أحدهما : أنها مكية، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وعطاء، ومقاتل، والجمهور، إلا أن ابن عباس قال : سوى آية، وهي قوله :﴿ يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ ﴾ [ الرحمن : ٢٩ ].
والثاني : أنها مدنية، رواه عطية عن ابن عباس. وبه قال ابن مسعود.
ﰡ
وفي نزولها قولان: أحدهما: أنها مكّيّة، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال الحسن وعطاء ومقاتل والجمهور، إلّا أنّ ابن عباس قال: سوى آية، وهي قوله: يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ «١». والثاني: أنها مدنيّة، رواه عطية عن ابن عباس. وبه قال ابن مسعود.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الرحمن (٥٥) : الآيات ١ الى ١٣]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الرَّحْمنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (٢) خَلَقَ الْإِنْسانَ (٣) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (٤)الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (٥) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (٦) وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (٧) أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (٨) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (٩)
وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (١٠) فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (١١) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (١٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٣)
قوله عزّ وجلّ: الرَّحْمنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ. قال مقاتل:
(١٣٨١) لمّا نزل قوله: اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ «٢»، قال كُفّار مكَّةَ: وما الرَّحْمنُ؟! فأَنكروه وقالوا: لا نَعرِفُ الرحْمنَ، فقال تعالى: «الرَّحْمنُ» الذي أَنكروه هو الذي «علَّم القُرآنَ».
وفي قوله: عَلَّمَ الْقُرْآنَ قولان «٣» : أحدهما: علّمه محمّدا، وعلّمه محمدٌ أُمَّته، قاله ابن السائب. والثاني: يسَّر القرآن، قاله الزّجّاج.
قوله عزّ وجلّ: خَلَقَ الْإِنْسانَ فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه اسم جنس، فالمعنى: خلق الإنسان جميعاً، قاله الأكثرون. فعلى هذا، في «البيان» ستة أقوال: أحدها: النُّطق والتَّمييز، قاله الحسن. والثاني: الحلال والحرام، قاله قتادة. والثالث: ما يقول وما يُقال له، قاله محمد بن كعب. والرابع: الخير والشر، قاله الضحاك. والخامس: طرق
__________
(١) الرحمن: ٢٩.
(٢) الفرقان: ٦٠.
(٣) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» ١١/ ٥٧٢: يقول تعالى ذكره: الرحمن أيها الناس برحمته إياكم علمكم القرآن، فأنعم بذلك عليكم إذ بصّركم به ما فيه رضا ربكم، وعرّفكم ما فيه سخطه، لتطيعوه باتباعكم ما يرضيه عنكم، وعملكم بما أمركم به، وبتجنبكم ما يسخطه عليكم، فتستوجبوا بذلك جزيل ثوابه، وتنجوا من أليم عقابه.
والثاني: أنه آدم، قاله ابن عباس، وقتادة. فعلى هذا في «البيان» ثلاثة أقوال: أحدها: أسماء كل شيء. والثاني: بيان كل شيء. والثالث: اللّغات.
والقول الثالث: أنه محمّد صلّى الله عليه وسلم، علّمه بيان كلّ شيء ما كان وما يكون، قاله ابن كيسان.
قوله عزّ وجلّ: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ أي: بحساب ومنازل، لا يعدوانها، قاله ابن عباس وقتادة وأبو مالك وقد كشَفْنا هذا المعنى في الأنعام «١». قال الأخفش: أضمر الخبر، وأظُنُّه- والله أعلَمُ- أراد: يَجريان بحُسبان. قوله تعالى: وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ في النَّجْم قولان: أحدهما: أنه كُلُّ نَبْتٍ ليس له ساق، وهو مذهب ابن عباس، والسدي، ومقاتل، واللُّغويين. والثاني: أنه نَجْم السَّماء، والمُراد به: جميعُ النُّجوم، قاله مجاهد. فأمّا الشّجر: فكلّ ماله ساق. قال الفراء: سُجودهما:
أنَّهما يستقبِلان الشمسَ إذا أشرقت، ثم يَميلان معها حتى ينكسر الفيء. وقد أشرت في النحل «٢» إلى معنى سُجود ما لا يَعْقِل. قال أبو عبيدة: وإنّما ثني فعلهما على لفظهما.
قوله عزّ وجلّ: وَالسَّماءَ رَفَعَها وإنما فعل ذلك ليحيا الحيوان وتمتدّ الأنفاس بينها وبين الأرض، وأجرى الرِّيح بينها وبين الأرض، كيما يتروحَ الخَلق. ولولا ذلك لماتت الخلائق كَرْباً..
قوله عزّ وجلّ: وَوَضَعَ الْمِيزانَ فيه ثلاثة أقوال: أحدهما: أنه العَدْل، قاله الأكثرون، منهم مجاهد والسدي واللغويون. قال الزجّاج: وهذا لأن المعادلة: مُوازَنة الأشياء. والثاني: أنه الميزان المعروف، ليتناصف الناس في الحقوق، قاله الحسن، وقتادة، والضحاك. والثالث: أنه القرآن، قاله الحسن بن الفضل.
