تفسير سورة الحاقة

السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير
تفسير سورة سورة الحاقة من كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير .
لمؤلفه الشربيني . المتوفي سنة 977 هـ
مكية، وهي اثنان وخمسون آية وألف وأربعة وستون حرفاً.
﴿ بسم الله ﴾ أي : الذي له الكمال كله ﴿ الرحمن ﴾ الذي عم العالمين جوده ﴿ الرحيم ﴾ الذي خص أهل وده بالوقوف عند حدوده.

وقوله تعالى :﴿ الحاقة ﴾ مبتدأ.
وقوله تعالى :﴿ ما الحاقة ﴾ مبتدأ وخبر، والجملة خبر الأول، والأصل الحاقة ما هي، أي : أي شيء هي تفخيماً لشأنها وتعظيماً لهولها، فوضع الظاهر موضع المضمر لأنه أهول لها. والحاقة الساعة الواجبة الوقوع الثابتة المجيء التي هي آتية لا ريب فيها، أو التي فيها حواق الأمور من البعث والحساب والثواب والعقاب، أو التي تحق فيها الأمور، أي : تعرف على الحقيقة من قولك : لا أحق هذا، أي : لا أعرف حقيقته، جعل الفعل لها وهو لأهلها، وقيل : سميت القيامة بذلك لأنها أحقت لأقوام الجنة ولأقوام النار.
وقوله تعالى :﴿ وما أدراك ﴾ أي : أيّ شيء أعلمك ﴿ ما الحاقة ﴾ زيادة تعظيم لشأنها، فما الأولى مبتدأ وما بعدها خبره، وما الثانية خبرها في محل المفعول الثاني لأدري يعني : إنك لا علم لك بكنهها ومدى عظمها على أنه من العظم والشدة بحيث لا تبلغه دراية أحد ولا وهمه، والنبي صلى الله عليه وسلم كان عالماً بالقيامة ولكن لا علم له بكنهها وصفتها، فقيل له ذلك تفخيماً لشأنها، كأنك لست تعلمها إذ لم تعاينها. وقال يحيى بن سلام : بلغني أن كل شيء في القرآن ﴿ وما أدراك ﴾ فقد دراه وعلمه، وكل شيء قال :﴿ وما يدريك ﴾ فإنه مما لم يعلمه. وقال سفيان بن عيينة : كل شيء قال فيه :﴿ وما أدراك ﴾ فإنه أخبر به، وكل شيء قال فيه :﴿ وما يدريك ﴾ فإنه لم يخبر به، وقرأ أبو عمرو وشعبة وحمزة والكسائي وابن ذكوان بخلاف عنه بالإمالة، وورش بين اللفظين، والباقون بالفتح.
ولما ذكر الساعة وفخمها أتبع ذلك ذكر من كذب بها وما حل بهم بسبب التكذيب تذكيراً لأهل مكة وتخويفاً لهم من عاقبة تكذيبهم فقال تعالى :﴿ كذبت ثمود ﴾ قدمهم لأن بلادهم أقرب إلى قريش وواعظ القرب أكبر وإهلاكهم بالصيحة وهي أشبه بصيحة النفخ في الصورة المبعثرة لما في القبور﴿ وعاد بالقارعة ﴾ أي : القيامة سميت بذلك لأنها تقرع قلوب العباد بالمحاقة أو لأنها تقرع الناس بأهوالها يقال : أصابتهم قوارع الدهر، أي : أهواله وشدائده. وقوارع القرآن : الآيات التي يقرؤها الإنسان إذا فزع من الإنس أو الجن نحو : آية الكرسي، كأنه يقرع الشيطان بها. وقال المبرَّد : القارعة مأخوذة من القرعة من رفع قوم وحط آخرين وقوارع القيامة انفطار السماء بانشقاقها، والأرض والجبال بالدك والنسف، والنجوم بالطمس والانكدار، ووضعت موضع الضمير لتدل على معنى القرع في الحاقة زيادة في وصف شدتها، وقيل : عنى بالقارعة العذاب الذي نزل بهم في الدنيا، وكان نبيهم يخوفهم بذلك فيكذبونه.
وثمود قوم صالح وكانت منازلهم بالحجر فيما بين الشام والحجاز، قال ابن إسحاق : وهو وادي القرى وكانوا عرباً، وأما عاد فقوم هود وكانت منازلهم بالأحقاف رمل بين عمان إلى حضرموت واليمن كله وكانوا عرباً ذوي بسطة في الخلق.
﴿ فأمّا ثمود فأهلكوا ﴾ أي : بأيسر أمر من أوامرنا ﴿ بالطاغية ﴾ أي : الواقعة التي جاوزت الحدّ في الشدة فرجفت منها القلوب، واختلف فيها فقيل : الرجفة، وعن ابن عباس : الصاعقة، وعن قتادة : بعث الله تعالى عليهم صيحة فأهمدتهم. وقال مجاهد : بالذنوب، وقال الحسن : بالطغيان فهو مصدر كالكاذبة والعاقبة، أي : أهلكوا بطغيانهم وكفرهم قال الزمخشري : وليس بذاك لعدم الطباق بينها وبين قوله تعالى :﴿ بريح صرصر ﴾ لكن قال ابن عادل : ويوضحه ﴿ كذبت ثمود بطغواها ﴾ [ الشمس : ١١ ] أهلكوا بها ولأجلها. قال : والباء سببية على الأقوال كلها إلا على قول قتادة، فإنها فيه للاستعانة كعملت بالقدّوم.
﴿ وأمّا عاد فأهلكوا ﴾ أي : بأشق ما يكون عليهم وبأيسر ما يكون علينا ﴿ بريح صرصر ﴾ أي : شديدة الصوت لها صرصرة، وقيل : هي الباردة من الصرّ كأنها التي كرر فيها البرد وكثر، فهي تحرق بشدة بردها. وقال مجاهد : هي الشديدة السموم ﴿ عاتية ﴾ أي : مجاوزة للحدّ في شدة عصفها، والعتو استعارة، أو عتت على عاد فما قدروا على ردها بحيلة، من استتار ببناء أو لياذ بجبل أو اختفاء في حفرة، فإنها كانت تنزعهم من مكانهم وتهلكم، وقيل : عتت على خزانها فخرجت بلا كيل ولا وزن، وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال :«ما أرسل الله تعالى سفينة من ريح إلا بمكيال ولا قطرة من مطر إلا بمكيال، إلا يوم عاد ويوم نوح فإن الماء يوم نوح طغى على الخزان فلم يكن لهم عليه سبيل ثم قرأ ﴿ إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية ﴾ [ الحاقة : ١١ ] وإن الريح يوم عاد عتت على الخزان فلم يكن لهم عليها سبيل ثم قرأ :﴿ بريح صرصر عاتية ﴾.
﴿ سخرها ﴾ أرسلها ﴿ عليهم ﴾ وقال مقاتل رضي الله عنه : سلطها عليهم ﴿ سبع ليال ﴾ أي : لا تفتر فيها الريح لحظة ﴿ وثمانية أيام ﴾ كذلك. قال وهب : هي الأيام التي تسميها العرب العجوز ذات برد وريح شديدة قيل : سميت عجوزاً لأنها في عجز الشتاء، وقيل : سميت بذلك لأنّ عجوزاً من قوم عاد دخلت سرباً فتبعتها الريح فقتلتها اليوم الثامن من نزول العذاب وانقطع العذاب ﴿ حسوماً ﴾ قال مجاهد وقتادة رضي الله عنهما : متتابعة ليس فيها قترة، فعلى هذا هو من حسم الكي، وهو أن يتابع على موضع الداء المكواة حتى يبرأ، ثم قيل لكل شيء يقطع : حاسم وجمعه حسوم مثل شاهد وشهود. وقال الكلبي : حسوماً دائماً، وقال النضر بن شميل : حسمتهم قطعتهم وأهلكتهم، والحسم القطع والمنع ومنه : حسم الداء، وقال عطية : حسوماً شؤماً كأنها حسمت الخير عن أهلها.
