ولسورة الرحمن طابع خاص، وأسلوب فريد متميز عن سائر السور،
في رنينها، وفواصلها وطريقة عرضها لآلاء الله الباهرة، ونعمه المستفيضة،
ثم تكرار قوله تعالى :﴿ فبأي آلاء ربكما تكذبان ﴾. وقد تكررت هذه الآية إحدى وثلاثين مرة على طريقة القرآن الكريم في التكرار المستحسن الذي يقتضيه المقام، في كل مرة فيها تقريع للمكذبين على تكذيبهم بنعم الله الواردة في الآية التي قبلها.
وقد ورد هذا التكرار في أساليب العرب في الشعر لمهلهِل يرثي أخاه كليبا، وكذلك للشاعر الفارس الحارث بن عباد وغيرهم. والسورة تتحدى الفصحاء والبلغاء بهذا الأسلوب العجيب. ومع التحدي الواضح للإنس والجن، فهي تعرض هذا الوجود عرضا سريعا، وتتحدث عما فيه من مشاهد وعجائب، ونعم، عن خلْق الإنسان من صلصال كالفخار، وخلق الجان من مارج من نار، وكيف مرج البحرين، ويخرج منهما اللؤلؤ والمرجان، وكيف تسير السفن بقدرته وأمره، وأن كل من على هذه الأرض فان، ﴿ ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ﴾.
وقد بدأت السورة في تعداد نعم الله بعد ذكر أشرف نعمة، وهي تعليم القرآن الكريم، ثم سارت توضح عظمة خالق هذا الكون وما فيه من نعم، وتبرز قدرته وسلطانه على الثقلين : الإنس والجن، في السموات والأرض. ثم عرضت لعذاب المجرمين المكذبين في جهنم، وأفاضت في نعيم المتقين في الجنة. وأخيرا ختمت السورة بتنزيه الله تعالى والثناء عليه ﴿ تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام ﴾.
وقد روى البيهقي في الشعب عن علي كرم الله وجهه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لكل شيء عروس، وعروس القرآن الرحمن.
ﰡ
كي يُبينَ عما في نفسه. وتلك ميزةٌ له عن سائر الحيوان.
وسخّر الشمسَ والقمرَ يجريان بحسابٍ دقيق وتقديرٍ منتظم وقوانين ثابتة.
الشجر : كل ما له ساق كالنخل وغيره.
يسجدان : يخضعان لله تعالى.
والنباتُ الذي لا ساقَ له، والشجرُ بجميع أنواعه، مسخَّرة خاضعة لإرادة الله في كل ما يريد.
ووضع الميزان : شرع العدل.
كما خلَق السماءَ مرفوعة، ووضعَ العدلَ حتى لا يظلم بعضكم بعضا.
ولا تخسِروا الميزان : ولا تنقصوا الميزان.
وأقيموا الوزن بالعدل في كل معاملاتكم، ولا تنقصوا الميزان.
ولقد أوجد الله في الأرض لكم أنواعاً كثيرة من الفواكه.
فيها النخْل ذاتُ الأكمام.
الرَّيحان : كل مشموم طيب الرائحة من النبات.
وفيها الحبُّ ذو القشر، جعله رزقاً لكم ولأنعامكم. وفيها كل نبتٍ طيب الرائحة. وقد خص النخلَ بالذِكر لأن ثمره فاكهة وغذاء.
قراءات :
قرأ ابن عامر : والحبَّ ذا العصف والريحانَ بفتح الحب والريحان.
وقرأ حمزة والكسائي والريحانِ بالجر. والباقون : والحبّ ذو العصف والريحان بالرفع.
الخطاب للإنس والجن وقد جاء بعد ذِكر كثير من النعم، فبعد كل هذه النعم فبأي نعمة من ربكما تجحدان وتكذّبان ؟ ؟.
والفَخّار : الطين المطبوخ المصنّع.
بعد أن منّ الله على الخلق بما هيأ لهم من نعمٍ لا تحصى في هذا الكون، ينتقل هنا إلى الامتنان عليهم بنعمه في ذواتِ أنفسهم، وفي خاصةِ وجودهم وإنشائهم.
