تفسير سورة النساء

معاني القرآن
تفسير سورة سورة النساء من كتاب معاني القرآن .
لمؤلفه الفراء . المتوفي سنة 207 هـ

وقوله تبارك وتعالى :﴿ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ... ﴾
قال ( واحدة ) لأن النفس مؤنثة، فقال : واحدة لتأنيث النفس، وهو [ يعنى ] آدم. ولو كانت ( من نفس واحد ) لكان صوابا، يذهب إلى تذكير الرجل.
وقوله :﴿ وَبَثَّ مِنْهُما ﴾ العرب تقول : بثَّ الله الخلق : أي نشرهم. وقال في موضع آخر :﴿ كالفَراشِ المَبْثوث ﴾ ومن العرب من يقول : أَبثّ الله الخلق. ويقولون : بثثتك ما في نفسي، وأبثثتك.
وقوله :﴿ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحامَ ﴾ فنصب الأرحام ؛ يريد واتقوا الأرحام أن تقطعوها. قال : حدّثنا الفرّاء قال : حدّثني شريك بن عبد الله عن الأعمش عن إبراهيم أنه خفض الأرحام، قال : هو كقولهم : بالله والرحم ؛ وفيه قبح ؛ لأن العرب لا تردّ مخفوضا على مخفوض وقد كُنِى عنه، وقد قال الشاعر في جوازه :
نُعَلّق في مثلِ السَّوارِى سيوفَنا وما بينها والْكَعبِ غَوْط نَفَانِف
وإنما يجوز هذا في الشعر لضيقه.
وقرأ بعضهم " تَسَّاءلون به " يريد : تتساءلون به، فأدْغم التاء عند السين.
وقوله :﴿ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ... ﴾
يقول : لا تأكلوا أموال اليتامى بدل أموالكم، وأموالهم عليكم حرام، وأموالكم حلال.
وقوله :﴿ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً ﴾ الحوب : الإثم العظم. ورأيت بنى أَسَد يقولون الحائب : القاتل، وقد حاب يحوب. وقرأ الحسن ( إنه كان حَوْبا كبيرا )
وقوله :﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ ما طَابَ لَكُمْ... ﴾
واليتامى في هذا الموضع أصحاب الأموال، فيقول القائل : ما عَدَل الكلامَ من أموال اليتامى إلى النكاح ؟ فيقال : إنهم تركوا مخالطة اليتامى تحرّجا، فأنزل الله تبارك وتعالى : فإن كنتم تتحرجون من مؤاكلة اليتامى فاحْرَجوا من جمعكم بين النساء ثم لا تعدلون بينهن، ﴿ فَانكِحُواْ ما طَابَ لَكُمْ ﴾ يعنى الواحدة إلى الأربع. فقال تبارك وتعالى :﴿ ما طَابَ لَكُمْ ﴾ ولم يقل : من طاب. وذلك أنه ذهب إلى الفعل كما قال ﴿ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ﴾ يريد : أو ملك أيمانكم. ولو قيل في هذين ( من ) كان صوابا، ولكن الوجه ما جاء به الكتاب. وأنت تقول في الكلام : خذ من عبيدي ما شئت، إذا أراد مشيئتك، فإن قلت : من شئت، فمعناه : خذ الذي تشاء.
وأما قوله :﴿ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ ﴾ فإنها حروف لا تُجْرَى. وذلك أنهن مصروفات عن جهاتهنّ ؛ ألا ترى أنهنّ للثلاث والثلاثة، وأنهن لا يضفن إلى ما يضاف إليه الثلاثة والثلاث. فكان لامتناعه من الإضافة كأنّ فيه الألف واللام. وامتنع من الألف واللام لأن فيه تأويل الإضافة ؛ كما كان بناء الثلاثة أن تضاف إلى جنسها، فيقال : ثلاث نسوة، وثلاثة رجال. وربما جعلوا مكان ثُلاَث ورُبَاع مَثْلَث ومَرْبَع، فلا يُجْرى أيضا ؛ كما لم يُجْرَ ثُلاث ورُباع لأنه مصروف، فيه من العلّة ما في ثُلاث ورُباع. ومن جعلها نكرة وذهب بها إلى الأسماء أجراها. والعرب تقول : ادخلوا ثُلاثَ ثُلاثَ، وثُلاثا ثلاثا. وقال الشاعر :
[ وإنَّ الغلام المستهام بذكره ] قتَلْنا به مِن بَين مَثْنىً ومَوْحدِ
بأربعةٍ منكم وآخر خامسٍ وسادٍ مع الإظلام في رمح معبدِ
فوجه الكلام ألاّ تُجرى وأن تجعل معرفة ؛ لأنها مصروفة، والمصروف خِلْقته أن يُترك على هيئته، مثل : لُكَع ولَكاع. وكذلك قوله :﴿ أُولِى أَجنِحةٍ مَثْنَى وثُلاثَ ورُباع ﴾.
والواحد يقال فيه مَوْحَدُ وأُحاد ووُحاد، ومثنى وثُناء ؛ وأنشد بعضهم :
تَرى النُّعَراتِ الزُّرْقَ تحتَ لَبانه أُحادَ ومَثْنَى أَصْعَقَتْها صَواهله
وقوله :﴿ فَوَاحِدَةً ﴾ تنصب على : فإن خفتم ألاّ تعدلوا على الأربع في الحبّ والجماع فانكحوا واحدة أو ما ملكت أيمانكم لا وقت عليكم فيه. ولو قال : فواحدةٌ، بالرفع كان كما قال ﴿ فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ﴾ كان صوابا على قولك : فواحدة ( مقنع، فواحدة ) رِضا.
وقوله :﴿ ذلك أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ ﴾ : ألاّ تميلوا. وهو أيضا في كلام العرب : قد عال يعول. وفي قراءة عبد الله :( ولا يَعُلْ أن يأتِينِي بهم جميعا ) كأنه في المعنى : ولا يشقْ عليه أن يأتيني بهم جميعا. والفقر يقال منه عال يعيل عَيْلة ؛ وقال الشاعر :
ولا يدرى الفقير متى غناه ولا يردى الغنِىُّ متى يَعِيل
وقوله :﴿ وَآتُواْ النِّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً ﴾
يعنى أولياء النساء لا الأزواج : وذلك أنهم كانوا في الجاهلية لا يعطون النساء من مهورهن شيئا، فأنزل الله تعالى : أعطوهن صدقاتهن نحلة، يقول : هبة وعطية.
وقوله :﴿ فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً ﴾. ولم يقل طبن. وذلك أن المعنى - والله أعلم - : فإن طابت أنفسهن لكم عن شيء. فنقِل الفعل من الأنفس إليهن فخرجت النفس مفسّرة ؛ كما قالوا : أنت حسن وجها، والفعل في الأصل للوجه، فلما حوّل إلى صاحب الوجه خرج الوجه مفسِّرا لموقِع الفعل. ولذلك وحّد النفس. ولو جمعت لكان صوابا ؛ ومثله ضاق به ذراعي، ثم تحول الفعل من الذراع إليك : فتقول قَرِرت به عينا. قال الله تبارك وتعالى :﴿ فكلِى واشربي وقرّى عينا ﴾. وقال :﴿ سيء بِهِم وضاق بهم ذرعا ﴾ ؛ وقال الشاعر :
إذا التّيَّازُ ذو العَضلات قلنا إليك إليك ضاق بها ذراعا
وإنما قيل : ذرعا وذراعا لأن المصدر والاسم في هذا الموضع يدلاّن على معنى واحد، فلذلك كَفي المصدر من الاسم.
وقوله :﴿ وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهاء أَمْوَالَكُمُ... ﴾
السفهاء : النساء والصبيان ﴿ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاما ﴾ يقول التي بها تقومون قواما وقياما. وقرأ نافع المدنى ( قِيَما ) والمعنى - والله أعلم - واحد.
والعرب تقول في جمع النساء ( اللاتى ) أكثر مما يقولون ( التي )، ويقولون في جمع الأموال وسائر الأشياء سوى النساء ( التي ) أكثر مما يقولون فيه ( اللاتى ).
وقوله :﴿ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً... ﴾
يريد : فإن وجدتم. وفي قراءة عبد الله " فإن أحَسْتم منهم رشدا ".
﴿ فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ ﴾ يعني الأوصياء واليتامى.
وقوله :﴿ وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ ﴾ ( أن ) في موضع نصب. يقول : لا تبادروا كبرهم.
وقوله :﴿ فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ هذا الوصىّ. يقول : يأكل قرضا.
وقوله :﴿ لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ... ﴾
ثم قال الله تبارك وتعالى :﴿ نَصِيباً مَّفْرُوضاً ﴾. وإنما نصب النصيب المفروض وهو نعت للنكرة لأنه أخرجه مخرج المصدر. ولو كان اسما صحيحا لم ينصب. ولكنه بمنزلة قولك : لك على حقّ حقّا، ولا تقول : لك على حقّ درهما. ومثله عندي درهمان هبةً مقبوضة. فالمفروض في هذا الموضع بمنزلة قولك : فريضة وفرضا.
