تفسير سورة الرحمن

أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
تفسير سورة سورة الرحمن من كتاب أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن .
لمؤلفه الشنقيطي - أضواء البيان . المتوفي سنة 1393 هـ

قوله تعالى :﴿ الرَّحْمَان ُعَلَّمَ الْقُرْءَانَ ﴾.
قال بعض أهل العلم : نزلت هذه الآية لما تجاهل الكفار الرحمان جل وعلا، كما ذكره الله عنهم في قوله تعالى ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُواْ لِلرَّحْمَانِ قَالُواْ وَمَا الرَّحْمَانُ ﴾ [ الفرقان : ٦٠ ] كما تقدم في الفرقان.
وقد قدمنا معنى الرحمان وأدلته من الآيات في أول سورة الفاتحة.
قوله تعالى :﴿ عَلَّمَ الْقُرْءَانَ ﴾.
أي علم نبيه صلى الله عليه وسلم القرآن فتلقته أمته عنه، وهذه الآية الكريمة تتضمن رد الله على الكفار في قولهم إنه تعلم هذا القرآن من بشر كما تقدم في قوله :﴿ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ﴾ [ النحل : ١٠٣ ]، وقوله تعالى ﴿ فَقَالَ إِنْ هَذَآ إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ ﴾ [ المدثر : ٢٤ ] أي يرويه محمد عن غيره.
وقوله تعالى ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ ءَاخَرُونَ فَقَدْ جَآءُوا ظُلْماً وَزُوراً وَقَالُواْ أَسَاطِيرُ الأولين اكْتَتَبَهَا فهي تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ﴾ [ الفرقان : ٤ -٥ ].
فقوله تعالى هنا ﴿ الرَّحْمَانُ عَلَّمَ الْقُرْءَانَ ﴾ أي ليس الأمر كما ذكرتم من أنه تعلم القرآن من بشر، بل الرحمان جل وعلا هو الذي علمه إياه، والآيات الدالة على هذا كثيرة جداً، كقوله تعالى ﴿ قُلْ أَنزَلَهُ الذي يَعْلَمُ السِّرَّ في السَّمَاواتِ والأرض ﴾ [ الفرقان : ٦ ]، وقوله تعالى ﴿ الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءايَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ﴾ [ هود : ١ ]، وقوله تعالى ﴿ حم تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ كِتَابٌ فُصِّلَتْ ءَايَاتُهُ قُرْءَاناً عَرَبِيّاً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيراً وَنَذِيراً ﴾ [ فصلت : ١ -٤ ] وقوله تعالى ﴿ وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [ الأعراف : ٥٢ ] وقوله تعالى ﴿ وَكَذلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْءَاناً عَرَبِيّاً وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً ﴾ [ طه : ١١٣ ]. وقوله تعالى :﴿ وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً ﴾ [ الفرقان : ٣٣ ] وقوله تعالى ﴿ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْءَانَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْءَانَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ﴾ [ القيامة : ١٧ -١٩ ] وقوله تعالى ﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِى بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا ﴾ [ الشورى : ٥٢ ] وقوله تعالى ﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْءَانَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ ﴾ [ يوسف : ٣ ]. وقوله تعالى ﴿ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ﴾ [ النساء : ١١٣ ] ومن أعظم ذلك هذا القرآن العظيم.
وقوله تعالى ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ﴾ [ البقرة : ١٨٥ ].
وتعليمه جل وعلا هذا القرآن العظيم، قد بين في مواضع أخر أنه من أعظم نعمه كما قال تعالى ﴿ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ﴾ إلى قوله تعالى ﴿ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ﴾ [ فاطر : ٣٢ ].
وقد علم الله تعالى الناس أن يحمدوه على هذه النعمة العظمى التي هي إنزال القرآن، وذلك في قوله تعالى ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الذي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا ﴾ [ الكهف : ١ ]، وبين أن إنزاله رحمة منه لخلقه جل وعلا في آيات من كتابه كقوله تعالى ﴿ وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ﴾ [ القصص : ٨٦ ] وقوله ﴿ إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِين َرَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ﴾ [ الدخان : ٥ -٦ ] وقد بينا الآيات الموضحة لذلك في الكهف والزخرف.
﴿ عَلَّمَ الْقُرْءَانَ ﴾ حذف في أحد المفعولين، والتحقيق أن المحذوف هو الأول لا الثاني، كما ظنه الفخر الرازي، وقد رده عليه أبو حيان، والصواب هو ما ذكره، من أن المحذوف الأول، وتقديره : علم النبي صلى الله عليه وسلم وقيل جبريل، وقيل الإنسان.
قوله تعالى :﴿ خَلَقَ الإِنسَانَ عَلَّمَهُ البَيَانَ ﴾ [ ٣ -٤ ].
اعلم أولاً أن خلق الإنسان وتعليمه البيان من أعظم آيات الله الباهرة، كما أشار تعالى لذلك بقوله، في أول النحل :﴿ خَلَقَ الإِنْسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ ﴾ [ النحل : ٤ ]، وقوله : في آخر يس ﴿ أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مٌّبِينٌ ﴾ [ يس : ٧٧ ].
فالإنسان بالأمس نطفة واليوم هو في غاية البيان وشدة الخصام يجادل في ربه وينكر قدرته على البعث، فالمنافاة العظيمة التي بين النطفة وبين الإبانة في الخصام، مع أن خلقه من نطفة وجعله خصيماً مبيناً آية من آياته جل وعلا دالة على أن المعبود وحده، وأن البعث من القبور حق.
وقوله جل وعلا في هذه الآية الكريمة ﴿ خَلَقَ الإِنسَانَ ﴾ لم يبين هنا أطوار خلقه للإنسان، ولكنه بينها في آيات أخر كقوله تعالى في الفلاح ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِين ٍثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً في قَرَارٍ مَّكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً ءَاخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴾ [ المؤمنون : ١٢ -١٤ ].