تنبيه : في إعراب حسوماً أوجه : أحدها : أن ينتصب نعتاً لما قبله. ثانيها : أن ينتصب على الحال، أي : ذات حسوم. ثالثها : أن ينتصب على المصدر بفعل من لفظها، أي : تحسمهم حسوماً.
واختلفوا في أولها فقال السدي : غداة يوم الأحد، وقال الربيع بن أنس رضي الله عنه : غداة يوم الجمعة، وقال يحيى بن سلام ووهب بن منبه رضي الله عنهم : غداة يوم الأربعاء وهو اليوم النحس المستمر قيل : كان آخر أربعاء في السنة وآخرها يوم الأربعاء. وقال البقاعي : وهي من صبيحة الأربعاء لثمان بقين من شوال غروب الأربعاء الآخر وهو آخر الشهر وقد لزم من زيادة عدد الأيام أن الابتداء كان بها قطعاً وإلا لم تكن الليالي سبعاً فتأمل ذلك ا. ه. وهو ظاهر.
ولما كان الحاسم المهلك تسبب عنه قوله تعالى مصوراً لحالهم الماضية :﴿ فترى القوم ﴾ أي : الذين هم غاية في القدرة على ما يحاولونه ﴿ فيها ﴾ أي : تلك المدة من الأيام والليالي لم يتأخر أحد منهم عنهم ﴿ صرعى ﴾ أي : مجندلين على الأرض موتى جمع صريع وهي حال نحو قتيل وقتلى وجريح وجرحى، والضمير فيها للأيام والليالي كما مر أو للبيوت أو للريح قال ابن عادل : والأول أظهر لقربه.
﴿ كأنهم أعجاز ﴾ أي : أصول ﴿ نخل ﴾ قد شاخت وهرمت فهي في غاية العجز ﴿ خاوية ﴾ أي : متأكلة الأجواف ساقطة من خوى النجم إذا سقط للغروب، ومن خوى المنزل إذا خلا من قطّانه. قالوا : كانت تدخل من أفواههم فتخرج ما في أجوافهم من الحشو من أدبارهم، والوصف بذلك لعظم أجسامهم وتقطيع الريح لهم وقطعها لرؤوسهم وخلوهم من الحياة وتسويدها لهم.
﴿ فهل ترى ﴾ أي : أيها المخاطب الخبير بالناس في جميع الأقطار ﴿ لهم ﴾ أي : خصوصاً. وأغرق في النفي وعبر بالمصدر الملحق بالهاء مبالغة فقال تعالى :﴿ من باقية ﴾ فيكون المراد بالباقية البقاء كالطاغية بمعنى الطغيان، أي : من باق، والأحسن أن تكون صفة لفرقة أو لطائفة أو نفس أو بقية أو نحو ذلك. وقيل : فاعلة بمعنى المصدر كالعافية والباقية. قال المفسرون : والمعنى هل ترى لهم أحداً باقياً، قال ابن جريج : كانوا سبع ليال وثمانية أيام أحياء في عذاب الله تعالى من الريح، فلما أمسوا في اليوم الثامن ماتوا فاحتملتهم الريح فألقتهم في البحر، فذلك قوله تعالى :﴿ فهل ترى لهم من باقية ﴾. وقوله تعالى :﴿ فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم ﴾ [ الأحقاف : ٢٥ ]. ونجى الله تعالى صالحاً عليه السلام ومن آمن به من بين ثمود ولم تضرّهم الصاعقة، وهوداً عليه السلام ومن آمن به من عاد ولم يهلك منهم أحد، فدل ذلك دلالة واضحة على أن له تعالى تمام العلم بالجزئيات، كما أن له تمام الإحاطة بالكليات وعلى قدرته واختياره وحكمته، فلا يجعل المسلم كالمجرم ولا المسيء كالمحسن، وجواب هل لم يبق منهم أحد.
﴿ وجاء فرعون ﴾ أي : الذي ملكناه طائفة من الأرض وتجبر وادعى الإلهية ناسياً نعمتنا وقدرتنا. وقوله تعالى :﴿ ومن قبله ﴾ قرأه أبو عمرو والكسائي بكسر القاف وفتح الباء الموحدة، أي : ومن عنده من أتباعه، وقرأه الباقون بفتح القاف وسكون الباء الموحدة على أنه ظرف، أي : ومن تقدمه من الأمم الكافرة ﴿ والمؤتفكات ﴾ أي : أهلكها وهي قرى قوم لوط، أي : المنقلبات بأهلها حتى صار عاليها سافلها لما حصل لأهلها من الانقلاب ﴿ بالخاطئة ﴾، أي : بالفعلات ذات الخطأ الذي يتخطى منها إلى نفس الفعل القبيح من اللواط والصفع والضراط مع الشرك وغير ذلك من أنواع الفسق.
ولما كانت الرسل كالفرد الواحد لاتفاقهم وتعاضدهم في الدعاء إلى الله تعالى والحمل على طاعته قال مسبباً عن مجيئهم بذلك موحداً في اللفظ ما هو صالح لكثير بإرادة الجنس :﴿ فعصوا ﴾ أي : خالفوا ﴿ رسول ربهم ﴾ أي : خالفت كل أمة من أرسله المحسن إليها بإبداعها من العدم وإبداعها القوى وترزيقها وبعث رسولها لإرشادها اغتراراً بإحسانه، ولم يجوزوا أن المحسن يقدر على الضر كما قدر على النفع لأنه الضار كما أنه النافع فللتنبيه على مثل ذلك لا يجوز فصل أحد الاسمين عن الآخر، وسبب عن العصيان قوله تعالى :﴿ فأخذهم ﴾ أي : ربهم، أخذ قهر وغضب ﴿ أخذة ﴾ لم تبق من أمة منهم أحداً ممن كذب الرسول فلم يكن كمن ينصر على عدو من المؤمنين لابدّ أن يفوته كثير منهم وإن اجتهد في الطلب، وما ذاك إلا لتمام علمه سبحانه بالجزئيات والكليات وشمول قدرته وتلك الأخذة مع كونها بهذه العظمة من أنها أخذتهم كنفس واحدة جعلها سبحانه ﴿ رابية ﴾ أي : عالية عليهم زائدة في الشدة على غيرها وعلى عذاب الأمم، يقال : ربا الشيء يربو إذا زاد. ومنه : الربا إذا أخذ في الذهب والفضة أكثر مما أعطى، والمعنى أنها كانت زائدة في الشدة على عقوبات سائر الكفار، كما أن أفعالهم كانت زائدة في القبح على أفعال سائر الكفار، وقيل لأن عقوبة آل فرعون متعلقة بعذاب الآخرة لقوله تعالى :﴿ اغرقوا فأدخلوا ناراً ﴾ [ نوح : ٢٥ ] وعقوبة الآخرة أشد من عقوبة الدنيا فتلك العقوبة كانت كأنها تنمو وتربو.
