ﰡ
تفسير سورة القمر عدد ٣٧- ٥٤
نزلت بمكة بعد طارق، عدا الآيات ٤٤ و ٤٥ و ٤٦ فانها نزلت بالمدينة، وهي خمس وخمسون آية وثلاثمائة واثنتان وأربعون كلمة، والف وأربعمائة وثلاثة عشر حرفا، وتسمى سورة اقتربت ويوجد سورة الأنباء مبدوءة بلفظ اقترب ولا يوجد سورة مختومة بما ختمت به في القرآن.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى: «اقْتَرَبَتِ» وفي وقت «السَّاعَةُ» القيامة «وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ١» انشقاقا حقيقيا علامة على قربها ومعجزة لرسول الله، والسبب في نزول هذه الآية، أن قريشا سألت رسول الله أن يريهم آية دالة على صدقه في ادعاء النبوة، لأنهم لم يعتبروا بما نزل في القرآن الذي هو أعظم آية وأدومها ولم يكتفوا به فأراهم انشقاق القمر مرتين، أخرجه البخاري ومسلم عن أنس وزاد الترمذي: فنزلت هذه السورة أي عدا الآيات المدنيات. وقوله مرتين قيد للرؤية وتعددها لا يقتضي تعدد الانشقاق بأن يكون رآه منشقا، فصرف نظره عنه ثم أعاده فرآه كذلك لم يتغير. وفيه إشارة إلى أنها رؤية لا شبهة فيها. وقد فعل نحوه الكفرة لأنهم لما رأوه مسحوا أبصارهم ثم أعادوا النظر فلما رأوه لم يتغير قالوا ما هذا إلا سحر فلو قال أحد هؤلاء رأيته ثلاث مرات أو أكثر صح بلا غبار. قال الأبوصيري رحمه الله:شق عن صدره وشق له البدر | ومن شرط كل شرط جزاء |
فتعدد الرؤية لا يقتضي تعدد الانشقاق إذ لم يقل به أحد، وأخرجا عن ابن مسعود قال: انشق القمر على عهد رسول الله شقتين فقال صلّى الله عليه وسلم اشهدوا: وفي رواية قال: بينما نحن مع رسول الله إذ انفلق القمر فلقتين، فلقة فوق الجبل وفلقة أدناه فقال لنا صلّى الله عليه وسلم اشهدوا. ولا يعارض هذا ما صح عن أنس أن ذلك كان بمكة
وروى مسلم عن ابن عمر قال: انشق القمر على عهد رسول الله فلقتين فستر الجبل فلقة وكانت فلقة فوق الجبل، فقال صلّى الله عليه وسلم: اشهدوا. وعن جبير بن مطعم قال: انشق القمر على عهد رسول الله فصار فلقتين فقالت قريش سحر محمد أعيننا فقال بعضهم لئن كان سحرنا أما يستطيع أن يسحر الناس كلهم؟ أخرجه الترمذي، وزاد غيره: فكانوا يتلقون الركبان فيخبرونهم بأنهم قد رأوه فيكذبونهم.