والآيات المبينة أطوار خلق الإنسان كثيرة معلومة.
وقد بينا ما يتعلق بالإنسان من الأحكام في جميع أطواره قبل ولادته في أول سورة الحج في الكلام على قوله تعالى ﴿ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ في رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ ﴾ [ الحج : ٥ ] الآية، وبينا هناك معنى النطفة والعلقة والمضغة في اللغة.
وقوله جل وعلا في هذه الآية الكريمة ﴿ عَلَّمَهُ البَيَانَ ﴾ التحقيق فيه أن المراد بالبيان الإفصاح عما في الضمير.
وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من أنه علم الإنسان البيان قد جاء موضحاً في قوله تعالى ﴿ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ ﴾ [ النحل : ٤ ويس : ٧٧ ] في سورة النحل ويس، وقوله ﴿ مُّبِينٌ ﴾ على أنه اسم فاعل أبان المتعدية، والمفعول محذوف للتعميم، أي مبين كل ما يريد بيانه، وإظهاره بلسانه مما في ضميره، وذلك لأنه ربه علمه البيان، وعلى أنه صفة مشبهة من أبان اللازمة، وأن المعنى فإذا هو خصيم مبين أي بين الخصومة ظاهرها، فكذلك أيضاً، لأنه ما كان بين الخصومة إلا لأن الله علمه البيان.
وقد امتن الله جل وعلا على الإنسان بأنه جعل له آلة البيان التي هي اللسان والشفتان، وذلك في قوله تعالى ﴿ أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ ﴾ [ البلد : ٨ -٩ ].
قوله تعالى :﴿ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ ﴾.
الحسبان : مصدر زيدت فيه الألف والنون، كما زيدت في الطغيان والرجحان والكفران، فمعنى بحسبان أي بحساب وتقدير من العزيز العليم وذلك من آيات الله ونعمه أيضاً على بني آدم، لأنهم يعرفون به الشهور والسنين والأيام، ويعرفون شهر الصوم وأشهر الحج ويوم الجمعة وعدد النساء اللاتي تعتد بالشهور، كاليائسة والصغيرة والمتوفى عنها.
وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة جاء موضحاً في آيات أخر من كتاب الله كقوله تعالى ﴿ هُوَ الذي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَآءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ [ يونس : ٥ ].
وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى :﴿ فَمَحَوْنَآ ءَايَةَ الليل وَجَعَلْنَآ ءَايَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ﴾ [ الإسراء : ١٢ ].
قوله تعالى :﴿ وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ ﴾.
اختلف العلماء في المراد بالنجم في هذه الآية، فقال بعض العلماء : النجم هو ما لا ساق له من النبات كالبقول، والشجر هو ما له ساق، وقال بعض أهل العلم : المراد بالنجم نجوم السماء.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : الذي يظهر لي صوابه أن المراد بالنجم هو نجوم السماء، والدليل على ذلك أن الله جل وعلا في سورة الحج صرح بسجود نجوم السماء والشجر، ولم يذكر في آية من كتابه سجود ما ليس له ساق من النبات بخصوصه. ونعني بآية الحج قوله تعالى ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن في السَّمَاوَاتِ وَمَن في الأرض وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ ﴾ [ الحج : ١٨ ] الآية.
فدلت هذه الآية أن الساجد من الشجر في آية الرحمن هو النجوم السماوية المذكورة مع الشمس والقمر في سورة الحج، وخير ما يفسر به القرآن القرآن، وعلى هذا الذي اخترناه، فالمراد بالنجم النجوم، وقد قدمنا الكلام عليه في أول سورة النجم وأول سورة الحج، وذكرنا أن من الشواهد العربية لإطلاق النجم وإرادة النجم قول الراعي :
فباتت تعد النجم في مستحيرة سريع بأيدي الآكلين جمودها
وقول عمرو بن أبي ربيعة المخزومي :
أبرزها مثل المهاة تهادى بين خمس كواعب أتراب
ثم قالوا تحبها قلت بهرا عدد النجم والحصا والتراب
وقوله في هذه الآية الكريمة :﴿ يَسْجُدَانِ ﴾ قد قدمنا الكلام عليه مستوفى في سورة الرعد في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن في السَّمَاوَاتِ والأرض طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُم بِالْغُدُوِّ والآصال ﴾ [ الرعد : ١٥ ].
قوله تعالى :﴿ وَالسَّمَآءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ ﴾.
قوله : والسماء رفعها قد بينا الآيات الموضحة له في سورة ق في الكلام على قوله تعالى :﴿ أَفَلَمْ يَنظُرُواْ إِلَى السَّمَآءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا ﴾ [ ق : ٦ ] الآية.
وقوله :﴿ وَوَضَعَ الْمِيزَانَ ﴾، قد قدمنا الكلام عليه في سورة شورى في الكلام على قوله تعالى :﴿ اللَّهُ الذي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ ﴾ [ الشورى : ١٧ ] الآية.
قوله تعالى :﴿ وَأَقِيمُواْ الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُواْ الْمِيزَانَ ﴾.
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الأنعام في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ﴾، وذكرنا بعضه في سورة الشورى.
قوله تعالى :﴿ والأرض وَضَعَهَا للأنام فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأكمام وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ ﴾ [ ١٠ -١٢ ].
ذكر جل وعلا في هذه الآية أنه وضع الأرض للأنام وهو الخلق، لأن وضع الأرض لهم على هذا الشكل العظيم، القابل لجميع أنواع الانتفاع من إجراء الأنهار وحفر الآبار وزرع الحبوب والثمار، ودفن الأموات وغير ذلك من أنواع المنافع.
من أعظم الآيات وأكبر الآلاء التي هي النعم، ولذا قال تعالى بعده :﴿ فبأي ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾ [ الرحمان : ١٣ ].