قوله عزّ وجلّ: أَلَّا تَطْغَوْا ذكر الزجّاج في «أنْ» وجهين: أحدهما: أنها بمعنى اللام والمعنى: لئلاّ تَطْغَوْا. والثاني: أنها للتفسير، فتكون «لا» للنهي والمعنى أي لا تطغوا، أي لا تجاوزوا العدل. قوله عزّ وجلّ: وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ قال ابن قتيبة، أي: لا تنقصوا الوزن.
فأمّا الأنام، ففيهم ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم الناس، رواه عكرمة عن ابن عباس. والثاني: كل ذي رُوح، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، والشعبي، وقتادة، والسدي، والفراء.
والثالث: الإنس والجن، قاله الحسن، والزّجّاج.
قوله عزّ وجلّ: فِيها فاكِهَةٌ أي: ما يُتفكَّه به من ألوان الثمار وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ والأكمام: الأوعية والغُلُف وقد استوفينا شرح هذا في حم السّجدة «٣».
قوله عزّ وجلّ وَالْحَبُّ يريد: جميع الحبوب، كالبُر والشعير وغير ذلك. وقرأ ابن عامر:
«والحَبَّ» بنصب الباء «ذا العصف» بالألف «والرَّيْحانَ» بنصب النون. وقرأ حمزة، والكسائي إلاّ ابن أبي سُريج، وخلف: «والحَبُّ ذو العَصْفِ والرَّيْحانِ» بخفض النون وقرأ الباقون بضم النون.
وفي «العَصفْ» قولان: أحدهما: أنه تِبن الزَّرع وورقه الذي تعصفه الرِّياح، قاله ابن عباس.
(٢) النحل: ٤٩.
(٣) فصلت: ٤٧.
وفي «الرّيحان» أربعة أقوال: أحدها: أنه الورق، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وسعيد بن جبير، والسدي. قال الفراء: الرّيحان في كلام العرب: الرّزق، يقولون: خرجنا طلب رَيْحان الله، وأنشد الزجاج للَّنمِر بن تَوْلب:
سلامُ الإلهِ ورَيْحانُه | ورَحْمَتُه وسَماءٌ دِرَرْ |
قوله عز وجل: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فإن قيل: كيف خاطب اثنين، وإنما ذكر الإنسان وحده؟ فعنه جوابان ذكرهما الفراء: أحدهما: أن العرب تخاطب الواحد بفعل الاثنين كما بيَّنّا في قوله:
أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ «١». والثاني: أن الذِّكر أريد به: الإنسان والجانّ، فجرى مجرى الخطاب لهما من أول السورة إلى آخرها. قال الزجاج: لمّا ذكر اللهُ تعالى في هذه السورة ما يدُلُّ على وحدانيته من خَلْق الإنسان وتعليم البيان وخَلْق الشمس والقمر والسماء والأرض، خاطب الجنّ والإنس، فقال: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أي: فبأيِّ نِعَم ربِّكما تُكذِّبان من هذه الأشياء المذكورة، لأنها كلَّها مُنْعَم بها عليكم في دلالتها إيّاكم على وحدانيَّته وفي رزقه إيّاكم ما به قِوامكم. وقال ابن قتيبة: الآلاء: النِّعم، واحدها: ألا، مثل: قفا، وإلا، مثل: معى.
[سورة الرحمن (٥٥) : الآيات ١٤ الى ٢٥]
خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (١٤) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (١٥) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٦) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (١٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٨)
مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (١٩) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (٢٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢١) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (٢٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٣)
وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٢٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٥)
قوله عزّ وجلّ: خَلَقَ الْإِنْسانَ يعني آدم مِنْ صَلْصالٍ قد ذكرنا في الحجر «٢» الصَلْصال والجانَّ. فأمّا قوله: كَالْفَخَّارِ فقال أبو عبيدة: خُلق من طينٍ يابس لم يُطْبَخ، فله صوتٌ إذا نُقِر، فهو من يابسه كالفخّار. والفخّار: ما طبخ بالنّار. وأمّا المارِج، فقال ابن عباس: هو لسان النار الذي يكون في طرفها إِذا التهبت. وقال مجاهد: هو المختلِط بعضُه ببعض من اللهب الأحمر والأصفر والأخضر الذي يعلو النار إذا أُوقِدَتْ. وقال مقاتل: هو لهب النار الصافي من غير دخان. وقال أبو عبيدة: المارج: خَلْط من النار. وقال ابن قتيبة: المارج: لهب النار، من قولك: قد مَرِجَ الشيءُ: إذا اضطرب ولم يستقرّ. وقال الزجاج: هو اللهب المختلط بسواد النّار. وإن قيل قد أخبر الله تعالى عن
(٢) الحجر: ٢٦- ٢٧.