ثم ذكر تعالى قصة نوح عليه السلام وهي قوله تعالى :﴿ أنا ﴾ أي : على عظمتنا ﴿ لما طغى الماء ﴾ أي : زاد على الحد حتى علا على أعلى جبل في الأرض بقدر ما يغرق من كان عليه حين أغرقنا قوم نوح عليه السلام به، فلم يطيقوا ضبطه ولا فوره بوجه من الوجوه. وقال صلى الله عليه وسلم «طغى على خزانه من الملائكة غضباً لربه تعالى فلم يقدروا على حبسه ». قال المفسرون : زاد على كل شيء خمسمائة ذراع وقال ابن عباس رضي الله عنهما :«طغى الماء زمن نوح عليه السلام على خزانه فكثر عليهم فلم يدروا كم خرج، وليس من الماء قطرة تنزل قبله ولا بعده إلا بكيل معلوم غير ذلك اليوم ». والمقصود من قصص هذه الأمم وذكر ما حل بهم من العذاب زجر هذه الأمة عن الاقتداء بهم في معصية الرسول. ثم منّ الله عليهم بأن جعلهم ذرية من نجى من الغرق بقوله تعالى :﴿ حملناكم ﴾ أي : في ظهور آبائكم ﴿ في الجارية ﴾ أي : السفينة التي جعلناها بحكمتنا عريقة في الجريان حتى كأنه لا جارية غيرها على وجه الماء الذي جعلنا من شأنه الإغراق، والمحمول في الجارية إنما هو نوح عليه السلام وأولاده وكل من على وجه الأرض من نسل أولئك، والجارية من أسماء السفينة ومنه قوله تعالى :﴿ وله الجوار المنشآت في البحر كالأعلام ﴾ [ الرحمن : ٢٤ ] وغلب استعمال الجارية في السفينة كقولهم في بعض الألغاز :
رأيت جارية في بطن جارية في بطنها رجل في بطنها جمل
ونوح عليه السلام أول من صنع السفينة، وإنما صنعها بوحي من الله تعالى وبحفظه له قال : اجعلها كهيئة صدر الطائر ليكون ما يجري في الماء مقارباً لما يجري في الهواء وأغرقنا سوى من كان في تلك السفينة من جميع أهل الأرض من آدمي وغيره.
﴿ لنجعلها ﴾ أي : هذه الفعلة العظيمة وهي إنجاء المؤمنين بحيث لا يهلك منهم بهذا العذاب أحد، وإهلاك الكافرين بحيث لا يشذ منهم أحد، وكذا السفينة التي حملنا فيها نوحاً عليه السلام ومن معه ﴿ لكم ﴾ أيها الناس ﴿ تذكرة ﴾ أي : عبرة ودلالة على قدرته تعالى وعظمته ورحمته وقهره فيقودكم ذلك إليه وتقبلوا بقلوبكم عليه.
وقوله تعالى :﴿ وتعيها ﴾ عطف منصوب على لنجعلها، أي : ولتحفظ قصة السفينة وغيرها مما تقدم حفظاً ثابتاً مستقراً كأنه محوي في وعاء ﴿ أذن ﴾ أي : عظيمة النفع ﴿ واعية ﴾ أي : من شأنها أن تحفظ ما ينبغي حفظه من الأقوال والأفعال الإلهية والأسرار الربانية لنفع عباد الله تعالى كما كان نوح عليه السلام ومن معه وهم قليل سبباً لإدامة النسل والبركة فيه حتى امتلأت منه الأرض، والوعي : الحفظ في النفس، والإيعاء : الحفظ في الوعاء.
قال الزمخشري : فإن قلت : لم قيل : أذن واعية على التوحيد والتنكير ؟ قلت : للإيذان بأن الوعاة فيهم قلة ولتوبيخ الناس بقلة من يعي منهم، وللدلالة على أن الأذن الواحدة إذا وعت عقلت عن الله تعالى فهو السواد الأعظم عند الله، وأن ما سواها لا يبالى بهم بالة وإن ملؤوا ما بين الخافقين ا. ه. وقرأ نافع بسكون الذال والباقون بضمها.
ولما ذكر تعالى القيامة وهول أمرها بالتعبير بالحاقة وغيرها شرع سبحانه وتعالى في تفاصيل أحوالها وبدأ بذكر مقدماتها بقوله تعالى :﴿ فإذا نفخ ﴾ وبنى الفعل للمجهول دلالة على هوان ذلك عليه وأن ما يتأثر عنه لا يتوقف على نافخ معين بل من أقامه لذلك من جنده تأثر عنه ما يريده ﴿ في الصور ﴾ أي : القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام. قال البقاعي : كأنه عبر عنه به دون القرن مثلاً ؛ لأنه يتأثر عنه تارة إعدام الصورة، وتارة إيجادها وردها إلى أشكالها وسعته كما بين السماء والأرض ﴿ نفخة واحدة ﴾ للفصل بين الخلائق.
قال الزمخشري : فإن قلت : هما نفختان، فلم قيل : واحدة ؟ قلت : معناه أنها لا تثنى في وقتها. ثم قال : فإن قلت : فأي النفختين هي ؟ قلت : الأولى لأن عندها فساد العالم، وهكذا الرواية عن ابن عباس رضي الله عنهما وقد روي عنه أنها الثانية ا. ه.
قال البقاعي : وظاهر السياق أنها الثانية التي بها البعث وخراب ما ذكر بعد قيامهم أنسب لأنه أهيب وكونها الثانية إحدى الروايتين عن ابن عباس رضي الله عنهما ا. ه. واقتصر البيضاوي على أنها الأولى والجلال المحلي على أنها الثانية وهو الأنسب كما قاله البقاعي.
ثم إن الزمخشري سأل سؤالاً على أنها النفخة الأولى بقوله : فإن قلت : أما قال بعد :﴿ يومئذ تعرضون ﴾ والعرض إنما هو عند النفخة الثانية، قلت : جعل اليوم اسماً للحين الواسع الذي تقع فيه النفختان، والصعقة والنشور والوقوف للحساب، فلذلك قيل :﴿ يومئذ تعرضون ﴾ كما تقول : جئتك عام كذا، وإنما كان مجيئك في وقت واحد من أوقاته ا. ه.
ولما ذكر التأثير في الأحياء أتبعه التأثير في الجمادات وبدأ منها بالسفليات لملابستها للإنسان فتكون عبرته بها أكثر، فقال تعالى :﴿ وحملت الأرض والجبال ﴾ أي : التي بها ثباتها حملتهما الريح أو الملائكة أو القدرة من أماكنهما ﴿ فدكتا ﴾ أي : مسحت الجملتان الأرض وأوتادها وبسطت ودق بعضها ببعض ﴿ دكة واحدة ﴾ أي : فصارتا كثيباً مهيلاً بأيسر أمر، فلم يميز شيء منهما عن الآخر بل صارتا في غاية الاستواء، ومنه اندك سنام البعير إذا انفرش في ظهره، وقال الفراء : لم يقل فدككن لأنه جعل الجبال كلها كالجملة الواحدة والأرض كالجملة الواحدة، ومثله ﴿ أن السماوات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما ﴾ [ الأنبياء : ٣٠ ] ولم يقل كن وهذا الدك كالزلزلة لقوله تعالى :﴿ إذا زلزلت الأرض زلزالها ﴾ [ الزلزلة : ١ ].
وقوله تعالى :﴿ فيومئذ ﴾ منصوب بوقعت وقوله تعالى :﴿ وقعت الواقعة ﴾ لابد فيه من تأويل، وهو أن تكون الواقعة صارت علماً بالغلبة على القيامة أو الواقعة العظيمة وإلا فقام القائم لا يجوز إذ لا فائدة فيه، والتنوين في يومئذ للعوض من الجملة تقديره : يوم إذ نفخ في الصور، ونوع تعالى أسماء القيامة بالحاقة والواقعة والقارعة تهويلاً لها.
