تفسير سورة الحاقة

النهر الماد من البحر المحيط
تفسير سورة سورة الحاقة من كتاب النهر الماد من البحر المحيط .
لمؤلفه أبو حيان الأندلسي . المتوفي سنة 745 هـ

﴿ بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ * ٱلْحَاقَّةُ * مَا ٱلْحَآقَّةُ ﴾ الآية هذه السورة مكية ومناسبتها لما قبلها أنه لما ذكر أشياء من أحوال السعداء والأشقياء وقال ذرني ومن يكذب بهذا الحديث ذكر حديث القيامة وما أعد الله فيها لأهل السعادة والشقاوة وأدرج بينهما شيئاً من أحوال الذين كفروا وكذبوا الرسل كعاد وثمود وفرعون ليزدجر بذكرهم وما جرى عليهم الكفار الذين عاصروا الرسول عليه السلام وكانت العرب عالمة بهلاك عاد وثمود وفرعون فنص عليهم لذلك والحاقة المراد بها القيامة والبعث قاله ابن عباس والحاقة اسم فاعل من حق الشىء إذا ثبت ولم يشك في صحته والحاقة مبتدأ وما مبتدأ ثان والحاقة خبر عن الحاقة والرابط تكرار المبتدأ بلفظة نحو زيد وما زيد وما استفهام لا يراد به حقيقته بل التعظيم وأكثر ما يربط بتكرار المبتدأ إذا أريد معنى التعظيم والتهويل.﴿ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا ٱلْحَاقَّةُ ﴾ مبالغة في التهويل والمعنى أن فيها ما لم يدر ولم يحط به وصف من أمورها الشاقة وتفصيل أوصافها وما استفهام أيضاً مبتدأ وإدراك الخبر والعائد على ما ضمير الرفع في إدراك وما مبتدأ والحاقة خبر والجملة في موضع نصب بإِدراك وإدراك معلقة وأصل درى يتعدى بالباء وقد تحذف على قلة فإِذا دخلت همزة النقل تعدى إلى واحد بنفسه وإلى الآخر بحرف الجر فقوله: ﴿ مَا ٱلْحَاقَّةُ ﴾ بعد إدراك في موضع نصب بعد إسقاط حرف الجر والقارعة: من أسماء القيامة لأنها تقرع القلوب بصدمتها والطاغية الصيحة.﴿ عَاتِيَةٍ ﴾ عتت على خزانتها فخرجت بغير مقدار سخرها أي أقامها عليهم وأدامها.﴿ سَبْعَ لَيَالٍ ﴾ بدت عليهم صبح الأربعاء لثمان بقين من شوال إلى آخر الأربعاء تمام الشهر.﴿ حُسُوماً ﴾ قال ابن عباس: تباعاً لم يتخللها انقطاع.﴿ فَتَرَى ٱلْقَوْمَ فِيهَا ﴾ أي في الليالي والأيام.﴿ صَرْعَىٰ ﴾ أي هلكى.﴿ خَاوِيَةٍ ﴾ خلت أعجازها بلى وفساداً وقال ابن شجرة كانت تدخل من أفواههم فتخرج ما في أجوافهم من الحشو من أدبارهم فصاروا كالنخل الخاوية.﴿ وَمَن قَبْلَهُ ﴾ ظرف زمان أي الأمم الكافرة التي كانت قبله كقوم نوح وقد أشار إلى شىء من حديثه بعد هذا.﴿ وَٱلْمُؤْتَفِكَاتُ ﴾ قرىء قوم لوط.﴿ بِالْخَاطِئَةِ ﴾ أي بالفعلة أو الفعلات.﴿ فَعَصَوْاْ رَسُولَ رَبِّهِمْ ﴾ رسول جنس وهو من جاءهم من عند الله تعالى كموسى ولوط عليهما السلام.﴿ رَّابِيَةً ﴾ أي نامية.﴿ إِنَّا لَمَّا طَغَا ٱلْمَآءُ ﴾ أي زاد وعلا على أعلى جبل في الدنيا خمسة عشر ذراعاً. قال ابن جبير: طغى على الخزان كما طغت الريح على خزانها.﴿ حَمَلْنَاكُمْ ﴾ أي في أصلاب آبائكم أو حملنا آبائكم. و ﴿ فِي ٱلْجَارِيَةِ ﴾ هي سفينة نوح عليه السلام.﴿ لِنَجْعَلَهَا ﴾ أي سفينة نوح.﴿ لَكُمْ تَذْكِرَةً ﴾ بما جرى لقومه الهالكين وقومه الناجين فيها وعظة أدركتها أوائل هذه الأمة.﴿ وَتَعِيَهَآ ﴾ أي تحفظ قصتها.﴿ أُذُنٌ ﴾ من شأنها أن تعي المواعظ وتعتبر بها يقال وعيت لما حفظ في النفس وأوعيت لما حفظ في غير النفس من الأوعية ثني الضمير في.