تفسير سورة فصّلت

فتح الرحمن في تفسير القرآن
تفسير سورة سورة فصلت من كتاب فتح الرحمن في تفسير القرآن المعروف بـفتح الرحمن في تفسير القرآن .
لمؤلفه مجير الدين العُلَيْمي . المتوفي سنة 928 هـ

سُوْرَةُ فُصِّلَتْ
وتسمى: المصابيح، وهي مكية بإجماع من المفسرين، وآيها: أربع وخمسون آية، وحروفها: ثلاثة آلاف وثلاث مئة وخمسون حرفًا، وكلمها: سبع مئة وست وسبعون كلمة.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿حم (١)﴾.
[١] ﴿حم﴾ تقدّم الكلام في مذاهب القراء، وتفسير (حم) أول سورة غافر، فعلى القول المتقدم بأن (حم) اسم للسورة، يكون مبتدأ.
* * *
﴿تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (٢)﴾.
[٢] خبره ﴿تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ صفتا رجاء ورحمة لله.
* * *
﴿كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣)﴾.
[٣] ﴿كِتَابٌ﴾ بدل من (تَنْزِيلٌ)، أو خبر بعد خبر ﴿فُصِّلَتْ﴾ بُينت.
﴿آيَاتُهُ﴾ بالأحكام والقصص والمواعظ.
﴿قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾ نصب على الاختصاص والمدح؛ أي: أريد بهذا الكتاب المفصل قرآنًا من صفته كيت وكيت.
﴿لِقَوْمٍ﴾ عرب ﴿يَعْلَمُونَ﴾ أنّه منزل (١) بلغتهم فيفهمونه.
* * *
﴿بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (٤)﴾.
[٤] ﴿بَشِيرًا﴾ للعالمين به ﴿وَنَذِيرًا﴾ للمخالفين له، وهما نعتان للقرآن.
﴿فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ﴾ عن قبوله.
﴿فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ﴾ السماعَ النافعَ الّذي يُعتد به سمعًا.
* * *
﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (٥)﴾.
[٥] ﴿وَقَالُوا﴾ يعني: المشركين.
﴿قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ﴾ أغطية، جمع كِنان.
﴿مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ﴾ فلا نفقه ما تقول.
﴿وَفِي آذَانِنَا﴾ ثقل (٢)، فلا نسمع ما تقول، وإنّما قالوا ذلك، لِيُؤْيِسُوه من قبولهم لدينه، وهو على التمثيل. قرأ الدوري عن الكسائي: (آذَانِنَا) و (آذَانِهِمْ) بإمالة فتحة الذال حيث وقع (٣).
* * *
(١) في "ت": "نزل".
(٢) "ثقل" زيادة من "ت".
(٣) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٨٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ٦٣).
﴿وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ﴾ أي: خلاف في الدِّين، فلا نلتفت إلى إنذارك، ولا نؤمن بك ﴿فَاعْمَلْ﴾ يا محمّد في هلاكنا ﴿إِنَّنَا عَامِلُونَ﴾ في مثل ذلك، وقيل: فاعمل أنت على دينك، إننا عاملون على ديننا.
* * *
﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ (٦)﴾.
[٦] ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ﴾ ملكًا ولا جنيًّا.
﴿يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ ولولا الوحي ما دعوتكم.
﴿فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ﴾ تعالي، أي: توجهوا إليه بالطاعة، ولا تعدلوا عنه إلى عبادة غيره ﴿وَاسْتَغْفِرُوهُ﴾ من ذنوبكم ﴿وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ﴾.
* * *
﴿الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (٧)﴾.
[٧] صفتهم ﴿الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ﴾ لا يقولون: لا إله إِلَّا الله، وهي زكاة الأنفس، فلا يطهرون أنفسهم من الشرك بالتوحيد.
﴿وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ﴾ وأعاد الضمير في قوله: (هم) تأكيدًا.
* * *
﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٨)﴾.
[٨] ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾ لا (١) مقطوع ولا منقوص.
(١) "لا": ساقطة من "ت".
﴿قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (٩)﴾.
[٩] ﴿قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ﴾ الأحد والإثنين.
قرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وأبو جعفر، ورويس عن يعقوب: (أَئِنَّكمْ) بتحقيق الهمزة الأولى وتسهيل الثّانية بين الهمزة والياء، وفصل بين الهمزتين بألف: أبو عمرو، وأبو جعفر، وقالون، واختلف عن هشام، وقرأ الكوفيون، وابن عامر، وروح عن يعقوب: بتحقيق الهمزتين (١) ﴿وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا﴾ أشباهًا وأمثالًا.