ولما ذكر تأثير العالم السفلي ذكر العلوي بقوله تعالى :﴿ وانشقت السماء ﴾ أي : ذلك الجنس لشدة هول ذلك اليوم، أي : انصدعت وتفطرت، وقيل : انشقت لنزول الملائكة بدليل قوله تعالى :﴿ ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلاً ﴾ [ الفرقان : ٢٥ ]. ﴿ فهي يومئذ واهية ﴾ أي : ضعيفة متساقطة خفيفة لا تتماسك كالعهن المنفوش بعدما كانت محكمة يقال : وهي البناء يهي وهياً فهو واه إذا ضعف جداً ويقال : كلام واه، أي : ضعيف وقيل : واهية، أي : متخرّقة مأخوذ من قولهم : وهى السقاء إذا تخرّق ومن أمثالهم :
خل سبيل من وهى سقاؤه ومن هريق بالفلاة ماؤه
أي : من كان ضعيف العقل لا يحفظ نفسه، وقرأ أبو عمرو وقالون والكسائي بسكون الهاء والباقون بكسرها.
﴿ والملك ﴾ أي : هذا النوع ﴿ على أرجائها ﴾ أي : نواحي السماء وأطرافها وحواشي ما لم ينشق منها قال الضحاك : يكونون بها حتى يأمرهم الله تعالى فينزلون فيحيطون بالأرض ومن عليها، وقال سعيد بن جبير رضي الله عنه : المعنى والملك على حافات الدنيا، أي : ينزلون إلى الأرض ويحرسون أطرافها، وقيل : إذا صارت السماء قطعاً تقف الملائكة على تلك القطع التي ليست متشققة في أنفسها، والأرجاء في اللغة : النواحي والأقطار بلغة هذيل واحدها رجا مقصور وتثنيته رجوان، مثل عصا وعصوان قال القائل :
فلا ترمي بي الرجوان إني أقل القوم من يغني مكاني
قال ابن عادل : ورجا هنا يكتب بالألف عكس رحى لأنه من ذوات الواو.
فإن قيل : الملائكة يموتون في الصعقة الأولى لقوله تعالى :﴿ فصعق من في السماوات ومن في الأرض ﴾ [ الزمر : ٦٨ ]. فكيف يقال لهم : إنهم يقفون على أرجاء السماء ؟ أجيب : من وجهين : الأول : إنهم يقفون لحظة على أرجاء السماء ثم يموتون، والثاني : المراد الذين استثنوا في قوله تعالى :﴿ إلا من شاء الله ﴾ [ الزمر : ٦٨ ]. وقيل : إن الناس إذا رأوا جهنم هالهم أمرها فيندّوا كما تندوا الإبل فلا يأتون قطراً من أقطار الأرض إلا رأوا الملائكة فيرجعوا من حيث جاؤوا. وقيل : على أرجائها ينتظرون ما يؤمرون به في أهل النار من السوق إليها. وفي أهل الجنة من التحية والكرامة، وهذا كله يرجع إلى قول ابن جبير رضي الله عنه ويدل عليه قوله تعالى :﴿ ونزل الملائكة تنزيلا ﴾ [ الفرقان : ٢٥ ].
قال الزمخشري : فإن قلت ما الفرق بين قوله :﴿ والملك ﴾ وبين أن يقال : والملائكة ؟ قلت : الملك أعمّ من الملائكة ألا ترى أنّ قولك : ما من ملك إلا وهو شاهد أعمّ من قولك : ما من ملائكة ا. ه. قال أبو حيان : ولا يظهر أن الملك أعم من الملائكة لأن المفرد المحلى بالألف واللام قصاراه أن يكون مراداً به الجمع المحلى ولذلك صح الاستثناء منه، ثم قال : ولأن قوله :﴿ على أرجائها ﴾ يدل على الجمع، لأن الواحد لا يمكن أن يكون على أرجائها في وقت واحد بل في أوقات، والمراد والله أعلم أن الملائكة على أرجائها لا أنه ملك واحد ينتقل على أرجائها في أوقات.
ولما كان الملك يظهر في يوم العرض سرير ملكه ومحل عزه قال تعالى :﴿ ويحمل عرش ربك ﴾ أي : المحسن إليك بكل ما تريد لاسيما في ذلك اليوم بما يقع من رفعتك على سائر الخلق، والضمير في قوله تعالى :﴿ فوقهم يومئذ ﴾ أي : في يوم وقعت الواقعة يجوز أن يعود على الملك لأنه بمعنى الجمع كما تقدم، وأن يعود على الحاملين في قوله تعالى :﴿ ثمانية ﴾، وقيل : يعود على جميع العالم، أي : إن الملائكة تحمل عرش الله تعالى فوق العالم كله.
واختلف في هذه الثمانية فقال ابن عباس رضي الله عنهما : ثمانية صفوف من الملائكة لا يعلم عددهم إلا الله تعالى، وقال ابن زيد : هم ثمانية أملاك، وعن الحسن رضي الله عنه : الله أعلم كم هم أثمانية أم ثمانية آلاف أم ثمانية صفوف، وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال :«إن حملة العرش اليوم أربعة فإذا كان يوم القيامة أمدّهم الله تعالى بأربعة أخرى فكانوا ثمانية على صورة الأوعال ». وفي رواية : ثمانية أوعال من أظلافهم إلى ركبهم كما بين سماء إلى سماء، وفي حديث آخر :«لكل ملك منهم وجه رجل ووجه أسد ووجه ثور ووجه نسر، وكل وجه منها يسأل الله الرزق لذلك الجنس ».
فإن قيل : إذا لم يكن فيهم صورة الوعل فكيف سموا أوعالاً ؟ أجيب : بأن وجه الثور إذا كانت له قرون أشبه الوعل. وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال :«أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله تعالى من حملة العرش : إن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام ». أخرجه أبو داود بإسناد صحيح، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : حملة العرش ما بين أخمص أحدهم إلى كعبه مسيرة خمسمائة عام، ومن كعبه إلى ركبته خمسمائة، ومن ترقوته إلى موضع القرط مسيرة خمسمائة عام، وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : الذين يحملون العرش ما بين سوق أحدهم إلى مؤخر عينه خمسمائة عام. وفي الخبر أن فوق السماء السابعة ثمانية أوعال بين أظلافهن وركبهن مثل ما بين سماء إلى سماء وفوق ظهورهن العرش، وفي حديث مرفوع أن حملة العرش ثمانية أملاك على صورة الأوعال ما بين أظلافها إلى ركبها مسيرة سبعين عاماً للطائر المسرع، وروي أن أرجلهن في الأرض السابعة، وإضافة العرش إلى الله تعالى كإضافة البيت إليه وليس البيت للسكنى فكذلك العرش ليس للجلوس تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً، فإنه الخالق للعرش ولحملة العرش ولا تحيط به جهة وهو العلي العظيم.
وعن شهر بن حوشب قال حملة العرش ثمانية : أربعة منهم يقولون : سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على عفوك بعد قدرتك، وأربعة منهم يقولون : سبحانك اللهمّ وبحمدك لك الحمد على حلمك بعد علمك.
ولما بلغ تعالى النهاية في تحذير العباد من يوم التناد وكان لهم حالتان عامة وخاصة، فالعامة العرض والخاصة التقسيم إلى محسن ومسيء زاده عظماً بقوله تعالى :﴿ يومئذ ﴾ أي : إذ كان جميع ما تقدم ﴿ تعرضون ﴾ على الله للحساب كما يعرض السلطان الجند لينظر في أمرهم ليختار منهم المصلح للتقريب والإكرام، والمفسد للإبعاد والتعذيب، عبر بالعرض عن الحساب الذي هو جزؤه، والمحسن لا يكون له غير ذلك والمسيء يناقش.
