تفسير سورة القمر

التفسير الوسيط للزحيلي
تفسير سورة سورة القمر من كتاب التفسير الوسيط المعروف بـالتفسير الوسيط للزحيلي .
لمؤلفه وهبة الزحيلي . المتوفي سنة 1436 هـ

تفسير سورة القمر
موقف المشركين من دعوة الإسلام
طالب المشركون بتحقيق معجزات مادية، على سبيل المكابرة والعناد، على الرغم مما رأوا من الآيات والمعجزات الباهرة الدالة على صدق نبوة الرسول محمد بن عبد الله صلّى الله عليه وسلّم، ومع الإخبار بأنباء إهلاك الأمم المكذبة رسلها، ليعتبروا ويتعظوا، ومع تحذيرهم مما يتعرضون له في الآخرة من عذاب شديد، ونشر من القبور، ذليلين مهانين، مسرعين إلى الداعي إسرافيل إلى شيء رهيب، وهو موقف الحساب. وهذا ما أطلعتنا عليه أوائل سورة القمر المكية بالإجماع إلا الآية واحدة، اختلف فيها أهي مكية أم مدينة، وهي آية: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (٤٥) :
[سورة القمر (٥٤) : الآيات ١ الى ٨]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (١) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (٢) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (٣) وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (٤)
حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (٥) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (٦) خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (٧) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ (٨)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» [القمر: ٥٤/ ١- ٨].
أخرج البخاري ومسلم والحاكم- واللفظ له- عن ابن مسعود قال: رأيت القمر
(١) أي قربت القيامة، واقتربت أبلغ من قربت، مثل اقتدر أبلغ من قدر.
(٢) أي محكم قوي، من المرّة:
وهي القوة.
(٣) ما يزجرهم ويكفهم.
(٤) شديد الهول تنكره نفوسهم إذ لا عهد لهم مثله. [.....]
(٥) مسرعين.
2537
منشقا شقين بمكة، قبل مخرج النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا: سحر القمر، فنزلت: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ.
والمعنى: قربت القيامة ودنت، لكنّ وقتها مجهول التحديد،
أخرج الإمام أحمد والبخاري ومسلم والترمذي، عن أنس رضي الله عنه: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «بعثت والساعة كهاتين» وأشار بالسبّابة والوسطى.
وانشق القمر فعلا نصفين، معجزة للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وآية ظاهرة على قرب القيامة وإمكانها.
أخرج الإمام أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم عن أنس: أن أهل مكة سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يريهم آية، فأراهم القمر شقتين، حتى رأوا حراء (وهو جبل مشهور بمكة) بينهما.
لكن المشركين ظلوا على عنادهم، فإنهم وإن يروا علامة على النبوة وصدق النبي صلّى الله عليه وسلّم، يعرضوا عن التصديق والإيمان بها، ويولّوا مكذبين بها، قائلين: هذا سحر محكم قوي، من المرّة أي القوة، أو دائم مطرد متماد. وكذبوا بالحق الساطع حين جاءهم، وهو آيات الله الظاهرة، اتبعوا شهواتهم، لا بدليل، ولا بتثبّت، بسبب جهلهم وسخفهم، فهددهم الله ورد على تكذيبهم وأخبرهم بأن كل أمر مستقر، أي كل شيء منته إلى غاية، فالحق يستقر ثابتا ظاهرا، والباطل يستقر زاهقا ذاهبا، ومن جملة ذلك أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم سينتهي إلى غاية يظهر فيها أنه على حق، وأنهم على باطل.
ثم ونجّهم الله على إصرارهم على الكفر وعلى ضلالهم، فقال: وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (٤) أي وتالله لقد جاء مشركي مكة وأمثالهم من أخبار الأمم المكذبة رسلها، وما حل بهم من العقاب والنكال، مما أخبر به القرآن، ما فيه كفاية لزجرهم وكفّهم عما هم فيه من الشرك والوثنية، ويدخل في كلمة (الأنباء) جميع ما جاء به القرآن من المواعظ والقصص وأحداث الأمم الكافرة.