خلَقَ جنسَ الإنسان من طينٍ يابس غير مطبوخ،
وخلق الجانَّ من لهيبٍ مشتعل من نار.
وهو ربُّ مشرِقَي الشمسِ في الصيف والشتاء، ورب مغربَيها اللذين يترتب عليهما تقلُّبُ الفصول الأربعة وتقلب الهواء وتنوعه، وما يلي ذلك من الأمطار والشجر والنبات والأنهار الجارية.
يلتقيان : يتجاوران.
ثم ذكر نعمه تعالى على عبادِه في البحر وما فيه من فوائدَ وخيرات فقال :
﴿ مَرَجَ البحرين يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ ﴾
أرسل البحرَ المالحَ والبحرَ العذب متجاورَين متلاقيين لا يبغي أحدُهما على الآخر.
لا يبغيان : لا يطغى أحدهما على الآخر فيمتزجان.
فقد حجَز بينهما ربُّهما بحاجزٍ من قدرته.
المرجان : نوع أحمر من حيوان البحر أيضا يُتخذ حلياً.
ومن البحر المالح والعذب يخرجُ اللؤلؤ والمرجان، يتّخذ الناس منهما حِليةً يلبسونها.
قراءات
قرأ الجمهور : يخرُج بفتح الياء وضم الراء. وقرأ نافع وأبو عمرو ويعقوب : يُخرَج بضم الياء وفتح الراء على البناء للمجهول.
المنشآت : المصنوعات.
كالأعلام : كالجبال، والعلَم هو الجبل العالي.
وفيهما تجري السفن الكبار المصنوعات بأيديكم كالجبال الشاهقة، حاملةً ما ينفع الناس ويقضي مصالحهم.
قراءات :
قرأ الجمهور : المنشَئات بفتح الشين. وقرأ حمزة وأبو بكر : المنشِئات بكسر الشين.
﴿ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ويبقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجلال والإكرام ﴾
فجميعُ أهل الأرض يذهبون ويموتون، وكذلك أهلُ السموات.
﴿ يَسْأَلُهُ مَن فِي السماوات والأرض كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ﴾.
فهو يحيي ويميت، ويعزّ ويذلّ، ويعطي ويمنع، ويغفر ويعاقب. قال عبد الله بن حنيف : تلا علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية فقلنا : يا رسول الله، وما ذلك الشأن ؟ قال : أن يغفر ذنبا، ويفرّج كربا، ويرفع قوما ويضع آخرين.
سنحاسِبُكم أيها الإنسُ والجنّ يومَ القيامة، وهذا وعيدٌ شديد من الله لعباده، فإن الله تعالى لا يَشغَله شيء.
قراءات :
قرأ حمزة والكسائي : سيفرغ لكم بالياء. والباقون : سنفرُغ لكم بالنون.
أقطار السموات والأرض : جوانبهما.
بسلطان : بقوة وقهر.
ثم بين الله أنه لا مهربَ في ذلك اليوم من الحساب والجزاء، كل واحد يحاسَب على عمله فقال :
﴿ يا معشر الجن والإنس إِنِ استطعتم أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السماوات والأرض فانفذوا ﴾
إن استطعتم أن تخرجوا من جوانب السموات والأرض هارِبين فافعلوا... والحقيقةُ أنكم لا تستطيعون ذلك، إلا أن تَفِرّوا إلى اللهِ بالتوبة الخالصة. ﴿ لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ ﴾ وأعظمُ سلطان يتحصّن به الإنسانُ هو التوبة، فإنها أكبر حصنٍ يقي التائب المخلص من عذاب الله.
النحاس : الدخان لا لهب فيه. وهذا من بعض معانيه.
ثم بين بعض أهوال الساعة بقوله تعالى :
﴿ يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ ﴾
يُصَبّ عليكما لهبٌ من نارٍ ونحاسٌ مذاب، فلا تقدران على دفع هذا العذاب، بل يُساق المجرمون إلى الحشْر سَوقاً نعوذ بالله منه.
قراءات :
قرأ ابن كثير : شواظ بكسر الشين، والباقون : شواظ بضم الشين.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب : ونحاس بالجر، والباقون : ونحاس بالرفع.