﴿ لا تخفى منكم ﴾ أي : في ذلك اليوم على أحد بوجه من الوجوه، وقرأ حمزة والكسائي بالياء التحتية ؛ لأن التأنيث مجازي والباقون بالتاء وهو ظاهر، ﴿ خافية ﴾ أي : من السرائر التي كان من حقها أن تخفى في دار الدنيا، فإنه عالم بكل شيء من أعمالكم. ونظيرة قوله تعالى :﴿ لا يخفى على الله منهم شيء ﴾ [ غافر : ١٦ ]. قال الرازي : والعرض للمبالغة في التهديد يعني تعرضون على من لا تخفى عليه خافية، قال القرطبي : هذا هو العرض على الله تعالى ودليله ﴿ وعرضوا على ربك صفاً ﴾ [ الكهف : ٤٨ ] وليس ذلك عرضاً ليعلم ما لم يكن عالماً به، بل ذلك العرض عبارة عن المحاسبة والمساءلة وتقرير الأعمال عليهم للمجازاة قال صلى الله عليه وسلم «يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات، فأما عرضتان فجدال ومعاذير، وأما الثالثة فعند ذلك تطير الصحف في الأيدي فآخذ بيمينه وآخذ بشماله ».
قال تعالى :﴿ فأما من أوتي كتابه بيمينه ﴾ أي : الذي أثبتت فيه أعماله ﴿ فيقول ﴾ لما رأى من سعادته تبجعاً بحاله وإظهاراً لنعمة ربه ؛ لأن الإنسان مطبوع على أن يظهر ما آتاه الله تعالى من خير تكميلاً للذته قيل : إنه تكتب سيئاته في باطن صحيفته وحسناته في ظاهرها فيقرأ الباطن ويقرأ الناس الظاهر، فإذا أنهاه قيل له : قد غفرها الله تعالى اقلب الصحيفة، فحينئذ يكون قوله :﴿ هاؤم اقرؤوا ﴾ أي : خذوا اقرؤوا ﴿ كتابيه ﴾ يقول ذلك ثقة بالإسلام وسروراً بنجاته ؛ لأن اليمين عند العرب من دلائل الفرح قال الشاعر :
إذا ما راية رفعت لمجد تلقاها عرابة باليمين
قال ابن عباس رضي الله عنهما : أول من يعطى كتابه بيمينه من هذه الأمة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وله شعاع كشعاع الشمس قيل : فأين أبو بكر ؟ قال : هيهات زفته الملائكة إلى الجنة، وقال ابن زيد : معنى هاؤم : تعالوا، فيتعدى بإلى. وقال مقاتل : هلمّ، وقال غيره : خذوا، ومنه الحديث في الربا «إلا هاء وهاء »، أي : يقول كل لصاحبه : خذ، وهذا هو المشهور، ولذلك فسرت به الآية الكريمة. وقيل : هي كلمة وضعت لإجابة الداعي عند الفرح والنشاط، وفي الحديث «أنه صلى الله عليه وسلم ناداه أعرابي بصوت عال فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم هاؤم بصولة صوته ». وقيل : معناها اقصروا وزعم هؤلاء أنها مركبة من ها التنبيه وأموا أمر من الأمّ وهو القصد فصيّره التخفيف والاستعمال إلى هاؤم، وقيل : الميم ضمير جماعة الذكور وزعم العتبي أن الهمزة بدل من الكاف، قال ابن عادل : فإن عنى أنها تحل محلها فصحيح، وإن عني البدل الصناعي فليس بصحيح.
تنبيه : كتابيه منصوب بهاؤم عند الكوفيين، وعند البصريين باقرؤوا لأنه أقرب العاملين، والأصل : كتابي فأدخل الهاء لتتبين صحة الياء والهاء في ﴿ كتابيه ﴾ و ﴿ حسابيه ﴾ و ﴿ سلطانيه ﴾ و ﴿ ماليه ﴾ للسكت وكان حقها أن تحذف وصلاً وتثبت وقفاً، وإنما أجري الوصل مجرى الوقف أو وصل بنية الوقف في كتابيه وحسابيه اتفاقاً، فأثبت الهاء وكذا في ﴿ ماليه ﴾ [ الحاقة : ٢٨ ] و﴿ سلطانيه ﴾ [ الحاقة : ٢٩ ] و﴿ ماهيه ﴾ [ القارعة : ١٠ ] في القارعة عند القراء كلهم إلا حمزة، فإنه حذف الهاء من هذه الكلم الثلاثة وصلاً وأثبتها وقفاً ؛ لأنها في الوقف محتاج إليها لتحصين حركة الموقوف عليه، وفي الوصل مستغنى عنها.
فإن قيل : فلم لم يفعل ذلك في ﴿ كتابيه ﴾ و ﴿ حسابيه ﴾ ؟ أجيب : بأنه جمع بين اللغتين.
﴿ إني ظننت ﴾ قال ابن عباس رضي الله عنهما : أي : أيقنت وعلمت. وقيل : ظننت بأن يؤاخذني الله بسيئاتي فقد تفضل عليّ بعفوه ولم يؤاخذني بها. وقال الضحاك : كل ظن من المؤمن في القرآن فهو يقين ومن الكافر فهو شك. وقال مجاهد رضي الله عنه : ظن الآخرة يقين وظن الدنيا شك. وقال الحسن رضي الله عنه في هذه الآية : إن المؤمن أحسن الظن بربه فأحسن العمل، وإن المنافق أساء بربه الظن فأساء العمل.
﴿ أني ملاق ﴾، أي : ثابت لي ثباتاً لا ينفك أني ألقى ﴿ حسابيه ﴾، أي : في الآخرة ولم ينكر البعث يعني أنه ما نجا إلا بخوفه من يوم الحساب لأنه تيقن أن الله تعالى يحاسبه فعمل للآخرة فحقق الله تعالى رجاءه وأمن خوفه فعلم الآن أنه لا يناقش الحساب، وإنما حسابه بالعرض وهو الحساب اليسير فضلاً من الله تعالى ونعمة.
﴿ فهو في عيشة ﴾ أي : حالة من العيش، وقوله تعالى :﴿ راضية ﴾ فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه على النسب، أي : ذات رضا نحو لابن وتامر لصاحب اللبن والتمر، أي : ثابت لها الرضا ودائم لها ؛ لأنها في غاية الحسن والكمال، والعرب لا تعبر عن أكبر السعادات بأكثر من العيشة لراضية بمعنى أن أهلها راضون بها، والمعتبر في كمال اللذة الرضا.
الثاني : أنه على إظهار جعل العيشة راضية لمحلها وحصولها في مستحقها، وأنه لو كان للعيشة عقل لرضيت لنفسها بحالتها.
الثالث : قال أبو عبيدة والفراء : إن هذا مما جاء فيه فاعل بمعنى : مفعول نحو : ماء دافق بمعنى : مدفوق، كما جاء مفعول بمعنى : فاعل كما في قوله تعالى :﴿ حجاباً مستوراً ﴾ [ الإسراء : ٤٥ ]، أي : ساتراً وقال صلى الله عليه وسلم «إنهم يعيشون فلا يموتون أبداً ويصحون فلا يمرضون أبداً وينعمون فلا يرون بأساً أبداً ويشبون فلا يهرمون أبداً ».
﴿ في جنة ﴾ أي : بساتين جامعة لجميع ما يراد منها ﴿ عالية ﴾ أي : مرتفعة في المكان والمكانة والأبنية والدرجات والأشجار وكل اعتبار.
وقوله تعالى :﴿ قطوفها ﴾ جمع كثرة لقطف بالكسر وهو فعل بمعنى مفعول كالذبح وهو ما يجنيه الجاني من الثمار، وأما القطف بالفتح فالمصدر، والقطاف بالفتح والكسر وقت القطف ﴿ دانية ﴾، أي : قريبة المأخذ سهلة التناول جداً للراكب والقائم والقاعد والمضطجع كل ذلك على حدّ سواء دائماً من غير انقطاع لا كلفة على أحد في تناوله شيئاً من ذلك.
