقصود.
نعم إلهية أخرى
يذكّرنا الله تعالى بنعمه على الدوام، ليدلنا على قدرته العظمى ووحدانيته الخالدة، فهو سبحانه خلق الإنسان في أصله من الطين اليابس، وخلق أصل الجن من النار، وهو رب المشارق والمغارب، وهو الذي حجز بين البحرين: العذب والملح، وسيّر السفن في أعالي البحار، وأعد كل ذلك لخير الإنسان ما دام في الحياة، ثم يفنى كل شيء، ويبقى الله ذو الجلال والعظمة والإكرام. وهذا ما نصت عليه الآيات الآتية:
[سورة الرحمن (٥٥) : الآيات ١٤ الى ٢٨]
خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (١٤) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (١٥) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٦) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (١٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٨)
مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (١٩) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (٢٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢١) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (٢٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٣)
وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٢٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٥) كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (٢٦) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (٢٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٨)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» [الرحمن: ٥٥/ ١٤- ٢٨].
(٢) لهب خالص لا دخان فيه. [.....]
(٣) أرسلهما.
(٤) حاجز بين الأشياء.
(٥) السفن الرافعات الشرع في البحر لتتحرك بالهواء كالجبال ونحوها من المرتفعات.
وخلق الله تعالى أصل الجن: وهو إبليس من طرف النار، أي من لهب خالص لا دخان فيه، فبأي نعم الله يا معشر الثقلين: الإنس والجن تكذبان أو تنكران هذا الواقع المشاهد؟
والله تعالى رب مشرقي الشمس في الصيف والشتاء، ورب مغربي الشمس في الصيف والشتاء، وبهما تتكون الفصول الأربعة، وتختلف أحوال المناخ من حر وبرد واعتدال. فبأي نعم الله هذه تكذبان أو تنكران؟! وخص الله تعالى ذكر المشرقين والمغربين بالتشريف في إضافة الرب إليهما، لعظمهما في المخلوقات، وأنهما طرفا آية عظيمة وعبرة، وهي: الشمس وجريها. ومتى ذكر المشرق والمغرب: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ [المزمل: ٧٣/ ٩] فيراد منهما جنس المشرق والمغرب في الجملة، ومتى ذكر المشارق والمغارب فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ [المعارج: ٧٠/ ٤٠] فيراد به مشارق كل يوم ومغاربه، ومتى ذكر المشرقان والمغربان كما هنا فيراد بهما نهايتا المشارق والمغارب، لأن ذكر نهايتي الشيء ذكر لجميعه. وقال مجاهد: هو مشرق الصيف ومغربه، ومشرق الشتاء ومغربه. والله تعالى أرسل البحرين، والمراد بهما نوعا الماء العذب والأجاج، أي خلطهما في الأرض وأرسلهما متداخلين، قريب بعضهما من بعض، ولكن بينهما حاجز يحجزهما ويمنعهما من الاختلاط، فلا يبغي أحدهما على الآخر، بالامتزاج، والاختلاط. فبأي نعم ربكما أيها الإنس والجن تكذبان أو تنكران؟
يخرج من أحد البحرين- على حذف مضاف- وهو الأجاج: اللؤلؤ وهو: كبار
والله الذي خلق وألهم صنع الجواري: وهي السفن، جمع جارية، الرافعات أشرعتها في الهواء كالجبال الشواهق ونحوها من المرتفعات من الظراب والآكام.
ولفظة الْمُنْشَآتُ تعم الكبير والصغير. وقوله كَالْأَعْلامِ هو الذي يقتضي الفرق بينهما هنا. وإنما قال: وَلَهُ الْجَوارِ خاصة، مع أن الله السماوات والأرض وما بينهما، لأن أموال الناس وأرواحهم في قبضة قدرة الله تعالى، فبأي نعم الله تكذبان يا معشر الجن والإنس؟ لقد خلقت لكم هذه النعم، أيمكنكم إنكار صناعة السفن الضخمة أو كيفية إجرائها في البحر، أو منافعها في تقريب المسافات، ونقل الحمولة وأنواع التجارة والصناعات، ليستفاد منها في بلاد أخرى.