وروى مسروق عن عبد الله بن مسعود قال: انشق القمر على عهد رسول الله فقالت قريش سحركم ابن أبي كبشة فسألوا السفارة فقالوا نعم رأيناه. وقال مقاتل انشق ثم التأم. فهذه الأحاديث مصدق بعضها لبعض وكلها صحاح، قد وردت في هذه المعجزة العظيمة مع شهادة القرآن بها الذي هو أول دليل وأقوى شاهد مثبت لوقوعها، ولا يشكّ فيها مؤمن، وقد أخبر بها الصادق المصدوق، وناهيك باخباره من برهان، فيجب الاعتقاد بوقوعه والإيمان به، وذلك في السنة السادسة من البعثة ولا يقدح في صحة الحديثين المرويين عن ابن عباس وأنس كونهما لم يولدا إذ ذاك لأنهما ثقتان ولا ينقلان إلا عن ثقة كما هو المشهور عنهما وأنهما لم يقولا رأيناه انشق ليقدح في رؤيتهما وإنما يخبران عن الانشقاق الذي بلغهم عن رسول الله وهما أصدق صادق فيما يخبران به، ولا يقال لو كان لما خفي على أهل الأقطار الأخر ولو رأوه لنقلوه متواترا لأن الطباع جبلت على نشر العجائب، إذ يجوز ان الله حجبه عنهم بغيم أو نحوه ولا سيما أنه وقع ليلا حال غفلة الناس لقلة من يتفكر في ملكوت السموات، وكثيرا ما يخسف القمر وتكسف الشمس ويحدث في السماء ليلا من العجائب والبدائع والأنوار والطوالع والشهب العظام، ولا يتحدث بها إلا آحاد الناس لغفلة الآخرين عنها، ولأنها قد تكون في موضع آخر، وكثيرا ما نقرأ الآن في الصحف على سبيل التواتر أن الشمس كسفت في محل كذا والقمر خسف في مكان كذا، ولم نر شيئا من ذلك في بلادنا، تأمل على أن الركبان
كافية في الانشاق وفي كل المعجزات الخارقة للعادة، ولو اشترط لكل حادث سبب لزم التسلسل، وقد قامت الأدلة على بطلانه، وكون الخرق يوجب صوتا هائلا ممنوع أيضا فيما نحن فيه، وكذلك التجاذب لأن الأجسام مختلفة من حيث الخواص فلا يلزم اتخاذ جرم القمر والأرض فيها ويمكن أن يكون إحدى القطعتين كالجبل العظيم بالنسبة إلى الأرض إذا ارتفع عنها تعاسر مثلا جذبته اليه إذا لم يخرج عن حد جذبتها على زعمهم. ويلتزم في تلك القطعة عدم الخروج عن حد الجذب. على أننا في غنى عن ذلك كله بعد اثبات الإمكان وشمول قدرة القادر عز وجل، وانكار هذا بحجة الخرق والالتئام تستوجب إنكار المعراج أيضا، تدبر ما يحوكه هؤلاء الفسقة المارقون، وأعلم أن غاية الحجة استبعاد هذا الأمر بدون دليل على الاستحالة الذاتية واستبعاد الخوارق جنون قد يؤدي إلى الكفر، إذ لا مجال للعقل فيها أما إنكار الانشقاق نفسه من حيث الكيفية والكمية فلا يكفر فيه لامكان التأويل في الآية فقط فظهر من هذا أنه لا مانع عقلا ولا حسا من أن الله تعالى خلق السرعة في الانشقاق والالتئام بمقدار ما رآه الناس وأمعنوا نظرهم فيه للتأكيد عن صحته مرتين أو أكثر أما ما قاله الحكماء من أن بين الشمس والأرض ثلاثمائة الف فرسخ وأربعين الف فرسخ وأن ضوء الشمس يصل إلى الأرض في ثماني دقائق وثلاث عشرة ثانية، وأن الضوء يقطع في كل ثانية سبعين الف فرسخ، ويستبعدون الانشقاق لهذا السبب، فيقال لهم: أن الذي خلق هذه السرعة في الشمس والضوء ألا يخلقها في الإنشقاق وهو الفعال لما يريد، وهل من مانع يمنعه من ذلك وهو على كل شيء قدير ولا شيء عليه بعزيز. هذا والمراد باقتراب الساعة المنوه به في