﴿ فَدُكَّتَا ﴾ لأن المراد جملة الأرض وجملة الجبال أي ضرب بعضها ببعض حتى تفتت والدك فيه تفرق الأجزاء والدق فيه اختلاط الأجزاء.﴿ فَيَوْمَئِذٍ ﴾ معطوف على فإِذا نفخ في الصور وهو منصوب بوقعت كما أن إذا منصوب بنفخ على ما أخبرتاه والتنوين في إذا للعوض من الجملة المحذوفة تقديره فيومئذٍ نفخ في الصور وجرى كيت وكيت.﴿ وَٱنشَقَّتِ ٱلسَّمَآءُ ﴾ أي انفطرت وتميز بعضها من بعض.﴿ فَهِيَ ﴾ يوم إذ انشقت.﴿ وَاهِيَةٌ ﴾ ضعيفة لتشققها بعد أن كانت شديدة.﴿ وَٱلْمَلَكُ عَلَىٰ أَرْجَآئِهَآ ﴾ أي على حافاتها حين تنشق والضمير في فوتهم عائد على الملك ضمير جمع على المعنى لأنه يراد به الجنس والظاهر أن التمييز المحذوف في قوله ثمانية أملاك أي ثمانية أشخاص من الملائكة.﴿ يَوْمَئِذٍ ﴾ أي يوم إذ كان ما ذكر.﴿ تُعْرَضُونَ ﴾ أي للحساب وتعرضون هو جواب قوله فإِذا نفخ ويومئذٍ تعرضون بدل من فيومئذٍ والخطاب في تعرضون لجميع العالم المحاسبين.﴿ خَافِيَةٌ ﴾ أي سريرة.﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَـٰبَهُ بِيَمِينِهِ ﴾ الآية، هاؤم قال الكسائي وابن السكيت العرب تقول هاء يا رجل وللاثنين رجلين أو امرأتين هاؤماً وللرجال هاؤم وللمرأة هاء بهمزة مكسورة بغير ياء وللنساء هاؤن ومعنى هاؤم خذوا وقد ذكرنا في شرح التسهيل فيها لغات وهاؤم ان كان مدلولها خذ فهي متسلطة على كتابيه بغير واسطة وإن كان مدلولها تعالوا فهي متعدية إليه بواسطة وإلى كتابيه يطلبه هاؤم واقرؤوا فالبصريون يعملوا اقرأوا والكوفيون يعملون هاؤم وفي ذلك دليل على جواز التنازع بين إسم الفعل والفعل.﴿ إِنِّي ظَنَنتُ ﴾ أي أيقنت.﴿ رَّاضِيَةٍ ﴾ أي ذات رضا.﴿ عَالِيَةٍ ﴾ أي مكاناً وقدراً.﴿ قُطُوفُهَا ﴾ أي ما يجنى منها.﴿ دَانِيَةٌ ﴾ قريبة التناول يدركها القائم والقاعد.﴿ كُلُواْ ﴾ أي يقال لهم كلوا وتقدم شرح.﴿ هَنِيئَاً بِمَآ أَسْلَفْتُمْ ﴾ أي قدمتم من العمل الصالح.﴿ فِي ٱلأَيَّامِ ٱلْخَالِيَةِ ﴾ يعني أيام الدنيا.﴿ يٰلَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَٰبِيَهْ ﴾ لما رأى فيه قبائح أفعاله وما يصير أمره إليه تمنى أنه لم يعطه وتمنى أنه لم يدر حسابه فإِنه انجلى عنه حسابه عن ما يسؤوه فيه إذ كان عليه لا له.﴿ يٰلَيْتَهَا ﴾ أي الموتة التي متها في الدنيا.﴿ كَانَتِ ٱلْقَاضِيَةَ ﴾ القاطعة لأمري فلم أبعث ولم أعذب.﴿ مَآ أَغْنَىٰ عَنِّي مَالِيَهْ ﴾ يجوز أن يكون نعتاً محضاً أخبر بذلك متأسفاً على ماله حيث لم ينفعه ويجوز أن يكون استفهاماً ما وبخ نفسه به وقررها عليه.﴿ هَّلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ ﴾ أي حجتي.﴿ خُذُوهُ ﴾ أي يقال للزبانية خذوه.﴿ فَغُلُّوهُ ﴾ أي اجعلوا في عنقه غلاً.﴿ ثُمَّ ٱلْجَحِيمَ صَلُّوهُ ﴾ الجحيم مفعول ثان لصلوه والمفعول الأول الهاء في صلوه وأخر هذا لأجل الفاصلة. و ﴿ فِي سِلْسِلَةٍ ﴾ متعلق بقوله: ﴿ فَاسْلُكُوهُ ﴾ وذرعها صفة للسلسلة.