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من امتنانه جل وعلا على خلقه بوضع الأرض لهم بما فيها من المنافع، وجعلها آية لهم، دالة على كمال قدرة ربهم واستحقاقه للعبادة وحده، جاء موضحاً في آيات كثيرة من كتاب الله كقوله تعالى :﴿ وَهُوَ الذي مَدَّ الأرض وَجَعَلَ فِيهَا رواسي وَأَنْهَاراً وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ﴾ [ الرعد : ٣ ] الآية، وقوله تعالى :﴿ هُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض ذَلُولاً فَامْشُواْ في مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ ﴾ [ الملك : ١٥ ] الآية.
وقوله تعالى ﴿ والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَاهَا وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا مَتَاعاً لَّكُمْ ولأنعامكم ﴾ [ النازعات : ٣٠ -٣٣ ] وقوله تعالى ﴿ والأرض فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ ﴾ [ الذاريات : ٣٨ ] وقوله تعالى ﴿ الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض فِرَاشاً ﴾ [ البقرة : ٢٢ ] الآية.
وقوله تعالى ﴿ والأرض مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رواسي وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً مُّبَارَكاً ﴾ [ ق : ٧ -٩ ] الآية.
وقوله تعالى ﴿ هُوَ الذي خَلَقَ لَكُم مَّا في الأرض جَمِيعاً ﴾ [ البقرة : ٢٩ ] والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ فِيهَا فَاكِهَةٌ ﴾ أي فواكه كثيرة، وقد قدمنا أن هذا أسلوب عربي معروف، وأوضحنا ذلك بالآيات وكلام العرب.
وقوله :﴿ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأكمام ﴾ ذات أي صاحبة، والأكمام جمع كم بكسر الكاف، وهو ما يظهر من النخلة في ابتداء إثمارها، شبه اللسان ثم ينفخ عن النور، وقيل : هو ليفها، واختار ابن جرير شموله للأمرين.
وقوله :﴿ وَالْحَبُّ ﴾ كالقمح ونحوه.
وقوله :﴿ ذُو الْعَصْفِ ﴾، قال أكثر العلماء : العصف ورق الزرع، ومنه قوله تعالى ﴿ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ ﴾ [ الفيل : ٥ ] وقيل العصف : التبن.
وقوله :﴿ وَالرَّيْحَانُ ﴾ : اختلف العلماء في معناه، فقال بعض أهل العلم : هو كل ما طاب ريحه من النبت وصار يشم للتمتع بريحه. وقال بعض العلماء الريحان : الرزق، ومنه قول النجم بن تولب العكلي :
فروح الإله وريحانه *** ورحمته وسماء درر
غمام ينزل رزق العباد *** فأحيا البلاد وطاب الشجر
ويتعين كون الريحان بمعنى الرزق على قراءة حمزة والكسائي، وأما على قراءة غيرهما فهو محتمل للأمرين المذكورين.
وإيضاح ذلك أن هذه الآية قرأها نافع وابن كثير وأبو عمرو وعاصم :﴿ وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ ﴾ بضم الباء والذال والنون من الكلمات الثلاث، وهو عطف على فاكهة أي فيها فاكهة، وفيها الحب إلخ، وقرأه ابن عامر :
﴿ وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ ﴾، بفتح الباء والذال والنون من الكلمات الثلاث، وفي رسم المصحف الشامي ذا العصف بألف بعد الذال، مكان الواو، والمعنى على قراءته : وخلق الحب ذا العصف والريحان، وعلى هاتين القراءتين، فالريحان محتمل لكلا المعنيين المذكورين.
وقراءة حمزة والكسائي بضم الباء في الحب وضم الذال في ذو العصف وكسر نون الريحان عطفاً على العصف، وعلى هذا فالريحان لا يحتمل المشموم لأن الحب الذي هو القمح ونحوه صاحب عصف وهو الورق أو التبن وليس صاحب مشموم طيب ريح.
فيتعين على هذه القراءة أن المراد بالعصف ما تأكله الأنعام من ورق وتبن، والمراد بالريحان ما يأكله الناس من نفس الحب، فالآية على هذا المعنى كقوله ﴿ مَتَاعاً لَّكُمْ ولأنعامكم ﴾ [ النازعات : ٣٣ ] وقوله تعالى ﴿ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ ﴾ [ السجدة : ٢٧ ].
وقوله تعالى ﴿ فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى كُلُواْ وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ ﴾ [ طه : ٥٣ -٥٤ ] وقوله تعالى ﴿ لَّكُم مَّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ ﴾ [ النحل : ١٠ -١١ ] الآية.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة ﴿ فِيهَا فَاكِهَةٌ ﴾ ما ذكره تعالى فيه من الامتنان بالفاكهة التي هي أنواع، جاء موضحاً في آيات أخر من كتاب الله كقوله تعالى في سورة الفلاح ﴿ لَّكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ﴾ [ المؤمنون : ١٩ ] وقوله تعالى :﴿ وَفَاكِهَةً وَأَبّاً ﴾ [ عبس : ٣١ ] إلى غير ذلك من الآيات.
وما ذكره هنا من الامتنان بالحب جاء موضحاً في آيات أخر، كقوله تعالى :﴿ فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ ﴾ [ ق : ٩ ]، وقوله تعالى ﴿ فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً وَعِنَباً ﴾ [ عبس : ٢٧ -٢٨ ] وقوله تعالى :﴿ وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ ﴾ [ يس : ٣٣ ]، وقوله تعالى ﴿ نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً ﴾ [ الأنعام : ٩٩ ]. وقوله تعالى :﴿ إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى ﴾ [ الأنعام : ٩٥ ] إلى غير ذلك من الآيات.