، لأن السحر لا يدوم وهو كذلك ولكنهم لما رأوا آيات الرسول متتابعة قالوا إن ما يأتي به سحر ولكنه مستمر «وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ» أخبار الأمم الماضية التي قصها عليهم والمعجزات التي أظهرها على أيدي رسلهم من غير آيات محمد «ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ ٤» منتهى الاتعاظ لو كانوا يؤمنون بمحمد وما أنزل عليه ولكنهم لم يتعظوا وأصل مزدجر مزتجر أبدلت التاء دالا لأنها حرف مهموس والزاي حرف مجهور فأبدل التاء المهموس بالدال المجهور ليتناسبا، وهكذا كل تاء من هذا القبيل ومعناه الزجر والمنع. واعلم أن هذا القرآن وحده «حِكْمَةٌ بالِغَةٌ» واصلة حد الإحكام في الوعظ فاذا لم ينتهوا به «فَما تُغْنِ النُّذُرُ ٥» أي الأنبياء والرسل بعد القرآن «فَتَوَلَّ» يا سيد الرسل «عَنْهُمْ» فانهم لم ينتفعوا بوعظك وإرشادك لأنهم بعد اعراضهم عن إنذار الله لا يغنيهم إنذارك شيئا فاتركهم واذكر لهم «يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ» إسرافيل عليه السلام ويناديهم ببوقه في النفخة الثانية من قبورهم يقول لهم هلموا «إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ ٦» فظيع هائل ينكرونه لعدم رؤيتهم مثله قبل وما قيل ان هذه الآية منسوخة لا قيمة له لأنه لم يؤمر بعد بقتالهم بل بإرشادهم تدريجا لأن الحكمة الإلهية اقتضت إنزال الشرائع تدريجا أمرا ونهيا ووعدا ووعيدا وإرشادا وانذارا وتبشيرا وتهديدا، وهكذا من المقدمات التي اقتضتها الحكمة الإلهية ليتعظ من يتعظ، وتحق الكلمة على المصر، وتظهر الحكمة فيمن يؤمن فيقومون من مدافنهم «خُشَّعاً» منصوب بالفعل بعده وفيه معنى الحال «أَبْصارُهُمْ» ذليلة خاضعة خائفة حين «يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ» القبور وما شابهها من مكامنهم وخص الأبصار مع أن كل الأعضاء ترجف وتختلج من شدة الهول، لانها علامة على الحزن والذلة للأشقياء، والفرح والعزة للسعداء، قال:
والعين تعرف من عيني محدثها | إن كان من حزبها أو من أعاديها |
على أمري الذي أمرتني به من جهة قومي ولا قدرة لي عليهم «فَانْتَصِرْ ١٠» لي بنصرك الذي وعدتنيه وانتقم لي منهم وذلك بعد إياسه من قبول دعوته وايحاء الله له بعدم إيمانهم، راجع الآية ٣٦ من سورة هود ج ٢، فأجاب دعاءه قال تعالى (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا) الآية ١١٠ من سورة يوسف في ج ٢،
ثم بين كيفية نصره له بقوله «فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ ١١» متدفق بشدة انصبابه وعظمة نبعه
مفرشي صهوة الحصان ولكنّ | قميصي مسرودة من حديد |
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً) الآية ٢٨ من سورة إبراهيم في ج ٢، قال تعالى «وَلَقَدْ تَرَكْناها» أي تلك السفينة وأبقيناها «آيَةً» دالة على قدرتنا ليعتبر بها من رآها ومن يأت بعدهم «فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ١٥» متعظ بها فيعتبر وعود الضمير هنا للسفينة على ما جرينا عليه لسبق ذكرها أولى من عوده إلى الواقعة أي الحادثة نفسها، وهي الفعلة التي فعلها الله بهم وأبقى ذكرها مستمرا تتناقله الأجيال وتذكره الكتب القديمة والحديثة بأن أبقاها بأرض الجزيرة حتى رآها أوائل هذه الأمة، وحتى الآن يشار إلى موضعها فيها. وأصل مدكر مذدكر، أبدلت الدال والتاء دالين وأدغمتا في بعضها، وهكذا كل كلمة من باب افتعل يفعل بها
مطلب في أربعاء صفر وعيادة المريض.
قيل كان وقوع هذا الريح يوم الأربعاء من آخر شهر صفر قال ابن عباس آخر أربعاء في الشهر يوم نحس مستمر وأخذ به كثير من الناس وتطيروا منه حتى أنهم تركوا السعي فيه ونسبو لعلي كرم الله وجهه أنه قال:
وآخر أربعا في الشهر ترك.........