وقوله :﴿ يورث كلالة ﴾
الكلالة : ما خلا الولد والوالد
وقوله :﴿ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ ﴾ ولم يقل : ولهما ؛ وهذا جائز ؛ إذا جاء حرفان في معنى واحد بأو أسندتَ التفسير إلى أيّهما شئت. وإن شئت ذكرتهما فيه جميعا ؛ تقول في الكلام : من كان له أخ أو أخت فليصِلْه، تذهب إلى الأخ ( و ) فليصِلها، تذهب إلى الأخت. وإن قلت ( فليصلهما ) فذلك جائز. وفي قراءتنا ﴿ إن يكن غنِيا أو فقِيرا فالله أولى بِهِما ﴾ وفي إحدى القراءتين ﴿ فالله أولى بهم ﴾ ذهب إلى الجِماع لأنهما اثنان غير موَقَّتين. وفي قراءة عبد الله ﴿ والذين يفعلون مِنكم فآذوهما ﴾ فذهب إلى الجمع لأنهما اثنان غير موقتين، وكذلك في قراءته :( والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهما ).
وقوله :﴿ غَيْرَ مُضَارٍّ ﴾ يقول : يوصى بذلك غير مضارّ.
ونصب قوله وصية من قوله :﴿ لِكلّ واحِدٍ منهما السُّدسُ - وصِيةً مِن الله ﴾ مثل قولك : لك درهمان نفقةً إلى أهلك، وهو مثل قوله ﴿ نصيبا مفروضا ﴾.
وقوله :﴿ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ... ﴾
معناه : هذه حدود الله.
وقوله :﴿ وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ... ﴾
وفي قراءة عبد الله ( واللاتى يأتِين بالفاحشة ) والعرب تقول : أتيت أمرا عظيما، وأتيت بأمر عظيم، وتكلمت كلاما قبيحا، وبكلام قبيح. وقال في مريم ﴿ لقد جِئتِ شيئا فرِيّا ﴾ و ﴿ جِئتم شيئا إِدّا ﴾ ولو كانت فيه الباء لكان صوابا.
وقوله :﴿ فأمسِكوهن في البيوتِ ﴾ كن يُحبَسن في بيوت لهن إذا أتين الفاحشة حتى أنزل الله تبارك وتعالى : قولَه :﴿ وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِها مِنكُمْ فَآذُوهُما... ﴾
فنسحَتْ هذه الأولى.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٥:وقوله :﴿ وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ... ﴾
وفي قراءة عبد الله ( واللاتى يأتِين بالفاحشة ) والعرب تقول : أتيت أمرا عظيما، وأتيت بأمر عظيم، وتكلمت كلاما قبيحا، وبكلام قبيح. وقال في مريم ﴿ لقد جِئتِ شيئا فرِيّا ﴾ و ﴿ جِئتم شيئا إِدّا ﴾ ولو كانت فيه الباء لكان صوابا.
وقوله :﴿ فأمسِكوهن في البيوتِ ﴾ كن يُحبَسن في بيوت لهن إذا أتين الفاحشة حتى أنزل الله تبارك وتعالى : قولَه :﴿ وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِها مِنكُمْ فَآذُوهُما... ﴾
فنسحَتْ هذه الأولى.

وقوله :﴿ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ... ﴾
يقول : قبل الموت. فمن تاب في صحَّته أو في مرضه قبل أن ينزل به الموت فتوبته مقبوله.
وقوله :﴿ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ﴾ لا يجهلون أنه ذنب، ولكن لا يعلمون كُنْه ما فيه كعلم العالِم.
وقوله :﴿ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ... ﴾
( الذين ) في موضع خفض. يقول : إن أسلم الكافر في مرضه قبل أن ينزل به الموت كان مقبولا، فإذا نزل به الموت فلا توبة.
وقوله :﴿ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْها... ﴾
كان الرجل إذا مات عن امرأته وله ولد من غيرها وثب الولد فألقى ثوبه عليها، فتزوّجها بغير مهر إلا مهر الأول، ثم أضرَّ بِها ليرثها ما ورثت من أبيه، فأنزل الله تبارك وتعالى :﴿ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْها وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ ﴾ ( تعضلوهن ) في موضع نصب بأن. وهي في قراءة عبد الله ( ولا أن تعضلوهنّ ) ولو كانت جزما على النهي كان صوابا.
وقوله :﴿ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ... ﴾
الإفضاء أن يخلو بها وإن لم يجامعها.
وقوله ﴿ مِّيثَاقاً غَلِيظاً ﴾ الغليظ الذي أخذنه قوله تبارك وتعالى ﴿ فإمساك بِمعروفٍ أو تسريحٌ بإحسان ﴾.
وقوله :﴿ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأختين... ﴾
أن في موضع رفع ؛ كقولك : والجمع بين الأختين.
وقوله :﴿ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّسَاء... ﴾
المحصنات : العفائف. والمحصنات : ذوات الأزواج التي أحصنهنّ أزواجهن. والنصب في المحصنات أكثر. وقد روى علقمة : " المحصنات " بالكسر في القرآن كله إلا قوله ﴿ والمحصَنات من النّساء ﴾ هذا الحرف الواحد ؛ لأنها ذات الزوج من سبايا المشركين. يقول : إذا كان لها زوج في أرضها استبرأْتَها بحيضة وحلَّت لك.
وقوله ﴿ كِتابَ اللَّه عليكم ﴾ كقولك : كتابا من الله عليكم. وقد قال بعض أهل النحو : معناه : عليكم كتاب الله. والأوّل أشبه بالصواب. وقلّما تقول العرب : زيدا عليك، أو زيدا دونك. وهو جائز كأنه منصوب بشيء مضمر قبله، وقال الشاعر :
يأيُّها المائحُ دَلْوى دونكا إنى رأيت الناس يَحْمَدُونكا
الدلو رفع، كقولك : زيد فاضربوه. والعرب تقول : الليلُ فبادروا، والليلَ فبادروا. وتنصب الدلو بمضمر في الخلفة كأنك قلت : دونك دلوى دونك.
وقوله :﴿ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَرَاء ذَلِكُمْ ﴾ يقول : ما سوى ذلكم.
وقوله :﴿ وَيَكْفُرون بما وَراءه ﴾ يريد : سواه.
وقوله :﴿ أن تَبْتَغُوا ﴾ يكون موضعها رفعا ؛ يكون تفسيرا ل ( ما )، وإن شئت كانت خفضا، يريد : أحل الله لكم ما وراء ذلكم لأن تبتغوا. وإذا فقدت الخافض كانت نصبا.
وقوله :﴿ مُّحْصِنِينَ ﴾ يقول : أن تبتغوا الحلال غير الزنا. والمسافحة الزنا.
وقوله :﴿ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ... ﴾
يقول : إنما يرخص لكم في تزويج الإماء إذا خاف أحدكم أن يفجر. ثم قال : وأن تتركوا تزويجهن أفضل.
وقوله :﴿ يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ... ﴾
وقال في موضع آخر ﴿ والله يُرِيدُ أن يتوبَ عليكم ﴾ والعرب تجعل اللام التي على معنى كي في موضع أن في أردت وأمرت. فتقول : أردت أن تذهب، وأردت لتذهب، وأمرتك أن تقوم، وأمرتك لتقوم ؛ قال الله تبارك وتعالى ﴿ وأُمِرنا لِنُسْلِم لِربِّ العَالمِين ﴾ وقال في موضع آخر ﴿ قل إِني أُمِرت أن أكون أوّل من أسلم ﴾ وقال ﴿ يرِيدون لِيطفِئوا ﴾ و ﴿ أن يطفِئوا ﴾ وإنما صلحت اللام في موضع أن في ( أمرتك ) وأردت لأنهما يطلبان المستقبل ولا يصلحان مع الماضي ؛ ألا ترى أنك تقول : أمرتك أن تقوم، ولا يصلح أمرتك أن قمت. فلما رأوا ( أن ) في غير هذين تكون للماضي والمستقبل استوثقوا لمعنى الاستقبال بكى وباللام التي في معنى كي. وربما جمعوا بين ثلاثهن ؛ أنشدني أبو ثروان :
أردت لكيما لا ترى لي عَثْرَةً ومَنْ ذا الذي يُعْطَى الكمالَ فيَكْملُ
فجمع ( بين اللام وبين كي ) وقال الله تبارك وتعالى :﴿ لِكيلا تَأْسَوْا على ما فاتكم ﴾ وقال الآخر في الجمع بينهن :
أردتَ لكيما أن تَطَير بِقرْبتي فتتركها شَنا ببيداء بلقع
وإنما جمعوا بينهنّ لاتفاقهنّ في المعنى واختلاف لفظهن ؛ كما قال رؤبة :
*** بِغيرِ لا عَصْفٍ ولا اصْطِرافِ ***
وربما جمعوا بين ما ولا وإن التي على معنى الجحد ؛ أنشدني الكسائي في بعض البيوت :( لا ما إن رأيت مثلك ) فجمع بين ثلاثة أحرف.