كَمْ نِعْمَةٍ كانَتْ له وَكمْ وَكمْ
وقال الآخر:
هلا سألت جموع كندة... يَوْمَ وَلَّوْا أَيْنَ أَيْنا «٤»
وربَّما جاءت الصِّفة فأرادوا توكيدها، واستوحشوا من إعادتها ثانيةً لأنها كلمة واحدةٌ، فغيَّروا منها حرفاً ثم أتبعوها الأولى، كقولهم، عَطْشَانُ نَطْشَان، وشَيطان لَيْطان، وحَسَنٌ بَسَنٌ. قال ابن دريد: ومن الإتباع: جائع نائع، ومليح قريح، وقبيح شَقِيح، وشَحيح نَحيح، وخبيث نبيث، وكثير نثير، وسيِّغ لَيِّغ، وسائغ لائغ، وحَقير نَقير، وضَئيل بئيل، وخضر مضر، وعقريب نقريب، وثِقَةٌ نِقَةٌ، وكِنٌّ إنٌّ، وواحدٌ فاحدٌ، وحائرٌ بائر، وسمج لمج. قال ابن قتيبة: فلمّا عَدَّد اللهُ تعالى في هذه السورة نعماءَه، وأذكَرَ عِبَادَه آلاءَه، ونبَّههم على قُدرته، جعل كل كلمة من ذلك فاصلة بين كل نِعمتين، ليُفَهِّمهم النِّعم ويُقَرِّرهم بها، كقولك للرجل: أَلم أُبَوِّئْكَ مَنْزِلاً وكنتَ طريداً؟ أفتُنْكِرُ هذا؟ ألم أحُجَّ بك وأنت صَرُورَةٌ؟
أفَتُنْكِرُ هذا؟.
(١٣٨٢) وروى الحاكم أبو عبد الله في «صحيحه» من حديث جابر بن عبد الله قال: قرأ علينا
يعني لما يروون عنه من المناكير. وسمعت محمد بن إسماعيل البخاري يقول: أهل الشام يروون عن زهير بن محمد مناكير، وأهل العراق يروون عنه أحاديث مقاربة اه. وله شاهد من حديث ابن عمر: أخرجه البزار
__________
(١) آل عمران: ٥٩.
(٢) الصافات: ١١.
(٣) الحجر: ٢٩. [.....]
(٤) البيت للشاعر عبيد بن الأبرص ديوانه: ص ١٤٢ والشعر والشعراء: ١/ ٢٢٤.
قوله عزّ وجلّ: رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ قرأ أبو رجاء، وابن أبي عبلة: «ربِّ المشْرِقَيْن وربِّ المَغْرِبَيْن» بالخفض، وهما مَشْرِق الصَّيف ومَشْرِق الشتاء ومَغْرِب الصَّيف ومَغْرِب الشتاء للشمس والقمر جميعاً.
قوله تعالى: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ أي: أرسل العذبَ والمِلْحَ وخلاهما وجعلهما يَلْتَقِيانِ، بَيْنَهُما بَرْزَخٌ أي: حاجز من قدرة الله تعالى لا يَبْغِيانِ أي: لا يختلطان. فيبغي أحدهما على الآخر. وقال ابن عباس: بحر السماء وبحر الأرض يلتقيان كلَّ عام. وقال الحسين: «مَرَجَ البحرين» يعني بحر فارس والروم، بينهما برزخ، يعني الجزائر وقد سبق بيان هذا في الفرقان «١». قوله عزّ وجلّ: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ قال الزجاج: إنما يخرُج من البحر المِلْحِ، وإنما جمعهما، لأنه إذا خرج من أحدهما فقد أُخرج منهما، ومثله وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً «٢». وقال أبو علي الفارسي: أراد: يخرُج من أحدهما، فحذف المضاف. وقال ابن جرير: إنما قال «منهما» لأنه يخرج من أصداف البحر عن قطر السماء. فأمّا اللُّؤلؤ والمرجان، ففيهما قولان: أحدهما: أن المرجان: ما صَغُر من اللُّؤلؤ، واللُّؤلؤ:
العظام، قاله الأكثرون، منهم ابن عباس، وقتادة، والضحاك، والفراء. وقال الزجاج: اللُّؤلؤ: اسم جامع للحَبِّ الذي يخرج من البحر، والمرجان: صِغاره. والثاني: أن اللُّؤلؤ: الصِّغار، والمرجان:
الكبار، قاله مجاهد، والسدي، ومقاتل. قال ابن عباس: إذا أمطرت السماء، فتحت الأصدافُ أفواهها، فما وقع فيها من مطر فهو لؤلؤ وقال ابن جريج. حيث وقعت قطرةٌ كانت لؤلؤة. وقرأت على شيخنا أبي منصور اللُّغويّ قال: ذكر بعضُ أهل اللُّغة أن المَرجان أعجميّ معرَّب. قال أبو بكر،
تنبيه: ولم يتنبه الألباني إلى هذا الوارد عن ابن عدي، فجعل حديث ابن عمر شاهدا لحديث جابر فحكم بحسنه في «الصحيحة» ٢١٥٠ والصواب أنه غير شاهد وإنما سرقه عمرو بن مالك وغيره وركبوا له هذا الإسناد عن ابن عمر ولو كان كذلك لرواه الأئمة الثقات، ولكن كل ذلك لم يكن، والمتن منكر فمتى كان الجن أحسن فهما من الصحابة؟!! كما هو مدلول هذا الخبر.
__________
(١) الفرقان: ٥٣.
(٢) نوح: ١٦.
الخرز الأحمر. وقال الزجاج: المَرجان أبيض شديد البياض. وحكى القاضي أبو يعلى أن المرجان:
ضرب من اللُّؤلؤ كالقضبان.
قوله عزّ وجلّ: وَلَهُ الْجَوارِ يعني السفن الْمُنْشَآتُ قال مجاهد: هو ما قد رُفع قِلْعه من السفن دون ما لم يرفع قلعه، القلع مكسور القاف. وقال ابن قتيبة: هنّ اللواتي أنشئن، أي: ابتدئ بهنَّ فِي الْبَحْرِ، وقرأ حمزة: «المُنْشِئاتُ»، فجعلهن اللواتي ابتدأن، يقال: أنشأت السحابةُ تُمطر: إذا ابتدأتْ، وأنشأ الشاعُر يقول. والأعلام: الجبال، وقد سبق هذا «١».