ولكن ابن عباس وسيدنا علي على فرض صحة ما نسب إليهما لم يعيناه في صفر ولكن الناس خصوه فيه، وحتى الآن تراهم يتركون أعمالهم ويخرجون إلى النزهات ويعملون فيه أعمالا واهية كتكسير الجرار والسبح في الماء وغيرها من الترهات
لم يؤت في الأربعاء مريض | إلا دفناه في الخميس |
فنعم اليوم يوم السبت حقا | لعيد إن أردت بلا امتراء |
وفي الأحد البناء لأن فيه | تبدى الله في خلق السماء |
وفي الإثنين إن سافرت فيه | سترجع بالنجاح وبالثراء |
ومن يرد الحجامة فالثلاثا | ففي ساعاته هرق الدماء |
وإن شرب امرؤ يوما دواء | فنعم اليوم يوم الأربعاء |
وفي يوم الخميس قضاء حاج | فإن الله يأذن بالقضاء |
وهذا العلم لا يرويه إلا | نبيّ أو وصيّ الأنبياء |
وإذا تتبعت التواريخ وجدت في كل يوم حوادث عظيمة، وناهيك حادثة عاد فإنها استغرقت الأسبوع كله، فإذا كانت النحوسة لذلك فلم يخل يوم منها فعلى العاقل أن لا يتقيد بشيء من ذلك ويتوكل على الله، وليعلم أنه لا دخل للأوقات بما يوقعه الله فيها، وهذا هو الحكم الشرعي في ذلك، نعم جاء لبعض الأوقات فضل لا ينكر كيوم الجمعة والساعة فيه للإجابة ويوم عرفة وشهر رمضان وليلة القدر وليلتي العيدين، وليلة البراءة، والعاشر من المحرم، ولبعضها ذم كالأوقات التي تكره فيها الصلاة والمحال التي وقع فيها العذاب على الكافرين ولأيام التي كان الهلاك فيها بخصوصها لا مثلها، فقد ثبت أن العنكبوت عشش على الغار الذي دخله محمد صلّى الله عليه وسلم وأبو بكر، فهذا بخصوصه ممدوح أما غيره فلا، فقد جاء عنه عليه الصلاة والسلام اقتلوا العنكبوت فإنه شيطان. وقس على هذا قال تعالى في وصف تلك الريح «تَنْزِعُ النَّاسَ» تقلعهم من محالهم فتدق رقابهم بالأرض فتصيرهم «كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ» أي أصولها من غير فروعها «مُنْقَعِرٍ ٢٠» منقلع من مغارسه ساقط على الأرض، أي كل واحد من قوم عاد صار كجذع نخل خاو لا حراك به وإنما شبههم بالنخل لطول قامتهم وعظم أجسادهم
«فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ ٢١» فانظروا أيها الناس وتفكروا فيه واستعيذوا من مثله بالله وتعجبوا منه «وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ٢٢» يتذكر به ويتدبر عاقبة أمره ثم بدأ يذكر القصة الثالثة فقال: «كَذَّبَتْ ثَمُودُ» نبيهم صالحا «بِالنُّذُرِ ٢٣» الرسل وجاء بلفظ الجمع، لأن تكذيب واحد منهم كتكذيبهم كلهم، لأنهم كلهم ت (١٩)
لأمثال هؤلاء أي شيء عظيم هو وبينه بقوله:
«إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً» من قبل عبدنا جبرائيل «فَكانُوا» بسببها «كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ ٣١» كيبيس الشجر إذا كسر وحطم وصار محتضرا لوم البهائم وقدمنا في الآية ١١ من سورة الشمس ما يتعلق بهذا وله صلة في الآية ١٥٧ من سورة الشعراء الآتية وسنفصل القصة إن شاء الله في الآية ١١٩ من الأعراف الآتية أيضا قال تعالى:
«وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ٣٢» ثم طفق يبين القصة الرابعة فقال: «كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ ٣٣» ثم وصف تعذيبهم بقوله: «إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً» ريحا ممزوجة بالحصى الصغار المسمى حصباء وأمرناها بحصبهم جميعا «إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ ٣٤» إذ أوحينا اليه أن يخرج أهله معه آخر الليل لئلا يصيبهم ذلك وأنعمنا عليهم بالنجاة منه «نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا» نحن إله الكل «كَذلِكَ» مثل هذا الجزاء الحسن «نَجْزِي مَنْ شَكَرَ ٣٥» نعمنا من عبادنا الطائعين وقرىء نعمة بالرفع على الخبرية، أي وهذا الإنجاء نعمة من لدنا.