ثم بين الله تعالى أنه إذا جاء ذلك اليوم الشديد اختلّ نظام العالم، فتتصدّع السموات ويصير لونها أحمر كالدِهان، وتصير مذابةً غير متماسكة.
النواصي : واحدها ناصية وهي مقدم الرأس، والأقدام معروفة، يعني يُجرّون من نواصيهم وأقدامهم.
ويكون للمجرمين حينئذٍ علاماتٌ يمتازون بها عن سواهم كما قال تعالى :
﴿ يُعْرَفُ المجرمون بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بالنواصي والأقدام ﴾
فيُجَرّون إلى جهنم من مقدَّم رؤوسهم وأَرجلِهم.
آن : متناهٍ في الحرارة.
فهم يترددون بين نارِها وبين ماءٍ متناهٍ في الحرارة. فإذا استغاثوا من النار يُغاثوا بالماءِ الحار الذي يشوي الوجوهَ كما قال تعالى في سورة الكهف :﴿ وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كالمهل يَشْوِي الوجوه بِئْسَ الشراب وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً ﴾ [ الكهف : ٢٩ ].
ولمن خافَ مقام ربه، وأطاعه وأخلص في إيمانه وعبادته جنتان. ومعنى هذا أن في الجنة مقاماتٍ ومنازلَ للمؤمنين حسب ما قدّموه من أعمال صالحة، لأنه سيأتي أيضا قوله تعالى :﴿ وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ ﴾ فهناك أيضا جنّتان أُخريان.
أفنان : جمع فَنَن وهو الغصن.
وهاتان الجنتان ذواتا أفنان، أي أن فيهما أغصاناً نضرة حسنةً من جميع الشجر وألوان الثمار المتنوعة.
وجنَى الجنتين : ثمرُ الجنتين.
دانٍ : قريب في متناول اليد.
هذا ويجلس أهل الجنتين متكئين على أنواع من فُرش الحرير،
وفي متناول أيديهم ثمارُ الجنتين يقطفون منها متى شاؤوا ما يلذّ لهم وما يطيب.
لم يطمثهن : لم يمسَسْهن أحد..
وعندهم ما يشاؤون من الحُور العفيفات اللاتي لا ينظُرن إلى أحدٍ سوى أزواجهن. عذارى لم يمسَسهنّ أحد قبل أزواجهن.
كأنهن في الحسن والجمال الياقوتُ والمرجان.
وهما ﴿ مُدْهَآمَّتَانِ ﴾ خضراوان لونهما يميلُ إلى السواد من شدّة الخضرة.
وفي هاتين الجنتين عينان من الماء العذب تفوران بالماء لا تنقطعان.
كذلك في الرمان نسبة مرتفعة من حمض الليمونيك الذي يساعد عند احتراقه على تقليل أثر الحموضة في البول والدم، مما يكون سببا في تجنب النِّقرِس وتكوين بعض حصى الكلى، مع احتوائه على نسبة لا بأس بها من السكّريات السهلة الاحتراق، والمولِّدة للطاقة. وهناك فوائد هامة في قشر ثمر الرمان، وقشور سُوقِ أشجاره.
وفي هاتين الجنتين زوجات طيّبات الأخلاق وفيّات جميلات.
مقصورات في الخيام : مخدَّرات، ملازمات بيوتهن.
من الحور العين الملازمات لمجالسهن في الخيام.
قراءات :
قرأ الكسائي : لم يظمُثْهن : بضم الميم، والباقون : لم يطْمِثهن بكسر الميم. وقرأ
عبقري حسان : معناه النادر الموشى من البسُط والفرش، والعرب تُسنِد كلَّ عملٍ عجيب إلى عبقر.
وهؤلاء المؤمنون مع أزواجهم في غاية السعادة والسرور، متكئين على فُرشٍ عليها وسائد وأغطية خُضْر وطنافس حسان عجيبة الصنع من صنع وادي عبقر. والعربُ تنسب كل شيء عجيب إلى وادي الجن، ويكنّون عنه بِعَبْقَرَ.
قراءات : قرأ ابن عامر :﴿ تَبَارَكَ اسم رَبِّكَ ذِي الجلال والإكرام ﴾ برفع ذو، والباقون : ذي الجلال بالجر..