وقوله تعالى :﴿ كلوا واشربوا ﴾ على إضمار القول، أي : يقال لهم ذلك وجمع الضمير للمعنى ؛ لأن قوله تعالى :﴿ فأما من أوتي كتابه ﴾. يتضمن معنى الجمع وهذا أمر امتنان لا أمر تكليف، ﴿ هنيئاً ﴾ أي : أكلاً طيباً لذيذاً شهياً مع البعد عن كل أذى وسلامة العاقبة بكل اعتبار ولا فضلة هناك من بول ولا غائط ولا بصاق ولا مخاط ولا قرف ولا وهن ولا صداع ولا ثقل، والباء في قوله تعالى :﴿ بما أسلفتم ﴾ سببية وما مصدرية أو اسمية، أي : بما قدّمتم من الأعمال الصالحة ﴿ في الأيام الخالية ﴾ أي : الماضية في الدنيا التي انقضت وذهبت واسترحتم من تعبها وعن مجاهد رضي الله عنه : أيام الصيام، أي : كلوا واشربوا بدل ما أمسكتم عن الأكل والشرب لوجه الله تعالى. وروي : يقول الله تعالى : يا أوليائي طالما نظرت إليكم في الدنيا وقد قلصت شفاهكم عن الأشربة وغارت أعينكم، وخمصت بطونكم فكونوا اليوم في نعيمكم وكلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية.
ولما كانت العادة جارية بأن أهل العرض ينقسمون إلى مقبول ومردود وذكر سبحانه المقبول بإدنائه تشويقاً إلى حاله، وتغبيطاً بعاقبته وحسن حاله أتبعه المردود تنفيراً عن أعماله بما ذكر من قبائح أحواله فقال تعالى :﴿ وأما من أوتي كتابه ﴾ أي : صحيفة حسابه ﴿ بشماله فيقول ﴾ أي : لما يرى من سوء عاقبته التي كشف له عنها الغطاء حتى لم يشك فيها لما رأى من قبائحه التي قدمها ﴿ يا ليتني ﴾ تمنياً للمحال ﴿ لم أوت ﴾ أي : من أي مؤت ما. ﴿ كتابيه ﴾ أي : هذا الذي ذكرني خبائث أعمالي وعرفني جزاءها.
﴿ ولم ﴾ أي : ويا ليتني لم ﴿ أدر ما ﴾ حقيقة ﴿ حسابيه ﴾ من ذكر العمل وذكر جزائه، بل استمريت جاهلاً لذلك كما كنت في الدنيا.
ثم يتمنى الموت ويقول :﴿ يا ليتها ﴾ أي : الموتة الأولى وإن لم تكن مذكورة إلا أنها لظهورها كانت كالمذكورة ﴿ كانت القاضية ﴾ أي : القاطعة لحياتي بأن لا أبعث بعدها، ولم ألق ما وصلت إليه. قال قتادة رضي الله عنه : يتمنى الموت ولم يكن في الدنيا عنده شيء أكره من الموت، وشر من الموت ما يطلب منه الموت، قال الشاعر :
وشر من الموت الذي إن لقيته تمنيت منه الموت والموت أعظم
والمعنى : يا ليت هذه الحالة كانت الموتة التي قضيت علي. وقوله :﴿ ما أغنى عني ماليه ﴾ يجوز أن يكون نفياً تأسفاً على فوات ما كان يرجو من نفعه، والمفعول على هذا التقدير محذوف للتعميم ويجوز أن يكون استفهام توبيخ لنفسه حيث سولت له ما أثر له كل سوء وكل محال، أي : أيّ شيء أغنى ما كان لي من اليسار الذي منعت منه حق الفقراء وتعظمت به على عباد الله تعالى.
﴿ هلك عني سلطانيه ﴾ أي : ملكي وتسلطي على الناس، وبقيت فقيراً ذليلاً. وعن ابن عباس رضي اللّه عنهما أن هذه الآية نزلت في الأسود بن عبد الأشد، وعن فناخسرو الملقب بالعضد، إنه لما قال :
عضد الدولة وابن ركنها ملك الأملاك غلاب القدر
لم يفلح بعده وجنّ، فكان لا ينطق لسانه إلا بهذه الآية، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : ضلت عني حجتي، ومعناه : بطلت حجتي التي كنت أحتج بها في الدنيا، وذكر الضحاك أن الآية الأولى في أخي الأسود عبد الله بن عبد الأسد المخزومي.
ولما كان كأنه قيل : هذا ما قال فما يقال له ؟ أجيب : بأنه يقال للزبانية على رؤوس الأشهاد ﴿ خذوه ﴾ أي : أيتها الزبانية الذين كان يستهزئ بهم عند سماع ذكرهم ﴿ فغلوه ﴾ أي : اجمعوا يديه إلى عنقه ورجليه إلى وراء قفاه إلى ناصيته.
﴿ ثم الجحيم ﴾ أي : النار العظمى التي تحجم على من يريد دفاعها ويحجم عنها من رآها، لأنها في غاية الحمو والتوقد والتغيظ والتشدد ﴿ صلوه ﴾ أي : بالغوا في تصليته إياها وكرروها بغمسة في النار كالشاة المصلية مرة بعد أخرى ؛ لأنه كان يتعاظم على الناس فناسب أن يصلى أعظم النيران، وعبر أيضاً بأداة التراخي لعلو رتبة مدخولها فقال مؤذناً بعدم الخلاص، وتقديم المفعول يفيد الاختصاص عند بعضهم ولذلك قال الزمخشري : ثم لا يصلوه إلا الجحيم. قال أبو حيان : وليس ما قاله مذهباً لسيبويه ولا لحذاق النجاة، اه. لكن كلام النحاة لا يأبى ما قاله.
﴿ ثم في سلسلة ﴾ أي : عظيمة جداً، وقوله تعالى :﴿ ذرعها سبعون ذراعاً ﴾ يحتمل أن يكون هذا العدد حقيقة وعلى هذا قال ابن عباس رضي الله عنهما : سبعون ذراعاً بذراع الملك، فتدخل في دبره وتخرج من منخره، وقيل : تدخل من فيه وتخرج من دبره. وقال نوف البكالي : سبعون ذراعاً كل ذراع سبعون باعاً كل باع أبعد مما بينك وبين مكة وكان في رحبة الكوفة. وقال سفيان : كل ذراع سبعون ذراعاً. وقال الحسن رضي الله عنه : الله أعلم أيّ ذراع هو، ويحتمل أن يكون مبالغة كما قال تعالى :﴿ إن تستغفر لهم سبعين مرة ﴾ [ التوبة : ٨٠ ] يريد مرات كثيرة ؛ لأنها إذا طالت كان الإرهاق أشد.
والذي يدل على هذا ما رواه الترمذي وقال : إسناده حسن عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«لو أن رصاصة مثل هذه وأشار إلى مثل الجمجمة أرسلت من السماء إلى الأرض وهي مسيرة خمسمائة سنة لبلغت الأرض قبل الليل ولو أنها أرسلت من رأس السلسلة لسارت أربعين خريفاً الليل والنهار قبل أن تبلغ أصلها وقعرها ». وعن كعب رضي الله عنه أنه قال :«لو جمع حديد الدنيا ما وزن حلقة منها ». أجارنا الله تعالى ومحبينا منها وجميع المسلمين، فأشار سبحانه إلى ضيقها على ما تحيط به من بدنه بتعبيره بالسلك فقال تعالى :﴿ فاسلكوه ﴾ أي : أدخلوه بحيث يكون كأنه السلك، أي : الحبل الذي يدخل في ثقب الخرزة بعسر لضيق ذلك الثقب إما بإحاطتها بعنقه أو بجميع بدنه بأنه تلف، قال الزمخشري : والمعنى في تقديم السلسلة على السلك مثله في تقديم الجحيم على التصلية، أي : لا تسلكوه إلا في هذه السلسلة كأنها أفظع من سائر مواضع الإرهاق في الجحيم، ومعنى ثم الدلالة على تفاوت ما بين الغل والتصلية وما بينهما وبين السلك في السلسلة لا على تراخى المدة ا. ه.