2538
وهذه الأنباء وما فيها من عبرة وعظة وهداية: حكمة بالغة كاملة، قد بلغت منتهى البيان، ليس فيها نقص ولا خلل، فلا تفيدهم الإنذارات شيئا بسبب عنادهم الذي يصرفهم عن الحق، كما جاء في آية أخرى: وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ [يونس: ١٠/ ١٠١] وكلمة (ما) إما نافية، أو استفهامية بمعنى التقرير، أي فما غناء النذر مع هؤلاء الكفرة؟ والحكمة البالغة: هي المؤثرة تأثيرا بالغا في وعظ النفوس.
فأعرض عنهم يا محمد، ولا تتعب نفسك بدعوتهم، حيث لا يؤثر الإنذار فيهم، بعد هذا العناد والمكابرة، وانتظرهم، واذكر يوم يدعو الداعي فيه وهو إسرافيل، إلى شيء هائل تنكره نفوسهم، استعظاما له، إذ لا عهد لهم بمثله أبدا، وهو موقف الحساب الرهيب، وما يشتمل عليه من الأهوال والبلايا. وكلمة (نكر) : منكور غير معروف، ولا يرى مثله، وهو نعت للأمر الشديد، وهذا وعيد لهم.
وذلك اليوم هو يوم يخرج الناس من قبورهم، ويكون الكفار ذليلة أبصارهم، من الذل والهوان، كأنهم لانتشارهم واختلاطهم إذا توجهوا نحو المحشر والداعي: جراد منتشر موزع في الآفاق، أو مثل الفراش المبثوث، كما في آية أخرى: يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (٤) [القارعة: ١٠١/ ٤].
ويكونون مهطعين، أي مسرعين في مشيهم نحو المقصد، إما لخوف أو طمع ونحوه، ويسيرون نحو الداعي لهم وهو إسرافيل دون تلكؤ ولا تأخر، ويقول الكافرون: هذا يوم صعب، شديد الهول على الكفار، ولكنه ليس بشديد على المؤمنين. وشدته لما يرون من مخايل هوله وعلامات مشقته. وذلك كما جاء في آية أخرى: فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (٩) عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (١٠) [المدثر: ٧٤/ ٩- ١٠].
ويدل ذلك بطريق المفهوم على أنه يوم هيّن يسير على المؤمنين.
2539
قصة نوح عليه السّلام مع قومه
ساق الله تعالى في قرآنه قصص الأقوام السابقين، وعيدا لقريش وضرب مثل لهم، ومن أقدم هذه القصص: قصة نوح عليه السّلام مع قومه، فإنهم كذبوه، وزجروه عن تبليغ الدعوة بالسب والرد القبيح والتخويف، ووصفوه بأنه مجنون.
فاستنجد بربه، فأجابه، ودمّر القوم بالطوفان. وهذه هي نهاية الظلمة الذين عارضوا الرسل، وقاوموا الدعوة إلى الله ووحدانيته، واتبعوا الأهواء، وصدوا عن سبيل الله، سبيل الحق والعدل وتوحيد الله، فكان لا بد من التذكير بقصتهم للاعتبار والاتعاظ، كما يبدو في هذه الآيات:
[سورة القمر (٥٤) : الآيات ٩ الى ١٧]
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (٩) فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (١٠) فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (١١) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (١٢) وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (١٣)
تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (١٤) وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٥) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٦) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٧)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» [القمر: ٥٤/ ٩- ١٧].
هذه القصة من قصص أربع في هذه السورة وعيد للمشركين حين نزول الوحي، على تكذيبهم رسولهم نوحا عليه السّلام، فلقد كذبت قبلهم قوم نوح بالرسل، حيث كذبوا عبد الله نوحا عليه السّلام، واتهموه بالجنون، وزجروه عن دعوة النبوة وتبليغها بأنواع الأذى والتخويف. قوله: عَبْدَنا تشريف وتنبيه على أنه هو الذي حقق العبودية لله، فلم يكن على وجه الأرض في وقته عابد سواه، فكذبوه.
(١) زجر عن دعوة النبوة بأنواع الأذى من السب والتخويف وغيرهما، وأصله ازتجر، فقلبت التاء دالا لتناسب الزاي.