وما ذكره تعالى هنا من الامتنان بالنحل، جاء موضحاً في آيات كثيرة كقوله تعالى :﴿ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ رِّزْقاً لِّلْعِبَادِ ﴾ [ ق : ١٠ -١١ ]، وقوله تعالى ﴿ فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ ﴾ [ المؤمنون : ١٩ ] الآية، والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة.
وما ذكره هنا من الامتنان بالريحان، على أنه الرزق كما في قراءة حمزة والكسائي، جاء موضحاً في آيات كثيرة أيضاً كقوله تعالى :﴿ هُوَ الذي يُرِيكُمْ ءَايَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَآءِ رِزْقاً ﴾ [ غافر : ١٣ ] وقوله تعالى :﴿ قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَآءِ والأرض ﴾ [ يونس : ٣١ ] الآية، وقوله تعالى :﴿ أَمَّنْ هَذَا الذي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ ﴾ [ الملك : ٢١ ]. وقوله تعالى :﴿ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ﴾ [ غافر : ٦٤ ] الآية، والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة.
مسألة
أخذ بعض علماء الأصول من هذه الآية الكريمة وأمثالها من الآيات كقوله تعالى :﴿ هُوَ الذي خَلَقَ لَكُم مَّا في الأرض جَمِيعاً ﴾ أن الأصل فيما على الأرض الإباحة، حتى يرد دليل خاص بالمنع، لأن الله امتن على الأنام بأنه وضع لهم الأرض، وجعل لهم فيها أرزاقهم من القوت والتفكه في آية الرحمان هذه، وامتن عليهم بأنه خلق لهم ما في الأرض جميعاً في قوله ﴿ هُوَ الذي خَلَقَ لَكُم مَّا في الأرض جَمِيعاً ﴾ [ البقرة : ٢٩ ].
ومعلوم أنه جل وعلا لا يمتن بحرام إذ لا منة في شيء محرم، واستدلوا لذلك أيضاً بحصر المحرمات في أشياء معينة في آيات من كتاب الله، كقوله تعالى ﴿ قُل لاَ أَجِدُ في مَآ أُوْحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ ﴾ [ الأنعام : ١٤٥ ] الآية، وقوله تعالى :﴿ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ﴾ [ الأعراف : ٣٣ ] الآية. وقوله تعالى ﴿ قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ﴾ [ الأنعام : ١٥١ ] الآية.
وفي هذه المسألة قولان آخران.
أحدهما : أن الأصل فيما على الأرض التحريم حتى يدل دليل على الإباحة، واحتجوا لهذا بأن جميع الأشياء مملوكة لله جل وعلا، والأصل في ملك الغير منع التصرف فيه إلا بإذنه، وفي هذا مناقشات معروفة في الأصول، ليس هذا محل بسطها.
القول الثاني : هو الوقف وعدم الحكم فيها بمنع ولا إباحة حتى يقوم الدليل، فتحصل أن في المسألة ثلاثة مذاهب : المنع، والإباحة، والوقف.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : الذي يظهر لي صوابه في هذه المسألة هو التفصيل، لأن الأعيان التي خلقها الله في الأرض للناس بها ثلاث حالات :
الأولى : أن يكون فيها نفع لا يشوبه ضرر كأنواع الفواكه وغيرها.
الثانية : أن يكون فيها ضرر لا يشوبه نفع كأكل الأعشاب السامة القاتلة.
الثالثة : أن يكون فيها نفع من جهة وضرر من جهة أخرى، فإن كان فيها نفع لا يشوبه ضرر، فالتحقيق حملها على الإباحة حتى يقوم دليل على خلاف ذلك لعموم قوله :﴿ هُوَ الذي خَلَقَ لَكُم مَّا في الأرض جَمِيعاً ﴾ [ البقرة : ٢٩ ]. وقوله ﴿ والأرض وَضَعَهَا للأنام ﴾ [ الرحمان : ١٠ ] الآية.
وإن كان فيها ضرر لا يشوبه نفع فهي على التحريم لقوله صلى الله عليه وسلم :«لا ضرر ولا ضرار ».
وإن كان فيها نفع من جهة وضرر من جهة أخرى فلها ثلاث حالات :
الأولى : أن يكون النفع أرجح من الضرر.
والثانية : عكس هذا.
والثالثة : أن يتساوى الأمران.
فإن كان الضرر أرجح من النفع أو مساوياً له فالمنع لحديث «لا ضرر ولا ضرار » ولأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، وإن كان النفع أرجح، فالأظهر الجواز، لأن المقرر في الأصول أن المصلحة الراجحة تقدم على المفسدة المرجوحة، كما أشار له في مراقي السعود بقوله :
*وألغ إن يك الفساد أبعدا *
أو رجح الإصلاح كالأسارا *** تفدى بما ينفع للنصارا
وانظر تدلي دولي العنب *** في كل مشرق وكل مغرب
ومراده : تقديم المصلحة الراجحة على المفسدة المرجوحة، أو البعيدة ممثلاً له بمثالين :
الأول منهما : أن تخليص أسارى المسلمين من أيدي العدو بالفداء مصلحة راجحة قدمت على المفسدة المرجوحة، التي هي انتفاع العدو بالمال المدفوع لهم فداء للأسارى.
الثاني : أن انتفاع الناس بالعنب والزبيب، مصلحة راجحة على مفسدة عصر الخمر من العنب، فلم يقل أحد بإزالة العنب من الدنيا لدفع ضرر عصر الخمر منه، لأن الانتفاع بالعنب والزبيب مصلحة راجحة على تلك المفسدة، وهذا التفصيل الذي اخترنا، قد أشار له صاحب مراقي السعود بقوله :
والحكم ما به يجيء الشرع *** وأصل كل ما يضر المنع
تنبيه
اعلم أن علماء الأصول يقولون : إن الإنسان لا يحرم عليه فعل شيء إلا بدليل من الشرع، ويقولون إن الدليل على ذلك عقلي، وهو البراءة الأصلية المعروفة بالإباحة العقلية، وهي استصحاب العدم الأصلي حتى يرد دليل ناقل عنه.