وبالنصب مفعول مطلق وعليه المصاحف وهو أليق «وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ» نبيهم لوط عليه السلام «بَطْشَتَنا» هذه وحذرهم عقوبتنا القاسية ليؤمنوا فلم ينجح بهم بل أصروا على تكذيبه والسخرية به كما يدل عليه قوله «فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ ٢٦» وشكوا بصدقهم بل كذبوهم لأن الفعل يتضمن معنى التكذيب إذ عدي بالياء، ولو كان المراد الشك لعدي بالفاء إذ يقال شك في الأمر وكذب به، تأمل «وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ» أي طلبوا منه أن يفتعلوا بهم وحاولوا فتح الباب ليفجروا بهم وقد عجز عن مقاومتهم «فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ» بصفقة من جناح عبدنا جبريل فصير عيونهم من جملة وجوهم حتى كأنها لم تنشق، ومنعناهم من التعرض لأضيافه بعد أن خالفوه وأرادوا أن يدخلوا داره قسرا عنه ليتعرضوا لأضيافه فنصره ربه وقال «فَذُوقُوا» أيها الفاحشون الخبثاء «عَذابِي» الذي أوقعه عليكم «وَنُذُرِ ٣٧» أي ما أنذرتكم به على لسان نبيكم من العذاب «وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً) هي أخص في الصباح لأنها تطلق على الغدوة أيضا بخلافه «عَذابٌ
ثابت دائم إلى يوم القيامة حتى يقضى بسوقهم إلى النار ويقال لهم فيها «فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ ٣٩» تشديدا للعذاب وزيادة للحسرة «وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ٤٠» وفي تكرير هذه الآية معنى آخر وهو حث للسامع على تجديد الاتعاظ وتكرير الانتباه عند سماع تكرار هذه الآية آخر كل قصة لتكون عبرة دائمة في القلوب مستمرا تصورها في الأذهان وكذلك الأمر في تكرار (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) في سورة المرسلات المارة، وجملة فبأي آلاء ربكما تكذبان من سورة الرحمن في ج ٣
قال تعالى «وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ ٤١» أي موسى وهرون «كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها» أي الآيات التسع الآتية في سورة الأعراف مفصلة من الآية ١٠٢ فما بعد «فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ ٤٢» غالب قهار جبار لا يعجزه شيء ولا يحول دون أمره شيء «أَكُفَّارُكُمْ» يا أمة محمد ويا أهل مكة «خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ» الذين قصصنا عليكم أمرهم وكيفية تعذيبهم في الدنيا وما خبأناه لهم في الآخرة أدهى وأمر وأدوم «أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ» يأمنكم من الإهلاك أخبرتم بها أم نزلت عليكم «فِي الزُّبُرِ ٤٣» الكتب المتقدمة، كلا لا مأمن لكم من العذاب البتة ولستم بأحسن ممن قبلكم ولا أقل كفرا منهم ولم ينزل بأمتكم من عذاب الله شيء وسيصيبكم ما أصابهم إن لم تؤمنوا.