(٢) منصب متدفق.
(٣) على مقدار مقدر.
(٤) مسامير تشد بها السفينة.
(٥) متعظ، وأصله مذتكر، فقلبت التاء دالا، ثم قلبت الذال دالا.
(٦) إنذاراتي، فالنذر جمع نذير.
2540
فدعا نوح عليه السّلام ربه تعالى قائلا: إني ضعيف عن مقاومة هؤلاء، فانتصر أنت لدينك، بعد علمك بتمردهم وعنادهم، فأجابه الله: لقد صببنا عليهم ماء غزيرا كثيرا متدفقا. وكلمة (أبواب السماء) هي تشبيه ومجاز، لأن المطر كثر كأنه من أبواب. ومنهمر: شديد الوقوع وغزير.
وجعلنا الأرض كلها عيونا متفجرة، وينابيع متدفقة، فالتقى ماء السماء، وماء الأرض، على أمر قد قضي عليهم، ورتبة وحالة قد قدرت في الأزل وقضيت، أو على مقادير قد قدرت ورتبت وقت التقائه، وهو وصف الطوفان لعقابهم والانتقام منهم.
وحملنا نوحا عليه السّلام على سفينة ذات ألواح: وهي الأخشاب العريضة، ودسر: وهي المسامير التي تشدّ بها الألواح، وهذا الإيجاز من فصيح الكلام وبديعه.
تسير السفينة بمنظر ومرأى منا، وحفظ وحراسة لها، جزاء لهم على كفرهم بالله، وانتصارا لنوح عليه السّلام، لأن إرساله نعمة، وتكذيبه كفران موجب للنقمة. وهذا دليل على ضرورة اتخاذ الأسباب، لتحقيق النتائج المرجوة. فقوله: بِأَعْيُنِنا معناه بحفظنا وكفايتنا وتحت نظر منا لأهلها.
ولقد أبقينا خبر السفينة عبرة للمعتبرين، أو تركنا هذه الفعلة التي فعلناها بهم عبرة وعظة، فهل من متعظ يتعظ بهذه الآية ويعتبر بها؟! فانظر أيها السامع كيف كان عذابي لمن كفر بي، وكذب رسلي، ولم يتعظ بإنذاراتي التي جاء بها المرسلون، وكيف انتصرت لهم وثأرت لهم، وكيف كانت إنذاراتي؟ وهو اطلاع لقريش على سبيل التوبيخ والتخويف، معناه: كيف كان عاقبة إنذاري، لمن لم يحفل به، مثلكم أيها القوم؟ وجمع النّذر: إشارة إلى غلبة الرحمة الغضب، لأن الإنذار وهو الاعلام المتقدم رحمة وشفقة. وقوله: كُفِرَ معناه جحد به.
2541
ولقد سهلنا القرآن وقرّبناه للحفظ عن ظهر قلب، ويسرنا إدراك معناه لمن أراده للتذكر، فهل من متعظ بمواعظه، معتبر بعبره؟! إن الله تعالى يسّر حفظ القرآن وفهم معانيه، بما فيه من حسن النظم، وشرف المعنى، فله التصاق بالقلوب مع محبة، وامتزاج بالعقول السليمة مع قناعة. وقوله تعالى في نهاية هذه القصة وبقية القصص الأربع: فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ استدعاء وحض على حفظه وتذكر مراميه، لتكون زواجره وعلومه وهداياته حاضرة في النفس. وهي تعداد نعم الله تعالى في أنه يسّر الهدى.
والحكمة من تكرار: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٧) تجديد التنبيه على الاستذكار والاتعاظ، والتعرف على تعذيب الأمم السابقة، والاعتبار بحالهم.
وهكذا كان حكم تكرار آية الرحمن: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٣) عند عدّ كل نعمة، وفي سورة المرسلات عند عدّ كل آية، لتكون ماثلة أمام الأذهان، محفوظة في كل أوان، وكذلك تكرار هذه القصص في القرآن بعبارات مختلفة، لتنبيه الغافل على أن كل موضع له فائدة، لا تعرف في غيره.