ونحن نقول : إنه قد دلت آيات من كتاب الله على أن استصحاب العدم الأصلي قبل ورود الدليل الناقل عنه حجة في الإباحة، ومن ذلك أن الله لما أنزل تشديده في تحريم الربا في قوله تعالى ﴿ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ ﴾ [ البقرة : ٢٧٩ ] الآية، وكانت وقت نزولها عندهم أموال مكتسبة من الربا، اكتسبوها قبل نزول التحريم، بين الله تعالى لهم أن ما فعلوه من الربا، على البراءة الأصلية قبل نزول التحريم لا حرج عليهم فيه، إذ لا تحريم إلا ببيان، وذلك في قوله تعالى :﴿ فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ ﴾ [ البقرة : ٢٧٥ ] وقوله : ما سلف أي ما مضى قبل نزول التحريم، ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءَابَاؤُكُمْ مِّنَ النِّسَآءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ ﴾ [ النساء : ٢٢ ] وقوله تعالى ﴿ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأختين إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ ﴾ [ النساء : ٢٣ ] والأظهر أن الاستثناء فيهما في قوله :﴿ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ ﴾. منقطع أي لكن ما سلف من ذلك قبل نزول التحريم، فهو عفو، لأنه على البراءة الأصلية.
ومن أصرح الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ ﴾ [ التوبة : ١١٥ ] لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما استغفر لعمه أبي طالب بعد موته على الشرك، واستغفر المسلمون لموتاهم المشركين عاتبهم الله في قوله ﴿ مَا كَانَ للنبي وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِى قُرْبَى ﴾ [ التوبة : ١١٣ ] الآية. ندموا على الاستغفار لهم، فبين الله لهم أن استغفارهم لهم لا مؤاخذة به، لأنه وقع قبل بيان منعه، وهذا صريح فيما ذكرنا.
وقد قدمنا أن الأخذ بالبراءة الأصلية يعذر به في الأصول أيضاً في الكلام على قوله تعالى ﴿ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ﴾ [ الإسراء : ١٥ ] وبينا هناك كلام أهل العلم في ذلك، وأوضحنا ما جاء في ذلك من الآيات القرآنية. والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى :﴿ خَلَقَ الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَآنَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ ﴾.
الصلصال : الطين اليابس الذي تسمع له صلصلة، أي صوت إذا قرع بشيء، وقيل الصلصال المنتن، والفخار الطين المطبوخ، وهذه الآية بين الله فيها طوراً من أطوار التراب الذي خلق منه آدم، فبين في آيات أنه خلقه من تراب كقوله تعالى ﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ﴾ [ آل عمران : ٥٩ ] وقوله تعالى ﴿ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ في رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ ﴾ [ الحج : ٥ ] وقوله تعالى ﴿ وَمِنْ ءَايَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَآ أَنتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ ﴾ [ الروم : ٢٠ ] وقوله تعالى ﴿ هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ﴾ [ غافر : ٦٧ ] وقوله تعالى ﴿ مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ ﴾ [ طه : ٥٥ ].
وقد بينا في قوله تعالى ﴿ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ ﴾ وقوله ﴿ مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ ﴾ أن المراد بخلقهم منها هو خلق أبيهم آدم منها، لأنه أصلهم وهم فروعه، ثم إن الله تعالى عجن هذا التراب بالماء فصار طيناً، ولذا قال ﴿ أَءَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا ﴾ [ الإسراء : ٦١ ] وقال ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ ﴾ [ المؤمنون : ١٢ ] وقال تعالى ﴿ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِن طِينٍ ﴾ [ السجدة : ٧ ]. وقال ﴿ أَم مَّنْ خَلَقْنَآ إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ ﴾ [ الصافات : ١١ ] وقال تعالى :﴿ إني خَالِقٌ بَشَراً مِّن طِينٍ ﴾ [ ص : ٧١ ] ثم خمر هذا الطين فصار حماً مسنوناً، أي طيناً أسود متغير الريح، كما قال تعالى ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ ﴾ [ الحجر : ٢٦ ] الآية. قال تعالى ﴿ إني خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ ﴾ [ الحجر : ٢٨ ] وقال عن إبليس ﴿ قَالَ لَمْ أَكُن لأسجد لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ ﴾ [ الحجر : ٣٣ ] والمسنون قيل المتغير وقيل المصور وقيل الأملس، ثم يبس هذا الطين فصار صلصالاً. كما قال هنا :﴿ خَلَقَ الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ ﴾ [ الرحمان : ١٤ ] ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ ﴾ [ الحجر : ٢٦ ] الآية.
فالآيات يصدق بعضها بعضا، ويتبين فيها أطوار ذلك التراب كما لا يخفى.
وقال ﴿ الْجَآنَّ ﴾ أي وخلق الجان وهو أبو الجن، وقيل هو إبليس. وقيل : هو الواحد من الجن.
وعليه فالألف واللام للجنس، والمارج : اللهب الذي لا دخان فيه، وقوله ﴿ مِّن نَّارٍ ﴾ بيان لمارج. أي من لهب صاف كائن من النار.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أنه تعالى خلق الجان من النار، جاء موضحاً في غير هذا الموضع كقوله تعالى في الحجر ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ ﴾ [ الحجر : ٢٦ -٢٧ ] وقوله تعالى ﴿ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ﴾ [ الأعراف : ١٢ ].
وقد أوضحنا الكلام على هذا في سورة البقرة في الكلام على قوله تعالى ﴿ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ﴾ [ البقرة : ٣٤ ].
قوله تعالى :﴿ رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ ﴾.
قد أوضحنا الكلام عليه في أول الصافات في الكلام على قوله تعالى ﴿ رَّبُّ السَّمَاوَاتِ والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ ﴾ [ الصافات : ٥ ].