[سورة الرحمن (٥٥) : الآيات ٢٦ الى ٣٠]
كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (٢٦) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (٢٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٨) يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (٢٩) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٠)
قوله عزّ وجلّ: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ أي: على الأرض، وهي كناية عن غير مذكور، «فانٍ» أي هالكٌ. وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ أي: ويبقى ربُّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ قال أبو سليمان الخطابي: الجلال:
مصدر الجليل، يقال: جليل بَيِّن الجلالة والجلال. والإكرام: مصدر أكرمَ يُكْرِم إكراما والمعنى أنه يكرم أهل ولايته وأنّ الله مستحقّ أن يجلّ ويكرم، ولا يجحدونه ولا يكفروا به وقد يحتمل أن يكون المعنى: أنه يُكرم أهلَ ولايته ويرفع درجاتهم وقد يحتمل أن يكون أحد الأمرين- وهو الجلال- مضافاً إلى الله تعالى بمعنى الصفة له، والآخر مضافاً إلى العبد بمعنى الفعل منه، كقوله تعالى: هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ فانصرف أحد الأمرين إلى الله تعالى وهو المغفرة، والآخر إلى العباد وهو التقوى.
قوله تعالى: يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ المعنى أن الكل يحتاجون إليه فيسألونه وهو غنيٌّ عنهم كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ مثل أن يُحيي ويُميت، ويُعِزّ ويُذِلّ، ويشفي مريضاً، ويُعطي سائلاً، إلى غير ذلك من أفعاله. وقال الحسين بن الفضيل: هو سَوق المقادير إِلى المواقيت.
(١٣٨٣) قال مقاتل: وسبب نزول هذه الآية أن اليهود قالت: إن الله لا يقضي في يوم السبت شيئاً، فنزلت: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ.
(١٣٨٤) عن عبد الله بن منيب «٢» عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال لمّا سئل عن ذاك الشأن: «يغفر ذنبا
أخرجه الطبري ٣٣١٢ والبزار ٢٢٦٦ «كشف» وأبو الشيخ ١٥١٠ من حديث عبد الله بن منيب، وإسناده ضعيف، فيه عمرو بن بكر السكسكي وهو ضعيف متروك. وله شاهد أخرجه ابن ماجة ٢٠٢ وابن أبي عاصم في «السنة» ٣٠١ وابن حبان ٦٨٩ والبزار ٢٢٦٧ «كشف» وأبو الشيخ ١٥٠ والديلمي ٤٧٧٥ والبيهقي في «الصفات» ص ٩٨ وأبو نعيم ٥/ ٢٥٢ من حديث أبي الدرداء. ومداره على الوزير ابن صبيح، وهو لين الحديث ومن وجه آخر أخرجه ابن الجوزي في «العلل» ٢٤ وفيه الوليد بن مسلم وهو مدلس. وقد عنعن.
وصوب الدارقطني الوقف فيما نقل عنه ابن الجوزي. وكذا جعله البخاري من كلام أبي الدرداء. انظر «الفتح» ٨/ ٤٩٠، ومع ذلك صححه الألباني في «تخريج» السنة ٣٠١/ ١٣٠ فالله أعلم.
__________
(١) الشورى: ٣٢.
(٢) تصحف في الأصل «حبيب».
[سورة الرحمن (٥٥) : الآيات ٣١ الى ٣٦]
سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (٣١) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٢) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ (٣٣) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٤) يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (٣٥)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٦)
قوله عزّ وجلّ: سَنَفْرُغُ لَكُمْ قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر: «سنَفْرُغُ» بنون مفتوحة. وقرأ ابن مسعود، وعكرمة، والأعمش، وحمزة، والكسائي، وعبد الوارث: «سيَفْرُغُ» بياءٍ مفتوحة. وقرأ ابن السّميفع، وابن يعمر، وأبو عبيدة، وعاصم الجحدري والحلبيّ عن عبد الوارث:
«سيُفْرَغُ» بضم الياء وفتح الراء. قال الفراء: هذا وعيد من الله تعالى، لأنه لا يشغَله شيء عن شيء، تقول للرجل الذي لا شغل له: قد فرغتَ لي، قد فرغت تشتمني؟! أي: قد أخذت في هذا وأقبلت عليه؟ وقال الزجاج: الفراغ في اللغة على ضربين. أحدهما: الفراغ من شغل. والآخر: القصد للشيء، تقول: قد فرغتُ مما كنتُ فيه، أي: قد زال شغلي به، وتقول: سأتفرَّغ لفلان، أي: سأجعله قصدي، ومعنى الآية: سنَقْصُد لحسابكم. فأمّا «الثَّقَلان» فهما الجن والإنس، سُمِّيا بذلك لأنهما ثقل الأرض.