وربما جعلت العرب اللام مكان ( أن ) فيما أشبه ( أردت وأمرت ) مما يطلب المستقبل ؛ أنشدني الأنفي من بنى أنف الناقة من بنى سعد :
ألم تسأَلِ الأنفي يومَ يَسُوقني ويَزْعم أنى مُبْطِلُ القولِ كاذِبُهْ
أحاولَ إعناتي بما قال أم رجا ليضحك منى أو ليضْحك صاحبُهْ
والكلام : رجا أن يضحك منى. ولا يجوز : ظننت لتقوم. وذلك أنّ ( أَن ) التي تدخل مع الظنّ تكون مع الماضي من الفعل. فتقول : أظنّ ( أن قد ) قام زيد، ومع المستقبل، فتقول : أظنّ أن سيقوم زيد، ومع الأسماء فتقول : أظنّ أنك قائم. فلم تجعل اللام في موضعها ولا كي في موضعها إذ لم تطلب المستقبل وحده. وكلما رأيت ( أن ) تصلح مع المستقبل والماضي فلا تُدخلنَّ عليها كي ولا اللام.
وقوله :﴿ فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً... ﴾
وتقرأ : نَصْلِيه، وهما لغتان، وقد قرئتا، من صَلَيْتُ وأَصليت. وكأنّ صَلَيْت : تَصليه على النار، وكأنّ أصليت : جعلته يصلاها.
وقوله :﴿ وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيما ﴾
ومَدخلا، وكذلك :﴿ أَدْخلني مَُدْخَل صدق وأخرجني مَُخْرَج صدق ﴾ وإدخال صدق. ومن قال : مَدخلا ومَخرجا ومَنزلا فكأنه بناه على : أدخلني دخول صدق وأخرجني خروج صدق. وقد يكون إذا كان مفتوحا أن يراد به المنزل بعينه ؛ كما قال :﴿ ربّ أنزلني مَنزِلا مباركا ﴾ ولو فتحت الميم كانت كالدار والبيت. وربما فتحت العرب الميم منه، ولا يقال في الفعل منه إلأ أفعلت. من ذلك قوله :
*** بمَصْبح الحمد وحيث يُمسى ***
وقال الآخر :
الحمد لله ممسانا ومَُصْبَحنا بالخير صبّحنا ربي ومسَّانا
وأنشدني المفضَّل.
وأعددت للحرب وثّابة جواد المحثّة والمَرْود
فهذا مما لا يبنى على فعلت، وإنما يبنى على أرودت. فلما ظهرت الواو في المُرود ظهرت في المَرود كما قالوا : مَصْبح وبناؤه أصبحت لا غير.
وقوله :﴿ وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ ﴾
ليس هذا بنهي محرّم ؛ إنما هو من الله أدب. وإنما قالت أم سَلَمة وغيرها : ليتنا كنا رجالا فجاهدنا وغزونا وكان لنا مثل أجر الرجال، فأنزل الله تبارك وتعالى ﴿ وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ ما فَضَّلَ اللَّهُ ﴾ وقد جاء : لا يتمنين أحدكم مال أخيه، ولكن ليقل : اللهمّ ارزقني، اللهمّ أعطني.
وقوله :﴿ فَالصَّالِحاتُ ﴾
وفي قراءة عبد الله ( فالصوالح قوانت ) تصلح فواعل وفاعلات في جمع فاعلة. وقوله :﴿ بِما حَفِظَ اللَّهُ ﴾ القراءة بالرفع. ومعناه : حافظات لغيب أزواجهن بما حفظهن اللّهُ حين أوصى بهن الأزواج. وبعضهم يقرأ ( بما حَفظ اللَّه ) فنصبه عل أن يجعل الفعل واقعا ؛ كأنك قلت : حافظات للغيب بالذي يحفظ اللَّه ؛ كما تقول : بما أرضى اللَّه، فتجعل الفعل لما، فيكون في مذهب مصدر. ولست أشتهيه ؛ لأنه ليس بفعل لفاعل معروف، وإنما هو كالمصدر.
وقوله :﴿ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً ﴾ يقول : لا تبغوا عليهن عِلَلا.
وقوله :﴿ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ ﴾ جاء التفسير أن معنى تخافون : تعلمون. وهي كالظن ؛ لأن الظانّ كالشاكّ والخائف قد يرجو. فلذلك ضارع الخوف الظنّ والعلم ؛ ألا ترى أنك تقول للخبر يبلغك : أما والله لقد خفت ذاك، وتقول : ظننت ذلك، فيكون معناهما واحدا. ولذلك قال الشاعر :
ولا تدفِنَنِّي بالفَلاة فإنني أخاف إذا ما مُِتُّ أنْ لا أذوقها
وقال الآخر :
أتاني كلام عن نُصَيْب يقوله وما خفت يا سلاّم أنك عائبي
كأنه قال : وما ظننت أنك عائبي. ونقلنا في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أمرت بالسواك حتى خفتُ لأَدْرَدَن. كقولك : حتى ظننت لأدردن.
وقوله :﴿ فَابْعَثُواْ حَكَما مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَما مِّنْ أَهْلِها ﴾
يقول : حكما من أهل الرجل وحكما من أهل المرأة ليعلما من أيهما جاء النشوز. فينبغى للحكم أن يأتى الرجل فينتظر ما عنده هل يهوى المرأة، فإن قال : لا والله ما لي فيها حاجة، علم أن النشوز جاء من قبله. ويقول حكم المرأة لها مثل ذلك، ثم يعلماهما جميعا على قدر ذلك، فيأتيا الزوج فيقولا : أنت ظالم أنت ظالم اتق الله، إن كان ظالما. فذلك قوله ﴿ إِن يُرِيدَآ إِصْلاَحا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما ﴾ إذا فعلا هذا الفعل.
وقوله :﴿ وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانا ﴾
أمرهم بالإحسان إلى الوالدين. ومثله ﴿ وقضى ربُّك ألاّ تَعْبُدوا إلا إيّاه وبالوالدين إحسانا ﴾ ولو رفع الإحسان بالباء إذ لم يظهر الفعل كان صوابا ؛ كما تقول في الكلام : أحسِنْ إلى أخيك، وإلى المسيء الإساءة.
﴿ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى ﴾ بالخفض. وفي بعض ( مصاحف أهل الكوفة وعُتُق المصاحف ) ( ذا القربى ) مكتوبة بالألف. فينبغي لمن قرأها على الألف أن ينصب ( والجارَ ذا القربى ) فيكون مثل قوله ﴿ حافظوا على الصلواتِ والصلاَة الوسطى ﴾ يضمر فعلا يكون النصب به.
﴿ وَالْجَارِ الْجُنُبِ ﴾ : الجار الذي ليس بينك وبينه قرابة ﴿ وَالصَّاحِبِ بِالجَنْبِ ﴾ : الرفيق ﴿ وَابْنِ السَّبِيلِ ﴾ : الضيف.
وقوله :﴿ فَسَاء قِرِينا... ﴾
بمنزلة قولك : نعم رجلا، وبئس رجلا. وكذلك ﴿ وساءت مصيرا ﴾ و ﴿ كَبُر مقتا ﴾ وبناء نعم وبئس ونحوهما أن ينصبا ما وليهما من النكرات، وأن يرفعا ما يليهما من معرفة غير موَقّتة وما أضيف إلى تلك المعرفة. وما أضيف إلى نكرة كان فيه الرفع والنصب.
فإذا مضى الكلام بمذكر قد جعل خبره مؤنثا مثل : الدار منزل صِدق، قلت : نِعمت منزلا، كما قال ﴿ وساءت مصيرا ﴾ وقال ﴿ حسنت مرتفقا ﴾ ولو قيل : وساء مصيرا، وحسن مرتفقا، لكان صوابا ؛ كما تقول : بِئس المنزل النار، ونعم المنزل الجنة. فالتذكير والتأنيث على هذا ؛ ويجوز : نعمت المنزل دارك، وتؤنث فعل المنزل لما كان وصفا للدار. وكذلك تقول : نعم الدار منزلك، فتذكّر فعل الدار إذ كانت وصفا للمنزل. وقال ذو الرمَّة :
أو حُرَّةٌ عَيْطَل ثبْجاء مُجْفِرةٌ دعائمَ الزَّورِ نِعمت زورقُ البلد
ويجوز أن تذكر الرجلين فتقول بِئسا رجلين، وبِئس رجلين، وللقوم : نِعم قوما ونعموا قوما. وكذلك الجمع من المؤنث. وإنما وحَّدوا الفعل وقد جاء بعد الأسماء لأن بئس ونعم دلالة على مدح أو ذمّ لم يرد منهما مذهب الفعل، مثل قاما وقعدا. فهذا في بئس ونعم مطرد كثير. وربما قيل في غيرها مما هو في معنى بئس ونعم. وقال بعض العرب : قلت أبياتا جاد أبياتا، فوحّد فعل البيوت. وكان الكسائي يقول : أضمِر حاد بهن أبياتا، وليس ها هنا مضمر إنما هو الفعل وما فيه.