قوله تعالى :﴿ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ ﴾.
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الفرقان في الكلام على قوله تعالى ﴿ وَهُوَ الذي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَّحْجُوراً ﴾ [ الفرقان : ٥٣ ].
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٩:قوله تعالى :﴿ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ ﴾.
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الفرقان في الكلام على قوله تعالى ﴿ وَهُوَ الذي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَّحْجُوراً ﴾ [ الفرقان : ٥٣ ].

قوله تعالى :﴿ يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ ﴾.
قرأ هذا الحرف نافع وأبو عمرو، ﴿ يَخْرُجُ ﴾ بضم الياء وفتح الراء مبنياً للمفعول، وعليه فاللؤلؤ نائب فاعل يخرج وقرأه باقي السبعة :﴿ يَخْرُجُ ﴾ بفتح الياء وضم الراء مبنياً للفاعل، وعليه فاللؤلؤ فاعل يخرج.
اعلم أن جماعة من أهل العلم قالوا : إن المراد بقوله في هذه الآية يخرج منهما أي من مجموعها الصادق بالبحر الملح، وأن الآية من إطلاق المجموع وإرادة بعضه، وأن اللؤلؤ والمرجان لا يخرجان من البحر الملح وحده دون العذب.
وهذا القول الذي قالوه في هذه الآية مع كثرتهم وجلالتهم لا شك في بطلانه، لأن الله صرح بنقيضه في سورة فاطر، ولا شك أن كل ما ناقض القرآن فهو باطل، وذلك في قوله تعالى ﴿ وَمَا يستوي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَآئِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا ﴾ [ فاطر : ١٢ ] فالتنوين في قوله :﴿ مِن كُلّ ﴾ تنوين عوض أي من كل واحد من العذب والملح تأكلون لحماً طرياً وتستخرجون حلية تلبسونها، وهي اللؤلؤ والمرجان، وهذا مما لا نزاع فيه.
وقد أوضحنا هذا في سورة الأنعام في الكلام على قوله تعالى ﴿ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ ﴾ [ الأنعام : ١٣٠ ] الآية واللؤلؤ الدر، والمرجان الخرز الأحمر. وقال بعضهم : المرجان صغار الدر واللؤلؤ كباره.
قوله تعالى :﴿ وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَئَاتُ في الْبَحْرِ كَالاٌّعْلَامِ ﴾.
قد قدمنا الكلام عليه في سورة شورى في الكلام على قوله تعالى ﴿ وَمِنْ ءَايَاتِهِ الْجَوَارِ في الْبَحْرِ كالأعلام ﴾ [ الشورى : ٣٢ ].
قوله تعالى :﴿ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَان ٍوَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلْالِ وَالإِكْرَامِ ﴾[ ٢٦ -٢٧ ].
ما تضمنته هذه الآية الكريمة من فناء كل من على الأرض وبقاء وجهه جل وعلا المتصف بالجلال والإكرام، جاء موضحاً في غير هذا الموضع كقوله تعالى :﴿ كُلُّ شيء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ﴾ [ القصص : ٨٨ ]، وقوله تعالى :﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى الحي الذي لاَ يَمُوتُ ﴾ [ الفرقان : ٥٨ ]. وقوله تعالى ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ ﴾ [ آل عمران : ١٨٥ ] إلى غير ذلك من الآيات.
والوجه صفة من صفات الله العلي وصف بها نفسه، فعلينا أن نصدق ربنا ونؤمن بما وصف به نفسه مع التنزيه التام عن مشابهة صفات الخلق.
وقد أوضحنا هذا غاية الإيضاح بالآيات القرآنية في سورة الأعراف، وفي سورة القتال. والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى :﴿ يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ والأرض فَانفُذُواْ لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ ﴾.
قد قدمنا الكلام عليه في سورة الحجر في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ ﴾ [ الحجر : ١٧ ] وتكلمنا أيضاً هناك على غيرها من الآيات التي يفسرها الجاهلون بكتاب الله بغير معانيها، فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
قوله تعالى :﴿ فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَآءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ ﴾.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن السماء ستنشق يوم القيامة، وأنها إذا انشقت صارت وردة كالدهان، وقوله :﴿ وَرْدَةً ﴾ : أي حمراء كلون الورد، وقوله ﴿ كَالدِّهَانِ ﴾ : فيه قولان معروفان للعلماء.
الأول منهما : أن الدهان هو الجلد الأحمر، وعليه فالمعنى أنها تصير وردة متصفة بلون الورد مشابهة للجلد الأحمر في لونه.
والثاني : أن الدهان هو ما يدهن به، وعليه، فالدهان، قيل : هو جمع دهن، وقيل : هو مفرد، لأن العرب تسمى ما يدهن به دهاناً، وهو مفرد، ومنه قول امرىء القيس :
كأنهما مزادتا متعجل فريان لما تدهني بدهان
وحقيقة الفرق بين القولين أنه على القول بأن الدهان هو الجلد الأحمر، يكون الله وصف السماء عند انشقاقها يوم القيامة بوصف واحد وهو الحمرة فشبهها بحمرة الورد. وحمرة الأديم الأحمر.
قال بعض أهل العلم : إنها يصل إليها حر النار فتحمر من شدة الحرارة. وقال بعض أهل العلم : أصل السماء حمراء إلا أنها لشدة بعدها وما دونها من الحواجز لم تصل العيون إلى إدراك لونها الأحمر على حقيقته، وأنها يوم القيامة ترى على حقيقة لونها.
وأما على القول بأن الدهان هو ما يدهن به، فإن الله وقد وصف السماء عند انشقاقها بوصفين أحدهما حمرة لونها، والثاني أنها تذوب وتصير مائعة كالدهن.