قوله عزّ وجلّ: أَنْ تَنْفُذُوا أي: تخرُجوا يقال: نفذ الشيء من الشيء: إذا خَلَص منه، كالسهم ينفُذ من الرَّمِيَّة والأقطار: النواحي والجوانب وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال: أحدها: إِن استطعتم أن تعلَموا ما في السموات والأرض فاعلَموا، قاله ابن عباس. والثاني: إن استطعتم أن تهرُبوا من الموت بالخروج من أقطار السموات والأرض فاهرُبوا واخرُجوا منها والمراد: أنكم حيثما كنتم أدرككم الموت، هذا قول الضحاك ومقاتل في آخرين. والثالث: إن استطعتم أن تَجُوزوا أطراف السموات والأرض فتُعجِزوا ربَّكم حتى لا يقدر عليكم فجوزوا وإنما يقال لهم هذا يوم القيامة، ذكره ابن جرير. قوله عزّ وجلّ: لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: لا تنفذون إِلا في سلطان الله عزّ وجلّ، لأنه مالك كل شيء، قاله ابن عباس. والثاني: لا تنفذون إِلاّ بحُجَّة، قاله مجاهد.
والثالث: لا تنفُذون إِلا بمُلك، وليس لكم ملك، قاله قتادة.
قوله عزّ وجلّ: يُرْسَلُ عَلَيْكُما فثنَّى على اللفظ. وقد جمع في قوله: إِنِ اسْتَطَعْتُمْ على المعنى. فأمّا «الشُّواظ» ففيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لهب النار، قاله ابن عباس. وقال مجاهد: هو اللهب الأخضر المنقطع من النار. والثاني: الدُّخان، قاله سعيد بن جبير. والثالث: النار المحضة، قاله الفراء. وقال أبو عبيدة: هي النار التي تأجّج لا دخان فيها، ويقال: شواط وشِواظ. وقرأ ابن كثير بكسر الشين وقرأ أيضاً هو وأهل البصرة: «ونُحاسٍ» بالخفض، والباقون برفعها. وفي «النُّحاس» قولان:
أحدهما: أنه دخان النار، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير والفراء وأبو عبيدة وابن قتيبة والزجاج، ومنه قول الجعديّ يذكر امرأة:
تضيء كضوء سراج السّليط | لَمْ يَجْعَلِ اللهُ فيه نُحاسا |
والثاني: أنه دهن السّمسم. والثالث: أنه الزّيت. والقول الثاني: أنه الصُّفْر المُذاب يُصَبُّ على
[سورة الرحمن (٥٥) : الآيات ٣٧ الى ٤٥]
فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (٣٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٨) فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (٣٩) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٠) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ (٤١)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٢) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (٤٣) يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (٤٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٥)
قوله تعالى: فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ أي: انفرجتْ من المجرَّة لنُزول مَنْ فيها يومَ القيامة فَكانَتْ وَرْدَةً وفيها قولان: أحدهما: كلَوْن الفرس الوردة، قاله أبو صالح، والضحاك. وقال الفراء: الفرس الوردة، تكون في الربيع وردة إِلى الصُّفرة، فإذا اشتد الحر كانت وردة حمراء، فإذا كان بعد ذلك كانت وردة إلى الغبرة، فشبّه تلوّن السماء بتلوّن الوردة من الخيل وكذلك قال الزّجّاج: «فكانت وردة» كلون فرس وردة، والكُميت: الورد يتلوَّن، فيكون لونه في الشتاء خلاف لونه في الصيف، ولونه في الصيف خلاف لونه في الشتاء، والسماء تتلوَّن من الفزع الأكبر. وقال ابن قتيبة: المعنى: فكانت حمراء في لون الفرس الورد. والثاني: أنها وردة النبات وقد تختلف ألوانها، إلا أن الأغلب عليها الحمرة، ذكره الماوردي. وفي الدِّهان قولان: أحدهما: أنه واحد، وهو الأديم الأحمر، قاله ابن عباس. والثاني: أنه جمع دُهن، والدُّهن تختلف ألوانه بخُضرة وحُمرة وصُفرة، حكاه اليزيدي، وإلى نحوه ذهب مجاهد، وقال الفراء: شبّه تلوُّن السماء بتلوُّن الوردة من الخيل، وشبّه الوردة في اختلاف ألوانها بالدّهن.
قوله تعالى: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: لا يسألون ليُعلم حالهم، لأن الله تعالى أعلم منهم بذلك. والثاني: لا يسأل بعضهم بعضاً عن حاله لاشتغال كل واحد منهم بنفسه، روي القولان عن ابن عباس. والثالث: لا يُسألون عن ذنوبهم لأنهم يُعرفون بسيماهم، فالكافر أسود الوجه، والمؤمن أغر الوجه محجَّل من أثر وضوئه، قاله الفراء. قال الزجاج: لا يُسأل أحد عن ذنْبه ليُستفهم، ولكنه يسأل سؤال توبيخ وتقريع.