مطلب الآيات المدنية وحكم ما تأخر حكمه عن نزوله:
وهذه أولى الآيات المدنيات قال تعالى «أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ» الذين حضروا واقعة بدر كما سيأتي بيانها في الآية ٥ من سورة الأنفال في ج ٣ «جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ ٤٤» كثيرون أقوياء ممتنعون لا نظلم ولا نرام فردّ عليهم بقوله «سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ٤٥» هاربين لا يلوون على أحد، واعلم يا حبيبي أن ليس الأمر كما يقولون ويتوهمون «بَلِ السَّاعَةُ» هذه التي يتوخون النصر فيها هي «مَوْعِدُهُمْ» للقتل والأسر والسبي في الدنيا وهذه من علامات النبوة حيث صدق الله وعده رسوله «وَالسَّاعَةُ» الداهية الدهماء الموعودون بها يوم القيامة «أَدْهى» من عذاب هذه
انتهت الآيات المدنيات. روى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال: قال رسول الله وهو في قبة يوم بدر: اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن شئت لم تعبد بعد هذا اليوم أبدا. فأخذ أبو بكر بيده فقال حسبك يا رسول الله فقد ألححت على ربك، فخرج وهو في الدرع وهو يقول: سيهزم الجمع ويولون الدبر. وقد مر في الآية ١٤ من سورة الأعلى المارة أن هذه الآية مما تأخر حكمها عن نزولها وهو الصحيح والله أعلم لأنها إحدى الآيات السبع المبينين هناك أربع منها وهذه الخامسة والسادسة الآية ٥٦ من سورة النور ج ٣ وهي (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ) والسابعة قوله (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ) الآية ٢١ من سورة الفتح في ج ٣ أيضا وللبحث صلة في تفسير هاتين الآيتين الأخيرتين بمحلهما إن شاء الله. أما الأربع الأول فقد تقدم في سورة الأعلى بيانها وسببها قال تعالى «إِنَّ الْمُجْرِمِينَ» من الأولين والآخرين «فِي ضَلالٍ» في هذه الدنيا «وَسُعُرٍ ٤٧» في الآخرة «يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ» وتقول لهم زبانية العذاب «ذُوقُوا» أيها المجرمون «مَسَّ سَقَرَ ٤٨» ألمها عند ما تمس جلودكم كما يقال الآن ذق طعم الضرب ومس الحمّى قال تعالى ردا لما يقال من قبل أهل الضلال «إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ ٤٩» معلوم وتقدير سابق مثبت في اللوح المحفوظ وسنظهره عند إرادتنا له قال ابن عباس كل شيء بقدر حتى وضع يدك على خذك، روى مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول كتب الله مقادير الخلائق كلها قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، قال وكان عرشه على الماء، أي قبل خلقهما. راجع الآية ٦ من سورة هود في ج ٢.
مطلب في القدر وما يتعلق به:
والمراد من هذا تحديد وقت الكتابة في اللوح لا أصل القدر لأنه أزلي لا أول له، وروي أيضا عن أبي هريرة قال: جاء مشركو قريش إلى النبي صلّى الله عليه وسلم يخاصمونه في القدر فنزلت هذه الآية. وروي عن طاووس قال: أدركت أناسا من أصحاب
قال صلّى الله عليه وسلم: كل شيء يقدر حتى العجز (عدم القدرة على الفعل) والكيس (النشاط والحذق بالأمور) أي قدر الله ذلك في البشر أيضا وأخرج الترمذي عن علي كرم الله وجهه قال: قال رسول الله: لا يؤمن أحدكم حتى يؤمن بأربع: يشهد أن لا إله إلا الله، واني رسول الله بعثني بالحق، ويؤمن بالموت وبالبعث، ويؤمن بالقدر. وأخرج أيضا عن جابر قال: قال صلّى الله عليه وسلم: لا يؤمن أحدكم حتى يؤمن بالقدر خيره وشره وحتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه. وهذا حديث غريب يعرف من طريق عبد الله بن ميمون وهو منكر الحديث. أما الحديث المتفق عليه فهو حديث جبريل عليه السلام المشهور الذي فيه، وتؤمن بالقدر خيره وشره، قال