قصة عاد وثمود
تكرر بعد تكذيب قوم نوح برسولهم تكذيب قبيلتي عاد وثمود برسوليهم هود وصالح عليهما السّلام، وكان الجزاء الماحق مثل جزاء من قبلهم، وتشابهت الجرائم وتماثلت العقوبات، من أجل تحقيق غاية واحدة: هي زجر الكافرين عن كفرهم، ونقلهم من ذل الكفر والمعصية إلى عز الإيمان والطاعة. فإذا بقوا على مواقفهم لم يبق بعدئذ عذر لهم، ويكون عقابهم حقا وعدلا، وهذا ينبغي أن يكون أمثولة مستحضرة
2542
في أذهان المناوئين والمعارضين لدعوة الإسلام والحق على يد خاتم النبيين المرسل إلى الناس كافة بشيرا ونذيرا، قال الله تعالى مبيّنا قصتين بعد قصة نوح عليه السّلام:
[سورة القمر (٥٤) : الآيات ١٨ الى ٣٢]
كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٨) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (١٩) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (٢٠) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٢١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٢٢)
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (٢٣) فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٢٤) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (٢٥) سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (٢٦) إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (٢٧)
وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (٢٨) فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ (٢٩) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٣٠) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (٣١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٣٢)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» «٧» «٨» «٩» «١٠» «١١» [القمر: ٥٤/ ١٨- ٣٢].
كذبت قبيلة عاد العربية، قوم هود عليه السّلام رسولهم، فانظروا أيها المخاطبون من قريش وغيرهم كيف كان عذابي لهم، وإنذاري إياهم.
وقوله فَكَيْفَ كانَ كيف منصوب إما على خبر (كان) وإما على الحال، و (كان) بمعنى وجد ووقع في هذا الوجه. والنذر: جمع نذير.
إنا سلطنا عليهم ريحا شديدة الصوت والبرد، في يوم شؤم عليهم، متتابع أو دائم الشؤم حتى أهلكهم ودمّرهم. قال قتادة: استمر بهم ذلك النحس حتى بلغهم جهنم.
تقتلع الناس من الأرض اقتلاع النخلة من أصلها، أي إنهم كانوا يتساقطون على الأرض أمواتا، وهم جثث طوال عظام، كأنهم بقايا أو مؤخرات نخل منقلع عن
(١) هي قبيلة عاد بالأحقاف في اليمن.
(٢) باردة.
(٣) شؤم دائم.
(٤) أصول نخل مقتلع من مغارسه.
(٥) متاهة وجنون.
(٦) الوحي الإلهي.
(٧) كذوب في ادعاء الوحي، متكبر بطر. [.....]
(٨) اختبارا وامتحانا.
(٩) كل نصيب من الماء يحضره صاحب النوبة.
(١٠) اجترأ على عقرها.
(١١) تبن صاحب الحظيرة.
2543
مغارسه، أي إن ما تقطّع وتشعب من شخص الإنسان يشبه أعجاز النخل، والنخل: تذكر وتؤنث، فلذلك قال: منقعر. والكاف في قوله: كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ في موضع الحال.
فانظروا كيفية عقابي وإنذاري، ولقد سهّلنا القرآن للحفظ والاستذكار والاتعاظ، فهل من متذكر متعظ؟! والإنذار بالتخويف وهزّ الأنفس. قال الرّمّاني: لما كان الإنذار أنواعا، كرر التأكيد والتنبيه. وفائدة تكرار قوله تعالى: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ التأكيد والتحريض وتنبيه الأنفس.
كذبت أيضا بالنذر، أي الرسل قبيلة ثمود قوم صالح عليه السّلام، وهم أهل الحجر بين الحجاز والشام، وتكذيب نبيهم صالح عليه السّلام تكذيب لجميع الرسل، لاتفاقهم على أصول الدين، فقالوا حسدا منهم لصالح عليه السّلام، واستبعادا أن يفضل نوع من البشر بعضه الآخر: أنكون جميعا، ونتّبع واحدا؟ وكيف نتبع بشرا من جنسنا، منفردا وحده، لا تبع ولا متابع له على ما يدعو إليه؟ لقد خبنا وخسرنا إن أطعنا واحدا منا، وإنا إذا اتبعناه نحن في خطأ وبعد عن الصواب، وفي أمر متلف مهلك بالإتلاف، وفي احتراق نفس هما وحنقا باتباعه، أو في جنون أو عناء.