قوله عزّ وجلّ: يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ قال الحسن: بسواد الوجوه، وزَرَق الأعيُن فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ فيه قولان: أحدهما: أن خزنة جهنم تجمع بين نواصيهم إلى أقدامهم من وراء ظُهورهم ثم يدفعونهم على وجوههم في النار، قاله مقاتل. والثاني: يؤخذ بالنَّواصي والأقدام فيُسحبون إلى النار، ذكره الثعلبي. وروى مردويه الصائغ، قال: صلّى بنا الإمام صلاة الصبح فقرأ سورة «الرحمن» ومعنا علي بن الفضيل بن عياض، فلمّا قرأ «يُعْرَفُ المُجْرِمون بسِيماهم» خَرَّ عليٌّ مغشيّاً عليه حتى فرغنا من الصلاة، فلمْا كان بعد ذلك قلنا له: أما سمعتَ الإمام يقرأ «حور مقصورات في الخيام» ؟ قال:
قوله عزّ وجلّ: هذِهِ جَهَنَّمُ أي يقال لهم: هذه جهنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يعني المشركين يَطُوفُونَ بَيْنَها وقرأ أبو العالية وأبو عمران الجوني: «يُطَوِّفون» بياءٍ مضمومة مع تشديد الواو، وقرأ الأعمش مثله إلّا أنه بالتاء. قوله عزّ وجلّ وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ قال ابن قتيبة: الحميم: الماء الحارّ، والآني: الذي قد انتهت شِدَّة حَرِّه. قال المفسرون: المعنى أنهم يسعَون بين عذاب الحميم وبين عذاب الجحيم، إذا استغاثوا من النار جعل غياثهم الحميم الشديد الحرارة.
[سورة الرحمن (٥٥) : الآيات ٤٦ الى ٥٣]
وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (٤٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٧) ذَواتا أَفْنانٍ (٤٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٩) فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ (٥٠)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥١) فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ (٥٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٣)
قوله عزّ وجلّ: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ فيه قولان: أحدهما: قيامه بين يدي الله عزّ وجلّ يوم الجزاء. والثاني: قيام الله على عبده بإحصاء ما اكتسبه. وجاء في التفسير، أن العبد يهُمُّ بمعصية فيتركها خوفا من الله عزّ وجلّ فله جنَّتان، وهما بستانان ذَواتا أَفْنانٍ فيه قولان: أحدهما: أنها الأغصان، وهي جمع فَنَن، وهو الغُصن المستقيم طولاً، وهذا قول مجاهد، وعكرمة، وعطية، والفراء، والزجاج.
والثاني: أنها الألوان والضّروب من كلّ شيء، وهي جمع فنّ، وهذا قول سعيد بن جبير. وقال الضحاك: ذواتا ألوان من الفاكهة. وجمع عطاء بين القولين، فقال: في كل غصن فُنون من الفاكهة.
قوله تعالى: فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ قال ابن عباس: تجريان بالماء الزلال، إحداهما: السلسبيل، والأخرى: التسنيم. وقال عطية: إحداهما: من ماءٍ غير آسن، والأخرى: من خمر. وقال أبو بكر الورّاق: فيهما عينان تجريان لِمَن كانت له في الدنيا عينان تَجْرِيان من البكاء.
قوله عزّ وجلّ: فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ أي: صنفان ونوعان. قال المفسرون: فيهما من كل ما يُتفكَّه به نوعان، رطب ويابس، لا يقصر أحدهما عن الآخر في فضله.
[سورة الرحمن (٥٥) : الآيات ٥٤ الى ٦١]
مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (٥٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٥) فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (٥٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٧) كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (٥٨)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٩) هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ (٦٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦١)
مُتَّكِئِينَ هذا حال المذكورين عَلى فُرُشٍ جمع فِراش بَطائِنُها جمع بِطانة، وهي التي تحت الظِّهارة. وقال أبو هريرة: هذه البطائن، فما ظنُّكم بالظهائر؟! وقال ابن عباس: إنما ترك وصف الظواهر، لأنه ليس أحدٌ يعلم ما هي. وقال قتادة: البطائن: هي الظواهر بلُغة قوم. وكان الفراء يقول:
قد تكون البطانة ظاهرة، والظّهارة باطنة، لأن كل واحد منهما قد يكون وجهاً، والعرب تقول: هذا ظَهْرُ السماءِ، وهذا بَطْنُ السماء، لظاهرها، وهو الذي تراه، وقال ابن الزبير يَعيب قَتَلة عثمان: خرجوا عليه كاللصوص من وراء القرية، فقتلهم الله كلّ قتلة، ونجا من نجا منهم تحت بطون الكواكب. يعني هربوا ليلاً فجعلوا ظهور الكواكب بطوناً، وذلك جائز في العربيَّة. وأنكر هذا القول ابن قتيبة جداً، وقال:
هذا ظَهْرُ الحائط، ويقول جارك لِما وَلِيَه: هذا ظَهْرُ الحائط، وكذلك السماء ما ولينا منها: ظَهْر، وهي لِمَن فَوْقَها: بَطْن. وقد ذكرنا الإستبرق في سورة الكهف «١».
قوله عزّ وجلّ: وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ قال أبو عبيدة: أي: ما يُجتنى قريبٌ لا يُعَنِّي الجانِيَ.
قوله عزّ وجلّ فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ قد شرحناه في الصافات «٢». وفي قوله: «فِيهِنَّ» قولان:
أحدهما: أنها تعود إلى الجَنَّتَين وغيرهما مما أُعدَّ لصاحب هذه القِصَّة، قاله الزجاج. والثاني: أنها تعود إلى الفُرُش، ذكره علي بن أحمد النيسابوري.