أما على القول الأول، فلم نعلم آية من كتاب الله تبين هذه الآية، بأن السماء ستحمر يوم القيامة حتى تكون كلون الجلد الأحمر.
وأما على القول الثاني الذي هو أنها تذوب وتصير مائعة، فقد أوضحه الله في غير هذا الموضع وذلك في قوله تعالى في المعارج ﴿ إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَرَاهُ قَرِيبا ًيَوْمَ تَكُونُ السَّمَآءُ كَالْمُهْلِ ﴾ [ المعارج : ٦ -٨ ]، والمهل شيء ذائب على كلا القولين سواء قلنا : إنه دردي الزيت وهو عكره، أو قلنا إنه الذائب من حديد أو نحاس أو نحوهما.
وقد أوضح تعالى في الكهف أن المهل شيء ذائب يشبه الماء شديد الحرارة، وذلك في قوله تعالى :﴿ وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِى الْوجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَآءَتْ مُرْتَفَقًا ﴾ [ الكهف : ٢٩ ].
والقول بأن الوردة تشبيه الفرس الكميت وهو الأحمر لأن حمرته تتلون باختلاف الفصول، فتشتد حمرتها في فصل، وتميل إلى الصفرة في فصل، وإلى الغبرة في فصل.
وأن المراد بالتشبيه كون السماء عند انشقاقها تتلون بألوان مختلفة واضح البعد عن ظاهر الآية، وقول من قال : إنها تذهب وتجيء معناه له شاهد في كتاب الله، وذلك في قوله تعالى :﴿ يَوْمَ تَمُورُ السَّمَآءُ مَوْراً ﴾ [ الطور : ٩ ] الآية، ولكنه لا يخلو عندي من بعد.
وما ذكره تعالى في هذه الآية الكريمة من انشقاق السماء يوم القيامة، جاء موضحاً في آيات كثيرة كقوله تعالى :﴿ إِذَا السَّمَآءُ انشَقَّتْ ﴾ [ الانشقاق : ١ ] وقوله تعالى ﴿ فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ وَانشَقَّتِ السَّمَآءُ ﴾ [ الحاقة : ١٥ -١٦ ] وقوله :﴿ وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَآءُ بِالْغَمَامِ ﴾ [ الفرقان : ٢٥ ] الآية. وقوله :﴿ إِذَا السَّمَآءُ انفَطَرَتْ ﴾ [ الانفطار : ١ ]، وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة ق في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ ﴾ [ ق : ٦ ].
قوله تعالى :﴿ فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْألُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ ﴾.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة، أنه يوم القيامة لا يسأل إنساً ولا جاناً عن ذنبه، وبين هذا المعنى في قوله تعالى في القصص :﴿ وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ﴾ [ القصص : ٧٨ ].
وقد ذكر جل وعلا في آيات أخر أنه يسأل جميع الناس يوم القيامة الرسل والمرسل إليهم، وذلك في قوله تعالى ﴿ فَلَنَسْألَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْألَنَّ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [ الأعراف : ٦ ]، وقوله ﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْألَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ [ الحجر : ٩٢ -٩٣ ].
وقد جاءت آيات من كتاب الله مبينة لوجه الجمع بين هذه الآيات، التي قد يظن غير العالم أن بينها اختلافاً، اعلم أولاً أن للسؤال المنفي في قوله هنا ﴿ فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْألُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ ﴾، وقوله ﴿ وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ﴾ أخص من السؤال المثبت في قوله ﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْألَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾، لأن هذه فيها تعميم السؤال في كل عمل، والآيتان قبلها ليس فيهما نفي السؤال إلا عن الذنوب خاصة، وللجمع بين هذه الآيات أوجه معروفة عند العلماء.
الأول منها : وهو الذي دل عليه القرآن، وهو محل الشاهد عندنا من بيان القرآن بالقرآن هنا، هو أن السؤال نوعان : أحدهما سؤال التوبيخ والتقريع وهو من أنواع العذاب، والثاني هو سؤال الاستخبار والاستعلام.
فالسؤال المنفي في بعض الآيات هو سؤال الاستخبار والاستعلام، لأن الله أعلم بأفعالهم منهم أنفسهم كما قال تعالى :﴿ أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ ﴾ [ المجادلة : ٦ ].
وعليه فالمعنى لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان، سؤال استخبار واستعلام لأن الله أعلم بذنبه منه.
والسؤال المثبت في الآيات الأخرى هو سؤال التوبيخ والتقريع، سواء كان عن ذنب أو غير ذنب، ومثال سؤالهم عن الذنوب سؤال توبيخ وتقريع قوله تعالى :﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ﴾ [ آل عمران : ١٠٦ ]، ومثاله عن غير ذنب قوله تعالى :﴿ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ ﴾ [ الصافات : ٢٤ -٢٦ ] وقوله تعالى ﴿ يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا هَذِهِ النَّارُ التي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ أَفَسِحْرٌ هَذَا ﴾ [ الطور : ١٣ -١٥ ] الآية، وقوله ﴿ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ ﴾ [ الأنعام : ١٣٠ ].
أما سؤال الموءودة في قوله :﴿ وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ ﴾ [ التكوير : ٨ ] فلا يعارض الآيات النافية السؤال عن الندب، لأنها سئلت عن أي ذنب قتلت وهذا ليس من ذنبها، والمراد بسؤالها توبيخ قاتلها وتقريعه، لأنها هي تقول لا ذنب لي، فيرجع اللوم على من قتلها ظلماً.
وكذلك سؤال الرسل، فإن المراد به توبيخ من كذبهم وتقريعه، مع إقامة الحجة عليه بأن الرسل قد بلغته، وباقي أوجه الجمع بين الآيات لا يدل عليه قرآن، وموضوع هذا الكتاب بيان القرآن بالقرآن، وقد بينا بقيتها في كتابنا دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب في أول سورة الأعراف.