كيف خص بالوحي والنبوة من بيننا، وفينا من هو أحق بذلك منه؟ بل هو كذوب متجاوز الحد فيما يدّعيه من نزول الوحي عليه، ومتكبر بطر. والأشر: البطر المرح، أي ليس الأمر كما يزعم، فكأنهم بهذا الوصف اتهموه بأنه أراد الاستعلاء عليهم وأن يقودهم وهم يطيعونه.
فرد الله عليهم مهددا ومتوعدا بقوله: سَيَعْلَمُونَ غَداً.. أي سيعرفون عما قريب في المستقبل وقت نزول العذاب بهم في الدنيا أو في يوم القيامة، وسيتبين لهم
2544
من المفتري الكذاب، البالغ الحد في كونه أشرا، أصالح في تبليغ الرسالة أم هم في تكذيبهم إياه؟ والمراد أنهم هم الكذابون البطرون المتكبرون.
ولقد أرسلنا لهم الناقة العظيمة التي اقترحوها أن تخرج من صخرة صماء من الجبل، وذلك على سبيل الاختبار والامتحان، فانتظر ما يؤول إليه أمرهم بارتقاب الفرج والصبر.
وأخبرهم أن ماء البئر أو النهر الصغير مقسوم بينهم وبين الناقة، لها يوم ولهم يوم، وكل نصيب من الماء يحضره صاحبه في نوبته، فتشرب الناقة في يوم ويشربون هم في يوم آخر، أو إنهم يشربون من الماء يوما، ومن لبن الناقة يوما آخر، فكأنه تعالى أنبأهم بنعمة الله تعالى عليهم في ذلك.
ولكن ثمود ملّوا هذه القسمة، فتجرأ أحدهم وأشقاهم وأجرؤهم بتواطؤ معهم على عقر الناقة، فأهوى بسيفه على قوائمها، فكسر عرقوبها، ثم نحرها. فعاقبتهم، فانظروا كيف كان عقابي لهم على كفرهم بي، وتكذيبهم رسولي الذي يخوفهم عذاب الله تعالى.
وتعاطى: مطاوع طاوع، كأن هذه الفعلة تدافعها الناس، فتناولها هذا الشقي. إنا أرسلنا عليهم صيحة جبريل، فصاح بهم، فأبيدوا جميعا، وصاروا كعشب أو تبن صاحب الحظيرة الذي جمعه فيها، أو كالشجر اليابس المتهشم. ولقد سهلنا القرآن للتذكر والاتعاظ، فهل من متعظ؟!
قصة لوط وآل فرعون
من غرائب القصص: قصة قوم لوط، فإن الأمم الأخرى كذبوا الرسل وأصروا على العناد والكفر، أما قوم لوط فقد ضموا إلى ذلك اقترافهم فاحشة خطيرة هي
2545
اللواط، وارتكبوا سفساف الأخلاق وأدناها، وأكثرها إخلالا بالمروءة، فكان عقابهم- وهو الخسف وقلب ديارهم عاليها سافلها- فريدا من نوعه بين أنواع العقاب الإلهي، تطهيرا للأرض أو البيئة من مفاسدهم وموبقاتهم. وهذا ما أنبأ به القرآن في الآيات الآتية:
[سورة القمر (٥٤) : الآيات ٣٣ الى ٤٢]
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (٣٣) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (٣٤) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (٣٥) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (٣٦) وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (٣٧)
وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ (٣٨) فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (٣٩) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٤٠) وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (٤١) كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (٤٢)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» [القمر: ٥٤/ ٣٣- ٤٢].