وقوله :﴿ وحَسُنَ أولئك رفيقا ﴾ إنما وحد الرفيق وهو صفة لجمع لأن الرفيق والبريد والرسول تذهب به العرب إلى الواحد وإلى الجمع. فلذلك قال ﴿ وحَسُن أولئِك رفيقا ﴾ ولا يجوز في مثله من الكلام أن تقول : حسن أولئك رجلا، ولا قبح أولئِك رجلا، إنما يجوز أن توحد صفة الجمع إذا كان اسما مأخوذا من فعل ولم يكن اسما مصرحا ؛ مثل رجل وامرأة، ألا ترى أن الشاعر قال :
وإذا هُمُ طعِموا فألأم طاعم وإذا هم جاعوا فشرّ جِياع
وقوله :﴿ كَبُرَتْ كَلمةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِم ﴾ كذلك، وقد رفعها بعضهم ولم يجعل قبلها ضميرا تكون الكلمة خارجة من ذلك المضمر. فإذا نصبت فهي خارجة من قوله :﴿ ويُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً ﴾ أي كبرت هذه كلمة.
وقوله :﴿ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْها... ﴾
ينصب الحسنة ويضمر في ( تك ) اسم مرفوع. وإن شئت رفعت الحسنة ولم تضمر شيئا. وهو مثل قوله ﴿ وإن كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظرَة إلى مَيْسرة ﴾
وقوله :﴿ يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ... ﴾
( وتسوى ) ومعناه : لو يسوون بالتراب. وإنما تمنّوا ذلك لأن الوحوش وسائر الدواب يوم القيامة يقال لها : كونى ترابا، ثم يحيا أهل الجنة، فإذا رأي ذلك الكافرون قال بعضهم لبعض : تعالوا فلنقل إذا سئلنا : والله ما كنا مشركين، فإذا سئِلوا فقالوها ختِم على أفواههم وأذِن لجوارحهم فشهدت عليهم. فهنالك يودّون أنهم كانوا ترابا ولم يكتموا الله حديثا. فكتمان الحديث ههنا في التمني. ويقال : إنما المعنى : يومئذ لا يكتمون الله حديثا ويودون لو تسوى بهم الأرض.
وقوله :﴿ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى... ﴾
نزلت في نفر من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم شربوا وحضروا الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل تحريم الخمر. فأنزل الله تبارك وتعالى ﴿ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ ﴾ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن صلّوها في رحالكم.
ثم قال ﴿ وَلاَ جُنُباًً ﴾ أي لا تقربوها جُنُباً ﴿ حَتَّى تَغْتَسِلُواْ ﴾
ثم استثنى فقال ﴿ إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ ﴾ يقول : إلا أن تكونوا مسافرين لا تقدرون على الماء
ثم قال ﴿ فَتَيَمَّمُواْ ﴾ والتيمم : أن تقصد الصعيد الطيّب حيث كان. وليس التيمم إلا ضربة للوجه وضربة لليدين للجنب وغير الجنب.
وقوله :﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ... ﴾
﴿ أَلَمْ تَرَ ﴾ في عامة القرآن : ألم تخبر. وقد يكون في العربية : أما ترى، أما تعلم.
وقوله :﴿ مِّنَ الَّذِينَ هادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ... ﴾
أن شئت جعلتها متصلة بقوله ﴿ ألم تر إلى الذين أوتوا نصِيبا من الكتاب ﴾، ﴿ مِّنَ الَّذِينَ هادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ ﴾ وإن شئت كانت منقطعة منها مستأنفة، ويكون المعنى : من الذين هادوا من يحرفون الكلم. وذلك من كلام العرب : أن يضمروا ( من ) في مبتدأ الكلام. فيقولون : منا يقول ذلك، ومنا لا يقوله. وذلك أن ( مِن ) بعض لما هي منه، فلذلك أدَّت عن المعنى المتروك ؛ قال الله تبارك وتعالى :﴿ وما مِنا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُوم ﴾ وقال ﴿ وإِنْ مِنْكُمْ إِلا وارِدها ﴾ وقال ذو الرمَّة :
فظلّوا ومنهم دمعه سابِقٌ له وآخرُ يثْنِى دَمْعَة العين بالْهَمْلِ
يريد : منهم من دمعه سابِق. ولا يجوز إضمار ( من ) في شيء من الصفات إلا على المعنى الذي نبأتك به، وقد قالها الشاعر في ( في ) ولست أشتهيها، قال :
لو قلت ما في قومها لم تأْثم يَفْضُلها في حسب ومِيسم
ويروى أيضا ( تيثم ) لغة. وإنما جاز ذلك في ( في ) لأنك تجد معنى ( من ) أنه بعض ما أضيفت إليه ؛ ألا ترى أنك تقول ؛ فينا صالحون وفينا دون ذلك، فكأنك قلت : منا، ولا يجوز أن تقول : في الدار يقول ذلك ؛ وأنت تريد في الدار من يقول ذلك، إنما يجوز إذا أضفت ( في ) إلى جنس المتروك.
وقوله :﴿ لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ ﴾ يعنِى : ويقولون ( وراعِنا ) يوجهونها إلى شتم محمد صلى الله عليه وسلم. فذلك الليّ.
وقوله :﴿ وَأَقْوَمَ ﴾ أي أعدل.
وقوله :﴿ من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها... ﴾
فيه قولان ؛ أحدهما : أن يحول الوجه إلى القفا، والآخر : أن يجعل الوجه منبتا للشعر كما كان وجه القرد كذلك. فهو رده على دبره ؛ لأن منابت شعر الآدميين في أدبارهم، ( وهذا ) أشبه بالصواب لقوله ﴿ أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت ﴾ يقول : أو نسلخهم قردة.
وقوله :﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ... ﴾
فإن شئت جعلتها في مذهب خفض ثم تلقى الخافض فتنصبها ؛ يكون في مذهب جزاء ؛ كأنك قلت : إن الله لا يغفر ذنبا مع شرك ولا عن شرك.
وقوله :﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ... ﴾
جاءت اليهود بأولادها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : هل لهؤلاء ذنوب ؟ قال : لا، قالوا : فإنا مثلهم ما عملناه بالليل كفّر عنا بالنهار، وما عملناه بالنهار كفر عنا بالليل. فذلك تزكيتهم أنفسهم.
وقوله :﴿ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً ﴾ الفتيل هو ما فتلت بين إصبعيك من الوسخ، ويقال : وهو الذي في بطن النواة.
وقوله :﴿ يؤمنون بالجبت والطاغوت... ﴾
فأما الجبت فحيي بن أخطب، والطاغوت كعب بن الأشرف.
وقوله :﴿ أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ الناسَ نَقِيراً... ﴾
النقير : النقطة في ظهر النواة. و( إذاً ) إذا استؤنف بها الكلام نصبت الفعل الذي في أوله الياء أو التاء أو النون أو الألف ؛ فيقال : إذا أضربك، إذاً أَجْزيَك. فإذا كان فيها فاء أو واو أو ثمّ أو ( أو ) حرف من حروف النسق، فإن شئت كان معناهما معنى الاستئناف فنصبت بها أيضاً. وإن شئت جعلت الفاء أو الواو إذا كانتا منها منقولتين عنها إلى غيرها. والمعنى في قوله ﴿ فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ ﴾ على : فلا يؤتون الناس نقيرا إِذاً. ويدلك على ذلك أنه في المعنى - والله أعلم - جواب لجزاء مضمر، كأنك قلت : ولئن كان لهم، أو ولو كان لهم نصيب لا يؤتون الناس إذا نقيرا. وهي في قراءة عبد الله منصوبة ﴿ فإذا لا يؤتوا الناس نقيرا ﴾ وإذا رأيت الكلام تاما مثل قولك : هل أنت قائم ؟ ثم قلت : فإذا أضربك، نصبت بإذاً ونصبت بجواب الفاء ونويت النقل. وكذلك الأمر والنهي يصلح في إذاً وجهان : النصب بها ونقلها. ولو شئت رفعت بالفعل إذا نويت النقل فقلت : إيته فإذاً يكْرِمُك، تريد فهو يكرمك إذاً، ولا تجعلها جوابها. وإذا كان قبلها جزاء وهي له جواب قلت : إن تأتني إذا أُكْرِمُك. وإن شئت : إذا أُكْرِمَك وأُكْرِمْك ؛ فمن جزم أراد أكرِمك إِذاً. ومن نصب نوى في إذاً فاء تكون جوابا فنصب الفعل بإذاً. ومن رفع جعل إذاً منقولة إلى آخر الكلام ؛ كأنه قال : فأُكرِمك إِذاً. وإذا رأيت في جواب إِذاً اللام فقد أضمرت لها ( لئن ) أو يمينا أو ( لو ). من ذلك قوله عزّ وجل ﴿ ما اتّخذ اللَّهُ من ولدٍ وما كان مَعَه مِن إِلهٍ إِذاً لذهب كُلُّ إِلهٍ بِما خلق ﴾. والمعنى - والله أعلم - : لو كان [ معه ] فيهما إله لذهب كل إله بما خلق. ومثله ﴿ وإِن كادوا لَيَفْتنونك عنِ الذي أوحينا إِليك لِتفترِىَ علينا غيرَه، وإذا لاتّخَذوك خلِيلا ﴾ ومعناه : لو فعلت لاتخذوك. وكذلك قوله ﴿ كِدْتَ تركن ﴾ ثم قال :﴿ إِذاً لأذقناك ﴾، معناه لو ركنت لأذقناك إِذاً. وإذا أوقعت ( إذاً ) على يفعل وقبله اسم بطلت فلم تنصب ؛
فقلت : أنا إذا أَضربُك. وإذا كانت في أوّل الكلام ( إِنّ ) نصبت يفعل ورفعت ؛ فقلت : إنى إذاً أوذِيَك. والرفع جائز ؛ أنشدنى بعض العرب :
لا تتركنِّى فِيهُم شَطيرا إِنى إِذاً أهلِكَ أو أَطيرا
وقوله :﴿ أَمْ يَحْسُدُونَ الناسَ على ما آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ... ﴾
هذه اليهود حسدت النبي صلى الله عليه وسلم كثرة النساء، فقالوا : هذا يزعم أنه نبي وليس له همّ إلا النساء.
فأنزل الله تبارك وتعالى ﴿ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ﴾ وفي آل إبراهيم سليمان بن داود، وكان له تسعمائة امرأة، ولداود مائة امرأة.
فلما تليت عليهم هذه الآية كذَّب بعضهم وصدَّق بعضهم. وهو قوله :﴿ فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ بِهِ... ﴾
﴿ فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ بِهِ... ﴾ بالنبأ عن سليمان وداود ﴿ وَمِنْهُمْ مَّن صَدَّ عَنْهُ ﴾ بالتكذيب والإعراض.
وقوله :﴿ يَا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُواْ جَمِيعاً... ﴾
يقول : عُصَباً. إذا دعيتم إِلى السرايا، أو دعيتم لتنفروا جميعا.
وقوله :﴿ وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ... ﴾
اللام التي في ( من ) دخلت لمكان ( إنّ ) كما تقول : إنّ فيها لأخاك. ودخلت اللام في ( لَيُبَطِّئَنَّ ) وهي صلة لمن على إِضمارِ شبيه باليمين ؛ كما تقول في الكلام : هذا الذي ليقومنَّ ؛ وأرى رجلا ليفعلنَّ ما يريد. واللام في النكرات إذا وصِلت أسهل دخولا منها في من وما والذي ؛ لأن الوقوف عليهن لا يمكن. والمذهب في الرجل والذي واحِد إذا احتاجا إلى صلة. وقوله :﴿ وإنّ كُلاّ لما لَيُوَفِّينّهم ﴾ من ذلك، دخلت اللام في ( ما ) لمكان إنّ، ودخلت في الصلة كما دخلت في ليبطئن. ولا يجوز ذلك في عبد الله، وزيد أن تقول : إن أخاك ليقومنّ ؛ لأن الأخ وزيدا لا يحتاجان إلى صلة، ولا تصلح اللام أن تدخل في خبرهما وهو متأخر ؛ لأن اليمين إذا وقعت بين الاسم والخبر بطل جوابها ؛ كما نقول : زيد والله يكرمك، ولا تقول زيد والله ليكرمك.
وقوله :﴿ يا لَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيما... ﴾
العرب تنصب ما أجابت بالفاء في ليت ؛ لأنها تمنّ، وفي التمنى معنى يسّرنى أن تفعل فأفعلَ. فهذا نصب كأنه منسوق ؛ كقولك في الكلام : ودِدت أن أقوم فيتبعَنى الناس. وجواب صحيح يكون لجحد ينوى في التمنّى ؛ لأنّ ما تمنّى مما قد مضى فكأنه مجحود ؛ ألا ترى أن قوله ﴿ يا لَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ ﴾ فالمعنى : أكن معهم فأفوز. وقوله في الأنعام ﴿ يا ليتنا نُرَدُّ ولا نُكَذِّبَ ﴾ هي في قراءة عبد الله بالفاء ﴿ نردّ فلا نكذبَ بآياتِ ربّنا ﴾ فمن قرأها كذلك جاز النصب على الجواب، والرفع على الاستئناف، أي فلسنا نكذب. وفي قراءتنا بالواو. فالرفع في قراءتنا أجود من النصب، والنصب جائز على الصرف ؛ كقولك : لا يسعني شيء ويضيقَ عنك.
وقوله :﴿ وَما لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ... ﴾
و( المستضعفين ) في موضع خفض.
وقوله :﴿ الظَّالِمِ أَهْلُها ﴾ خفض ( الظالم ) لأنه نعت للأهل، فلما أعاد الأهل على القربة كان فعل ما أضيف إليها بمنزلة فعلها ؛ كما تقول : مررت بالرجلِ الواسعةِ دارُه، وكما تقول : مررت برجلٍ حَسَنةٍ عينُه. وفي قراءة عبد الله : " أخرجنا من القرية التي كانت ظالمة ". ومثله مما نسب الظلم إلى القرية وإنما الظلم لأهلها في غير موضع من التنزيل. من ذلك ﴿ وكَمْ مِن قَرْيةٍ أهلكناها ﴾ ومنه قوله :﴿ واسألِ القرية التي كنا فِيها ﴾ معناه : سل أهل القرية.
وقوله :﴿ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ... ﴾
يشدّد ما كان من جمع ؛ مثل قولك : مررت بثياب مُصَبَّغةٍ وأكبشٍ مذبّحةٍ. فجاز التشديد لأن الفعل متفرق في جمع. فإذا أفردت الواحد من ذلك فإن كان الفعل يتردّد في الواحد ويكثر جاز فيه التشديد والتخفيف ؛ مثل قولك : مررت برجل مشجّج، وبثوب ممزّق ؛ جاز التشديد ؛ لأن الفعل قد تردد فيه وكثر. وتقول : مررت بكبشٍ مذبوح، ولا تقل مذبح لأن الذبح لا يتردّد كتردّد التخرق، وقوله :﴿ وبِئرٍ مُعَطَّلةٍ وقصرٍ مَشِيد ﴾ يجوز فيه التشديد ؛ لأن التشييد بناء فهو يتطاول ويتردّد. يقاس على هذا ما ورد.
وقوله :﴿ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هذه مِنْ عِندِ اللَّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هذه مِنْ عِندِكَ... ﴾
وذلك أن اليهود لما أتاهم النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة قالوا : ما رأينا رجلا أعظم شؤما من هذا ؛ نقصت ثمارنا وغلت أسعارنا. فقال الله تبارك وتعالى : إن أمطروا وأخصبوا قالوا : هذه من عند الله، وإن غلت أسعارهم قالوا : هذا من قِبل محمد ( صلى الله عليه وسلم ).
وقول الله تبارك وتعالى :﴿ قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ ﴾.
وقوله :﴿ فَمالِ هؤلاء الْقَوْمِ ﴾ ( فمال ) كثرت في الكلام، حتى توهَّموا أن اللام متصلة ب ( ما ) وأنها حرف في بعضه. ولاتصالِ القراءة لا يجوز الوقف على اللام ؛ لأنها لام خافضة.
وقوله :﴿ طَاعَةٌ ﴾
الرفع على قولك : مِنا طاعة، أو أمرُك طاعة. وكذلك ﴿ قُل لاَ تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ ﴾ معناه - والله أعلم - : قولوا : سمع وطاعةٌ. وكذلك التي في سورة محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ فأَولى لهم طاعةٌ وقولٌ معروف ﴾ ليست بمرتفعة ب ( لهم ). هي مرتفعة على الوجه الذي ذكرت لك. وذلك أنهم أنزل عليهم الأمر بالقتال فقالوا : سمع وطاعة، فإذا فارقوا محمدّا صلى الله عليه وسلم غيّروا قولهم. فقال الله تبارك وتعالى ﴿ فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم ﴾ وقد يقول بعض النحويين : وذكِر فيها القتال، وذكِرت ( طاعة ) وليست فيها واو فيجوزَ هذا الوجه. ولو رددت الطاعة وجعلت كأنها تفسير للقتال جاز رفعها ونصبها ؛ أما النصب فعلى : ذكر فيها القتال بالطاعة أو على الطاعة. والرفع على : ذكر فيها القتال ذكِر فيها طاعة.
وقوله :﴿ بَيَّتَ طَائفَةٌ ﴾ القراءة أن تنصب التاء، لأنها على جهة فَعَل. وفي قراءة عبد الله : " بيّتَ مُبيّت منهم " غير الذي تقول. معناه : غَيّروا ما قالوا وخالفوا. وقد جزمها حمزة وقرأها بيَّتْ طائفة. جزمها لكثرة الحركات، فلما سكنت التاء اندغمت في الطاء.
وقوله :﴿ وَإِذَا جاءهم أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ... ﴾
هذا نزل في سرايا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعثها، فإذا غَلَبوا أو غُلِبوا بادر المنافقون إلى الاستخبار عن حال السرايا، ثم أفشوه قبل أن يفشيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يحدّثه، فقال ﴿ أَذَاعُواْ بِهِ ﴾ يقول أفشوه. ولو لم يفعلوا حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يخبر به لكان خيرا لهم، أو ردّوه إلى أمراء السرايا. فذلك قوله ﴿ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ﴾.
وقوله :﴿ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ قال المفسرون معناه : لعلمه الذين يستنبطونه إِلا قليلا. ويقال : أذاعوا به إلا قليلا. وهو أجود الوجهين ؛ لأن علم السرايا إذا ظهر علمه المستنبط وغيره، والإذاعة قد تكن في بعضهم دون بعض. فلذلك استحسنت الاستثناء من الإذاعة.
وقوله :﴿ يَكُنْ لَّهُ كِفْلٌ مِّنْها... ﴾
الكِفل : الحظّ. ومنه قوله :﴿ يؤتِكم كِفْلَيْنِ مِن رحمتِهِ ﴾ معناه : نصيبين.
وقوله :﴿ وَكَانَ اللَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتاً ﴾ المقِيْت : المقدّر والمقتدر، كالذي يعطى كل رجل قُوته. وجاء في الحديث : كفي بالمرء ( إثما ) أن يضيع من يُقِيت، ويقوت.
وقوله :﴿ وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْها... ﴾
أي زيدوا عليها ؛ كقول القائل : السلام عليكم، فيقول : وعليكم ورحمة الله. فهذه الزيادة ﴿ أَوْ رُدُّوها ﴾ قيل هذا للمسلمين. وأما أهل الكتاب فلا يزادون على : وعليكم.
وقوله :﴿ فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ... ﴾
إنما كانوا تكلّموا في قوم هاجروا إلى المدينة من مكة، ثم ضجِروا منها واستوخموها فرجعوا سرّا إلى مكة. فقال بعض المسلمين : إن لقيناهم قتلناهم وسلبناهم، وقال بعض المسلمين : أتقتلون قوما على دينكم أن استوخموا المدينة ؛ فجعلهم الله منافقين، فقال الله فما لكم مختلفين في المنافقين. فذلك قوله ( فئتين ).
ثم قال تصديقا لنفاقهم ﴿ وَدُّوا لو تَكْفُرون كما كَفَروا ﴾ فنصب ( فئتين ) بالفعل، تقول : مالك قائما، كما قال الله تبارك وتعالى ﴿ فَما لِلّذِينَ كَفَروا قِبلك مُهْطِعِين ﴾ فلا تبالِ أكان المنصوب معرفة أو نكرة ؛ يجوز في الكلام أن تقول : مالك الناظرَ في أمرنا، لأنه كالفعل الذي ينصب بكان وأظنّ وما أشبههما. وكل موضع صلحت فيه فَعَل ويفعل من المنصوب جاز نصب المعرفة منه والنكرة ؛ كما تنصب كان وأظنّ ؛ لأنهن نواقص في المعنى وإن ظننت أنهن تامات. ومثل مالِ، ما بالُك، وما شأنك. والعمل في هذه الأحرف بما ذكرت لك سهل كثير. ولا تقل : ما أمرُك القائمَ، ولا ما خطبُك القائمَ، قياسا عليهن ؛ لأنهن قد كثرن، فلا يقاس الذي لم يستعمل على ما قد استعمل ؛ ألا ترى أنهم قالوا : أيش عندك ؟ ولا يجوز القياس على هذه في شيء من الكلام.
وقوله :﴿ والله أَرْكَسَهُمْ بما كَسبوا ﴾ يقول : ردّهم إلى الكفر. وهي في قراءة عبد الله وأبىّ ﴿ واللَّه رَكَسَهم ﴾.
وقوله :﴿ إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ... ﴾
يقول : إذا واثق القوم النبي صلى الله عليه وسلم ألاّ يقاتلوه ولا يعينوا عليه، فكتبوا صلحا لم يحلّ قتالهم ولا من اتَّصل بهم، فكان رأيه في قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم كرأيهم فلا يحلّ قتاله. فذلك قوله ( يصلون ) معناه : يتصلون بهم.
وقوله :﴿ أَوْ جَاءوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ ﴾، يقول : ضاقت صدورهم عن قتالكم أو قتال قومهم. فذلك معنى قوله ﴿ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ ﴾ أي ضاقت صدورهم. وقد قرأ الحسن " حصِرةً صدورهم "، والعرب تقول : أتانى ذهب عقلُه، يريدون قد ذهب عقله. وسَمع الكسائي بعضهم يقول : فأصبحتُ نظرت إلى ذات التنانِيرِ. فإذا رأيت ( فَعَل ) بعد ( كان ) ففيها ( قد )مضمرة، إلا أن يكون مع كان جحد فلا تضمر فيها ( قد مع جحد ) لأنها توكيد والجحد لا يؤكَّد ؛ ألا ترى أنك تقول : ما ذهبت، ولا يجوز ما قد ذهبت.
وقوله :﴿ سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ ﴾
معناه : أن يأمنوا فيكم ويأمنوا في قومهم. فهؤلاء بمنزلة الذين ذكرناهم في أن قتالهم حلال إذا لم يرجعوا.
وقوله :﴿ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ﴾
مرفوع على قولك : فعليه تحرير رقبة. والمؤمنة : المصلِّية المدرِكة. فإن لم يقل : رقبة مؤمنة، أجزأت الصغيرة التي لم تصلِّ ولم تبلغ.
وقوله :﴿ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ ﴾ كان الرجل يسلم في قومه وهم كفّار فيكتم إسلامه. فمن قُتِل وهو غير معلوم إسلامه من هؤلاء أعتق قاتله رقبة ولم تدفع دِيته إلى الكفار فيقْوَوْا بها على أهل الإسلام. وذلك إذا لم يكن بين قومه وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد. فإن كان عهد جرى مجرى المسلم.
وقوله :﴿ يَا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ... ﴾
( فَتَثَبَّتُوا - قراءة عبد الله بن مسعود وأصحابه. وكذلك التي في الحجُرات. ويَقْرأ أن : فَتَثَبَّتُوا ) وهما متقاربتان في المعنى. تقول للرجل : لا تعجل بإقامة حتى تتبين وتتثبت.
وقوله :﴿ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنا ﴾ ذكروا أنه رجل سلّم على بعض سرايا المسلمين، فظنّوا أنه عائذ بالإسلام وليس بمسلم فقُتِل. وقرأه العامة : السَلَم. والسلم : الاستسلام والإعطاء بيده.
وقوله :﴿ لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ ﴾
يرفع ( غير ) لتكون كالنعت للقاعدين ؛ كما قال :﴿ صِراطَ الذين أنعمت عليهم غيرِ المغضوب ﴾ وكما قال ﴿ أوِ التابِعِين غيرِ أولِى الإرْبةِ مِن الرجالِ ﴾ وقد ذكِر أن ( غير ) نزلت بعد أن ذكر فضل المجاهد على القاعد، فكان الوجه فيه الاستثناء والنصب. إلا أنّ اقتران ( غير ) بالقاعدين يكاد يوجب الرفع ؛ لأن الاستثناء ينبغي أن يكون بعد التمام. فتقول في الكلام : لا يستوي المحسنون والمسيئون إلا فلانا وفلانا. وقد يكون نصبا على أنه حال كما قال :﴿ أُحِلَّتْ لكم بهيمةُ الأنعامِ إلا ما يُتْلَى عليكم غيرَ مُحِلِّى الصيدِ ﴾ ولو قرئت خفضا لكان وجها : تجعل من صفة المؤمنين.
وقوله :﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائكَةُ ﴾
إن شئت جعلت ﴿ تَوَفَّاهُمُ ﴾ في موضع نصب. ولم تضمر تاء مع التاء، فيكون مثل قوله ﴿ إن البقر تشابه علينا ﴾ وإن شئت جعلتها رفعا ؛ تريد : إن الذين تتوفاهم الملائكة. وكل موضع اجتمع فيه تاءان جاز فيه إِضمار إحداهما ؛ مثل قوله ﴿ لعلكم تذكرون ﴾ ومثل قوله ﴿ فإن تَوَلَّوْا فقد أبلغتكم ﴾.
وقوله :﴿ إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء... ﴾
في موضع نصب على الاستثناء من ﴿ مأواهم جهنم ﴾.
وقوله :﴿ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَما كَثِيراً... ﴾
ومراغَمة مصدران. فالمراغَم : المضطَرب والمذهب في الأرض.
وقوله :﴿ فَلْتَقُمْ... ﴾
وكلّ لام أمر إذا استؤنفت ولم يكن قبلها واو ولا فاء ولا ثُمَّ كُسرت. فإذا كان معها شيء من هذه الحروف سُكّنت. وقد تكسر مع الواو على الأصل. وإنما تخفيفها مع الواو كتخفيفهم ( وهْوَ ) قال ذاك، ( وهي ) قالت ذاك. وبنو سُلَيم يفتحون اللام إذا استؤنفت فيقولون : لَيَقم زيد، ويجعلون اللام منصوبة في كل جهة ؛ كما نصَبت تميم لام كى إذا قالوا : جئت لآَخذ حقّى.
وقوله :﴿ طَائفَةٌ أُخْرَى ﴾ ولم يقل : آخرون ؛ ثم قال ﴿ لَمْ يُصَلُّواْ ﴾ ولم يقل : فلتصل. ولو قيل : " فلتُصل " كما قيل " أخرى " لجاز ذلك. وقال في موضع آخر :﴿ وإنْ طائفتانِ مِن المؤمِنِين اقتتلوا ﴾ ولو قيل : اقتتلتا في الكلام كان صوابا. وكذلك قوله ﴿ هذانِ خَصْمانِ اختصموا في ربِّهم ﴾ ولم يقل : اختصما. وقال ﴿ فِريقا هدى وفرِيقا حَقَّ عليهم الضّلالة ﴾ وفي قراءة أبىّ " عليه الضلالة ". فإذا ذكرت اسما مذكّرا لجمع جاز جمع فعله وتوحيده ؛ كقول الله تعالى ﴿ وإنا لجميع حاذرون ﴾. وقوله :﴿ أم يقولون نَحْن جَميعٌ مُنْتَصر ﴾ وكذلك إذا كان الاسم مؤنّثا وهو لجمع جعلت فعله كفعل الواحدة الأنثى الطائفة والعصبة والرفقة. وإن شئت جمعته فذكَّرته على المعنى. كلّ ذلك قد أتى في القرآن.
وقوله :﴿ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لاَ يَرْجُونَ... ﴾
قال بعض المفّسرين : معنى ترجون : تخافون. ولم نجد معنى الخوف يكون رجاء إلا ومعه جحد. فإذا كان كذلك كان الخوف على جهة الرجاء والخوف، وكان الرجاء كذلك ؛ كقوله تعالى ﴿ قل لِلذِين آمنوا يغفِروا لِلذِين لا يرجون أَيّامَ اللهِ ﴾ هذه : للذين لا يخافون أيام الله، وكذلك قوله :﴿ ما لكم لا تَرْجون لِلّهِ وقارا ﴾ : لا تخافون لله عظمة. وهي لغة حجازية. وقال الراجز :
لا ترتجِى حِين تلاقى الذائدا أسبعة لاقت معا أم واحدا
وقال الهدلىّ :
إذا لسعته النحلُ لم يرجَ لَسْعها وخالفها في بيتِ نُوب عوامِلِ
ولا يجوز : رجوتك وأنت تريد : خفتك، ولا خفتك وأنت تريد رجوتك.
وقوله :﴿ وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْما ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً... ﴾
يقال : كيف قال " به " وقد ذَكَر الخطيئة والإثم ؟. وذلك جائز أن يُكْنَى عن الفعلين وأحدهما مؤنّث بالتذكير والتوحيد، ولو كثر لجاز الكناية عنه بالتوحيد ؛ لأن الأفاعيل يقع عليها فعل واحد، فلذلك جاز. فإن شئت ضممت الخطيئة والإثم فجعلته كالواحد. وإن شئت جعلت الهاء للإثم خاصّة ؛ كما قال ﴿ وإذا رَأَوْا تجارةً أو لَهْواً انفَضُّوا إِليها ﴾ فجعله للتجارة. وفي قراءة عبد الله ( وإذا رأوا لهوا أو تجارة انفَضُّوا إليها ) فجعله للتجارة في تقديمها وتأخيرها. ولو أتى بالتذكير فجعِلا كالفعل الواحد لجاز. ولو ذكّر على نِيّة اللهو لجاز. وقال ﴿ إِن يكن غَنِيّاً أو فَقِيرا فاللَّهُ أَوْلَى بهما ﴾ فثنّى. فلو أتى في الخطيئة واللهو والإثم والتجارة مثنى لجاز. وفي قراءة أبىّ ( إن يكن غنِىّ أو فقير فالله أولى بهم ) وفي قراءة عبد الله ( إِن يكن غنىّ أو فقير فالله أولى بهما ) فأما قول أبىّ ( بهم ) فإنه كقوله ﴿ وكم مِن مَلَكٍ في السمواتِ لا تُغْنِى شفاعَتُهمْ ﴾ ذهب إلى الجمع، كذلك جاء في قراءة أبىّ، لأنه قد ذكرهم جميعا ثم وحّد الغنىّ والفقير وهما في مذهب الجمع ؛ كما تقول : أصبح الناس صائما ومفطرا، فأدّى اثنان عن معنى الجمع.
وقوله :﴿ لَهَمَّتْ طَّائفَةٌ... ﴾
يريد : لقد همت طائفة فأضمرت.
وقوله :﴿ أَن يُضِلُّوكَ ﴾ : يُخطِّئوك في حكمك.
وقوله :﴿ لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ... ﴾
( من ) في موضع خفض ونصب ؛ الخفض : إلا فيمن أمر بصدقة. والنجوى هنا رجال ؛ كما قال ﴿ وإذْ هُمْ نَجوى ﴾ ومن جعل النجوى فعلا كما قال ﴿ ما يكون من نجوى ثلاثةٍ ﴾ ف ( من ) حينئذ في موضع رفع. وأما النصب فأن تجعل النجوى فعلا. فإذا استثنيت الشيء من خلافه كان الوجه النصب، كما قال الشاعر :
وقفت فيها أُصَيلانا أُسائلها عَيَّت جوابا وما بالربْعِ مِن أحدِ
إِلا الأوارِىَّ لأْياً ما أُبيِّنها والنُؤْىُ كالحوض بالمظلومةِ الجَلَدِ
وقد يكون في موضع رفع وإن ردّت على خلافها ؛ كما قال الشاعر :
وبلد ليس بِهِ أنيسُ إلا اليعافِيرُ وإلاَّ العِيسُ
وقوله :﴿ إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِناثاً... ﴾
يقول : اللات والعُزَّى وأشباههما من الآلهة المؤنثة. وقد قرأ ابن عباس ﴿ إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِناثاً ﴾ جمع الوثن فضم الواو فهمزها، كما قال ﴿ وإذا الرُّسُلُ أُقِّتَت ﴾ وقد قرئت ﴿ إنْ يَدْعُونَ مِن دُونِه إلا أُنُثا ﴾ جمع الإناث، فيكون مثل جمع الثمار والثمر ﴿ كُلُوا مِنْ ثُمُرِه ﴾.
وقوله :﴿ نَصِيباً مَّفْرُوضاً... ﴾
جعل الله له عليه السبيل ؛ فهو كالمفروض.
وقوله :﴿ وَلأُضِلَّنَّهُمْ... ﴾
وفي قراءة أُبىّ " وأُضلهم وأُمَنِّيهم ".
وقوله :﴿ وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً... ﴾
يقول القائل : ما هذه الخُلَّة ؟ فذُكِر أنّ إبراهيم صلى الله عليه وسلم كان يضيف الضيفان ويطعم الطعام، فأصاب الناس سنةُ جدب فعزَّ الطعام. فبعث إبراهيم صلى الله عليه وسلم إلى خليل له بمصر كانت المِيرة من عنده، فبعث غلمانه معهم الغرائر والإبل ليميره، فردّهم وقال : إبراهيم لا يريد هذا لنفسه، إنما يريده لغيره. قال : فرجع غلمانه، فمرّوا ببطحاء لينة. فاحتملوا من رملها فملئوا الغرائر ؛ استحياء من أن يردّوها فارغة، فرُدّوا على إبراهيم صلى الله عليه وسلم فأخبروه الخبر وامرأته نائمة، فوقع عليه النوم هَما، وانتبهت والناس على الباب يلتمسون الطعام. فقالت للخبّازين : افتحوا هذه الغرائر واعتجنوا، ففتحوها فإذا أطيب طعام، فعجنوا واختبزوا. وانتبه إبراهيم صلى الله عليه وسلم فوجد ريح الطعام، فقال : مِن أين هذا ؟ فقالت امرأة إبراهيم صلى الله عليه وسلم : هذا من عند خليلك المصرىّ. قال فقال إبراهيم : هذا من عند خليلى الله لا من عند خليلى المصرىّ. قال : فذلك خُلّته.
وقوله :﴿ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلَى... ﴾
( معناه : قل الله يفتيكم فيهنّ وما يتلى ). فموضع ( ما ) رفع كأنه قال : يفتيكم فيهنّ ما يتلى عليكم. وإن شئت جعلت ما في موضع خفض : يفتيكم الله فيهنّ وما يتلى عليكم غيرهنّ.
وقوله :﴿ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ ﴾ في موضع خفض، على قوله : يفتيكم فيهنّ وفي المستضعفين. وقوله :﴿ وَأَن تَقُومُواْ ﴾ ( أن ) موضع خفض على قوله : ويفتيكم في أن تقوموا لليتامى بالقسط.
وقوله :﴿ خَافَتْ مِن بَعْلِها نُشُوزاً... ﴾
والنشوز يكون من قِبل المرأة والرجل. والنشوز هاهنا من الرجل لا من المرأة. ونشوزه أن تكون تحته المرأة الكبيرة فيريد أن يتزوج عليها شابّة فيؤثرها في القسمة والجماع. فينبغي له أن يقول للكبيرة : إني أريد أن أتزوّج عليك شابَّة وأوثرها عليك، فإن هي رضيت صلح ذلك له، وإن لم ترض فلها من القسمة ما للشابّة.
وقوله :﴿ وَأُحْضِرَتِ الأنْفُسُ الشُّحَّ ﴾ إنما عنى به الرجل وامرأته الكبيرة. ضنّ الرجل بنصيبه من الشابة، وضنّت الكبيرة بنصيبها منه. ثم قال : وإن رضيت بالإمرة.
وقوله :﴿ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ... ﴾
إلى الشابة، فتهجروا الكبيرة كل الهجر ﴿ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ ﴾ وهي في قراءة أُبَيّ ( كالمسجونة ).
وقوله :﴿ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء للَّهِ... ﴾
هذا في إقامة الشهادة على أنفسهم وعلى الوالدين والأقربين. ولا تنظروا في غِنى الغنِىّ ولا فقر الفقير ؛ فإن الله أولى بذلك.
( فلا تَتَّبِعُوا الهوى [ أن تعدِلوا ] ) فرارا من إقامة الشهادة. وقد يقال : لا تتبعوا الهوى لتعدلوا ؛ كما تَقول : لا تتبِعنّ هواك لتُرضِى ربك، أي إني أنهاك عن هذا كيما ترضِى ربك. وقوله ﴿ وَإِن تَلْوُواْ ﴾ وتَلُوا، قد قرئتا جميعا. ونرى الذين قالوا ( تلوا ) أرادوا ( تَلْؤُوا ) فيهمزون الواو لانضمامها، ثم يتركون الهمز فيتحوّل إعراب الهمز إلى اللام فتسقط الهمزة. إلا أن يكون المعنى فيها : وإن تلوا ذلك، يريد : تتولَّوه ﴿ أَوْ تُعْرِضُواْ ﴾ عنه : أو تتركوه، فهو وجه.
وقوله :﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ... ﴾
وهم الذين آمنوا بموسى ثم كفرا من بعده بعُزَيْر، ثم آمنوا بعُزَيْر وكفروا بعيسى. وآمنت اليهود بموسى وكفرت بعيسى.
ثم قال :﴿ [ ثُمَّ ] ازْدَادُواْ كُفْراً ﴾ يعنى اليهود : ازدادوا كفرا بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله :﴿ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ... ﴾
جَزْم. ولو نصبت على تأويل الصرف ؛ كقولك في الكلام : ألم نستحوذ عليكم وقد منعناكم، فيكون مثل قوله ﴿ ولما يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِين جاهَدوا مِنْكم ويَعْلَمَ الصابرين ﴾ وهي في قراءة أُبىّ ( ومنعناكم من المؤمنين ) فإن شئت جعلت " ومنعناكم " في تأويل " وقد كنا منعناكم " وإن شئت جعلته مردودا على تأويل ﴿ أَلَمْ ﴾ كأنه قال : أما استحوذنا عليكم ومنعناكم. وفي قراءة أُبىّ ﴿ أَلَمْ تُنْهيَا عن تِلْكُما الشّجَرَةِ وقِيلَ لكما ﴾.
وقوله :﴿ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النارِ... ﴾
يقال الدرْك، والدرَك، أي أسفل دَرَج في النار.
وقوله :﴿ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ... ﴾
جاء في التفسير :( من المؤمنين ).
وقوله :﴿ لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ... ﴾
وظَلَمَ. وقد يكون ( مَنْ ) في الوجهين نصبا على الاستثناء على الانقطاع من الأوّل. وإن شئت جعت ( من ) رفعا إذا قلت ( ظُلم ) فيكون المعنى : لا يحبُّ الله أن يجهر بالسوء من القول إلا المظلوم. وهو الضيف إذا أراد النزول على رجل فمنعه فقد ظلمه، ورخّص له أن يذكره بما فعل ؛ لأنه منعه حقَّه. ويكون ﴿ لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ ﴾ كلاما تاما، ثم يقول : إلا الظالم فدعوه، فيكون مثل قول الله تبارك وتعالى ﴿ لئلاّ يكونَ لِلناسِ عليكم حُجّة إِلا الِذين ظَلَموا ﴾ فإن الظالم لا حجَّة له، وكأنه قال إلا مَنْ ظلم فَخلُّوه. وهو مثل قوله ﴿ فذكِّر إنما أنت مُذَكِّر ﴾ ثم استثنى فقال ﴿ إِلا مَنْ تَوَلَّى وكفر ﴾ فالاستثناء من قوله ﴿ إنما أنت مُذَكّر ﴾ وليست فيه أسماء. وليس الاستثناء من قوله ﴿ لَسْتَ عَلَيْهم بمصيطر ﴾ ومثله مّما يجوز أن يستثنى ( الأسماء ليس قبلها ) شيء ظاهر قولك : إني لأكره الخصومة والمِرَاء، اللهم إلاَّ رجلا يريد بذلك الله. فجاز استثناء الرجل ولم يذكر قبله شيء من الأسماء ؛ لأن الخصومة والمِرَاء لا يكونان إلا بين الآدمييّن.
وقوله :﴿ قُلُوبُنا غُلْفٌ... ﴾
أي أوعية للعلم تعلمه وتعقله، فما لنا لا نفهم ما يأتي به ( محمد صلى الله عليه وسلم ) فقال الله تبارك وتعالى ﴿ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾.
وقوله :﴿ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ... ﴾
الهاء ها هنا لعيسى صلى الله عليه وسلم.
وقوله ﴿ وَما قَتَلُوهُ يَقِينا ﴾ الهاء ها هنا للعلم، كما تقول قتلته علما، وقتلته يقينا، للرأي والحديث والظنّ.
وقوله :﴿ وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ... ﴾
معناه : من ليؤمنَّن به قبل موته. فجاء التفسير بوجهين ؛ أحدهما أن تكون الهاء في موته لعيسى، يقول : يؤمنون إذا أنزل قبل موته، وتكون المِلَّة والدين واحدا. ويقال : يؤمن كل يهودىّ بعيسى عند موته. وتحقيق ذلك في قراءة أبىّ ﴿ إلا ليؤمنُنَّ به قبل موتهم ﴾.
وقوله :﴿ إِنا أوحينا إِلَيْكَ كَما أوحينا إِلَى نُوحٍ... ﴾
كما أوحينا إلى كلهم.
وقوله :﴿ وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ... ﴾
نصبه من جهتين. يكون من قولك : كما أوحينا إلى رسل من قبلك، فإذا ألقيت ( إلى ) والإرسال اتصلت بالفعل فكانت نصبا ؛ كقوله ﴿ يُدْخِل من يشاء في رحمتِهِ والظالِمين أَعدّ لهم عذابا أَليما ﴾ ويكون نصبا من ( قصصناهم ). ولو كان رفعا كان صوابا بما عاد من ذكرهم. وفي قراءة أُبىّ بالرفع ( ورُسُلٌ قَدْ قَصَصْناهم عليك من قَبْل ورسلٌ لم نَقْصُصْهُمْ عليك ).
وقوله :﴿ فَآمِنُواْ خَيْراً لَّكُمْ... ﴾
( خير ) منصوب باتصاله بالأمر ؛ لأنه من صفة الأمر ؛ وقد يستدلّ على ذلك ؛ ألم تر الكناية عن الأمر تصلح قبل الخير، فتقول للرجل : اتق الله هو خير لك ؛ أي الاتقاء خير لك، فإذا سقطت ( هو ) اتصل بما قبله وهو معرفة فنصب، وليس نصبه على إضمار ( يكن ) ؛ لأن ذلك يأتى بقياس يبطل هذا ؛ ألا ترى أنك تقول : اتق الله تكن محسنا، ولا يجوز أن تقول : اتق الله محسنا وأنت تضمر ( تكن ) ولا يصلح أن تقول : انصرنا أخانا ( وأنت تريد تكن أخانا ).
وقوله :﴿ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ... ﴾
أي تقولوا : هم ثلاثة ؛ كقوله تعالى ﴿ سيقولون ثلاثَةٌ رابعهم ﴾ فكل ما رأيته بعد القول مرفوعا ولا رافع معه ففيه إضمار اسم رافع لذلك الاسم.
وقوله :﴿ سُبْحانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ ﴾ يصلح في ( أن ) مِن وعن، فإذا أُلقيتا كانت ( أن ) في موضع نصب. وكان الكسائي يقول : هي في موضع خفض، في كثير من أشباهها.
وقوله :﴿ وَلاَ يَجِدُونَ... ﴾
ردّت على ما بعد الفاء فرفعت، ولو جزمت على أن تردّ على موضع الفاء كان صوابا، كما قال ﴿ من يضلِلِ الله فلا هادِى له ويذرهم ﴾.
وقوله :﴿ إِن امْرُؤٌ هَلَكَ... ﴾
( هلك ) في موضع جزم. وكذلك قوله ﴿ وإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ ﴾ لو كان مكانهما يفعل كانتا جزما ؛ كما قال الكُمَيت :
فإن أنت تفعل فللفاعلين أنت المجيزين تلك الغمارا
وأنشد بعضهم :
صعدة نابتة في حائرٍ أَينما الريح تُمَيِّلْها تمِل
إلا أن العرب تختار إذا أتى الفعل بعد الاسم في الجزاء أن يجعلوه ( فَعَل ) لأن الجزم لا يتبين في فَعَل، ويكرهون أن يعترض شيء بين الجازم وما جزم. وقوله ﴿ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ ﴾ معناه : ألاَّ تضلوا. ولذلك صلحت لا في موضع أن. هذه محنة ل ( أن ) إذا صلحت في موضعها لئلا وكيلا صلحت لا.
Icon