قوله عزّ وجلّ: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ قرأ الكسائي بضم الميم، والباقون بكسرها، وهما لغتان: يَطْمِثُ ويَطْمُثُ، مثل يَعْكِفُ ويعكف. وفي معناه قولان: أحدهما: لم يفتضّهنّ والطَّمْثُ: النِّكاح بالتَّدمية، ومنه قيل للحائض: طامِثٌ، قاله الفراء. والثاني: لَمْ يَمْسَسْهُنَّ يقال: ما طَمَثَ هذا البعيرَ حَبْلٌ قَطٌ، أي: ما مسَّه، قاله أبو عبيدة. قال مقاتل: وذلك لأنهنَّ خُلِقْنَ من الجَنَّة فعلى قوله، هذا صفة الحُور.
وقال الشعبي: هُنَّ من نساء الدنيا لَمْ يَمْسَسْهُنَّ مذ أُنشئن خَلْقٌ. وفي الآية دليل على أن الجِنِّيَّ يَغْشَى المرأة كالإنسيّ.
قوله عزّ وجلّ: كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ قال قتادة: هُنَّ في صفاء الياقوت وبياض المَرْجان.
وذكر الزجاج أن أهل التفسير وأهل اللغة قالوا: هُنَّ في صفاء الياقوت وبياض المَرْجان، والمَرْجان:
صِغار اللؤلؤ، وهو أشدُّ بياضاً. وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي قال: «الياقوت» فارسيٌّ معرَّب، والجمع «اليواقيت»، وقد تكلَّمت به العربُ، قال مالكُ بن نُوَيْرَةَ اليَرْبُوعيّ:
لَنْ يُذْهِبَ اللُّؤْمَ تاجٌ قَدْ حُبِيتَ بِهِ | مِنَ الزَّبَرْجَدِ والياقوتِ والذَّهَبِ |
(١٣٨٥) قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلم هذه الآية، وقال: «هل تدرون ما قال ربُّكم» ؟ قالوا: اللهُ ورسُوله أعلمُ، قال: «فإن ربَّكم يقول: هل جزاءُ مَنْ أنْعَمْنا عليه بالتوحيد إلّا الجنّة» ؟!
__________
(١) الكهف: ٣١.
(٢) الصافات: ٤٨.
[سورة الرحمن (٥٥) : الآيات ٦٢ الى ٧٨]
وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (٦٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٣) مُدْهامَّتانِ (٦٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٥) فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (٦٦)فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٧) فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (٦٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٩) فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (٧٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧١)
حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (٧٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٣) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (٧٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٥) مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (٧٦)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٧) تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (٧٨)
قوله تعالى: وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ قال الزجاج: المعنى: ولِمَن خاف مقام ربِّه جنَّتان، وله مِن دونهما جنَّتان. وفي قوله: «ومِنْ دونِهما» قولان: أحدهما: دونهما في الدَّرج، قاله ابن عباس.
والثاني: دونهما في الفضل، كما روى أبو موسى عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال:
(١٣٨٦) «جنَّتان من ذهب وجنَّتان من فضة» وإلى نحو هذا ذهب ابن زيد، ومقاتل.
قوله تعالى: مُدْهامَّتانِ قال ابن عباس وابن الزبير: خضراوان من الرِّيّ. وقال أبو عبيدة: من خُضرتهما قد اسودَّتا. قال الزجاج: يعني أنهما خضراوان تضرب خضرتُهما إلى السَّواد، وكل نبت أخضر فتمام خُضرته ورِيِّه أن يضرب إلى السّواد. قوله تعالى: ضَّاخَتانِ
قال أبو عبيدة: فوّارتان.
وقال ابن قتيبة: تفوران، و «النَّضْخ» أكثر من «النَّضْح». وفيما يفوران به أربعة أقوال: أحدهما: بالمسك والكافور، قاله ابن مسعود. والثاني: بالماء، قاله ابن عباس. والثالث: بالخير والبركة، قاله الحسن.
والرابع: بأنواع الفاكهة، قاله سعيد بن جبير.
قوله تعالى: وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ قال ابن عباس: نَخْلُ الجَنَّة: جذوعها زمرُّد أخضر، وكَرَبُها: ذهبٌ أحمر، وسَعَفها: كُسوة أهل الجنة، منها مُقطَّعاتهم وحُللهم. وقال سعيد بن جبير: نخل الجنة:
جذوعها من ذهب، وعروقها من ذهب، وكرانيفها من زمرُّد، ورُطَبها كالدِّلاء أشد بياضاً من اللَّبَن، وألين من الزُّبد، وأحلى من العسل، ليس له عجم. قال أبو عبيد: الكرانيف: أصول السَّعَف الغلاظ، الواحدة: كرْنافَة. وإنما أُعاد ذِكر النَّخْل والرُّمّان- وقد دخلا في الفاكهة- لبيان فضلهما كما ذكرنا في قوله: وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ «١»، هذا قول جمهور المفسرين واللُّغويِّين. وحكى الفراء والزجاج أن قوماً قالوا: ليسا من الفاكهة قال الفراء: وقد ذهبوا مذهباً، ولكن العرب تجعلهما فاكهة.
قال الأزهري: ما علمتُ أحداً من العرب قال في النخيل والكروم وثمارها: إنها ليست من الفاكهة،
__________
(١) البقرة: ٩٨.
أصله «خَيِّراتٌ» بالتشديد، فخُفِّف، كما قيل: هيّن وهين، وليّن ولين.
(١٣٨٧) وروت أمّ سلمة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال «خَيْراتُ الأخلاقِ حِسان الوُجوه».