وقد قدمنا طرفاً من هذا الكتاب المبارك في سورة الأعراف في الكلام على قوله تعالى :﴿ فَلَنَسْألَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْألَنَّ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [ الأعراف : ٦ ].
قوله تعالى :﴿ يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بالنواصي والأقدام ﴾.
قوله :﴿ بِسِيمَاهُمْ ﴾ : أي بعلامتهم المميزة لهم، وقد دل القرآن على أنها هي سواد وجوههم وزرقة عيونهم، كما قال تعالى ﴿ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ ﴾ [ آل عمران : ١٠٦ ] الآية، وقال تعالى :﴿ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ ﴾ [ الزمر : ٦٠ ]، وقال تعالى :﴿ وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُمْ مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ الليل مُظْلِماً أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [ يونس : ٢٧ ]، وقال تعالى ﴿ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ ﴾ [ عبس : ٤٠ -٤٢ ]، لأن معنى قوله ﴿ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ ﴾ أي يعلوها ويغشاها سواد كالدخان الأسود، وقال تعالى في زرقة عيونهم :﴿ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمِئِذٍ زُرْقاً ﴾ [ طه : ١٠٢ ] ولا شيء أقبح وأشوه من سواد الوجوه وزرقة العيون، ولذا لما أراد الشاعر أن يقبح علل البخيل بأسوإ الأوصاف وأقبحها، فوصفها بسواد الوجوه وزرقة العيون حيث قال :
وللبخيل على أمواله علل زرق العيون عليها أوجه سود
ولاسيما إذا اجتمع مع سواد الوجه اغبراره، كما في قوله :﴿ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ ﴾ فإن ذلك يزيده قبحاً على قبح.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ فَيُؤْخَذُ بالنواصي والأقدام ﴾، وقد قدمنا تفسيره والآيات الموضحة له في سورة الطور في الكلام على قوله تعالى :﴿ يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا ﴾.
قوله تعالى :﴿ هذه جَهَنَّمُ التي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ ءَانٍ ﴾. أما قوله :﴿ هَذِهِ جَهَنَّمُ التي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ ﴾ فقد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الطور أيضاً في الكلام على قوله تعالى :﴿ هَذِهِ النَّارُ التي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ ﴾ [ الطور : ١٤ ].
وأما قوله تعالى :﴿ يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ ءَانٍ ﴾ فقد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الحج في الكلام على قوله :﴿ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا في بُطُونِهِمْ ﴾ [ الحج : ١٩ -٢٠ ] الآية.
قوله تعالى :﴿ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ﴾.
وقد بينا في ترجمة هذا الكتاب المبارك، أن الآية قد يكون فيها وجهان صحيحان كلاهما يشهد له قرآن، فنذكر ذلك كله مبينين أنه كله حق، وذكرنا لذلك أمثلة متعددة في هذا الكتاب المبارك، ومن ذلك هذه الآية الكريمة.
وإيضاح ذلك أن هذه الآية الكريمة فيها وجهان معروفان عند العلماء، كلاهما يشهد له قرآن :
أحدهما : أن المراد بقوله :﴿ مَقَامَ رَبِّهِ ﴾ : أي قيامه بين يدي ربه، فالمقام اسم مصدر بمعنى القيام، وفاعله على هذا الوجه هو العبد الخائف، وإنما أضيف إلى الرب لوقوعه بين يديه، وهذا الوجه يشهد له قوله تعالى :﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هي الْمَأْوَى ﴾ [ النازعات : ٤٠ -٤١ ]، فإن قوله :﴿ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ﴾ : قرينة دالة على أنه خاف عاقبة الذنب حين يقوم بين يدي ربه، فنهى نفسه عن هواها.
والوجه الثاني : أن فاعل المصدر الميمي الذي هو المقام، هو الله تعالى : أي خاف هذا العبد قيام العبد قيام الله عليه ومراقبته لأعماله وإحصائها عليه، ويدل لهذا الوجه الآيات الدالة على قيام الله على جميع خلقه وإحصائه عليهم أعمالهم كقوله تعالى :﴿ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الحي الْقَيُّومُ ﴾ [ البقرة : ٢٥٥ ]، وقوله تعالى :﴿ أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ﴾ [ الرعد : ٣٣ ]، وقوله تعالى :﴿ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ ﴾ [ يونس : ٦١ ] الآية. إلى غير ذلك من الآيات.
وقد قدمنا في سورة الأحقاف في الكلام على قوله تعالى في شأن الجن :﴿ يا قَوْمَنَآ أَجِيبُواْ دَاعِي اللَّهِ وَءَامِنُواْ بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ ﴾ [ الأحقاف : ٣١ ] الآية، أن قوله :﴿ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ﴾. وتصريحه بالامتنان بذلك على الإنس والجن في قوله ﴿ فبأي ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾ [ الرحمان : ١٣و١٦ ]، نص قرآني على أن المؤمنين الخائفين مقام ربهم من الجن يدخلون الجنة.
قوله تعالى :﴿ مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ ﴾.
قد بينا في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا ﴾ [ النحل : ١٤ ] جميع الآيات القرآنية الدالة على تنعم أهل الجنة بالسندس والإستبرق، والحلية بالذهب والفضة، وبينا أن جميع ذلك يحرم على ذكور هذه الأمة في دار الدنيا.
قوله تعالى :﴿ فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ ﴾.
قد قدمنا الكلام عليه مستوفى في سورة الصافات في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ ﴾ [ الصافات : ٣٨ ].
قوله تعالى :﴿ حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ في الْخِيَامِ ﴾.
قد قدمنا معنى القصر في الخيام، وقصر الطرف على الأزواج في سورة الصافات في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ ﴾، وقدمنا الآيات الدالة على صفات نساء أهل الجنة في مواضع كثيرة من هذا الكتاب في سورة البقرة والصافات. وغير ذلك.
Icon