ومما يؤكد كون هذه الأشياء من دلائل القدرة الإلهية: أن وجودها وزوالها بيد الله تعالى، فجميع من على الأرض من الناس والدواب، وجميع أهل السماوات إلا من شاء الله، سيتعرضون للفناء والموت، وتزول الحياة، ولا يبقى إلا الله سبحانه وتعالى، ذو العظمة والكبرياء، وصاحب الفضل والإكرام الذي يسبغ به على من يشاء من عباده، فبأي شيء من نعم الله هذه تكذبان أيها الجن والإنس؟! والضمير في قوله تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (٢٦) عائد للأرض، ولم يتقدم لها ذكر لوضوح المعنى، كما قال تعالى: حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ [ص: ٣٨/ ٣٢]. والآية تشمل بالفناء جميع الموجودات الأرضية من حيوان وغيره. وغلّبت عبارة من يعقل في قوله
نعم الله وعجائبه يوم القيامة
النّعم الإلهية موصولة في الدنيا والآخرة، وفي كل نعمة تعجب من صنعها وتيسيرها للناس، وفيها دلالة واضحة على عظمة القدرة الإلهية، وكون كل شيء بخلق الله وإبداعه، حتى إن كل الاكتشافات والاختراعات المادية، وإن صدرت في الظاهر من الإنسان، فإنما هي بإلهام الله وإرشاده وتعليمه، وكذلك غزو الفضاء بالآلات والأقمار الصناعية وسفن الفضاء والصواريخ، إنما تم بتمكين الله وتعليمه.
وسيفاجأ الإنسان في الآخرة بغرائب الأحداث والظواهر الكونية خلافا للمألوف في الدنيا، كانشقاق السماء وتبدّلها، وتسيير الجبال وإزالتها، وتفرّد الله بالحساب والجزاء، وكون المسؤولية شخصية أو فردية، وتميّز المجرمين عمن سواهم، ومشاهدة جهنم المستعرة تغيّظا وإرهابا. قال الله تعالى واصفا هذه الأحوال:
[سورة الرحمن (٥٥) : الآيات ٢٩ الى ٤٥]
يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (٢٩) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٠) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (٣١) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٢) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ (٣٣)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٤) يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (٣٥) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٦) فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (٣٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٨)
فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (٣٩) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٠) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ (٤١) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٢) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (٤٣)
يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (٤٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٥)
«١» «٢» «٣» «٤»
(٢) سنتجرد لحسابكم وجزائكم يوم القيامة أيها الإنس والجن.
(٣) بقوة وقهر، وذلك مستبعد.
(٤) لهب خالص لا دخان فيه.
المعنى: كل إنسان بحاجة إلى الله تعالى، فجميع من في السماوات والأرض يطلبون حوائجهم من الله تعالى، فلا يستغني عنه أهل السماء والأرض. والسائل الناطق يتكلم، وغير الناطق يعتمد على حاله، فحاله يقتضي السؤال. والله سبحانه يظهر في كل وقت أو زمن شأنا من شؤون قدرته الأزلية، من إحياء وإماتة، ورفع وخفض وغير ذلك من الأمور التي لا يعلم نهايتها إلا هو جلّ وعلا. والشأن: اسم جنس للأمور. فبأي نعم الله تكذبان معشر الجن والإنس، فإن اختلاف شؤونه في تدبير عباده: نعمة لا تجحد، ولا تكذّب.
وسنتجرّد لحسابكم وجزائكم على أعمالكم معشر الجن والإنسان، فبأي شيء من نعم الله تكذبان أيها الثقلان. وقوله تعالى: سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (٣١) : عبارة عن إتيان الوقت الذي قدّر فيه وقضى أن ينظر في أمر عباده، وذلك يوم القيامة.
وليس المعنى: أن هناك شغلا يفرغ منه، وإنما هي إشارة وعيد. والثّقلان: الجن والإنس، يقال لكل ما يعظم أمره: ثقيل.
أيها الجنّ والإنس، إن قدرتم أن تخرجوا من جوانب السماوات والأرض ونواحيهما هربا من قضاء الله وقدره، فاخرجوا منها، لا تقدرون على النفوذ من حكمه إلا بقوة وقهر، ولا قوة لكم على ذلك ولا قدرة، فلا يمكنكم الهرب.