قوله تعالى: حُورٌ مَقْصُوراتٌ قد بيَّنّا في سورة الدخان «١» معنى الحُور.
وفي المقصورات قولان: أحدهما: المحبوسات في الحِجَال، قاله ابن عباس، وهو مذهب الحسن، وأبي العالية، والقرظي، والضحاك، وأبي صالح. والثاني: المقصورات الطَّرف على أزواجهنّ، فلا يرفعن طَرْفاً إلى غيرهم، قاله الربيع. وعن مجاهد كالقولين. والأول أصح، فإن العرب تقول: امرأة مَقْصُورة وقَصِيرة وقَصُورَة: إذا كانت ملازمة خدرها، قال كُثيِّر:
لَعَمْرِي لقد حبَّبْتِ كلَّ قصيرةٍ | إليَّ، وما تَدْرِي بذاكَ القَصَائِرُ |
عَنَيْتُ قَصيرات الحِجَالِ، ولَمْ أُرِدْ | قِصارَ الخُطى، شَرُّ النِّساءِ البَحاتِرُ |
وفي «الخيام» قولان: أحدهما: أنها البيوت. والثاني: خيام تضاف إلى القصور.
(١٣٨٨) وقد روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أبي موسى عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال:
«إن للمؤمن في الجنة لَخيمةً من لؤلؤةٍ واحدةٍ مجوَّفةٍ، طُولها في السماء سِتُّون مِيلاً، للمؤمن فيها أهلون يطوف عليهم المؤمن، فلا يرى بعضهم بعضاً».
وقال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه وابن مسعود وابن عباس: الخيام: دُرٌّ مُجَوَّف. وقال ابن عباس: الخيمة لؤلؤة واحدة أربعة فراسخ في أربعة فراسخ، لها أربعة آلاف مصراع من ذهب.
قوله تعالى: مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ، وقرأ عثمان بن عفان، وعاصم الجحدري، وابن محيصن:
«على رَفَارفَ» جمع غير مصروف. وقرأ الضحاك، وأبو العالية، وأبو عمران الجوني مثلهم، إلّا أنهم
صحيح. أخرجه البخاري ٤٨٧٩ والبغوي في «شرح السنة» ٤٢٧٥ عن محمد بن المثنى به. وأخرجه مسلم ٢٨٣٨ ح ٢٤ والترمذي ٢٥٢٨ وأحمد ٤/ ٤١١ وابن حبان ٧٣٩٥ من طرق عن عبد العزيز بن عبد الصمد به.
وأخرجه البخاري ٣٢٤٣ ومسلم ٣٨٢٨ وأحمد ٤/ ٤٠٠ و ٤١٩ والدارمي ٢/ ٣٣٦ وأبو الشيخ في «العظمة» ٦٠٦ والواحدي في «الوسيط» ٤/ ٢٢٩ والبيهقي في «البعث» ٣٠٣ من طرق عن أبي عمران الجوني به.
__________
(١) الدخان: ٥٤.
أَحَقّاً عِبادَ اللِه أنْ لستُ ماشياً | بِهِرْجَابَ ما دامَ الأَراكُ به خُضْرا |
قوله تعالى: وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ فيه قولان: أحدهما: أنها الزَّرابيّ، قاله ابن عباس، وعطاء، وقتادة، والضحاك، وابن زيد، وكذلك قال ابن قتيبة: العبقريّ: الطّنافِس الثِّخان. قال أبو عبيدة: يقال لكل شيء من البُسُط: عبقريّ. والثاني: أنه الدِّيباج الغليظ، قاله مجاهد. قال الزجاج: أصل العبقريّ في اللغة أنه صفة لكل ما بُولِغَ في وصفه، وأصلُه أن عبقر: بلد كان يوشى فيه البُسط وغيرها، فنُسب كل شيء جيِّد إليه، قال زهير:
بِخَيْلٍ عليها جِنَّةٌ عَبْقَرِيَّةٌ | جَدِيرونَ يَوْماً أن يَنالوا فيَسْتَعْلُوا |
«مَهالبيّ»، قال: فإن قيل «عبقريّ» واحد، و «حِسَان» جمع، فكيف جاز هذا؟ فالأصل أنّ واحدة هذا «عبقرية» والجمع «عبقري»، كما تقول: ثمرة وثمر، ولَوْزة ولَوْز، ويكون أيضاً «عبقري» اسماً للجنس.
وقرأ الضحاك وأبو العالية وأبو عمران: «وعَباقِرِيٍّ» بألف مع التنوين.
قوله عزّ وجلّ: تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ فيه قولان: أحدهما: أن ذِكْر «الاسم» صِلَة، والمعنى: تبارك ربُّك. والثاني: أنه أصل، قال ابن الأنباري: المعنى: تفاعل من البركة، أي: البركة تكتب وتنال وتكسب بذِكْر اسمه. وقد بيَّنّا معنى «تبارك» في «الأعراف» «٢»، وذكرنا في هذه السورة معنى ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ «٣»، وكان ابن عامر يقرأ: «ذو الجلال» وكذلك هي في مصاحف أهل الشام والباقون: «ذي الجلال» وكذلك هي في مصاحف أهل الحجاز والعراق، وهم متفقون على الموضع الأول أنه «ذو».
(٢) الأعراف: ٥٤.
(٣) الرحمن: ٢٧.