﴿ إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ ﴾ بدأ بأقوى أسباب تعذيبه وهو كفره بالله تعالى وأنه تعليل مستأنف كان قائلاً قال لم يعذب هذا العذاب البليغ فقيل انه كان لا يؤمن وعطف ولا يحض على لا يؤمن وهو داخل في العلة وذلك يدل على عظم ذنب من لا يحض على إطعام المساكين إذ جعل قرين الكفر وهذا حكم ترك الحض فكيف ترك الإِطعام والتقدير على إطعام طعام المساكين وأضاف الطعام إلى المسكين من حيث له نسبة إليه إذ يستحق المسكين حقاً في مال الغني الموسر ولو بأدنى يسار.﴿ حَمِيمٌ ﴾ أي صديق ملاطف.﴿ مِنْ غِسْلِينٍ ﴾ هو صديد أهل النار والخاطئون إسم فاعل من خطىء وهو الذي يفعل ضد الصواب متعمداً لذلك والمخطىء الذي فعله غير متعمد.﴿ فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ ﴾ عام في جميع مخلوقاته.﴿ إِنَّهُ ﴾ أي القرآن.﴿ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ﴾ هو محمد صلى الله عليه وسلم ويؤيده قوله: ﴿ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ ﴾ وما بعده نسب القول إليه لأنه هو مبلغه والعامل به ونفى تعالى أن يكون قول شاعر لمباينته لضروب الشعر.﴿ وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ ﴾ لأنه ورد بسب الشياطين وانتصب.﴿ قَلِيلاً ﴾ على أنه صفة لمصدر محذوف أو لزمان محذوف أي يؤمنون إيماناً قليلاً أو زماناً قليلاً وكذا التقدير في:﴿ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ ﴾ والقلة هو إقرارهم إذا سئلوا من خلقهم قالوا الله وقال ابن عطية: ونصب قليلاً بفعل مضمر يدل عليه تؤمنون وما تحتمل أن تكون نافية فينتفي إيمانهم البتة ويحتمل أن تكون ما مصدرية ويتصف بالقلة أما الإِيمان وأما العود فعلى اتصاف إيمانهم بالقلة فهو الإِيمان اللغوي لأنهم قد صدّقوا بأشياء يسيرة لا تغني عنهم شيئاً إذ كانوا يصدقون أن الخير والصلة والعفاف الذي كان يأمر به الرسول عليه السلام هو حق صواب " انتهى ". أما قوله: ونصب قليلاً بفعل مضمر يدل عليه تؤمنون فلا يصح لأن ذلك الفعل الدال عليه تؤمنون إما أن تكون ما نافية أو مصدرية كما ذهب إليه فإِن كانت نافية فكذلك الفعل المضمر الدال عليه تؤمنون المنفي بما يكون منفياً فيكون التقدير ما تؤمنون قليلاً ما تؤمنون والفعل المنفي بما لا يجوز حذفه ولا حذف ما لا يجوز زيداً ما أضرب زيداً ما أضربه وإن كانت مصدرية كانت اما في موضع رفع الفاعلية بقليلاً أي قليلاً إيمانكم ويبقى قليلاً لا يتقدمه ما يعتمد عليه حتى يعمل ولا ناصب له وإما في موضع رفع على الابتداء فيكون مبتدأ لا خبر له لأن ما قبله منصوب لا مرفوع.﴿ وَلَوْ تَقَوَّلَ ﴾ التقول أن يقول الإِنسان عن الآخر أنه قال شيئاً لم يقله ولأقاويل جمع أقوال وهو جمع الجمع.﴿ بِٱلْيَمِينِ ﴾ قيل الباء زائدة والوتين قال ابن عباس: هو نياط القلب والمعنى لو تقول لأذهبنا حياته معجلاً والضمير في عنه يجوز أن يعود على الذي تقول والخطاب في منكم للناس والظاهر في ﴿ حَاجِزِينَ ﴾ أن يكون خبراً لما على لغة أهل الحجاز لأن حاجزين هو محط الفائدة ويكون منكم لو تأخر لكان صفة لأحد فلما تقدم صار حالاً وجمع على المعنى لأنه في معنى الجماعة.﴿ وَإِنَّهُ ﴾ أي القرآن.﴿ وَإِنَّا لَنَعْلَمُ ﴾ وعيد للمكذبين بالقرآن.﴿ وَإِنَّهُ ﴾ أي القرآن.﴿ لَحَسْرَةٌ ﴾ من حيث كفروا به ويرون من آمن به ينعم وهم يعذبون.﴿ وَإِنَّهُ ﴾ أي وان القرآن.﴿ لَحَقُّ ٱلْيَقِينِ ﴾ فسبح تقدّم الكلام عليه.
Icon