(٢) علامتهم.
(٣) ماء حار.
والأقطار: الجهات. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: إن استطعتم بأذهانكم وفكركم أن تنفذوا فتعلموا علم أقطار السماوات والأرض. فبأي نعم الله تكذبان أيها الثقلان: الجن والإنس؟
ولو خرجتم من جوانب السماوات والأرض يسلط عليكم أيها الإنس والجن لهب النار الخالص، ويصبّ على رؤوسكم نحاس مذاب، فلا تقدرون على الامتناع من عذاب الله. وتثنية ضمير (عليكما) لبيان الإرسال في الجملة على النوعين من الإنس والجن، لا على كل واحد منهما، ولا على الجميع.
ومن أحوال الآخرة والجزاء: أنه إذا جاء يوم القيامة انصدعت السماء، وتبددت وصارت كوردة حمراء، وذابت مثل الدهن، أو بدت كالجلد الأحمر، والمراد أنها تذوب كما يذوب الزيت، وتتلون كما تتلون الأصباغ التي يدهن بها. فبأي نعم الله تكذّبان أيها الإنس والجن؟ ففي الخبر بذلك رهبة ورعب.
ويوم تنشق السماء، لا يسأل أحد من الإنس ولا من الجن عن ذنبه، لأنهم يعرفون بعلامتهم عند خروجهم من قبورهم، ولأن الله تعالى أحصى أعمالهم وحفظها عليهم. والآية تقتضي نفي السؤال. وهناك آيات أخرى تفيد إثبات السؤال مثل: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر: ١٥/ ٩٢- ٩٣]. قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن السؤال متى أثبت فهو بمعنى التقرير والتوبيخ، ومتى نفي فهو بمعنى الاستخبار المحض والاستعلام، لأن الله تبارك وتعالى عليم بكل شيء.
فبأي نعم الله تكذبان أيها الإنس والجن؟ مما أنعم الله على عباده المؤمنين في هذا اليوم. وسبب عدم السؤال أنه يعرف الكفار (المجرمون) والفجار يوم خروجهم من
ويقال لهم، أي للمجرمين يوم القيامة توبيخا وتقريعا: هذه نار جهنم التي تشاهدونها وتنظرون إليها، التي كنتم تكذبون بوجودها، ها هي حاضرة أمامكم.
وإنهم يترددون بين نار جهنم وجمرها، وبين حميمها: وهو الماء المغلي في جهنم من مائع عذابها. والحميم: الماء الساخن. فبأي النّعم تكذبان بعد هذا البيان والاعلام السابق؟!
نعم مادية على المتقين في الآخرة
في مقابلة ألوان العذاب على الكفار في الآخرة في سورة الرّحمن، ذكر الله تعالى بعدها ألوان النعيم المادية من الطعام والشراب والفاكهة، والفرش والنساء الحوريات، ترغيبا في التقوى أو العمل الصالح، وتحذيرا من العصيان والمنكرات، فمن خاف ربّه انزجر عن معاصي الله، ومن آمن بالله المستحق للعبودية والطاعة لذاته، أقبل على ساحات الرّضوان الإلهي، وحقق لنفسه السعادة والطمأنينة والهناءة. وأنواع النعيم الأخروي هي ما يأتي في قوله تعالى:
[سورة الرحمن (٥٥) : الآيات ٤٦ الى ٦١]
وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (٤٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٧) ذَواتا أَفْنانٍ (٤٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٩) فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ (٥٠)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥١) فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ (٥٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٣) مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (٥٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٥)
فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (٥٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٧) كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (٥٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٩) هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ (٦٠)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦١)
«١» «٢» «٣»
(٢) صنفان.
(٣) ما غلظ من الدّيباج. [.....]
لمن خاف قيامه بين يدي ربّه للحساب، بالكفّ عن المعاصي والتزام الطاعات:
نعمتان كبريان: روحية ومادية، أما الروحانية: فهي رضا الله تعالى كما في قوله:
وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التّوبة: ٩/ ٧٢]. وأما المادية: فهي جنّتان تشتملان على متع الدنيا في الشكل، لكنها أسمى منها وأفضل، فهما جنّتان لا جنّة واحدة. فبأي نعم الله تكذبان أيها الثّقلان؟ فإن نعم الجنان لا مثيل لها، فضلا عن دوامها. وهذا دليل على أن الجن المؤمنين يدخلون الجنة إذا اتّقوا معاصي ربّهم وخافوه.
وللجنتين الماديتين أغصان الأشجار وأنواع الثمار، فبأي نعم ربّكما أيها الإنس والجنّ تكذّبان؟
وقد نزلت آية: وَلِمَنْ خافَ فيما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن شوذب قال: في أبي بكر الصّدّيق رضي الله عنه.
وفي كل من الجنتين عين جارية، لسقي الأشجار والأغصان، والاثمار من جميع الأنواع، فبأي نعم ربّكما معشر الجنّ والإنس تكذبان؟ فتلك حقيقة قاطعة، وواقع ملموس.
وفي هاتين الجنّتين من كل فاكهة صنفان، يستلذّ بكل واحد منهما، أحدهما:
(٢) لم يفتضهن أحد، مما يدل على أن الجن يفعلون ذلك.
(٣) جواهر كريمة في صفائها وبياضها، والياقوت: حجر أملس صاف. والمرجان: الخرز الأحمر.
(٤) في الثواب: وهو الجنة.
ثم بعد الطعام ذكر الله الفراش، فهؤلاء الخائفون من عصيان الله يتنعمون على فرش بطائنها (وهي ما تحت الظهائر) من إستبرق (ما غلظ من الدّيباج) وثمر الجنّتين أو المجتنى قريب التناول. فبأي شيء من هذه النّعم يحصل التكذيب والإنكار؟! وكلمة مُتَّكِئِينَ إما حال من محذوف تقديره: يتنعمون متكئين، وإما من قوله تعالى:
وَلِمَنْ خافَ. والاتّكاء: جلسة المتنعّم المتمتّع.
أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قيل له: بطائنها من إستبرق، فما الظواهر؟ قال: ذاك مما قال الله: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السّجدة: ٣٢/ ١٧] وكذلك قال. والجنى: ما يجتنى من الثمار، ووصف بالدنوّ لأنه فيما روي في الحديث يتناوله الرجل على أي حالة كان، من قيام أو جلوس أو اضطجاع، لأنه يدنو إلى مشتهيه. ثم وصف الله الحور العين في الجنّتين، فقال:
فِيهِنَّ قاصِراتُ.. أي في الجنّتين الحور العين اللاتي قصرن ألحاظهن على أزواجهن، لم يفتضضهنّ قبلهم أحد من الإنس أو الجن. ويقال لدم الحيض ولدم الافتضاض: طمث، فإذا نفي الطمث فقد نفي القرب منهن على جهة الوطء.
والضمير في قوله: فِيهِنَّ عائد للجنات، إذ الجنّتان جنات في المعنى. فبأي النّعم تكذبان أيها الثّقلان؟! ومعنى قوله: وَلا جَانٌّ يحتمل أن يكون اللفظ مبالغة وتأكيدا، كأنه تعالى قال: لم يطمثهن شيء. ويحتمل أن الجن قد تجامع نساء البشر مع أزواجهن إذا لم يذكر الزوج الله تعالى، فنفى في هذه الآية جميع المجامعات.
ثم بيّن الله سبب هذا الثواب، بقوله: هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ.. أي ما جزاء من أحسن العمل في الدنيا إلا الإحسان إليه في الآخرة، فبأي شيء من نعم الله تكذبان معشر الجن والإنس؟ وهذه آية وعد وبشرى لنفوس جميع المؤمنين، لأنها عامة.
نعم أخرى على المتقين في الآخرة
تابع الله تعالى في سورة الرّحمن سرد أوصاف النعيم المادية للمتقين الخائفين من معاصي الله، المقدمة لهم يوم القيامة، ففي الآيات السابقة بيّن الحق تعالى أن ثواب الخائفين جنّتان. وفي هذه الآيات ضمّ إليهما جنّتان أخريان لمن كان دون المتّقين في الرتبة والفضيلة، ولكنهما خضراوان، وفوّارتان بالماء، ومشتملتان على أنواع الفاكهة اللذيذة، والخيرات الحسان وهي أفضل النساء، وهن عذارى، وأهل هاتين الجنتين متكئون على وسائد مخضرة وبارعة الحسن والجمال، وكل ذلك من الله تعالى المتّصف بالعظمة والجلال، المتنزه عن كل ما لا يليق به، ومصدر هذا الإنعام والفضل على عباده، كما تصوّر لنا هذه الآيات:
[سورة الرحمن (٥٥) : الآيات ٦٢ الى ٧٨]
وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (٦٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٣) مُدْهامَّتانِ (٦٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٥) فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (٦٦)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٧) فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (٦٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٩) فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (٧٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧١)
حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (٧٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٣) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (٧٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٥) مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (٧٦)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٧) تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (٧٨)
«١» «٢» «٣»
(٢) فوّارتان بالماء.
(٣) نساء بيض ذات أعين، شديدة بياض العين مع شدة سوادها، محبوسات ومستورات في الخيام.
ومن دون الجنّتين المتقدمتين في بيان سورة الرّحمن في المنزلة والقدر: جنّتان أخريان. والجنّتان الأوليان: جنّتا السابقين، والأخريان جنّتا أصحاب اليمين. فبأي شيء من النّعم الإلهية تكذّبان أيها الإنس والجنّ؟
والجنّتان شديدتا الخضرة، من شدة الرّي المائي. فبأي نعم الله تكذبان معشر الجن والإنس؟
وفي الجنّتين عينان فيّاضتان فوّارتان بالماء العذب، فهناك جنّتان تجريان بالأنهر، وجنّتان فوّارتان، والجري أقوى من النّضخ. فبأي نعم الله تكذبان أيها الإنس والجن؟
وفي هاتين الجنّتين نساء جميلات، خيّرات الأخلاق، حسان الوجوه، فبأي نعم الله تكذبان أيها الجن والإنس؟! وهؤلاء النساء الخيرات، حور شديدات البياض، واسعات الأعين، مع شدة السواد وشدة البياض وصفائه، مخدرات محجّبات مستورات في خيام الجنّة، المكونة من الدّر المجوفة. والخيام: البيوت من الخشب، لا يتبذلن في شارع ولا سوق، ولا يخرجن لبيع أو شراء، وهنّ مقصورات على أزواجهن، لا ينظرن إلى رجال غيرهن.
وهذه هي المرأة المحببة للرجال، خلافا لأذواق المنحلّين اليوم.
ولم يمسّهن ولم يجامعهن قبل ذلك أحد من الإنس والجن، توفيرا للمتّقين الخائفين ربّهم، فبأي نعم الله تكذبان؟
(٢) وسائد أو ملاءات (شراشف) على ظهور الأسرّة.
(٣) بسط منقوشة.
وهنا ختمت هذه الصفات والسورة كلها بالإقرار بمصدر هذا الفضل، وهو الله تعالى الذي تنزه عن كل ما لا يليق به، فهو المتفرّد بصفات العزّة والعظمة، وإكرام عباده المخلصين، وهو أحقّ بالعبادة والإجلال فلا يعصى، وأن يكرم فيعبد، ويشكر فلا يكفر، وأن يذكر فلا ينسى. وهذه الخاتمة تدلّ على بقاء أهل الجنة ذاكرين اسم الله، منزهين له، مستمتعين به. وأما أوصاف نعيم الدنيا فختمت بما يشير إلى فناء كل شيء من الممكنات يوم القيامة مع بقاء الله: وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (٢٧).
وفي الجملة: هناك لأهل التقوى أربع جنان ذات منازل مختلفة، اثنتان منهما للمقرّبين السابقين، واثنتان دونهما في المكانة والمنزلة لأصحاب اليمين. والفروق واضحة بين كل من النوعين، وذلك دليل على إقامة صرح العدالة في الثواب والتكريم، فلا يستوي كل فريق مع الآخر، مع تفاوتهما في العمل الصالح، وممارسة كل مظاهر التقوى، وأعمال البر في الدنيا، مما يؤهل كل فريق لما أعدّه الله له من الإحسان والنّعم الموافية لعمله.