تفسير سورة النساء

أوضح التفاسير
تفسير سورة سورة النساء من كتاب أوضح التفاسير المعروف بـأوضح التفاسير .
لمؤلفه محمد عبد اللطيف الخطيب . المتوفي سنة 1402 هـ

﴿يأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ﴾ خافوه واخشوا عقابه ﴿الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ آدم عليه السلام ﴿وَخَلَقَ مِنْهَا﴾ أي من جنسها حواء ﴿وَبَثَّ﴾ فرق ونشر ﴿مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً﴾ كثيرة؛ هم سائر الخلق من بني الإنسان ﴿وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ﴾ أي يسأل بعضكم بعضاً ب الله استعطافاً كقولكم: أسألك ب الله أن تفعل كذا. ويسأل بعضكم بعضاً بالأرحام؛ يقول: بحق ما بيننا من الرحم افعل كذا «والأرحام» جمع رحم؛ وهو القرابة. أي واتقوا الأرحام فلا تقطعوها؛ بل صلوا أقرباءكم وبروهم ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾ أي مراقباً لأعمالكم، فمجازيكم عليها؛ إن كان خيراً فخير، وإن كان شراً فشر
﴿وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ﴾ أعطوهم أموالهم، ولا تأكلوها لعجزهم عن مطالبتكم بها ﴿وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ﴾ الحرام؛ أي لا تستبدلوا الأمر الخبيث؛ وهو أكل مال اليتامى ﴿بِالطَّيِّبِ﴾ الحلال؛ وهو المحافظة عليه، ورده لأصحابه ﴿وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ﴾ بأن تضموها ﴿إِلَى أَمْوَالِكُمْ﴾ وتزعمونها لكم} إثماً
﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ﴾ ألا تعدلوا شأن ﴿الْيَتَامَى فَانكِحُواْ﴾ تزوجوا ﴿مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النِّسَآءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ﴾ انظر مبحث «تعدد الزوجات» بآخر الكتاب ﴿ذلِكَ أَدْنَى﴾ أقرب ﴿أَلاَّ تَعُولُواْ﴾ ألا تجوروا. من عال الحاكم في حكمه: إذا جار. أو ﴿أَلاَّ تَعُولُواْ﴾ بمعنى ألا تميلوا. من عال الميزان عولاً إذا مال. وقيل: المعنى: ذلك أدنى ألا يكثر عيالكم. يؤيده قراءة من قرأ «ألا تعيلوا»
﴿وَآتُواْ النِّسَآءَ صَدُقَاتِهِنَّ﴾ مهورهن.
-[٩١]- ﴿نِحْلَةً﴾ النحلة: العطاء الذي لا يقابله عوض. أو «نحلة» أي عن طيب نفس. أو «نحلة» بمعنى: حقاً لهن، لا مراء فيه؛ لأن النحلة أحد معانيها الدعوى ﴿فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ﴾ أي من المهر بأن تنازلن لكم عن بعضه ﴿فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً﴾ حلالاً لا شبهة فيه؛ لأن كل حق تنازل عنه صاحبه - عن طيب نفس - فهو حلال طيب للمتنازل إليه
﴿وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَآءَ﴾ المبذرون وعديمو الأهلية، أو هم النساء والصبيان أي لا تؤتي ابنك السفيه، ولا امرأتك السفيهة مالك؛ وكان أبو موسى الأشعري يقول: ثلاثة يدعون الله تعالى فلا يستجيب لهم: رجل كانت له امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها، ورجل أعطى ماله سفيهاً، ورجل كان له دين على آخر فلم يشهد عليه.
والآية في السفهاء عامة بدون تخصيص والسفيه: هو المستحق الحجر؛ لفساده وإفساده وسوء تدبيره؛ فلا تؤتوهم ﴿أَمْوَالَكُمُ﴾ فيتلفونها ويضيعونها؛ وهي ﴿الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ﴾ أي جعلها ﴿قِيَاماً﴾ قواماً لأبدانكم، وسبباً لمعاشكم ويدل على أن المراد بذلك الأبناء والزوجات قوله تعالى: ﴿وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً﴾ لأن الإنسان غير مكلف برزق وكسوة سائر السفهاء؛ وإن كان مكلفاً بأن يقول للجميع ﴿قَوْلاً مَّعْرُوفاً﴾ والقول المعروف: أن يقول لهم: إن صلحتم ورشدتم أعطيناكم كذا، وسلمنا إليكم كذا وجعلناكم رؤساء آمرين، لا مرءوسين مأمورين؛ وأمثال ذلك. وقد يكون المراد بقوله تعالى: ﴿أَمْوَالَكُمُ﴾: أموالهم؛ فيكون المراد سائر السفهاء كما قدمنا. وسمى مال السفهاء: أموال المخاطبين: لأن المال مشاع الانتفاع بين الناس، وتجب المحافظة عليه على كل واحد منهم
﴿وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى﴾ أي اختبروا صلاحهم ودينهم وعقلهم ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ﴾ أي سن الزواج؛ وهو بلوغ الحلم. هذا وقد قيدت القوانين الوضعية سن الزواج لمصالح ارتآها المقنن؛ وطاعة الحاكم واجبة ما لم تمس حرمات الله تعالى ﴿فَإِنْ آنَسْتُمْ﴾ وجدتم وعرفتم
﴿مِّنْهُمْ رُشْداً﴾ عقلاً وصلاحاً في التصرفات ﴿فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ﴾ ليتصرفوا فيها طبقاً لرغباتهم - في حدود ما أمر الله تعالى - وإلا فالحجر واجب على كل سفيه ﴿وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ﴾ أي مسرفين ومبادرين أكل أموالهم قبل أن يكبروا ويتسلموها منكم ﴿وَمَن كَانَ﴾ منكم ﴿غَنِيّاً﴾ أيها الأوصياء فَلْيَسْتَعْفِفْ} أي فلا يأخذ أجراً على وصايته ﴿وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ لا يزيد عن أجر إدارة أموال اليتيم فحسب
﴿لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ﴾ حظ مقدر ﴿مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ﴾ من ذلك أيضاً ﴿نَصِيباً مَّفْرُوضاً﴾ فرضه الله تعالى
﴿وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ﴾ قسمة الميراث ﴿أُوْلُواْ الْقُرْبَى﴾ ذوو القربة؛ ممن لا يرث
-[٩٢]- حضر ﴿وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِّنْهُ﴾ من الميراث بقدر ما تطيب به نفوسكم ﴿وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً﴾ ترضية لنفوسهم، وتطييباً لقلوبهم. وهي وصية لأولي القربى: الذين يحزنون ولا يرثون. قال تعالى: ﴿إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ﴾ وقد ذهب بعضهم إلى نسخ ذلك الحكم؛ وهو محكم وليس بمنسوخ؛ وقد أجمع على ذلك الصدر الأول من الإسلام: فقد روي عن يحيىبن يعمر رضي الله تعالى عنه: ثلاث آيات محكمات مدنيات؛ تركهن الناس: هذه الآية، وآية الاستئذان ﴿يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ وآية التعارف ﴿يأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُواْ﴾ وقيل: على الوارث الإعطاء، وعلى المعطى له قول المعروف
﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ﴾ بعد موتهم
﴿ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ﴾ نزلت هذه الآية في الأوصياء والمعنى: تذكر أيها الوصي ذريتك الضعاف من بعدك؛ وكيف يكون حالهم بعد موتك؛ وعامل اليتامى الذين وكل إليك أمرهم وتربوا في حجرك؛ بمثل ما تريد أن يعامل أبناؤك بعد فقدك
﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً﴾ أي ظالمين لهم ﴿إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً﴾ وهذا مشاهد في الدنيا: ترى آكل مال اليتيم؛ وقد انتابته الأمراض الفتاكة المهلكة؛ فهذه قرحة في المصارين تقضّ مضجعه، وهذا سرطان يسري في دمه ويأكل لحمه وهؤلاء أبناؤه وقد فسدوا خلقاً وخلقاً، وعاثوا فساداً وإفساداً، وأهلكوا ماله وأفسدوا حاله؛ جزاءً وفاقاً لما جنته يداه، وعصيانه لمولاه وقد ذهب المفسرون إلى أن المراد بالنار التي يأكلونها في بطونهم: نار الآخرة؛ لأن مآلهم إليها. والقول الذي ذهبنا إليه أولى لما نشاهده، ولقوله تعالى: ﴿وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً﴾ في الآخرة
﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ﴾ أي يعهد إليكم، ويأمركم ﴿فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ﴾ أي مثل نصيب الأنثيين. ولا توجد حالة يسوي فيها المشرع بين الذكر والأنثى في الميراث؛ سوى عند وجود الأبوين مع ابن أو بنتين فصاعداً؛ فإن نصيب الأم يكون مساوياً لنصيب الأب؛ فيأخذ كل منهما السدس. وعند وجود إخوة، وإخوة لأم؛ فإنهم جميعاً يستحقون ثلث التركة: يقسم بينهم بالتساوي، لا فرق بين ذكورهم وإناثهم. ولا عبرة بما يدعو إليه غلاة الزنادقة، وأئمة الإلحاد؛ من مساواة المرأة بالرجل في الميراث؛ إذ أن ما يدعون إليه من أكبر الكبائر كيف لا وهو مخالف لما جاء به الكتاب الكريم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه والميراث من الحقوق التي قررها الله تعالى، وجعلها فريضة محكمة، وتوعد مخالفها والخارج عليها بنار الجحيم؛ والعذاب
-[٩٣]- الأليم:
وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَّمْ يَكُنْ لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ} ﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ وقد يقول قائل: إن الله قد جعل الإنسان حراً فيما آتاه وهو وهم يلقيه الشيطان لأوليائه من بني الإنسان؛ فهي حرية مقيدة بما فرضه وقرره واهب المال وقد جعله تعالى فتنة للناس ﴿وَاعْلَمُواْ أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ ﴿فَمَن شَآءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً﴾ باتباع أحكامه، والتزام أوامره، ومن شاء اتخذ إلهه هواه، وخرج من دنياه بسخط المخلوقين، وغضب رب العالمين وليس معنى ذلك أننا نحرم الوصية المشروعة؛ التي يجب وضعها حيث أمرالله؛ وما شرعها تعالى إلا لزيادة ثواب فاعلها وتنمية أعماله؛ وهي - في حدود الثلث - لذوي القربى من المعوزين، ولذوي الحاجات من الفقراء والعاجزين وقد جاء في الحديث الشريف: أن أحد الصحابة رضوان الله تعالى عليهم منح أحد أولاده بعض ماله، وجاء ليشهد الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه على ما منح؛ فسأله: «أله إخوة؟» قال: نعم يا رسولالله. قال: «أكلهم أعطيت مثلما أعطيته؟» قال: لا. قال عليه الصلاة والسلام: «لا أشهد على جور؛ اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم» وقد وضح من ذلك الحديث: أن محاباة بعض الأبناء ظلم وجور؛ وعن ذلك نهى الله تعالى ورسوله ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ ﴿آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً﴾ في الدنيا والآخرة؛ ولكن الله يدري ذلك؛ فقسم حيث توجد المصلحة، وتتوفر المنفعة. وهذا يتنافى مع ما يعمله بعض الجهال؛ من إيثار بعض أبنائه بماله، وحرمان البعض الآخر؛ مما يوجب البغضاء والشحناء، ويؤدي إلى ارتكاب الجرائم، ووخيم العواقب
﴿مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَآ﴾ إلى بعض الأقرباء الفقراء؛ كما بينا في الآية السابقة ﴿وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً﴾ الكلالة: الذي لا ولد له ولا والد ﴿غَيْرَ مُضَآرٍّ﴾ أي بشرط أن تكون تلك الوصية للمصلحة؛ لا بقصد الإضرار بالورثة ﴿تِلْكَ﴾ الفرائض التي بيّنها الله تعالى وشرعها ﴿حُدُودُ اللَّهِ﴾ فلا ينبغي تجاوزها ﴿وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾
﴿وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ فليس لإنسان - بالغ ما بلغ - أن يطمعه الشيطان؛ بأن هداه أهدى من هدى الله وليس لإنسان أن يحاول الخروج عما رسمه الله تعالى وأراده لعباده؛ وليس لهوى الإنسان، مكان مع صريح القرآن
{وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً *
﴿وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ﴾ هي المساحقة. وقال الأكثرون: هي الزنا، وإنها
-[٩٤]- نسخت بقوله تعالى: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ﴾ وسندهم في ذلك قوله تعالى: ﴿فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنْكُمْ﴾ واشتراط الأربعة الشهداء؛ لم يرد إلا في الزنا ﴿فَإِن شَهِدُواْ﴾ بإتيانهن الفاحشة ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ﴾ احبسوهن ﴿فِي الْبُيُوتِ﴾ فلا يختلطن بأحد - رجالاً أو نساء - عقوبة لهن وحفظاً ﴿حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً﴾ طريقاً للخلاص؛ مما هن فيه من الحبس، ومما كن عليه من الإثم وذلك السبيل بالزواج. ويرد على قول من قال: إن هذه الآية نزلت في الزنا وإنها منسوخة؛ يرد على ذلك بقوله تعالى:
﴿وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ﴾ فخص في الأولى الإناث وحدهن، وفي الثانية الرجال وحدهم؛ فبان لنا من ذلك أنه تعالى إنما عنى في الأولى المساحقة، وفي الثانية اللواط ﴿فَآذُوهُمَا﴾ أي اللائط والملوط به: والإيذاء يكون بالضرب، والتوبيخ، والتشنيع، والتعبير، والهجران، وغير ذلك. وهو دليل أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه؛ في حد اللائط بالتعزير. والتعزير قد يصل إلى حد القتل؛ وقد قضوا في اللائط؛ بأن يلقى من حالق واللواط من الفواحش الذميمة التي يستحق مرتكبها أن يقطع إرباً، ويلقى للكلاب؛ جزاء فعلته التي قبحها الله وتوعد فاعلها عافانا الله تعالى من كل ما يغضبه بمنه وكرمه، وأنجانا من ذل المعصية، ووهبنا عز الطاعة؛ إنه سميع مجيب