﴿ذَلِكَ﴾ خالق الأرض ﴿رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ الّذي خلق جميع الموجودات.
* * *
﴿وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (١٠)﴾.
[١٠] ﴿وَجَعَلَ فِيهَا﴾ أي: في الأرض.
﴿رَوَاسِيَ﴾ أي: جبالًا (٢) ثوابت.
﴿مِنْ فَوْقِهَا﴾ من فوق الأرض مرتفعة عليها ﴿وَبَارَكَ فِيهَا﴾ بما خلق من المياه والزروع والضروع ﴿وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا﴾ أي: قسم في الأرض الأرزاق
(١) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (١/ ٣٧٠)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٨٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ٦٤).
(٢) "جبالًا" زيادة من "ت".
بقدر الحاجة ﴿فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ﴾ أي: تتمّة أربعة أيّام، المعنى: خلق الأرض في يومين: الأحد والإثنين، وقدر الأقوات في الثلاثاء والأربعاء، فهما مع اليومين المتقدمين أربعة أيّام ﴿سَوَاءً﴾ قرأ أبو جعفر، (سَوَاءٌ) بالرفع على الابتداء؛ أي: هي سواء، وقرأ يعقوب: (سَوَاءٍ) بالكسر صفة لأيام، وقرأ الباقون: بالنصب على المصدر (١)؛ أي: استوت سواء واستواء، ومعناه: سواء ﴿لِلسَّائِلِينَ﴾ عن خلقها بما فيها.
* * *
﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (١١)﴾.
[١١] ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ﴾ عمد إلى خلقها.
﴿وَهِيَ دُخَانٌ﴾ روي أن العرش كان قبل خلق السَّماء والأرض على الماء، فارتفع من ذلك الماء بخار فسمي دخانًا، فأيبس الله تعالى الماء فجعله أرضًا، ثمّ فتقها أرضين، ثمّ خلق من ذلك البخار السماءَ.
﴿فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا﴾ أي: كونا كما أردتُ.
﴿طَوْعًا أَوْ كَرْهًا﴾ مصدران في موضع الحال.
قال ابن عبّاس: "قال تعالى للسماء: أخرجي شمسك ونجومك، وللأرض: شقي أنهارك وأخرجي ثمرك ونباتك، فإن فعلتما ذلك طوعًا، وإلا ألجأتكما أن تفعلاه كرهًا" (٢).
(١) انظر: "تفسير البغوي" (٣/ ٥٩)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٦٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ٦٤ - ٦٥).
(٢) رواه الحاكم في "المستدرك" (٧٣)، وعزاه السيوطيّ في "الدر المنثور" =
﴿قَالَتَا أَتَيْنَا﴾ بمن فينا ﴿طَائِعِينَ﴾ هو حال.
* * *
﴿فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (١٢)﴾.
[١٢] فلما وصفهما بالقول، أجراهما في الجمع مجرى من يعقل ﴿فَقَضَاهُنَّ﴾ أتمهن؛ يعني: السموات ﴿سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ﴾ الخميس والجمعة، وفرغ منها في آخر ساعة منه، وفيها -أي: تلك السّاعة- خلق آدم، وفيها تقوم السّاعة، وسمي بالجمعة؛ لاجتماع المخلوقات فيه، وتكاملها، ولما لم يخلق الله تعالى يوم السبت شيئًا، امتنع بنو إسرائيل من الشغل فيه.
قال ابن عطية (١): والظاهر من القصص في طينة آدم: أن الجمعة الّتي خلق فيها آدم قد تقدمتها أيّام وجمع كثيرة، وأن هذه الأيَّام الّتي خلق الله فيها المخلوقات هي أول الأيَّام؛ لأنّ بإيجاد الأرض والسماء والشمس والقمر وجد اليوم ﴿وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا﴾ أي: ما أمر به فيها.
﴿وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ﴾ كواكب ﴿وَحِفْظًا﴾ نصب بمصدر محذوف؛ أي: وحفظناها حفظًا من استراق السمع والشهب الصادرة عن الكواكب.
﴿ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾ البالغ في القدرة والعلم.
= (٧/ ٣١٦) إلى ابن المنذر، والبيهقي في "الأسماء والصفات".
(١) في "المحرر الوجيز" (٥/ ٥).
﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (١٣)﴾.
[١٣] ﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا﴾ كفار مكّة عما جئتهم به ﴿فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ﴾ خوفتكم.
﴿صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ﴾ لأنكم تمرون على آثارهم إذا سافرتم إلى الشّام، والصاعقة: المهلكة من كلّ شيء.
* * *
﴿إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (١٤)﴾.
[١٤] ﴿إِذْ جَاءَتْهُمُ﴾ ظرف لـ (أَنْذَرْتُكُمْ)؛ أي: إنَّ كذبتم، يحل بكم ما حل بهم حين جاءتهم ﴿الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ﴾ أي: من كلّ جانب ﴿أَلَّا﴾ أي: بأن لا ﴿تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ﴾.
فثَمَّ ﴿قَالُوا﴾ استخفافًا برسلهم: ﴿لَوْ شَاءَ رَبُّنَا﴾ هدايتَنا ﴿لأَنْزَلَ﴾ بدلَ هؤلاء الرسل ﴿مَلَائِكَةً﴾ فآمنا بهم.
﴿فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ﴾ لأنكم بشر مثلنا، لا مزية لكم علينا.
لطيفة (١):
روي أن عتبة بن ربيعة قال لقريش: أنا أستخبر لكم محمدًا، وكان قد قرأ الكتب، وتعلم الكتابة والكهانة، فجاء إلى النّبيّ - ﷺ -، فقال: أنت يا محمّد خير أم هاشم؟ أنت خير أم عبد المطلب؟ أنت خير أم عبد الله؟ تشتم آلهتنا وتضللنا، فإن كنت تريد الرياسة، عقدنا لك اللواء، فكنت
(١) "لطيفة" ساقطة من "ت".
رئيسنا، وإن تك بك الباءة، زوجناك عشر نسوة، تختار من أي بنات قريش شئت، وإن كان بك حب المال، جمعنا لك ما تستغني به، ورسول الله - ﷺ - ساكت، فلما فرغ قال: "بسم الله الرّحمن الرحيم، وقرأ عليه النّبيّ - ﷺ - هذه السورة، ومر في صدرها حتّى انتهى إلى قوله: ﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ﴾ فوثب عتبة، ووضع يده على فم النّبيّ - ﷺ -، وناشده الله أن يسكت، فسكت، وانصرف عنه، فأخبرهم أنّه سمع ما لا يشبه كهانة ولا شعرًا ولا سحرًا، قال: ولقد ظننت أن صاعقة العذاب على رأسي (١).
* * *
﴿فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (١٥)﴾.
[١٥] ﴿فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا﴾ تعظَّموا ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ بأن استولوا عليها، وأخذوها من أهلها ﴿بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ ظلمًا ﴿وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً﴾ نحن ندفعه إذا نزل بنا، وكانوا ذوي أجسام طوال، فكان أحدهم يقتلع الصخرة العظيمة من الجبل يجعلها حيث شاء، قال الله ردًّا عليهم:
﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ﴾ ينكرونها، وهم يعرفون أنّها حق.
(١) انظر: "تفسير البغوي" (٤/ ٦٠ - ٦١). وقد رواه أبو نعيم في "دلائل النبوة" (ص: ٢٢١)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (٣٨/ ٢٤٢)، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. وانظر: "تخريج أحاديث الكشاف" للزيلعي (٣/ ٢٢٧).
﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (١٦)﴾.
[١٦] ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا﴾ عاصفة شديدة الصوت، تُحرق ببردها كحرق النّار بحرها ﴿فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ﴾ قرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب: (نَحْسَاتٍ) بإسكان الحاء، والباقون: بكسرها (١)؛ أي: نكدات مشؤومات، فأمسك عنهم المطر ثلاث سنين، ودأبت عليهم الريح بلا مطر.
﴿لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ﴾ الذل ﴿فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ وصف العذاب بالخزي؛ لأنّه حيث حل، حل الخزي معه.
﴿وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى﴾ أشد ﴿وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ﴾ بدفع العذاب عنهم.
* * *
﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (١٧)﴾.
[١٧] ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ﴾ بينا لهم سبيل الهدى.
﴿فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى﴾ الكفر.
﴿عَلَى الْهُدَى﴾ الإيمان.
(١) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٩٣)، و"تفسير البغوي" (٤/ ٦٢)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٦٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ٦٦ - ٦٧).
﴿فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ﴾ الّذي يُهينهم.
﴿بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ من اختيار الكفر.
* * *
﴿وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (١٨)﴾
[١٨] ﴿وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾ قرن تعالى بذكرهم ذكرَ من آمن واتقى، ونجاته؛ ليبين الفرق.
* * *
﴿يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٩)﴾.
[١٩] ﴿وَيَوْمَ﴾ أي: واذكر يوم ﴿يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ﴾ يُجمعون ﴿إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ﴾ يُحبس أولُهم على آخرهم. قرأ نافع، ويعقوب: (نَحْشُرُ) بالنون وفتحها وضم الشين (أَعْدَاءَ) بالنصب، وقرأ الباقون: بالياء وضمها وفتح الشين، ورفع (أَعْدَاءُ) على البناء للفاعل (١)، وهو الله سبحانه.
* * *
﴿حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٢٠)﴾.
[٢٠] ﴿حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا﴾ (ما) زاندة لتأكيد اتصال الشّهادة بالحضور.
﴿شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ يُنطقها الله تعالى كإنطاق اللسان، فتشهد بما صدر منها.
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٥٧٦)، و"التيسير" للداني (ص: ١٩٣)، و"تفسير البغوي" (٤/ ٦٣)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٦٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ٦٩).
﴿وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢١)﴾.
[٢١] ﴿وَقَالُوا﴾ أي: الكفار ﴿لِجُلُودِهِمْ﴾ توبيخًا لهم:
﴿لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا﴾ فعنكن كنا نناضل؟
﴿قَالُوا﴾ معتذرين: ﴿أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ له النطق.
﴿وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ قرأ يعقوب: (تَرْجِعُونَ) بفتح التاء وكسر الجيم، والباقون: بضم التاء وفتح الجيم (١).
* * *
﴿وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢٢)﴾.
[٢٢] فأخبر الله تعالى: أن الجلود ترد جوابهم؛ بأن الله الخالق المبدئ المعيد هو الّذي أنطقهم ﴿وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ﴾ بالحُجب عن ارتكاب الفواحش ﴿أَنْ﴾ أي: لأنّ.
﴿يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ﴾ المعنى: لم تستتروا عند ارتكاب الفاحشة خوفَ شهادة جوارحكم عليكم؛ لأنكم لم توقنوا بالبعث.
﴿وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ﴾ عند استتاركم.
﴿أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ﴾ من الخفيات.
* * *
(١) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٠٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ٧٠).
﴿وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٢٣)﴾.
[٢٣] ﴿وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ﴾ أهلككم ﴿فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾.
* * *
﴿فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (٢٤)﴾.
[٢٤] ثمّ أخبر الله تعالى عن حالهم فقال: ﴿فَإِنْ يَصْبِرُوا﴾ على العذاب.
﴿فَالنَّارُ مَثْوًى﴾ منزل ﴿لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا﴾ يطلبوا العتبى، وهي الرجوعُ عن الإساءة، وطلبُ الرضا ﴿فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ﴾ المجابين.
* * *
﴿وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (٢٥)﴾.
[٢٥] ﴿وَقَيَّضْنَا﴾ بعثنا ﴿لَهُمْ﴾.
ووكلنا ﴿قُرَنَاءَ﴾ نُظَراء من الشّياطين.
﴿فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ﴾ من أمر الدنيا، وما تقدّم من أعمالهم.
﴿وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ من أمر الآخرة بقولهم: لا بعث ولا حساب، وما هم عازمون عليه من الأعمال.
﴿وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ﴾ بالعذاب ﴿فِي أُمَمٍ﴾ في جملة أمم (١).
﴿فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا﴾ أي: جميع المذكورين ﴿خَاسِرِينَ﴾ تعليل لاستحقاقهم العذاب.
* * *
﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (٢٦)﴾.
[٢٦] ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ حين قراءته - ﷺ -: ﴿لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ﴾ عارضوه إذا قرئ بإكثار الصياح بالهذيان والخرافات، وإنشاد الأشعار، واللغو: هو الساقط من الكلام.
﴿لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ﴾ محمدًا على قراءته، فيسكت.
* * *
﴿فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (٢٧)﴾.
[٢٧] ﴿فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا﴾ النّار.
﴿وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ أقبح جزاء عملهم.
* * *
﴿ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (٢٨)﴾.
[٢٨] ﴿ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ﴾ عطف بيان لجزاء قبل. واختلاف
(١) "في جملة أمم" زيادة من (ت).
القراء في الهمزتين من ﴿جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ﴾ كاختلافهم فيهما من قوله: ﴿قَالَتْ يَاأَيُّهَا الْمَلأُ﴾ في سورة النمل [الآية: ٣٢] ﴿لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ﴾ الإقامة.
﴿جَزَاءً﴾ مصدر أو حال ﴿بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ﴾ ينكرون الحق.
* * *
﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (٢٩)﴾.
[٢٩] ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وهم في النّار: ﴿رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ﴾ يعنون: إبليس، وقابيل بن آدم الّذي قتل أخاه؛ لأنّهما سنا الكفر والمعصية. قرأ ابن كثير، وابن عامر، ويعقوب، وأبو بكر عن عاصم، والسوسي عن أبي عمرو: (أَرْنَا) بإسكان الراء، وروي عن الدوري: اختلاس كسرتها، وقرأ الباقون: بكسر (١) الراء، وكلها لغات بمعنى الرؤية (٢)، وقرأ ابن كثير: (الَّذَيْنِّ) بتشديد النون والمد وتمكين الياء لالتقاء الساكنين، والباقون: بالتخفيف (٣).
﴿نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا﴾ في النّار ﴿لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ﴾ فيها جزاء إضلالهم إيانا.
(١) في "ت": "بإسكان"، وهو خطأ.
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٥٧٦)، و"التيسير" للداني (ص: ١٩٣)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٢٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ٧١).
(٣) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٨١)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ٧٢).
﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٣٠)﴾.
[٣٠] ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾ على قولهم، فلم يختل توحيدهم، ولا اضطرب إيمانهم ﴿تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ﴾ عند الموت بالبشرى ﴿أَلَّا﴾ أي: بأن لا ﴿تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا﴾ أَمَنَةٌ عامة في كلّ مهم مستأنف، وتسليةٌ عامة في كلّ فائت ماض، والخوف: غم يلحق لتوقع المكروه، والحزن: غم يلحق لوقوعه؛ من فوات نافع، أو حصول ضار، والمعنى: أن الله كتب لكم الأمن من كلّ غم، فلن تذوقوه أبدًا.
﴿وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾ في الدنيا على لسان الرسل.
﴿نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (٣١)﴾.
[٣١] ﴿نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ﴾ يعني: حفظتكم.
﴿فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ﴾ لا نفارقكم حتّى تدخلوا الجنَّة.
﴿وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ﴾ من الكرامات (١).
﴿وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ﴾ تتمنون.
* * *
﴿نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (٣٢)﴾.
[٣٢] ﴿نُزُلًا﴾ رزقًا، ونصبه على المصدر ﴿مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ﴾.
(١) في "ت": "المكرمات".
﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٣)﴾.
[٣٣] ونزل فيه - ﷺ -: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ﴾ إلى توحيده.
﴿وَعَمِلَ صَالِحًا﴾ فيما بينه وبين ربه، وبينه وبين العباد.
﴿وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ معتقدًا ذلك.
* * *
﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (٣٤)﴾.
[٣٤] ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ﴾ فالحسنة أفضل، وكرر (لا) في قوله (ولا السَّيِّئَةُ) تأكيدًا؛ ليدلُّ على أن المراد: ولا تستوي الحسنة والسيئة، ولا السيئة والحسنة، فحذفتا اختصارًا، ودلت (لا) على هذا الحذف.
﴿دْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ آية جمعت مكارمَ الأخلاق وأنواعَ الحكم، المعنى: ادفع أمورك وما يعرضك مع النَّاس ومخالطتك لهم بالفعلة أو بالسيرة الّتي هي أحسن الفعلات والسير، فمن ذلك: بذل السّلام، وحسن الأدب، وكظم الغيظ، والسماحة في القضاء والاقتضاء، وغيره.
﴿فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ المعنى: إذا فعلت ذلك، صار العدو كالصديق القريب في محبته.
روي أنّها نزلت في أبي سفيان بن حرب، وذلك أنّه لأنَّ للمسلمين بعد شدة عداوته بالمصاهرة الّتي حصلت بينه وبين النّبيّ - ﷺ -، ثمّ
أسلم (١) فصار وليًّا بالإسلام، حميمًا بالقرابة، أو نزلت في شأن أبي جهل وإيذائه رسول الله (٢) - ﷺ -، فأمر بالصفح عنه، ونسختها آية القتال (٣).
* * *
﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٣٥)﴾.
[٣٥] ﴿وَمَا يُلَقَّاهَا﴾ أي: هذه الخصلة.
﴿إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا﴾ على كظم الغيظ.
﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ في الخير والثواب.
* * *
﴿وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٦)﴾.
[٣٦] ﴿وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ﴾ (إِمَّا) شرط، وجواب الشرط قوله: ﴿فَاسْتَعِذْ﴾ والنزغ شبهُ النخس، وهو الوسوسة، فكان الشيطان (٤) ينخس الإنسان، ويحركه، ويبعثه على ما لا يحل، المعنى: إنْ صرفك الشيطان بوسوسته عن الخير، فاستعذ ﴿بِاللَّهِ﴾ منه، وهو يعصمك.
﴿إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ﴾ لاستعاذتك ﴿الْعَلِيمُ﴾ بنيتك.
* * *
(١) "ثمّ أسلم" زيادة من "ت".
(٢) في "ت": "الرسول".
(٣) انظر: "تفسير البغوي" (٤/ ٦٧)، و"تفسير القرطبي" (١٥/ ٣٦٢).
(٤) "فكان الشيطان" زيادة من "ت".
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (٣٧)﴾.
[٣٧] ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ﴾ لأنّهما مخلوقان مثلكم.
﴿وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ﴾ الضمير للأربعة المذكورة، وأُنث؛ لأنّها آيات.
﴿إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ فإن السجود أخص العبادات، وهذا محل السجدة عند الإمام مالك رضي الله عنه.
* * *
﴿فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (٣٨)﴾.
[٣٨] ﴿فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا﴾ عن امتثال أمرك في ترك السجود لغير الله سبحانه.
﴿فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ﴾ من الملائكة.
﴿يُسَبِّحُونَ﴾ يصلون ﴿لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ دائمًا.
﴿وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ﴾ لا يملون، وهذا محل السجدة عند أبي حنيفة والشّافعيّ وأحمد -رضي الله عنهم-، وكل من الأئمة على أصله في السجود، فأبو حنيفة هو واجب، ومالك هو فضيلة، والشّافعيّ وأحمد هو
سنة، وتقدم ذكر اختلافهم ملخصًا (١) عند سجدة مريم.
* * *
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩)﴾.
[٣٩] ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ﴾ دلائل قدرته.
﴿أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً﴾ يابسة لا نبات فيها.
﴿فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ﴾ انتفخت بالنبات، وتزخرفت.
﴿وَرَبَتْ﴾ زادت. قرأ أبو جعفر: (وَرَبَأَتْ) بهمزة مفتوحة بعد الباء، والباقون: بحذفها (٢).
﴿إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا﴾ بعد موتها.
﴿لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ من الإحياء والإماتة.
* * *
﴿إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤٠)﴾.
[٤٠] ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ﴾ يميلون ﴿فِي آيَاتِنَا﴾ بالطعن فيها. قرأ حمزة: (يَلْحَدُونَ) بفتح الياء والحاء، والباقون: بضم الياء وكسر الحاء (٣).
(١) "ملخصًا" ساقطة من "ت".
(٢) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٢٥)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ٧٣ - ٧٤).
(٣) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١١٤)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٨١)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ٧٤).
﴿لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا﴾ فنجازيهم على إلحادهم، ونزل استفهامًا وعيدًا ووعدًا:
﴿أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ﴾ أمر تهديد ووعيد.
﴿إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ فيجازيكم به.
* * *
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (٤١)﴾.
[٤١] ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ﴾ بالقرآن ﴿لَمَّا جَاءَهُمْ﴾ وجواب (إن) محذوف؛ أي: خسروا، ثمّ وصف الذكر فقال:
﴿وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ﴾ كريم على الله.
* * *
﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (٤٢)﴾.
[٤٢] ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ﴾ أي: ليس فيما تقدمه من الكتب ما يبطل شيئًا منه، وليس فيما (١) بعده من نظر ناظر وفكرة عاقل ما يبطل شيئًا منه، ولا يتطرق إليه ما يبطله من جهة ما، ولا يجد إليه سبيلًا.
وهو ﴿تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ يحمده كلّ مخلوق.
* * *
(١) في "ت": "يأتي".
﴿مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (٤٣)﴾.
[٤٣] ﴿مَا يُقَالُ لَكَ﴾ يا محمّد؛ من التكذيب ﴿إِلَّا﴾ مثل.
﴿مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ﴾ من التكذيب ﴿مِنْ قَبْلِكَ﴾ وهو تسلية له - ﷺ - عن مقالات قومه، وما يلقى من المكروه منهم.
﴿إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ﴾ لأوليائه ﴿وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ﴾ لأعدائه.