ولما ذكر سبحانه على الإجمال عقابه أتبعه أسبابه فقال تعالى :﴿ إنه كان لا يؤمن بالله العظيم ﴾.
﴿ إنه كان ﴾ أي : جبلة وطبعاً وأن أظهر شيئاً يلبس به على الضعفاء ويدلس على الأغبياء ﴿ لا يؤمن ﴾ أي : الآن ولا في مستقبل الزمان ﴿ بالله ﴾ أي : الملك الأعلى الذي يعلم السر وأخفى ﴿ العظيم ﴾ أي : الكامل العظم، وهذا تعليل على طريق الاستئناف وهو أبلغ كأنه قيل : ماله يعذب هذا العذاب الشديد ؟ أجيب بذلك.
وفي قوله تعالى :﴿ ولا يحض ﴾ أي : يحث ﴿ على ﴾ بذل ﴿ طعام المسكين ﴾ دليلان قويان على عظم الجرم في حرمان المسكين : أحدهما : عطفه على الكفر وجعله قرينة له. والثاني : ذكر الحض دون الفعل ليعلم أن تارك الحض بهذه المنزلة فكيف بتارك الفعل، وما أحسن قول القائل :
إذا نزل الأضياف كان عذوّرا على الحيّ حتى تستقل مراجله
يريد حضهم على القرى واستعجالهم، وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه كان يحض امرأته على تكثير المرق لأجل المساكين، وكان يقول : خلعنا نصف السلسلة بالإيمان أفلا نخلع نصفها الثاني بالطعام. وقيل : هو منع الكفار وقولهم :﴿ أنطعم من لو يشاء الله أطعمه ﴾ [ يس : ٤٧ ] والمعنى على بذل طعام المسكين.
ولما وصفه سبحانه بأقبح العقائد وأشنع الرذائل تسبب عنه قوله تعالى :﴿ فليس له اليوم هاهنا حميم ﴾.
﴿ فليس له اليوم هاهنا ﴾ أي : في مجمع القيامة كله ﴿ حميم ﴾ أي : صديق خالص يحميه من العذاب، لأنهم كلهم له أعداء كما أنه كان لا يرق على الضعفاء لما هم فيه من الإقلال من حطام الأموال.
﴿ ولا طعام إلا من غسلين ﴾ أي : غسالة أهل النار وصديدهم وقيحهم، فعلين من الغسل.
﴿ لا يأكله إلا الخاطئون ﴾ أي : أصحاب الخطايا، من خطئ الرجل : إذا تعمد الذنب وهم المشركون، لا من الخطأ المضاد للصواب، وهذا الطعام يغسل ما في بطونهم من الأعيان والمعاني التي بها قوام صاحبها وهي بمنزلة ما كانوا يشحون من أموالهم التي أبطنوها وادّخروها في خزائنهم واستأثروا بها على الضعفاء.
﴿ فلا أقسم ﴾ أي : لا يقع مني إقسام ﴿ بما تبصرون ﴾ من المخلوقات.
﴿ وما لا تبصرون ﴾ منها، أي : بكل الموجودات واجبها وجائزها ؛ معقولها ومحسوسها، لأنها لا تخرج عن قسمين مبصر وغير مبصر، وقيل : الدنيا والآخرة والأجسام والأرواح والإنس والجنّ والخلق والخالق والنعم الظاهرة والباطنة، لأنّ الأمر أوضح من أن يحتاج إلى إقسام وإن كنت أقسم في غير هذا الموضع بما شئت، ولو قيل بهذا في الواقعة لكان حسناً، وقيل : لا زائدة وجرى على ذلك الجلال المحلي.
﴿ إنه ﴾ أي : القرآن ﴿ لقول ﴾ أي : تلاوة ﴿ رسول ﴾ أي : أنا أرسلته به وعني أخذه وليس فيه شيء من تلقاء نفسه إنما هو كله رسالة واضحة جداً أنا شاهد بها بما له من الإعجاز الذي يشهد أنه كلامي ﴿ كريم ﴾ أي : على الله تعالى فهو في غاية الكرم الذي هو البعد من مساوئ الأخلاق بإظهار معاليها لشرف النفس وشرف الآباء وهو محمد صلى الله عليه وسلم وكرم الشيء اجتماع الكمالات فيه اللائقة به. وقيل : هو جبريل عليه السلام، قاله الحسن والكلبي رضي الله عنهما لقوله تعالى :﴿ رسول كريم ١٩ ذي قوة ﴾ [ التكوير : ١٩ ٢٠ ].
واستدل للأول بقوله تعالى :﴿ وما هو بقول شاعر ﴾ أي : يأتي بكلام مقفى موزون بقصد الوزن.
قال مقاتل رضي الله عنه : سبب نزول هذه الآية أن الوليد بن المغيرة قال : إن محمداً صلى الله عليه وسلم ساحر، وقال أبو جهل : شاعر، وقال عقبة : كاهن، فردّ الله تعالى عليهم بذلك.
فإن قيل : كيف يكون كلاماً لله تعالى ولجبريل عليه السلام ولمحمد صلى الله عليه وسلم أجيب : بأن الإضافة يكفي فيها أدنى ملابسة، فالله سبحانه وتعالى أظهره في اللوح المحفوظ وجبريل عليه السلام بلغه للنبي صلى الله عليه وسلم وهو بلغه للأمّة.
﴿ قليلاً ما تؤمنون ﴾ منصوب نعتاً لمصدر أو زمان محذوف، أي : إيماناً قليلاً أو زماناً قليلاً والناصب يؤمنون وما مزيدة للتأكيد، وقال ابن عطية : ونصب قليلاً بفعل مضمر يدل عليه يؤمنون وما يحتمل أن تكون نافية فينتفي إيمانهم البتة، ويحتمل أن تكون مصدرية وتتصف بالقلة فهو الإيمان اللغوي لا الشرعي، لأنهم قد صدقوا بأشياء يسيرة لا تغني عنهم شيئاً وهو إخلاصهم بالوحدانية عند الاضطرار، وإفرادهم الخالق بالخلق والربوبية.
﴿ ولا بقول كاهن ﴾ وهو المنجم الذي يخبر عن الأشياء وأغلبها ليس له صحة، وقوله تعالى :﴿ قليلاً ما تذكرون ﴾ يأتي فيه ما تقدم في ﴿ قليلاً ما تؤمنون ﴾ وقال البغوي : أراد بالقليل نفي إسلامهم أصلاً كقولك لمن لا يزورك : قلما تأتينا وأنت تريد ما تأتينا أصلاً، وقرأ :﴿ قليلاً ما يؤمنون ﴾ ﴿ قليلاً ما يذكرون ﴾ ابن كثير وابن عامر بخلاف عن ابن ذكوان بالياء التحتية فيهما، والباقون بالفوقية، وخفف الذال حمزة والكسائي وحفص وشددها الباقون.