كذبت بالرسل أيضا من الأمم البائدة قوم لوط، فإنهم كذبوا رسولهم في دعوته، وكذبوا بالآيات التي أنذرهم بها، واقترفوا الفاحشة، وتكذيب رسول واحد كتكذيب جميع الرسل، لأن مهمتهم واحدة، ولقد أنذر لوط قومه بعذاب الله، فلم يرتدعوا، فعاقبناهم. بأن أرسلنا عليهم ريحا ترميهم بالحصباء، وهي الحصى أو الحجارة، وشبّه ذلك بالسحاب، فدمرتهم جميعا إلا لوطا عليه السّلام وآله الذين آمنوا به واتبعوه، فإنا أنجيناهم من الهلاك في آخر الليل قبل الفجر.
وإنجاء هؤلاء الناجين كان إنعاما من الله عليهم، وتكريما لهم، ومثل ذلك الجزاء الحسن، نجزي من شكر نعمة الله ولم يجحدها، بأن آمن وأطاع أمر ربه، واجتنب نهيه.
(١) ريحا ترميهم بالحصباء، أو السحاب الرامي بالبرد وغيره، فشبه تلك الحجارة التي رمي بها قوم لوط به في الكثرة والتوالي.
(٢) أي السدس الأخير من الليل قبل طلوع الفجر.
(٣) أي فكذبوا الإنذارات متشاكّين.
(٤) صارت أعينهم مطموسة، أو أعميناهم.
(٥) متعظ، أصله مذتكر، فقلبت التاء دالا، ثم قلبت الذال دالا، وأدغمت في مثلها.
2546
والله تعالى عدل في العذاب، حيث جاء بعد إنذار، فلقد أنذرهم الرسول بطشة الله بهم، أي عذابه الشديد، فتشككوا بإلقاء الشبه والضلال في هذا الإنذار، وكذبوه.
ومن جرائمهم: أنهم أرادوا تمكينهم ممن أتى لوطا عليه السّلام من الأضياف الملائكة، الذين جاؤوا في صورة شباب مرد: حسان، ليفجروا بهم، فصيرنا أعينهم مطموسة، قال قتادة: هي حقيقة، جرّ جبريل عليه السّلام شيئا من جناحه على أعينهم، فاستوت مع وجوههم. وقال ابن عباس والضحاك: هي استعارة، وإنما حجب إدراكهم، فدخلوا المنزل، فلم يروا شيئا، فجعل ذلك كالطمس.
وقال الله لهم على لسان الملائكة: ذوقوا ألم عذابي وتبعة إنذاراتي.
ولقد نزل بهم العذاب بكرة، أي صباحا في أول النهار، عند طلوع الشمس، وكان عذابا متصلا مستقرا بهم، لم يفارقهم حتى ماتوا، وهم أيضا معذبون في قبورهم بانتظار جهنم، ثم يتصل ذلك بعذاب النار، فذوقوا جزاء أفعالكم عذابي الشديد، وتحملوا مقتضى إنذاركم المتقدم، وهذا مكرر تأكيدا وتوبيخا.
ولقد سهّلنا آيات القرآن للاتعاظ والتذكر، فهل من متعظ معتبر؟! وذكرت هذه الجملة عقب كل قصة من القصص الأربع، للتأكيد والتنبيه، والزجر والاتعاظ.
ووالله لقد جاءت الإنذارات بالعذاب قوم فرعون وأتباعه، على يد موسى وهارون عليهما السّلام، ويحتمل أن يريد ب (آل فرعون) قرابته، وخصهم بالذكر، لأنهم عمدة القوم وكبراؤهم.
كذبوا بآيات الله المتعددة، وبالمعجزات الباهرة التي أجراها الله تعالى على يد موسى، ومنها الآيات التسع كالعصا واليد، فكذبوا بها كلها، فأخذهم الله بالعذاب الشديد أخذ قوي غالب في انتقامه، قادر على إهلاكهم، قاهر لا يعجزه شيء، حيث أغرق فرعون وجنوده بالبحر، ونجى موسى ومن آمن معه.
2547
إن هؤلاء الأقوام العتاة (قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وآل فرعون) بلغوا الحد الأقصى في الضلال والفجور، وتجاوزوا المعتاد والحدود كلها، فكانوا أمثولة العالم، وحديث البشرية إلى يوم القيامة، فالله تعالى يعاقب بمثل هذا العقاب كل من اتصف بصفات تلك الأقوام، والجزاء من جنس العمل. وهو سبحانه أيضا ينجي أهل الإيمان الذين أطاعوا الله ورسوله، ولم يخشوا إلا الله لا صنما ولا وثنا، ولا حجرا ولا صخرة، ولا كوكبا، ولا شخصا مهما بلغ في عتوه وضلاله، ويظل البقاء على الدوام لأهل الحق والسداد، ويفنى مع الزمان أهل الباطل والعدوان.
تهديد المشركين وتهنئة المتقين.
بعد أن أورد الله تعالى قصص إهلاك الأمم المتقدمة الذين كذبوا الرسل، وهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وآل فرعون في سورة القمر، هدّد الله تعالى مشركي مكة وأمثالهم، بأن ينزل بهم من العذاب ما نزل بمن تقدمهم، لتشابههم في السبب:
وهو الإصرار على الضلال والشرك وتكذيب النبي صلّى الله عليه وسلّم ولهم في الآخرة عذاب أشد وأبقى. ثم بشّر الله تعالى وهنأ المتقين الذين آمنوا بالله ورسوله، وعملوا بطاعته بالجنة والأنهار العذبة التي آمنوا بها، وفي مقاعد النور والخير والإحسان التي صدقوا بها، بقرب من الله عز وجل قرب مكانة وتكريم، لا قرب مكان وتعيين، فقال الله سبحانه:
[سورة القمر (٥٤) : الآيات ٤٣ الى ٥٥]
أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (٤٣) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (٤٤) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (٤٥) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (٤٦) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٤٧)
يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (٤٨) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (٤٩) وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (٥٠) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٥١) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (٥٢)
وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (٥٣) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (٥٤) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (٥٥)
«١» «٢» «٣»
(١) أي سلامة من العذاب مكتوبة في الكتب.
(٢) يهربون إلى الوراء فارين.
(٣) أعظم بلية وأشد مرارة.
2548
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» [القمر: ٥٤/ ٤٣- ٥٥].
هذا خطاب لكفار قريش على جهة التوبيخ، أكفاركم يا مشركي العرب خير من الذين تقدم ذكرهم، ممن أهلكوا بسبب تكذيبهم الرسل، وجحودهم كتب السماء، أم عندكم براءة: سلامة من العذاب مكتوبة، فيما أنزل من الكتب ألا ينالكم عذاب أو نكال؟ والمعنى: ليس كفاركم معشر العرب خيرا من كفار من تقدمكم من الأمم الذين أهلكوا بسبب كفرهم، فلستم بأفضل منهم، حتى تأمنوا ما أصابهم من العذاب عند تكذيبهم الرسل. وهذا تهديد وتوبيخ للمصرّين على الكفر من مشركي العرب.
ثم خاطب الله نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلّم: أم يقولون: نحن جميع واثقون بأنا منتصرون بقوتنا، على جهة الإعجاب والاستكبار، على الضعفاء الأذلاء، والاستفهام إنكاري، سيهزمون فلا ينفع جمعهم.
سيهزم جمع المشركين، ويولّون الأدبار هاربين، وهذا من أدلة النبوة، فقد هزموا يوم بدر، وقتل زعماء الكفر. أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: قالوا يوم بدر:
«نحن جميع منتصر» فنزلت: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (٤٥) واستشهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في بدر بهذه الآية.
(١) خطأ وبعد عن الصواب، وفي نيران مستعرة.
(٢) ذوقوا حرّ النار وألمها. [.....]
(٣) مقدرا بقدر معلوم.
(٤) أشباهكم في الكفر.
(٥) مسطور في اللوح المحفوظ.
(٦) العندية عندية مكانة وقربة ورتبة.
2549
ثم تركت هذه الأقوال وأضرب عنها، عناية بأمر القيامة التي عذابها أشد عليهم من كل هزيمة وقتال، فقال الله تعالى: بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ أي بل إن القيامة موعد عذابهم الأخروي، وليس هذا العذاب في الدنيا بالقتل والأسر والقهر، هو تمام ما وعدوا به من العذاب، وإنما هو مقدمة له، وعذاب القيامة أعظم وأنكى، وأشد مرارة وقسوة من عذاب الدنيا.
ونوع عذاب الآخرة: هو أن المجرمين، أي الكفار- في رأي أكثر المفسرين- في الدنيا في حيرة وبعد عن الهدى والصواب، وفي الآخرة في احتراق وتسعّر، أي في نيران مستعرة.
يوم يجرّون في النار على وجوههم للإهانة والإذلال، ويقال لهم تقريعا وتوبيخا:
ذوقوا وقاسوا حرّ النار وآلامها وشدة عذابها. وهذا توعد بالسحب في جهنم. وأكثر المفسرين على أن المجرمين هنا يراد بهم الكفار، وقال قوم: المراد بالمجرمين: القدرية الذين يقولون: إن أفعال العباد ليست بقدر من الله تعالى.
ثم أوضح الحق تعالى أن جميع ما يحدث في الكون ومنه أفعال الناس كلهم هو مخلوق لله تعالى، فقال: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (٤٩) أي إن كل شيء من الأشياء وكل فعل من الأفعال في الكون والحياة، خيرا أو شرا، مخلوق لله تعالى، مقدر بقدر معلوم، وفي هيئة وزمن مخصوص، وهو محكم مرتب بحكمة الله تعالى، وعلى وفق المكتوب في اللوح المحفوظ، ومعلوم لله في الأزل. وهذا المعنى يقتضي أن كل شيء مخلوق، إلا ما قام الدليل العقلي على أنه ليس بمخلوق، كالقرآن وصفات الله تعالى.
وهذه الآية رد واضح على طائفة القدرية الذين ينكرون القدر، ويقولون: المرء يخلق أفعاله.
أخرج الإمام أحمد ومسلم والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خاصمت قريش رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في القدر، فنزلت هذه الآية.
2550
وأخرج الطبري ومثله البخاري عن علي رضي الله عنه: قال أبو عبد الرحمن السّلمي: «فقال رجل: يا رسول الله، ففيم العمل؟ أفي شيء نستأنفه أو في شيء قد فرغ منه؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اعملوا فكل ميسر لما خلق له، سنيسره لليسرى، سنيسره للعسرى».
وأخرج النحاس عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «القدرية الذين يقولون: الخير والشر بأيدينا، ليس لهم في شفاعتي نصيب، ولا أنا منهم، ولا هم مني».
ثم أوضح الله نفاذ مشيئته وقدره في الخليقة، فقال: وَما أَمْرُنا أي إن أمرنا بإيجاد الأشياء يكون مرة واحدة، لا حاجة فيه إلى تأكيد ثان، فيكون أمرنا بكلمة واحدة نافذا حاصلا موجودا كلمح البصر في سرعته. ولمح البصر: إغماض العين ثم فتحه.
ثم أعاد الله تعالى التنبيه للحق، فتالله لقد أهلكنا أمثالكم في الكفر يا معشر قريش، من الأمم السابقة المكذبين بالرسل، فهل من متعظ بما أخزى الله أولئك؟! وجميع ما فعله السابقون وتفعلونه من خير أو شر مكتوب في اللوح المحفوظ وغيره من كتب الملائكة. وكل صغير وكبير من الأقوال والأفعال مسطور في اللوح المحفوظ وغيره من كتب الملائكة، وكل صغير وكبير من الأقوال والأفعال مسطور في اللوح المحفوظ وفي دواوين الملائكة وصحائفهم. ثم أخبر الله تعالى عن جزاء المتقين فقال:
إِنَّ الْمُتَّقِينَ أي إن أهل التقوى والإيمان والصلاح في بساتين غناء، وأنهار متدفقة، في المقعد الذي صدّقوا به، في الخبر به عند الملك العظيم، المقتدر على ما يشاء ويريدون، وهو الله تعالى، والعندية: لبيان الرتبة والقربة. والنّهر اسم جنس، ويراد به الأنهار.
2551
Icon