* * *
﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (٤٤)﴾.
[٤٤] ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ﴾ أي: هذا الكتاب الّذي يُقرأ على النَّاس.
﴿قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا﴾ يُقرأ بغير لغة العرب.
﴿لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ﴾ هَلَّا بُينت ﴿آيَاتُهُ﴾ بالعربيّة.
﴿أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ﴾ الهمزة للإنكار، المعنى: لأنكروا، وقالوا: قرآن أعجمي، ورسول عربي؟ والأعجمي -بسكون العين-: من لا يفصح، وإن كان عربيًّا، وليست نسبة حقيقة، إنّما هي توكيد لمعنى الصِّفَة؛ كأحمريّ في أحمر. قرأ قنبل عن ابن كثير، وهشام عن ابن عامر، ورويس عن يعقوب باختلاف عنهم: (أَعْجَمِيٌّ) بهمزة واحدة على الخبر، وقرأ الباقون: بهمزتين على الاستفهام، فحمزة، والكسائي، وخلف، وأبو بكر عن عاصم، وروح عن يعقوب: يحققون الهمزتين، والباقون: يحققون
الأولى، ويسهلون الثّانية بين الهمزة والألف، وهم على أصولهم، فورش اختلف عنه في إبدالها ألفًا خالصة، وتسهيلها بين بين، وأبو عمرو، وأبو جعفر، وقالون: يفصلون بين الهمزتين بألف، واختلف عن هشام في تسهيلها وتحقيقها وإدخال الألف بينهما مع تحقيقهما، وروي عن ابن ذكوان وحفص: إدخال الألف بين الهمزتين مع تحقيقهما (١) ﴿قُلْ هُوَ﴾ أي: القرآن.
﴿لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى﴾ من الضلالة.
﴿وَشِفَاءٌ﴾ لما في القلوب من الشكوك.
﴿وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ هو (٢) ﴿فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ﴾ صمم.
﴿وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى﴾ وذلك لتصامِّهم عند سماعه، وتعاميهم عما يرون من آياته، ولما كانوا لا يعون ما يسمعون من القرآن، قال:
﴿أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ﴾ تمثيل لهم في عدم قبولهم واستماعهم له بمن يُنادَى من بعد، لم يسمع، ولم يفهم.
* * *
﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (٤٥)﴾.
[٤٥] ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ﴾ كما اختُلف في القرآن، فصدقه قوم، وكذبه آخرون.
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٥٧٦ - ٥٧٧)، و"التيسير" للداني (ص: ١٩٣)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٦٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ٧٥ - ٧٦).
(٢) "هو" زيادة من "ت".
﴿وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ﴾ بأن يفصل يوم القيامة بين الخلائق، والكلمة: ﴿بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ﴾ [القمر: ٤٦].
﴿لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ﴾ بتعجيل إهلاك المكذبين.
﴿وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ﴾ من صدقك.
﴿مُرِيبٍ﴾ موقع للريبة.
* * *
﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (٤٦)﴾.
[٤٦] ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ﴾ نفعُه ﴿وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا﴾ ضرُّه.
﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ فلا يضع شيئًا من عقوبات عبيده في غير موضعها، بل هو العادل المتفضل الّذي يجازي كلّ عبد بكسبه.
* * *
﴿إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (٤٧)﴾.
[٤٧] ﴿إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ﴾ متى تكون، لا يعلمه غيره تعالى.
﴿وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ﴾ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب، وحمزة، والكسائي، وخلف، وأبو بكر عن عاصم: (ثَمَرَةٍ) بغير ألف على التّوحيد، وقرأ الباقون: بألف بعد الراء على الجمع (١)؛ لاختلاف الأنواع
(١) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٩٤)، و"تفسير البغوي" (٤/ ٧١)، و"النشر في =
﴿مِنْ أَكْمَامِهَا﴾ جمع كِمّ، وهو وعاء الثمر.
﴿وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ﴾ أي: ما يحدث حدوثٌ؛ من خروج ثمرٍ، وحملِ حاملٍ ووضعِه، وغيرِ ذلك.
﴿إِلَّا بِعِلْمِهِ﴾ فيعلمه تعالى على أي وصف وجد.
﴿وَيَوْمَ﴾ القيامة ﴿يُنَادِيهِمْ﴾ أي: الكفار ﴿أَيْنَ شُرَكَائِي﴾ بزعمكم.
﴿قَالُوا آذَنَّاكَ﴾ أعلمناك ﴿مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ﴾ أي: شاهد يشهد بأن لك شريكًا، لما عاينوا العذاب. قرأ ابن كثير: (شُرَكَائِيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (١).
* * *
﴿وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٤٨)﴾.
[٤٨] ﴿وَضَلَّ عَنْهُمْ﴾ ثَمَّ ﴿مَا كَانُوا يَدْعُونَ﴾ يعبدون.
﴿مِنْ قَبْلُ﴾ في الدنيا من الأصنام.
﴿وَظَنُّوا﴾ أيقنوا ﴿مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ﴾ مهرب.
* * *
﴿لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (٤٩)﴾.
[٤٩] ﴿لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ﴾ لا يمل الكافر.
﴿مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ﴾ من طلب السعة في المال.
= القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٦٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ٧٧).
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٥٧٨)، و"التيسير" للداني (ص: ١٩٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ٧٨).
﴿وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ﴾ الفقر والشدة.
﴿فَيَئُوسٌ﴾ من فضل الله ﴿قَنُوطٌ﴾ قاطع الرجاء من رحمته.
* * *
﴿وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (٥٠)﴾.
[٥٠] ﴿وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ﴾ آتيناه ﴿رَحْمَةً﴾ سعة وعافية.
﴿مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي﴾ أي: بعملي. قرأ أبو عمرو: (مِنْ بَعْد ضَّرَّاءَ) بإدغام الدال في الضاد (١).
﴿وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً﴾ كزعم محمّد.
﴿وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي﴾ فرضًا. قرأ نافع، وأبو جعفر، وأبو عمرو: (رَبِّيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها، واختلف عن قالون (٢).
﴿إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى﴾ الجنَّة، يقول ذلك استهزاء.
﴿فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا﴾ من الأعمال الموجبة لهم النّار.
﴿وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ﴾ شديد.
* * *
(١) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٣٤٦)، و"معجم القراءات القرآنيّة" (٦/ ٧٨).
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٥٧٨)، و"التيسير" للداني (ص: ١٩٤)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٦٧)، و"معجم القراءات القرآنيّة" (٦/ ٧٨).
﴿وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (٥١)﴾.
[٥١] ﴿وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ﴾ عن شكره تعالى.
﴿وَنَأَى بِجَانِبِهِ﴾ بَعُدَ، ولم يملْ إلى شكر ولا طاعة. قرأ أبو جعفر، وابن ذكوان عن ابن عامر: (وَنَاءَ) بألف قبل الهمز مثل وناع؛ من النوء، وهو النهوض والقيام، والباقون: بألف بعد الهمزة، [وأمال الكسائي، وخلف لنفسه وعن حمزة فتحة النون والهمزة] (١)، وأمال السوسي عن أبي عمرو بخلاف عنه، وخلاد عن حمزة فتحَ الهمزة فقط، وفتحا النون، وقرأ الباقون: بفتح النون والهمزة على وزن نَعَى (٢).
﴿وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ﴾ كثير، والعرب تستعمل الطول والعرض في الكثرة، فيقال: أطال فلان الكلام والدعاء، وأعرض؛ أي: أكثر.
* * *
﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (٥٢)﴾.
[٥٢] ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ﴾ أخبروني ﴿إِنْ كَانَ﴾ القرآن.
(١) ما بين معكوفتين سقط من "ت".
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٥٧٧)، و"التيسير" للداني (ص: ١٤١)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٤٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ٧٩).
﴿مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ﴾ عنادًا، ألستم على هلكة من قبل الله.
﴿مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ﴾ عن الحق؛ أي: فلا أحد أضل منكم؛ لأنكم أهلكتم أنفسكم بتكذيبه.
* * *
﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٥٣)﴾.
[٥٣] ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ﴾ يعني وقائع الله في الأمم، وما يفتحه الله (١) على رسوله - ﷺ - من الأقطار حول مكّة وغير ذلك من الأرض؛ كخيبر، وقهر العرب والعجم.
﴿وَفِي أَنْفُسِهِمْ﴾ يوم بدر، وفتح مكّة.
﴿حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ أي: الشرع والقرآن.
﴿أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ مُطَّلع لا يغيب عنه شيء.
* * *
﴿أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (٥٤)﴾.
[٥٤] ﴿أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ﴾ في شك من البعث.
﴿أَلَا إِنَّهُ﴾ تعالى ﴿بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ﴾ علمًا وقدرةً، ومعناه الوعيد لهم، والله أعلم.
* * *
(١) لفظ الجلالة "الله" زيادة من "ت".
Icon