وقوله تعالى :﴿ تنزيل ﴾ خبر لمبتدأ مضمر، أي : هو تنزيل على وجه التنجيم، قال البقاعي : وأشار إلى الرسالة إلى جميع الخلق من أهل السماوات والأرض بقوله تعالى :﴿ من رب العالمين ﴾ أي : موجدهم ومدبرهم بالإحسان إليهم بما يفهم كل منهم من هذا الذكر الذي رباهم به ورتب سبحانه نظمه على وجه سهل على كل منهم يكفي في هدايته ا. ه. وهذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم أرسل للملائكة وهو الذي ينبغي وإن لم يكونوا مكلفين تشريفاً لهم زيادة في شرفه بإرساله صلى الله عليه وسلم إليهم.
﴿ ولو تقوّل ﴾، أي : كلف نفسه أن يقول مرة من الدهر كذباً ﴿ علينا ﴾ أي : على ما لنا من العظمة ﴿ بعض الأقاويل ﴾ أي : التي لم نقلها أو قلناها ولم نأذن له فيها قال الزمخشري : التقوّل افتعال القول لأن فيه تكلفاً من المفتعل وسمى الأقوال المنقولة أقاويل تصغيراً لها وتحقيراً، كقولك : الأعاجيب والأضاحيك، كأنها جمع أفعولة من القول. والمعنى : لو نسب إلينا قولاً لم نقله أو لم نأذن له في قوله :﴿ لأخذنا منه باليمين ﴾.
﴿ لأخذنا ﴾ أي : لنلنا ﴿ منه ﴾ أي : عقاباً ﴿ باليمين ﴾ أي : بالقوة والقدرة.
تنبيه : الباء على أصلها غير مزيدة، والمعنى : لأخذناه بقوة منا، فالباء حالية والحال من الفاعل وتكون منه في حكم الزائدة، واليمين هنا مجاز عن القوة والغلبة، فإن قوة كل شيء في ميامنه، وهذا معنى قول ابن عباس ومجاهد رضي الله عنهم، ومنه قول الشماخ :
إذا ما راية رفعت لمجد تلقاها عرابة باليمين
وقال أبو جعفر الطبري : هذا الكلام خرج مخرج الإذلال على عادة الناس في الأخذ بيد من يعاقب، ويجوز أن تكون الباء مزيدة، والمعنى : لأخذنا منه يمينه، والمراد باليمين الجارحة كما يفعل بالمقتول صبراً يؤخذ بيمينه ويضرب بالسيف في جيده مواجهة وهو أشد عليه، وقال الحسن رضي الله عنه : لقطعنا يده اليمنى. وقال الزمخشري : المعنى : ولو ادعى علينا شيئاً لم نقله لقتلناه صبراً كما يفعل الملوك بمن يتكذب عليهم معاجلة بالسخط والانتقام، فصور قتل الصبر بصورته ليكون أهول، وهو أن يؤخذ بيده فتضرب رقبته وخص اليمين عن اليسار، لأن القتال إذا أراد أن يوقع الضرب في قفاه أخذه بيساره، وإذا أراد أن يوقعه في جيده وأن يكفحه بالسيف وهو أشد على المصبور لنظره إلى السيف أخذ بيمينه ا. ه. وقال نفطويه : المعنى لقبضنا بيمينه عن التصرف، وقال السّدي ومقاتل رضي الله عنهما : المعنى انتقمنا منه بالحق واليمين على هذا بمعنى الحق كقوله تعالى :﴿ إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين ﴾ [ الصافات : ٢٨ ]، أي : من قبل الحق.
﴿ ثم لقطعنا ﴾ أي : بما لنا من العظمة قطعاً يتلاشى عنده كل قطع ﴿ منه الوتين ﴾ أي : نياط القلب وهو يتصل من الرأس إذا انقطع مات صاحبه، قال أبو زيد : وجمعه الوتن وثلاثة أوتنة والموتون الذي قطع وتينه. وقال الكلبي : هو عرق بين العلباء والحلقوم وهما علباوان بينهما العرق والعلباء عصب العنق، وقيل : عرق غليظ تصادفه شفرة الناحر، وقال مجاهد رضي الله عنه : هو حبل القلب الذي في الظهر وهو النخاع، فإذا انقطع بطلت القوى ومات صاحبه.
وقال محمد بن كعب رضي الله عنه : إنه القلب ومراقه وما يليه، وقال عكرمة رضي الله عنه : إن الوتين إذا قطع، لا إن جاع عرف ولا إن شبع عرف، وقيل : الوتين من مجمع الوركين إلى مجمع الصدر بين الترقوتين، ثم تنقسم منه سائر العروق إلى سائر الجسد، ولا يمكن في العادة الحياة بعد قطعه. وقال ابن قتيبة : لم يرد أنا نقطعه بعينه بل المراد أنه لو كذب لأمتناه، فكان كمن قطع وتينه. ونظيره قوله صلى الله عليه وسلم «ما زالت أكلة خيبر تعاودني فهذا أوان انقطاع أبهري ». والأبهر : عرق متصل بالقلب، فإذا انقطع مات صاحبه فكأنه قال : هذا أوان يقتلني السم وحينئذ صرت كمن انقطع أبهره.
﴿ فما منكم ﴾ أي : أيها الناس، وأغرق في النفي فقال :﴿ من أحد عنه ﴾ أي : القتل ﴿ حاجزين ﴾ أي : لا يقدر أحد منكم أن يحجزه عن ذلك ويدفعه عنه، أي : الرسول صلى الله عليه وسلم أي : لا تقدرون أن تحجزوا عنه القاتل وتحولوا بينه وبينه.
تنبيه :﴿ من أحد ﴾ اسم ما ومن زائدة لتأكيد النفي، ومنكم حال من أحد وعنه حاجزين خبر ما وجمع لأن أحداً في سياق النفي بمعنى الجمع وضمير عنه للقتل أو النبي كما مرّ.
﴿ وإنه ﴾ أي : القرآن ﴿ لتذكرة للمتقين ﴾ أي : لأنهم المنتفعون به لإقبالهم عليه إقبال مستفيد.
﴿ وإنا ﴾ أي : بمالنا من العظمة ﴿ لنعلم ﴾ أي : علماً عظيماً محيطاً ﴿ أن منكم ﴾ أي : أيها الناس ﴿ مكذبين ﴾ بالقرآن ومصدقين، فأنزلنا الكتب وأرسلنا الرسل لنظهر منكم إلى عالم الشهادة ما كنا نعلم في الأزل غيباً من تكذيب وتصديق فتستحقون بذلك الثواب والعقاب، فلذلك وجب في الحكمة أن نعيد الخلق إلى ما كانوا عليه من أجسامهم قبل الموت لنحكم بينهم فنجازي كلاً بما يليق به إظهاراً للعدل.
﴿ وإنه ﴾ أي : القرآن ﴿ لحسرة ﴾ أي : ندامة ﴿ على الكافرين ﴾ أي : إذا رأوا ثواب المصدقين وعقاب المكذبين به.
﴿ وإنه ﴾ أي : القرآن أو الجزاء يوم الجزاء ﴿ لحق اليقين ﴾ أي : الأمر الثابت الذي لا يقبل الشك فهو يقين مؤكد بالحق من إضافة الصفة إلى الموصوف وهو فوق علم اليقين. وقال ابن عباس رضي الله عنهما : إنما هو كقولك عين اليقين ومحض اليقين.
﴿ فسبح ﴾ أي : أوقع التنزيه الكامل عن كل شائبة نقص ﴿ باسم ﴾ أي : بسبب عملك بصفات ﴿ ربك ﴾ أي : الموجد والمربي لك والمحسن إليك بأنواع الإحسان ﴿ العظيم ﴾ أي : الذي ملأت الأقطار كلها عظمته وزادت على ذلك بما شاءه سبحانه مما لا تسعه العقول، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : أي : فصلّ لربك العظيم.
Icon