﴿فَإِن تَابَا﴾ عن اللواط ﴿وَأَصْلَحَا﴾ أعمالهما ﴿فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَآ﴾ توقفوا عن إذايتهما؛ ما داما قد تابا إلىالله، وأصلحا ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّاباً﴾ قابلاً لتوبة من تاب ﴿رَّحِيماً﴾ بعباده؛ إذا حسنت توبتهم: بدل سيئاتهم حسنات
﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ﴾ يقبلها ويثيب فاعلها ﴿لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ﴾ بجهل منهم عاقبة أمرهم ﴿ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ﴾ أي يتوبون سريعاً، ويرجعون إلى مولاهم ومن علامة التوبة النصوح: عدم العود إلى الذنب؛ وإلا فالعائد لذنبه، كالمستهزىء بربه وهذه هي التوبة المتقبلة؛ التي تجعل صاحبها في عداد الطيبين الصالحين
﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ﴾ ولا يعبأون بفاطر الأرض والسموات وهم أهل الإصرار على المعاصي ﴿حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ﴾ أي حضرت أسبابه ومقدماته، وأخذ في النزع ﴿قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ﴾ فهذا الغر لا تقبل توبته، ولا ترد غربته، ولا تحمد أوبته فما أشبهه بفرعون - حين أدركه الغرق، وأخذ الموت بتلابيبه - قال: ﴿آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنواْ إِسْرَائِيلَ﴾ فقيل له: ﴿آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾ (انظر آية ٩١ من سورة يونس) ﴿وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا﴾ أعددنا وهيأنا ﴿لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً﴾ في جهنم وبئس المصير
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَآءَ
-[٩٥]- كَرْهاً﴾
أي لا يحل لكم أن تأخذوا نساء مورثكم فتتزوجوهن كأنهن من الميراث المتروك لكم؛ وكان ذلك شأنهم في الجاهلية. وقد يكون المعنى: لا يحل لكم أن ترثوهن أحياء؛ فتأخذوا أموالهن كرهاً ﴿وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ﴾ العضل: الحبس والتضييق ﴿لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَآ آتَيْتُمُوهُنَّ﴾
من المهر ونحوه ﴿إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ﴾ هي الزنا. وقيل: ما تستحيل معه المعيشة: كالنشوز، وإيذاء الزوج وأهله؛ فهنا فقط يجوز للزوج أن يسترد ما آتاها ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ بالمودة والرحمة اللتان فرضهما الله تعالى بين الأزواج ﴿فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً﴾ وهو حث كريم على العطف وعدم التطليق إلا للضرورة القصوى التي تستحيل معها جنة الحياة الزوجية، إلى جحيم الشحناء والبغضاء
﴿وَإِنْ أَرَدْتُّمُ﴾ أيها الأزواج ﴿اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ﴾ بتطليق وتزوج ﴿وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ﴾ أي آتيتم الزوجة المرغوب عنها، المرغوب في تطليقها ﴿قِنْطَاراً﴾ كناية عن كثرة المعطى لها؛ من مهر وهدية ونحوهما ﴿فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً﴾ وصف الله تعالى أخذ المطلق شيئاً مما آتاه لمطلقته بالبهتان - وهو الظلم - وبالإثم المبين - وهو الذنب البين الفادح. وهذا النهي في حالة واحدة: هي رغبة الرجل وحده في التطليق؛ ابتغاء «استبدال زوج مكان زوج» أما في حالة رغبتها هي في الانفصال؛ فيجوز له أخذ كل ما آتاها أو بعضه؛ لقوله تعالى: ﴿فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾ نفسها؛ لتخلص من هذا الزوج الذي لا ترغب في البقاء تحت إمرته (انظر آية ٢٢٩ من سورة البقرة)
﴿وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ﴾ هو كناية عن الخلوة الصحيحة ﴿وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً﴾ الميثاق الغليظ: هو ما أمر الله تعالى به من إمساكهن بالمعروف، أو تسريحهن بإحسان، أو هو عقد الزواج، أو هو كناية عن الالتقاء والمجامعة. أو المراد بالإفضاء والميثاق: هو ما بينهما من المودة والمحبة، وما يجب عليهما من ستر المعايب، والمحافظة على السر
﴿وَمَقْتاً﴾ وبغضاً عند الله تعالى:
﴿وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ﴾ أي بنات أزواجكم اللاتي ربيتموهن؛ وسميت ربيبة: لتربيته لها. والتحريم يتناول من تربت في الحجر ومن لم تترب فيه؛ لأن الزوجة المدخول بها: يحرم على الزوج أصولها وفروعها. وقد ذهب أهل الظاهر إلى أن الربيبة لا تحرم إلا بشرطين: الدخول بالأم، والتربية في الحجر؛ فإذا انعدم أحد الشرطين؛ لم يوجد التحريم ﴿فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ لا حرج في تزوج الربيبة في حالة طلاق الزوجة، أو موتها قبل الدخول بها؛ والدخول: كناية عن الجماع ﴿وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ﴾
-[٩٦]- جمع حليلة؛ وهي الزوجة ﴿وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الاخْتَيْنِ﴾ لما في الجمع بينهما من مضارة لهما؛ وإبدال ما بينهما من ود بالغ، إلى حقد شنيع ويحرم أيضاً الجمع بين المرأة وعمتها، أو خالتها، أو ابنة أخيها، أو ابنة أختها؛ لقوله: «لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها وعلى ابنة أخيها ولا على ابنة أختها»
﴿وَالْمُحْصَنَاتُ﴾ المتزوجات ﴿مِّنَ النِّسَآءِ﴾ أي وحرمت عليكم النساء المتزوجات؛ ويتناول التحريم: أن يتعرض لها بوعد، أو أن يعرض نفسه عليها ﴿إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ﴾ فهن غير محرمات. وهن اللائي سبين في الحرب، ولهن أزواج من الكفار المحاربين؛ فقد أصبحت - بالكفر والسبي - من ملك اليمين؛ حلالاً لمن أخذها؛ بشرط أن يستبرئها؛ وإذا باعها فقد طلقت منه بالبيع. وقيل: «المحصنات» العفائف ﴿إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ﴾ بالعقد. وقيل: هن نساء أهل الكتاب: لا تحل إلا إذا ملكت بالسبي وقت الحرب ﴿كِتَابَ اللَّهِ﴾ أي كتب الله تعالى تحريم ما حرم، وتحليل ما حلل من ذلك ﴿عَلَيْكُمْ﴾ فلا تحلوا ما حرم، أو تحرموا ما أحل ﴿وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ﴾ الحلال ﴿بِأَمْوَالِكُمْ﴾ للمهر أو للثمن ﴿مُّحْصِنِينَ﴾ متزوجين. والإحصان: العفة، وتحصين النفس من الوقوع في الحرام ﴿غَيْرَ مُسَافِحِينَ﴾ غير زانين. والمسافحة: الزنا ﴿فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ﴾ بالزواج ﴿فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾ مهورهن ﴿وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ لا إثم، ولا حرج ﴿فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ﴾ أي في إنقاص جزء من المهر المفروض؛ بشرط التراضي الكامل؛ الذي لا عسف فيه ولا إكراه غناء وسعة
﴿أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ﴾ الحرائر العفيفات إمائكم ﴿الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ﴾ أي ليتزوج أحدكم أمة أخيه أو صديقه - ما دامت قد أظهرت إيمانها - والله أعلم بسرائركم ﴿بَعْضُكُمْ مِّن بَعْضٍ﴾ أي إنكم جميعاً بنو آدم؛ قد خلقتم من نفس واحدة؛ فلا داعي أن تستنكفوا من زواج الإماء المؤمنات؛ حيث إنكم في ضيق لا يمكنكم من زواج الحرائر؛ أليس الزواج بالأمة خير من الوقوع في الزنا؟ ﴿فَانكِحُوهُنَّ﴾ تزوجوا الإماء
﴿بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ﴾ مواليهن ﴿وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾ مهورهن ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾ على ما تراضيتم به؛ من غير مطل ﴿مُحْصَنَاتٍ﴾ عفيفات ﴿غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ﴾ زانيات ﴿وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ﴾ جمع خدن: وهو الخليل ﴿فَإِذَآ أُحْصِنَّ﴾ زوجن ﴿فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ﴾ أي زنين ﴿فَعَلَيْهِنَّ﴾ أي على الإماء من الحد ﴿نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ﴾ الحرائر ﴿ذلِكَ﴾ الذي أبحته لكم من زواج الإماء ﴿لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ﴾ الزنا. وأصل العنت: الضيق والضرر والمشقة
-[٩٧]- ﴿وَأَن تَصْبِرُواْ﴾ عن المعاصي، وعلى الطاعات ﴿خَيْرٌ لَّكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ﴾ لما فرط منكم؛ إن أصلحتم أمور أنفسكم فيما بينكم وبينه ﴿رَّحِيمٌ﴾ بكم؛ لا ينهاكم إلا عما فيه الضرر المحيق بكم، ولا يأمركم إلا بما فيه المصلحة الدنيوية والأخروية لكم
﴿يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ﴾ الشرائع السليمة ﴿وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾ طرق من سبقكم من رسل الله تعالى وأنبيائه، وعباده المؤمنين الصالحين
﴿وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ﴾ يغفر ذنوبكم، ويعفو عما سلف من آثامكم ﴿وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ﴾ من شياطين الإنس؛ الذين نسوا مولاهم، وجعلوا إلههم هواهم ﴿أَن تَمِيلُواْ﴾ عن الإيمان والحق
﴿يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ﴾ بما يسره وأباحه لكم؛ من زواج الأمة - عند تعذر زواج الحرة - وبما رخصه لكم ﴿وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً﴾ لا يستطيع الصبر عن النساء
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾ بما لم يبحه الشرع؛ كالغصب، والقمار، والربا، والسرقة، وما شاكل ذلك
﴿إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً﴾ تديرونها بينكم ﴿عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ﴾ على أن يكون التراضي غير مشوب بإكراه؛ كمن يرى تاجراً في ضيق فينتهز فرصة ضيقه وإفلاسه، ويساومه في بضاعته، بدون ثمنها المعلوم، أو بأقل مما يشتري به مثلها؛ فيقبل البائع مضطراً؛ لحاجته. ويقول المشتري في نفسه: أليس البيع عن تراض؟ أليس من حقي أن أشتري بالثمن الذي أرتضيه؟ ويستحل بذلك ما حرم الله تعالى فليس هذا بالتراضي المطلوب الذي أراده الله تعالى؛ بل هو بالغصب أشبه. وإنما التراضي: أن تكون نفس البائع راضية؛ ونفسه لن تكون راضية وهو خاسر في بيع سلعته؛ أكرهته الظروف على هذا البيع، واضطرته مطامع المشتري إليه فليتق الله من يرغب في جنته، وليتجنب الشبهات في ماله وعرضه ودينه ﴿وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنْفُسَكُمْ﴾ أي لا يقتل بعضكم بعضاً، أو لا تفعلوا ما يوجب قتلها. أو هو على ظاهره بمعنى الانتحار
﴿وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ﴾ بأن يأكل أموال الناس بالباطل، أو يشتري بغير تراض، أو يقتل النفس التي حرم الله تعالى قتلها ﴿عُدْوَاناً﴾ منه على الغير ﴿وَظُلْماً﴾ لهم ﴿فَسَوْفَ نُصْلِيهِ﴾ ندخله ﴿نَاراً﴾ جهنم وبئس المصير
﴿إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ﴾ الكبائر: لا تعد، ولا تحد؛ وأكبرها: الشرك بالله، وقتل النفس، وعقوق الوالدين، والزنا، وشرب الخمر، وقول الزور، والفرار يوم الزحف. وقد قالوا: لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار أي إن الصغائر إذا لازمها المذنب وأصر على إتيانها: فهي كبائر، والكبائر إذا ندم على ارتكابها، واستغفر ربه منها؛ قبله الله تعالى وغفرها له ﴿نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾
-[٩٨]- المراد بالسيئات: الصغائر
﴿وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ أي ألزموا الطاعة، وتمسكوا بأهداب القناعة؛ ولا تطمحوا بأعينكم إلى ما خص الله تعالى به غيركم؛ فهو جل شأنه مالك الملك؛ يعطي من يشاء، ويمنع من يشاء؛ بيده الخير كله وهو حث على عدم الحقد والحسد. وقيل: نزلت حين تمنت النساء مثل أجر الرجال ﴿وَاسْأَلُواْ اللَّهَ مِن فَضْلِهِ﴾ فإن آلاءه لا تعد، وفواضله لا تنفد؛ وهو وحده القادر على تحقيق أمانيكم، وبلوغ آمالكم
﴿وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ﴾ وهم الأقرباء الذين ليست لهم فرائض مسماة؛ فيأخذون ما بقي - من الميراث - من أصحاب الفرائض
﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَآءِ﴾ أي قائمون عليهن بالأمر والنهي والتوجيه، والزجر والتأديب، والإنفاق والرعاية؛ كما يقوم الولاة على الرعية.
وذلك لأن القوامة أحوج إلى الحزم والتدبير؛ منها إلى الحنان والوجدان فصفات الرياسة والقوامة متوافرة في الرجل توافراً كاملاً؛ لأنه خلق ليكون قائداً ورائداً؛ كما أن صفات الرقة والحنان، والرحمة والوجدان؛ متوافرة في المرأة؛ لأنها خلقت لتكون زوجاً وأماً ﴿بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ أي هذه القوامة بسبب تفضيل الله تعالى للرجال على النساء؛ لوفور علمهم، ومزيد قوتهم، واضطلاعهم بالأعباء الجسام ﴿وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ﴾ لأن النفقة واجبة عليهم. وهذا هو سبب قوامة الرجل على المرأة، فإذا انعدمت هذه الأسباب؛ وكان الرجل خاملاً، ضعيفاً، جاهلاً، معدماً؛ فأي قوامة له على المرأة النابهة، القوية، العالمة، الغنية؟ ﴿فَالصَّالِحَاتُ﴾ من النساء ﴿قَانِتَاتٌ﴾ مطيعاتلله تعالى ولأزواجهن ﴿حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ﴾ أي حافظات لعرضه وماله - حال غيبته - بما أمر الله به أن يحفظ. أو حافظات لما يجري بينهن وبين أزواجهن مما يجب كتمه، ويجمل ستره. قال: «إن من شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة: الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه؛ ثم ينشر أحدهما سر صاحبه» ولا يخفى ما يأتيه الآن سفهاء القوم؛ حين يصبح أحدهم فيقول: صنعت في ليلة أمس كيت وكيت، وتصبح زوجته أيضاً فتقول لجارتها: لقد صنع بي أمس كيت وكيت. فيتضاحكن لتلك السفاهة الشنيعة، والبذاءة الممقوتة ﴿وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ﴾ عصيانهن ﴿فَعِظُوهُنَّ﴾ أي مروهن بالطاعة ﴿وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ﴾ بأن لا تناموا معهن في فراش واحد. أو كناية عن عدم إتيانهن ﴿وَاضْرِبُوهُنَّ﴾ ضرباً يسيراً غير مبرح؛ ولكنه يبلغ حد الإيلام، وإلا انتفت به حكمة التأديب. انظر كيف يعلمنا الله سبحانه وتعالى كيف نؤدب نساءنا؟ وكيف نتدرج بهذا التأديب؛ فمن نصح يبلغ
-[٩٩]- حد اللطف، إلى هجر لا يبلغ حد العنف، إلى ضرب بعيد عن القسوة؛ فإذا نفع الوعظ: حرم الهجر. وإذا تم التأديب بالهجر: حرم الضرب ﴿فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً﴾ أي إن أطعنكم بالوعظ؛ فلا تبغوا عليهن بالهجر، وإن أطعنكم بالهجر؛ فلا تبغوا عليهن بالضرب
﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا﴾ أي إن استحكم هذا الشقاق، وخشيتم عواقبه؛ ولم تتأدب بما أدبها الله تعالى به، أو تجاوز الزوج حدود الله في تأديبها ﴿فَابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَآ﴾ ليبحثا ما بين الزوجين من خلاف ﴿إِن يُرِيدَآ﴾ الحكمان ﴿إِصْلاَحاً﴾ بين الزوجين ﴿يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَآ﴾ أي بين الحكمين؛ فيزيلا ما بين الزوجين. أو «يوفق الله بينهما» أي بين الزوجين ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً﴾ بما فعله الحكمان ﴿خَبِيراً﴾ بمكنون صدورهما ﴿﴾ حق عبادته
﴿وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً﴾ قرن تعالى عبادته بالإحسان بالوالدين في غير موضع من كتابه الكريم؛ لما لهما على الابن من فضل يعجزه وفاؤه ﴿وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى﴾ القريب منك ﴿وَالْجَارِ الْجُنُبِ﴾ البعيد عنك. أو المراد بها قرابة النسب؛ وعلى كلا المعنيين فقد أوصى الله تعالى بذي القربى - جاراً كان أو غير جار - وقد أوصى جبريل الأمين الرسول الكريم صلوات الله تعالى وسلامه عليهما بالجار حتى ظن النبي أنه سيورثه؛ ومن وصيته عليه الصلاة والسلام بالجار: «إن استقرضك أقرضته، وإن استعانك أعنته، وإن مرض عدته، وإن احتاج أعطيته، وإن أصابه خير هنأته، وإن أصابته مصيبة عزيته، وإن مات تبعت جنازته، ولا تستطل عليه بالبناء فتحجب عنه الريح إلا بإذنه، ولا تؤذه بقتار قدرك إلا أن تغرف له منها، وإن اشتريت فاكهة فاهد له، وإن لم تفعل فأدخلها سراً، ولا يخرج بها ولدك ليغيظ بها ولده» ﴿وَالصَّاحِبِ بِالجَنْبِ﴾ وهو الذي رافقك في سفر، أو تعلم علم، أو جاورك في الصلاة. وقيل: هي امرأة الرجل تكون إلى جنبه ﴿وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ المسافر المنقطع ﴿أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ من العبيد والإماء ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً﴾ متكبراً ﴿فَخُوراً﴾ على الناس بجاهه وماله
﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَآ آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ﴾
من مال كثير، ورزق وفير؛ فلا يعطون منه الفقير؛ فحسبهم جهنم وبئس المصير ﴿وَأَعْتَدْنَا﴾ هيأنا وأعددنا ﴿لِلْكَافِرِينَ﴾ الذين يبخلون بما آتاهم الله ﴿عَذَاباً مُّهِيناً﴾ هذا شأن الذين يبخلون؛ أما الذين يتظاهرون بالكرم والجود - رياء ونفاقاً - فهم أسوأ حالاً ومآلاً ممن يبخلون وقد وصفهم الله تعالى بقوله:
﴿وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَآءَ النَّاسِ﴾ أي مراءاة لهم ﴿وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ﴾ لأنهم لو آمنوا بربهم؛ لعملوا له لا لمخلوقاته
-[١٠٠]- فهم في العطاء أسوأ من البخلاء؛ لأنهم قرناء الشيطان ﴿وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً﴾ أي مصاحباً؛ يأمر فيطاع: يأمره بكل شر، وينهاه عن كل خير
﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ﴾ وزن. من الثقل ﴿ذَرَّةٍ﴾ وهي أصغر من النمل أو هو ما يذره الهواء من صغار المخلوقات؛ التي خلقها بارىء الأرض والسموات ﴿وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا﴾ ينمها ويزدها
﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا﴾ يوم القيامة ﴿مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ﴾ هو رسولها يشهد بما لها أو عليها ﴿وَجِئْنَا بِكَ﴾ يا محمد ﴿عَلَى هَؤُلاءِ﴾ أي على قومك ﴿شَهِيداً﴾ بما عملوا من عناد وفساد
﴿يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ﴾ أي لو يدفنون وتسوى بهم الأرض كما يفعل بالموتى ﴿وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً﴾ أي ولا يستطيعون أن يكتموا الله تعالى ما فعلوا؛ وكيف يكتمونه وأعضاءهم وجوارحهم تشهد عليهم
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ﴾ قيل: نزلت هذه الآية في بدء تحريم الخمر؛ حين قرأ أحدهم في صلاته «قل يا أيها الكافرون، أعبد ما تعبدون» فنهوا عن الصلاة وهم سكارى ﴿وَلاَ جُنُباً﴾ أي لا تقربوا الصلاة وأنتم جنب ﴿إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ﴾ أي إلا مسافرين؛ فقد أبيحت لكم الصلاة بغير وضوء - عن فقدان الماء - ويجزىء حينذاك التيمم ﴿أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَآءَ﴾ جامعتموهن ﴿فَتَيَمَّمُواْ﴾ اقصدوا ﴿صَعِيداً﴾ هو وجه الأرض؛ تراباً كان أو حجراً أو غيرهما ﴿طَيِّباً﴾ طاهراً ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً﴾ كثير العفو ﴿غَفُوراً﴾ للمذنبين:
سبحان من نهفو ويعفو دائماً
ولم يزل مهما هفا العبد عفا
يعطي الذي يخطى؛ ولا يمنعه
جلاله من العطا لذي الخطا
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ﴾ هم أحبار اليهود ﴿يَشْتَرُونَ الضَّلاَلَةَ﴾ يختارونها ﴿وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السَّبِيلَ﴾ أي يريدون أن تكونوا مثلهم في الضلال، وتخطئوا طريق الحق
﴿مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ﴾ من اليهود قوم ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ﴾ أي يبدلون الكلام عن معناه. قال بعضهم: أريد بالكلم التوراة. وقد أخفوا فيها ذكر محمد عليه الصَّلاة والسَّلام، وأخفوا منها آية الرجم ﴿وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا﴾ المعنى: إنهم سمعوا قوله؛ فتلقوه بالعصيان. وقد عبر تعالى عن ذلك بالقول - مع أنهم لم يقولوه - كما جاء في قوله تعالى: ﴿قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ﴾ ﴿وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ﴾ هو دعاء بمعنى: اسمع لا سمعت ﴿وَرَاعِنَا﴾ هي كلمة سب بالعبرية أو السريانية ﴿لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ﴾ أي يلوون ألسنتهم بقوله ﴿غَيْرَ مُسْمَعٍ﴾ وقوله ﴿رَاعِنَا﴾ التي هي في الحقيقة سب ودعاء، ويقولونها في قالب
-[١٠١]- آخر، كقولهم: السام عليكم مكان «السلام عليكم» والسام: الموت
﴿يَاأَيُّهَآ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ﴾ من اليهود والنصارى ﴿آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا﴾ من القرآن، على رسولنا محمد ﴿مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ﴾ من التوراة والإنجيل ﴿مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً﴾ نغيرها بالمسخ ﴿أَوْ نَلْعَنَهُمْ﴾ نطردهم من رحمتنا أو نمسخهم قردة ﴿كَمَا لَعَنَّآ أَصْحَابَ السَّبْتِ﴾ اليهود الذين خالفوا بالصيد يوم السبت؛ وقد نهوا عنه ﴿فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ﴾
يمدحونها ويصفونها بالطاعة والتقوى؛ وهو إثم. وأريد بهم اليهود؛ حيث قالوا ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ وليست تزكية النفس بالقول ﴿بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَآءُ﴾ يأجره ويجزيه ﴿وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً﴾ هو كناية عن القلة. والفتيل: الذي يفتل بين الأصابع؛ لتفاهته وقلته
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ﴾ اليهود ﴿يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ﴾ الصنم، أو الكاهن، أو الساحر ﴿وَالطَّاغُوتِ﴾ كل رأس في الضلال. وقيل: الجبت والطاغوت: صنمان كانوا يعبدونهما في الجاهلية ﴿وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاءِ﴾ أي هؤلاء الناس الذين وصفهم كتاب محمد بالكفر ﴿أَهْدَى﴾ سبيلاً ﴿مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ﴾ بمحمد
﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ﴾ طردهم من رحمته
﴿أَمْ لَهُمْ﴾ أي أم لهؤلاء اليهود ﴿نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ﴾ من ملك الله؛ يعطون من أرادوا ويمنعون من شاءوا ﴿فَإِذَآ﴾ إذا كان لهم نصيب من الملك ﴿لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً﴾ النقير: النقرة في ظهر النواة؛ وهو مثل في القلة: ضربه الله تعالى لهم؛ إشارة لشدة بخلهم. وهذا كقوله تعالى: ﴿قُل لَّوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنْفَاقِ﴾
﴿أَمْ﴾ بل ﴿يَحْسُدُونَ النَّاسَ﴾ المسلمين ﴿عَلَى مَآ آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ﴾ وهو بعث الرسول محمد صلوات الله تعالى وسلامه عليه فيهم، وإنزال القرآن الكريم إليهم ﴿فَقَدْ آتَيْنَآ﴾ من قبل محمد ﴿آلَ إِبْرَاهِيمَ﴾ إبراهيم وأبناءه عليهم السلام ﴿الْكِتَابَ﴾ الكتب التي أنزلت إليهم: كصحف إبراهيم، وتوراة موسى، وإنجيل عيسى، وزبور داود ﴿وَالْحِكْمَةَ﴾
النبوة والعلم النافع ﴿وَآتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً﴾ كملك سليمان - وهو من آل إبراهيم: وقيل: المراد بالملك: النبوة، والجاه، وكثرة الأتباع، والانتصار على الكفار. وذهب أكثر المفسرين - سامحهم الله - إلى أن المقصود بـ ﴿النَّاسُ﴾ في الآية: محمد، وبالفضل الذي آتاهالله: ما أباحه له من النسوة؛ ينكح منهن ما شاء بغير عد ولا حد. وقد وثقوا هذا التأويل الفاسد بعنعنة دونوها، وأسماء طنانة أوردوها، وألفاظ نمقوها، وهو قول فاسد يأثم قائله وراويه وناقله، ومعتقده فلا حول ولا قوة إلا ب الله
﴿فَمِنْهُمْ﴾ أي من الذين أوتوا الكتاب من يهود
-[١٠٢]- بني إسرائيل ﴿مَّنْ آمَنَ بِهِ﴾ أي بمحمد عليه الصَّلاة والسَّلام. أو ﴿مَّنْ آمَنَ بِهِ﴾ أي بالكتاب - أي كتاب منزل - وليس فيه. ما يؤمنون به من الجبت والطاغوت بل فيه نعت محمد عليه الصَّلاة والسَّلام، وأنباء بعثته ﴿وَمِنْهُمْ مَّن صَدَّ عَنْهُ﴾ أي أعرض ومنع الناس عن الإيمان به
﴿سَوْفَ نُصْلِيهِمْ﴾ ندخلهم ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ﴾ أي أحرقت ﴿بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ﴾ وذلك لأن أشد العذاب والإيلام يكون عن طريق سطح الجلد؛ فإذا ما احترق الجلد: فتر الألم، وقل العذاب. أما وقد قضى ربك بتعذيبهم، والتشديد عليهم، وعدم النظر إليهم، وطردهم من رحمته وحرمانهم من عطفه لذا فإنه تعالى قدر أن تبدل جلودهم كلما نضجت ﴿لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ﴾ الذي كفروا به، وكذبوا بحدوثه
﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ﴾ ب الله تعالى، وملائكته وكتبه ورسله، وبعثه وجنته وناره ﴿وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ﴾ التي أمرهم الله تعالى بها وحضهم عليها؛ وماتوا على ذلك ﴿لَّهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ﴾ مما يستقذر عادة؛ كالحيض والنفاس والأنجاس ﴿وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً﴾ أي دائماً لا تنسخه شمس
﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾ هي في ولاة الأمور؛ وتأدية الأمانة إلى أهلها: أن تضع ثقتك في محلها؛ فلا يحكمك إلا من هو أهل للحكم، ولا يليك إلا من هو أهل للولاية؛ فلا تلعب بك الأهواء، فتجعل ثقتك في غير موضعها؛ وتخون الأمانة التي وضعها الله تعالى في عنقك. والأمانات: كل ما ائتمنت عليه من مال، أو عهد، أو عقد، أو سر، أو شبه ذلك
﴿إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ﴾ أي نعم الشيء الذي يعظكم به؛ وهو تأدية الأمانات إلى أهلها، والحكم بين الناس بالعدل
﴿أَطِيعُواْ اللَّهَ﴾ أي أوامره ونواهيه الواردة في القرآن ﴿وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ﴾ أي ما جاء عنه من القول السديد، والفعل الحميد ﴿وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ في هذه الآية دليل على أن أولي الأمر الواجبة طاعتهم على الأمة: يجب أن يكونوا منها - حساً ومعنى، ولحماً ودماً - ﴿وَأُوْلِي الأَمْرِ﴾ هم الولاة والسلاطين؛ ما داموا قائمين بأمر الله تعالى؛ إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ﴿فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ﴾ أي إذا اختلفتم فيما بينكم وبين أنفسكم في أمر من الأمور أو إذا تنازعتم أنتم وأولوا الأمر ﴿فَرُدُّوهُ﴾ ارجعوا في حكم هذا النزاع ﴿إِلَى اللَّهِ﴾ إلى ما جاء في كتابه المستبين ﴿وَالرَّسُولِ﴾ وإلى الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه حال حياته، وإلى سنته وهديه من بعده ﴿ذلِكَ﴾ الرجوع إلى الله ورسوله فيما شجر بينكم من خلاف ﴿خَيْرٍ﴾ من رد النزاع إلى النهور والتعصب الأعمى ﴿وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾ مآلاً وعاقبة
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ من القرآن؛ وهم بعض من آمن من اليهود ﴿وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ﴾ من التوراة
-[١٠٣]- والإنجيل. أو المراد بـ: ﴿الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ﴾: بعض المؤمنين أو المنافقين ﴿وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ﴾ بعض اليهود ﴿يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ﴾ وهو كل رأس في الضلال؛ من ساحر وكاهن ونحوهما ﴿وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ﴾ أي أمروا بالتحاكم إلى الله ورسوله. قال تعالى: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ﴾
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ﴾ نحتكم ﴿إِلَى مَآ أَنزَلَ اللَّهُ﴾ في كتابه ﴿وَإِلَى الرَّسُولِ﴾ ليحكم في تنازعنا ﴿رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً﴾ يمنعون الناس من الاتصال بك، والإيمان بما أنزل عليك، والاحتكام إليك
﴿فَكَيْفَ إِذَآ أَصَابَتْهُمْ مُّصِيبَةٌ﴾ نزلت بهم نازلة ﴿بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ بسبب ما قدموه من كفران وعصيان ﴿يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَآ﴾ ما أردنا في الاحتكام إلى غيرك ﴿إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً﴾ بين الناس
﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ﴾ من النفاق ﴿وَقُل لَّهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ﴾ ازجرهم في السر ﴿قَوْلاً بَلِيغاً﴾ زجراً عنيفاً؛ ليتعظوا ويؤمنوا، ويرجعوا عن نفاقهم. أو ﴿وَقُل لَّهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ﴾ أي فيما ارتكبته أنفسهم من آثام
﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ﴾ بارتكاب الآثام، وتعريضها للعقاب ﴿جَآءُوكَ﴾ تائبين ﴿فَاسْتَغْفَرُواْ اللَّهَ﴾ مما فرط منهم ﴿وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ﴾ هو على طريقة الالتفات؛ أي واستغفرت لهم مستشفعاً ﴿لَوَجَدُواْ اللَّهَ تَوَّاباً﴾ أي قابلاً لتوبتهم واستغفارهم؛ كيف لا. وقد تابوا وأنابوا، واستشفع لهم شفيع الأمة ومنقذها صلوات الله تعالى وسلامه عليه
﴿فَلاَ وَرَبِّكَ﴾ أقسم تعالى بخاتم رسله وأنبيائه ﴿لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ إيماناً حقيقياً ﴿حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ﴾ فيما اختلط عليهم، واختلفوا فيه ﴿ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ﴾ أي المتحاكمون ﴿فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً﴾ ضيقاً ﴿مِّمَّا قَضَيْتَ﴾ به بينهم ﴿وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً﴾ بظواهرهم وبواطنهم، بألسنتهم وقلوبهم
﴿وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ﴾ فرضنا وقضينا ﴿أَنِ اقْتُلُواْ أَنْفُسَكُمْ﴾ أي عرضوها للقتل بالجهاد ﴿أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُمْ﴾ مهاجرين إلى الله ﴿مَّا فَعَلُوهُ﴾ لأن قلوبهم لم تطمئن بعد للجزاء الذي وعدتهم به ﴿إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ﴾ ممن أنار الله بصيرته، وأنقى سريرته ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ﴾ من الإقدام والاستبسال ﴿لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ﴾ لأنهم سيفوزون بالنصر والغنيمة، أو بالأجر والشهادة ﴿وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً﴾ لقلوبهم، وتحقيقاً لإيمانهم
﴿وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً﴾ طريقاً واضحاً قويماً
﴿وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ﴾ الصديق: المبالغ في صدق ظاهره بالمعاملة، وباطنه بالمراقبة ويطلق على خواص صحابة الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ﴾ من الأعداء ﴿فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ﴾ أي فاخرجوا إلى العدو جماعات متفرقة: سرية بعد سرية؛ و «الثبات»: الجماعات؛ واحدها ثبة ﴿أَوِ انْفِرُواْ جَمِيعاً﴾ مجتمعين؛ حسبما تقتضيه ظروف ملاقاة العدو، وأسباب الحرب وفنونه؛ من كر وفر، وإقدام وإحجام، وتظاهر بالكثرة الغالبة، أو بالقلة الضاربة
﴿وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ﴾ ليتثاقلن ويتخلفن عن الجهاد؛ ويثبطن همم المجاهدين ﴿فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ﴾ انتابتكم هزيمة ﴿قَالَ﴾ المنافق، الجبان، المتثاقل، المتخلف، المثبط ﴿قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ﴾ بالسلامة والنجاة ﴿إِذْ لَمْ أَكُنْ مَّعَهُمْ شَهِيداً﴾ مشاهداً للقتال، وحاضراً فيه
﴿وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ الله﴾ نصر وغنيمة ﴿لَيَقُولَنَّ﴾ متندماً على ما فاته من نصر وكسب ﴿يلَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ﴾ بما فازوا به
﴿فَلْيُقَاتِلْ﴾ أمر صريح بالجهاد ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ﴾ يبيعون ﴿الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ﴾ أي يستبدلونها بها
﴿وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ﴾ أي وما لكم لا تقاتلون في سبيلالله، وفي سبيل خلاص المستضعفين؛ الذين أسرهم الكفار، أو المراد بالمستضعفين: النساء. أي في سبيل حماية نسائكم من الاعتداء، وأعراضكم من الضياع.
-[١٠٥]- ﴿الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ﴾ هي مكة؛ إذ أنها كانت موطن الكفر، ولذا هاجر منها الرسول
﴿الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ في سبيل إعلاء كلمته، ونصرة دينه ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ﴾ الطغيان، أو هو كل رأس في الضلال. ﴿فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ﴾ أنصاره ﴿إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً﴾ لأن كيده معلوم لأرباب القلوب، ويمكن لكل ذي لب أن يتحاشاه
﴿أَلَمْ تَرَ﴾ يا محمد ﴿إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ﴾ عن القتال؛ قبل فرض الجهاد فرض ﴿عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ﴾ أي يخشون لقاء الأعداء في الحرب؛ لجبنهم ﴿كَخَشْيَةِ اللَّهِ﴾ وعذابه ﴿أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً﴾ منالله؛ وأمثال هؤلاء لا نقول بنفاقهم أو ضعف إيمانهم؛ بل هو الكفر بعينه (انظر آية ١٨ من سورة التوبة) ﴿قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى﴾ متاع الدنيا قليل زائل، ومتاع الآخرة كثير دائم؛ والكثير إذا كان مشرفاً على الزوال: فهو قليل؛ فكيف بالقليل الزائل؟ ﴿وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً﴾ هو مثل للقلة؛ وهو ما يفتله الإنسان بأصبعيه؛ ولقلته وحقارته
﴿وَإِن تُصِبْهُمْ﴾ أي اليهود، أو المنافقين ﴿حَسَنَةٍ﴾ خصب وسعة، وسلامة وأمن ﴿وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ﴾ جدب وفقر، ومرض وخوف ﴿يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ﴾ أي بشؤمك علينا ﴿قُلْ كُلٌّ﴾ من الخصب والرخاء، والجدب والبلاء
-[١٠٦]- ﴿مِنْ عِندِ اللَّهِ﴾ يمتحن بها من يشاء؛ ليعلم علم ظهور: أيشكرون على السراء أم يفجرون؟ ويصبرون على الضراء أم يكفرون؟
﴿مَّآ أَصَابَكَ﴾ أيها الإنسان ﴿مِنْ حَسَنَةٍ﴾ نعمة وإحسان ﴿فَمَنَّ اللَّهُ﴾ بفضله ومنته ﴿وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ﴾ بلية ومصيبة ﴿فَمِن نَّفْسِكَ﴾ بذنب ارتكبته، وتقصير أتيته.
وقد ذهب بعض الجهال إلى أن المراد بالحسنة: الطاعة. وبالسيئة: المعصية؛ وبنوا على ذلك قصوراً من الآمال، على كثبان من الرمال ونسقوا على ذلك البطلان قول الحكم العدل اللطيف الخبير ﴿قُلْ كُلٌّ﴾ من الطاعة والمعصية ﴿مِنْ عِندِ اللَّهِ﴾ وهو قول هراء ينسب ظلم العالمين، لأحكم الحاكمين؛ وهو القائل في كتابه المبين ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُواْ هُمُ الظَّالِمِينَ﴾ ﴿فَمَا لِهَؤُلاءِ الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً﴾ ﴿وَمَن تَوَلَّى﴾ أعرض عن الإيمان
﴿وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ﴾ أي أمرنا طاعة لك ﴿فَإِذَا بَرَزُواْ﴾ خرجوا ﴿مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ﴾ بيت الأمر: دبره ليلاً؛ وهي في الغالب تستعمل في الشر للمبيت له ﴿فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾ لا تعبأ بهم، فإن الله حافظك منهم ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً﴾ والتوكل على الله تعالى: هو الوثوق به عند الملمات، والاعتماد عليه في سائر الحالات وهي مرتبة سامية قلَّ أن يرتفع إليها إنسان؛ إلا من هدىالله، وقليل ما هم فقد اعتاد الغالبية العظمى أن يعتمدوا على المال - وهو عرض زائل - أو على بعض المخلوقين - وهو جسم فان - فالذي تعود الاتكال على ماله، أو على صديقه: يأتيه زمن تضيق به دنياه بل تضيق به نفسه؛ فلا يجد من ماله نفعاً، ولا من أصدقائه متنفساً، ولا يجد من دون الله ولياً يلي أمره، ولا نصيراً ينصره في نكبته، أو يعينه في محنته
أما إذا كان العبد متوكلاً على الله حق توكله؛ فهو تعالى كافيه من كل شر، وحافظه من كل سوء
وأين المال والصديق عند زلزلة العقائد، وعند الأزمات الحالكة، والأوقات العصيبة؟ أين المال والصديق ساعة الموت، وعند طلوع الروح، وفي ظلمة القبر ووحشته؟ بل أين المال والصديق عند الحساب؟ وعندما تتفتح أبواب النيران؛ ويقال لها ﴿هَلِ امْتَلأَتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ﴾؟ عند ذاك لا ينفع مال ولا بنون؛ إلا من أتى الله بقلب سليم وعرفه حق معرفته، وتوكل عليه حق توكله قال: «لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير: تغدوا خماصاً، وتروح بطاناً» ولا شك أن فتنة المحيا والممات، ونسيان القول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة؛ لا شك أن كل هذه البلايا
-[١٠٧]- العظام، وهاتيك المصائب الجسام؛ لا سبب لها سوى ترك التوكل، والاعتماد على غير الله تعالى؛ فعود نفسك أيها المؤمن الركون إلى ربك لترشد، والتوكل عليه لتسعد؛ ولتلقى في دنياك غبطة وسروراً، وفي آخرتك جنة وحريراً
هذا وليس معنى التوكل على الله تعالى: غلق الأبواب، وترك الأسباب؛ فقد حث تعالى على السعي والعمل، وابتغاء الرزق. ألا ترى إلى قوله تعالى لمريم: ﴿وَهُزِّى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً﴾ ولو شاء لأسقط عليها الرطب من غير هز الجذع؛ ولكنه تعالى أراد أن يجعل لكل شيء سبباً: فجعل سبب الرزق: السعي والدأب.
وليس معنى ذلك إنكار الكرامات والمعجزات؛ فقد يسخر الله تعالى السموات والأرضين، في خدمة بعض المخلوقين ولكن ليس هذا من طبيعة الأشياء، فهو تعالى يختص من شاء بما شاء
﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ﴾ أي أفلا يتأملون في معانيه ومراميه ومبانيه؛ فيعلمون أنه الحق من ربهم
﴿وَإِذَا جَآءَهُمْ﴾ أي جاء المسلمين، أو المنافقين ﴿أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ﴾ خبر يؤدي إلى النصر ﴿أَوْ﴾ أمر من ﴿الْخَوْفِ﴾ خبر يؤدي إلى الهزيمة ﴿أَذَاعُواْ بِهِ﴾ أفشوه؛ وفي هذا ما فيه من إذاعة الأسرار المتعلقة بالحروب، والتي قد تؤدي إلى أوخم العواقب ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ﴾ أي ردوا هذا الأمر ﴿إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ﴾ من الرؤساء والولاة والقادة؛ لأنهم وحدهم الذين يعلمون أين توجد المصلحة. ويعلمون ما يجب إذاعته وما يجب كتمانه ﴿لَعَلِمَهُ﴾ أي لعلم ذلك الأمر الخطير - الذي يعتبر سراً حربياً - ﴿الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ﴾ يستخرجون من الأمر ما يذاع وما لا يذاع ﴿وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ بإرسال الرسل، وإبداء النصح والإرشاد، والتوفيق إلى السداد لولا ﴿رَحْمَتِهِ﴾ بإنزال القرآن ﴿لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ﴾ الذي يوردكم موارد الخسران؛ مثل هؤلاء المنافقين الذين يقولون لرسولالله - إذا أمرهم بأمر ـ: «طاعة. فإذا برزوا من عنده بيت طائفة منهم غير الذي تقول» والخطاب للذين قال لهم جل شأنه: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُواْ جَمِيعاً﴾
والاستثناء بقوله تعالى ﴿إِلاَّ قَلِيلاً﴾ ينصب على المستنبطين من أولي الأمر؛ الذي عناهم العليم الحكيم بقوله: ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾
﴿وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ حثهم على القتال ﴿عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ﴾ يمنع بهذا التحريض، وهذا الاستعداد ﴿بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ قوتهم
-[١٠٨]- وسطوتهم؛ فأنتم تدعون إلى الحق، وهم يدعون إلى الباطل؛ وأنتم تدعون إلى الجنة، وهم يدعون إلى النار، وأنتم يدفعكم الرحمن، وهم يدفعهم الشيطان و ﴿إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ﴾ ﴿وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً﴾ أشد تعذيباً. ونكل به: جعله عبرة لغيره
﴿مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً﴾ هي الشفاعة في دفع الشر، أو جلب الخير ﴿وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً﴾ هي السعي في جلب الشر، أو منع الخير، أو هو كناية عن النميمة ﴿يَكُنْ لَّهُ كِفْلٌ﴾ نصيب ﴿مِنْهَآ﴾ أي من شرها في الدنيا، ومن إثمها في الآخرة ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتاً﴾ مقتدراً
﴿وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ﴾ التحية: أي تكريم يكون بالقول، أو بالعمل. فالقول الحسن: تحية. والدعاء: تحية. والهدية: تحية. والحب: من أجلّ التحايا ﴿فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ﴾ قولاً أو فعلاً فالسلام: يرد بأحسن منه. والتكريم: بأكرم منه. والدعاء: بأبلغ منه. والهدية: بخير منها. والحب؛ وناهيك بالحب: فهو خير الهدايا والتحايا، والأقوال والأفعال ﴿أَوْ رُدُّوهَآ﴾ أي أجيبوا في القول بمثله، وفي الفعل بمثله. أو المراد ﴿فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ﴾ أهل الإسلام ﴿أَوْ رُدُّوهَآ﴾ فلا تزيدوا عليها؛ لأهل الكتاب، والتحية في الأصل: تطوع، وردها بأحسن منها أو مثلها: فريضة.
هذا ولا يرد السلام في الخطبة، وقراءة القرآن، ورواية الحديث، ومذاكرة العلم، والأذان، والإقامة. ولا يسلم على لاعب الملاهي، ولا على المغني، ولا على القاعد لحاجته
﴿اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ﴾ من قبوركم ﴿إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ للحساب ﴿لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾ لا شك في ذلك الجمع، أو لا شك في ذلك اليوم
﴿فَمَا لَكُمْ﴾ أي ما شأنكم أيها المؤمنون ﴿فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ﴾ فرقتين مختلفتين؛ فرقة تقول: نقتلهم. وفرقة تقول: لا نقتلهم. و «المنافقين» هم الذين تخلفوا عن القتال يوم أحد، وقالوا للرسول عليه الصَّلاة والسَّلام ولأصحابه: ﴿لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ﴾ ﴿وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ﴾ ردهم مخذولين مقهورين. والركس: رد الشيء مقلوباً ﴿بِمَا كَسَبُواْ﴾ بما عملوا ﴿وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً﴾ طريقاً إلى النجاة
﴿وَدُّواْ﴾ أي ود هؤلاء المنافقون الجبناء ﴿لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ﴾ وتجبنون كما جبنوا ﴿فَتَكُونُونَ سَوَآءً﴾ مستوين في الجبن والكفر ﴿فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَآءَ﴾ أصدقاء، أو خلصاء ﴿حَتَّى يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ فيثبت بذلك إيمانهم وإقدامهم، ووثوقهم بما عند الله ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْاْ﴾ أعرضوا عن الإيمان والجهاد في سبيل الله ﴿فَخُذُوهُمْ﴾ الأخذ: العقوبة، والإيقاع بالشخص ﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ﴾
-[١٠٩]- بلا شفقة ولا رحمة ﴿وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيّاً﴾ صديقاً؛ وكيف تصادقونهم بعد ظهور كفرهم وعداوتهم للمؤمنين؟ ﴿وَلاَ﴾ تتخذوا منهم ﴿نَصِيراً﴾ تنصرونه، أو تستنصرون به
﴿إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ﴾ يحتمون ويلجأون ﴿إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ﴾
عهد ﴿أَوْ جَآءُوكُمْ﴾ مسالمين ﴿حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ﴾ ضاقت. والحصر: الضيق والانقباض ﴿إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ﴾ الذين أسلموا وانضموا إلى زمرتكم ﴿وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ﴾ الانقياد والاستسلام ﴿فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً﴾ طريقاً للقتال؛ لأنهم لم يقاتلوكم وجاءوكم مسالمين
﴿كُلَّ مَا رُدُّواْ إِلَى الْفِتْنِةِ﴾ أي كلما دعوا إلى الشرك ﴿أُرْكِسُواْ فِيِهَا﴾ قلبوا فيها ﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثِقِفْتُمُوهُمْ﴾ صادفتموهم ﴿وَأُوْلَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً﴾ تسلطاً قوياً، وحجة ظاهرة في قتلهم. وبعد أن أباح الله تعالى قتل الكافرين المحاربين المخادعين: نهى عن قتل المؤمنين. قال تعالى:
﴿وَمَا كَانَ﴾ ما صح وما جاز ﴿لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً﴾ أي بغير تعمد ﴿وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ﴾ أي فعليه إعتاق رقبة مؤمنة؛ لأنه لما أخرج نفساً مؤمنة من جملة الأحياء؛ لزمه أن يدخل نفساً مثلها في جملة الأحرار؛ إذ أن إطلاقها من قيد الرق كإحيائها. وللرق حدود وواجبات مفصلة في كتب الحديث والفقه. وللعبد الرقيق في الإسلام من الحقوق ما ليس للأحرار في الأمم الأخرى؛ وليس أدل على ذلك من قوله تعالى: ﴿فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ﴾ وقول الرسول الكريم صلوات الله تعالى وسلامه عليه في مرضه الذي مات فيه «الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم؛ لا تكلفوهم ما لا يطيقون» ومن يطلع على معاملة الزنوج بأمريكا يتضح له جلياً صحة ما نقول. وها هي الأمم الغربية تحرم استرقاق العبيد؛ في حين أنها تسترق الأحرار. وتحرم استرقاق الأفراد، وتسترق الجماعات والأمم والشعوب؛ باسم الاستعمار، والانتداب، والاحتلال، ومناطق النفوذ (انظر آيتي ١٧٧ من سورة البقرة، و٧صلى الله عليه وسلّم من سورة النحل)
﴿إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ﴾ أي إلا أن يتصدق أهل القتيل بالدية للقاتل؛ فلا يطالبونه بها ﴿فَمَن لَّمْ يَجِدْ﴾ أي لم يملك رقبة، ولا ما يتوصل به إليها من مال ونحوه ﴿فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ﴾ مكان الإعتاق ﴿تَوْبَةً مِّنَ اللَّهِ﴾ تجاوزاً منه للتخفيف عليكم
﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً﴾ قاصداً قتله ﴿فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ﴾ لا جزاء له غيرها ﴿خَالِداً فِيهَا﴾ خلوداً مؤبداً؛ يدل عليه ما بعده من غضب الله تعالى عليه ولعنه، وإعداد أشق العذاب وأعظمه له وقول الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه: «لزوال الدنيا أهون على الله من قتل امرىء مسلم» وقال الأكثرون: المراد بالخلود
-[١١٠]- في سائر الآيات: طول المكث. وهو معنى لا يستقيم مع صريح لفظ الكتاب الكريم؛ فقد أخبرنا الله تعالى - بما يبلغ حد اليقين - بأن خلود الكافرين على وجه التأبيد؛ قال تعالى: ﴿وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾ ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ﴾ (انظر آية ٢٥٥ من سورة البقرة)
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ أي سرتم في طريق الغزو ﴿فَتَبَيَّنُواْ﴾ تثبتوا ممن تريدون قتله، ولاتأخذوا بالشك بل باليقين. فلا تقتلوا سوى من تيقنتم عداوته وإيذاءه ﴿وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ﴾ الاستسلام أو كلمة الشهادة، وقيل: التسليم ﴿لَسْتَ مُؤْمِناً﴾ أي تقولون له: أنت لست مؤمناً؛ بل تظاهرت بالإيمان لتنجو من القتل ﴿تَبْتَغُونَ﴾ بذلك ﴿عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ متاعها الزائل الفاني؛ وهو لباسه وسلاحه وماله ﴿فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ﴾ تغنمونها في الدنيا برزقه، وفي الآخرة بفضله ﴿كَذلِكَ كُنْتُمْ مِّن قَبْلُ﴾ مثل هؤلاء الكفار الذين تقتلونهم الآن أو «كذلك كنتم» تخفون دينكم تحرزاً منهم، كما أخفوا دينهم تحرزاً منكم ﴿فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ﴾ بالإيمان والنصر والظفر ﴿فَتَبَيَّنُواْ﴾ كما أمرتكم
﴿لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ﴾ عن الجهاد في سبيل الله تعالى ﴿﴾ المرض، والعاهة: من عمى، أو عرج، ونحوهما ﴿فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ﴾ من أُولي الضرر؛ فضلهم عليهم ﴿دَرَجَةً وَكُلاًّ﴾ من المجاهدين والقاعدين بسبب ضرر لحقهم ﴿وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى﴾ الجزاء الحسن في الآخرة ﴿وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ﴾ عن الجهاد بغير ضرر يمنعهم، أو سبب يعوقهم
﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ﴾ التوفي: قبض الروح. و «الملائكة» ملك الموت عزرائيل عليه السلام وأعوانه. والمعنى: إن الذين تتوفاهم الملائكة؛ وهم ظالمون لأنفسهم بالجبن والخور، وفقدان الأمل؛ وضعف العزيمة، وعدم الهجرة ﴿قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ﴾ أي قال الملائكة للمتوفين: في أي شيء كنتم؟ وهو سؤال تقريع وتوبيخ؛ حيث إنه كان في مقدورهم أن يقووا عزائمهم، ويهاجروا من أوطانهم، ويتخلصوا من ذلهم وجبنهم، ولا يحيوا حياة السوائم والدين الإسلامي القويم: لم يرض لمعتنقيه الضعف والذل؛ بل أراد لهم وبهم العزة والرفعة والكرامة؛ وألا يحل مسلم في أرض إلا إذا كان عزيزاً مكرماً مرهوب الجانب؛ وإلا فأرض الله واسعة وأبواب رزقه ورحمته مفتوحة وربما أريد بظالمي أنفسهم: المنافقين؛ الذين بخلوا وتركوا الهجرة بدينهم مع الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه ﴿قَالُواْ﴾ جواباً على سؤال ملائكة الموت ﴿كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ﴾ أي عاجزين عن القيام بأعباء العبادة بين كفار مكة وصناديد قريش ﴿فِي الأَرْضِ﴾ أرض مكة ﴿قَالْواْ أَلَمْ تَكُنْ
-[١١١]- أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا﴾
أي قال لهم الملائكة: أليست أرض الله - على سعتها ورحبها - تسعكم إذا هاجرتم فيها، وفررتم بدينكم؛ كما فعل من هاجر إلى المدينة، وإلى الحبشة؟
﴿إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ﴾ لكبر، أو مرض، أو فقر ونحو ذلك ﴿لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً﴾ للقتال، أو للهجرة
﴿وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً﴾ مذهباً ومكاناً للهرب ﴿وَاسِعَةً﴾ في الرزق
﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ﴾ سافرتم ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ﴾ قصر الصلاة: هو تصيير الرباعية ثنائية في السفر وقد قال بعض الفقهاء: إن صلاة السفر ركعتان، وصلاة الخوف ركعة واحدة. وقال آخرون: إن القصر في السفر حال الخوف فحسب، وأما في الأمن فلا قصر في السفر. ورووا عن النبي صلوات الله تعالى وسلامه عليه القصر حال الخوف والأمن في السفر؛ وعلى ذلك الأكثرون ﴿إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ﴾ يعذبكم ﴿الَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ بأن يؤذوكم وقت الصلاة ويقتلوكم
﴿وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ﴾ وقت القتال، وحان وقت الصلاة ﴿فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ﴾ صلاة الخوف؛ فلينقسموا فرقتين ﴿فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ﴾ فليصلوا ﴿مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ﴾ أي لتأخذ الطائفة الأخرى التي لم تقم للصلاة ﴿أَسْلِحَتَهُمْ﴾ استعداداً لملاقاة العدو؛ إذا غدر بكم، منتهزاً فرصة انشغالكم بالصلاة. وقيل: الأمر بأخذ السلاح للمصلين؛ فيأخذون سيوفهم ورماحهم وخناجرهم؛ استعداداً للدفاع إذا دهمهم العدو وقت الصلاة ﴿فَإِذَا سَجَدُواْ﴾ وأتموا سجودهم؛ فلينتقلوا من مكانهم في الصلاة ﴿فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ﴾ للمحافظة على من يصلي بعدهم؛ وهي الطائفة الأخرى - التي لم تصل، وكانت قائمة بالحراسة - ﴿وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ﴾ بعد؛ لأنهم كانوا قائمين بحراسة المصلين ﴿فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ﴾ كما صلى أفراد الطائفة الأخرى ﴿وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ﴾ أي لتأخذ الطائفة التي صلت حذرها وأسلحتها؛ لتقوم بحراسة الطائفة التي قامت للصلاة. وقيل: إن الطائفة التي تأخذ حذرها وأسلحتها: هي الطائفة المصلية ﴿وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ﴾ يأخذونكم خدعة على غرة؛ وهذا هو سبب الأمر بالحيطة والحذر واتخاذ الأهبة ﴿وَلاَ جُنَاحَ﴾ لا حرج ولا إثم ﴿عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَّرْضَى﴾ لا تستطيعون الاستمرار في حمل السلاح؛ فلا حرج عليكم في ﴿أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ﴾ أمامكم، ولا تحملوها ﴿وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ﴾ إجعلوا الأسلحة قريبة منكم وفي متناول أيديكم ﴿إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ﴾ في الآخرة ﴿عَذَاباً مُّهِيناً﴾ عظيماً مؤلماً
﴿فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ﴾
فلا تقطعوا صلتكم بربكم، ولا تظنوا أنكم قد أديتم ما عليكم ﴿فَاذْكُرُواْ اللَّهَ﴾ تذكروه
-[١١٢]- وراقبوه ﴿قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ﴾ أي في سائر حالاتكم؛ ليعينكم على عدوكم ﴿فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ﴾ وزال خوفكم من أعدائكم ﴿فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ﴾ كاملة ﴿إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً﴾ فرضاً واجباً؛ محدوداً بأوقات معلومة
﴿وَلاَ تَهِنُواْ﴾ لا تضعفوا ولا تتوانوا ﴿فِي ابْتِغَآءِ الْقَوْمِ﴾ في طلبهم ﴿إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ﴾ أي إن كنتم تتألمون من القتال، وتخافون من الهلاك؛ فإنهم يتألمون أيضاً منه كما تتألمون، ولكنكم ترجون من الله الشهادة والمنزلة الرفيعة، حيث لا يرجونهما هم
﴿إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ﴾ القرآن ﴿بِالْحَقِّ﴾ بالصدق ﴿لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَآ أَرَاكَ اللَّهُ﴾ في القرآن؛ من الأحكام والأوامر والنواهي ﴿وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً﴾ أي لا تكن مدافعاً عنهم، ومخاصماً من أجلهم
﴿وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ﴾ أي يخونونها؛ بارتكاب المعاصي. وعبر بلفظ الخيانة: لأنهم كانوا
﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ﴾ أي لا يحاولون الاستخفاء منه بترك معاصيه؛ وكيف يستخفون منه ﴿وَهُوَ مَعَهُمْ﴾ يعلم سرهم ونجواهم ﴿إِذْ يُبَيِّتُونَ﴾ يضمرون في أنفسهم ﴿وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً﴾ عالماً به؛ لا يخفى عليه منه شيء؛ فيجازي على الخير والشر
﴿وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً﴾ يرتكب ذنباً يسيء إلى غيره ﴿أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ﴾ يرتكب ذنباً يسيء إلى نفسه، ويعرضها للعقاب يوم القيامة ﴿ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ﴾ ويتب عن ذنوبه وآثامه ﴿يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً﴾ لذنوبه ﴿رَّحِيماً﴾ به؛ فلا يؤاخذه ولا يعاقبه
﴿وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ﴾ أي ومن يقترف إثماً متعمداً؛ فإنما يعود وبال ذلك على نفسه. وعبر تعالى بلفظ الكسب للدلالة على العمد
﴿وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً﴾ الخطيئة: الذنب الذي يحتمل الخطأ أو العمد. والإثم: المعصية التي لا تتأتى إلا عن عمد ﴿ثُمَّ يَرْمِ بِهِ﴾ بالخطيئة أو الإثم ﴿بَرِيئاً﴾ كمن يقتل، أو يسرق، أو يزني؛ ثم يلصق التهمة بغيره.
﴿وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ﴾ القرآن ﴿وَالْحِكْمَةَ﴾ النبوة، والعلم النافع
﴿لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ﴾ مسارَّتهم ﴿إِلاَّ مَنْ أَمَرَ﴾ في نجواه ﴿بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾ فهذا الآمر بالخير والمعروف؛ تباح له النجوى والمسارة ﴿وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ﴾ التناجي بالحث على الصدقات، والأمر بالمعروف، والإصلاح بين الناس ﴿ابْتَغَآءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ﴾ يقصد بها رضاءه تعالى، ولا يقصد رياء، ولا ثناء بين الناس
﴿وَمَن يُشَاقِقِ﴾ يخالف ويعادي ﴿الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى﴾ وصار في متناول عقل العاقل، وسمع السامع، وبصر المبصر ﴿وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ بألا يؤمن ب الله تعالى، ولا يصدق برسوله عليه الصلاة والسلام ﴿نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى﴾ نتركه وشأنه؛ فلا نوليه عنايتنا وحفظنا، بل نجعل وليه وحافظه وهاديه: من تولاه واتخذه إلهاً؛ من صنم، أو نجم، أو نار، أو مال ﴿وَنُصْلِهِ﴾ ندخله
﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ﴾ استدل بهذه الآية القائلون بأن الله تعالى يغفر سائر الكبائر ﴿لِمَن يَشَآءُ﴾ وهو جل شأنه لم يشأ غفران الكبائر للمصر عليها، المجاهر بها، الذي لم يتب عنها
﴿إِن يَدْعُونَ﴾ ما يعبدون ﴿إِلاَّ إِنَاثاً﴾ كان كل حي من العرب له صنم يسمونه: أنثى بني فلان؛ وكانوا يقولون عنهن: هن بنات الله ﴿وَإِن يَدْعُونَ﴾ وما يعبدون ﴿إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً﴾ متمرداً، خارجاً عن الطاعة
﴿وَقَالَ﴾ الشيطان لربه ﴿لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ﴾ أي الذين خلقتهم لعبادتك ﴿نَصِيباً مَّفْرُوضاً﴾ مقطوعاً به
﴿وَلأُضِلَّنَّهُمْ﴾ عن طريق الحق ﴿وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ﴾ بطول الأمل، وامتداد الأجل؛ وألا بعث ولا حساب، ولا ثواب ولا عقاب.
-[١١٤]- ﴿وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ﴾ البتك: القطع ﴿فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ﴾ كخصاء العبيد والحيوان. أو هو تغيير دينه. الذي خلقه وارتضاه، وتحريم ما أحله، وتحليل ما حرمه؛ وما أشبه ذلك ﴿وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً﴾ يتولاه ويطيعه
﴿يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً﴾ خداعاً وباطلاً. والغرور: أن يرى الشيء على خلاف حقيقته
﴿وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً﴾ محيداً ومهرباً
﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً﴾ أي قولاً
﴿لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ أي ليس الأمر كما تشتهون وتتمنون، ولا كما يشتهي أهل الكتاب ويتمنون؛ بل الذي يعمل سوءاً يجزى به، وينال عقابه ﴿وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ﴾ غيره ﴿وَلِيّاً﴾ يلي أمره ﴿وَلاَ نَصِيراً﴾ يمنعه من عذاب الله تعالى
﴿وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً﴾ مبالغة في القلة؛ وهو النقرة في ظهر النواة
﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً﴾ أي لا أحد أحسن ديناً ﴿مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله﴾ انقاد لأوامره، وتجنب نواهيه ﴿واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ﴾ وهي ملة الإسلام ﴿حَنِيفاً﴾ مائلاً عن كل دين يخالف الإسلام ﴿وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً﴾ لأنه صافي القلب، خالص الحب
﴿وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطاً﴾ بعلمه وقدرته وبأسه وسطوته
﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَآءِ﴾ أي يسألونك عن شأن النساء، وما الذي يجب لهن وعليهن: في الزواج والمهر والطلاق والمعاملة، وغير ذلك ﴿قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ﴾ وهو ما تقدم من آيات الفرائض في أول هذه السورة ﴿فِي يَتَامَى النِّسَآءِ الَّلاتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ﴾ ما فرض لهن من الميراث ﴿وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ﴾ تتزوجوهن ﴿وَالْمُسْتَضْعَفِينَ﴾ الصغار الضعفاء ﴿مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ﴾ بالعدل ﴿وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ﴾ في شأن اليتامى، أو في أي شأن من الشؤون ﴿فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً﴾ فيجازيكم عليه أحسن الجزاء
﴿وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً﴾ أي جفاء وأذى ﴿أَوْ إِعْرَاضاً﴾ بأن يقل من مؤانستها؛ بسبب دمامة، أو كبر سن، أو تطلع إلى أخرى لا إثم ولا حرج ﴿أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً﴾ بأن يتصالحا على أن تنزل له عن نصيبها في القسم، أو النفقة، أو بعضهما ﴿وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾ لهما ﴿وَأُحْضِرَتِ الأنْفُسُ الشُّحَّ﴾ أي وأحضرت أنفس النساء الشح بأنصبائهن في القسم والنفقة. و «الشح»: الإفراط في الحرص
﴿وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَآءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ﴾ العدل المقصود في هذه الآية: هو العدل في المحبة القلبية فحسب؛ وإلا لو قلنا بأنه العدل المطلق؛ لكان ذلك تناقضاً مع قوله جل شأنه ﴿فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النِّسَآءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ﴾ وقد كان يقسم بين نسائه فيعدل؛ ويقول: «اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك» يعني بذلك المحبة القلبية؛ ويؤيده ما بعده من قوله تعالى: ﴿فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ﴾ أي لا تميلوا عن المرغوب عنها فتجعلوها كالمعلقة التي ليست بأيم، ولا ذات بعل. ولا عبرة بما يدعو إليه من يتسمون بالمجددين: من وجوب التزوج بواحدة فقط؛ مستدلين بهذه الآية. وهو قول باطل ترده الشريعة السمحة، والسنة الغراء فليحذر غضب الله من ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ﴾ انظر مبحث تعدد الزوجات بآخر الكتاب
﴿وَإِن يَتَفَرَّقَا﴾ هذان الزوجان المتباغضان ﴿يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ﴾ منهما ﴿مِّن سَعَتِهِ﴾ وفضله فيرزقه خيراً منها خلقاً وخلقاً، ويرزقها خيراً منه رقة ولطفاً، وحناناً وعطفاً ﴿وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعاً﴾ أي واسع الفضل والرحمة والرزق ﴿حَكِيماً﴾ في صنعه.
-[١١٦]- ﴿مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا﴾ أي متاعها الزائل وحطامها الفاني؛ كالمجاهد الذي يريد بجهاده الغنيمة والفخر؛ لا الثواب والأجر والذي يريد بصلاته وحجه: الرياء والسمعة، ولا يبتغي بعباداته وجه الله تعالى؛ فقد أخطأوا جميعاً وجه الصواب؛ وآبوا شر مآب ﴿فَعِندَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ﴾ يعطي من كليهما من شاء فقد يعطي أحد الناس الدنيا فحسب ويحرمه من الآخرة والعياذ ب الله وقد يعطي أحدهم الآخر فحسب؛ ويحرمه من الدنيا؛ وهو عنه راض وقد يعطي أحدهم الدنيا والآخرة ﴿وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً﴾ ﴿وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً﴾ لأقوالكم ﴿بَصِيراً﴾ بأفعالكم
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ﴾ قائمين بالعدل في كل شيء ﴿شُهَدَآءِ للَّهِ﴾ أي تقيمون الشهادة لا تبتغون بها سوى وجه الله بدون تحيز أو محاباة ﴿وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ﴾ أي ولو كانت تلك الشهادة على أنفسكم، أو على آبائكم، أو أقاربكم؛ فلا تعوقكم القرابة، ولا المنفعة عن أداء الشهادة على وجهها الأكمل ولا يحل كتمانها؛ لأن فيه من ضياع الدماء والأموال والحقوق ما فيه (انظر آية ٢٨٣ من سورة البقرة) ﴿إِن يَكُنْ﴾ المشهود ضده فلا يمتنع عن أداء الشهادة عليه لغناه، طلبا لرضاه؛ فرضا الله تعالى أحق أن يطلب ﴿أَوْ فَقَيراً﴾ فلا يمتنع عنها عطفاً عليه، ورحمة به ﴿فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا﴾ أي حكمه تعالى وقضاؤه أولى بأن ينزل عليهما ﴿وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ﴾ ﴿فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ﴾ أي فلا تتبعوا هواكم بأن تعدلوا عن الحق؛ فتضيعوا حقوق الخلق ﴿وَإِن تَلْوُواْ﴾ أيها الشهداء في شهاداتكم فتحرفوها ﴿أَوْ تُعْرِضُواْ﴾ عن أدائها ﴿فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً﴾ فيجازيكم عليه. وقيل نزلت الآية في الحكام؛ لا في الشهداء ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ﴾ بالرسل السابقين؛ وهم أهل الكتاب من اليهود والنصارى: فاليهود آمنت بالتوراة وبمن جاء بها؛ وكذبت بالإنجيل والقرآن وبمن جاء بهما. والنصارى آمنت بالإنجيل وألهت من جاء به، وكذبت بالفرقان ومن جاء به صلوات الله تعالى وسلامه عليه، وعلى سائر أنبيائه وملائكته فنزل الخطاب لهؤلاء:
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ﴾ ﴿آمَنُواْ بِاللَّهِ﴾ تعالى ﴿وَرَسُولِهِ﴾ محمد عليه الصلاة والسلام ﴿وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ﴾ وهو القرآن الكريم.
-[١١٧]- ﴿الَّذِي﴾ اسم جنس؛ أي وآمنوا بالكتب ﴿الَّذِي أَنَزلَ مِن قَبْلُ﴾ كالتوراة والإنجيل ﴿وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ﴾ أو يؤمن ب الله وحده ويكفر بأحد هؤلاء ﴿فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً﴾ أي جار عن محجة الطريق القويم، إلى مهاوي المهالك، وبُعد عن الهدى والاستقامة
﴿بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ﴾ عبر تعالى بلفظ «بشر» تهكماً بهم. والتبشير: يجيء أيضاً بمعنى الإخبار
﴿الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ﴾ أصدقاء ونصراء ﴿أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ﴾ أي أيطلبون العزة والرفعة في الدنيا بصحبة الكافرين وصداقتهم، واتخاذهم أولياء من دون المؤمنين الذين هم إخوانهم ﴿فَإِنَّ العِزَّةَ للَّهِ جَمِيعاً﴾ لا يملكها أحد سواه؛ يهبها لمن يشاء من أوليائه وأحبائه
﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ﴾ القرآن ﴿أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ﴾ أي لا تقعدوا مع الكافرين المستهزئين بآيات الله ﴿حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾ فإن قعدتم معهم مع كفرهم بآيات الله تعالى، وخوضهم في الحق الذي أنزله ﴿إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ﴾ في الكفر. يؤخذ من هذه الآية الكريمة: أن السامع شريك للقائل؛ ما لم يرده قسراً، أو يمنعه جبراً؛ فإن لم يستطع فليفارق مجلسه من فوره ﴿إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ﴾ الذين يظهرون غير ما يبطنون ﴿وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً﴾ للعذاب
﴿الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ﴾ ينتظرون ﴿بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ﴾ نصر وغنيمة ﴿مِّنَ اللَّهِ قَالُواْ﴾ أي قال المنافقون للمؤمنين ﴿أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ﴾ بالمساعدة والرأي ﴿وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ﴾ من النصر عليكم ﴿قَالُواْ﴾ أي قال المنافقون للكافرين
-[١١٨]- ﴿أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ﴾ ألم نغلب عليكم حتى قهرتم المؤمنين؛ بعد أن ثبطناهم حتى هابوكم وخافوكم وقويناكم عليهم ﴿وَنَمْنَعْكُمْ﴾ نحمكم وندفع عنكم ﴿وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً﴾ حجة، أو طريقاً للنيل منهم
﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ﴾ وحالهم كما وصفنا ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ﴾ يظهرون خلاف ما يبطنون ﴿وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾ لأنه تعالى يبطن لهم في الآخرة خلاف ما ظهر لهم في الدنيا فقد أعطاهم فيها ما يؤملونه من صحة ومال؛ وبيت لهم في الآخرة من العذاب ما تشيب لهوله الوالدان، ويجعلهم سكارى وما هم بسكارى ﴿وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى﴾ متثاقلين يذهب الإنسان للقاء صديقه؛ فينشط لمقابلته، ويسرع لرؤيته؛ ويقوم الإنسان لمناجاة ربه، والوقوف بين يدي حبه: الخافض الرافع، المعطي المانع؛ متباطئاً متثاقلاً؛ كأنما يساق إلى أصعب الأفعال، وأشق الأعمال وقد فاته أن هذا التكاسل والتثاقل من صفات الكافرين، وسمات المنافقين؛ وهم رغم تثاقلهم وتكاسلهم ﴿يُرَآءُونَ النَّاسَ﴾ بصلاتهم
﴿مُّذَبْذَبِينَ﴾ مترددين ﴿بَيْنَ ذلِكَ﴾ بين الإيمان والكفر؛ ولم يراعوا الميثاق الذي واثقهم به ربهم، وهم في عالم الغيب؛ وأضاعوا الأمانة التي ائتمنهم عليها، وأساءوا إلى آدميتهم، وأهدروا عقولهم، ونزلوا من مصاف الإنسانية إلى درك الحيوانية؛ وأصبحوا ﴿لاَ إِلَى هَؤُلاءِ وَلاَ إِلَى هَؤُلاءِ﴾ لا إلى المؤمنين ولا إلى الكافرين؛ والتردد: أسوأ ما يوصف به مخلوق وهو إن دل على شيء؛ فإنما يدل على انعدام الشخصية، وفساد العقل
﴿وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً﴾ إلى الخير، أو إلى الجنة، أو إلى الصواب وذلك لأنه أرخى لشهواته العنان، واستمرأ ما يمليه عليه الشيطان فاستوجب الخذلان والحرمان؛ وتخلى عن حفظه الرحمن؛ ﴿فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ﴾
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ﴾ أصدقاء ونصراء؛ بعد أن بيّنا لكم شأنهم وعداوتهم ﴿أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ للَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً﴾ حجة واضحة على نفاقكم، وموالاتكم للكفار؛ تؤدي إلى عذابكم
﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾ دركات النار: منازل أهلها فيها. والنار دركات، والجنة درجات
﴿إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ﴾ من النفاق ومن التثاقل في العبادات ﴿وَأَصْلَحُواْ﴾ أعمالهم ﴿وَاعْتَصَمُواْ بِاللَّهِ﴾ استعانوا به، ووثقوا بوعده ووعيده ﴿وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ للَّهِ﴾ أي أخلصوا له تعالى في العبادة (انظر آية ١٧ من سورة البقرة).
﴿وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً﴾ يجازيكم على إخلاصكم وشكركم ﴿عَلِيماً﴾ بحالكم؛ ظاهراً وباطناً
﴿لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ﴾ أي لا يحب الله الفحش في القول، والإيذاء باللسان؛ إلا المظلوم فإنه يباح له أن يجهر بالدعاء على ظالمه، وأن يذكره بما فيه من السوء
﴿إِن تُبْدُواْ خَيْراً﴾ أي إن تظهروا ما تعملونه من أعمال الخير والبر ﴿أَوْ تُخْفُوهْ﴾ تعملوه سراً ﴿أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوءٍ﴾ تتجاوزوا عمن أساء إليكم ﴿فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً﴾ عن ذنوبكم - يحب العفو - ويجزيكم براً ببر، وعفواً بعفو ﴿قَدِيراً﴾ على ذلك بعد أن أباح تعالى لمن ظلم أن ينال من ظالمه بالجهر بالدعاء عليه: حث على العفو، وأشار إلى أنه تعالى عفو مع قدرته؛ فكيف لا تعفون مع ضعفكم وعجزكم ﴿وَأَعْتَدْنَا﴾ أعددنا وهيأنا لله ـ} جميعاً
﴿وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ﴾ كأن يقول المسلم: لا أومن بموسى ولا بعيسى، أو أن يقول اليهودي: لا أومن بعيسى ولا بمحمد، أو أن يقول النصراني: لا أومن بموسى ولا بمحمد، أو أن يقول النصارى: إن عيسى لم يكن رسولاً من عند الله كموسى ومحمد؛ بل هو ابنه أرسله ليحمل عن الناس أوزارهم وخطاياهم
﴿يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ﴾ اليهود ﴿أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السَّمَآءِ﴾ يرونه بأعينهم نازلاً عليهم؛ فلا تعجب من ذلك ﴿فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذلِكَ﴾ جحوداً وكفراً ﴿فَقَالُواْ أَرِنَا اللَّهِ جَهْرَةً﴾ نراه بأعيننا، ونمسكه بأيدينا ﴿قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ﴾ وهي نار تنزل من السماء ﴿بِظُلْمِهِمْ﴾ بسبب ظلمهم؛ وأي ظلم أقبح، وأي كفر أفدح؛ من طلبهم رؤية من ﴿لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ﴾ ﴿ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ﴾ عبدوه ﴿مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ وتضافرت لهم الآيات والمعجزات
-[١٢٠]- ﴿وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً مُّبِيناً﴾ حجة ظاهرة
﴿وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ﴾ الجبل؛ تهديداً لهم حينما امتنعوا عن العمل بما في التوراة ﴿بِمِيثَاقِهِمْ﴾ أي بسبب أخذ العهد عليهم بالإيمان بموسى، والعمل بما في التوراة ﴿وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً﴾ أي ادخلوا باب إيلياء مطأطئين رؤوسكم ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ الضَّآلِّينَ﴾ لا تعتدوا بالصيد ﴿فِي﴾ يوم وقد نهيتم عن ذلك ﴿وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَاقاً غَلِيظاً﴾ عهداً قوياً وثيقاً؛ فنقضوه
﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ﴾ فبسبب نقضهم ﴿مَّيثَاقَهُمْ﴾ الذي واثقناهم به ﴿وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللَّهِ﴾ تكذيبهم بكتبه ورسله، وآياته في الآفاق والأنفس ﴿وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَآءَ﴾ كيحيى وزكريا ﴿وَقَوْلِهِمْ﴾ لنبيهم، أو للرسول ﴿قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾ أي ذات غلاف لا تعي ما تقوله أنت ﴿بَلْ طَبَعَ اللَّهُ﴾ غطى وختم ﴿عَلَيْهَا﴾ فلا تفهم الرشد، ولا تعي الإيمان
﴿بِكُفْرِهِمْ﴾ أي بسبب كفرهم؛ وما كان الله ليطبع على قلب مؤمن ﴿وَقَوْلِهِمْ﴾ أي وبسبب قولهم ﴿عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً﴾ يقال: بهته: إذا قال عليه ما لم يفعل. وقد بهتوها عليها السلام: بأن نسبوا إليها الزنا؛ وقد اصطفاها ربها وفضلها على نساء العالمين
﴿وَقَوْلِهِمْ﴾ أي وبسبب قولهم أيضاً ﴿إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ﴾ توهموا قتله وصلبه ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ﴾ ألقى الله تعالى شبهه على أحد حوارييه، وقيل: على أحد أعدائه. وذلك بعد أن أخذوه عليه الصلاة والسلام وعذبوه عذاباً شديداً، وجروه على الشوك، ولاقى منهم عنتاً لا حد له؛ كشأن سائر أنبياء الله تعالى وأصفيائه وهم اليهود لعنهم الله، اختلفوا فيمن قتلوه ﴿لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ﴾ لأنهم افتقدوا واحداً من عدة من يعرفون مع عيسى أو واحداً منهم هم ﴿وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً﴾ أي ما قتلوه مستيقنين بأنه عيسى
﴿بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ﴾ وهو الذي افتقدوه من عدتهم
﴿وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ﴾ أي بعيسى عليه الصلاة والسلام ﴿قَبْلَ مَوْتِهِ﴾ أي قبل موت الكتابي - حين تحضره ملائكة الموت - فلا ينفعه الإيمان، أو قبل موت عيسى عليه السلام؛ حين ينزل قبيل الساعة لقتل الدجال، والحكم بشريعة سيد الخلق عليه الصلاة والسلام؛ كما جاء في الآثار والأحاديث الشريفة ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ﴾ عيسى ﴿عَلَيْهِمْ شَهِيداً﴾ أي شاهداً على أهل الكتاب؛ بتكذيب من كذبه منهم، وتصديق من صدقه. ومن كذب بمحمد: فقد كذب بعيسى، لأن عيسى بشر بمحمد ووصفه لقومه
﴿فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾ أي فبسبب ظلم الذين هادوا ضيقنا عليهم، وحرمنا عليهم الطيبات. قال تعالى: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَآ
-[١٢١]- إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَآ أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ﴾
﴿وَبِصَدِّهِمْ﴾ أي وذلك التضييق والتحريم بسبب صدهم ﴿عَن سَبِيلِ اللَّهِ﴾ دينه
﴿وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ﴾ (انظر آية ٢٧٥ من سورة البقرة) ﴿وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ﴾ وهو ما يأخذونه من الرشا في الحكم ﴿وَأَعْتَدْنَا﴾ أعددنا وهيأنا
﴿لَّكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ﴾ أي من اليهود ﴿يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيكَ﴾ من القرآن ﴿وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ﴾ من التوراة والإنجيل
﴿وَالأَسْبَاطِ﴾ حفدة يعقوب عليه السلام
﴿وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً﴾ الزبور: الكتاب ويجمع على زبر
﴿وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ﴾ إشارة إلى أنه تعالى أرسل للناس رسلاً في كل زمان ومكان غير من ذكرهم في القرآن ﴿وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً﴾ لا يوصف، ولا يعلم له كنه فلا ينبغي لأمثالنا أن نبحث عن كيفيته، أو نحاول الوقوف على حقيقته؛ فليس بالصوت الحادث، ولا بالأحرف المعلومة؛ فقد كلم الله موسى، وسمع موسى كلام ربه؛ ولكن كيف كان ذلك الكلام؟ وكيف كان ذلك السماع؟ فهذا مما لا ينبغي الخوض فيه والبحث وراءه؛ لأن الكلام قد حصل من قبيل الوجدان والشعور النفسي؛ كالإحساس باللذة والسرور - وهما من الأشياء التي يتذوقها الإنسان تذوقاً كاملاً - غير أنهما لا يمكن وصفهما بما توصف به المحسوسات؛ وإلا لو قلنا بخلاف ذلك لجاز لموسى - وقد سمع كلام الله تعالى - أن يصف ذلك المتكلم بالسرعة أو بالبطء، ولجاز له أيضاً أن يصف الصوت المسموع بالجهورة أو الخفوت، وما شاكل ذلك؛ وقد تعالى الله عن قول القائلين، ووصف الواصفين وهؤلاء الرسل الذين قصصناهم عليك، والذين لم نقصصهم قد أرسلناهم إلى أقوامهم
﴿مُّبَشِّرِينَ﴾ من أطاع بالجنة ﴿وَمُنذِرِينَ﴾ من عصى بالنار ﴿لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ أي إنه بعد إرسال الرسل تنقطع حجة الناس، وتسقط معذرتهم؛ ويقال للكافرين عند دخول النار: ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَآءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ﴾ هذا وقد وفينا هذا البحث في كتابنا «الفرقان»
﴿لَّكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ﴾ أي لا يحزنك يا محمد حسد الحاسدين، وتكذيب المكذبين؛ فإن الله تعالى يشهد بأنك صفوته من عباده، وخيرته من خليقته، وأن ما أنزل إليك هو كلامه القديم الكريم لأنه تعالى ﴿أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ﴾ وإرادته ﴿وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ﴾ بذلك أيضاً
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ﴾ منعوا الناس ﴿عَن سَبِيلِ اللَّهِ﴾ دينه
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ﴾ أنفسهم بكفرهم ﴿لَّمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ﴾ قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ﴾ ﴿وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً﴾ يوصلهم إلى الإيمان والجنة
﴿إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ﴾ الذي سلكوه واختاروه لأنفسهم
﴿يأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ﴾ بالقرآن
﴿يأَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ﴾ أي لا تتجاوزوا الحد؛ حيث قالت اليهود عن عيسى: إنه ابن زنا. وقالت النصارى: إنه ابن الله ﴿وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ﴾ بأن توحدوه، وتمجدوه وتنزهوه عن الولد والصاحبة والشريك ﴿إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ﴾ كسائر الرسل الذين أرسلهم لهداية عباده ﴿وَكَلِمَتُهُ﴾ التي ﴿أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ﴾ على لسان ملائكته عليهم السلام؟ في قوله: ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يمَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ﴾ يعني برسالة منه، وبشارة من عنده ﴿وَرُوحٌ مِّنْهُ﴾ أي رحمة منه على من اتبعه، أو وقوة منه؛ لإحيائه الموتى وإبرائه الأكمه والأبرص، وإتيانه بالمعجزات الظاهرات. قال تعالى: ﴿وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ﴾ أي بقوة منه، أو برحمة منه ﴿فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ﴾ وهو ما يزعمه النصارى من أن الإله ذو ثلاثة أقانيم: الأب، والابن، وروح القدس ﴿انتَهُواْ﴾ إرجعوا عن ذلك القول.
-[١٢٣]- ﴿خَيْراً لَّكُمْ﴾ إذ أن فيه نجاتكم ﴿إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ لا ولد له ولا والد ﴿سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ﴾ تنزه عن أن يكون له ولد؛ كما زعمت النصارى أن عيسى ابنه؛ تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً
﴿لَّن يَسْتَنكِفَ﴾ أي لن يأنف ﴿الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ﴾ فكيف تستنكفون أنتم عن عبادته تعالى ﴿وَمَن يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ﴾ مثلكم ﴿فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً﴾ أي يجمع سائر الخلائق يوم القيامة للحساب: مؤمنهم وكافرهم
﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ﴾ من شرائط الإيمان: العمل الصالح ﴿فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ﴾ ثواب أعمالهم ﴿وَيَزيدُهُمْ مِّن فَضْلِهِ﴾ فوق ما يستحقونه ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُواْ﴾ أنفوا من الإيمان، ومن عبادة الرحمن ﴿وَاسْتَكْبَرُواْ فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلُيماً﴾ جزاء كفرهم واستكبارهم ﴿وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً﴾ يدفع عنهم عذابه ﴿وَلاَ نَصِيراً﴾ يمنعهم منه
﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَكُمْ بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ﴾ هو الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأنه يحمل برهان صدقه، وبرهان وجوده تعالى ﴿وَأَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً﴾ هو القرآن الكريم؛ وأنعم به من نور لأنه يهدي إلى الحق، وينجي من الضلال
﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ﴾ أي بالله، أو بالقرآن؛ والاعتصام: الامتناع والوقاية ﴿فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مَّنْهُ﴾ خير ونعمة ﴿وَفَضَّلَ﴾ كبير ﴿وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ﴾ يوفقهم إلى طاعته ومحبته ﴿صِرَاطاً﴾ طريقاً ﴿مُّسْتَقِيماً﴾ موصلاً إلى مرضاته
﴿يَسْتَفْتُونَكَ﴾ يسألونك يا محمد عن الكلالة ﴿قُلِ﴾ لهم ﴿اللَّهُ يُفْتِيكُمْ﴾ يجيب على سؤالكم ﴿فِي الْكَلاَلَةِ﴾ وهي ﴿إِن امْرُؤٌ هَلَكَ﴾ مات؛ و ﴿لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ﴾ يرثه ﴿وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ﴾ وما بقي فلعصبته. و «الكلالة»: من لا ولد له ولا والد.
-[١٢٤]- ﴿وَهُوَ يَرِثُهَآ﴾ أي يرث أخته إن ماتت قبله؛ لا ولد لها ولا والد ﴿فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ﴾ نصيب ﴿الأُنْثَيَيْنِ﴾ (انظر آية ١١ من هذه السورة) ﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ﴾ الأحكام ﴿أَن تَضِلُّواْ﴾ أي لئلا تضلوا.
123
سورة المائدة

بسم اللَّه الرحمن الرحيم

124
Icon