صدقت. وهو الذي رواه مسلم عن عمر رضي الله عنه، والحديث الآخر الذي رواه الترمذي عن ابن عباس وكلاهما في حديث الأربعين، وأخرج البخاري في تاريخه والترمذي وحسنه ابن ماجه وابن عدي وابن مردويه عن ابن عباس قال: قال صلّى الله عليه وسلم صنفان من أمتي ليس لهما نصيب في الإسلام: المرجئة والقدرية، أنزلت فيهم آية في كتاب الله (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ) الآية المارة وإن الذين ينكرون القدر هم خصماء الله لأنهم يقولون لا يقدر الله المعصية على العبد ثم يعذبه عليها ويسمون القدرية لإنكارهم القدر وزعمهم ان الله تعالى لم يتقدم علمه بالأشياء وانه يعلمها بعد وقوعها، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، وقد أجمعت الأئمة من أهل السنة والجماعة على اثبات القدر وانه تعالى قدر جميع الأشياء في القدم وعلم انها ستقع في أوقات معلومة عنده على صفات مخصوصة فتقع بحسب ما قدرها. والحكم الشرعي هو وجوب اعتقاد ما قرره هذا المذهب الحق وأجمع عليه جمهور المحققين ورفض قول المبتدعة وتفسيقهم. قال امام الحرمين قال رسول الله: القدرية مجوس هذه الأمة رواه ابو حاتم عن ابن عمر عن رسول الله وأخرجه أبو داوود في سننه والحاكم ابو عبد الله في المستدرك على شروط الصحيحين، وقال صحيح على شرط الشيخين ان صح سماع ابي حاتم عن ابن عمر.
قال الخطابي: انما جعلهم حضرة الرسول مجوسا لمضاهاة مذهبهم مذهب المجوس لقولهم
قال تعالى «وَلَقَدْ أَهْلَكْنا
أشباهكم في الكفر ونظرائكم في العناد يا قوم محمد ويا أهل مكة المشرفة من الأمم السابقة «فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ٥١» يخاف ويعتبر بمن سلف قبل ان يحل فيه ما حل بهم «وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ» المتقدمون وما يفعله المتأخرون مثل كفار مكة ومن قبلهم وبعدهم الخير والشر كله مدون «فِي الزُّبُرِ ٥٢» من قبل الحفظة في اللوح المحفوظ مما وقع وسيقع إلى يوم القيمة قدره ونوعه وجنسه ومكانه وزمانه وصفته «وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ» من العوالم وأفعالهم «مُسْتَطَرٌ ٥٣» عند الله أزلا لا يعزب شيء منه عنه، الذرة فما فوقها وما دونها «إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ ٥٤» أنهار كثيرة وإنما جاء بلفظ نهر لموافقة رؤوس الآي وهذه الأنهار من ماء صاف بارد وعسل مصفى وخمر لا غول فيه ولبن خالص واشربة متنوعه ممالذ وطاب مهيئة هذه الأنهار للمتقين «فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ» مجلس لا لغو فيه ومسرح لا فجور فيه ومكان مرضي لا غضب فيه لا نظير له ولا شبيه «عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ٥٥» على كل شيء وتحت ملكه كل شيء عظيم القدرة على كل شيء فأي منزلة أكرم من هذه وأجمع للسعادة والغبطة. وفقنا الله لها بمنه وكرمه وجعلنا من أهلها بجوار حرمه. قال الإمام جعفر الصادق رضي الله عنه وصف الله تعالى المكان بالصدق فلا يقعد فيه إلا أهل الصدق وهو منهم جعلنا الله من أتباعه وقال بعض أهل المعرفة ان الله تعالى أبهم العذبة والقرب ونكر مليكا ومقتدرا اشارة إلى ان ملكه وقدرته لا تدرك الأفهام كنهها، وان قربهم منه سبحانه بمنزلة من الكرامة والسعادة بحيث لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر يجل عنه اللسان وتكل دونه الأذهان. وهذه الآية من المتشابه الذي سبق أن نوهنا به في الآية ٣٠ من سورة ق المارة إذ درجنا فيها ما يتعلق بآيات الصفات وأحاديثها هذا، والله أعلم، واستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، العلي العظيم، وصلّى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين.