في السورة تثبيت وتطمين للنبي صلى الله عليه وسلم وثناء عليه، وحملة على المكذبين وإنذار لهم، وصور لمواقفهم من الدعوة. وفيها قصة جاءت في معرض التذكير والإنذار، كما فيها إشارة إلى قصة يونس في معرض تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم.
ومضمون الأربع الأولى منها والتالية لها، يحتمل أن تكون الآيات الأربع نزلت لحدة، وأن تكون بقية الآيات نزلت بعد مدة ما، كما يحتمل أن تكون جميعها نزلت دفعة واحدة. وترتيبها كثانية السور نزولا ًهو بناء على احتمال نزول الآيات الأربع لحدتها. وعقب آيات سورة العلق الخمس الأولى. فإذا لم يكن هذا الاحتمال صحيحاً وكانت الآيات الأربع وما بعدها قد نزلت معاً، فلا يكون ترتيبها هذا صحيحاً والحالة هذه، ويقتضي أن تكون نزلت متأخرة بعض الشيء. وقد ذكر المصحف الذي اعتمدناه أن الآيات [ ١٧-٣٣ ] و[ ٤٨-٥٠ ] مدنيات. وأسلوبها ومضمونها يلهمان عدم صحة ذلك.
وآيات السور منسجمة في موضوعها وتسلسلها وسبكها. وهذا يسوغ القول : إنها من السور التي نزلت دفعة واحدة أو فصولاً متلاحقة، مع ملاحظة ما ذكرناه في صدد آياتها الأربع الأولى.
ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
١ - يسطرون : من سطر بمعنى كتب.﴿ ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ١ ( ١ ) مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ( ٢ ) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ٢ ( ٢ ) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ( ٤ ) ﴾ ( ١- ٤ ).
الخطاب في الآيات موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وفيها :
قسم بالقلم وما يكتب الناس به على سبيل التوكيد بأن عناية الله ونعمته شاملتان له، وأنه ليس مجنوناً، وأن له أجراً دائما ًمن الله على قيامه بمهمته العظمى وما يتحمله في سبيلها، وأنه على خلق عظيم أهله لاصطفاء الله وعنايته.
وفي كتب التفسير أقوال عديدة في مدلول حرف ( ن ). في بعضها إغراب وخبال. فمن ذلك ما ورد في تفسير ابن عباس الذي يرويه الكلبي عن أبي صالح أنه السمكة التي تحمل الأرضين على ظهرها وهي في الماء وتحتها الثور وتحت الثور الصخرة وتحت الصخرة الثرى ولا يعلم ما تحت الثرى إلاّ الله وأن اسم السمكة ليواشي أو ليوتي واسم الثور يهبموت أو يلهوي. وقد ورد في التفسير نفسه إلى هذا أنه اسم من أسماء الله أو إنه الدواة. وهذه الأقوال الثلاثة مروية في كتب تفسير أخرى مثل كتب الطبري والبغوي وابن كثير والخازن وغيرهم عن ابن عباس أو ( الرواة ) أو كعب الأحبار. وفي الرواية الأولى في تفسير البغوي زيادات أكثر غرابة وخيالاً معزوة إلى ( الرواة ) نرويها كنموذج مستغرب أكثر المفسرون السابقون من إيراد أمثاله على هوامش الألفاظ والأعلام والقصص والمشاهد القرآنية عزواً على الأخباريين من أصحاب وتابعين الذين تذكر أسماؤهم أحيانا وتغفل أحيانا حيث جاء فيها :" لما خلق الله الأرض وفتقها بعث من تحت العرش ملكاً، فهبط إلى الأرض حتى دخل تحت الأرضين السبع فوضعها على عاتق إحدى يديه بالمشرق والأخرى بالمغرب باسطتين قابضتين على الأرضين السبع حتى خبطها فلم يكن لقدميه موضع قرار فأهبط الله عليه من الفردوس ثورا له أربعون ألف قرن وأربعون ألف قائمة وجعل قرار قدمي الملك على سنامه فلم تستقر قدماه، فأخذ الله ياقوتة خضراء من أعلى درجة من الفردوس غلظها مسيرة خمسمائة ألف عام فوضعها بين سنام الثور إلى أذنه فاستقرت عليها قدماه. وقرون ذلك الثور خارجة من أقطار الأرض ومنخراه في البحر فهو يتنفس كل يوم نفسا، فإذا تنفس مد البحر وأزبد، وإذا ردّ نفسه جزر فلم يكن لقوائم الثور موضع قرار فخلق الله تعالى صخرة كغلظ سبع سموات وسبع أرضين فاستقرت قوائم الثور عليها وهي الصخرة التي قال لقمان لابنه﴿ فتكن في صخرة ﴾ ( لقمان : ١٦ ) ولم يكن للصخرة مستقر فخلق الله نونا وهو الحوت العظيم فوضع الصخرة على ظهره وسائر جسمه خال والحوت على البحر والبحر على متن الريح والريح على القدرة يقل الدنيا كلها بما عليها حرفان من كتاب قال لها الجبار : كوني فكانت.
ويستمر البغوي في سياقه فيقول : وقال كعب الأحبار : إن إبليس تغلغل إلى الحوت الذي على ظهره الأرض فوسوس له فقال له أتدري ما على ظهرك يا لوثيا من الأمم والدواب والشجر والجبال لو تنفثهم ألقيتهم عن ظهرك. فهم لوثيا أن يفعل ذلك فبعث الله دابة فدخلت منخره فوصلت إلى دماغه فعج الحوت إلى الله منها فأذن لها فخرجت. قال كعب : فوالذي نفسي بيده إنه لينظر إليها وتنظر إليه، إن هم بشيء من ذلك عادت إلى ذلك كما كانت...
وفي كتب التفسير بالإضافة إلى هذه الروايات والأقوال أحاديث معزوة إلى النبي صلى الله عليه وسلم لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة. سنورد نصوصها بعد قليل في واحد منها أن النون هو الحوت. وفي واحد منها أنه الدواة. وفي واحد منها أنه لوح من نور. وفي الآيات الأخيرة من السورة إشارة إلى يونس عليه السلام بوصفه صاحب الحوت على ما سوف نشرحه بعد. وفي سورة الأنبياء آية فيها إشارة أخرى إلى يونس عليه السلام بوصفه ذي النون :﴿ وذا النون إذا ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه ﴾ ( ٨٧ )، حيث يمكن أن يكون كون ( النون ) اسما للحوت الذي ذكر صاحبه في آخر السورة وارداً وربط ذلك أول السورة بآخرها. وفي هذا إن صح صورة من صور النظم القرآني. وجملة ﴿ والقلم وما يسطرون ﴾ قد تجعل كون ( النون ) اسما للدواة واردا أيضا للتناسب الظاهر. وتعدد السور التي تبتدئ بحرف أو حروف هجائية يتبعها قسم قد يجعل القول إن حرف النون مثلها وارداً أيضا، وقد يكون ما احتوته الآيات الخمس الأولى من سورة العلق أول القرآن نزولاً وما احتواه مطلع السورة من مماثلة موضوعية، حيث أمر في الأولى بالقراءة ونوه بالقلم وما علمه الله للإنسان وحيث أقسم في الثانية بالدواة والقلم والكتابة. وهي ﴿ يسطرون ﴾ مع حديث أبي هريرة الذي فيه تفسير نبوي للنون بالدواة والذي لا مانع من صحته كل هذا يجعل الرجحان لهذا أكثر.
وإذا صح هذا الترجيح فيكون مطلع السورة الذي من المحتمل أن يكون نزل بعد الآيات الخمس الأولى من سورة العلق توكيداً لما احتوته هذه الآيات الخمس في صدر تلقين القرآن منذ تنزيله بخطورة القراءة والكتابة والعلم والتعليم في حياة الإنسان وكرامته.
ومع أن الآيات كما قلنا قبل هي بسبيل وصف أخلاق الطبقة الغنية المترفة التي تصدت لمناوأة الدعوة النبوية وأهدافها، فإن فيما احتوته من تنديد بالكذب والأيمان الكاذبة، والنميمة والعيب في الناس وشتمهم ومنع الخير عنهم، والبغي عليهم وغلظ القلب وقسوة العاطفة، تنطوي على تلقينات قرآنية جليلة مستمرة المدى، بوجوب احتقار ونبذ المتصفين بهذه الصفات، واجتناب هذه الصفات والأفعال الذميمة المكروهة، وتنقية النفس من الأوضار. ولقد تكرر ذم هذه الأخلاق والصفات، ومدح أضدادها في مختلف السور المكية والمدنية معا، وبكثرة تغني عن التمثيل مما فيه دلالة على شدة اهتمام القرآن بالأخلاق وتقويمها، على اعتبار كون أفعال الناس إنما تصدر عنها وتتأثر بها.
ونكتفي هنا بهذه الكلمة لأن التنديد بالأخلاق السيئة والتنويه بالأخلاق الحسنة سوف يتكرر في تجدد المناسبات الكثيرة الآتية.
ولقد أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث عديدة ورد بعضها في كتب الأحاديث الخمسة في الأخلاق السيئة المندد بها في الآيات. من ذلك حديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن حذيفة قال :" سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا يدخل الجنة قتّاتٌ وفي رواية نمّام " ١. وحديث رواه الأربعة عن أبي هريرة قال :" سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن شرّ الناس ذو الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه " ٢وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة قال :" قال النبي صلى الله عليه وسلم : إياكم وسوء ذات البين فإنها الحالقة " ٣. وحديث رواه مسلم عن عبد الله قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أنبئكم ما العَضْهُ ؟ هي النميمة القالةُ بين الناس " ٤. وحديث رواه أبو داود عن عمّار قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان له وجهان في الدنيا كان له يوم القيامة لسانان من نار " ٥. وحديث رواه أبو داود عن أبي هريرة قال :" قال النبي صلى الله عليه وسلم إن من أكبر الكبائر استطالة المرء في عرض رجل مسلم بغير حق، ومن الكبائر السبتان بالسبة " ٦. وحديث رواه أبو داود والترمذي عن أبي برزة قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين ولا تتّبعوا عوراتهم، فإنه من اتّبع عوراتهم يتّبع الله عورته ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته " ٧. وحديث رواه الترمذي عن عبد الله قال :" قال النبي صلى الله عليه وسلم : ليس المؤمن بالطّعّان ولا اللعّان ولا الفاحش ولا البذيء " ٨. وحديث رواه أبو داود عن سفيان بن أسيد قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كبرَت خيانة أن تحدّث أخاك حديثا هو لك به مصدّقٌ وأنت له به كاذب " ٩. وحديث رواه البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" أربعٌ من كنّ فيه كان منافقاً خالصاً ومن كانت فيه خَلة ٌمنهن كانت فيه خلةٌ من نفاق حتى يدعها، إذا حدّث كَذبَ وإذا عَاهدَ غدر، وإذا وعد أخلف، وإذا خَاصمَ فَجرَ " ١٠.
وحديث رواه أبو داود عن أنس قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لما عُرجَ بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم فقلت من هؤلاء يا جبريل ؟ قال : هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم " ١١. وحديث رواه الشيخان والترمذي عن حارثة بن وهب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" ألا أخبركم بأهل الجنة، كلّ ضعيف متضاعف لو أقسم على الله لأبرّه. ألا أخبركم بأهل النار كل عتل جَوّاظ مستكبر " ١٢. وحديث رواه الترمذي عن الزبير بن العوام أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" دبّ إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين. والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا. ألا أنبّئكم بما يثبت ذاكم لكم افشُوا السلامَ بينكم " ١٣.
وهكذا يتساوق التلقين القرآني مع التلقين القرآني في التنديد بالأخلاق السيئة. وهذا ليس كل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم فهناك أحاديث كثيرة من بابها وردت في كتب ومساند أئمة آخرين فاكتفينا بما أوردناه نقلا من الكتب الخمسة. وهناك أحاديث أخرى في هذه الكتب سنوردها في مناسبات أكثر ملاءمة.
تعليق على مواقف المناوأة الذي وقفه الزعماء والأغنياء
ووصف الكذاب الحلاف بذي مال وبنين، يدل على أن الذين وقفوا من النبي صلى الله عليه وسلم هذه المواقف، وطلبوا منه المداهنة ونعتوه بالضلال، هم بصراحة من ذوي اليسار. وفي الآيات صورة ثانية من صور مواقف زعماء الكفار من الدعوة النبوية منذ بدئها، كرد فعل لما كان يتلوه النبي صلى الله عليه وسلم من آيات وسور قرآنية فيها دعوة ملحة إلى التصدق على الفقراء وإطعام المساكين، ونعي على شدة حب المال والتكالب عليه على ما شرحناه في سورة العلق.
تعليق على الحروف المتقطعة
في أوائل السور
وعلى تقدير أن حرف ( ن ) من الحروف المتقطعة المماثلة للحروف التي بدئت بها سور عديدة أخرى نقول : إن هذه السور [ ٢٩ ] وهي سورة البقرة وآل عمران والأعراف ويونس وهود ويوسف والرعد وإبراهيم والحجر ومريم وطه والشعراء والنمل والقصص والعنكبوت والروم ولقمان والسجدة ويس وص وغافر وفصلت والشورى والزخرف والدخان والجاثية والأحقاف وق ون. وهناك من يخرج ( طه ) و( يس ) ويقول إنهما اسمان للنبي صلى الله عليه وسلم و( ق ) ويقول إنه اسم جبل بالإضافة إلى ( ن ) التي قال بعضهم إنه الحوت أو الدواة كما ذكرنا آنفا. وهناك من يجعل هذه الأربعة كسائر الحروف.
وليس هناك أثر نبوي وثيق في مدى ومغزى هذه الحروف التي جرى التواتر غير المنقطع على قراءتها بأسمائها ( ألف. لام. ميم إلخ ) وقد تعددت روايات وأقوال المفسرين في هذا المدى والمغزى١. منها أنها رموز إلى أسماء الله تعالى أو صفاته. أو أقسام أقسم الله تعالى بها، أو أسماء للسور، أو أريد بها تحدي الكفار بالقول إن القرآن إنما هو حروف وكلمات من جنس ما يعرفونه فليأتوا بمثله أو بشيء منه. وهناك من فضل عدم التخمين ووكل علمها وحكمتها إلى الله تعالى. وهناك من خمن أنها أو أن بعضها احتوى أسراراً أو ألغازاً دنيوية مغيبة. وهناك من روى أنها لحساب المدة الباقية من الدنيا بحساب الأرقام التي ترمز إليها الحروف في حساب الأبجدية التي ترتيبها ( أ ب ج د ه و ز ح ط ) ( ي ك ل م ن س ع ف ص ) ( ق ر ش ت ث خ ذ ض ظ غ ) حيث تحسب الحروف التسعة الأولى أرقام آحاد من الواحد إلى التسعة والحروف التسعة التالية أرقام عشرات إلى التسعين والحروف العشرة التالية أرقام المئات إلى الألف ويبلغ مجموع أرقام جميع الحروف على هذا الحساب ( ٣٢٩٥ ) وهذا الترتيب والحساب هو ترتيب الأبجدية العبرانية وحساب اليهود لها باستثناء الحروف الستة الأخيرة التي ليس لها نظير في هذه الأبجدية.
وقد طلع باحث عربي مؤخراً برأي يقول فيه : إنها ترمز إلى عدد آيات السور التي جاءت في مطلعها على أساس ذلك الحساب٢.
وهناك قول معزو إلى ابن عباس رضي الله عنه بأنها للتنبيه واسترعاء الأسماع أي من نوع هلا، ألا. ولقد روى الترمذي حديثا في سياق أوائل سورة الروم جاء فيه " إنها لمّا نزلت خرج أبو بكر يصيح في نواحي مكة : " آلم، غلبت الروم " ٣ الآيات ونحن نرجح هذا القول. واتباع الحروف في معظم السور بالتنويه بالقرآن وبجمل قسمية به مما يقوي في نظرنا هذا الترجيح. وهو ما أخذنا به مع القول : إن تنوع الحروف التي أريد بها الاسترعاء والتنبيه متصل بحكمة التنزيل. ولا بأس بالقول إنها أقسام ربانية وردّ حكمة ذلك وعلمه إلى الله عز وجل أيضا قول عليم حكيم متسق مع مذهب السلف الإسلامي الأول في تجنب الخوض والتخمين والمراء في العبارات القرآنية التي يصعب على الأفهام اكتناه كنهها. وحساب الحروف لاستخراج عدد السنين الباقية للدنيا أو محاولة الاستدلال بها على عدد آيات السور في مرحلة من المراحل أو القول بأنها تنطوي على أسرار وألغاز ورموز لأحداث مغيبة مستقبلة يؤدي إلى القول : إن في القرآن إن في أسراراً خفيت عن النبي صلى الله عليه وسلم أو كتمها عن أصحابه، وليس من أثر نبوي وثيق في ذلك. ولا يجوز أن يُظن أن الله تعالى أخفاها عن النبي أو أن النبي أخفاها عن أصحابه، والقرآن يقرر أن الله أنزله ليتدبر الناس آياته ويعلقوها وأن الله أمر يبين للناس ما نزل إليه من ربه.
تعليق على الأقسام القرآنية
والآية الأولى تضمنت قسماً ربانياً، والآيات الثلاث هي جوابه. والأيمان الربانية أسلوب قرآني مألوف كثير الورود والصور، بسبب كون الأيمان أسلوبا تخاطبياً مألوفاً كما هو المتبادر. وهناك سور عديدة تبدأ بالأيمان مما يمكن أن يعتبر كأسلوب من أساليب النظم القرآني في مطالع السور.
ولقد تنوع المقسم به تنوعاً كبيراً فشمل مشاهد الكون السماوية والأرضية وموجوداته الحية والجامدة. غير أن الذي يتبادر من المقسم به وأسلوب القسم أن ذلك مما له خطورة في أذهان الناس أو واقع حياتهم. سواء أكان ذلك بسبب ما فيه من عظمة مشهد وروعة مظهر وقوة صورة، أم بسبب ما يثيره من معان وآثار نفسية، أم بسبب ما له من نفع عظيم، أم بسبب ما يتصل به من عادات وتقاليد ومفهومات. وإن مما هدفت إليه الأقسام التوكيد واسترعاء الأذهان والأسماع لما يأتي بعد القسم من تقريرات متنوعة الأهداف والمعاني.
تعليق على ما ورد من أحاديث
وأقوال عن مدى ( القلم ) في الآية
لقد أورد المفسرون في سياق الآية الأولى أحاديث عديدة عن معنى القلم مفرداً ومعناه ومعنى النون معا. منها حديث ورد في كتب الأحاديث المعتبرة أو الصحيحة حيث روى الترمذي وأبو داود حديثاً جاء فيه : " قال عبادة بن الصامت لابنه : يا بني إنك لن تجد طعم حقيقة الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن أول ما خلق الله القلم فقال له اكتب قال يا رب وماذا أكتب ؟ قال : اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة " ٤. ومنها ما رواه المفسرون بطرق أخرى، من ذلك حديث أخرجه ابن جرير الطبري عن ابن عباس قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أول ما خلق الله القلم والحوت. فقال للقلم : اكتب. قال : ما أكتب ؟ قال : كل شيء كائن إلى يوم القيامة. ثم قرأ { ن والقلم وما يسطرون ) [ القلم : ١ ]. فالنون الحوت والقلم القلم ".
وحديث أورده ابن كثير رواه ابن عساكر عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن أول شيء خلقه الله القلم ثم خلق النون وهي الدواة ثم قال له : اكتب قال : وما أكتب ؟ قال : اكتب ما يكون أو ما هو كائن من عمل أو رزق أو أجل، فكتب ذلك إلى يوم القيامة. فذلك قوله ﴿ ن والقلم وما يسطرون ﴾. ثم ختم على القلم فلم يتكلم إلى يوم القيامة. ثم خلق العقل وقال : وعزتي لأكملنّك فيمن أحببت ولأنقصنك ممن أبغضت ". وحديث رواه ابن جرير الطبري مروياً عن معاوية بن قرة عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :﴿ ن والقلم وما يسطرون ﴾. لوح من نور. وقلم من نور يجري بما هو كائن إلى يوم القيامة ". وأورد المفسرون أقوالا عن بعض التابعين تفيد أن القلم المقسم به في الآية هو هذا القلم الذي أمره الله أن يكتب ما هو كائن. ومع ذلك فقد قالوا أيضا إنه أريد بالقلم المقسم به جنس القلم مطلقا وأريد بالقسم به تعظيم الكتابة وأدواتها ؛ حيث يفيد هذا أن الذين قالوا هذا لم يأخذوا الأحاديث النبوية كتفسير قاطع للمراد بالقلم المقسم به في الآية. ونحن نرى هذا هو الأوجه. ولعل اتباع القلم بجملة وما يسطرون وسبقه بكلمة نون المفسرة بالدواة من مقويات هذا الترجيح ؛ لأن صيغة المضارع تفيد الحاضر والمستقبل في حين أن أمر الله للقلم المذكور في الأحاديث هو في صدد أمر مضى. كما أن الاتساق في المعنى والموضوع بين معنى وعمل القلم هنا وفي آيات سورة العلق من مقوياته أيضا، والله أعلم.
وما احتوته الأحاديث من كتابة المقادير بالقلم على اللوح متصل ببحثي القدر واللوح مما سوف يكون موضوع تعليق في مناسبات آتية.
وسياق الرواية الطويلة التي نقلناها عن البغوي معزوة إلى ( الرواة ) يفيد أن كعب الأحبار هو المعني بالرواة أو هو منهم. وهذا الرجل من اليهود الذين أسلموا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين واندمجوا في المجتمع الإسلامي، وقد روى عنه وعن رفاقه مثل عبد الله بن سلام ومحمد القرظي وثعلبة ونوف البكالي وأبناء منبه روايات كثيرة على هامش الألفاظ والأعلام والقصص والمشاهد القرآنية فيها مثل ما في هذه الرواية من إغراب وخيال. وقد وصفها علماء المسلمين بالإسرائيليات التي تتضمن معنى التشكيك وعدم الثقة فيها.
ولقد كان عند اليهود أسفار وقراطيس فيها شرائعهم وأخبار أجدادهم وأنبيائهم وأخبار ما قبلهم من خلق وتكوين وأنبياء وأحداث. وقد استطاعوا قبل البعثة أن يوجدوا في نفوس العرب فكرة كونهم أصحاب علم في شؤون الدين والدنيا المتنوعة. وكانوا هم يتبجحون وينسبون كثيرا مما يحدثون به العرب إلى كتب الله على ما أشارت إليه آيات قرآنية كثيرة في سورتي البقرة وآل عمران١. فلما أسلم من أسلم منهم بعد البعثة صار المسلمون في الصدر الإسلامي يسألونهم عن تفصيل ما ورد مجملاً في القرآن من قصص وأعلام ومشاهد وأحداث واصطلاحات فيفيضون لهم عنه. وكانوا يفيضون بذلك بدون سؤال أيضا إذا ما وقعت المناسبة. ولقد روى البخاري عن أبي هريرة حديثا جاء فيه :" كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم و﴿ قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا ﴾ ( ١٣٦ )، وإلى آخر الآية من سورة البقرة " ٢.
فكان الرواة يتلقون ما يذكره هؤلاء ويروونه إلى غيرهم. إلى أن بدأ التدوين فصارت بياناتهم تدون في الكتب الأولى ثم تنقل منها إلى كتب أخرى. ولم يكن المفسرين اطلاع على الأسفار بلغاتها ولم يتيسر لهم ترجمات لها فصاروا يدونون ما يروى لهم على علاته التي منها الكثير من الإغراب والخيال والمفارقة.
ولقد شغلت الإسرائيليات حيزاً كبيراً جداً من كتب التفسير وكان كثير منها مملوءاً مثل الرواية التي أوردناها بالإغراب والخيال برغم احتمال كون شيء قليل أو كثير مما كانوا يدلون به في أسفار وقراطيس لم تصل إلينا. وليس كل ما في أيديهم من أسفار وقراطيس صحيحاً في مجمله أو تفصيله.
ولقد كان لتداول الرواة لهذه البيانات وتدوينها في كتب التفسير وشغلها منها حيزاً كبيراً، بل الحيز الأكبر أثر قوي في التغطية على ما في القرآن من مبادئ وأحكام وتلقينات ووصايا هي جوهر القرآن ومحكمه الذي فيه الهدى والنور والموعظة والفرقان، حينما يريد المسلم أن يقرأ القرآن مفسراً في أحد هذه الكتب ثم في استغراق المسلمين في هذه البيانات بقصد استقصاء جزئيات القصص والأعلام والمشاهد والاصطلاحات القرآنية حتى صارت وما تزال أسئلتهم لمن يشتغل بالقرآن من العلماء عنها في الدرجة الأولى دون الأهداف والمحكمات القرآنية بحيث يقال بحق إنها شوشت على القرآن وأذهان المسلمين.
ويحمل الباحثون اليهود الرواة مسؤولية ذلك. ومنهم من يرى أنهم قصدوا إليه قصداً كيداً للإسلام واستغفالاً للمسلمين. وقد يكون في هذا القول شيء من الحق. غير أننا نرى أن الرواة الأولين من المسلمين ثم المدونين الذين دونوا رواياتهم لأول مرة، ثم الذين نقلوا عن هؤلاء يتحملون كذلك مسؤولية مثلهم إن لم نقل أكثر منهم لأنهم مفروض فيهم القدرة على تمييز الغثّ من السمين والباطل من الحق والكذب من الصدق وعلى لمح ما في الروايات من غلوّ ومبالغات لا يصح كثير منها في عقل ومنطق وواقع ولا يؤديها أثر صحيح. ثم القدرة على إدراك ما في رواية هذه الروايات وتدوينها وإشغالها الحيز الكبير أو الأكبر من كتب التفسير من تشويش على أذهان قارئي هذه الكتب وعلى أهداف القرآن ومحكماته.
وقد يكون من الحق أن بعض المفسرين وقفوا من الإسرائيليات موقف المنكر المنبه الناقد غير أن هذا ليس شاملاً ولا عاماً، ومن الناقدين والمنكرين والمنبهين أنفسهم من روى كثيرا منها في مناسبات كثيرة بدون نقد ولا إنكار ولا تنبيه.
تنبيه في صدد الأحاديث والأقوال التي تروى بدون سند صحيح
ويكون فيها تعدد وتباين وتباعد وغرابة
في الأحاديث المعزوة إلى النبي صلى الله عليه وسلم عن مدلول النون واحد يذكر أنه الدواة وواحد يذكر أنه الحوت وواحد يذكر أنه لوح من نور. وليس شيء من هذه الأحاديث وارداً في الكتب المعتبرة. وفي الأقوال المعزوة إلى ابن عباس رواية مختصرة مماثلة في مداها لما رواه البغوي عن كعب الأحبار ورفاقه الرواة. ورواية تذكر أنه اسم الله بالإضافة إلى قولين مما ورد في الأحاديث وهما : أنه لوح من نور أو أنه الدواة. ومع ما قلناه من أن هذه الأحاديث والأقوال لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة فإن المتبادر أنه لا يعقل أن يصدر عن النبي صلى الله عليه وسلم أو ابن عباس أقوال متعددة فيها تباين وتضارب وغرابة. وكل ما يعقل أن يكون صدر قول واحد في تفسير الكلمة. وأن تكون الأقوال الأخرى على الأقل منحولة نحلاً. ومثل هذا كثير على ما سوف ننبه عليه في مناسباته. وليس هذا خاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم وابن عباس فإن المفسرين يروون أقوالاً عديدة فيها تضارب وتباين وتباعد وغرابة عن شخص واحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم. وقد أردنا بهذا تنبيه القارئ إلى ضرورة التدبر في هذا الأمر والتوقف فيما لا يكون وثيق السند ويكون فيه في الوقت نفسه تعدد وتضارب وتباين وغرابة سواء أنسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى أصحابه أو تابعيهم. والله تعالى أعلم.
وقت نزول الآيات الأولى
من هذه السورة
وقد روي٣ أن هذه الآيات هي التي أعقبت آيات سورة العلق الأولى. ووضع سورة القلم في ترتيب ثانية سورة قرآنية نزولا إنما هو بسبب ذلك. فإذا صحت الرواية فتكون الآيات قد نزلت وحدها وبقية آيات السورة نزلت بعدها بمدة ما. ثم ألحقت بها وتم بذلك تأليف السورة وشخصيتها وتكون كذلك قد نزلت لتطمين النبي عليه السلام وتثبيته، ونفي ما ظنه وخشي منه، وهو أن يكون ما رآه وسمعه حينما أوحي إليه لأول مرة مسّاً من الجن حتى إنه أراد أن يلقي نفسه من شاهق الجبل على ما رواه الطبري٤ في حديث معزو إلى عبد الله بن الزبير عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإن لم تصح الرواية فيكون في الآيات تطمين وتثبيت من جهة، ورد على نعث الكفار للنبي صلى الله عليه وسلم بالجنون من جهة. وقد حكى ذلك القرآن عنهم في آيات عديدة مثل آية سورة الحجر هذه :﴿ وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون( ٦ ) ﴾، ومثل آية سورة المؤمنون هذه :﴿ أم يقولون به جنة بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون( ٧٠ ) ﴾، ومثل الآية الأخيرة من سورة القلم نفسها :﴿ وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون( ٥١ ) وما هو إلا ذكر للعالمين( ٥١ ) ﴾.
ويلحظ الانسجام والتلاحق بين هذه الآيات وما بعدها، وهذا قد يضعف الرواية الأولى ويسوغ القول إنها نزلت هي وما بعدها سلسلة واحدة أو متلاحقة، وإن ترتيبها كثاني سورة غير صحيح ؛ لأن الآيات التالية لها تضمنت مشاهد تكذيبية وجدلية، وحملة تنديدية وحكاية لقول المكذبين : إن القرآن أساطير الأولين، مما لا يمكن أن يكون وقع إلا بعد نزول جملة غير يسيرة من القرآن واتصال النبي عليه السلام بالناس وتلاوته عليهم واشتباكه معهم بالجدل والحجاج.
أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم
والثناء من الله على خلق النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الأسلوب البليغ التوكيدي، ووصفه بالعظمة رائع كل الروعة، يتضاءل أمامه كل ثناء ووصف وتكريم بشري، ثم كل ما حاوله بعض المسلمين في وصف شخصيته بأوصاف تكاد تخرجه عن نطاق البشرية، مما جاء في بعض كتب السيرة والشمائل٥ على غير طائل وضرورة، وعلى غير ما صرح به القرآن من أن النبي صلى الله عليه وسلم بشر كسائر البشر في جميع الأعراض والمظاهر، ورسول قد خلت من قبله الرسل، وليس بدعا فيهم كما جاء في آية سورة الأحقاف هذه :﴿ قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ( ٩ ) ﴾، وفي آية سورة آل عمران هذه :﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ ﴾ ( ١٤٤ ) وفي آية سورة الأعراف هذه :﴿ قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ ﴾ ( ١٨٨ )، وفي آية سورة الكهف هذه :﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا( ١١٠ ) ﴾، والمتبادر أن ذلك متأتّ من قصور الأفهام عن إدراك ما في أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم من عظمة وما في نفسه من صفاء، وما في قلبه من إيمان وإخلاص جعله أهلاً لاصطفاء الله، فحفزهم إلى البحث عن أسباب أخرى، فيها ما فيها من الغلو الذي لا ينسجم مع طبائع الأشياء، ولا يتسق مع نصوص القرآن.
والآيات من أوائل القرآن نزولاً على كل حال، وهذا يعني أن الخلق العظيم الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، واستحق به هذا الثناء البليغ الرباني، قد كان مما تحلى به قبل البعثة، وهو الذي أهله للاصطفاء والمهمة العظمى، والله أعلم حيث يجعل رسالته. ولقد جاء في حديث للبخاري عن عائشة أن السيدة خديجة رضي الله عنها حينما عاد إليها بعد نزول الوحي عليه لأول مرة، وقصّ عليها ما رآه وسمعه وقال لها :" إني خشيت على نفسي قالت له : كلا والله ما يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم، وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق " ٦ وجاء في الحديث الذي رواه الطبري عن عبد الله٧ بن الزبير أنها قالت له حينما قال لها إني خشيت أن أكون شاعراً أو مجنوناً :" أعيذك بالله من ذلك يا أبا القاسم، ما كان الله ليصنع ذلك بكَ مع ما أعلم منك من صدق حديثك وعظم أمانتك وحسن خلقك وصلة رحمك " وهذا مما يؤيد قولنا ؛ لأن هذه الأخلاق الكريمة مما كان يتحلى به النبي صلى الله عليه وسلم قبل بعثته.
٢ - نشر السيد نصوح الطاهر في رمضان ١٣٧٣ هـ -١٩٥٤ م رسالة عنوانها "أوائل السور في القرآن" ذهب فيها هذا المذهب. ومن ينعم النظر فيها ير تجوزا بارزا في الحساب وتسليما بروايات مدنية الآيات في السور المكية ومكية الآيات في السور المدنية بدون سند وثيق وعدم تسليم ببعضها بدون سند وثيق للحساب والتطبيق. مع أن هناك روايات مضادة ومع أن روح الآيات وسياقها يلهمان بقوة عدم صحة معظم روايات مدنية ومكية الآيات في السور المكية والمدنية.
ومما يقوله السيد الطاهر أن الحروف في بعض السور بل في معظمها كانت ترمز إلى عدد آيات السور في مرحلة من المراحل وقبل ترتيب آياتها نهائيا. ثم أضيف بعد هذه المرحلة إليها آيات وفصول أو أنقص منها آيات وفصول. ومن السور المكية ما أضيف إليه آيات مدنية ومن السور المدنية ما أضيف إليه آيات مكية. وإن من السور ما كان متداخلا بعضه في بعض فلما رتبت آيات السور وفصل بعض ما كان داخلا في سور أخرى عن بعضها ووضع في سور أخرى أو جعل بعضها سورا مستقلة اختل العدد الذي ترمز إليه الحروف في الحساب الأبجدي. وهنا سلاسل من هذه السور متشابهة في حروفها المتقطعة. فذهب في بعضها إلى أن أحدها كان يرمز إلى عدد جميع آيات السور وذهب في بعضها إلى أن حروف إحداها هي التي كانت ترمز إلى عدد آياتها جميعا دون تعليل مقنع لتكرر الحروف المتشابهة في هذه السلاسل. وهذا الرأي يعني أن إضافة آيات أو فصول في سورة ما مرموز فيها إلى عدد آياتها في مرحلة من المراحل أو إنقاص آيات وفصول قد أخل في هذه الرمزية إذا كانت الحروف وحيا قرآنيا كما نعتقد ونزلت لترمز لذلك حسب رأي السيد الطاهر الذي نعتقد أنه هو الآخر لا ينكر كونها وحيا. وبالتالي قد أفقدتها حكمتها التي علمها الله. فإذا فرضنا أن ترتيب السور في صورتها النهائية قد تم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وأمره وهو ما نعتقده استنادا إلى دلائل وقرائن كثيرة قرآنية وغير قرآنية فيكون النبي قد أخل بحكمة الرمزية الربانية وحاشاه أن يفعل. وإذا كان الترتيب قد تم بعد وفاته على ما يقول به بعض العلماء فيرد حينئذ سؤال عما إذا كان النبي قد أخبر أصحابه بمفهوم الرمز. فإذا لم يكن قد أخبر به فيكون قد خالف أمر الله فلم يبين بعض ما أنزله الله عليه وحاشاه أن يفعل. وإذا كان قد أخبرهم به فيكونون قد خالفوه وأخلوا بحكمة الرمزية الربانية معا وحاشاهم أن يفعلوا. ويبقى هناك فرض وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرف مفهوم ورمزية الحروف. وظل هذا خفيا عليه وعلى جميع الناس من بعده إلى أن كشف عنه للسيد الطاهر ولا نظن هذا السيد يدعي ذلك..
٣ - انظر "التاج الجامع" جـ ٤ ص ١٧٨-١٧٩..
٤ - انظر "التاج"، ج ١ ص ٣٣..
الخطاب في الآيات موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وفيها :
قسم بالقلم وما يكتب الناس به على سبيل التوكيد بأن عناية الله ونعمته شاملتان له، وأنه ليس مجنوناً، وأن له أجراً دائما ًمن الله على قيامه بمهمته العظمى وما يتحمله في سبيلها، وأنه على خلق عظيم أهله لاصطفاء الله وعنايته.
وفي كتب التفسير أقوال عديدة في مدلول حرف ( ن ). في بعضها إغراب وخبال. فمن ذلك ما ورد في تفسير ابن عباس الذي يرويه الكلبي عن أبي صالح أنه السمكة التي تحمل الأرضين على ظهرها وهي في الماء وتحتها الثور وتحت الثور الصخرة وتحت الصخرة الثرى ولا يعلم ما تحت الثرى إلاّ الله وأن اسم السمكة ليواشي أو ليوتي واسم الثور يهبموت أو يلهوي. وقد ورد في التفسير نفسه إلى هذا أنه اسم من أسماء الله أو إنه الدواة. وهذه الأقوال الثلاثة مروية في كتب تفسير أخرى مثل كتب الطبري والبغوي وابن كثير والخازن وغيرهم عن ابن عباس أو ( الرواة ) أو كعب الأحبار. وفي الرواية الأولى في تفسير البغوي زيادات أكثر غرابة وخيالاً معزوة إلى ( الرواة ) نرويها كنموذج مستغرب أكثر المفسرون السابقون من إيراد أمثاله على هوامش الألفاظ والأعلام والقصص والمشاهد القرآنية عزواً على الأخباريين من أصحاب وتابعين الذين تذكر أسماؤهم أحيانا وتغفل أحيانا حيث جاء فيها :" لما خلق الله الأرض وفتقها بعث من تحت العرش ملكاً، فهبط إلى الأرض حتى دخل تحت الأرضين السبع فوضعها على عاتق إحدى يديه بالمشرق والأخرى بالمغرب باسطتين قابضتين على الأرضين السبع حتى خبطها فلم يكن لقدميه موضع قرار فأهبط الله عليه من الفردوس ثورا له أربعون ألف قرن وأربعون ألف قائمة وجعل قرار قدمي الملك على سنامه فلم تستقر قدماه، فأخذ الله ياقوتة خضراء من أعلى درجة من الفردوس غلظها مسيرة خمسمائة ألف عام فوضعها بين سنام الثور إلى أذنه فاستقرت عليها قدماه. وقرون ذلك الثور خارجة من أقطار الأرض ومنخراه في البحر فهو يتنفس كل يوم نفسا، فإذا تنفس مد البحر وأزبد، وإذا ردّ نفسه جزر فلم يكن لقوائم الثور موضع قرار فخلق الله تعالى صخرة كغلظ سبع سموات وسبع أرضين فاستقرت قوائم الثور عليها وهي الصخرة التي قال لقمان لابنه﴿ فتكن في صخرة ﴾ ( لقمان : ١٦ ) ولم يكن للصخرة مستقر فخلق الله نونا وهو الحوت العظيم فوضع الصخرة على ظهره وسائر جسمه خال والحوت على البحر والبحر على متن الريح والريح على القدرة يقل الدنيا كلها بما عليها حرفان من كتاب قال لها الجبار : كوني فكانت.
ويستمر البغوي في سياقه فيقول : وقال كعب الأحبار : إن إبليس تغلغل إلى الحوت الذي على ظهره الأرض فوسوس له فقال له أتدري ما على ظهرك يا لوثيا من الأمم والدواب والشجر والجبال لو تنفثهم ألقيتهم عن ظهرك. فهم لوثيا أن يفعل ذلك فبعث الله دابة فدخلت منخره فوصلت إلى دماغه فعج الحوت إلى الله منها فأذن لها فخرجت. قال كعب : فوالذي نفسي بيده إنه لينظر إليها وتنظر إليه، إن هم بشيء من ذلك عادت إلى ذلك كما كانت...
وفي كتب التفسير بالإضافة إلى هذه الروايات والأقوال أحاديث معزوة إلى النبي صلى الله عليه وسلم لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة. سنورد نصوصها بعد قليل في واحد منها أن النون هو الحوت. وفي واحد منها أنه الدواة. وفي واحد منها أنه لوح من نور. وفي الآيات الأخيرة من السورة إشارة إلى يونس عليه السلام بوصفه صاحب الحوت على ما سوف نشرحه بعد. وفي سورة الأنبياء آية فيها إشارة أخرى إلى يونس عليه السلام بوصفه ذي النون :﴿ وذا النون إذا ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه ﴾ ( ٨٧ )، حيث يمكن أن يكون كون ( النون ) اسما للحوت الذي ذكر صاحبه في آخر السورة وارداً وربط ذلك أول السورة بآخرها. وفي هذا إن صح صورة من صور النظم القرآني. وجملة ﴿ والقلم وما يسطرون ﴾ قد تجعل كون ( النون ) اسما للدواة واردا أيضا للتناسب الظاهر. وتعدد السور التي تبتدئ بحرف أو حروف هجائية يتبعها قسم قد يجعل القول إن حرف النون مثلها وارداً أيضا، وقد يكون ما احتوته الآيات الخمس الأولى من سورة العلق أول القرآن نزولاً وما احتواه مطلع السورة من مماثلة موضوعية، حيث أمر في الأولى بالقراءة ونوه بالقلم وما علمه الله للإنسان وحيث أقسم في الثانية بالدواة والقلم والكتابة. وهي ﴿ يسطرون ﴾ مع حديث أبي هريرة الذي فيه تفسير نبوي للنون بالدواة والذي لا مانع من صحته كل هذا يجعل الرجحان لهذا أكثر.
وإذا صح هذا الترجيح فيكون مطلع السورة الذي من المحتمل أن يكون نزل بعد الآيات الخمس الأولى من سورة العلق توكيداً لما احتوته هذه الآيات الخمس في صدر تلقين القرآن منذ تنزيله بخطورة القراءة والكتابة والعلم والتعليم في حياة الإنسان وكرامته.
وسياق الرواية الطويلة التي نقلناها عن البغوي معزوة إلى ( الرواة ) يفيد أن كعب الأحبار هو المعني بالرواة أو هو منهم. وهذا الرجل من اليهود الذين أسلموا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين واندمجوا في المجتمع الإسلامي، وقد روى عنه وعن رفاقه مثل عبد الله بن سلام ومحمد القرظي وثعلبة ونوف البكالي وأبناء منبه روايات كثيرة على هامش الألفاظ والأعلام والقصص والمشاهد القرآنية فيها مثل ما في هذه الرواية من إغراب وخيال. وقد وصفها علماء المسلمين بالإسرائيليات التي تتضمن معنى التشكيك وعدم الثقة فيها.
ولقد كان عند اليهود أسفار وقراطيس فيها شرائعهم وأخبار أجدادهم وأنبيائهم وأخبار ما قبلهم من خلق وتكوين وأنبياء وأحداث. وقد استطاعوا قبل البعثة أن يوجدوا في نفوس العرب فكرة كونهم أصحاب علم في شؤون الدين والدنيا المتنوعة. وكانوا هم يتبجحون وينسبون كثيرا مما يحدثون به العرب إلى كتب الله على ما أشارت إليه آيات قرآنية كثيرة في سورتي البقرة وآل عمران١. فلما أسلم من أسلم منهم بعد البعثة صار المسلمون في الصدر الإسلامي يسألونهم عن تفصيل ما ورد مجملاً في القرآن من قصص وأعلام ومشاهد وأحداث واصطلاحات فيفيضون لهم عنه. وكانوا يفيضون بذلك بدون سؤال أيضا إذا ما وقعت المناسبة. ولقد روى البخاري عن أبي هريرة حديثا جاء فيه :" كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم و﴿ قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا ﴾ ( ١٣٦ )، وإلى آخر الآية من سورة البقرة " ٢.
فكان الرواة يتلقون ما يذكره هؤلاء ويروونه إلى غيرهم. إلى أن بدأ التدوين فصارت بياناتهم تدون في الكتب الأولى ثم تنقل منها إلى كتب أخرى. ولم يكن المفسرين اطلاع على الأسفار بلغاتها ولم يتيسر لهم ترجمات لها فصاروا يدونون ما يروى لهم على علاته التي منها الكثير من الإغراب والخيال والمفارقة.
ولقد شغلت الإسرائيليات حيزاً كبيراً جداً من كتب التفسير وكان كثير منها مملوءاً مثل الرواية التي أوردناها بالإغراب والخيال برغم احتمال كون شيء قليل أو كثير مما كانوا يدلون به في أسفار وقراطيس لم تصل إلينا. وليس كل ما في أيديهم من أسفار وقراطيس صحيحاً في مجمله أو تفصيله.
ولقد كان لتداول الرواة لهذه البيانات وتدوينها في كتب التفسير وشغلها منها حيزاً كبيراً، بل الحيز الأكبر أثر قوي في التغطية على ما في القرآن من مبادئ وأحكام وتلقينات ووصايا هي جوهر القرآن ومحكمه الذي فيه الهدى والنور والموعظة والفرقان، حينما يريد المسلم أن يقرأ القرآن مفسراً في أحد هذه الكتب ثم في استغراق المسلمين في هذه البيانات بقصد استقصاء جزئيات القصص والأعلام والمشاهد والاصطلاحات القرآنية حتى صارت وما تزال أسئلتهم لمن يشتغل بالقرآن من العلماء عنها في الدرجة الأولى دون الأهداف والمحكمات القرآنية بحيث يقال بحق إنها شوشت على القرآن وأذهان المسلمين.
ويحمل الباحثون اليهود الرواة مسؤولية ذلك. ومنهم من يرى أنهم قصدوا إليه قصداً كيداً للإسلام واستغفالاً للمسلمين. وقد يكون في هذا القول شيء من الحق. غير أننا نرى أن الرواة الأولين من المسلمين ثم المدونين الذين دونوا رواياتهم لأول مرة، ثم الذين نقلوا عن هؤلاء يتحملون كذلك مسؤولية مثلهم إن لم نقل أكثر منهم لأنهم مفروض فيهم القدرة على تمييز الغثّ من السمين والباطل من الحق والكذب من الصدق وعلى لمح ما في الروايات من غلوّ ومبالغات لا يصح كثير منها في عقل ومنطق وواقع ولا يؤديها أثر صحيح. ثم القدرة على إدراك ما في رواية هذه الروايات وتدوينها وإشغالها الحيز الكبير أو الأكبر من كتب التفسير من تشويش على أذهان قارئي هذه الكتب وعلى أهداف القرآن ومحكماته.
وقد يكون من الحق أن بعض المفسرين وقفوا من الإسرائيليات موقف المنكر المنبه الناقد غير أن هذا ليس شاملاً ولا عاماً، ومن الناقدين والمنكرين والمنبهين أنفسهم من روى كثيرا منها في مناسبات كثيرة بدون نقد ولا إنكار ولا تنبيه.
تنبيه في صدد الأحاديث والأقوال التي تروى بدون سند صحيح
ويكون فيها تعدد وتباين وتباعد وغرابة
في الأحاديث المعزوة إلى النبي صلى الله عليه وسلم عن مدلول النون واحد يذكر أنه الدواة وواحد يذكر أنه الحوت وواحد يذكر أنه لوح من نور. وليس شيء من هذه الأحاديث وارداً في الكتب المعتبرة. وفي الأقوال المعزوة إلى ابن عباس رواية مختصرة مماثلة في مداها لما رواه البغوي عن كعب الأحبار ورفاقه الرواة. ورواية تذكر أنه اسم الله بالإضافة إلى قولين مما ورد في الأحاديث وهما : أنه لوح من نور أو أنه الدواة. ومع ما قلناه من أن هذه الأحاديث والأقوال لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة فإن المتبادر أنه لا يعقل أن يصدر عن النبي صلى الله عليه وسلم أو ابن عباس أقوال متعددة فيها تباين وتضارب وغرابة. وكل ما يعقل أن يكون صدر قول واحد في تفسير الكلمة. وأن تكون الأقوال الأخرى على الأقل منحولة نحلاً. ومثل هذا كثير على ما سوف ننبه عليه في مناسباته. وليس هذا خاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم وابن عباس فإن المفسرين يروون أقوالاً عديدة فيها تضارب وتباين وتباعد وغرابة عن شخص واحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم. وقد أردنا بهذا تنبيه القارئ إلى ضرورة التدبر في هذا الأمر والتوقف فيما لا يكون وثيق السند ويكون فيه في الوقت نفسه تعدد وتضارب وتباين وغرابة سواء أنسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى أصحابه أو تابعيهم. والله تعالى أعلم.
وقت نزول الآيات الأولى
من هذه السورة
وقد روي٣ أن هذه الآيات هي التي أعقبت آيات سورة العلق الأولى. ووضع سورة القلم في ترتيب ثانية سورة قرآنية نزولا إنما هو بسبب ذلك. فإذا صحت الرواية فتكون الآيات قد نزلت وحدها وبقية آيات السورة نزلت بعدها بمدة ما. ثم ألحقت بها وتم بذلك تأليف السورة وشخصيتها وتكون كذلك قد نزلت لتطمين النبي عليه السلام وتثبيته، ونفي ما ظنه وخشي منه، وهو أن يكون ما رآه وسمعه حينما أوحي إليه لأول مرة مسّاً من الجن حتى إنه أراد أن يلقي نفسه من شاهق الجبل على ما رواه الطبري٤ في حديث معزو إلى عبد الله بن الزبير عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإن لم تصح الرواية فيكون في الآيات تطمين وتثبيت من جهة، ورد على نعث الكفار للنبي صلى الله عليه وسلم بالجنون من جهة. وقد حكى ذلك القرآن عنهم في آيات عديدة مثل آية سورة الحجر هذه :﴿ وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون( ٦ ) ﴾، ومثل آية سورة المؤمنون هذه :﴿ أم يقولون به جنة بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون( ٧٠ ) ﴾، ومثل الآية الأخيرة من سورة القلم نفسها :﴿ وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون( ٥١ ) وما هو إلا ذكر للعالمين( ٥١ ) ﴾.
ويلحظ الانسجام والتلاحق بين هذه الآيات وما بعدها، وهذا قد يضعف الرواية الأولى ويسوغ القول إنها نزلت هي وما بعدها سلسلة واحدة أو متلاحقة، وإن ترتيبها كثاني سورة غير صحيح ؛ لأن الآيات التالية لها تضمنت مشاهد تكذيبية وجدلية، وحملة تنديدية وحكاية لقول المكذبين : إن القرآن أساطير الأولين، مما لا يمكن أن يكون وقع إلا بعد نزول جملة غير يسيرة من القرآن واتصال النبي عليه السلام بالناس وتلاوته عليهم واشتباكه معهم بالجدل والحجاج.
أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم
والثناء من الله على خلق النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الأسلوب البليغ التوكيدي، ووصفه بالعظمة رائع كل الروعة، يتضاءل أمامه كل ثناء ووصف وتكريم بشري، ثم كل ما حاوله بعض المسلمين في وصف شخصيته بأوصاف تكاد تخرجه عن نطاق البشرية، مما جاء في بعض كتب السيرة والشمائل٥ على غير طائل وضرورة، وعلى غير ما صرح به القرآن من أن النبي صلى الله عليه وسلم بشر كسائر البشر في جميع الأعراض والمظاهر، ورسول قد خلت من قبله الرسل، وليس بدعا فيهم كما جاء في آية سورة الأحقاف هذه :﴿ قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ( ٩ ) ﴾، وفي آية سورة آل عمران هذه :﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ ﴾ ( ١٤٤ ) وفي آية سورة الأعراف هذه :﴿ قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ ﴾ ( ١٨٨ )، وفي آية سورة الكهف هذه :﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا( ١١٠ ) ﴾، والمتبادر أن ذلك متأتّ من قصور الأفهام عن إدراك ما في أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم من عظمة وما في نفسه من صفاء، وما في قلبه من إيمان وإخلاص جعله أهلاً لاصطفاء الله، فحفزهم إلى البحث عن أسباب أخرى، فيها ما فيها من الغلو الذي لا ينسجم مع طبائع الأشياء، ولا يتسق مع نصوص القرآن.
والآيات من أوائل القرآن نزولاً على كل حال، وهذا يعني أن الخلق العظيم الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، واستحق به هذا الثناء البليغ الرباني، قد كان مما تحلى به قبل البعثة، وهو الذي أهله للاصطفاء والمهمة العظمى، والله أعلم حيث يجعل رسالته. ولقد جاء في حديث للبخاري عن عائشة أن السيدة خديجة رضي الله عنها حينما عاد إليها بعد نزول الوحي عليه لأول مرة، وقصّ عليها ما رآه وسمعه وقال لها :" إني خشيت على نفسي قالت له : كلا والله ما يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم، وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق " ٦ وجاء في الحديث الذي رواه الطبري عن عبد الله٧ بن الزبير أنها قالت له حينما قال لها إني خشيت أن أكون شاعراً أو مجنوناً :" أعيذك بالله من ذلك يا أبا القاسم، ما كان الله ليصنع ذلك بكَ مع ما أعلم منك من صدق حديثك وعظم أمانتك وحسن خلقك وصلة رحمك " وهذا مما يؤيد قولنا ؛ لأن هذه الأخلاق الكريمة مما كان يتحلى به النبي صلى الله عليه وسلم قبل بعثته.
﴿ ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ١ ( ١ ) مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ( ٢ ) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ٢ ( ٢ ) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ( ٤ ) ﴾ ( ١- ٤ ).
الخطاب في الآيات موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وفيها :
قسم بالقلم وما يكتب الناس به على سبيل التوكيد بأن عناية الله ونعمته شاملتان له، وأنه ليس مجنوناً، وأن له أجراً دائما ًمن الله على قيامه بمهمته العظمى وما يتحمله في سبيلها، وأنه على خلق عظيم أهله لاصطفاء الله وعنايته.
وفي كتب التفسير أقوال عديدة في مدلول حرف ( ن ). في بعضها إغراب وخبال. فمن ذلك ما ورد في تفسير ابن عباس الذي يرويه الكلبي عن أبي صالح أنه السمكة التي تحمل الأرضين على ظهرها وهي في الماء وتحتها الثور وتحت الثور الصخرة وتحت الصخرة الثرى ولا يعلم ما تحت الثرى إلاّ الله وأن اسم السمكة ليواشي أو ليوتي واسم الثور يهبموت أو يلهوي. وقد ورد في التفسير نفسه إلى هذا أنه اسم من أسماء الله أو إنه الدواة. وهذه الأقوال الثلاثة مروية في كتب تفسير أخرى مثل كتب الطبري والبغوي وابن كثير والخازن وغيرهم عن ابن عباس أو ( الرواة ) أو كعب الأحبار. وفي الرواية الأولى في تفسير البغوي زيادات أكثر غرابة وخيالاً معزوة إلى ( الرواة ) نرويها كنموذج مستغرب أكثر المفسرون السابقون من إيراد أمثاله على هوامش الألفاظ والأعلام والقصص والمشاهد القرآنية عزواً على الأخباريين من أصحاب وتابعين الذين تذكر أسماؤهم أحيانا وتغفل أحيانا حيث جاء فيها :" لما خلق الله الأرض وفتقها بعث من تحت العرش ملكاً، فهبط إلى الأرض حتى دخل تحت الأرضين السبع فوضعها على عاتق إحدى يديه بالمشرق والأخرى بالمغرب باسطتين قابضتين على الأرضين السبع حتى خبطها فلم يكن لقدميه موضع قرار فأهبط الله عليه من الفردوس ثورا له أربعون ألف قرن وأربعون ألف قائمة وجعل قرار قدمي الملك على سنامه فلم تستقر قدماه، فأخذ الله ياقوتة خضراء من أعلى درجة من الفردوس غلظها مسيرة خمسمائة ألف عام فوضعها بين سنام الثور إلى أذنه فاستقرت عليها قدماه. وقرون ذلك الثور خارجة من أقطار الأرض ومنخراه في البحر فهو يتنفس كل يوم نفسا، فإذا تنفس مد البحر وأزبد، وإذا ردّ نفسه جزر فلم يكن لقوائم الثور موضع قرار فخلق الله تعالى صخرة كغلظ سبع سموات وسبع أرضين فاستقرت قوائم الثور عليها وهي الصخرة التي قال لقمان لابنه﴿ فتكن في صخرة ﴾ ( لقمان : ١٦ ) ولم يكن للصخرة مستقر فخلق الله نونا وهو الحوت العظيم فوضع الصخرة على ظهره وسائر جسمه خال والحوت على البحر والبحر على متن الريح والريح على القدرة يقل الدنيا كلها بما عليها حرفان من كتاب قال لها الجبار : كوني فكانت.
ويستمر البغوي في سياقه فيقول : وقال كعب الأحبار : إن إبليس تغلغل إلى الحوت الذي على ظهره الأرض فوسوس له فقال له أتدري ما على ظهرك يا لوثيا من الأمم والدواب والشجر والجبال لو تنفثهم ألقيتهم عن ظهرك. فهم لوثيا أن يفعل ذلك فبعث الله دابة فدخلت منخره فوصلت إلى دماغه فعج الحوت إلى الله منها فأذن لها فخرجت. قال كعب : فوالذي نفسي بيده إنه لينظر إليها وتنظر إليه، إن هم بشيء من ذلك عادت إلى ذلك كما كانت...
وفي كتب التفسير بالإضافة إلى هذه الروايات والأقوال أحاديث معزوة إلى النبي صلى الله عليه وسلم لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة. سنورد نصوصها بعد قليل في واحد منها أن النون هو الحوت. وفي واحد منها أنه الدواة. وفي واحد منها أنه لوح من نور. وفي الآيات الأخيرة من السورة إشارة إلى يونس عليه السلام بوصفه صاحب الحوت على ما سوف نشرحه بعد. وفي سورة الأنبياء آية فيها إشارة أخرى إلى يونس عليه السلام بوصفه ذي النون :﴿ وذا النون إذا ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه ﴾ ( ٨٧ )، حيث يمكن أن يكون كون ( النون ) اسما للحوت الذي ذكر صاحبه في آخر السورة وارداً وربط ذلك أول السورة بآخرها. وفي هذا إن صح صورة من صور النظم القرآني. وجملة ﴿ والقلم وما يسطرون ﴾ قد تجعل كون ( النون ) اسما للدواة واردا أيضا للتناسب الظاهر. وتعدد السور التي تبتدئ بحرف أو حروف هجائية يتبعها قسم قد يجعل القول إن حرف النون مثلها وارداً أيضا، وقد يكون ما احتوته الآيات الخمس الأولى من سورة العلق أول القرآن نزولاً وما احتواه مطلع السورة من مماثلة موضوعية، حيث أمر في الأولى بالقراءة ونوه بالقلم وما علمه الله للإنسان وحيث أقسم في الثانية بالدواة والقلم والكتابة. وهي ﴿ يسطرون ﴾ مع حديث أبي هريرة الذي فيه تفسير نبوي للنون بالدواة والذي لا مانع من صحته كل هذا يجعل الرجحان لهذا أكثر.
وإذا صح هذا الترجيح فيكون مطلع السورة الذي من المحتمل أن يكون نزل بعد الآيات الخمس الأولى من سورة العلق توكيداً لما احتوته هذه الآيات الخمس في صدر تلقين القرآن منذ تنزيله بخطورة القراءة والكتابة والعلم والتعليم في حياة الإنسان وكرامته.
وسياق الرواية الطويلة التي نقلناها عن البغوي معزوة إلى ( الرواة ) يفيد أن كعب الأحبار هو المعني بالرواة أو هو منهم. وهذا الرجل من اليهود الذين أسلموا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين واندمجوا في المجتمع الإسلامي، وقد روى عنه وعن رفاقه مثل عبد الله بن سلام ومحمد القرظي وثعلبة ونوف البكالي وأبناء منبه روايات كثيرة على هامش الألفاظ والأعلام والقصص والمشاهد القرآنية فيها مثل ما في هذه الرواية من إغراب وخيال. وقد وصفها علماء المسلمين بالإسرائيليات التي تتضمن معنى التشكيك وعدم الثقة فيها.
ولقد كان عند اليهود أسفار وقراطيس فيها شرائعهم وأخبار أجدادهم وأنبيائهم وأخبار ما قبلهم من خلق وتكوين وأنبياء وأحداث. وقد استطاعوا قبل البعثة أن يوجدوا في نفوس العرب فكرة كونهم أصحاب علم في شؤون الدين والدنيا المتنوعة. وكانوا هم يتبجحون وينسبون كثيرا مما يحدثون به العرب إلى كتب الله على ما أشارت إليه آيات قرآنية كثيرة في سورتي البقرة وآل عمران١. فلما أسلم من أسلم منهم بعد البعثة صار المسلمون في الصدر الإسلامي يسألونهم عن تفصيل ما ورد مجملاً في القرآن من قصص وأعلام ومشاهد وأحداث واصطلاحات فيفيضون لهم عنه. وكانوا يفيضون بذلك بدون سؤال أيضا إذا ما وقعت المناسبة. ولقد روى البخاري عن أبي هريرة حديثا جاء فيه :" كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم و﴿ قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا ﴾ ( ١٣٦ )، وإلى آخر الآية من سورة البقرة " ٢.
فكان الرواة يتلقون ما يذكره هؤلاء ويروونه إلى غيرهم. إلى أن بدأ التدوين فصارت بياناتهم تدون في الكتب الأولى ثم تنقل منها إلى كتب أخرى. ولم يكن المفسرين اطلاع على الأسفار بلغاتها ولم يتيسر لهم ترجمات لها فصاروا يدونون ما يروى لهم على علاته التي منها الكثير من الإغراب والخيال والمفارقة.
ولقد شغلت الإسرائيليات حيزاً كبيراً جداً من كتب التفسير وكان كثير منها مملوءاً مثل الرواية التي أوردناها بالإغراب والخيال برغم احتمال كون شيء قليل أو كثير مما كانوا يدلون به في أسفار وقراطيس لم تصل إلينا. وليس كل ما في أيديهم من أسفار وقراطيس صحيحاً في مجمله أو تفصيله.
ولقد كان لتداول الرواة لهذه البيانات وتدوينها في كتب التفسير وشغلها منها حيزاً كبيراً، بل الحيز الأكبر أثر قوي في التغطية على ما في القرآن من مبادئ وأحكام وتلقينات ووصايا هي جوهر القرآن ومحكمه الذي فيه الهدى والنور والموعظة والفرقان، حينما يريد المسلم أن يقرأ القرآن مفسراً في أحد هذه الكتب ثم في استغراق المسلمين في هذه البيانات بقصد استقصاء جزئيات القصص والأعلام والمشاهد والاصطلاحات القرآنية حتى صارت وما تزال أسئلتهم لمن يشتغل بالقرآن من العلماء عنها في الدرجة الأولى دون الأهداف والمحكمات القرآنية بحيث يقال بحق إنها شوشت على القرآن وأذهان المسلمين.
ويحمل الباحثون اليهود الرواة مسؤولية ذلك. ومنهم من يرى أنهم قصدوا إليه قصداً كيداً للإسلام واستغفالاً للمسلمين. وقد يكون في هذا القول شيء من الحق. غير أننا نرى أن الرواة الأولين من المسلمين ثم المدونين الذين دونوا رواياتهم لأول مرة، ثم الذين نقلوا عن هؤلاء يتحملون كذلك مسؤولية مثلهم إن لم نقل أكثر منهم لأنهم مفروض فيهم القدرة على تمييز الغثّ من السمين والباطل من الحق والكذب من الصدق وعلى لمح ما في الروايات من غلوّ ومبالغات لا يصح كثير منها في عقل ومنطق وواقع ولا يؤديها أثر صحيح. ثم القدرة على إدراك ما في رواية هذه الروايات وتدوينها وإشغالها الحيز الكبير أو الأكبر من كتب التفسير من تشويش على أذهان قارئي هذه الكتب وعلى أهداف القرآن ومحكماته.
وقد يكون من الحق أن بعض المفسرين وقفوا من الإسرائيليات موقف المنكر المنبه الناقد غير أن هذا ليس شاملاً ولا عاماً، ومن الناقدين والمنكرين والمنبهين أنفسهم من روى كثيرا منها في مناسبات كثيرة بدون نقد ولا إنكار ولا تنبيه.
تنبيه في صدد الأحاديث والأقوال التي تروى بدون سند صحيح
ويكون فيها تعدد وتباين وتباعد وغرابة
في الأحاديث المعزوة إلى النبي صلى الله عليه وسلم عن مدلول النون واحد يذكر أنه الدواة وواحد يذكر أنه الحوت وواحد يذكر أنه لوح من نور. وليس شيء من هذه الأحاديث وارداً في الكتب المعتبرة. وفي الأقوال المعزوة إلى ابن عباس رواية مختصرة مماثلة في مداها لما رواه البغوي عن كعب الأحبار ورفاقه الرواة. ورواية تذكر أنه اسم الله بالإضافة إلى قولين مما ورد في الأحاديث وهما : أنه لوح من نور أو أنه الدواة. ومع ما قلناه من أن هذه الأحاديث والأقوال لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة فإن المتبادر أنه لا يعقل أن يصدر عن النبي صلى الله عليه وسلم أو ابن عباس أقوال متعددة فيها تباين وتضارب وغرابة. وكل ما يعقل أن يكون صدر قول واحد في تفسير الكلمة. وأن تكون الأقوال الأخرى على الأقل منحولة نحلاً. ومثل هذا كثير على ما سوف ننبه عليه في مناسباته. وليس هذا خاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم وابن عباس فإن المفسرين يروون أقوالاً عديدة فيها تضارب وتباين وتباعد وغرابة عن شخص واحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم. وقد أردنا بهذا تنبيه القارئ إلى ضرورة التدبر في هذا الأمر والتوقف فيما لا يكون وثيق السند ويكون فيه في الوقت نفسه تعدد وتضارب وتباين وغرابة سواء أنسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى أصحابه أو تابعيهم. والله تعالى أعلم.
وقت نزول الآيات الأولى
من هذه السورة
وقد روي٣ أن هذه الآيات هي التي أعقبت آيات سورة العلق الأولى. ووضع سورة القلم في ترتيب ثانية سورة قرآنية نزولا إنما هو بسبب ذلك. فإذا صحت الرواية فتكون الآيات قد نزلت وحدها وبقية آيات السورة نزلت بعدها بمدة ما. ثم ألحقت بها وتم بذلك تأليف السورة وشخصيتها وتكون كذلك قد نزلت لتطمين النبي عليه السلام وتثبيته، ونفي ما ظنه وخشي منه، وهو أن يكون ما رآه وسمعه حينما أوحي إليه لأول مرة مسّاً من الجن حتى إنه أراد أن يلقي نفسه من شاهق الجبل على ما رواه الطبري٤ في حديث معزو إلى عبد الله بن الزبير عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإن لم تصح الرواية فيكون في الآيات تطمين وتثبيت من جهة، ورد على نعث الكفار للنبي صلى الله عليه وسلم بالجنون من جهة. وقد حكى ذلك القرآن عنهم في آيات عديدة مثل آية سورة الحجر هذه :﴿ وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون( ٦ ) ﴾، ومثل آية سورة المؤمنون هذه :﴿ أم يقولون به جنة بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون( ٧٠ ) ﴾، ومثل الآية الأخيرة من سورة القلم نفسها :﴿ وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون( ٥١ ) وما هو إلا ذكر للعالمين( ٥١ ) ﴾.
ويلحظ الانسجام والتلاحق بين هذه الآيات وما بعدها، وهذا قد يضعف الرواية الأولى ويسوغ القول إنها نزلت هي وما بعدها سلسلة واحدة أو متلاحقة، وإن ترتيبها كثاني سورة غير صحيح ؛ لأن الآيات التالية لها تضمنت مشاهد تكذيبية وجدلية، وحملة تنديدية وحكاية لقول المكذبين : إن القرآن أساطير الأولين، مما لا يمكن أن يكون وقع إلا بعد نزول جملة غير يسيرة من القرآن واتصال النبي عليه السلام بالناس وتلاوته عليهم واشتباكه معهم بالجدل والحجاج.
أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم
والثناء من الله على خلق النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الأسلوب البليغ التوكيدي، ووصفه بالعظمة رائع كل الروعة، يتضاءل أمامه كل ثناء ووصف وتكريم بشري، ثم كل ما حاوله بعض المسلمين في وصف شخصيته بأوصاف تكاد تخرجه عن نطاق البشرية، مما جاء في بعض كتب السيرة والشمائل٥ على غير طائل وضرورة، وعلى غير ما صرح به القرآن من أن النبي صلى الله عليه وسلم بشر كسائر البشر في جميع الأعراض والمظاهر، ورسول قد خلت من قبله الرسل، وليس بدعا فيهم كما جاء في آية سورة الأحقاف هذه :﴿ قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ( ٩ ) ﴾، وفي آية سورة آل عمران هذه :﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ ﴾ ( ١٤٤ ) وفي آية سورة الأعراف هذه :﴿ قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ ﴾ ( ١٨٨ )، وفي آية سورة الكهف هذه :﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا( ١١٠ ) ﴾، والمتبادر أن ذلك متأتّ من قصور الأفهام عن إدراك ما في أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم من عظمة وما في نفسه من صفاء، وما في قلبه من إيمان وإخلاص جعله أهلاً لاصطفاء الله، فحفزهم إلى البحث عن أسباب أخرى، فيها ما فيها من الغلو الذي لا ينسجم مع طبائع الأشياء، ولا يتسق مع نصوص القرآن.
والآيات من أوائل القرآن نزولاً على كل حال، وهذا يعني أن الخلق العظيم الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، واستحق به هذا الثناء البليغ الرباني، قد كان مما تحلى به قبل البعثة، وهو الذي أهله للاصطفاء والمهمة العظمى، والله أعلم حيث يجعل رسالته. ولقد جاء في حديث للبخاري عن عائشة أن السيدة خديجة رضي الله عنها حينما عاد إليها بعد نزول الوحي عليه لأول مرة، وقصّ عليها ما رآه وسمعه وقال لها :" إني خشيت على نفسي قالت له : كلا والله ما يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم، وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق " ٦ وجاء في الحديث الذي رواه الطبري عن عبد الله٧ بن الزبير أنها قالت له حينما قال لها إني خشيت أن أكون شاعراً أو مجنوناً :" أعيذك بالله من ذلك يا أبا القاسم، ما كان الله ليصنع ذلك بكَ مع ما أعلم منك من صدق حديثك وعظم أمانتك وحسن خلقك وصلة رحمك " وهذا مما يؤيد قولنا ؛ لأن هذه الأخلاق الكريمة مما كان يتحلى به النبي صلى الله عليه وسلم قبل بعثته.
الخطاب في الآيات موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وفيها :
قسم بالقلم وما يكتب الناس به على سبيل التوكيد بأن عناية الله ونعمته شاملتان له، وأنه ليس مجنوناً، وأن له أجراً دائما ًمن الله على قيامه بمهمته العظمى وما يتحمله في سبيلها، وأنه على خلق عظيم أهله لاصطفاء الله وعنايته.
وفي كتب التفسير أقوال عديدة في مدلول حرف ( ن ). في بعضها إغراب وخبال. فمن ذلك ما ورد في تفسير ابن عباس الذي يرويه الكلبي عن أبي صالح أنه السمكة التي تحمل الأرضين على ظهرها وهي في الماء وتحتها الثور وتحت الثور الصخرة وتحت الصخرة الثرى ولا يعلم ما تحت الثرى إلاّ الله وأن اسم السمكة ليواشي أو ليوتي واسم الثور يهبموت أو يلهوي. وقد ورد في التفسير نفسه إلى هذا أنه اسم من أسماء الله أو إنه الدواة. وهذه الأقوال الثلاثة مروية في كتب تفسير أخرى مثل كتب الطبري والبغوي وابن كثير والخازن وغيرهم عن ابن عباس أو ( الرواة ) أو كعب الأحبار. وفي الرواية الأولى في تفسير البغوي زيادات أكثر غرابة وخيالاً معزوة إلى ( الرواة ) نرويها كنموذج مستغرب أكثر المفسرون السابقون من إيراد أمثاله على هوامش الألفاظ والأعلام والقصص والمشاهد القرآنية عزواً على الأخباريين من أصحاب وتابعين الذين تذكر أسماؤهم أحيانا وتغفل أحيانا حيث جاء فيها :" لما خلق الله الأرض وفتقها بعث من تحت العرش ملكاً، فهبط إلى الأرض حتى دخل تحت الأرضين السبع فوضعها على عاتق إحدى يديه بالمشرق والأخرى بالمغرب باسطتين قابضتين على الأرضين السبع حتى خبطها فلم يكن لقدميه موضع قرار فأهبط الله عليه من الفردوس ثورا له أربعون ألف قرن وأربعون ألف قائمة وجعل قرار قدمي الملك على سنامه فلم تستقر قدماه، فأخذ الله ياقوتة خضراء من أعلى درجة من الفردوس غلظها مسيرة خمسمائة ألف عام فوضعها بين سنام الثور إلى أذنه فاستقرت عليها قدماه. وقرون ذلك الثور خارجة من أقطار الأرض ومنخراه في البحر فهو يتنفس كل يوم نفسا، فإذا تنفس مد البحر وأزبد، وإذا ردّ نفسه جزر فلم يكن لقوائم الثور موضع قرار فخلق الله تعالى صخرة كغلظ سبع سموات وسبع أرضين فاستقرت قوائم الثور عليها وهي الصخرة التي قال لقمان لابنه﴿ فتكن في صخرة ﴾ ( لقمان : ١٦ ) ولم يكن للصخرة مستقر فخلق الله نونا وهو الحوت العظيم فوضع الصخرة على ظهره وسائر جسمه خال والحوت على البحر والبحر على متن الريح والريح على القدرة يقل الدنيا كلها بما عليها حرفان من كتاب قال لها الجبار : كوني فكانت.
ويستمر البغوي في سياقه فيقول : وقال كعب الأحبار : إن إبليس تغلغل إلى الحوت الذي على ظهره الأرض فوسوس له فقال له أتدري ما على ظهرك يا لوثيا من الأمم والدواب والشجر والجبال لو تنفثهم ألقيتهم عن ظهرك. فهم لوثيا أن يفعل ذلك فبعث الله دابة فدخلت منخره فوصلت إلى دماغه فعج الحوت إلى الله منها فأذن لها فخرجت. قال كعب : فوالذي نفسي بيده إنه لينظر إليها وتنظر إليه، إن هم بشيء من ذلك عادت إلى ذلك كما كانت...
وفي كتب التفسير بالإضافة إلى هذه الروايات والأقوال أحاديث معزوة إلى النبي صلى الله عليه وسلم لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة. سنورد نصوصها بعد قليل في واحد منها أن النون هو الحوت. وفي واحد منها أنه الدواة. وفي واحد منها أنه لوح من نور. وفي الآيات الأخيرة من السورة إشارة إلى يونس عليه السلام بوصفه صاحب الحوت على ما سوف نشرحه بعد. وفي سورة الأنبياء آية فيها إشارة أخرى إلى يونس عليه السلام بوصفه ذي النون :﴿ وذا النون إذا ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه ﴾ ( ٨٧ )، حيث يمكن أن يكون كون ( النون ) اسما للحوت الذي ذكر صاحبه في آخر السورة وارداً وربط ذلك أول السورة بآخرها. وفي هذا إن صح صورة من صور النظم القرآني. وجملة ﴿ والقلم وما يسطرون ﴾ قد تجعل كون ( النون ) اسما للدواة واردا أيضا للتناسب الظاهر. وتعدد السور التي تبتدئ بحرف أو حروف هجائية يتبعها قسم قد يجعل القول إن حرف النون مثلها وارداً أيضا، وقد يكون ما احتوته الآيات الخمس الأولى من سورة العلق أول القرآن نزولاً وما احتواه مطلع السورة من مماثلة موضوعية، حيث أمر في الأولى بالقراءة ونوه بالقلم وما علمه الله للإنسان وحيث أقسم في الثانية بالدواة والقلم والكتابة. وهي ﴿ يسطرون ﴾ مع حديث أبي هريرة الذي فيه تفسير نبوي للنون بالدواة والذي لا مانع من صحته كل هذا يجعل الرجحان لهذا أكثر.
وإذا صح هذا الترجيح فيكون مطلع السورة الذي من المحتمل أن يكون نزل بعد الآيات الخمس الأولى من سورة العلق توكيداً لما احتوته هذه الآيات الخمس في صدر تلقين القرآن منذ تنزيله بخطورة القراءة والكتابة والعلم والتعليم في حياة الإنسان وكرامته.
وسياق الرواية الطويلة التي نقلناها عن البغوي معزوة إلى ( الرواة ) يفيد أن كعب الأحبار هو المعني بالرواة أو هو منهم. وهذا الرجل من اليهود الذين أسلموا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين واندمجوا في المجتمع الإسلامي، وقد روى عنه وعن رفاقه مثل عبد الله بن سلام ومحمد القرظي وثعلبة ونوف البكالي وأبناء منبه روايات كثيرة على هامش الألفاظ والأعلام والقصص والمشاهد القرآنية فيها مثل ما في هذه الرواية من إغراب وخيال. وقد وصفها علماء المسلمين بالإسرائيليات التي تتضمن معنى التشكيك وعدم الثقة فيها.
ولقد كان عند اليهود أسفار وقراطيس فيها شرائعهم وأخبار أجدادهم وأنبيائهم وأخبار ما قبلهم من خلق وتكوين وأنبياء وأحداث. وقد استطاعوا قبل البعثة أن يوجدوا في نفوس العرب فكرة كونهم أصحاب علم في شؤون الدين والدنيا المتنوعة. وكانوا هم يتبجحون وينسبون كثيرا مما يحدثون به العرب إلى كتب الله على ما أشارت إليه آيات قرآنية كثيرة في سورتي البقرة وآل عمران١. فلما أسلم من أسلم منهم بعد البعثة صار المسلمون في الصدر الإسلامي يسألونهم عن تفصيل ما ورد مجملاً في القرآن من قصص وأعلام ومشاهد وأحداث واصطلاحات فيفيضون لهم عنه. وكانوا يفيضون بذلك بدون سؤال أيضا إذا ما وقعت المناسبة. ولقد روى البخاري عن أبي هريرة حديثا جاء فيه :" كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم و﴿ قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا ﴾ ( ١٣٦ )، وإلى آخر الآية من سورة البقرة " ٢.
فكان الرواة يتلقون ما يذكره هؤلاء ويروونه إلى غيرهم. إلى أن بدأ التدوين فصارت بياناتهم تدون في الكتب الأولى ثم تنقل منها إلى كتب أخرى. ولم يكن المفسرين اطلاع على الأسفار بلغاتها ولم يتيسر لهم ترجمات لها فصاروا يدونون ما يروى لهم على علاته التي منها الكثير من الإغراب والخيال والمفارقة.
ولقد شغلت الإسرائيليات حيزاً كبيراً جداً من كتب التفسير وكان كثير منها مملوءاً مثل الرواية التي أوردناها بالإغراب والخيال برغم احتمال كون شيء قليل أو كثير مما كانوا يدلون به في أسفار وقراطيس لم تصل إلينا. وليس كل ما في أيديهم من أسفار وقراطيس صحيحاً في مجمله أو تفصيله.
ولقد كان لتداول الرواة لهذه البيانات وتدوينها في كتب التفسير وشغلها منها حيزاً كبيراً، بل الحيز الأكبر أثر قوي في التغطية على ما في القرآن من مبادئ وأحكام وتلقينات ووصايا هي جوهر القرآن ومحكمه الذي فيه الهدى والنور والموعظة والفرقان، حينما يريد المسلم أن يقرأ القرآن مفسراً في أحد هذه الكتب ثم في استغراق المسلمين في هذه البيانات بقصد استقصاء جزئيات القصص والأعلام والمشاهد والاصطلاحات القرآنية حتى صارت وما تزال أسئلتهم لمن يشتغل بالقرآن من العلماء عنها في الدرجة الأولى دون الأهداف والمحكمات القرآنية بحيث يقال بحق إنها شوشت على القرآن وأذهان المسلمين.
ويحمل الباحثون اليهود الرواة مسؤولية ذلك. ومنهم من يرى أنهم قصدوا إليه قصداً كيداً للإسلام واستغفالاً للمسلمين. وقد يكون في هذا القول شيء من الحق. غير أننا نرى أن الرواة الأولين من المسلمين ثم المدونين الذين دونوا رواياتهم لأول مرة، ثم الذين نقلوا عن هؤلاء يتحملون كذلك مسؤولية مثلهم إن لم نقل أكثر منهم لأنهم مفروض فيهم القدرة على تمييز الغثّ من السمين والباطل من الحق والكذب من الصدق وعلى لمح ما في الروايات من غلوّ ومبالغات لا يصح كثير منها في عقل ومنطق وواقع ولا يؤديها أثر صحيح. ثم القدرة على إدراك ما في رواية هذه الروايات وتدوينها وإشغالها الحيز الكبير أو الأكبر من كتب التفسير من تشويش على أذهان قارئي هذه الكتب وعلى أهداف القرآن ومحكماته.
وقد يكون من الحق أن بعض المفسرين وقفوا من الإسرائيليات موقف المنكر المنبه الناقد غير أن هذا ليس شاملاً ولا عاماً، ومن الناقدين والمنكرين والمنبهين أنفسهم من روى كثيرا منها في مناسبات كثيرة بدون نقد ولا إنكار ولا تنبيه.
تنبيه في صدد الأحاديث والأقوال التي تروى بدون سند صحيح
ويكون فيها تعدد وتباين وتباعد وغرابة
في الأحاديث المعزوة إلى النبي صلى الله عليه وسلم عن مدلول النون واحد يذكر أنه الدواة وواحد يذكر أنه الحوت وواحد يذكر أنه لوح من نور. وليس شيء من هذه الأحاديث وارداً في الكتب المعتبرة. وفي الأقوال المعزوة إلى ابن عباس رواية مختصرة مماثلة في مداها لما رواه البغوي عن كعب الأحبار ورفاقه الرواة. ورواية تذكر أنه اسم الله بالإضافة إلى قولين مما ورد في الأحاديث وهما : أنه لوح من نور أو أنه الدواة. ومع ما قلناه من أن هذه الأحاديث والأقوال لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة فإن المتبادر أنه لا يعقل أن يصدر عن النبي صلى الله عليه وسلم أو ابن عباس أقوال متعددة فيها تباين وتضارب وغرابة. وكل ما يعقل أن يكون صدر قول واحد في تفسير الكلمة. وأن تكون الأقوال الأخرى على الأقل منحولة نحلاً. ومثل هذا كثير على ما سوف ننبه عليه في مناسباته. وليس هذا خاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم وابن عباس فإن المفسرين يروون أقوالاً عديدة فيها تضارب وتباين وتباعد وغرابة عن شخص واحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم. وقد أردنا بهذا تنبيه القارئ إلى ضرورة التدبر في هذا الأمر والتوقف فيما لا يكون وثيق السند ويكون فيه في الوقت نفسه تعدد وتضارب وتباين وغرابة سواء أنسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى أصحابه أو تابعيهم. والله تعالى أعلم.
وقت نزول الآيات الأولى
من هذه السورة
وقد روي٣ أن هذه الآيات هي التي أعقبت آيات سورة العلق الأولى. ووضع سورة القلم في ترتيب ثانية سورة قرآنية نزولا إنما هو بسبب ذلك. فإذا صحت الرواية فتكون الآيات قد نزلت وحدها وبقية آيات السورة نزلت بعدها بمدة ما. ثم ألحقت بها وتم بذلك تأليف السورة وشخصيتها وتكون كذلك قد نزلت لتطمين النبي عليه السلام وتثبيته، ونفي ما ظنه وخشي منه، وهو أن يكون ما رآه وسمعه حينما أوحي إليه لأول مرة مسّاً من الجن حتى إنه أراد أن يلقي نفسه من شاهق الجبل على ما رواه الطبري٤ في حديث معزو إلى عبد الله بن الزبير عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإن لم تصح الرواية فيكون في الآيات تطمين وتثبيت من جهة، ورد على نعث الكفار للنبي صلى الله عليه وسلم بالجنون من جهة. وقد حكى ذلك القرآن عنهم في آيات عديدة مثل آية سورة الحجر هذه :﴿ وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون( ٦ ) ﴾، ومثل آية سورة المؤمنون هذه :﴿ أم يقولون به جنة بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون( ٧٠ ) ﴾، ومثل الآية الأخيرة من سورة القلم نفسها :﴿ وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون( ٥١ ) وما هو إلا ذكر للعالمين( ٥١ ) ﴾.
ويلحظ الانسجام والتلاحق بين هذه الآيات وما بعدها، وهذا قد يضعف الرواية الأولى ويسوغ القول إنها نزلت هي وما بعدها سلسلة واحدة أو متلاحقة، وإن ترتيبها كثاني سورة غير صحيح ؛ لأن الآيات التالية لها تضمنت مشاهد تكذيبية وجدلية، وحملة تنديدية وحكاية لقول المكذبين : إن القرآن أساطير الأولين، مما لا يمكن أن يكون وقع إلا بعد نزول جملة غير يسيرة من القرآن واتصال النبي عليه السلام بالناس وتلاوته عليهم واشتباكه معهم بالجدل والحجاج.
أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم
والثناء من الله على خلق النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الأسلوب البليغ التوكيدي، ووصفه بالعظمة رائع كل الروعة، يتضاءل أمامه كل ثناء ووصف وتكريم بشري، ثم كل ما حاوله بعض المسلمين في وصف شخصيته بأوصاف تكاد تخرجه عن نطاق البشرية، مما جاء في بعض كتب السيرة والشمائل٥ على غير طائل وضرورة، وعلى غير ما صرح به القرآن من أن النبي صلى الله عليه وسلم بشر كسائر البشر في جميع الأعراض والمظاهر، ورسول قد خلت من قبله الرسل، وليس بدعا فيهم كما جاء في آية سورة الأحقاف هذه :﴿ قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ( ٩ ) ﴾، وفي آية سورة آل عمران هذه :﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ ﴾ ( ١٤٤ ) وفي آية سورة الأعراف هذه :﴿ قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ ﴾ ( ١٨٨ )، وفي آية سورة الكهف هذه :﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا( ١١٠ ) ﴾، والمتبادر أن ذلك متأتّ من قصور الأفهام عن إدراك ما في أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم من عظمة وما في نفسه من صفاء، وما في قلبه من إيمان وإخلاص جعله أهلاً لاصطفاء الله، فحفزهم إلى البحث عن أسباب أخرى، فيها ما فيها من الغلو الذي لا ينسجم مع طبائع الأشياء، ولا يتسق مع نصوص القرآن.
والآيات من أوائل القرآن نزولاً على كل حال، وهذا يعني أن الخلق العظيم الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، واستحق به هذا الثناء البليغ الرباني، قد كان مما تحلى به قبل البعثة، وهو الذي أهله للاصطفاء والمهمة العظمى، والله أعلم حيث يجعل رسالته. ولقد جاء في حديث للبخاري عن عائشة أن السيدة خديجة رضي الله عنها حينما عاد إليها بعد نزول الوحي عليه لأول مرة، وقصّ عليها ما رآه وسمعه وقال لها :" إني خشيت على نفسي قالت له : كلا والله ما يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم، وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق " ٦ وجاء في الحديث الذي رواه الطبري عن عبد الله٧ بن الزبير أنها قالت له حينما قال لها إني خشيت أن أكون شاعراً أو مجنوناً :" أعيذك بالله من ذلك يا أبا القاسم، ما كان الله ليصنع ذلك بكَ مع ما أعلم منك من صدق حديثك وعظم أمانتك وحسن خلقك وصلة رحمك " وهذا مما يؤيد قولنا ؛ لأن هذه الأخلاق الكريمة مما كان يتحلى به النبي صلى الله عليه وسلم قبل بعثته.
شرح الآيات ( ٥-١٦ ) من سورة القلم
وما انطوى فيها من صور وتنبيهات
عبارة الآيات واضحة. وفيها حكاية لبعض ما وقع بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين الكفار ورد عليهم وتنديد بهم وتثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم :
١- فقد أخذ بعضهم يعيره بأنه مفتون ضال خارج عن دين آبائه وتقاليدهم. فردت الآية الأولى عليهم بأن الحق لن يلبث أن يظهر ويُعرف من هو المفتون، ثم وجه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم منطوياً على التثبيت بأن ربه هو الأعلم بمن هو ضالّ حقا ومهتد حقّاً.
٢- وقد أخذ بعضهم يقترح على النبي صلى الله عليه وسلم أن يلاين فيلاينوا بالمقابلة. والملاينة التي طلبوها على ما ذكرته الروايات١عدم تسفيه أحلامهم وسبّ ألهتهم، ومشاركتهم في تقاليدهم وعباداتهم، والملاينة التي وعده بها هي تركه وشأنه أو مجاراته في بعض ما يدعو إليه. وكان بعضهم يحلف له الأيمان على ذلك، فأمرته الآيات بعدم تصديقهم وعدم إطاعتهم لأنهم كاذبون.
٣- وقد أخذ بعضهم إذا ما تلا النبي القرآن يقولون : إنه مقتبس من صحف الأول وقصصهم، منكرين أنه من وحي الله، معتزين بمالهم وأولادهم وقوتهم، وقد حملت الآيات حملة عنيفة على هؤلاء، فهم كاذبون مهينون، عيابون شتامون، مشاؤون بين الناس بالفساد والنميمة، مناعون للخير، غلاط القلوب لؤماء أو مدخولو الأنساب، وقد توعدتهم الآية الأخيرة بكيّ أفواههم بالنار، جزاء ما يصدر منها من الكذب والتكذيب والافتراء والأيمان الكاذبة الخداعة. وهو وعيد مستمد من عاداتهم ليكون تأثيره أشد في نفوسهم.
والضمير في الآيات ( ١٠-١٦ ) مفرد، وقد ذكر المفسرون٢ اسم الأخنس ابن شريق واسم الأسود بن عبد يغوث وقالوا إنها أحدهما. والآيات تبدأ بكلمة ( كل ). والآيات السابقة لها جاءت بصيغة الجمع ضمائر وأفعالاً ؛ حيث يسوغ ذلك القول أن أسلوبها أسلوب خطابي بسبيل التعبير عن طبقة وليس عن فرد، ولو صح ما ذكره المفسرون.
وفي الوقت نفسه انطوى فيها تنبيهات عامة للنبي صلى الله عليه وسلم، منها أن الذين هم على مثل تلك الأخلاق الذميمة لا يمكن أن يصدروا عن رغبة صادقة في الاهتداء، ومنها أن الملاينة في الحق والمبادئ والتساهل فيها لا يجوز أن يكون موضع بحث وجدل، وفي هذا ما فيه كذلك من التلقين القرآني الجليل المستمر المدى في كل زمن ومكان.
وعلى اعتبار أن هذه الآيات مما نزل مبكراً فإن فيها تأييداً لما استدللنا عليه من آيات سورة العلق من أن النبي صلى الله عليه وسلم قد سار في الدعوة علناً منذ بدئها كما هو المتبادر.
﴿ فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ( ٥ ) بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ١ ( ٦ ) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ( ٧ ) فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ( ٨ ) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ ٢ فَيُدْهِنُونَ( ٩ ) وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ( ١٠ ) هَمَّازٍ ٣ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ ٤ ( ١١ ) مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ ( ١٢ ) عُتُلٍّ ٥ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيم ٦ ( ١٣ ) أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ ( ١٤ ) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ٧ ( ١٥ ) سَنَسِمُهُ ٨ عَلَى الْخُرْطُومِ ٩ ( ١٦ ) ﴾( القلم٥-١٦ ).
شرح الآيات ( ٥-١٦ ) من سورة القلم
وما انطوى فيها من صور وتنبيهات
عبارة الآيات واضحة. وفيها حكاية لبعض ما وقع بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين الكفار ورد عليهم وتنديد بهم وتثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم :
١- فقد أخذ بعضهم يعيره بأنه مفتون ضال خارج عن دين آبائه وتقاليدهم. فردت الآية الأولى عليهم بأن الحق لن يلبث أن يظهر ويُعرف من هو المفتون، ثم وجه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم منطوياً على التثبيت بأن ربه هو الأعلم بمن هو ضالّ حقا ومهتد حقّاً.
٢- وقد أخذ بعضهم يقترح على النبي صلى الله عليه وسلم أن يلاين فيلاينوا بالمقابلة. والملاينة التي طلبوها على ما ذكرته الروايات١عدم تسفيه أحلامهم وسبّ ألهتهم، ومشاركتهم في تقاليدهم وعباداتهم، والملاينة التي وعده بها هي تركه وشأنه أو مجاراته في بعض ما يدعو إليه. وكان بعضهم يحلف له الأيمان على ذلك، فأمرته الآيات بعدم تصديقهم وعدم إطاعتهم لأنهم كاذبون.
٣- وقد أخذ بعضهم إذا ما تلا النبي القرآن يقولون : إنه مقتبس من صحف الأول وقصصهم، منكرين أنه من وحي الله، معتزين بمالهم وأولادهم وقوتهم، وقد حملت الآيات حملة عنيفة على هؤلاء، فهم كاذبون مهينون، عيابون شتامون، مشاؤون بين الناس بالفساد والنميمة، مناعون للخير، غلاط القلوب لؤماء أو مدخولو الأنساب، وقد توعدتهم الآية الأخيرة بكيّ أفواههم بالنار، جزاء ما يصدر منها من الكذب والتكذيب والافتراء والأيمان الكاذبة الخداعة. وهو وعيد مستمد من عاداتهم ليكون تأثيره أشد في نفوسهم.
والضمير في الآيات ( ١٠-١٦ ) مفرد، وقد ذكر المفسرون٢ اسم الأخنس ابن شريق واسم الأسود بن عبد يغوث وقالوا إنها أحدهما. والآيات تبدأ بكلمة ( كل ). والآيات السابقة لها جاءت بصيغة الجمع ضمائر وأفعالاً ؛ حيث يسوغ ذلك القول أن أسلوبها أسلوب خطابي بسبيل التعبير عن طبقة وليس عن فرد، ولو صح ما ذكره المفسرون.
وفي الوقت نفسه انطوى فيها تنبيهات عامة للنبي صلى الله عليه وسلم، منها أن الذين هم على مثل تلك الأخلاق الذميمة لا يمكن أن يصدروا عن رغبة صادقة في الاهتداء، ومنها أن الملاينة في الحق والمبادئ والتساهل فيها لا يجوز أن يكون موضع بحث وجدل، وفي هذا ما فيه كذلك من التلقين القرآني الجليل المستمر المدى في كل زمن ومكان.
وعلى اعتبار أن هذه الآيات مما نزل مبكراً فإن فيها تأييداً لما استدللنا عليه من آيات سورة العلق من أن النبي صلى الله عليه وسلم قد سار في الدعوة علناً منذ بدئها كما هو المتبادر.
ومع أن الآيات كما قلنا قبل هي بسبيل وصف أخلاق الطبقة الغنية المترفة التي تصدت لمناوأة الدعوة النبوية وأهدافها، فإن فيما احتوته من تنديد بالكذب والأيمان الكاذبة، والنميمة والعيب في الناس وشتمهم ومنع الخير عنهم، والبغي عليهم وغلظ القلب وقسوة العاطفة، تنطوي على تلقينات قرآنية جليلة مستمرة المدى، بوجوب احتقار ونبذ المتصفين بهذه الصفات، واجتناب هذه الصفات والأفعال الذميمة المكروهة، وتنقية النفس من الأوضار. ولقد تكرر ذم هذه الأخلاق والصفات، ومدح أضدادها في مختلف السور المكية والمدنية معا، وبكثرة تغني عن التمثيل مما فيه دلالة على شدة اهتمام القرآن بالأخلاق وتقويمها، على اعتبار كون أفعال الناس إنما تصدر عنها وتتأثر بها.
ونكتفي هنا بهذه الكلمة لأن التنديد بالأخلاق السيئة والتنويه بالأخلاق الحسنة سوف يتكرر في تجدد المناسبات الكثيرة الآتية.
ولقد أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث عديدة ورد بعضها في كتب الأحاديث الخمسة في الأخلاق السيئة المندد بها في الآيات. من ذلك حديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن حذيفة قال :" سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا يدخل الجنة قتّاتٌ وفي رواية نمّام " ١. وحديث رواه الأربعة عن أبي هريرة قال :" سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن شرّ الناس ذو الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه " ٢وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة قال :" قال النبي صلى الله عليه وسلم : إياكم وسوء ذات البين فإنها الحالقة " ٣. وحديث رواه مسلم عن عبد الله قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أنبئكم ما العَضْهُ ؟ هي النميمة القالةُ بين الناس " ٤. وحديث رواه أبو داود عن عمّار قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان له وجهان في الدنيا كان له يوم القيامة لسانان من نار " ٥. وحديث رواه أبو داود عن أبي هريرة قال :" قال النبي صلى الله عليه وسلم إن من أكبر الكبائر استطالة المرء في عرض رجل مسلم بغير حق، ومن الكبائر السبتان بالسبة " ٦. وحديث رواه أبو داود والترمذي عن أبي برزة قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين ولا تتّبعوا عوراتهم، فإنه من اتّبع عوراتهم يتّبع الله عورته ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته " ٧. وحديث رواه الترمذي عن عبد الله قال :" قال النبي صلى الله عليه وسلم : ليس المؤمن بالطّعّان ولا اللعّان ولا الفاحش ولا البذيء " ٨. وحديث رواه أبو داود عن سفيان بن أسيد قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كبرَت خيانة أن تحدّث أخاك حديثا هو لك به مصدّقٌ وأنت له به كاذب " ٩. وحديث رواه البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" أربعٌ من كنّ فيه كان منافقاً خالصاً ومن كانت فيه خَلة ٌمنهن كانت فيه خلةٌ من نفاق حتى يدعها، إذا حدّث كَذبَ وإذا عَاهدَ غدر، وإذا وعد أخلف، وإذا خَاصمَ فَجرَ " ١٠.
وحديث رواه أبو داود عن أنس قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لما عُرجَ بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم فقلت من هؤلاء يا جبريل ؟ قال : هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم " ١١. وحديث رواه الشيخان والترمذي عن حارثة بن وهب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" ألا أخبركم بأهل الجنة، كلّ ضعيف متضاعف لو أقسم على الله لأبرّه. ألا أخبركم بأهل النار كل عتل جَوّاظ مستكبر " ١٢. وحديث رواه الترمذي عن الزبير بن العوام أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" دبّ إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين. والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا. ألا أنبّئكم بما يثبت ذاكم لكم افشُوا السلامَ بينكم " ١٣.
وهكذا يتساوق التلقين القرآني مع التلقين القرآني في التنديد بالأخلاق السيئة. وهذا ليس كل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم فهناك أحاديث كثيرة من بابها وردت في كتب ومساند أئمة آخرين فاكتفينا بما أوردناه نقلا من الكتب الخمسة. وهناك أحاديث أخرى في هذه الكتب سنوردها في مناسبات أكثر ملاءمة.
تعليق على مواقف المناوأة الذي وقفه الزعماء والأغنياء
ووصف الكذاب الحلاف بذي مال وبنين، يدل على أن الذين وقفوا من النبي صلى الله عليه وسلم هذه المواقف، وطلبوا منه المداهنة ونعتوه بالضلال، هم بصراحة من ذوي اليسار. وفي الآيات صورة ثانية من صور مواقف زعماء الكفار من الدعوة النبوية منذ بدئها، كرد فعل لما كان يتلوه النبي صلى الله عليه وسلم من آيات وسور قرآنية فيها دعوة ملحة إلى التصدق على الفقراء وإطعام المساكين، ونعي على شدة حب المال والتكالب عليه على ما شرحناه في سورة العلق.
﴿ فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ( ٥ ) بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ١ ( ٦ ) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ( ٧ ) فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ( ٨ ) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ ٢ فَيُدْهِنُونَ( ٩ ) وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ( ١٠ ) هَمَّازٍ ٣ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ ٤ ( ١١ ) مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ ( ١٢ ) عُتُلٍّ ٥ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيم ٦ ( ١٣ ) أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ ( ١٤ ) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ٧ ( ١٥ ) سَنَسِمُهُ ٨ عَلَى الْخُرْطُومِ ٩ ( ١٦ ) ﴾( القلم٥-١٦ ).
شرح الآيات ( ٥-١٦ ) من سورة القلم
وما انطوى فيها من صور وتنبيهات
عبارة الآيات واضحة. وفيها حكاية لبعض ما وقع بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين الكفار ورد عليهم وتنديد بهم وتثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم :
١- فقد أخذ بعضهم يعيره بأنه مفتون ضال خارج عن دين آبائه وتقاليدهم. فردت الآية الأولى عليهم بأن الحق لن يلبث أن يظهر ويُعرف من هو المفتون، ثم وجه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم منطوياً على التثبيت بأن ربه هو الأعلم بمن هو ضالّ حقا ومهتد حقّاً.
٢- وقد أخذ بعضهم يقترح على النبي صلى الله عليه وسلم أن يلاين فيلاينوا بالمقابلة. والملاينة التي طلبوها على ما ذكرته الروايات١عدم تسفيه أحلامهم وسبّ ألهتهم، ومشاركتهم في تقاليدهم وعباداتهم، والملاينة التي وعده بها هي تركه وشأنه أو مجاراته في بعض ما يدعو إليه. وكان بعضهم يحلف له الأيمان على ذلك، فأمرته الآيات بعدم تصديقهم وعدم إطاعتهم لأنهم كاذبون.
٣- وقد أخذ بعضهم إذا ما تلا النبي القرآن يقولون : إنه مقتبس من صحف الأول وقصصهم، منكرين أنه من وحي الله، معتزين بمالهم وأولادهم وقوتهم، وقد حملت الآيات حملة عنيفة على هؤلاء، فهم كاذبون مهينون، عيابون شتامون، مشاؤون بين الناس بالفساد والنميمة، مناعون للخير، غلاط القلوب لؤماء أو مدخولو الأنساب، وقد توعدتهم الآية الأخيرة بكيّ أفواههم بالنار، جزاء ما يصدر منها من الكذب والتكذيب والافتراء والأيمان الكاذبة الخداعة. وهو وعيد مستمد من عاداتهم ليكون تأثيره أشد في نفوسهم.
والضمير في الآيات ( ١٠-١٦ ) مفرد، وقد ذكر المفسرون٢ اسم الأخنس ابن شريق واسم الأسود بن عبد يغوث وقالوا إنها أحدهما. والآيات تبدأ بكلمة ( كل ). والآيات السابقة لها جاءت بصيغة الجمع ضمائر وأفعالاً ؛ حيث يسوغ ذلك القول أن أسلوبها أسلوب خطابي بسبيل التعبير عن طبقة وليس عن فرد، ولو صح ما ذكره المفسرون.
وفي الوقت نفسه انطوى فيها تنبيهات عامة للنبي صلى الله عليه وسلم، منها أن الذين هم على مثل تلك الأخلاق الذميمة لا يمكن أن يصدروا عن رغبة صادقة في الاهتداء، ومنها أن الملاينة في الحق والمبادئ والتساهل فيها لا يجوز أن يكون موضع بحث وجدل، وفي هذا ما فيه كذلك من التلقين القرآني الجليل المستمر المدى في كل زمن ومكان.
وعلى اعتبار أن هذه الآيات مما نزل مبكراً فإن فيها تأييداً لما استدللنا عليه من آيات سورة العلق من أن النبي صلى الله عليه وسلم قد سار في الدعوة علناً منذ بدئها كما هو المتبادر.
تعليق على مفاوضات وعروض
زعماء قريش على النبي صلى الله عليه وسلم.
وآية ﴿ ودوا لو تدهن فيدهنون ﴾ ( القلم : ٩ )١ صريحة بأنها تحكي رغبة بعض الزعماء في ملاينة النبي صلى الله عليه وسلم معهم ومجاراته لهم حتى يقابلوه بالمثل. وقد ذكر بعض المفسرين أنهم طلبوا منه ذكر آلهتهم بالخير أو السكوت عنها، حتى يستمعوا إليه ويجاروه في بعض ما يطلب. ومن الجدير بالذكر في هذه المناسبة أن هذا لم يبق وحيدا. بل تكرر في ظروف عديدة في العهد المكي، على ما أشارت إليه بعض الآيات وروته بعض الروايات، مما فيه صورة خطيرة من صور السيرة النبوية في هذا العهد.
ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم منذ البدء - وظل- شديد الحرص على هداية قومه شديد الحزن من انقباضهم عن دعوته وبخاصة الزعماء، لأنهم يسدون الطريق أمام السواد الأعظم من العرب على ما ذكرناه قبل قليل. فكان بعض الزعماء يستغلون هذه العاطفة، ويعرضون عليه مباشرة أو بواسطة عمه أبي طالب بعض العروض والاقتراحات، بسبيل تبادل الملاينة والمسايرة.
ومن ذلك ما تضمنت الإشارة إليه آيات سورة الإسراء هذه :﴿ وإن كَادُوا ليَفتنُونكَ عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا( ٧٣ ) وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً ( ٧٤ ) ﴾، وقد روى المفسرون٢ في صددها روايات عديدة، منها أن فريقا من زعماء قريش اقترحوا عليه السكوت عن شتم آلهتهم وتسفيه أحلامهم ليحاسنوه ويسايروه. ومنها طلبوا منه الإبقاء على بعض تقاليدهم وطقوسهم مدة من الزمن، ومنها أنهم طلبوا منه الإلمام بأصنامهم كما يفعل بالحجر الأسود، ومنها السماح لهم بذلك. ويظهر أن النبي صلى الله عليه وسلم خطر لباله أن يسايرهم بعض المسايرة، فثبته الله تثبيتا ينطوي فيه التنبيه المنطوي في آيات سورة القلم، والذي نوهنا به آنفا.
وفي سورة يونس هذه الآية :﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ( ١٥ ) ﴾، وقد روى المفسرون٣ أنهم طلبوا منه قرآنا خاليا من الحملة عليهم وعلى شركائهم.
ولقد روى ابن هشام٤ أن زعماء قريش جاءوا إلى أبي طالب متذمرين أكثر من مرة، طالبين منه ردع ابن أخيه عن شتم آلهتهم وتسفيه عقولهم. ومما قالوه له في إحدى المرات وكان حاضراً في مجلسهم : إننا نحب أن يسمع العرب أنك أعطيتنا ما لم تعط غيرنا. وفي إحدى المرات قال لعمه : أريد منهم أن يعطوني كلمة يملكون بها العرب ويدين لهم بها العجم، فقالوا له : نعم وأبيك وعشر كلمات، قال : تقولون : لا إله إلا الله وتخلعون ما تعبدون من دونه. فصفقوا وقال بعضهم لبعض : ما هذا الرجل بمعطيكم شيئا.
وفي سورتي الأنعام والكهف آيات تلهم نصوصها وما رواه المفسرون في صددها٥ أن الزعماء كانوا يقترحون عليه طرد الفقراء والمساكين من حوله، إذا كان يريد منهم أن يجلسوا إليه ويستمعوا منه ويستجيبوا له، ويتمجحون بهم لعدم استجابتهم لدعوته وهي هذه :
١-﴿ وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ( ٥٢ ) وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولواْ أَهَؤُلاء مَنَّ اللّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ( ٥٣ ) ﴾ ( الأنعام : ٥٢-٥٣ ).
٢- وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا( ٢٨ ) } ( الكهف : ٢٨ ).
وقد تضمنت الآيات تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من الاستجابة لاقتراحات زعماء الكفار، بإغداق عطفه واهتمامه على أصحابه الذين آمنوا به والتفوا حوله، مهما كانت طبقتهم الاجتماعية، لأنهم أظهروا من صدق الرغبة في الإيمان والاتجاه إلى الله وحده ما رفع شأنهم وقدرهم عند الله. وفي الآيات من التلقين الجليل ما هو ظاهر.
هذا، وجنوح الزعماء إلى طلب المداهنة والملاينة من النبي صلى الله عليه وسلم، ووعدهم بالمقابلة بالمثل منذ عهد مبكر، واستمرارهم على ذلك يدل على أنهم لم يكونوا يجدون في أنفسهم من القوة ما يستطيعون به إرغامه على الكف عن دعوته، والاعتدال في تنديداته وحملاته، كما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لديه من الجرأة والقوة الروحية والاستغراق في الله ما يجعله غير مبال بما كان عليه الزعماء من قوة ومال وكثرة، وما يجعله يظل يقذف بنذُر القرآن وحملاته في وجوههم ويقرع بها آذانهم منذ بدء الدعوة، ويدل في الوقت نفسه على أن الزعماء يعرفون ذلك، وفي هذا ما فيه من العظمة وبليغ الأسوة.
ولقد قلنا قبل : إن هذه الآيات لا بد أن تكون نزلت بعد طائفة من السور التي فيها مبادئ الدعوة من وحدانية الله تعالى، وإيجاب اختصاصه وحده بالعبادة والدعاء، وترك كل ما عداه، والإيمان باليوم الآخر، وإيجاب الأعمال والأخلاق الحسنة، وتجنب الأعمال والأخلاق السيئة، وعدم الاستغراق في حب المال واكتنازه، وإيجاب البر بالمساكين والفقراء، والإنفاق على سبل الخير المختلفة إلخ.. ومعنى أمر الله تعالى لرسوله بعدم إطاعتهم في ما يطلبونه من مسايرة مقابل وعدهم له بالمسايرة في بعض ما يدعو إليه، أن المبادئ الأساسية للدعوة لا يصح في أي حال وظرف أن تكون محل مساومة وتمييع. وهذا الأمر قد تكرر على ما تفيده آيات سورة الإسراء ( ٧٣- ٧٤ ) التي أوردناها آنفا.
وفي هذا ما فيه روعة وتلقين جليل مستمر المدى.
٢ المصدر نفسه..
٣ انظر تفسيرها في كتب تفسير البغوي وابن كثير والطبري والخازن والطبرسي....
٤ ابن هشام ج ١ ص ٢٨٢-٢٨٥ وج ٢ ص ٢٦- ٢٨..
٥ - المصدر السابق نفسه..
شرح الآيات ( ٥-١٦ ) من سورة القلم
وما انطوى فيها من صور وتنبيهات
عبارة الآيات واضحة. وفيها حكاية لبعض ما وقع بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين الكفار ورد عليهم وتنديد بهم وتثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم :
١- فقد أخذ بعضهم يعيره بأنه مفتون ضال خارج عن دين آبائه وتقاليدهم. فردت الآية الأولى عليهم بأن الحق لن يلبث أن يظهر ويُعرف من هو المفتون، ثم وجه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم منطوياً على التثبيت بأن ربه هو الأعلم بمن هو ضالّ حقا ومهتد حقّاً.
٢- وقد أخذ بعضهم يقترح على النبي صلى الله عليه وسلم أن يلاين فيلاينوا بالمقابلة. والملاينة التي طلبوها على ما ذكرته الروايات١عدم تسفيه أحلامهم وسبّ ألهتهم، ومشاركتهم في تقاليدهم وعباداتهم، والملاينة التي وعده بها هي تركه وشأنه أو مجاراته في بعض ما يدعو إليه. وكان بعضهم يحلف له الأيمان على ذلك، فأمرته الآيات بعدم تصديقهم وعدم إطاعتهم لأنهم كاذبون.
٣- وقد أخذ بعضهم إذا ما تلا النبي القرآن يقولون : إنه مقتبس من صحف الأول وقصصهم، منكرين أنه من وحي الله، معتزين بمالهم وأولادهم وقوتهم، وقد حملت الآيات حملة عنيفة على هؤلاء، فهم كاذبون مهينون، عيابون شتامون، مشاؤون بين الناس بالفساد والنميمة، مناعون للخير، غلاط القلوب لؤماء أو مدخولو الأنساب، وقد توعدتهم الآية الأخيرة بكيّ أفواههم بالنار، جزاء ما يصدر منها من الكذب والتكذيب والافتراء والأيمان الكاذبة الخداعة. وهو وعيد مستمد من عاداتهم ليكون تأثيره أشد في نفوسهم.
والضمير في الآيات ( ١٠-١٦ ) مفرد، وقد ذكر المفسرون٢ اسم الأخنس ابن شريق واسم الأسود بن عبد يغوث وقالوا إنها أحدهما. والآيات تبدأ بكلمة ( كل ). والآيات السابقة لها جاءت بصيغة الجمع ضمائر وأفعالاً ؛ حيث يسوغ ذلك القول أن أسلوبها أسلوب خطابي بسبيل التعبير عن طبقة وليس عن فرد، ولو صح ما ذكره المفسرون.
وفي الوقت نفسه انطوى فيها تنبيهات عامة للنبي صلى الله عليه وسلم، منها أن الذين هم على مثل تلك الأخلاق الذميمة لا يمكن أن يصدروا عن رغبة صادقة في الاهتداء، ومنها أن الملاينة في الحق والمبادئ والتساهل فيها لا يجوز أن يكون موضع بحث وجدل، وفي هذا ما فيه كذلك من التلقين القرآني الجليل المستمر المدى في كل زمن ومكان.
وعلى اعتبار أن هذه الآيات مما نزل مبكراً فإن فيها تأييداً لما استدللنا عليه من آيات سورة العلق من أن النبي صلى الله عليه وسلم قد سار في الدعوة علناً منذ بدئها كما هو المتبادر.
ومع أن الآيات كما قلنا قبل هي بسبيل وصف أخلاق الطبقة الغنية المترفة التي تصدت لمناوأة الدعوة النبوية وأهدافها، فإن فيما احتوته من تنديد بالكذب والأيمان الكاذبة، والنميمة والعيب في الناس وشتمهم ومنع الخير عنهم، والبغي عليهم وغلظ القلب وقسوة العاطفة، تنطوي على تلقينات قرآنية جليلة مستمرة المدى، بوجوب احتقار ونبذ المتصفين بهذه الصفات، واجتناب هذه الصفات والأفعال الذميمة المكروهة، وتنقية النفس من الأوضار. ولقد تكرر ذم هذه الأخلاق والصفات، ومدح أضدادها في مختلف السور المكية والمدنية معا، وبكثرة تغني عن التمثيل مما فيه دلالة على شدة اهتمام القرآن بالأخلاق وتقويمها، على اعتبار كون أفعال الناس إنما تصدر عنها وتتأثر بها.
ونكتفي هنا بهذه الكلمة لأن التنديد بالأخلاق السيئة والتنويه بالأخلاق الحسنة سوف يتكرر في تجدد المناسبات الكثيرة الآتية.
ولقد أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث عديدة ورد بعضها في كتب الأحاديث الخمسة في الأخلاق السيئة المندد بها في الآيات. من ذلك حديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن حذيفة قال :" سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا يدخل الجنة قتّاتٌ وفي رواية نمّام " ١. وحديث رواه الأربعة عن أبي هريرة قال :" سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن شرّ الناس ذو الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه " ٢وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة قال :" قال النبي صلى الله عليه وسلم : إياكم وسوء ذات البين فإنها الحالقة " ٣. وحديث رواه مسلم عن عبد الله قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أنبئكم ما العَضْهُ ؟ هي النميمة القالةُ بين الناس " ٤. وحديث رواه أبو داود عن عمّار قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان له وجهان في الدنيا كان له يوم القيامة لسانان من نار " ٥. وحديث رواه أبو داود عن أبي هريرة قال :" قال النبي صلى الله عليه وسلم إن من أكبر الكبائر استطالة المرء في عرض رجل مسلم بغير حق، ومن الكبائر السبتان بالسبة " ٦. وحديث رواه أبو داود والترمذي عن أبي برزة قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين ولا تتّبعوا عوراتهم، فإنه من اتّبع عوراتهم يتّبع الله عورته ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته " ٧. وحديث رواه الترمذي عن عبد الله قال :" قال النبي صلى الله عليه وسلم : ليس المؤمن بالطّعّان ولا اللعّان ولا الفاحش ولا البذيء " ٨. وحديث رواه أبو داود عن سفيان بن أسيد قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كبرَت خيانة أن تحدّث أخاك حديثا هو لك به مصدّقٌ وأنت له به كاذب " ٩. وحديث رواه البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" أربعٌ من كنّ فيه كان منافقاً خالصاً ومن كانت فيه خَلة ٌمنهن كانت فيه خلةٌ من نفاق حتى يدعها، إذا حدّث كَذبَ وإذا عَاهدَ غدر، وإذا وعد أخلف، وإذا خَاصمَ فَجرَ " ١٠.
وحديث رواه أبو داود عن أنس قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لما عُرجَ بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم فقلت من هؤلاء يا جبريل ؟ قال : هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم " ١١. وحديث رواه الشيخان والترمذي عن حارثة بن وهب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" ألا أخبركم بأهل الجنة، كلّ ضعيف متضاعف لو أقسم على الله لأبرّه. ألا أخبركم بأهل النار كل عتل جَوّاظ مستكبر " ١٢. وحديث رواه الترمذي عن الزبير بن العوام أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" دبّ إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين. والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا. ألا أنبّئكم بما يثبت ذاكم لكم افشُوا السلامَ بينكم " ١٣.
وهكذا يتساوق التلقين القرآني مع التلقين القرآني في التنديد بالأخلاق السيئة. وهذا ليس كل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم فهناك أحاديث كثيرة من بابها وردت في كتب ومساند أئمة آخرين فاكتفينا بما أوردناه نقلا من الكتب الخمسة. وهناك أحاديث أخرى في هذه الكتب سنوردها في مناسبات أكثر ملاءمة.
تعليق على مواقف المناوأة الذي وقفه الزعماء والأغنياء
ووصف الكذاب الحلاف بذي مال وبنين، يدل على أن الذين وقفوا من النبي صلى الله عليه وسلم هذه المواقف، وطلبوا منه المداهنة ونعتوه بالضلال، هم بصراحة من ذوي اليسار. وفي الآيات صورة ثانية من صور مواقف زعماء الكفار من الدعوة النبوية منذ بدئها، كرد فعل لما كان يتلوه النبي صلى الله عليه وسلم من آيات وسور قرآنية فيها دعوة ملحة إلى التصدق على الفقراء وإطعام المساكين، ونعي على شدة حب المال والتكالب عليه على ما شرحناه في سورة العلق.
﴿ فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ( ٥ ) بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ١ ( ٦ ) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ( ٧ ) فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ( ٨ ) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ ٢ فَيُدْهِنُونَ( ٩ ) وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ( ١٠ ) هَمَّازٍ ٣ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ ٤ ( ١١ ) مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ ( ١٢ ) عُتُلٍّ ٥ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيم ٦ ( ١٣ ) أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ ( ١٤ ) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ٧ ( ١٥ ) سَنَسِمُهُ ٨ عَلَى الْخُرْطُومِ ٩ ( ١٦ ) ﴾( القلم٥-١٦ ).
شرح الآيات ( ٥-١٦ ) من سورة القلم
وما انطوى فيها من صور وتنبيهات
عبارة الآيات واضحة. وفيها حكاية لبعض ما وقع بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين الكفار ورد عليهم وتنديد بهم وتثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم :
١- فقد أخذ بعضهم يعيره بأنه مفتون ضال خارج عن دين آبائه وتقاليدهم. فردت الآية الأولى عليهم بأن الحق لن يلبث أن يظهر ويُعرف من هو المفتون، ثم وجه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم منطوياً على التثبيت بأن ربه هو الأعلم بمن هو ضالّ حقا ومهتد حقّاً.
٢- وقد أخذ بعضهم يقترح على النبي صلى الله عليه وسلم أن يلاين فيلاينوا بالمقابلة. والملاينة التي طلبوها على ما ذكرته الروايات١عدم تسفيه أحلامهم وسبّ ألهتهم، ومشاركتهم في تقاليدهم وعباداتهم، والملاينة التي وعده بها هي تركه وشأنه أو مجاراته في بعض ما يدعو إليه. وكان بعضهم يحلف له الأيمان على ذلك، فأمرته الآيات بعدم تصديقهم وعدم إطاعتهم لأنهم كاذبون.
٣- وقد أخذ بعضهم إذا ما تلا النبي القرآن يقولون : إنه مقتبس من صحف الأول وقصصهم، منكرين أنه من وحي الله، معتزين بمالهم وأولادهم وقوتهم، وقد حملت الآيات حملة عنيفة على هؤلاء، فهم كاذبون مهينون، عيابون شتامون، مشاؤون بين الناس بالفساد والنميمة، مناعون للخير، غلاط القلوب لؤماء أو مدخولو الأنساب، وقد توعدتهم الآية الأخيرة بكيّ أفواههم بالنار، جزاء ما يصدر منها من الكذب والتكذيب والافتراء والأيمان الكاذبة الخداعة. وهو وعيد مستمد من عاداتهم ليكون تأثيره أشد في نفوسهم.
والضمير في الآيات ( ١٠-١٦ ) مفرد، وقد ذكر المفسرون٢ اسم الأخنس ابن شريق واسم الأسود بن عبد يغوث وقالوا إنها أحدهما. والآيات تبدأ بكلمة ( كل ). والآيات السابقة لها جاءت بصيغة الجمع ضمائر وأفعالاً ؛ حيث يسوغ ذلك القول أن أسلوبها أسلوب خطابي بسبيل التعبير عن طبقة وليس عن فرد، ولو صح ما ذكره المفسرون.
وفي الوقت نفسه انطوى فيها تنبيهات عامة للنبي صلى الله عليه وسلم، منها أن الذين هم على مثل تلك الأخلاق الذميمة لا يمكن أن يصدروا عن رغبة صادقة في الاهتداء، ومنها أن الملاينة في الحق والمبادئ والتساهل فيها لا يجوز أن يكون موضع بحث وجدل، وفي هذا ما فيه كذلك من التلقين القرآني الجليل المستمر المدى في كل زمن ومكان.
وعلى اعتبار أن هذه الآيات مما نزل مبكراً فإن فيها تأييداً لما استدللنا عليه من آيات سورة العلق من أن النبي صلى الله عليه وسلم قد سار في الدعوة علناً منذ بدئها كما هو المتبادر.
ومع أن الآيات كما قلنا قبل هي بسبيل وصف أخلاق الطبقة الغنية المترفة التي تصدت لمناوأة الدعوة النبوية وأهدافها، فإن فيما احتوته من تنديد بالكذب والأيمان الكاذبة، والنميمة والعيب في الناس وشتمهم ومنع الخير عنهم، والبغي عليهم وغلظ القلب وقسوة العاطفة، تنطوي على تلقينات قرآنية جليلة مستمرة المدى، بوجوب احتقار ونبذ المتصفين بهذه الصفات، واجتناب هذه الصفات والأفعال الذميمة المكروهة، وتنقية النفس من الأوضار. ولقد تكرر ذم هذه الأخلاق والصفات، ومدح أضدادها في مختلف السور المكية والمدنية معا، وبكثرة تغني عن التمثيل مما فيه دلالة على شدة اهتمام القرآن بالأخلاق وتقويمها، على اعتبار كون أفعال الناس إنما تصدر عنها وتتأثر بها.
ونكتفي هنا بهذه الكلمة لأن التنديد بالأخلاق السيئة والتنويه بالأخلاق الحسنة سوف يتكرر في تجدد المناسبات الكثيرة الآتية.
ولقد أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث عديدة ورد بعضها في كتب الأحاديث الخمسة في الأخلاق السيئة المندد بها في الآيات. من ذلك حديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن حذيفة قال :" سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا يدخل الجنة قتّاتٌ وفي رواية نمّام " ١. وحديث رواه الأربعة عن أبي هريرة قال :" سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن شرّ الناس ذو الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه " ٢وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة قال :" قال النبي صلى الله عليه وسلم : إياكم وسوء ذات البين فإنها الحالقة " ٣. وحديث رواه مسلم عن عبد الله قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أنبئكم ما العَضْهُ ؟ هي النميمة القالةُ بين الناس " ٤. وحديث رواه أبو داود عن عمّار قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان له وجهان في الدنيا كان له يوم القيامة لسانان من نار " ٥. وحديث رواه أبو داود عن أبي هريرة قال :" قال النبي صلى الله عليه وسلم إن من أكبر الكبائر استطالة المرء في عرض رجل مسلم بغير حق، ومن الكبائر السبتان بالسبة " ٦. وحديث رواه أبو داود والترمذي عن أبي برزة قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين ولا تتّبعوا عوراتهم، فإنه من اتّبع عوراتهم يتّبع الله عورته ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته " ٧. وحديث رواه الترمذي عن عبد الله قال :" قال النبي صلى الله عليه وسلم : ليس المؤمن بالطّعّان ولا اللعّان ولا الفاحش ولا البذيء " ٨. وحديث رواه أبو داود عن سفيان بن أسيد قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كبرَت خيانة أن تحدّث أخاك حديثا هو لك به مصدّقٌ وأنت له به كاذب " ٩. وحديث رواه البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" أربعٌ من كنّ فيه كان منافقاً خالصاً ومن كانت فيه خَلة ٌمنهن كانت فيه خلةٌ من نفاق حتى يدعها، إذا حدّث كَذبَ وإذا عَاهدَ غدر، وإذا وعد أخلف، وإذا خَاصمَ فَجرَ " ١٠.
وحديث رواه أبو داود عن أنس قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لما عُرجَ بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم فقلت من هؤلاء يا جبريل ؟ قال : هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم " ١١. وحديث رواه الشيخان والترمذي عن حارثة بن وهب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" ألا أخبركم بأهل الجنة، كلّ ضعيف متضاعف لو أقسم على الله لأبرّه. ألا أخبركم بأهل النار كل عتل جَوّاظ مستكبر " ١٢. وحديث رواه الترمذي عن الزبير بن العوام أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" دبّ إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين. والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا. ألا أنبّئكم بما يثبت ذاكم لكم افشُوا السلامَ بينكم " ١٣.
وهكذا يتساوق التلقين القرآني مع التلقين القرآني في التنديد بالأخلاق السيئة. وهذا ليس كل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم فهناك أحاديث كثيرة من بابها وردت في كتب ومساند أئمة آخرين فاكتفينا بما أوردناه نقلا من الكتب الخمسة. وهناك أحاديث أخرى في هذه الكتب سنوردها في مناسبات أكثر ملاءمة.
تعليق على مواقف المناوأة الذي وقفه الزعماء والأغنياء
ووصف الكذاب الحلاف بذي مال وبنين، يدل على أن الذين وقفوا من النبي صلى الله عليه وسلم هذه المواقف، وطلبوا منه المداهنة ونعتوه بالضلال، هم بصراحة من ذوي اليسار. وفي الآيات صورة ثانية من صور مواقف زعماء الكفار من الدعوة النبوية منذ بدئها، كرد فعل لما كان يتلوه النبي صلى الله عليه وسلم من آيات وسور قرآنية فيها دعوة ملحة إلى التصدق على الفقراء وإطعام المساكين، ونعي على شدة حب المال والتكالب عليه على ما شرحناه في سورة العلق.
شرح الآيات ( ٥-١٦ ) من سورة القلم
وما انطوى فيها من صور وتنبيهات
عبارة الآيات واضحة. وفيها حكاية لبعض ما وقع بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين الكفار ورد عليهم وتنديد بهم وتثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم :
١- فقد أخذ بعضهم يعيره بأنه مفتون ضال خارج عن دين آبائه وتقاليدهم. فردت الآية الأولى عليهم بأن الحق لن يلبث أن يظهر ويُعرف من هو المفتون، ثم وجه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم منطوياً على التثبيت بأن ربه هو الأعلم بمن هو ضالّ حقا ومهتد حقّاً.
٢- وقد أخذ بعضهم يقترح على النبي صلى الله عليه وسلم أن يلاين فيلاينوا بالمقابلة. والملاينة التي طلبوها على ما ذكرته الروايات١عدم تسفيه أحلامهم وسبّ ألهتهم، ومشاركتهم في تقاليدهم وعباداتهم، والملاينة التي وعده بها هي تركه وشأنه أو مجاراته في بعض ما يدعو إليه. وكان بعضهم يحلف له الأيمان على ذلك، فأمرته الآيات بعدم تصديقهم وعدم إطاعتهم لأنهم كاذبون.
٣- وقد أخذ بعضهم إذا ما تلا النبي القرآن يقولون : إنه مقتبس من صحف الأول وقصصهم، منكرين أنه من وحي الله، معتزين بمالهم وأولادهم وقوتهم، وقد حملت الآيات حملة عنيفة على هؤلاء، فهم كاذبون مهينون، عيابون شتامون، مشاؤون بين الناس بالفساد والنميمة، مناعون للخير، غلاط القلوب لؤماء أو مدخولو الأنساب، وقد توعدتهم الآية الأخيرة بكيّ أفواههم بالنار، جزاء ما يصدر منها من الكذب والتكذيب والافتراء والأيمان الكاذبة الخداعة. وهو وعيد مستمد من عاداتهم ليكون تأثيره أشد في نفوسهم.
والضمير في الآيات ( ١٠-١٦ ) مفرد، وقد ذكر المفسرون٢ اسم الأخنس ابن شريق واسم الأسود بن عبد يغوث وقالوا إنها أحدهما. والآيات تبدأ بكلمة ( كل ). والآيات السابقة لها جاءت بصيغة الجمع ضمائر وأفعالاً ؛ حيث يسوغ ذلك القول أن أسلوبها أسلوب خطابي بسبيل التعبير عن طبقة وليس عن فرد، ولو صح ما ذكره المفسرون.
وفي الوقت نفسه انطوى فيها تنبيهات عامة للنبي صلى الله عليه وسلم، منها أن الذين هم على مثل تلك الأخلاق الذميمة لا يمكن أن يصدروا عن رغبة صادقة في الاهتداء، ومنها أن الملاينة في الحق والمبادئ والتساهل فيها لا يجوز أن يكون موضع بحث وجدل، وفي هذا ما فيه كذلك من التلقين القرآني الجليل المستمر المدى في كل زمن ومكان.
وعلى اعتبار أن هذه الآيات مما نزل مبكراً فإن فيها تأييداً لما استدللنا عليه من آيات سورة العلق من أن النبي صلى الله عليه وسلم قد سار في الدعوة علناً منذ بدئها كما هو المتبادر.
ومع أن الآيات كما قلنا قبل هي بسبيل وصف أخلاق الطبقة الغنية المترفة التي تصدت لمناوأة الدعوة النبوية وأهدافها، فإن فيما احتوته من تنديد بالكذب والأيمان الكاذبة، والنميمة والعيب في الناس وشتمهم ومنع الخير عنهم، والبغي عليهم وغلظ القلب وقسوة العاطفة، تنطوي على تلقينات قرآنية جليلة مستمرة المدى، بوجوب احتقار ونبذ المتصفين بهذه الصفات، واجتناب هذه الصفات والأفعال الذميمة المكروهة، وتنقية النفس من الأوضار. ولقد تكرر ذم هذه الأخلاق والصفات، ومدح أضدادها في مختلف السور المكية والمدنية معا، وبكثرة تغني عن التمثيل مما فيه دلالة على شدة اهتمام القرآن بالأخلاق وتقويمها، على اعتبار كون أفعال الناس إنما تصدر عنها وتتأثر بها.
ونكتفي هنا بهذه الكلمة لأن التنديد بالأخلاق السيئة والتنويه بالأخلاق الحسنة سوف يتكرر في تجدد المناسبات الكثيرة الآتية.
ولقد أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث عديدة ورد بعضها في كتب الأحاديث الخمسة في الأخلاق السيئة المندد بها في الآيات. من ذلك حديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن حذيفة قال :" سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا يدخل الجنة قتّاتٌ وفي رواية نمّام " ١. وحديث رواه الأربعة عن أبي هريرة قال :" سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن شرّ الناس ذو الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه " ٢وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة قال :" قال النبي صلى الله عليه وسلم : إياكم وسوء ذات البين فإنها الحالقة " ٣. وحديث رواه مسلم عن عبد الله قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أنبئكم ما العَضْهُ ؟ هي النميمة القالةُ بين الناس " ٤. وحديث رواه أبو داود عن عمّار قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان له وجهان في الدنيا كان له يوم القيامة لسانان من نار " ٥. وحديث رواه أبو داود عن أبي هريرة قال :" قال النبي صلى الله عليه وسلم إن من أكبر الكبائر استطالة المرء في عرض رجل مسلم بغير حق، ومن الكبائر السبتان بالسبة " ٦. وحديث رواه أبو داود والترمذي عن أبي برزة قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين ولا تتّبعوا عوراتهم، فإنه من اتّبع عوراتهم يتّبع الله عورته ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته " ٧. وحديث رواه الترمذي عن عبد الله قال :" قال النبي صلى الله عليه وسلم : ليس المؤمن بالطّعّان ولا اللعّان ولا الفاحش ولا البذيء " ٨. وحديث رواه أبو داود عن سفيان بن أسيد قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كبرَت خيانة أن تحدّث أخاك حديثا هو لك به مصدّقٌ وأنت له به كاذب " ٩. وحديث رواه البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" أربعٌ من كنّ فيه كان منافقاً خالصاً ومن كانت فيه خَلة ٌمنهن كانت فيه خلةٌ من نفاق حتى يدعها، إذا حدّث كَذبَ وإذا عَاهدَ غدر، وإذا وعد أخلف، وإذا خَاصمَ فَجرَ " ١٠.
وحديث رواه أبو داود عن أنس قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لما عُرجَ بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم فقلت من هؤلاء يا جبريل ؟ قال : هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم " ١١. وحديث رواه الشيخان والترمذي عن حارثة بن وهب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" ألا أخبركم بأهل الجنة، كلّ ضعيف متضاعف لو أقسم على الله لأبرّه. ألا أخبركم بأهل النار كل عتل جَوّاظ مستكبر " ١٢. وحديث رواه الترمذي عن الزبير بن العوام أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" دبّ إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين. والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا. ألا أنبّئكم بما يثبت ذاكم لكم افشُوا السلامَ بينكم " ١٣.
وهكذا يتساوق التلقين القرآني مع التلقين القرآني في التنديد بالأخلاق السيئة. وهذا ليس كل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم فهناك أحاديث كثيرة من بابها وردت في كتب ومساند أئمة آخرين فاكتفينا بما أوردناه نقلا من الكتب الخمسة. وهناك أحاديث أخرى في هذه الكتب سنوردها في مناسبات أكثر ملاءمة.
تعليق على مواقف المناوأة الذي وقفه الزعماء والأغنياء
ووصف الكذاب الحلاف بذي مال وبنين، يدل على أن الذين وقفوا من النبي صلى الله عليه وسلم هذه المواقف، وطلبوا منه المداهنة ونعتوه بالضلال، هم بصراحة من ذوي اليسار. وفي الآيات صورة ثانية من صور مواقف زعماء الكفار من الدعوة النبوية منذ بدئها، كرد فعل لما كان يتلوه النبي صلى الله عليه وسلم من آيات وسور قرآنية فيها دعوة ملحة إلى التصدق على الفقراء وإطعام المساكين، ونعي على شدة حب المال والتكالب عليه على ما شرحناه في سورة العلق.
﴿ فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ( ٥ ) بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ١ ( ٦ ) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ( ٧ ) فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ( ٨ ) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ ٢ فَيُدْهِنُونَ( ٩ ) وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ( ١٠ ) هَمَّازٍ ٣ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ ٤ ( ١١ ) مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ ( ١٢ ) عُتُلٍّ ٥ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيم ٦ ( ١٣ ) أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ ( ١٤ ) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ٧ ( ١٥ ) سَنَسِمُهُ ٨ عَلَى الْخُرْطُومِ ٩ ( ١٦ ) ﴾( القلم٥-١٦ ).
شرح الآيات ( ٥-١٦ ) من سورة القلم
وما انطوى فيها من صور وتنبيهات
عبارة الآيات واضحة. وفيها حكاية لبعض ما وقع بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين الكفار ورد عليهم وتنديد بهم وتثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم :
١- فقد أخذ بعضهم يعيره بأنه مفتون ضال خارج عن دين آبائه وتقاليدهم. فردت الآية الأولى عليهم بأن الحق لن يلبث أن يظهر ويُعرف من هو المفتون، ثم وجه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم منطوياً على التثبيت بأن ربه هو الأعلم بمن هو ضالّ حقا ومهتد حقّاً.
٢- وقد أخذ بعضهم يقترح على النبي صلى الله عليه وسلم أن يلاين فيلاينوا بالمقابلة. والملاينة التي طلبوها على ما ذكرته الروايات١عدم تسفيه أحلامهم وسبّ ألهتهم، ومشاركتهم في تقاليدهم وعباداتهم، والملاينة التي وعده بها هي تركه وشأنه أو مجاراته في بعض ما يدعو إليه. وكان بعضهم يحلف له الأيمان على ذلك، فأمرته الآيات بعدم تصديقهم وعدم إطاعتهم لأنهم كاذبون.
٣- وقد أخذ بعضهم إذا ما تلا النبي القرآن يقولون : إنه مقتبس من صحف الأول وقصصهم، منكرين أنه من وحي الله، معتزين بمالهم وأولادهم وقوتهم، وقد حملت الآيات حملة عنيفة على هؤلاء، فهم كاذبون مهينون، عيابون شتامون، مشاؤون بين الناس بالفساد والنميمة، مناعون للخير، غلاط القلوب لؤماء أو مدخولو الأنساب، وقد توعدتهم الآية الأخيرة بكيّ أفواههم بالنار، جزاء ما يصدر منها من الكذب والتكذيب والافتراء والأيمان الكاذبة الخداعة. وهو وعيد مستمد من عاداتهم ليكون تأثيره أشد في نفوسهم.
والضمير في الآيات ( ١٠-١٦ ) مفرد، وقد ذكر المفسرون٢ اسم الأخنس ابن شريق واسم الأسود بن عبد يغوث وقالوا إنها أحدهما. والآيات تبدأ بكلمة ( كل ). والآيات السابقة لها جاءت بصيغة الجمع ضمائر وأفعالاً ؛ حيث يسوغ ذلك القول أن أسلوبها أسلوب خطابي بسبيل التعبير عن طبقة وليس عن فرد، ولو صح ما ذكره المفسرون.
وفي الوقت نفسه انطوى فيها تنبيهات عامة للنبي صلى الله عليه وسلم، منها أن الذين هم على مثل تلك الأخلاق الذميمة لا يمكن أن يصدروا عن رغبة صادقة في الاهتداء، ومنها أن الملاينة في الحق والمبادئ والتساهل فيها لا يجوز أن يكون موضع بحث وجدل، وفي هذا ما فيه كذلك من التلقين القرآني الجليل المستمر المدى في كل زمن ومكان.
وعلى اعتبار أن هذه الآيات مما نزل مبكراً فإن فيها تأييداً لما استدللنا عليه من آيات سورة العلق من أن النبي صلى الله عليه وسلم قد سار في الدعوة علناً منذ بدئها كما هو المتبادر.
ومع أن الآيات كما قلنا قبل هي بسبيل وصف أخلاق الطبقة الغنية المترفة التي تصدت لمناوأة الدعوة النبوية وأهدافها، فإن فيما احتوته من تنديد بالكذب والأيمان الكاذبة، والنميمة والعيب في الناس وشتمهم ومنع الخير عنهم، والبغي عليهم وغلظ القلب وقسوة العاطفة، تنطوي على تلقينات قرآنية جليلة مستمرة المدى، بوجوب احتقار ونبذ المتصفين بهذه الصفات، واجتناب هذه الصفات والأفعال الذميمة المكروهة، وتنقية النفس من الأوضار. ولقد تكرر ذم هذه الأخلاق والصفات، ومدح أضدادها في مختلف السور المكية والمدنية معا، وبكثرة تغني عن التمثيل مما فيه دلالة على شدة اهتمام القرآن بالأخلاق وتقويمها، على اعتبار كون أفعال الناس إنما تصدر عنها وتتأثر بها.
ونكتفي هنا بهذه الكلمة لأن التنديد بالأخلاق السيئة والتنويه بالأخلاق الحسنة سوف يتكرر في تجدد المناسبات الكثيرة الآتية.
ولقد أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث عديدة ورد بعضها في كتب الأحاديث الخمسة في الأخلاق السيئة المندد بها في الآيات. من ذلك حديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن حذيفة قال :" سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا يدخل الجنة قتّاتٌ وفي رواية نمّام " ١. وحديث رواه الأربعة عن أبي هريرة قال :" سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن شرّ الناس ذو الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه " ٢وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة قال :" قال النبي صلى الله عليه وسلم : إياكم وسوء ذات البين فإنها الحالقة " ٣. وحديث رواه مسلم عن عبد الله قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أنبئكم ما العَضْهُ ؟ هي النميمة القالةُ بين الناس " ٤. وحديث رواه أبو داود عن عمّار قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان له وجهان في الدنيا كان له يوم القيامة لسانان من نار " ٥. وحديث رواه أبو داود عن أبي هريرة قال :" قال النبي صلى الله عليه وسلم إن من أكبر الكبائر استطالة المرء في عرض رجل مسلم بغير حق، ومن الكبائر السبتان بالسبة " ٦. وحديث رواه أبو داود والترمذي عن أبي برزة قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين ولا تتّبعوا عوراتهم، فإنه من اتّبع عوراتهم يتّبع الله عورته ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته " ٧. وحديث رواه الترمذي عن عبد الله قال :" قال النبي صلى الله عليه وسلم : ليس المؤمن بالطّعّان ولا اللعّان ولا الفاحش ولا البذيء " ٨. وحديث رواه أبو داود عن سفيان بن أسيد قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كبرَت خيانة أن تحدّث أخاك حديثا هو لك به مصدّقٌ وأنت له به كاذب " ٩. وحديث رواه البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" أربعٌ من كنّ فيه كان منافقاً خالصاً ومن كانت فيه خَلة ٌمنهن كانت فيه خلةٌ من نفاق حتى يدعها، إذا حدّث كَذبَ وإذا عَاهدَ غدر، وإذا وعد أخلف، وإذا خَاصمَ فَجرَ " ١٠.
وحديث رواه أبو داود عن أنس قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لما عُرجَ بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم فقلت من هؤلاء يا جبريل ؟ قال : هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم " ١١. وحديث رواه الشيخان والترمذي عن حارثة بن وهب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" ألا أخبركم بأهل الجنة، كلّ ضعيف متضاعف لو أقسم على الله لأبرّه. ألا أخبركم بأهل النار كل عتل جَوّاظ مستكبر " ١٢. وحديث رواه الترمذي عن الزبير بن العوام أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" دبّ إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين. والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا. ألا أنبّئكم بما يثبت ذاكم لكم افشُوا السلامَ بينكم " ١٣.
وهكذا يتساوق التلقين القرآني مع التلقين القرآني في التنديد بالأخلاق السيئة. وهذا ليس كل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم فهناك أحاديث كثيرة من بابها وردت في كتب ومساند أئمة آخرين فاكتفينا بما أوردناه نقلا من الكتب الخمسة. وهناك أحاديث أخرى في هذه الكتب سنوردها في مناسبات أكثر ملاءمة.
تعليق على مواقف المناوأة الذي وقفه الزعماء والأغنياء
ووصف الكذاب الحلاف بذي مال وبنين، يدل على أن الذين وقفوا من النبي صلى الله عليه وسلم هذه المواقف، وطلبوا منه المداهنة ونعتوه بالضلال، هم بصراحة من ذوي اليسار. وفي الآيات صورة ثانية من صور مواقف زعماء الكفار من الدعوة النبوية منذ بدئها، كرد فعل لما كان يتلوه النبي صلى الله عليه وسلم من آيات وسور قرآنية فيها دعوة ملحة إلى التصدق على الفقراء وإطعام المساكين، ونعي على شدة حب المال والتكالب عليه على ما شرحناه في سورة العلق.
شرح الآيات ( ٥-١٦ ) من سورة القلم
وما انطوى فيها من صور وتنبيهات
عبارة الآيات واضحة. وفيها حكاية لبعض ما وقع بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين الكفار ورد عليهم وتنديد بهم وتثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم :
١- فقد أخذ بعضهم يعيره بأنه مفتون ضال خارج عن دين آبائه وتقاليدهم. فردت الآية الأولى عليهم بأن الحق لن يلبث أن يظهر ويُعرف من هو المفتون، ثم وجه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم منطوياً على التثبيت بأن ربه هو الأعلم بمن هو ضالّ حقا ومهتد حقّاً.
٢- وقد أخذ بعضهم يقترح على النبي صلى الله عليه وسلم أن يلاين فيلاينوا بالمقابلة. والملاينة التي طلبوها على ما ذكرته الروايات١عدم تسفيه أحلامهم وسبّ ألهتهم، ومشاركتهم في تقاليدهم وعباداتهم، والملاينة التي وعده بها هي تركه وشأنه أو مجاراته في بعض ما يدعو إليه. وكان بعضهم يحلف له الأيمان على ذلك، فأمرته الآيات بعدم تصديقهم وعدم إطاعتهم لأنهم كاذبون.
٣- وقد أخذ بعضهم إذا ما تلا النبي القرآن يقولون : إنه مقتبس من صحف الأول وقصصهم، منكرين أنه من وحي الله، معتزين بمالهم وأولادهم وقوتهم، وقد حملت الآيات حملة عنيفة على هؤلاء، فهم كاذبون مهينون، عيابون شتامون، مشاؤون بين الناس بالفساد والنميمة، مناعون للخير، غلاط القلوب لؤماء أو مدخولو الأنساب، وقد توعدتهم الآية الأخيرة بكيّ أفواههم بالنار، جزاء ما يصدر منها من الكذب والتكذيب والافتراء والأيمان الكاذبة الخداعة. وهو وعيد مستمد من عاداتهم ليكون تأثيره أشد في نفوسهم.
والضمير في الآيات ( ١٠-١٦ ) مفرد، وقد ذكر المفسرون٢ اسم الأخنس ابن شريق واسم الأسود بن عبد يغوث وقالوا إنها أحدهما. والآيات تبدأ بكلمة ( كل ). والآيات السابقة لها جاءت بصيغة الجمع ضمائر وأفعالاً ؛ حيث يسوغ ذلك القول أن أسلوبها أسلوب خطابي بسبيل التعبير عن طبقة وليس عن فرد، ولو صح ما ذكره المفسرون.
وفي الوقت نفسه انطوى فيها تنبيهات عامة للنبي صلى الله عليه وسلم، منها أن الذين هم على مثل تلك الأخلاق الذميمة لا يمكن أن يصدروا عن رغبة صادقة في الاهتداء، ومنها أن الملاينة في الحق والمبادئ والتساهل فيها لا يجوز أن يكون موضع بحث وجدل، وفي هذا ما فيه كذلك من التلقين القرآني الجليل المستمر المدى في كل زمن ومكان.
وعلى اعتبار أن هذه الآيات مما نزل مبكراً فإن فيها تأييداً لما استدللنا عليه من آيات سورة العلق من أن النبي صلى الله عليه وسلم قد سار في الدعوة علناً منذ بدئها كما هو المتبادر.
ومع أن الآيات كما قلنا قبل هي بسبيل وصف أخلاق الطبقة الغنية المترفة التي تصدت لمناوأة الدعوة النبوية وأهدافها، فإن فيما احتوته من تنديد بالكذب والأيمان الكاذبة، والنميمة والعيب في الناس وشتمهم ومنع الخير عنهم، والبغي عليهم وغلظ القلب وقسوة العاطفة، تنطوي على تلقينات قرآنية جليلة مستمرة المدى، بوجوب احتقار ونبذ المتصفين بهذه الصفات، واجتناب هذه الصفات والأفعال الذميمة المكروهة، وتنقية النفس من الأوضار. ولقد تكرر ذم هذه الأخلاق والصفات، ومدح أضدادها في مختلف السور المكية والمدنية معا، وبكثرة تغني عن التمثيل مما فيه دلالة على شدة اهتمام القرآن بالأخلاق وتقويمها، على اعتبار كون أفعال الناس إنما تصدر عنها وتتأثر بها.
ونكتفي هنا بهذه الكلمة لأن التنديد بالأخلاق السيئة والتنويه بالأخلاق الحسنة سوف يتكرر في تجدد المناسبات الكثيرة الآتية.
ولقد أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث عديدة ورد بعضها في كتب الأحاديث الخمسة في الأخلاق السيئة المندد بها في الآيات. من ذلك حديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن حذيفة قال :" سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا يدخل الجنة قتّاتٌ وفي رواية نمّام " ١. وحديث رواه الأربعة عن أبي هريرة قال :" سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن شرّ الناس ذو الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه " ٢وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة قال :" قال النبي صلى الله عليه وسلم : إياكم وسوء ذات البين فإنها الحالقة " ٣. وحديث رواه مسلم عن عبد الله قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أنبئكم ما العَضْهُ ؟ هي النميمة القالةُ بين الناس " ٤. وحديث رواه أبو داود عن عمّار قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان له وجهان في الدنيا كان له يوم القيامة لسانان من نار " ٥. وحديث رواه أبو داود عن أبي هريرة قال :" قال النبي صلى الله عليه وسلم إن من أكبر الكبائر استطالة المرء في عرض رجل مسلم بغير حق، ومن الكبائر السبتان بالسبة " ٦. وحديث رواه أبو داود والترمذي عن أبي برزة قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين ولا تتّبعوا عوراتهم، فإنه من اتّبع عوراتهم يتّبع الله عورته ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته " ٧. وحديث رواه الترمذي عن عبد الله قال :" قال النبي صلى الله عليه وسلم : ليس المؤمن بالطّعّان ولا اللعّان ولا الفاحش ولا البذيء " ٨. وحديث رواه أبو داود عن سفيان بن أسيد قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كبرَت خيانة أن تحدّث أخاك حديثا هو لك به مصدّقٌ وأنت له به كاذب " ٩. وحديث رواه البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" أربعٌ من كنّ فيه كان منافقاً خالصاً ومن كانت فيه خَلة ٌمنهن كانت فيه خلةٌ من نفاق حتى يدعها، إذا حدّث كَذبَ وإذا عَاهدَ غدر، وإذا وعد أخلف، وإذا خَاصمَ فَجرَ " ١٠.
وحديث رواه أبو داود عن أنس قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لما عُرجَ بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم فقلت من هؤلاء يا جبريل ؟ قال : هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم " ١١. وحديث رواه الشيخان والترمذي عن حارثة بن وهب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" ألا أخبركم بأهل الجنة، كلّ ضعيف متضاعف لو أقسم على الله لأبرّه. ألا أخبركم بأهل النار كل عتل جَوّاظ مستكبر " ١٢. وحديث رواه الترمذي عن الزبير بن العوام أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" دبّ إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين. والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا. ألا أنبّئكم بما يثبت ذاكم لكم افشُوا السلامَ بينكم " ١٣.
وهكذا يتساوق التلقين القرآني مع التلقين القرآني في التنديد بالأخلاق السيئة. وهذا ليس كل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم فهناك أحاديث كثيرة من بابها وردت في كتب ومساند أئمة آخرين فاكتفينا بما أوردناه نقلا من الكتب الخمسة. وهناك أحاديث أخرى في هذه الكتب سنوردها في مناسبات أكثر ملاءمة.
تعليق على مواقف المناوأة الذي وقفه الزعماء والأغنياء
ووصف الكذاب الحلاف بذي مال وبنين، يدل على أن الذين وقفوا من النبي صلى الله عليه وسلم هذه المواقف، وطلبوا منه المداهنة ونعتوه بالضلال، هم بصراحة من ذوي اليسار. وفي الآيات صورة ثانية من صور مواقف زعماء الكفار من الدعوة النبوية منذ بدئها، كرد فعل لما كان يتلوه النبي صلى الله عليه وسلم من آيات وسور قرآنية فيها دعوة ملحة إلى التصدق على الفقراء وإطعام المساكين، ونعي على شدة حب المال والتكالب عليه على ما شرحناه في سورة العلق.
﴿ فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ( ٥ ) بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ١ ( ٦ ) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ( ٧ ) فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ( ٨ ) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ ٢ فَيُدْهِنُونَ( ٩ ) وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ( ١٠ ) هَمَّازٍ ٣ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ ٤ ( ١١ ) مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ ( ١٢ ) عُتُلٍّ ٥ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيم ٦ ( ١٣ ) أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ ( ١٤ ) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ٧ ( ١٥ ) سَنَسِمُهُ ٨ عَلَى الْخُرْطُومِ ٩ ( ١٦ ) ﴾( القلم٥-١٦ ).
شرح الآيات ( ٥-١٦ ) من سورة القلم
وما انطوى فيها من صور وتنبيهات
عبارة الآيات واضحة. وفيها حكاية لبعض ما وقع بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين الكفار ورد عليهم وتنديد بهم وتثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم :
١- فقد أخذ بعضهم يعيره بأنه مفتون ضال خارج عن دين آبائه وتقاليدهم. فردت الآية الأولى عليهم بأن الحق لن يلبث أن يظهر ويُعرف من هو المفتون، ثم وجه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم منطوياً على التثبيت بأن ربه هو الأعلم بمن هو ضالّ حقا ومهتد حقّاً.
٢- وقد أخذ بعضهم يقترح على النبي صلى الله عليه وسلم أن يلاين فيلاينوا بالمقابلة. والملاينة التي طلبوها على ما ذكرته الروايات١عدم تسفيه أحلامهم وسبّ ألهتهم، ومشاركتهم في تقاليدهم وعباداتهم، والملاينة التي وعده بها هي تركه وشأنه أو مجاراته في بعض ما يدعو إليه. وكان بعضهم يحلف له الأيمان على ذلك، فأمرته الآيات بعدم تصديقهم وعدم إطاعتهم لأنهم كاذبون.
٣- وقد أخذ بعضهم إذا ما تلا النبي القرآن يقولون : إنه مقتبس من صحف الأول وقصصهم، منكرين أنه من وحي الله، معتزين بمالهم وأولادهم وقوتهم، وقد حملت الآيات حملة عنيفة على هؤلاء، فهم كاذبون مهينون، عيابون شتامون، مشاؤون بين الناس بالفساد والنميمة، مناعون للخير، غلاط القلوب لؤماء أو مدخولو الأنساب، وقد توعدتهم الآية الأخيرة بكيّ أفواههم بالنار، جزاء ما يصدر منها من الكذب والتكذيب والافتراء والأيمان الكاذبة الخداعة. وهو وعيد مستمد من عاداتهم ليكون تأثيره أشد في نفوسهم.
والضمير في الآيات ( ١٠-١٦ ) مفرد، وقد ذكر المفسرون٢ اسم الأخنس ابن شريق واسم الأسود بن عبد يغوث وقالوا إنها أحدهما. والآيات تبدأ بكلمة ( كل ). والآيات السابقة لها جاءت بصيغة الجمع ضمائر وأفعالاً ؛ حيث يسوغ ذلك القول أن أسلوبها أسلوب خطابي بسبيل التعبير عن طبقة وليس عن فرد، ولو صح ما ذكره المفسرون.
وفي الوقت نفسه انطوى فيها تنبيهات عامة للنبي صلى الله عليه وسلم، منها أن الذين هم على مثل تلك الأخلاق الذميمة لا يمكن أن يصدروا عن رغبة صادقة في الاهتداء، ومنها أن الملاينة في الحق والمبادئ والتساهل فيها لا يجوز أن يكون موضع بحث وجدل، وفي هذا ما فيه كذلك من التلقين القرآني الجليل المستمر المدى في كل زمن ومكان.
وعلى اعتبار أن هذه الآيات مما نزل مبكراً فإن فيها تأييداً لما استدللنا عليه من آيات سورة العلق من أن النبي صلى الله عليه وسلم قد سار في الدعوة علناً منذ بدئها كما هو المتبادر.
تعليق على جملة
﴿ أساطير الأولين ﴾
وجملة أساطير الأولين قد تكررت كثيراً في القرآن حكاية لزعم الكفار عن القرآن، وهذه الجملة أو بتعبير أدق كلمة أساطير، تعني الآن القصص التي لا تستند إلى أصل، أو يشوبها الغلو أو الخرافة. غير أن الذي يتبادر لنا أن استعمالها في القرآن لم يكن لهذا المعنى فقط، وإنما كان أيضا لمقصد الإشارة إلى كتب الأولين وصحفهم، بما في ذلك كتب النصارى واليهود التي كانت متداولة. وفي سورة الفرقان آية قد تؤيد ذلك حيث جاء فيها :﴿ وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا( ٥ ) ﴾، وحيث أراد الكفار أن يقولوا : إن ما يتلوه النبي صلى الله عليه وسلم قد اقتبسه واستكتبه وحفظه من الكتب الأولى المتداولة وليس وحياً.
والجملة في السورة تدل في حد ذاتها على أن ما نزل من القرآن قبل هذه الآيات كان شيئا غير يسير، حيث رأى الكفار فيه من التطابق والمواضيع، ما سوغ لهم في هذا القول ؛ وتؤيد ما قلناه في صدد ترتيب هذه السورة.
ومع أن الآيات كما قلنا قبل هي بسبيل وصف أخلاق الطبقة الغنية المترفة التي تصدت لمناوأة الدعوة النبوية وأهدافها، فإن فيما احتوته من تنديد بالكذب والأيمان الكاذبة، والنميمة والعيب في الناس وشتمهم ومنع الخير عنهم، والبغي عليهم وغلظ القلب وقسوة العاطفة، تنطوي على تلقينات قرآنية جليلة مستمرة المدى، بوجوب احتقار ونبذ المتصفين بهذه الصفات، واجتناب هذه الصفات والأفعال الذميمة المكروهة، وتنقية النفس من الأوضار. ولقد تكرر ذم هذه الأخلاق والصفات، ومدح أضدادها في مختلف السور المكية والمدنية معا، وبكثرة تغني عن التمثيل مما فيه دلالة على شدة اهتمام القرآن بالأخلاق وتقويمها، على اعتبار كون أفعال الناس إنما تصدر عنها وتتأثر بها.
ونكتفي هنا بهذه الكلمة لأن التنديد بالأخلاق السيئة والتنويه بالأخلاق الحسنة سوف يتكرر في تجدد المناسبات الكثيرة الآتية.
ولقد أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث عديدة ورد بعضها في كتب الأحاديث الخمسة في الأخلاق السيئة المندد بها في الآيات. من ذلك حديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن حذيفة قال :" سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا يدخل الجنة قتّاتٌ وفي رواية نمّام " ١. وحديث رواه الأربعة عن أبي هريرة قال :" سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن شرّ الناس ذو الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه " ٢وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة قال :" قال النبي صلى الله عليه وسلم : إياكم وسوء ذات البين فإنها الحالقة " ٣. وحديث رواه مسلم عن عبد الله قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أنبئكم ما العَضْهُ ؟ هي النميمة القالةُ بين الناس " ٤. وحديث رواه أبو داود عن عمّار قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان له وجهان في الدنيا كان له يوم القيامة لسانان من نار " ٥. وحديث رواه أبو داود عن أبي هريرة قال :" قال النبي صلى الله عليه وسلم إن من أكبر الكبائر استطالة المرء في عرض رجل مسلم بغير حق، ومن الكبائر السبتان بالسبة " ٦. وحديث رواه أبو داود والترمذي عن أبي برزة قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين ولا تتّبعوا عوراتهم، فإنه من اتّبع عوراتهم يتّبع الله عورته ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته " ٧. وحديث رواه الترمذي عن عبد الله قال :" قال النبي صلى الله عليه وسلم : ليس المؤمن بالطّعّان ولا اللعّان ولا الفاحش ولا البذيء " ٨. وحديث رواه أبو داود عن سفيان بن أسيد قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كبرَت خيانة أن تحدّث أخاك حديثا هو لك به مصدّقٌ وأنت له به كاذب " ٩. وحديث رواه البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" أربعٌ من كنّ فيه كان منافقاً خالصاً ومن كانت فيه خَلة ٌمنهن كانت فيه خلةٌ من نفاق حتى يدعها، إذا حدّث كَذبَ وإذا عَاهدَ غدر، وإذا وعد أخلف، وإذا خَاصمَ فَجرَ " ١٠.
وحديث رواه أبو داود عن أنس قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لما عُرجَ بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم فقلت من هؤلاء يا جبريل ؟ قال : هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم " ١١. وحديث رواه الشيخان والترمذي عن حارثة بن وهب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" ألا أخبركم بأهل الجنة، كلّ ضعيف متضاعف لو أقسم على الله لأبرّه. ألا أخبركم بأهل النار كل عتل جَوّاظ مستكبر " ١٢. وحديث رواه الترمذي عن الزبير بن العوام أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" دبّ إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين. والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا. ألا أنبّئكم بما يثبت ذاكم لكم افشُوا السلامَ بينكم " ١٣.
وهكذا يتساوق التلقين القرآني مع التلقين القرآني في التنديد بالأخلاق السيئة. وهذا ليس كل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم فهناك أحاديث كثيرة من بابها وردت في كتب ومساند أئمة آخرين فاكتفينا بما أوردناه نقلا من الكتب الخمسة. وهناك أحاديث أخرى في هذه الكتب سنوردها في مناسبات أكثر ملاءمة.
تعليق على مواقف المناوأة الذي وقفه الزعماء والأغنياء
ووصف الكذاب الحلاف بذي مال وبنين، يدل على أن الذين وقفوا من النبي صلى الله عليه وسلم هذه المواقف، وطلبوا منه المداهنة ونعتوه بالضلال، هم بصراحة من ذوي اليسار. وفي الآيات صورة ثانية من صور مواقف زعماء الكفار من الدعوة النبوية منذ بدئها، كرد فعل لما كان يتلوه النبي صلى الله عليه وسلم من آيات وسور قرآنية فيها دعوة ملحة إلى التصدق على الفقراء وإطعام المساكين، ونعي على شدة حب المال والتكالب عليه على ما شرحناه في سورة العلق.
سنسمه : مشتقة من وسم أي جعل علامة للشيء. وخاصة العلامة التي تعلم بالكيّ على جلود الأنعام، وهي عادة عربية بدوية لتمييز الأنعام عن بعضها وخاصة الإبل.
﴿ فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ( ٥ ) بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ١ ( ٦ ) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ( ٧ ) فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ( ٨ ) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ ٢ فَيُدْهِنُونَ( ٩ ) وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ( ١٠ ) هَمَّازٍ ٣ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ ٤ ( ١١ ) مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ ( ١٢ ) عُتُلٍّ ٥ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيم ٦ ( ١٣ ) أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ ( ١٤ ) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ٧ ( ١٥ ) سَنَسِمُهُ ٨ عَلَى الْخُرْطُومِ ٩ ( ١٦ ) ﴾( القلم٥-١٦ ).
شرح الآيات ( ٥-١٦ ) من سورة القلم
وما انطوى فيها من صور وتنبيهات
عبارة الآيات واضحة. وفيها حكاية لبعض ما وقع بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين الكفار ورد عليهم وتنديد بهم وتثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم :
١- فقد أخذ بعضهم يعيره بأنه مفتون ضال خارج عن دين آبائه وتقاليدهم. فردت الآية الأولى عليهم بأن الحق لن يلبث أن يظهر ويُعرف من هو المفتون، ثم وجه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم منطوياً على التثبيت بأن ربه هو الأعلم بمن هو ضالّ حقا ومهتد حقّاً.
٢- وقد أخذ بعضهم يقترح على النبي صلى الله عليه وسلم أن يلاين فيلاينوا بالمقابلة. والملاينة التي طلبوها على ما ذكرته الروايات١عدم تسفيه أحلامهم وسبّ ألهتهم، ومشاركتهم في تقاليدهم وعباداتهم، والملاينة التي وعده بها هي تركه وشأنه أو مجاراته في بعض ما يدعو إليه. وكان بعضهم يحلف له الأيمان على ذلك، فأمرته الآيات بعدم تصديقهم وعدم إطاعتهم لأنهم كاذبون.
٣- وقد أخذ بعضهم إذا ما تلا النبي القرآن يقولون : إنه مقتبس من صحف الأول وقصصهم، منكرين أنه من وحي الله، معتزين بمالهم وأولادهم وقوتهم، وقد حملت الآيات حملة عنيفة على هؤلاء، فهم كاذبون مهينون، عيابون شتامون، مشاؤون بين الناس بالفساد والنميمة، مناعون للخير، غلاط القلوب لؤماء أو مدخولو الأنساب، وقد توعدتهم الآية الأخيرة بكيّ أفواههم بالنار، جزاء ما يصدر منها من الكذب والتكذيب والافتراء والأيمان الكاذبة الخداعة. وهو وعيد مستمد من عاداتهم ليكون تأثيره أشد في نفوسهم.
والضمير في الآيات ( ١٠-١٦ ) مفرد، وقد ذكر المفسرون٢ اسم الأخنس ابن شريق واسم الأسود بن عبد يغوث وقالوا إنها أحدهما. والآيات تبدأ بكلمة ( كل ). والآيات السابقة لها جاءت بصيغة الجمع ضمائر وأفعالاً ؛ حيث يسوغ ذلك القول أن أسلوبها أسلوب خطابي بسبيل التعبير عن طبقة وليس عن فرد، ولو صح ما ذكره المفسرون.
وفي الوقت نفسه انطوى فيها تنبيهات عامة للنبي صلى الله عليه وسلم، منها أن الذين هم على مثل تلك الأخلاق الذميمة لا يمكن أن يصدروا عن رغبة صادقة في الاهتداء، ومنها أن الملاينة في الحق والمبادئ والتساهل فيها لا يجوز أن يكون موضع بحث وجدل، وفي هذا ما فيه كذلك من التلقين القرآني الجليل المستمر المدى في كل زمن ومكان.
وعلى اعتبار أن هذه الآيات مما نزل مبكراً فإن فيها تأييداً لما استدللنا عليه من آيات سورة العلق من أن النبي صلى الله عليه وسلم قد سار في الدعوة علناً منذ بدئها كما هو المتبادر.
ومع أن الآيات كما قلنا قبل هي بسبيل وصف أخلاق الطبقة الغنية المترفة التي تصدت لمناوأة الدعوة النبوية وأهدافها، فإن فيما احتوته من تنديد بالكذب والأيمان الكاذبة، والنميمة والعيب في الناس وشتمهم ومنع الخير عنهم، والبغي عليهم وغلظ القلب وقسوة العاطفة، تنطوي على تلقينات قرآنية جليلة مستمرة المدى، بوجوب احتقار ونبذ المتصفين بهذه الصفات، واجتناب هذه الصفات والأفعال الذميمة المكروهة، وتنقية النفس من الأوضار. ولقد تكرر ذم هذه الأخلاق والصفات، ومدح أضدادها في مختلف السور المكية والمدنية معا، وبكثرة تغني عن التمثيل مما فيه دلالة على شدة اهتمام القرآن بالأخلاق وتقويمها، على اعتبار كون أفعال الناس إنما تصدر عنها وتتأثر بها.
ونكتفي هنا بهذه الكلمة لأن التنديد بالأخلاق السيئة والتنويه بالأخلاق الحسنة سوف يتكرر في تجدد المناسبات الكثيرة الآتية.
ولقد أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث عديدة ورد بعضها في كتب الأحاديث الخمسة في الأخلاق السيئة المندد بها في الآيات. من ذلك حديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن حذيفة قال :" سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا يدخل الجنة قتّاتٌ وفي رواية نمّام " ١. وحديث رواه الأربعة عن أبي هريرة قال :" سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن شرّ الناس ذو الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه " ٢وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة قال :" قال النبي صلى الله عليه وسلم : إياكم وسوء ذات البين فإنها الحالقة " ٣. وحديث رواه مسلم عن عبد الله قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أنبئكم ما العَضْهُ ؟ هي النميمة القالةُ بين الناس " ٤. وحديث رواه أبو داود عن عمّار قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان له وجهان في الدنيا كان له يوم القيامة لسانان من نار " ٥. وحديث رواه أبو داود عن أبي هريرة قال :" قال النبي صلى الله عليه وسلم إن من أكبر الكبائر استطالة المرء في عرض رجل مسلم بغير حق، ومن الكبائر السبتان بالسبة " ٦. وحديث رواه أبو داود والترمذي عن أبي برزة قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين ولا تتّبعوا عوراتهم، فإنه من اتّبع عوراتهم يتّبع الله عورته ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته " ٧. وحديث رواه الترمذي عن عبد الله قال :" قال النبي صلى الله عليه وسلم : ليس المؤمن بالطّعّان ولا اللعّان ولا الفاحش ولا البذيء " ٨. وحديث رواه أبو داود عن سفيان بن أسيد قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كبرَت خيانة أن تحدّث أخاك حديثا هو لك به مصدّقٌ وأنت له به كاذب " ٩. وحديث رواه البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" أربعٌ من كنّ فيه كان منافقاً خالصاً ومن كانت فيه خَلة ٌمنهن كانت فيه خلةٌ من نفاق حتى يدعها، إذا حدّث كَذبَ وإذا عَاهدَ غدر، وإذا وعد أخلف، وإذا خَاصمَ فَجرَ " ١٠.
وحديث رواه أبو داود عن أنس قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لما عُرجَ بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم فقلت من هؤلاء يا جبريل ؟ قال : هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم " ١١. وحديث رواه الشيخان والترمذي عن حارثة بن وهب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" ألا أخبركم بأهل الجنة، كلّ ضعيف متضاعف لو أقسم على الله لأبرّه. ألا أخبركم بأهل النار كل عتل جَوّاظ مستكبر " ١٢. وحديث رواه الترمذي عن الزبير بن العوام أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" دبّ إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين. والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا. ألا أنبّئكم بما يثبت ذاكم لكم افشُوا السلامَ بينكم " ١٣.
وهكذا يتساوق التلقين القرآني مع التلقين القرآني في التنديد بالأخلاق السيئة. وهذا ليس كل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم فهناك أحاديث كثيرة من بابها وردت في كتب ومساند أئمة آخرين فاكتفينا بما أوردناه نقلا من الكتب الخمسة. وهناك أحاديث أخرى في هذه الكتب سنوردها في مناسبات أكثر ملاءمة.
تعليق على مواقف المناوأة الذي وقفه الزعماء والأغنياء
ووصف الكذاب الحلاف بذي مال وبنين، يدل على أن الذين وقفوا من النبي صلى الله عليه وسلم هذه المواقف، وطلبوا منه المداهنة ونعتوه بالضلال، هم بصراحة من ذوي اليسار. وفي الآيات صورة ثانية من صور مواقف زعماء الكفار من الدعوة النبوية منذ بدئها، كرد فعل لما كان يتلوه النبي صلى الله عليه وسلم من آيات وسور قرآنية فيها دعوة ملحة إلى التصدق على الفقراء وإطعام المساكين، ونعي على شدة حب المال والتكالب عليه على ما شرحناه في سورة العلق.
٢- الصرم : القطف أو القطع.
٣- مصبحين : في الصباح الباكر.
﴿ إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ ١ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا ٢ مُصْبِحِينَ ٣( ١٧ ) وَلَا يَسْتَثْنُونَ ٤ ( ١٨ ) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ ٥وَهُمْ نَائِمُونَ( ١٩ ) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ ( ٢٠ ) فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ ( ٢١ ) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ ٦ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ( ٢٢ ) فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ ٧( ٢٣ ) أَن لَّا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ( ٢٤ ) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ ٨ قَادِرِينَ( ٢٥ ) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ ٩ ( ٢٦ )بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ( ٢٧ ) قَالَ أَوْسَطُهُمْ ١٠ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ( ٢٨ ) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ١١ ( ٢٩ ) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ ١٢( ٣٠ ) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ١٣ ( ٣١ ) عَسَى رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِّنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ( ٣٢ ) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَاب الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ( ٣٣ ) ﴾ ( ١٧- ٣٣ ).
هذه الآيات تحكي قصة جماعة كان لهم بستان، أقسموا على قطف ثمره دون أن يقولوا : إن شاء الله، وصمموا على حرمان الفقراء منه، وغدوا مصبحين إلى تنفيذ عزيمتهم معتمدين على قدرتهم، فسلط الله على الثمر بلاء جعله كالمقطوف، عقاباً لهم على سوء نيتهم، ولما رأوا بستانهم على هذه الحالة ذهلوا حتى لقد ظنوا أنهم ضلوا عنه، ثم عرفوا الحقيقة فأدركوا أنهم قد خسروا ثمرهم وحرموا منه، وكان فيهم رجل صالح عاقل كان ينصحهم بالاعتدال وعدم البغي، فقال لهم : ألم أخبركم بما سوف ينتج عن سلوككم ؟ وطلب منهم أن يستغفروا الله ويسبحوه ويعترفوا بذنبهم، فأخذ بعضهم يلوم بعضا، وسبّحوا الله واستغفروه واعترفوا بظلمهم وطغيانهم، وأعلنوا توبتهم وإنابتهم إلى الله على أمل أن يعوضهم بما هو خير مما خسروه وحرموا منه.
وقد ابتدأت الآيات بما يفهم منه أن الله قد امتحن المكذبين بما امتحن به أصحاب البستان، وانتهت بالتنويه بعذاب الله الشديد الذي يحل بالظالمين الجاحدين لنعمة الله في الدنيا وبالوعيد بعذاب الآخرة الذي ينتظرهم، والذي هو أشد وأكبر.
وقد روى المفسرون١ أن البستان المذكور في القصة كان في اليمن والحبشة، وذكر أنه كان لرجل من ثقيف، وأنه كان يترك ما يسقط من الثمر للفقراء، فلما مات وورثه أبناؤه قالوا إن أبانا لأحمق، وصمموا على حرمان الفقراء من ذلك. وبعبارة أخرى إن الحكاية لحادث واقعي. وروح الآيات ومضمونها يلهمان ذلك ويلهمان أيضا أن الحادث مما كان معروفاً عند السامعين.
وضمير ﴿ بلوناهم ﴾ راجع مباشرة إلى المكذبين الذين حكت الآيات السابقة موقفهم وهم زعماء قريش كما هو المتبادر، وفي ذلك قرينة على أنهم كانوا يعرفون قصة البستان.
وواضح أن القصة أوردت في معرض التذكير والمثل. وهذا شأن جميع القصص والأمثال القرآنية ؛ والأسلوب القرآني في ذلك من خصوصيات القرآن ؛ لأن ما احتوته الكتب الدينية اليهودية والنصرانية من القصص هي في صدد التاريخ والإخبار. والعظة والتذكرة اللتان تنطويان في هذه القصة هما أن الله قد امتحن المكذبين بالرسالة النبوية، كما امتحن أصحاب البستان بالنعمة التي أنعمها عليهم بثمرهم، وكما أن هؤلاء قد تعرضوا لعذاب الله وبلائه لعدم استماعهم لنصيحة عاقلهم ومرشدهم وعدم شكر نعمة الله، ولسوء النية التي بيتوها بحرمان الفقراء فإن أولئك - أي كفار قريش المكذبين- أمام امتحان رباني، فإذا لم يستمعوا لنصيحة ناصحهم ومرشدهم ولم يستجيبوا إليها ولم يشكروا نعمة الله التي أنعمها عليهم فإنهم سيتعرضون لبلاء الله وعذابه في الدنيا فضلا عما سيتعرضون لعذابه الأكبر في الآخرة. ولهم الأسوة بأصحاب البستان الذين أدركوا مدى ظلمهم وانحرافهم وسوء نيتهم فاستجابوا وتابوا إلى الله واستغفروه.
والمصحف الذي اعتمدنا عليه يذكر أن هذه الآيات مدنية، غير أننا نلاحظ أولاً : أنها منسجمة مع ما قبلها وما بعدها كأنما جميعها في سياق واحد وموضوع واحد ثانياً : أن مضمونها يلهم كون المثل موجهاً إلى الناس في مبادئ الدعوة وعهد النبوة. وثالثاً : أن الضمير في ﴿ بلوناهم ﴾ راجع إلى الذين كانوا موضوع الآيات السابقة مما ينطوي فيه الاتصال بين هذه الآيات وسابقاتها. ورابعاً : أن أسلوبها وطابعها أكثر شبهاً لأسلوب وطابع الآيات المكية ؛ ولذلك فإننا نتوقف في صحة الرواية، وإذا صحت ملاحظاتنا فتكون هذه القصة أولى القصص القرآنية نزولاً والله أعلم.
ونقول في هذه المناسبة : إن القرآن قد احتوى كثيراً من القصص بأساليب متنوعة، مسهبة حيناً ومقتضبة حينا وبإشارات خاطفة حينا، منها قصص خاصة بحياة وسيرة أنبياء الله ورسله، ومنها مزيجة بين حياة وسيرة أنبياء الله ورسله وما جرى بينهم وبين أقوامهم أو الذين أرسلوا إليهم ونتائجه. ومنها قصص أشخاص أو جماعات غير أنبياء. ومن هذه القصص ما ورد جزئيا أو كليا أو مباينا بعض الشيء مع التوافق في أمور. وفي الأسماء في الأسفار التي يتداولها اليهود والنصارى التي يجمعها ما يسمى بالكتاب المقدس أو ما يسمى أسفار العهد القديم وأسفار العهد الجديد. ومنها ما هو عائد إلى أسماء وردت في هذه الأسفار دون القصص. ومنها قصص عربية لجماعات وأنبياء وأقوام عاشوا في جزيرة العرب قبل الإسلام. ويصدق على جميعها ما قلناه من أنها جاءت في القرآن في معرض التذكير والمثل، ولسوف نزيد كل هذا شرحاً في مناسبات آتية.
تعليق على روايات الآيات
المدنية في السور المكية
وبمناسبة ذكر رواية مدنية الآيات المذكورة لأول مرة نقول : إن هناك روايات عديدة عن وجود آيات مدنية في السور المكية. والمصحف الذي اعتمدنا عليه يروي مدنية ( ١٤٧ ) آية في ( ٣٤ ) سورة مكية، وهناك روايات تزيد في عدد الآيات وأخرى تنقص منها.
والمتدبر في الآيات يرى طابع العهد المكي وصوره وأحداثه بارزاً على معظمها، كما يرى انسجام معظمها انسجاماً تاما في السياق والمضمون بل والنظم مع ما قبلها وما بعدها، ولا يستبين الحكمة في وضعها لو كانت مدنية حقاً بحيث يسوغ الشك والتوقف في صحة الروايات التي تروي مدنيتها وتروي أسباب نزولها في المدينة، إلا إذا فرض أن تكون حكمة التنزيل اقتضت تدعيم السياق المكي بها وهو فرض لا يمكن أن تطمئن النفس به. ومن الجدير بالذكر أن معظم الروايات ليست أحاديث نبوية أو صحابية موثقة ومسندة على أسلوب توثيق الأحاديث وإسنادها. ومما يرد على البال تعليلاً لها أن الآيات المكية ذكرت أو استشهد بها بمناسبة بعض أحداث جرت في المدينة وكان بعضهم قد نسيها فالتبس عليهم الأمر وظنوها آيات مدنية.
والكلام ينطبق كما قلنا على معظم الآيات، وهناك بضع آيات في بعض السور المكية تستثنى من ذلك يسوغ طابعها ومضمونها الجزم بصحة رواية مدنيتها. وقد وضعت في السياق المناسب لمضمونها على ما سوف نشرحه في مناسباتها.
﴿ إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ ١ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا ٢ مُصْبِحِينَ ٣( ١٧ ) وَلَا يَسْتَثْنُونَ ٤ ( ١٨ ) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ ٥وَهُمْ نَائِمُونَ( ١٩ ) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ ( ٢٠ ) فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ ( ٢١ ) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ ٦ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ( ٢٢ ) فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ ٧( ٢٣ ) أَن لَّا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ( ٢٤ ) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ ٨ قَادِرِينَ( ٢٥ ) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ ٩ ( ٢٦ )بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ( ٢٧ ) قَالَ أَوْسَطُهُمْ ١٠ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ( ٢٨ ) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ١١ ( ٢٩ ) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ ١٢( ٣٠ ) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ١٣ ( ٣١ ) عَسَى رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِّنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ( ٣٢ ) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَاب الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ( ٣٣ ) ﴾ ( ١٧- ٣٣ ).
هذه الآيات تحكي قصة جماعة كان لهم بستان، أقسموا على قطف ثمره دون أن يقولوا : إن شاء الله، وصمموا على حرمان الفقراء منه، وغدوا مصبحين إلى تنفيذ عزيمتهم معتمدين على قدرتهم، فسلط الله على الثمر بلاء جعله كالمقطوف، عقاباً لهم على سوء نيتهم، ولما رأوا بستانهم على هذه الحالة ذهلوا حتى لقد ظنوا أنهم ضلوا عنه، ثم عرفوا الحقيقة فأدركوا أنهم قد خسروا ثمرهم وحرموا منه، وكان فيهم رجل صالح عاقل كان ينصحهم بالاعتدال وعدم البغي، فقال لهم : ألم أخبركم بما سوف ينتج عن سلوككم ؟ وطلب منهم أن يستغفروا الله ويسبحوه ويعترفوا بذنبهم، فأخذ بعضهم يلوم بعضا، وسبّحوا الله واستغفروه واعترفوا بظلمهم وطغيانهم، وأعلنوا توبتهم وإنابتهم إلى الله على أمل أن يعوضهم بما هو خير مما خسروه وحرموا منه.
وقد ابتدأت الآيات بما يفهم منه أن الله قد امتحن المكذبين بما امتحن به أصحاب البستان، وانتهت بالتنويه بعذاب الله الشديد الذي يحل بالظالمين الجاحدين لنعمة الله في الدنيا وبالوعيد بعذاب الآخرة الذي ينتظرهم، والذي هو أشد وأكبر.
وقد روى المفسرون١ أن البستان المذكور في القصة كان في اليمن والحبشة، وذكر أنه كان لرجل من ثقيف، وأنه كان يترك ما يسقط من الثمر للفقراء، فلما مات وورثه أبناؤه قالوا إن أبانا لأحمق، وصمموا على حرمان الفقراء من ذلك. وبعبارة أخرى إن الحكاية لحادث واقعي. وروح الآيات ومضمونها يلهمان ذلك ويلهمان أيضا أن الحادث مما كان معروفاً عند السامعين.
وضمير ﴿ بلوناهم ﴾ راجع مباشرة إلى المكذبين الذين حكت الآيات السابقة موقفهم وهم زعماء قريش كما هو المتبادر، وفي ذلك قرينة على أنهم كانوا يعرفون قصة البستان.
وواضح أن القصة أوردت في معرض التذكير والمثل. وهذا شأن جميع القصص والأمثال القرآنية ؛ والأسلوب القرآني في ذلك من خصوصيات القرآن ؛ لأن ما احتوته الكتب الدينية اليهودية والنصرانية من القصص هي في صدد التاريخ والإخبار. والعظة والتذكرة اللتان تنطويان في هذه القصة هما أن الله قد امتحن المكذبين بالرسالة النبوية، كما امتحن أصحاب البستان بالنعمة التي أنعمها عليهم بثمرهم، وكما أن هؤلاء قد تعرضوا لعذاب الله وبلائه لعدم استماعهم لنصيحة عاقلهم ومرشدهم وعدم شكر نعمة الله، ولسوء النية التي بيتوها بحرمان الفقراء فإن أولئك - أي كفار قريش المكذبين- أمام امتحان رباني، فإذا لم يستمعوا لنصيحة ناصحهم ومرشدهم ولم يستجيبوا إليها ولم يشكروا نعمة الله التي أنعمها عليهم فإنهم سيتعرضون لبلاء الله وعذابه في الدنيا فضلا عما سيتعرضون لعذابه الأكبر في الآخرة. ولهم الأسوة بأصحاب البستان الذين أدركوا مدى ظلمهم وانحرافهم وسوء نيتهم فاستجابوا وتابوا إلى الله واستغفروه.
والمصحف الذي اعتمدنا عليه يذكر أن هذه الآيات مدنية، غير أننا نلاحظ أولاً : أنها منسجمة مع ما قبلها وما بعدها كأنما جميعها في سياق واحد وموضوع واحد ثانياً : أن مضمونها يلهم كون المثل موجهاً إلى الناس في مبادئ الدعوة وعهد النبوة. وثالثاً : أن الضمير في ﴿ بلوناهم ﴾ راجع إلى الذين كانوا موضوع الآيات السابقة مما ينطوي فيه الاتصال بين هذه الآيات وسابقاتها. ورابعاً : أن أسلوبها وطابعها أكثر شبهاً لأسلوب وطابع الآيات المكية ؛ ولذلك فإننا نتوقف في صحة الرواية، وإذا صحت ملاحظاتنا فتكون هذه القصة أولى القصص القرآنية نزولاً والله أعلم.
ونقول في هذه المناسبة : إن القرآن قد احتوى كثيراً من القصص بأساليب متنوعة، مسهبة حيناً ومقتضبة حينا وبإشارات خاطفة حينا، منها قصص خاصة بحياة وسيرة أنبياء الله ورسله، ومنها مزيجة بين حياة وسيرة أنبياء الله ورسله وما جرى بينهم وبين أقوامهم أو الذين أرسلوا إليهم ونتائجه. ومنها قصص أشخاص أو جماعات غير أنبياء. ومن هذه القصص ما ورد جزئيا أو كليا أو مباينا بعض الشيء مع التوافق في أمور. وفي الأسماء في الأسفار التي يتداولها اليهود والنصارى التي يجمعها ما يسمى بالكتاب المقدس أو ما يسمى أسفار العهد القديم وأسفار العهد الجديد. ومنها ما هو عائد إلى أسماء وردت في هذه الأسفار دون القصص. ومنها قصص عربية لجماعات وأنبياء وأقوام عاشوا في جزيرة العرب قبل الإسلام. ويصدق على جميعها ما قلناه من أنها جاءت في القرآن في معرض التذكير والمثل، ولسوف نزيد كل هذا شرحاً في مناسبات آتية.
تعليق على روايات الآيات
المدنية في السور المكية
وبمناسبة ذكر رواية مدنية الآيات المذكورة لأول مرة نقول : إن هناك روايات عديدة عن وجود آيات مدنية في السور المكية. والمصحف الذي اعتمدنا عليه يروي مدنية ( ١٤٧ ) آية في ( ٣٤ ) سورة مكية، وهناك روايات تزيد في عدد الآيات وأخرى تنقص منها.
والمتدبر في الآيات يرى طابع العهد المكي وصوره وأحداثه بارزاً على معظمها، كما يرى انسجام معظمها انسجاماً تاما في السياق والمضمون بل والنظم مع ما قبلها وما بعدها، ولا يستبين الحكمة في وضعها لو كانت مدنية حقاً بحيث يسوغ الشك والتوقف في صحة الروايات التي تروي مدنيتها وتروي أسباب نزولها في المدينة، إلا إذا فرض أن تكون حكمة التنزيل اقتضت تدعيم السياق المكي بها وهو فرض لا يمكن أن تطمئن النفس به. ومن الجدير بالذكر أن معظم الروايات ليست أحاديث نبوية أو صحابية موثقة ومسندة على أسلوب توثيق الأحاديث وإسنادها. ومما يرد على البال تعليلاً لها أن الآيات المكية ذكرت أو استشهد بها بمناسبة بعض أحداث جرت في المدينة وكان بعضهم قد نسيها فالتبس عليهم الأمر وظنوها آيات مدنية.
والكلام ينطبق كما قلنا على معظم الآيات، وهناك بضع آيات في بعض السور المكية تستثنى من ذلك يسوغ طابعها ومضمونها الجزم بصحة رواية مدنيتها. وقد وضعت في السياق المناسب لمضمونها على ما سوف نشرحه في مناسباتها.
﴿ إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ ١ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا ٢ مُصْبِحِينَ ٣( ١٧ ) وَلَا يَسْتَثْنُونَ ٤ ( ١٨ ) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ ٥وَهُمْ نَائِمُونَ( ١٩ ) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ ( ٢٠ ) فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ ( ٢١ ) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ ٦ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ( ٢٢ ) فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ ٧( ٢٣ ) أَن لَّا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ( ٢٤ ) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ ٨ قَادِرِينَ( ٢٥ ) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ ٩ ( ٢٦ )بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ( ٢٧ ) قَالَ أَوْسَطُهُمْ ١٠ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ( ٢٨ ) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ١١ ( ٢٩ ) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ ١٢( ٣٠ ) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ١٣ ( ٣١ ) عَسَى رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِّنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ( ٣٢ ) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَاب الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ( ٣٣ ) ﴾ ( ١٧- ٣٣ ).
هذه الآيات تحكي قصة جماعة كان لهم بستان، أقسموا على قطف ثمره دون أن يقولوا : إن شاء الله، وصمموا على حرمان الفقراء منه، وغدوا مصبحين إلى تنفيذ عزيمتهم معتمدين على قدرتهم، فسلط الله على الثمر بلاء جعله كالمقطوف، عقاباً لهم على سوء نيتهم، ولما رأوا بستانهم على هذه الحالة ذهلوا حتى لقد ظنوا أنهم ضلوا عنه، ثم عرفوا الحقيقة فأدركوا أنهم قد خسروا ثمرهم وحرموا منه، وكان فيهم رجل صالح عاقل كان ينصحهم بالاعتدال وعدم البغي، فقال لهم : ألم أخبركم بما سوف ينتج عن سلوككم ؟ وطلب منهم أن يستغفروا الله ويسبحوه ويعترفوا بذنبهم، فأخذ بعضهم يلوم بعضا، وسبّحوا الله واستغفروه واعترفوا بظلمهم وطغيانهم، وأعلنوا توبتهم وإنابتهم إلى الله على أمل أن يعوضهم بما هو خير مما خسروه وحرموا منه.
وقد ابتدأت الآيات بما يفهم منه أن الله قد امتحن المكذبين بما امتحن به أصحاب البستان، وانتهت بالتنويه بعذاب الله الشديد الذي يحل بالظالمين الجاحدين لنعمة الله في الدنيا وبالوعيد بعذاب الآخرة الذي ينتظرهم، والذي هو أشد وأكبر.
وقد روى المفسرون١ أن البستان المذكور في القصة كان في اليمن والحبشة، وذكر أنه كان لرجل من ثقيف، وأنه كان يترك ما يسقط من الثمر للفقراء، فلما مات وورثه أبناؤه قالوا إن أبانا لأحمق، وصمموا على حرمان الفقراء من ذلك. وبعبارة أخرى إن الحكاية لحادث واقعي. وروح الآيات ومضمونها يلهمان ذلك ويلهمان أيضا أن الحادث مما كان معروفاً عند السامعين.
وضمير ﴿ بلوناهم ﴾ راجع مباشرة إلى المكذبين الذين حكت الآيات السابقة موقفهم وهم زعماء قريش كما هو المتبادر، وفي ذلك قرينة على أنهم كانوا يعرفون قصة البستان.
وواضح أن القصة أوردت في معرض التذكير والمثل. وهذا شأن جميع القصص والأمثال القرآنية ؛ والأسلوب القرآني في ذلك من خصوصيات القرآن ؛ لأن ما احتوته الكتب الدينية اليهودية والنصرانية من القصص هي في صدد التاريخ والإخبار. والعظة والتذكرة اللتان تنطويان في هذه القصة هما أن الله قد امتحن المكذبين بالرسالة النبوية، كما امتحن أصحاب البستان بالنعمة التي أنعمها عليهم بثمرهم، وكما أن هؤلاء قد تعرضوا لعذاب الله وبلائه لعدم استماعهم لنصيحة عاقلهم ومرشدهم وعدم شكر نعمة الله، ولسوء النية التي بيتوها بحرمان الفقراء فإن أولئك - أي كفار قريش المكذبين- أمام امتحان رباني، فإذا لم يستمعوا لنصيحة ناصحهم ومرشدهم ولم يستجيبوا إليها ولم يشكروا نعمة الله التي أنعمها عليهم فإنهم سيتعرضون لبلاء الله وعذابه في الدنيا فضلا عما سيتعرضون لعذابه الأكبر في الآخرة. ولهم الأسوة بأصحاب البستان الذين أدركوا مدى ظلمهم وانحرافهم وسوء نيتهم فاستجابوا وتابوا إلى الله واستغفروه.
والمصحف الذي اعتمدنا عليه يذكر أن هذه الآيات مدنية، غير أننا نلاحظ أولاً : أنها منسجمة مع ما قبلها وما بعدها كأنما جميعها في سياق واحد وموضوع واحد ثانياً : أن مضمونها يلهم كون المثل موجهاً إلى الناس في مبادئ الدعوة وعهد النبوة. وثالثاً : أن الضمير في ﴿ بلوناهم ﴾ راجع إلى الذين كانوا موضوع الآيات السابقة مما ينطوي فيه الاتصال بين هذه الآيات وسابقاتها. ورابعاً : أن أسلوبها وطابعها أكثر شبهاً لأسلوب وطابع الآيات المكية ؛ ولذلك فإننا نتوقف في صحة الرواية، وإذا صحت ملاحظاتنا فتكون هذه القصة أولى القصص القرآنية نزولاً والله أعلم.
ونقول في هذه المناسبة : إن القرآن قد احتوى كثيراً من القصص بأساليب متنوعة، مسهبة حيناً ومقتضبة حينا وبإشارات خاطفة حينا، منها قصص خاصة بحياة وسيرة أنبياء الله ورسله، ومنها مزيجة بين حياة وسيرة أنبياء الله ورسله وما جرى بينهم وبين أقوامهم أو الذين أرسلوا إليهم ونتائجه. ومنها قصص أشخاص أو جماعات غير أنبياء. ومن هذه القصص ما ورد جزئيا أو كليا أو مباينا بعض الشيء مع التوافق في أمور. وفي الأسماء في الأسفار التي يتداولها اليهود والنصارى التي يجمعها ما يسمى بالكتاب المقدس أو ما يسمى أسفار العهد القديم وأسفار العهد الجديد. ومنها ما هو عائد إلى أسماء وردت في هذه الأسفار دون القصص. ومنها قصص عربية لجماعات وأنبياء وأقوام عاشوا في جزيرة العرب قبل الإسلام. ويصدق على جميعها ما قلناه من أنها جاءت في القرآن في معرض التذكير والمثل، ولسوف نزيد كل هذا شرحاً في مناسبات آتية.
تعليق على روايات الآيات
المدنية في السور المكية
وبمناسبة ذكر رواية مدنية الآيات المذكورة لأول مرة نقول : إن هناك روايات عديدة عن وجود آيات مدنية في السور المكية. والمصحف الذي اعتمدنا عليه يروي مدنية ( ١٤٧ ) آية في ( ٣٤ ) سورة مكية، وهناك روايات تزيد في عدد الآيات وأخرى تنقص منها.
والمتدبر في الآيات يرى طابع العهد المكي وصوره وأحداثه بارزاً على معظمها، كما يرى انسجام معظمها انسجاماً تاما في السياق والمضمون بل والنظم مع ما قبلها وما بعدها، ولا يستبين الحكمة في وضعها لو كانت مدنية حقاً بحيث يسوغ الشك والتوقف في صحة الروايات التي تروي مدنيتها وتروي أسباب نزولها في المدينة، إلا إذا فرض أن تكون حكمة التنزيل اقتضت تدعيم السياق المكي بها وهو فرض لا يمكن أن تطمئن النفس به. ومن الجدير بالذكر أن معظم الروايات ليست أحاديث نبوية أو صحابية موثقة ومسندة على أسلوب توثيق الأحاديث وإسنادها. ومما يرد على البال تعليلاً لها أن الآيات المكية ذكرت أو استشهد بها بمناسبة بعض أحداث جرت في المدينة وكان بعضهم قد نسيها فالتبس عليهم الأمر وظنوها آيات مدنية.
والكلام ينطبق كما قلنا على معظم الآيات، وهناك بضع آيات في بعض السور المكية تستثنى من ذلك يسوغ طابعها ومضمونها الجزم بصحة رواية مدنيتها. وقد وضعت في السياق المناسب لمضمونها على ما سوف نشرحه في مناسباتها.
هذه الآيات تحكي قصة جماعة كان لهم بستان، أقسموا على قطف ثمره دون أن يقولوا : إن شاء الله، وصمموا على حرمان الفقراء منه، وغدوا مصبحين إلى تنفيذ عزيمتهم معتمدين على قدرتهم، فسلط الله على الثمر بلاء جعله كالمقطوف، عقاباً لهم على سوء نيتهم، ولما رأوا بستانهم على هذه الحالة ذهلوا حتى لقد ظنوا أنهم ضلوا عنه، ثم عرفوا الحقيقة فأدركوا أنهم قد خسروا ثمرهم وحرموا منه، وكان فيهم رجل صالح عاقل كان ينصحهم بالاعتدال وعدم البغي، فقال لهم : ألم أخبركم بما سوف ينتج عن سلوككم ؟ وطلب منهم أن يستغفروا الله ويسبحوه ويعترفوا بذنبهم، فأخذ بعضهم يلوم بعضا، وسبّحوا الله واستغفروه واعترفوا بظلمهم وطغيانهم، وأعلنوا توبتهم وإنابتهم إلى الله على أمل أن يعوضهم بما هو خير مما خسروه وحرموا منه.
وقد ابتدأت الآيات بما يفهم منه أن الله قد امتحن المكذبين بما امتحن به أصحاب البستان، وانتهت بالتنويه بعذاب الله الشديد الذي يحل بالظالمين الجاحدين لنعمة الله في الدنيا وبالوعيد بعذاب الآخرة الذي ينتظرهم، والذي هو أشد وأكبر.
وقد روى المفسرون١ أن البستان المذكور في القصة كان في اليمن والحبشة، وذكر أنه كان لرجل من ثقيف، وأنه كان يترك ما يسقط من الثمر للفقراء، فلما مات وورثه أبناؤه قالوا إن أبانا لأحمق، وصمموا على حرمان الفقراء من ذلك. وبعبارة أخرى إن الحكاية لحادث واقعي. وروح الآيات ومضمونها يلهمان ذلك ويلهمان أيضا أن الحادث مما كان معروفاً عند السامعين.
وضمير ﴿ بلوناهم ﴾ راجع مباشرة إلى المكذبين الذين حكت الآيات السابقة موقفهم وهم زعماء قريش كما هو المتبادر، وفي ذلك قرينة على أنهم كانوا يعرفون قصة البستان.
وواضح أن القصة أوردت في معرض التذكير والمثل. وهذا شأن جميع القصص والأمثال القرآنية ؛ والأسلوب القرآني في ذلك من خصوصيات القرآن ؛ لأن ما احتوته الكتب الدينية اليهودية والنصرانية من القصص هي في صدد التاريخ والإخبار. والعظة والتذكرة اللتان تنطويان في هذه القصة هما أن الله قد امتحن المكذبين بالرسالة النبوية، كما امتحن أصحاب البستان بالنعمة التي أنعمها عليهم بثمرهم، وكما أن هؤلاء قد تعرضوا لعذاب الله وبلائه لعدم استماعهم لنصيحة عاقلهم ومرشدهم وعدم شكر نعمة الله، ولسوء النية التي بيتوها بحرمان الفقراء فإن أولئك - أي كفار قريش المكذبين- أمام امتحان رباني، فإذا لم يستمعوا لنصيحة ناصحهم ومرشدهم ولم يستجيبوا إليها ولم يشكروا نعمة الله التي أنعمها عليهم فإنهم سيتعرضون لبلاء الله وعذابه في الدنيا فضلا عما سيتعرضون لعذابه الأكبر في الآخرة. ولهم الأسوة بأصحاب البستان الذين أدركوا مدى ظلمهم وانحرافهم وسوء نيتهم فاستجابوا وتابوا إلى الله واستغفروه.
والمصحف الذي اعتمدنا عليه يذكر أن هذه الآيات مدنية، غير أننا نلاحظ أولاً : أنها منسجمة مع ما قبلها وما بعدها كأنما جميعها في سياق واحد وموضوع واحد ثانياً : أن مضمونها يلهم كون المثل موجهاً إلى الناس في مبادئ الدعوة وعهد النبوة. وثالثاً : أن الضمير في ﴿ بلوناهم ﴾ راجع إلى الذين كانوا موضوع الآيات السابقة مما ينطوي فيه الاتصال بين هذه الآيات وسابقاتها. ورابعاً : أن أسلوبها وطابعها أكثر شبهاً لأسلوب وطابع الآيات المكية ؛ ولذلك فإننا نتوقف في صحة الرواية، وإذا صحت ملاحظاتنا فتكون هذه القصة أولى القصص القرآنية نزولاً والله أعلم.
ونقول في هذه المناسبة : إن القرآن قد احتوى كثيراً من القصص بأساليب متنوعة، مسهبة حيناً ومقتضبة حينا وبإشارات خاطفة حينا، منها قصص خاصة بحياة وسيرة أنبياء الله ورسله، ومنها مزيجة بين حياة وسيرة أنبياء الله ورسله وما جرى بينهم وبين أقوامهم أو الذين أرسلوا إليهم ونتائجه. ومنها قصص أشخاص أو جماعات غير أنبياء. ومن هذه القصص ما ورد جزئيا أو كليا أو مباينا بعض الشيء مع التوافق في أمور. وفي الأسماء في الأسفار التي يتداولها اليهود والنصارى التي يجمعها ما يسمى بالكتاب المقدس أو ما يسمى أسفار العهد القديم وأسفار العهد الجديد. ومنها ما هو عائد إلى أسماء وردت في هذه الأسفار دون القصص. ومنها قصص عربية لجماعات وأنبياء وأقوام عاشوا في جزيرة العرب قبل الإسلام. ويصدق على جميعها ما قلناه من أنها جاءت في القرآن في معرض التذكير والمثل، ولسوف نزيد كل هذا شرحاً في مناسبات آتية.
تعليق على روايات الآيات
المدنية في السور المكية
وبمناسبة ذكر رواية مدنية الآيات المذكورة لأول مرة نقول : إن هناك روايات عديدة عن وجود آيات مدنية في السور المكية. والمصحف الذي اعتمدنا عليه يروي مدنية ( ١٤٧ ) آية في ( ٣٤ ) سورة مكية، وهناك روايات تزيد في عدد الآيات وأخرى تنقص منها.
والمتدبر في الآيات يرى طابع العهد المكي وصوره وأحداثه بارزاً على معظمها، كما يرى انسجام معظمها انسجاماً تاما في السياق والمضمون بل والنظم مع ما قبلها وما بعدها، ولا يستبين الحكمة في وضعها لو كانت مدنية حقاً بحيث يسوغ الشك والتوقف في صحة الروايات التي تروي مدنيتها وتروي أسباب نزولها في المدينة، إلا إذا فرض أن تكون حكمة التنزيل اقتضت تدعيم السياق المكي بها وهو فرض لا يمكن أن تطمئن النفس به. ومن الجدير بالذكر أن معظم الروايات ليست أحاديث نبوية أو صحابية موثقة ومسندة على أسلوب توثيق الأحاديث وإسنادها. ومما يرد على البال تعليلاً لها أن الآيات المكية ذكرت أو استشهد بها بمناسبة بعض أحداث جرت في المدينة وكان بعضهم قد نسيها فالتبس عليهم الأمر وظنوها آيات مدنية.
والكلام ينطبق كما قلنا على معظم الآيات، وهناك بضع آيات في بعض السور المكية تستثنى من ذلك يسوغ طابعها ومضمونها الجزم بصحة رواية مدنيتها. وقد وضعت في السياق المناسب لمضمونها على ما سوف نشرحه في مناسباتها.
هذه الآيات تحكي قصة جماعة كان لهم بستان، أقسموا على قطف ثمره دون أن يقولوا : إن شاء الله، وصمموا على حرمان الفقراء منه، وغدوا مصبحين إلى تنفيذ عزيمتهم معتمدين على قدرتهم، فسلط الله على الثمر بلاء جعله كالمقطوف، عقاباً لهم على سوء نيتهم، ولما رأوا بستانهم على هذه الحالة ذهلوا حتى لقد ظنوا أنهم ضلوا عنه، ثم عرفوا الحقيقة فأدركوا أنهم قد خسروا ثمرهم وحرموا منه، وكان فيهم رجل صالح عاقل كان ينصحهم بالاعتدال وعدم البغي، فقال لهم : ألم أخبركم بما سوف ينتج عن سلوككم ؟ وطلب منهم أن يستغفروا الله ويسبحوه ويعترفوا بذنبهم، فأخذ بعضهم يلوم بعضا، وسبّحوا الله واستغفروه واعترفوا بظلمهم وطغيانهم، وأعلنوا توبتهم وإنابتهم إلى الله على أمل أن يعوضهم بما هو خير مما خسروه وحرموا منه.
وقد ابتدأت الآيات بما يفهم منه أن الله قد امتحن المكذبين بما امتحن به أصحاب البستان، وانتهت بالتنويه بعذاب الله الشديد الذي يحل بالظالمين الجاحدين لنعمة الله في الدنيا وبالوعيد بعذاب الآخرة الذي ينتظرهم، والذي هو أشد وأكبر.
وقد روى المفسرون١ أن البستان المذكور في القصة كان في اليمن والحبشة، وذكر أنه كان لرجل من ثقيف، وأنه كان يترك ما يسقط من الثمر للفقراء، فلما مات وورثه أبناؤه قالوا إن أبانا لأحمق، وصمموا على حرمان الفقراء من ذلك. وبعبارة أخرى إن الحكاية لحادث واقعي. وروح الآيات ومضمونها يلهمان ذلك ويلهمان أيضا أن الحادث مما كان معروفاً عند السامعين.
وضمير ﴿ بلوناهم ﴾ راجع مباشرة إلى المكذبين الذين حكت الآيات السابقة موقفهم وهم زعماء قريش كما هو المتبادر، وفي ذلك قرينة على أنهم كانوا يعرفون قصة البستان.
وواضح أن القصة أوردت في معرض التذكير والمثل. وهذا شأن جميع القصص والأمثال القرآنية ؛ والأسلوب القرآني في ذلك من خصوصيات القرآن ؛ لأن ما احتوته الكتب الدينية اليهودية والنصرانية من القصص هي في صدد التاريخ والإخبار. والعظة والتذكرة اللتان تنطويان في هذه القصة هما أن الله قد امتحن المكذبين بالرسالة النبوية، كما امتحن أصحاب البستان بالنعمة التي أنعمها عليهم بثمرهم، وكما أن هؤلاء قد تعرضوا لعذاب الله وبلائه لعدم استماعهم لنصيحة عاقلهم ومرشدهم وعدم شكر نعمة الله، ولسوء النية التي بيتوها بحرمان الفقراء فإن أولئك - أي كفار قريش المكذبين- أمام امتحان رباني، فإذا لم يستمعوا لنصيحة ناصحهم ومرشدهم ولم يستجيبوا إليها ولم يشكروا نعمة الله التي أنعمها عليهم فإنهم سيتعرضون لبلاء الله وعذابه في الدنيا فضلا عما سيتعرضون لعذابه الأكبر في الآخرة. ولهم الأسوة بأصحاب البستان الذين أدركوا مدى ظلمهم وانحرافهم وسوء نيتهم فاستجابوا وتابوا إلى الله واستغفروه.
والمصحف الذي اعتمدنا عليه يذكر أن هذه الآيات مدنية، غير أننا نلاحظ أولاً : أنها منسجمة مع ما قبلها وما بعدها كأنما جميعها في سياق واحد وموضوع واحد ثانياً : أن مضمونها يلهم كون المثل موجهاً إلى الناس في مبادئ الدعوة وعهد النبوة. وثالثاً : أن الضمير في ﴿ بلوناهم ﴾ راجع إلى الذين كانوا موضوع الآيات السابقة مما ينطوي فيه الاتصال بين هذه الآيات وسابقاتها. ورابعاً : أن أسلوبها وطابعها أكثر شبهاً لأسلوب وطابع الآيات المكية ؛ ولذلك فإننا نتوقف في صحة الرواية، وإذا صحت ملاحظاتنا فتكون هذه القصة أولى القصص القرآنية نزولاً والله أعلم.
ونقول في هذه المناسبة : إن القرآن قد احتوى كثيراً من القصص بأساليب متنوعة، مسهبة حيناً ومقتضبة حينا وبإشارات خاطفة حينا، منها قصص خاصة بحياة وسيرة أنبياء الله ورسله، ومنها مزيجة بين حياة وسيرة أنبياء الله ورسله وما جرى بينهم وبين أقوامهم أو الذين أرسلوا إليهم ونتائجه. ومنها قصص أشخاص أو جماعات غير أنبياء. ومن هذه القصص ما ورد جزئيا أو كليا أو مباينا بعض الشيء مع التوافق في أمور. وفي الأسماء في الأسفار التي يتداولها اليهود والنصارى التي يجمعها ما يسمى بالكتاب المقدس أو ما يسمى أسفار العهد القديم وأسفار العهد الجديد. ومنها ما هو عائد إلى أسماء وردت في هذه الأسفار دون القصص. ومنها قصص عربية لجماعات وأنبياء وأقوام عاشوا في جزيرة العرب قبل الإسلام. ويصدق على جميعها ما قلناه من أنها جاءت في القرآن في معرض التذكير والمثل، ولسوف نزيد كل هذا شرحاً في مناسبات آتية.
تعليق على روايات الآيات
المدنية في السور المكية
وبمناسبة ذكر رواية مدنية الآيات المذكورة لأول مرة نقول : إن هناك روايات عديدة عن وجود آيات مدنية في السور المكية. والمصحف الذي اعتمدنا عليه يروي مدنية ( ١٤٧ ) آية في ( ٣٤ ) سورة مكية، وهناك روايات تزيد في عدد الآيات وأخرى تنقص منها.
والمتدبر في الآيات يرى طابع العهد المكي وصوره وأحداثه بارزاً على معظمها، كما يرى انسجام معظمها انسجاماً تاما في السياق والمضمون بل والنظم مع ما قبلها وما بعدها، ولا يستبين الحكمة في وضعها لو كانت مدنية حقاً بحيث يسوغ الشك والتوقف في صحة الروايات التي تروي مدنيتها وتروي أسباب نزولها في المدينة، إلا إذا فرض أن تكون حكمة التنزيل اقتضت تدعيم السياق المكي بها وهو فرض لا يمكن أن تطمئن النفس به. ومن الجدير بالذكر أن معظم الروايات ليست أحاديث نبوية أو صحابية موثقة ومسندة على أسلوب توثيق الأحاديث وإسنادها. ومما يرد على البال تعليلاً لها أن الآيات المكية ذكرت أو استشهد بها بمناسبة بعض أحداث جرت في المدينة وكان بعضهم قد نسيها فالتبس عليهم الأمر وظنوها آيات مدنية.
والكلام ينطبق كما قلنا على معظم الآيات، وهناك بضع آيات في بعض السور المكية تستثنى من ذلك يسوغ طابعها ومضمونها الجزم بصحة رواية مدنيتها. وقد وضعت في السياق المناسب لمضمونها على ما سوف نشرحه في مناسباتها.
﴿ إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ ١ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا ٢ مُصْبِحِينَ ٣( ١٧ ) وَلَا يَسْتَثْنُونَ ٤ ( ١٨ ) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ ٥وَهُمْ نَائِمُونَ( ١٩ ) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ ( ٢٠ ) فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ ( ٢١ ) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ ٦ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ( ٢٢ ) فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ ٧( ٢٣ ) أَن لَّا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ( ٢٤ ) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ ٨ قَادِرِينَ( ٢٥ ) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ ٩ ( ٢٦ )بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ( ٢٧ ) قَالَ أَوْسَطُهُمْ ١٠ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ( ٢٨ ) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ١١ ( ٢٩ ) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ ١٢( ٣٠ ) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ١٣ ( ٣١ ) عَسَى رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِّنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ( ٣٢ ) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَاب الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ( ٣٣ ) ﴾ ( ١٧- ٣٣ ).
هذه الآيات تحكي قصة جماعة كان لهم بستان، أقسموا على قطف ثمره دون أن يقولوا : إن شاء الله، وصمموا على حرمان الفقراء منه، وغدوا مصبحين إلى تنفيذ عزيمتهم معتمدين على قدرتهم، فسلط الله على الثمر بلاء جعله كالمقطوف، عقاباً لهم على سوء نيتهم، ولما رأوا بستانهم على هذه الحالة ذهلوا حتى لقد ظنوا أنهم ضلوا عنه، ثم عرفوا الحقيقة فأدركوا أنهم قد خسروا ثمرهم وحرموا منه، وكان فيهم رجل صالح عاقل كان ينصحهم بالاعتدال وعدم البغي، فقال لهم : ألم أخبركم بما سوف ينتج عن سلوككم ؟ وطلب منهم أن يستغفروا الله ويسبحوه ويعترفوا بذنبهم، فأخذ بعضهم يلوم بعضا، وسبّحوا الله واستغفروه واعترفوا بظلمهم وطغيانهم، وأعلنوا توبتهم وإنابتهم إلى الله على أمل أن يعوضهم بما هو خير مما خسروه وحرموا منه.
وقد ابتدأت الآيات بما يفهم منه أن الله قد امتحن المكذبين بما امتحن به أصحاب البستان، وانتهت بالتنويه بعذاب الله الشديد الذي يحل بالظالمين الجاحدين لنعمة الله في الدنيا وبالوعيد بعذاب الآخرة الذي ينتظرهم، والذي هو أشد وأكبر.
وقد روى المفسرون١ أن البستان المذكور في القصة كان في اليمن والحبشة، وذكر أنه كان لرجل من ثقيف، وأنه كان يترك ما يسقط من الثمر للفقراء، فلما مات وورثه أبناؤه قالوا إن أبانا لأحمق، وصمموا على حرمان الفقراء من ذلك. وبعبارة أخرى إن الحكاية لحادث واقعي. وروح الآيات ومضمونها يلهمان ذلك ويلهمان أيضا أن الحادث مما كان معروفاً عند السامعين.
وضمير ﴿ بلوناهم ﴾ راجع مباشرة إلى المكذبين الذين حكت الآيات السابقة موقفهم وهم زعماء قريش كما هو المتبادر، وفي ذلك قرينة على أنهم كانوا يعرفون قصة البستان.
وواضح أن القصة أوردت في معرض التذكير والمثل. وهذا شأن جميع القصص والأمثال القرآنية ؛ والأسلوب القرآني في ذلك من خصوصيات القرآن ؛ لأن ما احتوته الكتب الدينية اليهودية والنصرانية من القصص هي في صدد التاريخ والإخبار. والعظة والتذكرة اللتان تنطويان في هذه القصة هما أن الله قد امتحن المكذبين بالرسالة النبوية، كما امتحن أصحاب البستان بالنعمة التي أنعمها عليهم بثمرهم، وكما أن هؤلاء قد تعرضوا لعذاب الله وبلائه لعدم استماعهم لنصيحة عاقلهم ومرشدهم وعدم شكر نعمة الله، ولسوء النية التي بيتوها بحرمان الفقراء فإن أولئك - أي كفار قريش المكذبين- أمام امتحان رباني، فإذا لم يستمعوا لنصيحة ناصحهم ومرشدهم ولم يستجيبوا إليها ولم يشكروا نعمة الله التي أنعمها عليهم فإنهم سيتعرضون لبلاء الله وعذابه في الدنيا فضلا عما سيتعرضون لعذابه الأكبر في الآخرة. ولهم الأسوة بأصحاب البستان الذين أدركوا مدى ظلمهم وانحرافهم وسوء نيتهم فاستجابوا وتابوا إلى الله واستغفروه.
والمصحف الذي اعتمدنا عليه يذكر أن هذه الآيات مدنية، غير أننا نلاحظ أولاً : أنها منسجمة مع ما قبلها وما بعدها كأنما جميعها في سياق واحد وموضوع واحد ثانياً : أن مضمونها يلهم كون المثل موجهاً إلى الناس في مبادئ الدعوة وعهد النبوة. وثالثاً : أن الضمير في ﴿ بلوناهم ﴾ راجع إلى الذين كانوا موضوع الآيات السابقة مما ينطوي فيه الاتصال بين هذه الآيات وسابقاتها. ورابعاً : أن أسلوبها وطابعها أكثر شبهاً لأسلوب وطابع الآيات المكية ؛ ولذلك فإننا نتوقف في صحة الرواية، وإذا صحت ملاحظاتنا فتكون هذه القصة أولى القصص القرآنية نزولاً والله أعلم.
ونقول في هذه المناسبة : إن القرآن قد احتوى كثيراً من القصص بأساليب متنوعة، مسهبة حيناً ومقتضبة حينا وبإشارات خاطفة حينا، منها قصص خاصة بحياة وسيرة أنبياء الله ورسله، ومنها مزيجة بين حياة وسيرة أنبياء الله ورسله وما جرى بينهم وبين أقوامهم أو الذين أرسلوا إليهم ونتائجه. ومنها قصص أشخاص أو جماعات غير أنبياء. ومن هذه القصص ما ورد جزئيا أو كليا أو مباينا بعض الشيء مع التوافق في أمور. وفي الأسماء في الأسفار التي يتداولها اليهود والنصارى التي يجمعها ما يسمى بالكتاب المقدس أو ما يسمى أسفار العهد القديم وأسفار العهد الجديد. ومنها ما هو عائد إلى أسماء وردت في هذه الأسفار دون القصص. ومنها قصص عربية لجماعات وأنبياء وأقوام عاشوا في جزيرة العرب قبل الإسلام. ويصدق على جميعها ما قلناه من أنها جاءت في القرآن في معرض التذكير والمثل، ولسوف نزيد كل هذا شرحاً في مناسبات آتية.
تعليق على روايات الآيات
المدنية في السور المكية
وبمناسبة ذكر رواية مدنية الآيات المذكورة لأول مرة نقول : إن هناك روايات عديدة عن وجود آيات مدنية في السور المكية. والمصحف الذي اعتمدنا عليه يروي مدنية ( ١٤٧ ) آية في ( ٣٤ ) سورة مكية، وهناك روايات تزيد في عدد الآيات وأخرى تنقص منها.
والمتدبر في الآيات يرى طابع العهد المكي وصوره وأحداثه بارزاً على معظمها، كما يرى انسجام معظمها انسجاماً تاما في السياق والمضمون بل والنظم مع ما قبلها وما بعدها، ولا يستبين الحكمة في وضعها لو كانت مدنية حقاً بحيث يسوغ الشك والتوقف في صحة الروايات التي تروي مدنيتها وتروي أسباب نزولها في المدينة، إلا إذا فرض أن تكون حكمة التنزيل اقتضت تدعيم السياق المكي بها وهو فرض لا يمكن أن تطمئن النفس به. ومن الجدير بالذكر أن معظم الروايات ليست أحاديث نبوية أو صحابية موثقة ومسندة على أسلوب توثيق الأحاديث وإسنادها. ومما يرد على البال تعليلاً لها أن الآيات المكية ذكرت أو استشهد بها بمناسبة بعض أحداث جرت في المدينة وكان بعضهم قد نسيها فالتبس عليهم الأمر وظنوها آيات مدنية.
والكلام ينطبق كما قلنا على معظم الآيات، وهناك بضع آيات في بعض السور المكية تستثنى من ذلك يسوغ طابعها ومضمونها الجزم بصحة رواية مدنيتها. وقد وضعت في السياق المناسب لمضمونها على ما سوف نشرحه في مناسباتها.
﴿ إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ ١ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا ٢ مُصْبِحِينَ ٣( ١٧ ) وَلَا يَسْتَثْنُونَ ٤ ( ١٨ ) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ ٥وَهُمْ نَائِمُونَ( ١٩ ) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ ( ٢٠ ) فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ ( ٢١ ) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ ٦ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ( ٢٢ ) فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ ٧( ٢٣ ) أَن لَّا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ( ٢٤ ) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ ٨ قَادِرِينَ( ٢٥ ) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ ٩ ( ٢٦ )بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ( ٢٧ ) قَالَ أَوْسَطُهُمْ ١٠ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ( ٢٨ ) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ١١ ( ٢٩ ) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ ١٢( ٣٠ ) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ١٣ ( ٣١ ) عَسَى رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِّنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ( ٣٢ ) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَاب الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ( ٣٣ ) ﴾ ( ١٧- ٣٣ ).
هذه الآيات تحكي قصة جماعة كان لهم بستان، أقسموا على قطف ثمره دون أن يقولوا : إن شاء الله، وصمموا على حرمان الفقراء منه، وغدوا مصبحين إلى تنفيذ عزيمتهم معتمدين على قدرتهم، فسلط الله على الثمر بلاء جعله كالمقطوف، عقاباً لهم على سوء نيتهم، ولما رأوا بستانهم على هذه الحالة ذهلوا حتى لقد ظنوا أنهم ضلوا عنه، ثم عرفوا الحقيقة فأدركوا أنهم قد خسروا ثمرهم وحرموا منه، وكان فيهم رجل صالح عاقل كان ينصحهم بالاعتدال وعدم البغي، فقال لهم : ألم أخبركم بما سوف ينتج عن سلوككم ؟ وطلب منهم أن يستغفروا الله ويسبحوه ويعترفوا بذنبهم، فأخذ بعضهم يلوم بعضا، وسبّحوا الله واستغفروه واعترفوا بظلمهم وطغيانهم، وأعلنوا توبتهم وإنابتهم إلى الله على أمل أن يعوضهم بما هو خير مما خسروه وحرموا منه.
وقد ابتدأت الآيات بما يفهم منه أن الله قد امتحن المكذبين بما امتحن به أصحاب البستان، وانتهت بالتنويه بعذاب الله الشديد الذي يحل بالظالمين الجاحدين لنعمة الله في الدنيا وبالوعيد بعذاب الآخرة الذي ينتظرهم، والذي هو أشد وأكبر.
وقد روى المفسرون١ أن البستان المذكور في القصة كان في اليمن والحبشة، وذكر أنه كان لرجل من ثقيف، وأنه كان يترك ما يسقط من الثمر للفقراء، فلما مات وورثه أبناؤه قالوا إن أبانا لأحمق، وصمموا على حرمان الفقراء من ذلك. وبعبارة أخرى إن الحكاية لحادث واقعي. وروح الآيات ومضمونها يلهمان ذلك ويلهمان أيضا أن الحادث مما كان معروفاً عند السامعين.
وضمير ﴿ بلوناهم ﴾ راجع مباشرة إلى المكذبين الذين حكت الآيات السابقة موقفهم وهم زعماء قريش كما هو المتبادر، وفي ذلك قرينة على أنهم كانوا يعرفون قصة البستان.
وواضح أن القصة أوردت في معرض التذكير والمثل. وهذا شأن جميع القصص والأمثال القرآنية ؛ والأسلوب القرآني في ذلك من خصوصيات القرآن ؛ لأن ما احتوته الكتب الدينية اليهودية والنصرانية من القصص هي في صدد التاريخ والإخبار. والعظة والتذكرة اللتان تنطويان في هذه القصة هما أن الله قد امتحن المكذبين بالرسالة النبوية، كما امتحن أصحاب البستان بالنعمة التي أنعمها عليهم بثمرهم، وكما أن هؤلاء قد تعرضوا لعذاب الله وبلائه لعدم استماعهم لنصيحة عاقلهم ومرشدهم وعدم شكر نعمة الله، ولسوء النية التي بيتوها بحرمان الفقراء فإن أولئك - أي كفار قريش المكذبين- أمام امتحان رباني، فإذا لم يستمعوا لنصيحة ناصحهم ومرشدهم ولم يستجيبوا إليها ولم يشكروا نعمة الله التي أنعمها عليهم فإنهم سيتعرضون لبلاء الله وعذابه في الدنيا فضلا عما سيتعرضون لعذابه الأكبر في الآخرة. ولهم الأسوة بأصحاب البستان الذين أدركوا مدى ظلمهم وانحرافهم وسوء نيتهم فاستجابوا وتابوا إلى الله واستغفروه.
والمصحف الذي اعتمدنا عليه يذكر أن هذه الآيات مدنية، غير أننا نلاحظ أولاً : أنها منسجمة مع ما قبلها وما بعدها كأنما جميعها في سياق واحد وموضوع واحد ثانياً : أن مضمونها يلهم كون المثل موجهاً إلى الناس في مبادئ الدعوة وعهد النبوة. وثالثاً : أن الضمير في ﴿ بلوناهم ﴾ راجع إلى الذين كانوا موضوع الآيات السابقة مما ينطوي فيه الاتصال بين هذه الآيات وسابقاتها. ورابعاً : أن أسلوبها وطابعها أكثر شبهاً لأسلوب وطابع الآيات المكية ؛ ولذلك فإننا نتوقف في صحة الرواية، وإذا صحت ملاحظاتنا فتكون هذه القصة أولى القصص القرآنية نزولاً والله أعلم.
ونقول في هذه المناسبة : إن القرآن قد احتوى كثيراً من القصص بأساليب متنوعة، مسهبة حيناً ومقتضبة حينا وبإشارات خاطفة حينا، منها قصص خاصة بحياة وسيرة أنبياء الله ورسله، ومنها مزيجة بين حياة وسيرة أنبياء الله ورسله وما جرى بينهم وبين أقوامهم أو الذين أرسلوا إليهم ونتائجه. ومنها قصص أشخاص أو جماعات غير أنبياء. ومن هذه القصص ما ورد جزئيا أو كليا أو مباينا بعض الشيء مع التوافق في أمور. وفي الأسماء في الأسفار التي يتداولها اليهود والنصارى التي يجمعها ما يسمى بالكتاب المقدس أو ما يسمى أسفار العهد القديم وأسفار العهد الجديد. ومنها ما هو عائد إلى أسماء وردت في هذه الأسفار دون القصص. ومنها قصص عربية لجماعات وأنبياء وأقوام عاشوا في جزيرة العرب قبل الإسلام. ويصدق على جميعها ما قلناه من أنها جاءت في القرآن في معرض التذكير والمثل، ولسوف نزيد كل هذا شرحاً في مناسبات آتية.
تعليق على روايات الآيات
المدنية في السور المكية
وبمناسبة ذكر رواية مدنية الآيات المذكورة لأول مرة نقول : إن هناك روايات عديدة عن وجود آيات مدنية في السور المكية. والمصحف الذي اعتمدنا عليه يروي مدنية ( ١٤٧ ) آية في ( ٣٤ ) سورة مكية، وهناك روايات تزيد في عدد الآيات وأخرى تنقص منها.
والمتدبر في الآيات يرى طابع العهد المكي وصوره وأحداثه بارزاً على معظمها، كما يرى انسجام معظمها انسجاماً تاما في السياق والمضمون بل والنظم مع ما قبلها وما بعدها، ولا يستبين الحكمة في وضعها لو كانت مدنية حقاً بحيث يسوغ الشك والتوقف في صحة الروايات التي تروي مدنيتها وتروي أسباب نزولها في المدينة، إلا إذا فرض أن تكون حكمة التنزيل اقتضت تدعيم السياق المكي بها وهو فرض لا يمكن أن تطمئن النفس به. ومن الجدير بالذكر أن معظم الروايات ليست أحاديث نبوية أو صحابية موثقة ومسندة على أسلوب توثيق الأحاديث وإسنادها. ومما يرد على البال تعليلاً لها أن الآيات المكية ذكرت أو استشهد بها بمناسبة بعض أحداث جرت في المدينة وكان بعضهم قد نسيها فالتبس عليهم الأمر وظنوها آيات مدنية.
والكلام ينطبق كما قلنا على معظم الآيات، وهناك بضع آيات في بعض السور المكية تستثنى من ذلك يسوغ طابعها ومضمونها الجزم بصحة رواية مدنيتها. وقد وضعت في السياق المناسب لمضمونها على ما سوف نشرحه في مناسباتها.
هذه الآيات تحكي قصة جماعة كان لهم بستان، أقسموا على قطف ثمره دون أن يقولوا : إن شاء الله، وصمموا على حرمان الفقراء منه، وغدوا مصبحين إلى تنفيذ عزيمتهم معتمدين على قدرتهم، فسلط الله على الثمر بلاء جعله كالمقطوف، عقاباً لهم على سوء نيتهم، ولما رأوا بستانهم على هذه الحالة ذهلوا حتى لقد ظنوا أنهم ضلوا عنه، ثم عرفوا الحقيقة فأدركوا أنهم قد خسروا ثمرهم وحرموا منه، وكان فيهم رجل صالح عاقل كان ينصحهم بالاعتدال وعدم البغي، فقال لهم : ألم أخبركم بما سوف ينتج عن سلوككم ؟ وطلب منهم أن يستغفروا الله ويسبحوه ويعترفوا بذنبهم، فأخذ بعضهم يلوم بعضا، وسبّحوا الله واستغفروه واعترفوا بظلمهم وطغيانهم، وأعلنوا توبتهم وإنابتهم إلى الله على أمل أن يعوضهم بما هو خير مما خسروه وحرموا منه.
وقد ابتدأت الآيات بما يفهم منه أن الله قد امتحن المكذبين بما امتحن به أصحاب البستان، وانتهت بالتنويه بعذاب الله الشديد الذي يحل بالظالمين الجاحدين لنعمة الله في الدنيا وبالوعيد بعذاب الآخرة الذي ينتظرهم، والذي هو أشد وأكبر.
وقد روى المفسرون١ أن البستان المذكور في القصة كان في اليمن والحبشة، وذكر أنه كان لرجل من ثقيف، وأنه كان يترك ما يسقط من الثمر للفقراء، فلما مات وورثه أبناؤه قالوا إن أبانا لأحمق، وصمموا على حرمان الفقراء من ذلك. وبعبارة أخرى إن الحكاية لحادث واقعي. وروح الآيات ومضمونها يلهمان ذلك ويلهمان أيضا أن الحادث مما كان معروفاً عند السامعين.
وضمير ﴿ بلوناهم ﴾ راجع مباشرة إلى المكذبين الذين حكت الآيات السابقة موقفهم وهم زعماء قريش كما هو المتبادر، وفي ذلك قرينة على أنهم كانوا يعرفون قصة البستان.
وواضح أن القصة أوردت في معرض التذكير والمثل. وهذا شأن جميع القصص والأمثال القرآنية ؛ والأسلوب القرآني في ذلك من خصوصيات القرآن ؛ لأن ما احتوته الكتب الدينية اليهودية والنصرانية من القصص هي في صدد التاريخ والإخبار. والعظة والتذكرة اللتان تنطويان في هذه القصة هما أن الله قد امتحن المكذبين بالرسالة النبوية، كما امتحن أصحاب البستان بالنعمة التي أنعمها عليهم بثمرهم، وكما أن هؤلاء قد تعرضوا لعذاب الله وبلائه لعدم استماعهم لنصيحة عاقلهم ومرشدهم وعدم شكر نعمة الله، ولسوء النية التي بيتوها بحرمان الفقراء فإن أولئك - أي كفار قريش المكذبين- أمام امتحان رباني، فإذا لم يستمعوا لنصيحة ناصحهم ومرشدهم ولم يستجيبوا إليها ولم يشكروا نعمة الله التي أنعمها عليهم فإنهم سيتعرضون لبلاء الله وعذابه في الدنيا فضلا عما سيتعرضون لعذابه الأكبر في الآخرة. ولهم الأسوة بأصحاب البستان الذين أدركوا مدى ظلمهم وانحرافهم وسوء نيتهم فاستجابوا وتابوا إلى الله واستغفروه.
والمصحف الذي اعتمدنا عليه يذكر أن هذه الآيات مدنية، غير أننا نلاحظ أولاً : أنها منسجمة مع ما قبلها وما بعدها كأنما جميعها في سياق واحد وموضوع واحد ثانياً : أن مضمونها يلهم كون المثل موجهاً إلى الناس في مبادئ الدعوة وعهد النبوة. وثالثاً : أن الضمير في ﴿ بلوناهم ﴾ راجع إلى الذين كانوا موضوع الآيات السابقة مما ينطوي فيه الاتصال بين هذه الآيات وسابقاتها. ورابعاً : أن أسلوبها وطابعها أكثر شبهاً لأسلوب وطابع الآيات المكية ؛ ولذلك فإننا نتوقف في صحة الرواية، وإذا صحت ملاحظاتنا فتكون هذه القصة أولى القصص القرآنية نزولاً والله أعلم.
ونقول في هذه المناسبة : إن القرآن قد احتوى كثيراً من القصص بأساليب متنوعة، مسهبة حيناً ومقتضبة حينا وبإشارات خاطفة حينا، منها قصص خاصة بحياة وسيرة أنبياء الله ورسله، ومنها مزيجة بين حياة وسيرة أنبياء الله ورسله وما جرى بينهم وبين أقوامهم أو الذين أرسلوا إليهم ونتائجه. ومنها قصص أشخاص أو جماعات غير أنبياء. ومن هذه القصص ما ورد جزئيا أو كليا أو مباينا بعض الشيء مع التوافق في أمور. وفي الأسماء في الأسفار التي يتداولها اليهود والنصارى التي يجمعها ما يسمى بالكتاب المقدس أو ما يسمى أسفار العهد القديم وأسفار العهد الجديد. ومنها ما هو عائد إلى أسماء وردت في هذه الأسفار دون القصص. ومنها قصص عربية لجماعات وأنبياء وأقوام عاشوا في جزيرة العرب قبل الإسلام. ويصدق على جميعها ما قلناه من أنها جاءت في القرآن في معرض التذكير والمثل، ولسوف نزيد كل هذا شرحاً في مناسبات آتية.
تعليق على روايات الآيات
المدنية في السور المكية
وبمناسبة ذكر رواية مدنية الآيات المذكورة لأول مرة نقول : إن هناك روايات عديدة عن وجود آيات مدنية في السور المكية. والمصحف الذي اعتمدنا عليه يروي مدنية ( ١٤٧ ) آية في ( ٣٤ ) سورة مكية، وهناك روايات تزيد في عدد الآيات وأخرى تنقص منها.
والمتدبر في الآيات يرى طابع العهد المكي وصوره وأحداثه بارزاً على معظمها، كما يرى انسجام معظمها انسجاماً تاما في السياق والمضمون بل والنظم مع ما قبلها وما بعدها، ولا يستبين الحكمة في وضعها لو كانت مدنية حقاً بحيث يسوغ الشك والتوقف في صحة الروايات التي تروي مدنيتها وتروي أسباب نزولها في المدينة، إلا إذا فرض أن تكون حكمة التنزيل اقتضت تدعيم السياق المكي بها وهو فرض لا يمكن أن تطمئن النفس به. ومن الجدير بالذكر أن معظم الروايات ليست أحاديث نبوية أو صحابية موثقة ومسندة على أسلوب توثيق الأحاديث وإسنادها. ومما يرد على البال تعليلاً لها أن الآيات المكية ذكرت أو استشهد بها بمناسبة بعض أحداث جرت في المدينة وكان بعضهم قد نسيها فالتبس عليهم الأمر وظنوها آيات مدنية.
والكلام ينطبق كما قلنا على معظم الآيات، وهناك بضع آيات في بعض السور المكية تستثنى من ذلك يسوغ طابعها ومضمونها الجزم بصحة رواية مدنيتها. وقد وضعت في السياق المناسب لمضمونها على ما سوف نشرحه في مناسباتها.
﴿ إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ ١ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا ٢ مُصْبِحِينَ ٣( ١٧ ) وَلَا يَسْتَثْنُونَ ٤ ( ١٨ ) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ ٥وَهُمْ نَائِمُونَ( ١٩ ) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ ( ٢٠ ) فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ ( ٢١ ) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ ٦ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ( ٢٢ ) فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ ٧( ٢٣ ) أَن لَّا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ( ٢٤ ) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ ٨ قَادِرِينَ( ٢٥ ) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ ٩ ( ٢٦ )بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ( ٢٧ ) قَالَ أَوْسَطُهُمْ ١٠ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ( ٢٨ ) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ١١ ( ٢٩ ) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ ١٢( ٣٠ ) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ١٣ ( ٣١ ) عَسَى رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِّنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ( ٣٢ ) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَاب الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ( ٣٣ ) ﴾ ( ١٧- ٣٣ ).
هذه الآيات تحكي قصة جماعة كان لهم بستان، أقسموا على قطف ثمره دون أن يقولوا : إن شاء الله، وصمموا على حرمان الفقراء منه، وغدوا مصبحين إلى تنفيذ عزيمتهم معتمدين على قدرتهم، فسلط الله على الثمر بلاء جعله كالمقطوف، عقاباً لهم على سوء نيتهم، ولما رأوا بستانهم على هذه الحالة ذهلوا حتى لقد ظنوا أنهم ضلوا عنه، ثم عرفوا الحقيقة فأدركوا أنهم قد خسروا ثمرهم وحرموا منه، وكان فيهم رجل صالح عاقل كان ينصحهم بالاعتدال وعدم البغي، فقال لهم : ألم أخبركم بما سوف ينتج عن سلوككم ؟ وطلب منهم أن يستغفروا الله ويسبحوه ويعترفوا بذنبهم، فأخذ بعضهم يلوم بعضا، وسبّحوا الله واستغفروه واعترفوا بظلمهم وطغيانهم، وأعلنوا توبتهم وإنابتهم إلى الله على أمل أن يعوضهم بما هو خير مما خسروه وحرموا منه.
وقد ابتدأت الآيات بما يفهم منه أن الله قد امتحن المكذبين بما امتحن به أصحاب البستان، وانتهت بالتنويه بعذاب الله الشديد الذي يحل بالظالمين الجاحدين لنعمة الله في الدنيا وبالوعيد بعذاب الآخرة الذي ينتظرهم، والذي هو أشد وأكبر.
وقد روى المفسرون١ أن البستان المذكور في القصة كان في اليمن والحبشة، وذكر أنه كان لرجل من ثقيف، وأنه كان يترك ما يسقط من الثمر للفقراء، فلما مات وورثه أبناؤه قالوا إن أبانا لأحمق، وصمموا على حرمان الفقراء من ذلك. وبعبارة أخرى إن الحكاية لحادث واقعي. وروح الآيات ومضمونها يلهمان ذلك ويلهمان أيضا أن الحادث مما كان معروفاً عند السامعين.
وضمير ﴿ بلوناهم ﴾ راجع مباشرة إلى المكذبين الذين حكت الآيات السابقة موقفهم وهم زعماء قريش كما هو المتبادر، وفي ذلك قرينة على أنهم كانوا يعرفون قصة البستان.
وواضح أن القصة أوردت في معرض التذكير والمثل. وهذا شأن جميع القصص والأمثال القرآنية ؛ والأسلوب القرآني في ذلك من خصوصيات القرآن ؛ لأن ما احتوته الكتب الدينية اليهودية والنصرانية من القصص هي في صدد التاريخ والإخبار. والعظة والتذكرة اللتان تنطويان في هذه القصة هما أن الله قد امتحن المكذبين بالرسالة النبوية، كما امتحن أصحاب البستان بالنعمة التي أنعمها عليهم بثمرهم، وكما أن هؤلاء قد تعرضوا لعذاب الله وبلائه لعدم استماعهم لنصيحة عاقلهم ومرشدهم وعدم شكر نعمة الله، ولسوء النية التي بيتوها بحرمان الفقراء فإن أولئك - أي كفار قريش المكذبين- أمام امتحان رباني، فإذا لم يستمعوا لنصيحة ناصحهم ومرشدهم ولم يستجيبوا إليها ولم يشكروا نعمة الله التي أنعمها عليهم فإنهم سيتعرضون لبلاء الله وعذابه في الدنيا فضلا عما سيتعرضون لعذابه الأكبر في الآخرة. ولهم الأسوة بأصحاب البستان الذين أدركوا مدى ظلمهم وانحرافهم وسوء نيتهم فاستجابوا وتابوا إلى الله واستغفروه.
والمصحف الذي اعتمدنا عليه يذكر أن هذه الآيات مدنية، غير أننا نلاحظ أولاً : أنها منسجمة مع ما قبلها وما بعدها كأنما جميعها في سياق واحد وموضوع واحد ثانياً : أن مضمونها يلهم كون المثل موجهاً إلى الناس في مبادئ الدعوة وعهد النبوة. وثالثاً : أن الضمير في ﴿ بلوناهم ﴾ راجع إلى الذين كانوا موضوع الآيات السابقة مما ينطوي فيه الاتصال بين هذه الآيات وسابقاتها. ورابعاً : أن أسلوبها وطابعها أكثر شبهاً لأسلوب وطابع الآيات المكية ؛ ولذلك فإننا نتوقف في صحة الرواية، وإذا صحت ملاحظاتنا فتكون هذه القصة أولى القصص القرآنية نزولاً والله أعلم.
ونقول في هذه المناسبة : إن القرآن قد احتوى كثيراً من القصص بأساليب متنوعة، مسهبة حيناً ومقتضبة حينا وبإشارات خاطفة حينا، منها قصص خاصة بحياة وسيرة أنبياء الله ورسله، ومنها مزيجة بين حياة وسيرة أنبياء الله ورسله وما جرى بينهم وبين أقوامهم أو الذين أرسلوا إليهم ونتائجه. ومنها قصص أشخاص أو جماعات غير أنبياء. ومن هذه القصص ما ورد جزئيا أو كليا أو مباينا بعض الشيء مع التوافق في أمور. وفي الأسماء في الأسفار التي يتداولها اليهود والنصارى التي يجمعها ما يسمى بالكتاب المقدس أو ما يسمى أسفار العهد القديم وأسفار العهد الجديد. ومنها ما هو عائد إلى أسماء وردت في هذه الأسفار دون القصص. ومنها قصص عربية لجماعات وأنبياء وأقوام عاشوا في جزيرة العرب قبل الإسلام. ويصدق على جميعها ما قلناه من أنها جاءت في القرآن في معرض التذكير والمثل، ولسوف نزيد كل هذا شرحاً في مناسبات آتية.
تعليق على روايات الآيات
المدنية في السور المكية
وبمناسبة ذكر رواية مدنية الآيات المذكورة لأول مرة نقول : إن هناك روايات عديدة عن وجود آيات مدنية في السور المكية. والمصحف الذي اعتمدنا عليه يروي مدنية ( ١٤٧ ) آية في ( ٣٤ ) سورة مكية، وهناك روايات تزيد في عدد الآيات وأخرى تنقص منها.
والمتدبر في الآيات يرى طابع العهد المكي وصوره وأحداثه بارزاً على معظمها، كما يرى انسجام معظمها انسجاماً تاما في السياق والمضمون بل والنظم مع ما قبلها وما بعدها، ولا يستبين الحكمة في وضعها لو كانت مدنية حقاً بحيث يسوغ الشك والتوقف في صحة الروايات التي تروي مدنيتها وتروي أسباب نزولها في المدينة، إلا إذا فرض أن تكون حكمة التنزيل اقتضت تدعيم السياق المكي بها وهو فرض لا يمكن أن تطمئن النفس به. ومن الجدير بالذكر أن معظم الروايات ليست أحاديث نبوية أو صحابية موثقة ومسندة على أسلوب توثيق الأحاديث وإسنادها. ومما يرد على البال تعليلاً لها أن الآيات المكية ذكرت أو استشهد بها بمناسبة بعض أحداث جرت في المدينة وكان بعضهم قد نسيها فالتبس عليهم الأمر وظنوها آيات مدنية.
والكلام ينطبق كما قلنا على معظم الآيات، وهناك بضع آيات في بعض السور المكية تستثنى من ذلك يسوغ طابعها ومضمونها الجزم بصحة رواية مدنيتها. وقد وضعت في السياق المناسب لمضمونها على ما سوف نشرحه في مناسباتها.
﴿ إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ ١ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا ٢ مُصْبِحِينَ ٣( ١٧ ) وَلَا يَسْتَثْنُونَ ٤ ( ١٨ ) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ ٥وَهُمْ نَائِمُونَ( ١٩ ) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ ( ٢٠ ) فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ ( ٢١ ) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ ٦ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ( ٢٢ ) فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ ٧( ٢٣ ) أَن لَّا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ( ٢٤ ) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ ٨ قَادِرِينَ( ٢٥ ) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ ٩ ( ٢٦ )بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ( ٢٧ ) قَالَ أَوْسَطُهُمْ ١٠ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ( ٢٨ ) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ١١ ( ٢٩ ) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ ١٢( ٣٠ ) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ١٣ ( ٣١ ) عَسَى رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِّنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ( ٣٢ ) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَاب الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ( ٣٣ ) ﴾ ( ١٧- ٣٣ ).
هذه الآيات تحكي قصة جماعة كان لهم بستان، أقسموا على قطف ثمره دون أن يقولوا : إن شاء الله، وصمموا على حرمان الفقراء منه، وغدوا مصبحين إلى تنفيذ عزيمتهم معتمدين على قدرتهم، فسلط الله على الثمر بلاء جعله كالمقطوف، عقاباً لهم على سوء نيتهم، ولما رأوا بستانهم على هذه الحالة ذهلوا حتى لقد ظنوا أنهم ضلوا عنه، ثم عرفوا الحقيقة فأدركوا أنهم قد خسروا ثمرهم وحرموا منه، وكان فيهم رجل صالح عاقل كان ينصحهم بالاعتدال وعدم البغي، فقال لهم : ألم أخبركم بما سوف ينتج عن سلوككم ؟ وطلب منهم أن يستغفروا الله ويسبحوه ويعترفوا بذنبهم، فأخذ بعضهم يلوم بعضا، وسبّحوا الله واستغفروه واعترفوا بظلمهم وطغيانهم، وأعلنوا توبتهم وإنابتهم إلى الله على أمل أن يعوضهم بما هو خير مما خسروه وحرموا منه.
وقد ابتدأت الآيات بما يفهم منه أن الله قد امتحن المكذبين بما امتحن به أصحاب البستان، وانتهت بالتنويه بعذاب الله الشديد الذي يحل بالظالمين الجاحدين لنعمة الله في الدنيا وبالوعيد بعذاب الآخرة الذي ينتظرهم، والذي هو أشد وأكبر.
وقد روى المفسرون١ أن البستان المذكور في القصة كان في اليمن والحبشة، وذكر أنه كان لرجل من ثقيف، وأنه كان يترك ما يسقط من الثمر للفقراء، فلما مات وورثه أبناؤه قالوا إن أبانا لأحمق، وصمموا على حرمان الفقراء من ذلك. وبعبارة أخرى إن الحكاية لحادث واقعي. وروح الآيات ومضمونها يلهمان ذلك ويلهمان أيضا أن الحادث مما كان معروفاً عند السامعين.
وضمير ﴿ بلوناهم ﴾ راجع مباشرة إلى المكذبين الذين حكت الآيات السابقة موقفهم وهم زعماء قريش كما هو المتبادر، وفي ذلك قرينة على أنهم كانوا يعرفون قصة البستان.
وواضح أن القصة أوردت في معرض التذكير والمثل. وهذا شأن جميع القصص والأمثال القرآنية ؛ والأسلوب القرآني في ذلك من خصوصيات القرآن ؛ لأن ما احتوته الكتب الدينية اليهودية والنصرانية من القصص هي في صدد التاريخ والإخبار. والعظة والتذكرة اللتان تنطويان في هذه القصة هما أن الله قد امتحن المكذبين بالرسالة النبوية، كما امتحن أصحاب البستان بالنعمة التي أنعمها عليهم بثمرهم، وكما أن هؤلاء قد تعرضوا لعذاب الله وبلائه لعدم استماعهم لنصيحة عاقلهم ومرشدهم وعدم شكر نعمة الله، ولسوء النية التي بيتوها بحرمان الفقراء فإن أولئك - أي كفار قريش المكذبين- أمام امتحان رباني، فإذا لم يستمعوا لنصيحة ناصحهم ومرشدهم ولم يستجيبوا إليها ولم يشكروا نعمة الله التي أنعمها عليهم فإنهم سيتعرضون لبلاء الله وعذابه في الدنيا فضلا عما سيتعرضون لعذابه الأكبر في الآخرة. ولهم الأسوة بأصحاب البستان الذين أدركوا مدى ظلمهم وانحرافهم وسوء نيتهم فاستجابوا وتابوا إلى الله واستغفروه.
والمصحف الذي اعتمدنا عليه يذكر أن هذه الآيات مدنية، غير أننا نلاحظ أولاً : أنها منسجمة مع ما قبلها وما بعدها كأنما جميعها في سياق واحد وموضوع واحد ثانياً : أن مضمونها يلهم كون المثل موجهاً إلى الناس في مبادئ الدعوة وعهد النبوة. وثالثاً : أن الضمير في ﴿ بلوناهم ﴾ راجع إلى الذين كانوا موضوع الآيات السابقة مما ينطوي فيه الاتصال بين هذه الآيات وسابقاتها. ورابعاً : أن أسلوبها وطابعها أكثر شبهاً لأسلوب وطابع الآيات المكية ؛ ولذلك فإننا نتوقف في صحة الرواية، وإذا صحت ملاحظاتنا فتكون هذه القصة أولى القصص القرآنية نزولاً والله أعلم.
ونقول في هذه المناسبة : إن القرآن قد احتوى كثيراً من القصص بأساليب متنوعة، مسهبة حيناً ومقتضبة حينا وبإشارات خاطفة حينا، منها قصص خاصة بحياة وسيرة أنبياء الله ورسله، ومنها مزيجة بين حياة وسيرة أنبياء الله ورسله وما جرى بينهم وبين أقوامهم أو الذين أرسلوا إليهم ونتائجه. ومنها قصص أشخاص أو جماعات غير أنبياء. ومن هذه القصص ما ورد جزئيا أو كليا أو مباينا بعض الشيء مع التوافق في أمور. وفي الأسماء في الأسفار التي يتداولها اليهود والنصارى التي يجمعها ما يسمى بالكتاب المقدس أو ما يسمى أسفار العهد القديم وأسفار العهد الجديد. ومنها ما هو عائد إلى أسماء وردت في هذه الأسفار دون القصص. ومنها قصص عربية لجماعات وأنبياء وأقوام عاشوا في جزيرة العرب قبل الإسلام. ويصدق على جميعها ما قلناه من أنها جاءت في القرآن في معرض التذكير والمثل، ولسوف نزيد كل هذا شرحاً في مناسبات آتية.
تعليق على روايات الآيات
المدنية في السور المكية
وبمناسبة ذكر رواية مدنية الآيات المذكورة لأول مرة نقول : إن هناك روايات عديدة عن وجود آيات مدنية في السور المكية. والمصحف الذي اعتمدنا عليه يروي مدنية ( ١٤٧ ) آية في ( ٣٤ ) سورة مكية، وهناك روايات تزيد في عدد الآيات وأخرى تنقص منها.
والمتدبر في الآيات يرى طابع العهد المكي وصوره وأحداثه بارزاً على معظمها، كما يرى انسجام معظمها انسجاماً تاما في السياق والمضمون بل والنظم مع ما قبلها وما بعدها، ولا يستبين الحكمة في وضعها لو كانت مدنية حقاً بحيث يسوغ الشك والتوقف في صحة الروايات التي تروي مدنيتها وتروي أسباب نزولها في المدينة، إلا إذا فرض أن تكون حكمة التنزيل اقتضت تدعيم السياق المكي بها وهو فرض لا يمكن أن تطمئن النفس به. ومن الجدير بالذكر أن معظم الروايات ليست أحاديث نبوية أو صحابية موثقة ومسندة على أسلوب توثيق الأحاديث وإسنادها. ومما يرد على البال تعليلاً لها أن الآيات المكية ذكرت أو استشهد بها بمناسبة بعض أحداث جرت في المدينة وكان بعضهم قد نسيها فالتبس عليهم الأمر وظنوها آيات مدنية.
والكلام ينطبق كما قلنا على معظم الآيات، وهناك بضع آيات في بعض السور المكية تستثنى من ذلك يسوغ طابعها ومضمونها الجزم بصحة رواية مدنيتها. وقد وضعت في السياق المناسب لمضمونها على ما سوف نشرحه في مناسباتها.
هذه الآيات تحكي قصة جماعة كان لهم بستان، أقسموا على قطف ثمره دون أن يقولوا : إن شاء الله، وصمموا على حرمان الفقراء منه، وغدوا مصبحين إلى تنفيذ عزيمتهم معتمدين على قدرتهم، فسلط الله على الثمر بلاء جعله كالمقطوف، عقاباً لهم على سوء نيتهم، ولما رأوا بستانهم على هذه الحالة ذهلوا حتى لقد ظنوا أنهم ضلوا عنه، ثم عرفوا الحقيقة فأدركوا أنهم قد خسروا ثمرهم وحرموا منه، وكان فيهم رجل صالح عاقل كان ينصحهم بالاعتدال وعدم البغي، فقال لهم : ألم أخبركم بما سوف ينتج عن سلوككم ؟ وطلب منهم أن يستغفروا الله ويسبحوه ويعترفوا بذنبهم، فأخذ بعضهم يلوم بعضا، وسبّحوا الله واستغفروه واعترفوا بظلمهم وطغيانهم، وأعلنوا توبتهم وإنابتهم إلى الله على أمل أن يعوضهم بما هو خير مما خسروه وحرموا منه.
وقد ابتدأت الآيات بما يفهم منه أن الله قد امتحن المكذبين بما امتحن به أصحاب البستان، وانتهت بالتنويه بعذاب الله الشديد الذي يحل بالظالمين الجاحدين لنعمة الله في الدنيا وبالوعيد بعذاب الآخرة الذي ينتظرهم، والذي هو أشد وأكبر.
وقد روى المفسرون١ أن البستان المذكور في القصة كان في اليمن والحبشة، وذكر أنه كان لرجل من ثقيف، وأنه كان يترك ما يسقط من الثمر للفقراء، فلما مات وورثه أبناؤه قالوا إن أبانا لأحمق، وصمموا على حرمان الفقراء من ذلك. وبعبارة أخرى إن الحكاية لحادث واقعي. وروح الآيات ومضمونها يلهمان ذلك ويلهمان أيضا أن الحادث مما كان معروفاً عند السامعين.
وضمير ﴿ بلوناهم ﴾ راجع مباشرة إلى المكذبين الذين حكت الآيات السابقة موقفهم وهم زعماء قريش كما هو المتبادر، وفي ذلك قرينة على أنهم كانوا يعرفون قصة البستان.
وواضح أن القصة أوردت في معرض التذكير والمثل. وهذا شأن جميع القصص والأمثال القرآنية ؛ والأسلوب القرآني في ذلك من خصوصيات القرآن ؛ لأن ما احتوته الكتب الدينية اليهودية والنصرانية من القصص هي في صدد التاريخ والإخبار. والعظة والتذكرة اللتان تنطويان في هذه القصة هما أن الله قد امتحن المكذبين بالرسالة النبوية، كما امتحن أصحاب البستان بالنعمة التي أنعمها عليهم بثمرهم، وكما أن هؤلاء قد تعرضوا لعذاب الله وبلائه لعدم استماعهم لنصيحة عاقلهم ومرشدهم وعدم شكر نعمة الله، ولسوء النية التي بيتوها بحرمان الفقراء فإن أولئك - أي كفار قريش المكذبين- أمام امتحان رباني، فإذا لم يستمعوا لنصيحة ناصحهم ومرشدهم ولم يستجيبوا إليها ولم يشكروا نعمة الله التي أنعمها عليهم فإنهم سيتعرضون لبلاء الله وعذابه في الدنيا فضلا عما سيتعرضون لعذابه الأكبر في الآخرة. ولهم الأسوة بأصحاب البستان الذين أدركوا مدى ظلمهم وانحرافهم وسوء نيتهم فاستجابوا وتابوا إلى الله واستغفروه.
والمصحف الذي اعتمدنا عليه يذكر أن هذه الآيات مدنية، غير أننا نلاحظ أولاً : أنها منسجمة مع ما قبلها وما بعدها كأنما جميعها في سياق واحد وموضوع واحد ثانياً : أن مضمونها يلهم كون المثل موجهاً إلى الناس في مبادئ الدعوة وعهد النبوة. وثالثاً : أن الضمير في ﴿ بلوناهم ﴾ راجع إلى الذين كانوا موضوع الآيات السابقة مما ينطوي فيه الاتصال بين هذه الآيات وسابقاتها. ورابعاً : أن أسلوبها وطابعها أكثر شبهاً لأسلوب وطابع الآيات المكية ؛ ولذلك فإننا نتوقف في صحة الرواية، وإذا صحت ملاحظاتنا فتكون هذه القصة أولى القصص القرآنية نزولاً والله أعلم.
ونقول في هذه المناسبة : إن القرآن قد احتوى كثيراً من القصص بأساليب متنوعة، مسهبة حيناً ومقتضبة حينا وبإشارات خاطفة حينا، منها قصص خاصة بحياة وسيرة أنبياء الله ورسله، ومنها مزيجة بين حياة وسيرة أنبياء الله ورسله وما جرى بينهم وبين أقوامهم أو الذين أرسلوا إليهم ونتائجه. ومنها قصص أشخاص أو جماعات غير أنبياء. ومن هذه القصص ما ورد جزئيا أو كليا أو مباينا بعض الشيء مع التوافق في أمور. وفي الأسماء في الأسفار التي يتداولها اليهود والنصارى التي يجمعها ما يسمى بالكتاب المقدس أو ما يسمى أسفار العهد القديم وأسفار العهد الجديد. ومنها ما هو عائد إلى أسماء وردت في هذه الأسفار دون القصص. ومنها قصص عربية لجماعات وأنبياء وأقوام عاشوا في جزيرة العرب قبل الإسلام. ويصدق على جميعها ما قلناه من أنها جاءت في القرآن في معرض التذكير والمثل، ولسوف نزيد كل هذا شرحاً في مناسبات آتية.
تعليق على روايات الآيات
المدنية في السور المكية
وبمناسبة ذكر رواية مدنية الآيات المذكورة لأول مرة نقول : إن هناك روايات عديدة عن وجود آيات مدنية في السور المكية. والمصحف الذي اعتمدنا عليه يروي مدنية ( ١٤٧ ) آية في ( ٣٤ ) سورة مكية، وهناك روايات تزيد في عدد الآيات وأخرى تنقص منها.
والمتدبر في الآيات يرى طابع العهد المكي وصوره وأحداثه بارزاً على معظمها، كما يرى انسجام معظمها انسجاماً تاما في السياق والمضمون بل والنظم مع ما قبلها وما بعدها، ولا يستبين الحكمة في وضعها لو كانت مدنية حقاً بحيث يسوغ الشك والتوقف في صحة الروايات التي تروي مدنيتها وتروي أسباب نزولها في المدينة، إلا إذا فرض أن تكون حكمة التنزيل اقتضت تدعيم السياق المكي بها وهو فرض لا يمكن أن تطمئن النفس به. ومن الجدير بالذكر أن معظم الروايات ليست أحاديث نبوية أو صحابية موثقة ومسندة على أسلوب توثيق الأحاديث وإسنادها. ومما يرد على البال تعليلاً لها أن الآيات المكية ذكرت أو استشهد بها بمناسبة بعض أحداث جرت في المدينة وكان بعضهم قد نسيها فالتبس عليهم الأمر وظنوها آيات مدنية.
والكلام ينطبق كما قلنا على معظم الآيات، وهناك بضع آيات في بعض السور المكية تستثنى من ذلك يسوغ طابعها ومضمونها الجزم بصحة رواية مدنيتها. وقد وضعت في السياق المناسب لمضمونها على ما سوف نشرحه في مناسباتها.
﴿ إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ ١ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا ٢ مُصْبِحِينَ ٣( ١٧ ) وَلَا يَسْتَثْنُونَ ٤ ( ١٨ ) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ ٥وَهُمْ نَائِمُونَ( ١٩ ) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ ( ٢٠ ) فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ ( ٢١ ) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ ٦ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ( ٢٢ ) فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ ٧( ٢٣ ) أَن لَّا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ( ٢٤ ) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ ٨ قَادِرِينَ( ٢٥ ) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ ٩ ( ٢٦ )بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ( ٢٧ ) قَالَ أَوْسَطُهُمْ ١٠ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ( ٢٨ ) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ١١ ( ٢٩ ) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ ١٢( ٣٠ ) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ١٣ ( ٣١ ) عَسَى رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِّنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ( ٣٢ ) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَاب الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ( ٣٣ ) ﴾ ( ١٧- ٣٣ ).
هذه الآيات تحكي قصة جماعة كان لهم بستان، أقسموا على قطف ثمره دون أن يقولوا : إن شاء الله، وصمموا على حرمان الفقراء منه، وغدوا مصبحين إلى تنفيذ عزيمتهم معتمدين على قدرتهم، فسلط الله على الثمر بلاء جعله كالمقطوف، عقاباً لهم على سوء نيتهم، ولما رأوا بستانهم على هذه الحالة ذهلوا حتى لقد ظنوا أنهم ضلوا عنه، ثم عرفوا الحقيقة فأدركوا أنهم قد خسروا ثمرهم وحرموا منه، وكان فيهم رجل صالح عاقل كان ينصحهم بالاعتدال وعدم البغي، فقال لهم : ألم أخبركم بما سوف ينتج عن سلوككم ؟ وطلب منهم أن يستغفروا الله ويسبحوه ويعترفوا بذنبهم، فأخذ بعضهم يلوم بعضا، وسبّحوا الله واستغفروه واعترفوا بظلمهم وطغيانهم، وأعلنوا توبتهم وإنابتهم إلى الله على أمل أن يعوضهم بما هو خير مما خسروه وحرموا منه.
وقد ابتدأت الآيات بما يفهم منه أن الله قد امتحن المكذبين بما امتحن به أصحاب البستان، وانتهت بالتنويه بعذاب الله الشديد الذي يحل بالظالمين الجاحدين لنعمة الله في الدنيا وبالوعيد بعذاب الآخرة الذي ينتظرهم، والذي هو أشد وأكبر.
وقد روى المفسرون١ أن البستان المذكور في القصة كان في اليمن والحبشة، وذكر أنه كان لرجل من ثقيف، وأنه كان يترك ما يسقط من الثمر للفقراء، فلما مات وورثه أبناؤه قالوا إن أبانا لأحمق، وصمموا على حرمان الفقراء من ذلك. وبعبارة أخرى إن الحكاية لحادث واقعي. وروح الآيات ومضمونها يلهمان ذلك ويلهمان أيضا أن الحادث مما كان معروفاً عند السامعين.
وضمير ﴿ بلوناهم ﴾ راجع مباشرة إلى المكذبين الذين حكت الآيات السابقة موقفهم وهم زعماء قريش كما هو المتبادر، وفي ذلك قرينة على أنهم كانوا يعرفون قصة البستان.
وواضح أن القصة أوردت في معرض التذكير والمثل. وهذا شأن جميع القصص والأمثال القرآنية ؛ والأسلوب القرآني في ذلك من خصوصيات القرآن ؛ لأن ما احتوته الكتب الدينية اليهودية والنصرانية من القصص هي في صدد التاريخ والإخبار. والعظة والتذكرة اللتان تنطويان في هذه القصة هما أن الله قد امتحن المكذبين بالرسالة النبوية، كما امتحن أصحاب البستان بالنعمة التي أنعمها عليهم بثمرهم، وكما أن هؤلاء قد تعرضوا لعذاب الله وبلائه لعدم استماعهم لنصيحة عاقلهم ومرشدهم وعدم شكر نعمة الله، ولسوء النية التي بيتوها بحرمان الفقراء فإن أولئك - أي كفار قريش المكذبين- أمام امتحان رباني، فإذا لم يستمعوا لنصيحة ناصحهم ومرشدهم ولم يستجيبوا إليها ولم يشكروا نعمة الله التي أنعمها عليهم فإنهم سيتعرضون لبلاء الله وعذابه في الدنيا فضلا عما سيتعرضون لعذابه الأكبر في الآخرة. ولهم الأسوة بأصحاب البستان الذين أدركوا مدى ظلمهم وانحرافهم وسوء نيتهم فاستجابوا وتابوا إلى الله واستغفروه.
والمصحف الذي اعتمدنا عليه يذكر أن هذه الآيات مدنية، غير أننا نلاحظ أولاً : أنها منسجمة مع ما قبلها وما بعدها كأنما جميعها في سياق واحد وموضوع واحد ثانياً : أن مضمونها يلهم كون المثل موجهاً إلى الناس في مبادئ الدعوة وعهد النبوة. وثالثاً : أن الضمير في ﴿ بلوناهم ﴾ راجع إلى الذين كانوا موضوع الآيات السابقة مما ينطوي فيه الاتصال بين هذه الآيات وسابقاتها. ورابعاً : أن أسلوبها وطابعها أكثر شبهاً لأسلوب وطابع الآيات المكية ؛ ولذلك فإننا نتوقف في صحة الرواية، وإذا صحت ملاحظاتنا فتكون هذه القصة أولى القصص القرآنية نزولاً والله أعلم.
ونقول في هذه المناسبة : إن القرآن قد احتوى كثيراً من القصص بأساليب متنوعة، مسهبة حيناً ومقتضبة حينا وبإشارات خاطفة حينا، منها قصص خاصة بحياة وسيرة أنبياء الله ورسله، ومنها مزيجة بين حياة وسيرة أنبياء الله ورسله وما جرى بينهم وبين أقوامهم أو الذين أرسلوا إليهم ونتائجه. ومنها قصص أشخاص أو جماعات غير أنبياء. ومن هذه القصص ما ورد جزئيا أو كليا أو مباينا بعض الشيء مع التوافق في أمور. وفي الأسماء في الأسفار التي يتداولها اليهود والنصارى التي يجمعها ما يسمى بالكتاب المقدس أو ما يسمى أسفار العهد القديم وأسفار العهد الجديد. ومنها ما هو عائد إلى أسماء وردت في هذه الأسفار دون القصص. ومنها قصص عربية لجماعات وأنبياء وأقوام عاشوا في جزيرة العرب قبل الإسلام. ويصدق على جميعها ما قلناه من أنها جاءت في القرآن في معرض التذكير والمثل، ولسوف نزيد كل هذا شرحاً في مناسبات آتية.
تعليق على روايات الآيات
المدنية في السور المكية
وبمناسبة ذكر رواية مدنية الآيات المذكورة لأول مرة نقول : إن هناك روايات عديدة عن وجود آيات مدنية في السور المكية. والمصحف الذي اعتمدنا عليه يروي مدنية ( ١٤٧ ) آية في ( ٣٤ ) سورة مكية، وهناك روايات تزيد في عدد الآيات وأخرى تنقص منها.
والمتدبر في الآيات يرى طابع العهد المكي وصوره وأحداثه بارزاً على معظمها، كما يرى انسجام معظمها انسجاماً تاما في السياق والمضمون بل والنظم مع ما قبلها وما بعدها، ولا يستبين الحكمة في وضعها لو كانت مدنية حقاً بحيث يسوغ الشك والتوقف في صحة الروايات التي تروي مدنيتها وتروي أسباب نزولها في المدينة، إلا إذا فرض أن تكون حكمة التنزيل اقتضت تدعيم السياق المكي بها وهو فرض لا يمكن أن تطمئن النفس به. ومن الجدير بالذكر أن معظم الروايات ليست أحاديث نبوية أو صحابية موثقة ومسندة على أسلوب توثيق الأحاديث وإسنادها. ومما يرد على البال تعليلاً لها أن الآيات المكية ذكرت أو استشهد بها بمناسبة بعض أحداث جرت في المدينة وكان بعضهم قد نسيها فالتبس عليهم الأمر وظنوها آيات مدنية.
والكلام ينطبق كما قلنا على معظم الآيات، وهناك بضع آيات في بعض السور المكية تستثنى من ذلك يسوغ طابعها ومضمونها الجزم بصحة رواية مدنيتها. وقد وضعت في السياق المناسب لمضمونها على ما سوف نشرحه في مناسباتها.
﴿ إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ ١ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا ٢ مُصْبِحِينَ ٣( ١٧ ) وَلَا يَسْتَثْنُونَ ٤ ( ١٨ ) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ ٥وَهُمْ نَائِمُونَ( ١٩ ) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ ( ٢٠ ) فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ ( ٢١ ) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ ٦ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ( ٢٢ ) فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ ٧( ٢٣ ) أَن لَّا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ( ٢٤ ) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ ٨ قَادِرِينَ( ٢٥ ) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ ٩ ( ٢٦ )بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ( ٢٧ ) قَالَ أَوْسَطُهُمْ ١٠ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ( ٢٨ ) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ١١ ( ٢٩ ) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ ١٢( ٣٠ ) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ١٣ ( ٣١ ) عَسَى رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِّنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ( ٣٢ ) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَاب الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ( ٣٣ ) ﴾ ( ١٧- ٣٣ ).
هذه الآيات تحكي قصة جماعة كان لهم بستان، أقسموا على قطف ثمره دون أن يقولوا : إن شاء الله، وصمموا على حرمان الفقراء منه، وغدوا مصبحين إلى تنفيذ عزيمتهم معتمدين على قدرتهم، فسلط الله على الثمر بلاء جعله كالمقطوف، عقاباً لهم على سوء نيتهم، ولما رأوا بستانهم على هذه الحالة ذهلوا حتى لقد ظنوا أنهم ضلوا عنه، ثم عرفوا الحقيقة فأدركوا أنهم قد خسروا ثمرهم وحرموا منه، وكان فيهم رجل صالح عاقل كان ينصحهم بالاعتدال وعدم البغي، فقال لهم : ألم أخبركم بما سوف ينتج عن سلوككم ؟ وطلب منهم أن يستغفروا الله ويسبحوه ويعترفوا بذنبهم، فأخذ بعضهم يلوم بعضا، وسبّحوا الله واستغفروه واعترفوا بظلمهم وطغيانهم، وأعلنوا توبتهم وإنابتهم إلى الله على أمل أن يعوضهم بما هو خير مما خسروه وحرموا منه.
وقد ابتدأت الآيات بما يفهم منه أن الله قد امتحن المكذبين بما امتحن به أصحاب البستان، وانتهت بالتنويه بعذاب الله الشديد الذي يحل بالظالمين الجاحدين لنعمة الله في الدنيا وبالوعيد بعذاب الآخرة الذي ينتظرهم، والذي هو أشد وأكبر.
وقد روى المفسرون١ أن البستان المذكور في القصة كان في اليمن والحبشة، وذكر أنه كان لرجل من ثقيف، وأنه كان يترك ما يسقط من الثمر للفقراء، فلما مات وورثه أبناؤه قالوا إن أبانا لأحمق، وصمموا على حرمان الفقراء من ذلك. وبعبارة أخرى إن الحكاية لحادث واقعي. وروح الآيات ومضمونها يلهمان ذلك ويلهمان أيضا أن الحادث مما كان معروفاً عند السامعين.
وضمير ﴿ بلوناهم ﴾ راجع مباشرة إلى المكذبين الذين حكت الآيات السابقة موقفهم وهم زعماء قريش كما هو المتبادر، وفي ذلك قرينة على أنهم كانوا يعرفون قصة البستان.
وواضح أن القصة أوردت في معرض التذكير والمثل. وهذا شأن جميع القصص والأمثال القرآنية ؛ والأسلوب القرآني في ذلك من خصوصيات القرآن ؛ لأن ما احتوته الكتب الدينية اليهودية والنصرانية من القصص هي في صدد التاريخ والإخبار. والعظة والتذكرة اللتان تنطويان في هذه القصة هما أن الله قد امتحن المكذبين بالرسالة النبوية، كما امتحن أصحاب البستان بالنعمة التي أنعمها عليهم بثمرهم، وكما أن هؤلاء قد تعرضوا لعذاب الله وبلائه لعدم استماعهم لنصيحة عاقلهم ومرشدهم وعدم شكر نعمة الله، ولسوء النية التي بيتوها بحرمان الفقراء فإن أولئك - أي كفار قريش المكذبين- أمام امتحان رباني، فإذا لم يستمعوا لنصيحة ناصحهم ومرشدهم ولم يستجيبوا إليها ولم يشكروا نعمة الله التي أنعمها عليهم فإنهم سيتعرضون لبلاء الله وعذابه في الدنيا فضلا عما سيتعرضون لعذابه الأكبر في الآخرة. ولهم الأسوة بأصحاب البستان الذين أدركوا مدى ظلمهم وانحرافهم وسوء نيتهم فاستجابوا وتابوا إلى الله واستغفروه.
والمصحف الذي اعتمدنا عليه يذكر أن هذه الآيات مدنية، غير أننا نلاحظ أولاً : أنها منسجمة مع ما قبلها وما بعدها كأنما جميعها في سياق واحد وموضوع واحد ثانياً : أن مضمونها يلهم كون المثل موجهاً إلى الناس في مبادئ الدعوة وعهد النبوة. وثالثاً : أن الضمير في ﴿ بلوناهم ﴾ راجع إلى الذين كانوا موضوع الآيات السابقة مما ينطوي فيه الاتصال بين هذه الآيات وسابقاتها. ورابعاً : أن أسلوبها وطابعها أكثر شبهاً لأسلوب وطابع الآيات المكية ؛ ولذلك فإننا نتوقف في صحة الرواية، وإذا صحت ملاحظاتنا فتكون هذه القصة أولى القصص القرآنية نزولاً والله أعلم.
ونقول في هذه المناسبة : إن القرآن قد احتوى كثيراً من القصص بأساليب متنوعة، مسهبة حيناً ومقتضبة حينا وبإشارات خاطفة حينا، منها قصص خاصة بحياة وسيرة أنبياء الله ورسله، ومنها مزيجة بين حياة وسيرة أنبياء الله ورسله وما جرى بينهم وبين أقوامهم أو الذين أرسلوا إليهم ونتائجه. ومنها قصص أشخاص أو جماعات غير أنبياء. ومن هذه القصص ما ورد جزئيا أو كليا أو مباينا بعض الشيء مع التوافق في أمور. وفي الأسماء في الأسفار التي يتداولها اليهود والنصارى التي يجمعها ما يسمى بالكتاب المقدس أو ما يسمى أسفار العهد القديم وأسفار العهد الجديد. ومنها ما هو عائد إلى أسماء وردت في هذه الأسفار دون القصص. ومنها قصص عربية لجماعات وأنبياء وأقوام عاشوا في جزيرة العرب قبل الإسلام. ويصدق على جميعها ما قلناه من أنها جاءت في القرآن في معرض التذكير والمثل، ولسوف نزيد كل هذا شرحاً في مناسبات آتية.
تعليق على روايات الآيات
المدنية في السور المكية
وبمناسبة ذكر رواية مدنية الآيات المذكورة لأول مرة نقول : إن هناك روايات عديدة عن وجود آيات مدنية في السور المكية. والمصحف الذي اعتمدنا عليه يروي مدنية ( ١٤٧ ) آية في ( ٣٤ ) سورة مكية، وهناك روايات تزيد في عدد الآيات وأخرى تنقص منها.
والمتدبر في الآيات يرى طابع العهد المكي وصوره وأحداثه بارزاً على معظمها، كما يرى انسجام معظمها انسجاماً تاما في السياق والمضمون بل والنظم مع ما قبلها وما بعدها، ولا يستبين الحكمة في وضعها لو كانت مدنية حقاً بحيث يسوغ الشك والتوقف في صحة الروايات التي تروي مدنيتها وتروي أسباب نزولها في المدينة، إلا إذا فرض أن تكون حكمة التنزيل اقتضت تدعيم السياق المكي بها وهو فرض لا يمكن أن تطمئن النفس به. ومن الجدير بالذكر أن معظم الروايات ليست أحاديث نبوية أو صحابية موثقة ومسندة على أسلوب توثيق الأحاديث وإسنادها. ومما يرد على البال تعليلاً لها أن الآيات المكية ذكرت أو استشهد بها بمناسبة بعض أحداث جرت في المدينة وكان بعضهم قد نسيها فالتبس عليهم الأمر وظنوها آيات مدنية.
والكلام ينطبق كما قلنا على معظم الآيات، وهناك بضع آيات في بعض السور المكية تستثنى من ذلك يسوغ طابعها ومضمونها الجزم بصحة رواية مدنيتها. وقد وضعت في السياق المناسب لمضمونها على ما سوف نشرحه في مناسباتها.
﴿ إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ ١ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا ٢ مُصْبِحِينَ ٣( ١٧ ) وَلَا يَسْتَثْنُونَ ٤ ( ١٨ ) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ ٥وَهُمْ نَائِمُونَ( ١٩ ) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ ( ٢٠ ) فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ ( ٢١ ) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ ٦ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ( ٢٢ ) فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ ٧( ٢٣ ) أَن لَّا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ( ٢٤ ) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ ٨ قَادِرِينَ( ٢٥ ) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ ٩ ( ٢٦ )بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ( ٢٧ ) قَالَ أَوْسَطُهُمْ ١٠ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ( ٢٨ ) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ١١ ( ٢٩ ) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ ١٢( ٣٠ ) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ١٣ ( ٣١ ) عَسَى رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِّنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ( ٣٢ ) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَاب الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ( ٣٣ ) ﴾ ( ١٧- ٣٣ ).
هذه الآيات تحكي قصة جماعة كان لهم بستان، أقسموا على قطف ثمره دون أن يقولوا : إن شاء الله، وصمموا على حرمان الفقراء منه، وغدوا مصبحين إلى تنفيذ عزيمتهم معتمدين على قدرتهم، فسلط الله على الثمر بلاء جعله كالمقطوف، عقاباً لهم على سوء نيتهم، ولما رأوا بستانهم على هذه الحالة ذهلوا حتى لقد ظنوا أنهم ضلوا عنه، ثم عرفوا الحقيقة فأدركوا أنهم قد خسروا ثمرهم وحرموا منه، وكان فيهم رجل صالح عاقل كان ينصحهم بالاعتدال وعدم البغي، فقال لهم : ألم أخبركم بما سوف ينتج عن سلوككم ؟ وطلب منهم أن يستغفروا الله ويسبحوه ويعترفوا بذنبهم، فأخذ بعضهم يلوم بعضا، وسبّحوا الله واستغفروه واعترفوا بظلمهم وطغيانهم، وأعلنوا توبتهم وإنابتهم إلى الله على أمل أن يعوضهم بما هو خير مما خسروه وحرموا منه.
وقد ابتدأت الآيات بما يفهم منه أن الله قد امتحن المكذبين بما امتحن به أصحاب البستان، وانتهت بالتنويه بعذاب الله الشديد الذي يحل بالظالمين الجاحدين لنعمة الله في الدنيا وبالوعيد بعذاب الآخرة الذي ينتظرهم، والذي هو أشد وأكبر.
وقد روى المفسرون١ أن البستان المذكور في القصة كان في اليمن والحبشة، وذكر أنه كان لرجل من ثقيف، وأنه كان يترك ما يسقط من الثمر للفقراء، فلما مات وورثه أبناؤه قالوا إن أبانا لأحمق، وصمموا على حرمان الفقراء من ذلك. وبعبارة أخرى إن الحكاية لحادث واقعي. وروح الآيات ومضمونها يلهمان ذلك ويلهمان أيضا أن الحادث مما كان معروفاً عند السامعين.
وضمير ﴿ بلوناهم ﴾ راجع مباشرة إلى المكذبين الذين حكت الآيات السابقة موقفهم وهم زعماء قريش كما هو المتبادر، وفي ذلك قرينة على أنهم كانوا يعرفون قصة البستان.
وواضح أن القصة أوردت في معرض التذكير والمثل. وهذا شأن جميع القصص والأمثال القرآنية ؛ والأسلوب القرآني في ذلك من خصوصيات القرآن ؛ لأن ما احتوته الكتب الدينية اليهودية والنصرانية من القصص هي في صدد التاريخ والإخبار. والعظة والتذكرة اللتان تنطويان في هذه القصة هما أن الله قد امتحن المكذبين بالرسالة النبوية، كما امتحن أصحاب البستان بالنعمة التي أنعمها عليهم بثمرهم، وكما أن هؤلاء قد تعرضوا لعذاب الله وبلائه لعدم استماعهم لنصيحة عاقلهم ومرشدهم وعدم شكر نعمة الله، ولسوء النية التي بيتوها بحرمان الفقراء فإن أولئك - أي كفار قريش المكذبين- أمام امتحان رباني، فإذا لم يستمعوا لنصيحة ناصحهم ومرشدهم ولم يستجيبوا إليها ولم يشكروا نعمة الله التي أنعمها عليهم فإنهم سيتعرضون لبلاء الله وعذابه في الدنيا فضلا عما سيتعرضون لعذابه الأكبر في الآخرة. ولهم الأسوة بأصحاب البستان الذين أدركوا مدى ظلمهم وانحرافهم وسوء نيتهم فاستجابوا وتابوا إلى الله واستغفروه.
والمصحف الذي اعتمدنا عليه يذكر أن هذه الآيات مدنية، غير أننا نلاحظ أولاً : أنها منسجمة مع ما قبلها وما بعدها كأنما جميعها في سياق واحد وموضوع واحد ثانياً : أن مضمونها يلهم كون المثل موجهاً إلى الناس في مبادئ الدعوة وعهد النبوة. وثالثاً : أن الضمير في ﴿ بلوناهم ﴾ راجع إلى الذين كانوا موضوع الآيات السابقة مما ينطوي فيه الاتصال بين هذه الآيات وسابقاتها. ورابعاً : أن أسلوبها وطابعها أكثر شبهاً لأسلوب وطابع الآيات المكية ؛ ولذلك فإننا نتوقف في صحة الرواية، وإذا صحت ملاحظاتنا فتكون هذه القصة أولى القصص القرآنية نزولاً والله أعلم.
ونقول في هذه المناسبة : إن القرآن قد احتوى كثيراً من القصص بأساليب متنوعة، مسهبة حيناً ومقتضبة حينا وبإشارات خاطفة حينا، منها قصص خاصة بحياة وسيرة أنبياء الله ورسله، ومنها مزيجة بين حياة وسيرة أنبياء الله ورسله وما جرى بينهم وبين أقوامهم أو الذين أرسلوا إليهم ونتائجه. ومنها قصص أشخاص أو جماعات غير أنبياء. ومن هذه القصص ما ورد جزئيا أو كليا أو مباينا بعض الشيء مع التوافق في أمور. وفي الأسماء في الأسفار التي يتداولها اليهود والنصارى التي يجمعها ما يسمى بالكتاب المقدس أو ما يسمى أسفار العهد القديم وأسفار العهد الجديد. ومنها ما هو عائد إلى أسماء وردت في هذه الأسفار دون القصص. ومنها قصص عربية لجماعات وأنبياء وأقوام عاشوا في جزيرة العرب قبل الإسلام. ويصدق على جميعها ما قلناه من أنها جاءت في القرآن في معرض التذكير والمثل، ولسوف نزيد كل هذا شرحاً في مناسبات آتية.
تعليق على روايات الآيات
المدنية في السور المكية
وبمناسبة ذكر رواية مدنية الآيات المذكورة لأول مرة نقول : إن هناك روايات عديدة عن وجود آيات مدنية في السور المكية. والمصحف الذي اعتمدنا عليه يروي مدنية ( ١٤٧ ) آية في ( ٣٤ ) سورة مكية، وهناك روايات تزيد في عدد الآيات وأخرى تنقص منها.
والمتدبر في الآيات يرى طابع العهد المكي وصوره وأحداثه بارزاً على معظمها، كما يرى انسجام معظمها انسجاماً تاما في السياق والمضمون بل والنظم مع ما قبلها وما بعدها، ولا يستبين الحكمة في وضعها لو كانت مدنية حقاً بحيث يسوغ الشك والتوقف في صحة الروايات التي تروي مدنيتها وتروي أسباب نزولها في المدينة، إلا إذا فرض أن تكون حكمة التنزيل اقتضت تدعيم السياق المكي بها وهو فرض لا يمكن أن تطمئن النفس به. ومن الجدير بالذكر أن معظم الروايات ليست أحاديث نبوية أو صحابية موثقة ومسندة على أسلوب توثيق الأحاديث وإسنادها. ومما يرد على البال تعليلاً لها أن الآيات المكية ذكرت أو استشهد بها بمناسبة بعض أحداث جرت في المدينة وكان بعضهم قد نسيها فالتبس عليهم الأمر وظنوها آيات مدنية.
والكلام ينطبق كما قلنا على معظم الآيات، وهناك بضع آيات في بعض السور المكية تستثنى من ذلك يسوغ طابعها ومضمونها الجزم بصحة رواية مدنيتها. وقد وضعت في السياق المناسب لمضمونها على ما سوف نشرحه في مناسباتها.
﴿ إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ ١ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا ٢ مُصْبِحِينَ ٣( ١٧ ) وَلَا يَسْتَثْنُونَ ٤ ( ١٨ ) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ ٥وَهُمْ نَائِمُونَ( ١٩ ) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ ( ٢٠ ) فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ ( ٢١ ) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ ٦ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ( ٢٢ ) فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ ٧( ٢٣ ) أَن لَّا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ( ٢٤ ) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ ٨ قَادِرِينَ( ٢٥ ) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ ٩ ( ٢٦ )بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ( ٢٧ ) قَالَ أَوْسَطُهُمْ ١٠ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ( ٢٨ ) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ١١ ( ٢٩ ) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ ١٢( ٣٠ ) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ١٣ ( ٣١ ) عَسَى رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِّنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ( ٣٢ ) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَاب الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ( ٣٣ ) ﴾ ( ١٧- ٣٣ ).
هذه الآيات تحكي قصة جماعة كان لهم بستان، أقسموا على قطف ثمره دون أن يقولوا : إن شاء الله، وصمموا على حرمان الفقراء منه، وغدوا مصبحين إلى تنفيذ عزيمتهم معتمدين على قدرتهم، فسلط الله على الثمر بلاء جعله كالمقطوف، عقاباً لهم على سوء نيتهم، ولما رأوا بستانهم على هذه الحالة ذهلوا حتى لقد ظنوا أنهم ضلوا عنه، ثم عرفوا الحقيقة فأدركوا أنهم قد خسروا ثمرهم وحرموا منه، وكان فيهم رجل صالح عاقل كان ينصحهم بالاعتدال وعدم البغي، فقال لهم : ألم أخبركم بما سوف ينتج عن سلوككم ؟ وطلب منهم أن يستغفروا الله ويسبحوه ويعترفوا بذنبهم، فأخذ بعضهم يلوم بعضا، وسبّحوا الله واستغفروه واعترفوا بظلمهم وطغيانهم، وأعلنوا توبتهم وإنابتهم إلى الله على أمل أن يعوضهم بما هو خير مما خسروه وحرموا منه.
وقد ابتدأت الآيات بما يفهم منه أن الله قد امتحن المكذبين بما امتحن به أصحاب البستان، وانتهت بالتنويه بعذاب الله الشديد الذي يحل بالظالمين الجاحدين لنعمة الله في الدنيا وبالوعيد بعذاب الآخرة الذي ينتظرهم، والذي هو أشد وأكبر.
وقد روى المفسرون١ أن البستان المذكور في القصة كان في اليمن والحبشة، وذكر أنه كان لرجل من ثقيف، وأنه كان يترك ما يسقط من الثمر للفقراء، فلما مات وورثه أبناؤه قالوا إن أبانا لأحمق، وصمموا على حرمان الفقراء من ذلك. وبعبارة أخرى إن الحكاية لحادث واقعي. وروح الآيات ومضمونها يلهمان ذلك ويلهمان أيضا أن الحادث مما كان معروفاً عند السامعين.
وضمير ﴿ بلوناهم ﴾ راجع مباشرة إلى المكذبين الذين حكت الآيات السابقة موقفهم وهم زعماء قريش كما هو المتبادر، وفي ذلك قرينة على أنهم كانوا يعرفون قصة البستان.
وواضح أن القصة أوردت في معرض التذكير والمثل. وهذا شأن جميع القصص والأمثال القرآنية ؛ والأسلوب القرآني في ذلك من خصوصيات القرآن ؛ لأن ما احتوته الكتب الدينية اليهودية والنصرانية من القصص هي في صدد التاريخ والإخبار. والعظة والتذكرة اللتان تنطويان في هذه القصة هما أن الله قد امتحن المكذبين بالرسالة النبوية، كما امتحن أصحاب البستان بالنعمة التي أنعمها عليهم بثمرهم، وكما أن هؤلاء قد تعرضوا لعذاب الله وبلائه لعدم استماعهم لنصيحة عاقلهم ومرشدهم وعدم شكر نعمة الله، ولسوء النية التي بيتوها بحرمان الفقراء فإن أولئك - أي كفار قريش المكذبين- أمام امتحان رباني، فإذا لم يستمعوا لنصيحة ناصحهم ومرشدهم ولم يستجيبوا إليها ولم يشكروا نعمة الله التي أنعمها عليهم فإنهم سيتعرضون لبلاء الله وعذابه في الدنيا فضلا عما سيتعرضون لعذابه الأكبر في الآخرة. ولهم الأسوة بأصحاب البستان الذين أدركوا مدى ظلمهم وانحرافهم وسوء نيتهم فاستجابوا وتابوا إلى الله واستغفروه.
والمصحف الذي اعتمدنا عليه يذكر أن هذه الآيات مدنية، غير أننا نلاحظ أولاً : أنها منسجمة مع ما قبلها وما بعدها كأنما جميعها في سياق واحد وموضوع واحد ثانياً : أن مضمونها يلهم كون المثل موجهاً إلى الناس في مبادئ الدعوة وعهد النبوة. وثالثاً : أن الضمير في ﴿ بلوناهم ﴾ راجع إلى الذين كانوا موضوع الآيات السابقة مما ينطوي فيه الاتصال بين هذه الآيات وسابقاتها. ورابعاً : أن أسلوبها وطابعها أكثر شبهاً لأسلوب وطابع الآيات المكية ؛ ولذلك فإننا نتوقف في صحة الرواية، وإذا صحت ملاحظاتنا فتكون هذه القصة أولى القصص القرآنية نزولاً والله أعلم.
ونقول في هذه المناسبة : إن القرآن قد احتوى كثيراً من القصص بأساليب متنوعة، مسهبة حيناً ومقتضبة حينا وبإشارات خاطفة حينا، منها قصص خاصة بحياة وسيرة أنبياء الله ورسله، ومنها مزيجة بين حياة وسيرة أنبياء الله ورسله وما جرى بينهم وبين أقوامهم أو الذين أرسلوا إليهم ونتائجه. ومنها قصص أشخاص أو جماعات غير أنبياء. ومن هذه القصص ما ورد جزئيا أو كليا أو مباينا بعض الشيء مع التوافق في أمور. وفي الأسماء في الأسفار التي يتداولها اليهود والنصارى التي يجمعها ما يسمى بالكتاب المقدس أو ما يسمى أسفار العهد القديم وأسفار العهد الجديد. ومنها ما هو عائد إلى أسماء وردت في هذه الأسفار دون القصص. ومنها قصص عربية لجماعات وأنبياء وأقوام عاشوا في جزيرة العرب قبل الإسلام. ويصدق على جميعها ما قلناه من أنها جاءت في القرآن في معرض التذكير والمثل، ولسوف نزيد كل هذا شرحاً في مناسبات آتية.
تعليق على روايات الآيات
المدنية في السور المكية
وبمناسبة ذكر رواية مدنية الآيات المذكورة لأول مرة نقول : إن هناك روايات عديدة عن وجود آيات مدنية في السور المكية. والمصحف الذي اعتمدنا عليه يروي مدنية ( ١٤٧ ) آية في ( ٣٤ ) سورة مكية، وهناك روايات تزيد في عدد الآيات وأخرى تنقص منها.
والمتدبر في الآيات يرى طابع العهد المكي وصوره وأحداثه بارزاً على معظمها، كما يرى انسجام معظمها انسجاماً تاما في السياق والمضمون بل والنظم مع ما قبلها وما بعدها، ولا يستبين الحكمة في وضعها لو كانت مدنية حقاً بحيث يسوغ الشك والتوقف في صحة الروايات التي تروي مدنيتها وتروي أسباب نزولها في المدينة، إلا إذا فرض أن تكون حكمة التنزيل اقتضت تدعيم السياق المكي بها وهو فرض لا يمكن أن تطمئن النفس به. ومن الجدير بالذكر أن معظم الروايات ليست أحاديث نبوية أو صحابية موثقة ومسندة على أسلوب توثيق الأحاديث وإسنادها. ومما يرد على البال تعليلاً لها أن الآيات المكية ذكرت أو استشهد بها بمناسبة بعض أحداث جرت في المدينة وكان بعضهم قد نسيها فالتبس عليهم الأمر وظنوها آيات مدنية.
والكلام ينطبق كما قلنا على معظم الآيات، وهناك بضع آيات في بعض السور المكية تستثنى من ذلك يسوغ طابعها ومضمونها الجزم بصحة رواية مدنيتها. وقد وضعت في السياق المناسب لمضمونها على ما سوف نشرحه في مناسباتها.
في هذه الآيات :
١- تقرير تبشيري بما للمتقين المصدقين عند ربهم من النعيم في جناته.
٢- تساؤل على سبيل الإنكار عما إذا كان يصح أن يجعل الله المسلمين كالمجرمين في اليوم الآخر.
٣- أسئلة فيها تحد وتهكم موجهة للمكذبين : فهل يظنون أن الله حقا يمكن أن يجعل المسلمين كالمجرمين ؟ وبأي وجه يحكمون بصحة هذا الظن ؛ وهل عندهم كتاب من الله يستندون إليه ويعلمون أن لهم في ذلك اليوم ما يشتهون ويختارون ؟ وهل عندهم عهد من الله مستمر وشامل ليوم القيامة بأن لهم فيه ما يبتغون ويحكمون ؟
٤- وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بسؤالهم عمن يضمن لهم ذلك ؛ وعما إذا كانوا يظنون أن شركائهم يفعلون ذلك حقاً، وتحدّ لهم بدعوة هؤلاء الشركاء وطلب نصرتهم إن كانوا صادقين.
٥- وحكاية لما سوف يكون من أمرهم يوم القيامة على سبيل الإنذار والتحدي والتبكيت : فحينما يشتد خطب ذلك اليوم عليهم، وتستدعي حالة الخطر المحيق بهم أن يسارعوا إلى السجود طلباً لغفران الله فلسوف يعجزون ؛ لأنهم أضاعوا الفرصة التي سنحت لهم حينما كانوا يؤمرون بالسجود وهم في متسع من الوقت والسلامة فلا يسجدون، ولسوف تكون أبصارهم حينئذ خاشعة من الرعب والخوف وقد حاقت بهم الذلة والهوان.
والآيات متصلة بالسياق السابق، وهي استمرار له، وتعقيب على المثل المضروب في القصة كما هو المتبادر.
وروح الآيات تلهم أن القصد من المتقين هم الذين آمنوا واستجابوا للدعوة، فوقوا أنفسهم من غضب الله، وأن القصد من المجرمين هم الذين جحدوا وتمردوا وناوأوا. وتلهم كذلك أن الكفار كانوا يزعمون أنهم في عقائدهم وتقاليدهم على حق. ولعل هذا الزعم متصل بما كان العرب يعرفونه ويقولون به من صلة تقاليدهم الدينية بإبراهيم عليه السلام وملته وصحفه.
وورود ضمير الجمع للمخاطب، وأمر النبي عليه السلام بتوجيه الأسئلة والتحدي يمكن أن يلهما أن الموقف كان موقف مواجهة ومناظرة، أو نتج عنه مواجهة ومناظرة وأن الكفار كانوا يصرون على صحة عقائدهم واتصالهم بتعاليم ربانية.
وحكاية مثل هذا الموقف تكررت كثيراً في القرآن ؛ مما يؤيد تكرر مواقف المناظرة والجدل والنقاش والحجاج الوجاهي بين النبي صلى الله عليه وسلم والكفار من حين لآخر، مما هو طبيعي في نشر الدعوة.
والإشارة الخاطفة على الجنات الأخروية يمكن أن تدل على أن ذكرها هنا يأتي لأول مرة. وبهذه المناسبة نقول : إن الجنات في القرآن جعلت عنواناً لما سيناله المؤمنين الصالحون من النعيم في الآخرة. فالناس في الدنيا وخاصة سامعي القرآن الأولين قد اعتادوا أن يجدوا اللذة والمُتعة في الجنات والبساتين، وما فيها من أشجار وأزهار ومياه وظلال وثمار. وفي إقامة مجالس الأكل والشرب واللهو فيها، فاقتضت حكمة الله أن يوعد المؤمنون الصالحون منهم بأحسن ما اعتاد الناس أن يتمتعوا به في الدنيا وتصبوا إليه نفوسهم. وقد وصفت في آيات كثيرة من القرآن بأوصاف وتشبيهات مألوفة في الدنيا تتناولها مفهوماتهم، وتشعر بها حواسهم. ونقول هنا ما قلناه في سياق الحياة الأخروية من أن الإيمان بما جاء في القرآن من مشاهد الجنة والنعيم وكون ذلك في نطاق قدرة الله تعالى واجب مع واجب الإيمان بأنه لا بد من ذكره بالأسلوب الذي ذكر به حكمة ولعل قصد التقريب للأذهان والتأثير في النفوس والتطمين البشري من هذه الحكمة.
ولقد أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم في وصف الجنة ونعيمها وأهلها ومشاهدها أحاديث كثيرا جداً. منها ما ورد في كتب الأحاديث الصحيحة، ومنها ما رواه أئمة معروفون من علماء الحديث. وقد رأينا أن نورد بعض ما ورد في كتب الأحاديث الصحيحة هنا على سبيل التمثيل ونرجئ بعضا آخر إلى مناسبات آتية أكثر ملاءمة. فمن ذلك حديث رواه الترمذي عن أبي هريرة قال :" قلت يا رسول الله ممّا خُلق الخلق ؟ قال : من الماء. قلنا الجنة ما بناؤها ؟ قال : لبنةٌ من فضة ولبنةٌ من ذهب، وملاطها المسك الأذفرُ، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وتربتها الزعفران من دخلها ينعم ولا يبؤُسُ. ويخلد ولا يموت، لا تبلى ثيابهم ولا يفنى شبابهم. ثم قال : ثلاثة لا ترد دعوتهم، الإمام العادل، والصائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم. يرفعها فوق الغمام وتفتح لها أبواب السماء ويقول الرب عزّ وجلّ : وعزتي لأنصرنّك ولو بعد حين " ١. وحديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي سعيد قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الذري الغابر في الأفق. من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم. قالوا : يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم ؟ قال : بلى، والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين " ٢. وحديث رواه الترمذي عن علي قال :" قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن في الجنة لغرفا يرى ظهورها من بطونها وبطونها من ظهورها فقام إليه أعرابي فقال : لمن هي يا رسول الله ؟ قال : هي لمن أطاب الكلامَ وأطعمَ الطعامَ وأدامَ الصّيامَ وَصلى لله بالليل والناس نيامٌ " ٣، وحديث رواه مسلم عن أنس قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن في الجنة لسوقاً يأتونها كل جمعة فتهب ريح الشمال فتحثُو في وجوههم وثيابهم فيزدادُون حسنا وجمالا فيرجعون إلى أهلهم وقد ازدادوا حسنا وجمالا فيقول لهم أهلوهم : والله لقد ازددتم بعدنا حسنا وجمالا. فيقولون : وأنتم والله لقد ازددتم بعدنا حسناً وجمالاً " ٤. وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن في الجنة سوقاً إذا دخلوها نزلوا فيها بفضل أعمالهم ثم يؤذن في مقدار يوم الجمعة من أيام الدنيا فيزورون ربهم ويُبرزُ لهم عرشه ويتبدّى لهم في روضة من رياض الجنة فيوضع لهم منابر من نور ومنابر من لؤلؤ ومنابر من يا قوت ومنابر من زبرجد ومنابر من ذهب ومنابر من فضة ويجلس أدناهم وما فيهم من دنيء على كثبان المسك والكافور وما يرون أن أصحاب الكراسي بأفضل منهم مجلسا " ٥. وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الجنة جرد مرد كحل لا يفنى شبابهم ولا تبلى ثيابهم " ٦. وحديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي هريرة قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر والذين يلونَهم على أشد كوكب دري في السماء إضاءة. لا يبولون ولا يتغوطون ولا يمتخطون ولا يتفلون. أمشاطهم الذهب ورشحهم المسك ومجامرهم الألُوّة. وأزواجهم الحور العين. أخلاقهم على خلق رجل واحد، على صورة أبيهم آدم ستون ذراعا في السماء. وفي رواية ولكل واحد منهم زوجتان يرى مخ ساقهما من وراء اللحم من الحسن. لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم واحدة يسبّحون الله بكرة وعشياً " ٧.
وواضح من هذه الأمثلة أن الأحاديث النبوية في الجنة متساوقة مع الآيات القرآنية الكثيرة في وصف مشاهد الجنة بأحسن المشاهد الدنيوية. والإيمان بما يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك وكونه في نطاق قدرة الله تعالى واجب مثل ما هو واجب بالنسبة للقرآن. مع الإيمان بأنه لا بدّ لذكر ذلك بالأسلوب الذي ذكر به من حكمة. ويلمح في الأحاديث كما يلمح في الآيات أن من تلك الحكمة التبشير والتطمين وإثارة الرغبة في التقرب إلى الله تعالى بصالح الأعمال.
ولقد حاول الأغيار أن يجدوا في جنات القرآن مغمزاً بالدين الإسلامي، بزعم أن ذلك يثير الأنانية والطمع في المسلمين، ويجعلهم لا يفعلون الصالحات إلا رغبة في الأجر الشخصي، ويخرج صفة الحياة الأخروية من نطاقها الروحاني التجريدي. أما إثارة الطمع والأنانية فالبداهة تقتضي بأن تكون الحياة الأخروية وجناتها قاضية عليها ؛ لأن الإنسان الذي يؤمن بأنه إذا آمن واتقى وعمل الصالحات واصلٌ إلى أعلى ما تصبو إليه نفسه من لذة ونعيم في الحياة الأخرى يستطيع أن يوطن النفس على التضحيات المتنوعة في المال والنفس، وعلى القناعة والغيرية وأعمال البر، دون أن ينتظر جزاء مادياً معجلاً في الحياة الدنيا. وأما النطاق الروحاني التجريدي فإن القرآن قد جرى فيما قرره في كل شأن مع طبائع الأمور وحقائقها.
والدين الإسلامي من أجل هذا صح أن يكون دين الخلود والإنسانية العام. وما جاء في القرآن من صفات الجنات ونعيمها قد جرى في هذا النطاق. على أنه لم يقصر ما سوف يتمتع به المؤمن الصالح في الحياة الأخروية على الجنات بل ذكر أيضا ما سوف يناله من رضوان الله الأكبر وقرة العين ومشتهيات النفس وطمأنينتها، بأساليب متنوعة ومواضع عديدة مما هو متسق كذلك مع طبائع الأمور من حيث إن الله يعلم أن هناك من يجد في هذا طمأنينة نفسه وقرة عينه أيضاً، فاحتوى القرآن ما يرضي الماديين والمثاليين معا، كما ترى في آية آل عمران هذه :﴿ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ( ١٥ ) ﴾، وفي آية التوبة هذه :﴿ وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ( ٧٢ ) ﴾. وفي آيات السجدة هذه :﴿ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ( ١٦ ) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ( ١٧ ) ﴾ ( ١٦- ١٧ ). وفي آيات سورة الفجر وهذه :﴿ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ( ٢٧ ) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً ( ٢٨ ) مَّرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي( ٢٩ ) وَادْخُلِي جَنَّتِي( ٣٠ ) ﴾ ( ٢٧- ٣٠ ).
تعليق على كلمة المسلمين
وبمناسبة ورود كلمة المسلمين في الآية ( ٣٥ ) التي صارت علماً على المؤمنين برسالة محمد صلى الله عليه وسلم لأول مرة نقول : إن الكلمة ومشتقاتها ومصدرها قد تكرر كثيراً في القرآن. وقد عنت إسلام النفس لله تعالى جاءت علماً على الدين الصحيح إطلاقاً، ووصف بها الذين يؤمنون بالله وحده وكتبه ورسله إطلاقاً كما جاء في آيات سورة البقرة هذه :﴿ ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ﴾( ١٢٨ ) و﴿ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ( ١٣١ )وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ( ١٣٢ ) أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـهَكَ وَإِلَـهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَـهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ( ١٣٣ ) ﴾ [ ١٣١- ١٣٣ ] و﴿ قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ( ١٣٦ ) فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ( ١٣٧ ) ﴾ [ ١٣٦- ١٣٧ ]، وآيات سورة آل عمران هذه :﴿ إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ( ١٩ ) فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ( ٢٠ ) ﴾[ ١٩- ٢٠ ]، و﴿ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ( ٨٥ ) ﴾.
فكل من تجرد عما سوى الله وحده وتحرر من الخضوع لغيره وأسلم وجهه ونفسه وانقاد له ولزم حدوده فهو مسلم. وفي هذا المعنى من الروعة والنفوذ والعمق في مجال توحيد الله والإخلاص له والتفاني فيه، وتحرر النفس من غيره ما هو واضح، وما يثير في أتباع محمد صلى الله عليه وسلم الاعتزاز بهذا المعنى للإسلام الذي أصبح علماً عليهم منذ العهد النبوي إلى أبد الآبدين.
أما علمية كلمة ( المسلمين ) عليهم فقد تقررت فيما نعتقد بعد نزول آية الحج هذه :﴿ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ( ٧٨ ) ﴾. وهذه
في هذه الآيات :
١- تقرير تبشيري بما للمتقين المصدقين عند ربهم من النعيم في جناته.
٢- تساؤل على سبيل الإنكار عما إذا كان يصح أن يجعل الله المسلمين كالمجرمين في اليوم الآخر.
٣- أسئلة فيها تحد وتهكم موجهة للمكذبين : فهل يظنون أن الله حقا يمكن أن يجعل المسلمين كالمجرمين ؟ وبأي وجه يحكمون بصحة هذا الظن ؛ وهل عندهم كتاب من الله يستندون إليه ويعلمون أن لهم في ذلك اليوم ما يشتهون ويختارون ؟ وهل عندهم عهد من الله مستمر وشامل ليوم القيامة بأن لهم فيه ما يبتغون ويحكمون ؟
٤- وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بسؤالهم عمن يضمن لهم ذلك ؛ وعما إذا كانوا يظنون أن شركائهم يفعلون ذلك حقاً، وتحدّ لهم بدعوة هؤلاء الشركاء وطلب نصرتهم إن كانوا صادقين.
٥- وحكاية لما سوف يكون من أمرهم يوم القيامة على سبيل الإنذار والتحدي والتبكيت : فحينما يشتد خطب ذلك اليوم عليهم، وتستدعي حالة الخطر المحيق بهم أن يسارعوا إلى السجود طلباً لغفران الله فلسوف يعجزون ؛ لأنهم أضاعوا الفرصة التي سنحت لهم حينما كانوا يؤمرون بالسجود وهم في متسع من الوقت والسلامة فلا يسجدون، ولسوف تكون أبصارهم حينئذ خاشعة من الرعب والخوف وقد حاقت بهم الذلة والهوان.
والآيات متصلة بالسياق السابق، وهي استمرار له، وتعقيب على المثل المضروب في القصة كما هو المتبادر.
وروح الآيات تلهم أن القصد من المتقين هم الذين آمنوا واستجابوا للدعوة، فوقوا أنفسهم من غضب الله، وأن القصد من المجرمين هم الذين جحدوا وتمردوا وناوأوا. وتلهم كذلك أن الكفار كانوا يزعمون أنهم في عقائدهم وتقاليدهم على حق. ولعل هذا الزعم متصل بما كان العرب يعرفونه ويقولون به من صلة تقاليدهم الدينية بإبراهيم عليه السلام وملته وصحفه.
وورود ضمير الجمع للمخاطب، وأمر النبي عليه السلام بتوجيه الأسئلة والتحدي يمكن أن يلهما أن الموقف كان موقف مواجهة ومناظرة، أو نتج عنه مواجهة ومناظرة وأن الكفار كانوا يصرون على صحة عقائدهم واتصالهم بتعاليم ربانية.
وحكاية مثل هذا الموقف تكررت كثيراً في القرآن ؛ مما يؤيد تكرر مواقف المناظرة والجدل والنقاش والحجاج الوجاهي بين النبي صلى الله عليه وسلم والكفار من حين لآخر، مما هو طبيعي في نشر الدعوة.
والإشارة الخاطفة على الجنات الأخروية يمكن أن تدل على أن ذكرها هنا يأتي لأول مرة. وبهذه المناسبة نقول : إن الجنات في القرآن جعلت عنواناً لما سيناله المؤمنين الصالحون من النعيم في الآخرة. فالناس في الدنيا وخاصة سامعي القرآن الأولين قد اعتادوا أن يجدوا اللذة والمُتعة في الجنات والبساتين، وما فيها من أشجار وأزهار ومياه وظلال وثمار. وفي إقامة مجالس الأكل والشرب واللهو فيها، فاقتضت حكمة الله أن يوعد المؤمنون الصالحون منهم بأحسن ما اعتاد الناس أن يتمتعوا به في الدنيا وتصبوا إليه نفوسهم. وقد وصفت في آيات كثيرة من القرآن بأوصاف وتشبيهات مألوفة في الدنيا تتناولها مفهوماتهم، وتشعر بها حواسهم. ونقول هنا ما قلناه في سياق الحياة الأخروية من أن الإيمان بما جاء في القرآن من مشاهد الجنة والنعيم وكون ذلك في نطاق قدرة الله تعالى واجب مع واجب الإيمان بأنه لا بد من ذكره بالأسلوب الذي ذكر به حكمة ولعل قصد التقريب للأذهان والتأثير في النفوس والتطمين البشري من هذه الحكمة.
ولقد أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم في وصف الجنة ونعيمها وأهلها ومشاهدها أحاديث كثيرا جداً. منها ما ورد في كتب الأحاديث الصحيحة، ومنها ما رواه أئمة معروفون من علماء الحديث. وقد رأينا أن نورد بعض ما ورد في كتب الأحاديث الصحيحة هنا على سبيل التمثيل ونرجئ بعضا آخر إلى مناسبات آتية أكثر ملاءمة. فمن ذلك حديث رواه الترمذي عن أبي هريرة قال :" قلت يا رسول الله ممّا خُلق الخلق ؟ قال : من الماء. قلنا الجنة ما بناؤها ؟ قال : لبنةٌ من فضة ولبنةٌ من ذهب، وملاطها المسك الأذفرُ، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وتربتها الزعفران من دخلها ينعم ولا يبؤُسُ. ويخلد ولا يموت، لا تبلى ثيابهم ولا يفنى شبابهم. ثم قال : ثلاثة لا ترد دعوتهم، الإمام العادل، والصائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم. يرفعها فوق الغمام وتفتح لها أبواب السماء ويقول الرب عزّ وجلّ : وعزتي لأنصرنّك ولو بعد حين " ١. وحديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي سعيد قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الذري الغابر في الأفق. من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم. قالوا : يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم ؟ قال : بلى، والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين " ٢. وحديث رواه الترمذي عن علي قال :" قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن في الجنة لغرفا يرى ظهورها من بطونها وبطونها من ظهورها فقام إليه أعرابي فقال : لمن هي يا رسول الله ؟ قال : هي لمن أطاب الكلامَ وأطعمَ الطعامَ وأدامَ الصّيامَ وَصلى لله بالليل والناس نيامٌ " ٣، وحديث رواه مسلم عن أنس قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن في الجنة لسوقاً يأتونها كل جمعة فتهب ريح الشمال فتحثُو في وجوههم وثيابهم فيزدادُون حسنا وجمالا فيرجعون إلى أهلهم وقد ازدادوا حسنا وجمالا فيقول لهم أهلوهم : والله لقد ازددتم بعدنا حسنا وجمالا. فيقولون : وأنتم والله لقد ازددتم بعدنا حسناً وجمالاً " ٤. وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن في الجنة سوقاً إذا دخلوها نزلوا فيها بفضل أعمالهم ثم يؤذن في مقدار يوم الجمعة من أيام الدنيا فيزورون ربهم ويُبرزُ لهم عرشه ويتبدّى لهم في روضة من رياض الجنة فيوضع لهم منابر من نور ومنابر من لؤلؤ ومنابر من يا قوت ومنابر من زبرجد ومنابر من ذهب ومنابر من فضة ويجلس أدناهم وما فيهم من دنيء على كثبان المسك والكافور وما يرون أن أصحاب الكراسي بأفضل منهم مجلسا " ٥. وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الجنة جرد مرد كحل لا يفنى شبابهم ولا تبلى ثيابهم " ٦. وحديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي هريرة قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر والذين يلونَهم على أشد كوكب دري في السماء إضاءة. لا يبولون ولا يتغوطون ولا يمتخطون ولا يتفلون. أمشاطهم الذهب ورشحهم المسك ومجامرهم الألُوّة. وأزواجهم الحور العين. أخلاقهم على خلق رجل واحد، على صورة أبيهم آدم ستون ذراعا في السماء. وفي رواية ولكل واحد منهم زوجتان يرى مخ ساقهما من وراء اللحم من الحسن. لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم واحدة يسبّحون الله بكرة وعشياً " ٧.
وواضح من هذه الأمثلة أن الأحاديث النبوية في الجنة متساوقة مع الآيات القرآنية الكثيرة في وصف مشاهد الجنة بأحسن المشاهد الدنيوية. والإيمان بما يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك وكونه في نطاق قدرة الله تعالى واجب مثل ما هو واجب بالنسبة للقرآن. مع الإيمان بأنه لا بدّ لذكر ذلك بالأسلوب الذي ذكر به من حكمة. ويلمح في الأحاديث كما يلمح في الآيات أن من تلك الحكمة التبشير والتطمين وإثارة الرغبة في التقرب إلى الله تعالى بصالح الأعمال.
ولقد حاول الأغيار أن يجدوا في جنات القرآن مغمزاً بالدين الإسلامي، بزعم أن ذلك يثير الأنانية والطمع في المسلمين، ويجعلهم لا يفعلون الصالحات إلا رغبة في الأجر الشخصي، ويخرج صفة الحياة الأخروية من نطاقها الروحاني التجريدي. أما إثارة الطمع والأنانية فالبداهة تقتضي بأن تكون الحياة الأخروية وجناتها قاضية عليها ؛ لأن الإنسان الذي يؤمن بأنه إذا آمن واتقى وعمل الصالحات واصلٌ إلى أعلى ما تصبو إليه نفسه من لذة ونعيم في الحياة الأخرى يستطيع أن يوطن النفس على التضحيات المتنوعة في المال والنفس، وعلى القناعة والغيرية وأعمال البر، دون أن ينتظر جزاء مادياً معجلاً في الحياة الدنيا. وأما النطاق الروحاني التجريدي فإن القرآن قد جرى فيما قرره في كل شأن مع طبائع الأمور وحقائقها.
والدين الإسلامي من أجل هذا صح أن يكون دين الخلود والإنسانية العام. وما جاء في القرآن من صفات الجنات ونعيمها قد جرى في هذا النطاق. على أنه لم يقصر ما سوف يتمتع به المؤمن الصالح في الحياة الأخروية على الجنات بل ذكر أيضا ما سوف يناله من رضوان الله الأكبر وقرة العين ومشتهيات النفس وطمأنينتها، بأساليب متنوعة ومواضع عديدة مما هو متسق كذلك مع طبائع الأمور من حيث إن الله يعلم أن هناك من يجد في هذا طمأنينة نفسه وقرة عينه أيضاً، فاحتوى القرآن ما يرضي الماديين والمثاليين معا، كما ترى في آية آل عمران هذه :﴿ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ( ١٥ ) ﴾، وفي آية التوبة هذه :﴿ وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ( ٧٢ ) ﴾. وفي آيات السجدة هذه :﴿ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ( ١٦ ) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ( ١٧ ) ﴾ ( ١٦- ١٧ ). وفي آيات سورة الفجر وهذه :﴿ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ( ٢٧ ) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً ( ٢٨ ) مَّرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي( ٢٩ ) وَادْخُلِي جَنَّتِي( ٣٠ ) ﴾ ( ٢٧- ٣٠ ).
تعليق على كلمة المسلمين
وبمناسبة ورود كلمة المسلمين في الآية ( ٣٥ ) التي صارت علماً على المؤمنين برسالة محمد صلى الله عليه وسلم لأول مرة نقول : إن الكلمة ومشتقاتها ومصدرها قد تكرر كثيراً في القرآن. وقد عنت إسلام النفس لله تعالى جاءت علماً على الدين الصحيح إطلاقاً، ووصف بها الذين يؤمنون بالله وحده وكتبه ورسله إطلاقاً كما جاء في آيات سورة البقرة هذه :﴿ ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ﴾( ١٢٨ ) و﴿ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ( ١٣١ )وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ( ١٣٢ ) أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـهَكَ وَإِلَـهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَـهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ( ١٣٣ ) ﴾ [ ١٣١- ١٣٣ ] و﴿ قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ( ١٣٦ ) فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ( ١٣٧ ) ﴾ [ ١٣٦- ١٣٧ ]، وآيات سورة آل عمران هذه :﴿ إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ( ١٩ ) فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ( ٢٠ ) ﴾[ ١٩- ٢٠ ]، و﴿ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ( ٨٥ ) ﴾.
فكل من تجرد عما سوى الله وحده وتحرر من الخضوع لغيره وأسلم وجهه ونفسه وانقاد له ولزم حدوده فهو مسلم. وفي هذا المعنى من الروعة والنفوذ والعمق في مجال توحيد الله والإخلاص له والتفاني فيه، وتحرر النفس من غيره ما هو واضح، وما يثير في أتباع محمد صلى الله عليه وسلم الاعتزاز بهذا المعنى للإسلام الذي أصبح علماً عليهم منذ العهد النبوي إلى أبد الآبدين.
أما علمية كلمة ( المسلمين ) عليهم فقد تقررت فيما نعتقد بعد نزول آية الحج هذه :﴿ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ( ٧٨ ) ﴾. وهذه
في هذه الآيات :
١- تقرير تبشيري بما للمتقين المصدقين عند ربهم من النعيم في جناته.
٢- تساؤل على سبيل الإنكار عما إذا كان يصح أن يجعل الله المسلمين كالمجرمين في اليوم الآخر.
٣- أسئلة فيها تحد وتهكم موجهة للمكذبين : فهل يظنون أن الله حقا يمكن أن يجعل المسلمين كالمجرمين ؟ وبأي وجه يحكمون بصحة هذا الظن ؛ وهل عندهم كتاب من الله يستندون إليه ويعلمون أن لهم في ذلك اليوم ما يشتهون ويختارون ؟ وهل عندهم عهد من الله مستمر وشامل ليوم القيامة بأن لهم فيه ما يبتغون ويحكمون ؟
٤- وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بسؤالهم عمن يضمن لهم ذلك ؛ وعما إذا كانوا يظنون أن شركائهم يفعلون ذلك حقاً، وتحدّ لهم بدعوة هؤلاء الشركاء وطلب نصرتهم إن كانوا صادقين.
٥- وحكاية لما سوف يكون من أمرهم يوم القيامة على سبيل الإنذار والتحدي والتبكيت : فحينما يشتد خطب ذلك اليوم عليهم، وتستدعي حالة الخطر المحيق بهم أن يسارعوا إلى السجود طلباً لغفران الله فلسوف يعجزون ؛ لأنهم أضاعوا الفرصة التي سنحت لهم حينما كانوا يؤمرون بالسجود وهم في متسع من الوقت والسلامة فلا يسجدون، ولسوف تكون أبصارهم حينئذ خاشعة من الرعب والخوف وقد حاقت بهم الذلة والهوان.
والآيات متصلة بالسياق السابق، وهي استمرار له، وتعقيب على المثل المضروب في القصة كما هو المتبادر.
وروح الآيات تلهم أن القصد من المتقين هم الذين آمنوا واستجابوا للدعوة، فوقوا أنفسهم من غضب الله، وأن القصد من المجرمين هم الذين جحدوا وتمردوا وناوأوا. وتلهم كذلك أن الكفار كانوا يزعمون أنهم في عقائدهم وتقاليدهم على حق. ولعل هذا الزعم متصل بما كان العرب يعرفونه ويقولون به من صلة تقاليدهم الدينية بإبراهيم عليه السلام وملته وصحفه.
وورود ضمير الجمع للمخاطب، وأمر النبي عليه السلام بتوجيه الأسئلة والتحدي يمكن أن يلهما أن الموقف كان موقف مواجهة ومناظرة، أو نتج عنه مواجهة ومناظرة وأن الكفار كانوا يصرون على صحة عقائدهم واتصالهم بتعاليم ربانية.
وحكاية مثل هذا الموقف تكررت كثيراً في القرآن ؛ مما يؤيد تكرر مواقف المناظرة والجدل والنقاش والحجاج الوجاهي بين النبي صلى الله عليه وسلم والكفار من حين لآخر، مما هو طبيعي في نشر الدعوة.
والإشارة الخاطفة على الجنات الأخروية يمكن أن تدل على أن ذكرها هنا يأتي لأول مرة. وبهذه المناسبة نقول : إن الجنات في القرآن جعلت عنواناً لما سيناله المؤمنين الصالحون من النعيم في الآخرة. فالناس في الدنيا وخاصة سامعي القرآن الأولين قد اعتادوا أن يجدوا اللذة والمُتعة في الجنات والبساتين، وما فيها من أشجار وأزهار ومياه وظلال وثمار. وفي إقامة مجالس الأكل والشرب واللهو فيها، فاقتضت حكمة الله أن يوعد المؤمنون الصالحون منهم بأحسن ما اعتاد الناس أن يتمتعوا به في الدنيا وتصبوا إليه نفوسهم. وقد وصفت في آيات كثيرة من القرآن بأوصاف وتشبيهات مألوفة في الدنيا تتناولها مفهوماتهم، وتشعر بها حواسهم. ونقول هنا ما قلناه في سياق الحياة الأخروية من أن الإيمان بما جاء في القرآن من مشاهد الجنة والنعيم وكون ذلك في نطاق قدرة الله تعالى واجب مع واجب الإيمان بأنه لا بد من ذكره بالأسلوب الذي ذكر به حكمة ولعل قصد التقريب للأذهان والتأثير في النفوس والتطمين البشري من هذه الحكمة.
ولقد أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم في وصف الجنة ونعيمها وأهلها ومشاهدها أحاديث كثيرا جداً. منها ما ورد في كتب الأحاديث الصحيحة، ومنها ما رواه أئمة معروفون من علماء الحديث. وقد رأينا أن نورد بعض ما ورد في كتب الأحاديث الصحيحة هنا على سبيل التمثيل ونرجئ بعضا آخر إلى مناسبات آتية أكثر ملاءمة. فمن ذلك حديث رواه الترمذي عن أبي هريرة قال :" قلت يا رسول الله ممّا خُلق الخلق ؟ قال : من الماء. قلنا الجنة ما بناؤها ؟ قال : لبنةٌ من فضة ولبنةٌ من ذهب، وملاطها المسك الأذفرُ، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وتربتها الزعفران من دخلها ينعم ولا يبؤُسُ. ويخلد ولا يموت، لا تبلى ثيابهم ولا يفنى شبابهم. ثم قال : ثلاثة لا ترد دعوتهم، الإمام العادل، والصائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم. يرفعها فوق الغمام وتفتح لها أبواب السماء ويقول الرب عزّ وجلّ : وعزتي لأنصرنّك ولو بعد حين " ١. وحديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي سعيد قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الذري الغابر في الأفق. من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم. قالوا : يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم ؟ قال : بلى، والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين " ٢. وحديث رواه الترمذي عن علي قال :" قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن في الجنة لغرفا يرى ظهورها من بطونها وبطونها من ظهورها فقام إليه أعرابي فقال : لمن هي يا رسول الله ؟ قال : هي لمن أطاب الكلامَ وأطعمَ الطعامَ وأدامَ الصّيامَ وَصلى لله بالليل والناس نيامٌ " ٣، وحديث رواه مسلم عن أنس قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن في الجنة لسوقاً يأتونها كل جمعة فتهب ريح الشمال فتحثُو في وجوههم وثيابهم فيزدادُون حسنا وجمالا فيرجعون إلى أهلهم وقد ازدادوا حسنا وجمالا فيقول لهم أهلوهم : والله لقد ازددتم بعدنا حسنا وجمالا. فيقولون : وأنتم والله لقد ازددتم بعدنا حسناً وجمالاً " ٤. وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن في الجنة سوقاً إذا دخلوها نزلوا فيها بفضل أعمالهم ثم يؤذن في مقدار يوم الجمعة من أيام الدنيا فيزورون ربهم ويُبرزُ لهم عرشه ويتبدّى لهم في روضة من رياض الجنة فيوضع لهم منابر من نور ومنابر من لؤلؤ ومنابر من يا قوت ومنابر من زبرجد ومنابر من ذهب ومنابر من فضة ويجلس أدناهم وما فيهم من دنيء على كثبان المسك والكافور وما يرون أن أصحاب الكراسي بأفضل منهم مجلسا " ٥. وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الجنة جرد مرد كحل لا يفنى شبابهم ولا تبلى ثيابهم " ٦. وحديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي هريرة قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر والذين يلونَهم على أشد كوكب دري في السماء إضاءة. لا يبولون ولا يتغوطون ولا يمتخطون ولا يتفلون. أمشاطهم الذهب ورشحهم المسك ومجامرهم الألُوّة. وأزواجهم الحور العين. أخلاقهم على خلق رجل واحد، على صورة أبيهم آدم ستون ذراعا في السماء. وفي رواية ولكل واحد منهم زوجتان يرى مخ ساقهما من وراء اللحم من الحسن. لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم واحدة يسبّحون الله بكرة وعشياً " ٧.
وواضح من هذه الأمثلة أن الأحاديث النبوية في الجنة متساوقة مع الآيات القرآنية الكثيرة في وصف مشاهد الجنة بأحسن المشاهد الدنيوية. والإيمان بما يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك وكونه في نطاق قدرة الله تعالى واجب مثل ما هو واجب بالنسبة للقرآن. مع الإيمان بأنه لا بدّ لذكر ذلك بالأسلوب الذي ذكر به من حكمة. ويلمح في الأحاديث كما يلمح في الآيات أن من تلك الحكمة التبشير والتطمين وإثارة الرغبة في التقرب إلى الله تعالى بصالح الأعمال.
ولقد حاول الأغيار أن يجدوا في جنات القرآن مغمزاً بالدين الإسلامي، بزعم أن ذلك يثير الأنانية والطمع في المسلمين، ويجعلهم لا يفعلون الصالحات إلا رغبة في الأجر الشخصي، ويخرج صفة الحياة الأخروية من نطاقها الروحاني التجريدي. أما إثارة الطمع والأنانية فالبداهة تقتضي بأن تكون الحياة الأخروية وجناتها قاضية عليها ؛ لأن الإنسان الذي يؤمن بأنه إذا آمن واتقى وعمل الصالحات واصلٌ إلى أعلى ما تصبو إليه نفسه من لذة ونعيم في الحياة الأخرى يستطيع أن يوطن النفس على التضحيات المتنوعة في المال والنفس، وعلى القناعة والغيرية وأعمال البر، دون أن ينتظر جزاء مادياً معجلاً في الحياة الدنيا. وأما النطاق الروحاني التجريدي فإن القرآن قد جرى فيما قرره في كل شأن مع طبائع الأمور وحقائقها.
والدين الإسلامي من أجل هذا صح أن يكون دين الخلود والإنسانية العام. وما جاء في القرآن من صفات الجنات ونعيمها قد جرى في هذا النطاق. على أنه لم يقصر ما سوف يتمتع به المؤمن الصالح في الحياة الأخروية على الجنات بل ذكر أيضا ما سوف يناله من رضوان الله الأكبر وقرة العين ومشتهيات النفس وطمأنينتها، بأساليب متنوعة ومواضع عديدة مما هو متسق كذلك مع طبائع الأمور من حيث إن الله يعلم أن هناك من يجد في هذا طمأنينة نفسه وقرة عينه أيضاً، فاحتوى القرآن ما يرضي الماديين والمثاليين معا، كما ترى في آية آل عمران هذه :﴿ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ( ١٥ ) ﴾، وفي آية التوبة هذه :﴿ وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ( ٧٢ ) ﴾. وفي آيات السجدة هذه :﴿ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ( ١٦ ) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ( ١٧ ) ﴾ ( ١٦- ١٧ ). وفي آيات سورة الفجر وهذه :﴿ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ( ٢٧ ) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً ( ٢٨ ) مَّرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي( ٢٩ ) وَادْخُلِي جَنَّتِي( ٣٠ ) ﴾ ( ٢٧- ٣٠ ).
تعليق على كلمة المسلمين
وبمناسبة ورود كلمة المسلمين في الآية ( ٣٥ ) التي صارت علماً على المؤمنين برسالة محمد صلى الله عليه وسلم لأول مرة نقول : إن الكلمة ومشتقاتها ومصدرها قد تكرر كثيراً في القرآن. وقد عنت إسلام النفس لله تعالى جاءت علماً على الدين الصحيح إطلاقاً، ووصف بها الذين يؤمنون بالله وحده وكتبه ورسله إطلاقاً كما جاء في آيات سورة البقرة هذه :﴿ ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ﴾( ١٢٨ ) و﴿ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ( ١٣١ )وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ( ١٣٢ ) أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـهَكَ وَإِلَـهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَـهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ( ١٣٣ ) ﴾ [ ١٣١- ١٣٣ ] و﴿ قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ( ١٣٦ ) فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ( ١٣٧ ) ﴾ [ ١٣٦- ١٣٧ ]، وآيات سورة آل عمران هذه :﴿ إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ( ١٩ ) فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ( ٢٠ ) ﴾[ ١٩- ٢٠ ]، و﴿ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ( ٨٥ ) ﴾.
فكل من تجرد عما سوى الله وحده وتحرر من الخضوع لغيره وأسلم وجهه ونفسه وانقاد له ولزم حدوده فهو مسلم. وفي هذا المعنى من الروعة والنفوذ والعمق في مجال توحيد الله والإخلاص له والتفاني فيه، وتحرر النفس من غيره ما هو واضح، وما يثير في أتباع محمد صلى الله عليه وسلم الاعتزاز بهذا المعنى للإسلام الذي أصبح علماً عليهم منذ العهد النبوي إلى أبد الآبدين.
أما علمية كلمة ( المسلمين ) عليهم فقد تقررت فيما نعتقد بعد نزول آية الحج هذه :﴿ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ( ٧٨ ) ﴾. وهذه
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٤:﴿ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ( ٣٤ ) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ( ٣٥ ) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ( ٣٦ ) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ ١( ٣٧ ) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ٢ ( ٣٨ ) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ٣( ٣٩ ) سَلْهُم أَيُّهُم بِذَلِكَ زَعِيمٌ ٤ ( ٤٠ ) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِن كَانُوا صَادِقِينَ( ٤١ ) يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ ٥ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ ( ٤٢ ) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ٦ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ( ٤٣ ) ﴾ ( ٣٤- ٤٣ ).
في هذه الآيات :
١- تقرير تبشيري بما للمتقين المصدقين عند ربهم من النعيم في جناته.
٢- تساؤل على سبيل الإنكار عما إذا كان يصح أن يجعل الله المسلمين كالمجرمين في اليوم الآخر.
٣- أسئلة فيها تحد وتهكم موجهة للمكذبين : فهل يظنون أن الله حقا يمكن أن يجعل المسلمين كالمجرمين ؟ وبأي وجه يحكمون بصحة هذا الظن ؛ وهل عندهم كتاب من الله يستندون إليه ويعلمون أن لهم في ذلك اليوم ما يشتهون ويختارون ؟ وهل عندهم عهد من الله مستمر وشامل ليوم القيامة بأن لهم فيه ما يبتغون ويحكمون ؟
٤- وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بسؤالهم عمن يضمن لهم ذلك ؛ وعما إذا كانوا يظنون أن شركائهم يفعلون ذلك حقاً، وتحدّ لهم بدعوة هؤلاء الشركاء وطلب نصرتهم إن كانوا صادقين.
٥- وحكاية لما سوف يكون من أمرهم يوم القيامة على سبيل الإنذار والتحدي والتبكيت : فحينما يشتد خطب ذلك اليوم عليهم، وتستدعي حالة الخطر المحيق بهم أن يسارعوا إلى السجود طلباً لغفران الله فلسوف يعجزون ؛ لأنهم أضاعوا الفرصة التي سنحت لهم حينما كانوا يؤمرون بالسجود وهم في متسع من الوقت والسلامة فلا يسجدون، ولسوف تكون أبصارهم حينئذ خاشعة من الرعب والخوف وقد حاقت بهم الذلة والهوان.
والآيات متصلة بالسياق السابق، وهي استمرار له، وتعقيب على المثل المضروب في القصة كما هو المتبادر.
وروح الآيات تلهم أن القصد من المتقين هم الذين آمنوا واستجابوا للدعوة، فوقوا أنفسهم من غضب الله، وأن القصد من المجرمين هم الذين جحدوا وتمردوا وناوأوا. وتلهم كذلك أن الكفار كانوا يزعمون أنهم في عقائدهم وتقاليدهم على حق. ولعل هذا الزعم متصل بما كان العرب يعرفونه ويقولون به من صلة تقاليدهم الدينية بإبراهيم عليه السلام وملته وصحفه.
وورود ضمير الجمع للمخاطب، وأمر النبي عليه السلام بتوجيه الأسئلة والتحدي يمكن أن يلهما أن الموقف كان موقف مواجهة ومناظرة، أو نتج عنه مواجهة ومناظرة وأن الكفار كانوا يصرون على صحة عقائدهم واتصالهم بتعاليم ربانية.
وحكاية مثل هذا الموقف تكررت كثيراً في القرآن ؛ مما يؤيد تكرر مواقف المناظرة والجدل والنقاش والحجاج الوجاهي بين النبي صلى الله عليه وسلم والكفار من حين لآخر، مما هو طبيعي في نشر الدعوة.
والإشارة الخاطفة على الجنات الأخروية يمكن أن تدل على أن ذكرها هنا يأتي لأول مرة. وبهذه المناسبة نقول : إن الجنات في القرآن جعلت عنواناً لما سيناله المؤمنين الصالحون من النعيم في الآخرة. فالناس في الدنيا وخاصة سامعي القرآن الأولين قد اعتادوا أن يجدوا اللذة والمُتعة في الجنات والبساتين، وما فيها من أشجار وأزهار ومياه وظلال وثمار. وفي إقامة مجالس الأكل والشرب واللهو فيها، فاقتضت حكمة الله أن يوعد المؤمنون الصالحون منهم بأحسن ما اعتاد الناس أن يتمتعوا به في الدنيا وتصبوا إليه نفوسهم. وقد وصفت في آيات كثيرة من القرآن بأوصاف وتشبيهات مألوفة في الدنيا تتناولها مفهوماتهم، وتشعر بها حواسهم. ونقول هنا ما قلناه في سياق الحياة الأخروية من أن الإيمان بما جاء في القرآن من مشاهد الجنة والنعيم وكون ذلك في نطاق قدرة الله تعالى واجب مع واجب الإيمان بأنه لا بد من ذكره بالأسلوب الذي ذكر به حكمة ولعل قصد التقريب للأذهان والتأثير في النفوس والتطمين البشري من هذه الحكمة.
ولقد أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم في وصف الجنة ونعيمها وأهلها ومشاهدها أحاديث كثيرا جداً. منها ما ورد في كتب الأحاديث الصحيحة، ومنها ما رواه أئمة معروفون من علماء الحديث. وقد رأينا أن نورد بعض ما ورد في كتب الأحاديث الصحيحة هنا على سبيل التمثيل ونرجئ بعضا آخر إلى مناسبات آتية أكثر ملاءمة. فمن ذلك حديث رواه الترمذي عن أبي هريرة قال :" قلت يا رسول الله ممّا خُلق الخلق ؟ قال : من الماء. قلنا الجنة ما بناؤها ؟ قال : لبنةٌ من فضة ولبنةٌ من ذهب، وملاطها المسك الأذفرُ، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وتربتها الزعفران من دخلها ينعم ولا يبؤُسُ. ويخلد ولا يموت، لا تبلى ثيابهم ولا يفنى شبابهم. ثم قال : ثلاثة لا ترد دعوتهم، الإمام العادل، والصائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم. يرفعها فوق الغمام وتفتح لها أبواب السماء ويقول الرب عزّ وجلّ : وعزتي لأنصرنّك ولو بعد حين " ١. وحديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي سعيد قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الذري الغابر في الأفق. من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم. قالوا : يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم ؟ قال : بلى، والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين " ٢. وحديث رواه الترمذي عن علي قال :" قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن في الجنة لغرفا يرى ظهورها من بطونها وبطونها من ظهورها فقام إليه أعرابي فقال : لمن هي يا رسول الله ؟ قال : هي لمن أطاب الكلامَ وأطعمَ الطعامَ وأدامَ الصّيامَ وَصلى لله بالليل والناس نيامٌ " ٣، وحديث رواه مسلم عن أنس قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن في الجنة لسوقاً يأتونها كل جمعة فتهب ريح الشمال فتحثُو في وجوههم وثيابهم فيزدادُون حسنا وجمالا فيرجعون إلى أهلهم وقد ازدادوا حسنا وجمالا فيقول لهم أهلوهم : والله لقد ازددتم بعدنا حسنا وجمالا. فيقولون : وأنتم والله لقد ازددتم بعدنا حسناً وجمالاً " ٤. وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن في الجنة سوقاً إذا دخلوها نزلوا فيها بفضل أعمالهم ثم يؤذن في مقدار يوم الجمعة من أيام الدنيا فيزورون ربهم ويُبرزُ لهم عرشه ويتبدّى لهم في روضة من رياض الجنة فيوضع لهم منابر من نور ومنابر من لؤلؤ ومنابر من يا قوت ومنابر من زبرجد ومنابر من ذهب ومنابر من فضة ويجلس أدناهم وما فيهم من دنيء على كثبان المسك والكافور وما يرون أن أصحاب الكراسي بأفضل منهم مجلسا " ٥. وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الجنة جرد مرد كحل لا يفنى شبابهم ولا تبلى ثيابهم " ٦. وحديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي هريرة قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر والذين يلونَهم على أشد كوكب دري في السماء إضاءة. لا يبولون ولا يتغوطون ولا يمتخطون ولا يتفلون. أمشاطهم الذهب ورشحهم المسك ومجامرهم الألُوّة. وأزواجهم الحور العين. أخلاقهم على خلق رجل واحد، على صورة أبيهم آدم ستون ذراعا في السماء. وفي رواية ولكل واحد منهم زوجتان يرى مخ ساقهما من وراء اللحم من الحسن. لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم واحدة يسبّحون الله بكرة وعشياً " ٧.
وواضح من هذه الأمثلة أن الأحاديث النبوية في الجنة متساوقة مع الآيات القرآنية الكثيرة في وصف مشاهد الجنة بأحسن المشاهد الدنيوية. والإيمان بما يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك وكونه في نطاق قدرة الله تعالى واجب مثل ما هو واجب بالنسبة للقرآن. مع الإيمان بأنه لا بدّ لذكر ذلك بالأسلوب الذي ذكر به من حكمة. ويلمح في الأحاديث كما يلمح في الآيات أن من تلك الحكمة التبشير والتطمين وإثارة الرغبة في التقرب إلى الله تعالى بصالح الأعمال.
ولقد حاول الأغيار أن يجدوا في جنات القرآن مغمزاً بالدين الإسلامي، بزعم أن ذلك يثير الأنانية والطمع في المسلمين، ويجعلهم لا يفعلون الصالحات إلا رغبة في الأجر الشخصي، ويخرج صفة الحياة الأخروية من نطاقها الروحاني التجريدي. أما إثارة الطمع والأنانية فالبداهة تقتضي بأن تكون الحياة الأخروية وجناتها قاضية عليها ؛ لأن الإنسان الذي يؤمن بأنه إذا آمن واتقى وعمل الصالحات واصلٌ إلى أعلى ما تصبو إليه نفسه من لذة ونعيم في الحياة الأخرى يستطيع أن يوطن النفس على التضحيات المتنوعة في المال والنفس، وعلى القناعة والغيرية وأعمال البر، دون أن ينتظر جزاء مادياً معجلاً في الحياة الدنيا. وأما النطاق الروحاني التجريدي فإن القرآن قد جرى فيما قرره في كل شأن مع طبائع الأمور وحقائقها.
والدين الإسلامي من أجل هذا صح أن يكون دين الخلود والإنسانية العام. وما جاء في القرآن من صفات الجنات ونعيمها قد جرى في هذا النطاق. على أنه لم يقصر ما سوف يتمتع به المؤمن الصالح في الحياة الأخروية على الجنات بل ذكر أيضا ما سوف يناله من رضوان الله الأكبر وقرة العين ومشتهيات النفس وطمأنينتها، بأساليب متنوعة ومواضع عديدة مما هو متسق كذلك مع طبائع الأمور من حيث إن الله يعلم أن هناك من يجد في هذا طمأنينة نفسه وقرة عينه أيضاً، فاحتوى القرآن ما يرضي الماديين والمثاليين معا، كما ترى في آية آل عمران هذه :﴿ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ( ١٥ ) ﴾، وفي آية التوبة هذه :﴿ وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ( ٧٢ ) ﴾. وفي آيات السجدة هذه :﴿ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ( ١٦ ) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ( ١٧ ) ﴾ ( ١٦- ١٧ ). وفي آيات سورة الفجر وهذه :﴿ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ( ٢٧ ) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً ( ٢٨ ) مَّرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي( ٢٩ ) وَادْخُلِي جَنَّتِي( ٣٠ ) ﴾ ( ٢٧- ٣٠ ).
تعليق على كلمة المسلمين
وبمناسبة ورود كلمة المسلمين في الآية ( ٣٥ ) التي صارت علماً على المؤمنين برسالة محمد صلى الله عليه وسلم لأول مرة نقول : إن الكلمة ومشتقاتها ومصدرها قد تكرر كثيراً في القرآن. وقد عنت إسلام النفس لله تعالى جاءت علماً على الدين الصحيح إطلاقاً، ووصف بها الذين يؤمنون بالله وحده وكتبه ورسله إطلاقاً كما جاء في آيات سورة البقرة هذه :﴿ ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ﴾( ١٢٨ ) و﴿ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ( ١٣١ )وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ( ١٣٢ ) أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـهَكَ وَإِلَـهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَـهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ( ١٣٣ ) ﴾ [ ١٣١- ١٣٣ ] و﴿ قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ( ١٣٦ ) فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ( ١٣٧ ) ﴾ [ ١٣٦- ١٣٧ ]، وآيات سورة آل عمران هذه :﴿ إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ( ١٩ ) فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ( ٢٠ ) ﴾[ ١٩- ٢٠ ]، و﴿ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ( ٨٥ ) ﴾.
فكل من تجرد عما سوى الله وحده وتحرر من الخضوع لغيره وأسلم وجهه ونفسه وانقاد له ولزم حدوده فهو مسلم. وفي هذا المعنى من الروعة والنفوذ والعمق في مجال توحيد الله والإخلاص له والتفاني فيه، وتحرر النفس من غيره ما هو واضح، وما يثير في أتباع محمد صلى الله عليه وسلم الاعتزاز بهذا المعنى للإسلام الذي أصبح علماً عليهم منذ العهد النبوي إلى أبد الآبدين.
أما علمية كلمة ( المسلمين ) عليهم فقد تقررت فيما نعتقد بعد نزول آية الحج هذه :﴿ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ( ٧٨ ) ﴾. وهذه
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٤:﴿ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ( ٣٤ ) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ( ٣٥ ) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ( ٣٦ ) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ ١( ٣٧ ) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ٢ ( ٣٨ ) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ٣( ٣٩ ) سَلْهُم أَيُّهُم بِذَلِكَ زَعِيمٌ ٤ ( ٤٠ ) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِن كَانُوا صَادِقِينَ( ٤١ ) يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ ٥ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ ( ٤٢ ) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ٦ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ( ٤٣ ) ﴾ ( ٣٤- ٤٣ ).
في هذه الآيات :
١- تقرير تبشيري بما للمتقين المصدقين عند ربهم من النعيم في جناته.
٢- تساؤل على سبيل الإنكار عما إذا كان يصح أن يجعل الله المسلمين كالمجرمين في اليوم الآخر.
٣- أسئلة فيها تحد وتهكم موجهة للمكذبين : فهل يظنون أن الله حقا يمكن أن يجعل المسلمين كالمجرمين ؟ وبأي وجه يحكمون بصحة هذا الظن ؛ وهل عندهم كتاب من الله يستندون إليه ويعلمون أن لهم في ذلك اليوم ما يشتهون ويختارون ؟ وهل عندهم عهد من الله مستمر وشامل ليوم القيامة بأن لهم فيه ما يبتغون ويحكمون ؟
٤- وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بسؤالهم عمن يضمن لهم ذلك ؛ وعما إذا كانوا يظنون أن شركائهم يفعلون ذلك حقاً، وتحدّ لهم بدعوة هؤلاء الشركاء وطلب نصرتهم إن كانوا صادقين.
٥- وحكاية لما سوف يكون من أمرهم يوم القيامة على سبيل الإنذار والتحدي والتبكيت : فحينما يشتد خطب ذلك اليوم عليهم، وتستدعي حالة الخطر المحيق بهم أن يسارعوا إلى السجود طلباً لغفران الله فلسوف يعجزون ؛ لأنهم أضاعوا الفرصة التي سنحت لهم حينما كانوا يؤمرون بالسجود وهم في متسع من الوقت والسلامة فلا يسجدون، ولسوف تكون أبصارهم حينئذ خاشعة من الرعب والخوف وقد حاقت بهم الذلة والهوان.
والآيات متصلة بالسياق السابق، وهي استمرار له، وتعقيب على المثل المضروب في القصة كما هو المتبادر.
وروح الآيات تلهم أن القصد من المتقين هم الذين آمنوا واستجابوا للدعوة، فوقوا أنفسهم من غضب الله، وأن القصد من المجرمين هم الذين جحدوا وتمردوا وناوأوا. وتلهم كذلك أن الكفار كانوا يزعمون أنهم في عقائدهم وتقاليدهم على حق. ولعل هذا الزعم متصل بما كان العرب يعرفونه ويقولون به من صلة تقاليدهم الدينية بإبراهيم عليه السلام وملته وصحفه.
وورود ضمير الجمع للمخاطب، وأمر النبي عليه السلام بتوجيه الأسئلة والتحدي يمكن أن يلهما أن الموقف كان موقف مواجهة ومناظرة، أو نتج عنه مواجهة ومناظرة وأن الكفار كانوا يصرون على صحة عقائدهم واتصالهم بتعاليم ربانية.
وحكاية مثل هذا الموقف تكررت كثيراً في القرآن ؛ مما يؤيد تكرر مواقف المناظرة والجدل والنقاش والحجاج الوجاهي بين النبي صلى الله عليه وسلم والكفار من حين لآخر، مما هو طبيعي في نشر الدعوة.
والإشارة الخاطفة على الجنات الأخروية يمكن أن تدل على أن ذكرها هنا يأتي لأول مرة. وبهذه المناسبة نقول : إن الجنات في القرآن جعلت عنواناً لما سيناله المؤمنين الصالحون من النعيم في الآخرة. فالناس في الدنيا وخاصة سامعي القرآن الأولين قد اعتادوا أن يجدوا اللذة والمُتعة في الجنات والبساتين، وما فيها من أشجار وأزهار ومياه وظلال وثمار. وفي إقامة مجالس الأكل والشرب واللهو فيها، فاقتضت حكمة الله أن يوعد المؤمنون الصالحون منهم بأحسن ما اعتاد الناس أن يتمتعوا به في الدنيا وتصبوا إليه نفوسهم. وقد وصفت في آيات كثيرة من القرآن بأوصاف وتشبيهات مألوفة في الدنيا تتناولها مفهوماتهم، وتشعر بها حواسهم. ونقول هنا ما قلناه في سياق الحياة الأخروية من أن الإيمان بما جاء في القرآن من مشاهد الجنة والنعيم وكون ذلك في نطاق قدرة الله تعالى واجب مع واجب الإيمان بأنه لا بد من ذكره بالأسلوب الذي ذكر به حكمة ولعل قصد التقريب للأذهان والتأثير في النفوس والتطمين البشري من هذه الحكمة.
ولقد أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم في وصف الجنة ونعيمها وأهلها ومشاهدها أحاديث كثيرا جداً. منها ما ورد في كتب الأحاديث الصحيحة، ومنها ما رواه أئمة معروفون من علماء الحديث. وقد رأينا أن نورد بعض ما ورد في كتب الأحاديث الصحيحة هنا على سبيل التمثيل ونرجئ بعضا آخر إلى مناسبات آتية أكثر ملاءمة. فمن ذلك حديث رواه الترمذي عن أبي هريرة قال :" قلت يا رسول الله ممّا خُلق الخلق ؟ قال : من الماء. قلنا الجنة ما بناؤها ؟ قال : لبنةٌ من فضة ولبنةٌ من ذهب، وملاطها المسك الأذفرُ، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وتربتها الزعفران من دخلها ينعم ولا يبؤُسُ. ويخلد ولا يموت، لا تبلى ثيابهم ولا يفنى شبابهم. ثم قال : ثلاثة لا ترد دعوتهم، الإمام العادل، والصائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم. يرفعها فوق الغمام وتفتح لها أبواب السماء ويقول الرب عزّ وجلّ : وعزتي لأنصرنّك ولو بعد حين " ١. وحديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي سعيد قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الذري الغابر في الأفق. من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم. قالوا : يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم ؟ قال : بلى، والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين " ٢. وحديث رواه الترمذي عن علي قال :" قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن في الجنة لغرفا يرى ظهورها من بطونها وبطونها من ظهورها فقام إليه أعرابي فقال : لمن هي يا رسول الله ؟ قال : هي لمن أطاب الكلامَ وأطعمَ الطعامَ وأدامَ الصّيامَ وَصلى لله بالليل والناس نيامٌ " ٣، وحديث رواه مسلم عن أنس قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن في الجنة لسوقاً يأتونها كل جمعة فتهب ريح الشمال فتحثُو في وجوههم وثيابهم فيزدادُون حسنا وجمالا فيرجعون إلى أهلهم وقد ازدادوا حسنا وجمالا فيقول لهم أهلوهم : والله لقد ازددتم بعدنا حسنا وجمالا. فيقولون : وأنتم والله لقد ازددتم بعدنا حسناً وجمالاً " ٤. وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن في الجنة سوقاً إذا دخلوها نزلوا فيها بفضل أعمالهم ثم يؤذن في مقدار يوم الجمعة من أيام الدنيا فيزورون ربهم ويُبرزُ لهم عرشه ويتبدّى لهم في روضة من رياض الجنة فيوضع لهم منابر من نور ومنابر من لؤلؤ ومنابر من يا قوت ومنابر من زبرجد ومنابر من ذهب ومنابر من فضة ويجلس أدناهم وما فيهم من دنيء على كثبان المسك والكافور وما يرون أن أصحاب الكراسي بأفضل منهم مجلسا " ٥. وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الجنة جرد مرد كحل لا يفنى شبابهم ولا تبلى ثيابهم " ٦. وحديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي هريرة قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر والذين يلونَهم على أشد كوكب دري في السماء إضاءة. لا يبولون ولا يتغوطون ولا يمتخطون ولا يتفلون. أمشاطهم الذهب ورشحهم المسك ومجامرهم الألُوّة. وأزواجهم الحور العين. أخلاقهم على خلق رجل واحد، على صورة أبيهم آدم ستون ذراعا في السماء. وفي رواية ولكل واحد منهم زوجتان يرى مخ ساقهما من وراء اللحم من الحسن. لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم واحدة يسبّحون الله بكرة وعشياً " ٧.
وواضح من هذه الأمثلة أن الأحاديث النبوية في الجنة متساوقة مع الآيات القرآنية الكثيرة في وصف مشاهد الجنة بأحسن المشاهد الدنيوية. والإيمان بما يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك وكونه في نطاق قدرة الله تعالى واجب مثل ما هو واجب بالنسبة للقرآن. مع الإيمان بأنه لا بدّ لذكر ذلك بالأسلوب الذي ذكر به من حكمة. ويلمح في الأحاديث كما يلمح في الآيات أن من تلك الحكمة التبشير والتطمين وإثارة الرغبة في التقرب إلى الله تعالى بصالح الأعمال.
ولقد حاول الأغيار أن يجدوا في جنات القرآن مغمزاً بالدين الإسلامي، بزعم أن ذلك يثير الأنانية والطمع في المسلمين، ويجعلهم لا يفعلون الصالحات إلا رغبة في الأجر الشخصي، ويخرج صفة الحياة الأخروية من نطاقها الروحاني التجريدي. أما إثارة الطمع والأنانية فالبداهة تقتضي بأن تكون الحياة الأخروية وجناتها قاضية عليها ؛ لأن الإنسان الذي يؤمن بأنه إذا آمن واتقى وعمل الصالحات واصلٌ إلى أعلى ما تصبو إليه نفسه من لذة ونعيم في الحياة الأخرى يستطيع أن يوطن النفس على التضحيات المتنوعة في المال والنفس، وعلى القناعة والغيرية وأعمال البر، دون أن ينتظر جزاء مادياً معجلاً في الحياة الدنيا. وأما النطاق الروحاني التجريدي فإن القرآن قد جرى فيما قرره في كل شأن مع طبائع الأمور وحقائقها.
والدين الإسلامي من أجل هذا صح أن يكون دين الخلود والإنسانية العام. وما جاء في القرآن من صفات الجنات ونعيمها قد جرى في هذا النطاق. على أنه لم يقصر ما سوف يتمتع به المؤمن الصالح في الحياة الأخروية على الجنات بل ذكر أيضا ما سوف يناله من رضوان الله الأكبر وقرة العين ومشتهيات النفس وطمأنينتها، بأساليب متنوعة ومواضع عديدة مما هو متسق كذلك مع طبائع الأمور من حيث إن الله يعلم أن هناك من يجد في هذا طمأنينة نفسه وقرة عينه أيضاً، فاحتوى القرآن ما يرضي الماديين والمثاليين معا، كما ترى في آية آل عمران هذه :﴿ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ( ١٥ ) ﴾، وفي آية التوبة هذه :﴿ وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ( ٧٢ ) ﴾. وفي آيات السجدة هذه :﴿ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ( ١٦ ) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ( ١٧ ) ﴾ ( ١٦- ١٧ ). وفي آيات سورة الفجر وهذه :﴿ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ( ٢٧ ) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً ( ٢٨ ) مَّرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي( ٢٩ ) وَادْخُلِي جَنَّتِي( ٣٠ ) ﴾ ( ٢٧- ٣٠ ).
تعليق على كلمة المسلمين
وبمناسبة ورود كلمة المسلمين في الآية ( ٣٥ ) التي صارت علماً على المؤمنين برسالة محمد صلى الله عليه وسلم لأول مرة نقول : إن الكلمة ومشتقاتها ومصدرها قد تكرر كثيراً في القرآن. وقد عنت إسلام النفس لله تعالى جاءت علماً على الدين الصحيح إطلاقاً، ووصف بها الذين يؤمنون بالله وحده وكتبه ورسله إطلاقاً كما جاء في آيات سورة البقرة هذه :﴿ ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ﴾( ١٢٨ ) و﴿ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ( ١٣١ )وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ( ١٣٢ ) أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـهَكَ وَإِلَـهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَـهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ( ١٣٣ ) ﴾ [ ١٣١- ١٣٣ ] و﴿ قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ( ١٣٦ ) فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ( ١٣٧ ) ﴾ [ ١٣٦- ١٣٧ ]، وآيات سورة آل عمران هذه :﴿ إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ( ١٩ ) فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ( ٢٠ ) ﴾[ ١٩- ٢٠ ]، و﴿ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ( ٨٥ ) ﴾.
فكل من تجرد عما سوى الله وحده وتحرر من الخضوع لغيره وأسلم وجهه ونفسه وانقاد له ولزم حدوده فهو مسلم. وفي هذا المعنى من الروعة والنفوذ والعمق في مجال توحيد الله والإخلاص له والتفاني فيه، وتحرر النفس من غيره ما هو واضح، وما يثير في أتباع محمد صلى الله عليه وسلم الاعتزاز بهذا المعنى للإسلام الذي أصبح علماً عليهم منذ العهد النبوي إلى أبد الآبدين.
أما علمية كلمة ( المسلمين ) عليهم فقد تقررت فيما نعتقد بعد نزول آية الحج هذه :﴿ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ( ٧٨ ) ﴾. وهذه
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٤:﴿ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ( ٣٤ ) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ( ٣٥ ) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ( ٣٦ ) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ ١( ٣٧ ) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ٢ ( ٣٨ ) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ٣( ٣٩ ) سَلْهُم أَيُّهُم بِذَلِكَ زَعِيمٌ ٤ ( ٤٠ ) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِن كَانُوا صَادِقِينَ( ٤١ ) يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ ٥ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ ( ٤٢ ) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ٦ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ( ٤٣ ) ﴾ ( ٣٤- ٤٣ ).
في هذه الآيات :
١- تقرير تبشيري بما للمتقين المصدقين عند ربهم من النعيم في جناته.
٢- تساؤل على سبيل الإنكار عما إذا كان يصح أن يجعل الله المسلمين كالمجرمين في اليوم الآخر.
٣- أسئلة فيها تحد وتهكم موجهة للمكذبين : فهل يظنون أن الله حقا يمكن أن يجعل المسلمين كالمجرمين ؟ وبأي وجه يحكمون بصحة هذا الظن ؛ وهل عندهم كتاب من الله يستندون إليه ويعلمون أن لهم في ذلك اليوم ما يشتهون ويختارون ؟ وهل عندهم عهد من الله مستمر وشامل ليوم القيامة بأن لهم فيه ما يبتغون ويحكمون ؟
٤- وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بسؤالهم عمن يضمن لهم ذلك ؛ وعما إذا كانوا يظنون أن شركائهم يفعلون ذلك حقاً، وتحدّ لهم بدعوة هؤلاء الشركاء وطلب نصرتهم إن كانوا صادقين.
٥- وحكاية لما سوف يكون من أمرهم يوم القيامة على سبيل الإنذار والتحدي والتبكيت : فحينما يشتد خطب ذلك اليوم عليهم، وتستدعي حالة الخطر المحيق بهم أن يسارعوا إلى السجود طلباً لغفران الله فلسوف يعجزون ؛ لأنهم أضاعوا الفرصة التي سنحت لهم حينما كانوا يؤمرون بالسجود وهم في متسع من الوقت والسلامة فلا يسجدون، ولسوف تكون أبصارهم حينئذ خاشعة من الرعب والخوف وقد حاقت بهم الذلة والهوان.
والآيات متصلة بالسياق السابق، وهي استمرار له، وتعقيب على المثل المضروب في القصة كما هو المتبادر.
وروح الآيات تلهم أن القصد من المتقين هم الذين آمنوا واستجابوا للدعوة، فوقوا أنفسهم من غضب الله، وأن القصد من المجرمين هم الذين جحدوا وتمردوا وناوأوا. وتلهم كذلك أن الكفار كانوا يزعمون أنهم في عقائدهم وتقاليدهم على حق. ولعل هذا الزعم متصل بما كان العرب يعرفونه ويقولون به من صلة تقاليدهم الدينية بإبراهيم عليه السلام وملته وصحفه.
وورود ضمير الجمع للمخاطب، وأمر النبي عليه السلام بتوجيه الأسئلة والتحدي يمكن أن يلهما أن الموقف كان موقف مواجهة ومناظرة، أو نتج عنه مواجهة ومناظرة وأن الكفار كانوا يصرون على صحة عقائدهم واتصالهم بتعاليم ربانية.
وحكاية مثل هذا الموقف تكررت كثيراً في القرآن ؛ مما يؤيد تكرر مواقف المناظرة والجدل والنقاش والحجاج الوجاهي بين النبي صلى الله عليه وسلم والكفار من حين لآخر، مما هو طبيعي في نشر الدعوة.
والإشارة الخاطفة على الجنات الأخروية يمكن أن تدل على أن ذكرها هنا يأتي لأول مرة. وبهذه المناسبة نقول : إن الجنات في القرآن جعلت عنواناً لما سيناله المؤمنين الصالحون من النعيم في الآخرة. فالناس في الدنيا وخاصة سامعي القرآن الأولين قد اعتادوا أن يجدوا اللذة والمُتعة في الجنات والبساتين، وما فيها من أشجار وأزهار ومياه وظلال وثمار. وفي إقامة مجالس الأكل والشرب واللهو فيها، فاقتضت حكمة الله أن يوعد المؤمنون الصالحون منهم بأحسن ما اعتاد الناس أن يتمتعوا به في الدنيا وتصبوا إليه نفوسهم. وقد وصفت في آيات كثيرة من القرآن بأوصاف وتشبيهات مألوفة في الدنيا تتناولها مفهوماتهم، وتشعر بها حواسهم. ونقول هنا ما قلناه في سياق الحياة الأخروية من أن الإيمان بما جاء في القرآن من مشاهد الجنة والنعيم وكون ذلك في نطاق قدرة الله تعالى واجب مع واجب الإيمان بأنه لا بد من ذكره بالأسلوب الذي ذكر به حكمة ولعل قصد التقريب للأذهان والتأثير في النفوس والتطمين البشري من هذه الحكمة.
ولقد أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم في وصف الجنة ونعيمها وأهلها ومشاهدها أحاديث كثيرا جداً. منها ما ورد في كتب الأحاديث الصحيحة، ومنها ما رواه أئمة معروفون من علماء الحديث. وقد رأينا أن نورد بعض ما ورد في كتب الأحاديث الصحيحة هنا على سبيل التمثيل ونرجئ بعضا آخر إلى مناسبات آتية أكثر ملاءمة. فمن ذلك حديث رواه الترمذي عن أبي هريرة قال :" قلت يا رسول الله ممّا خُلق الخلق ؟ قال : من الماء. قلنا الجنة ما بناؤها ؟ قال : لبنةٌ من فضة ولبنةٌ من ذهب، وملاطها المسك الأذفرُ، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وتربتها الزعفران من دخلها ينعم ولا يبؤُسُ. ويخلد ولا يموت، لا تبلى ثيابهم ولا يفنى شبابهم. ثم قال : ثلاثة لا ترد دعوتهم، الإمام العادل، والصائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم. يرفعها فوق الغمام وتفتح لها أبواب السماء ويقول الرب عزّ وجلّ : وعزتي لأنصرنّك ولو بعد حين " ١. وحديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي سعيد قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الذري الغابر في الأفق. من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم. قالوا : يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم ؟ قال : بلى، والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين " ٢. وحديث رواه الترمذي عن علي قال :" قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن في الجنة لغرفا يرى ظهورها من بطونها وبطونها من ظهورها فقام إليه أعرابي فقال : لمن هي يا رسول الله ؟ قال : هي لمن أطاب الكلامَ وأطعمَ الطعامَ وأدامَ الصّيامَ وَصلى لله بالليل والناس نيامٌ " ٣، وحديث رواه مسلم عن أنس قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن في الجنة لسوقاً يأتونها كل جمعة فتهب ريح الشمال فتحثُو في وجوههم وثيابهم فيزدادُون حسنا وجمالا فيرجعون إلى أهلهم وقد ازدادوا حسنا وجمالا فيقول لهم أهلوهم : والله لقد ازددتم بعدنا حسنا وجمالا. فيقولون : وأنتم والله لقد ازددتم بعدنا حسناً وجمالاً " ٤. وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن في الجنة سوقاً إذا دخلوها نزلوا فيها بفضل أعمالهم ثم يؤذن في مقدار يوم الجمعة من أيام الدنيا فيزورون ربهم ويُبرزُ لهم عرشه ويتبدّى لهم في روضة من رياض الجنة فيوضع لهم منابر من نور ومنابر من لؤلؤ ومنابر من يا قوت ومنابر من زبرجد ومنابر من ذهب ومنابر من فضة ويجلس أدناهم وما فيهم من دنيء على كثبان المسك والكافور وما يرون أن أصحاب الكراسي بأفضل منهم مجلسا " ٥. وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الجنة جرد مرد كحل لا يفنى شبابهم ولا تبلى ثيابهم " ٦. وحديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي هريرة قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر والذين يلونَهم على أشد كوكب دري في السماء إضاءة. لا يبولون ولا يتغوطون ولا يمتخطون ولا يتفلون. أمشاطهم الذهب ورشحهم المسك ومجامرهم الألُوّة. وأزواجهم الحور العين. أخلاقهم على خلق رجل واحد، على صورة أبيهم آدم ستون ذراعا في السماء. وفي رواية ولكل واحد منهم زوجتان يرى مخ ساقهما من وراء اللحم من الحسن. لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم واحدة يسبّحون الله بكرة وعشياً " ٧.
وواضح من هذه الأمثلة أن الأحاديث النبوية في الجنة متساوقة مع الآيات القرآنية الكثيرة في وصف مشاهد الجنة بأحسن المشاهد الدنيوية. والإيمان بما يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك وكونه في نطاق قدرة الله تعالى واجب مثل ما هو واجب بالنسبة للقرآن. مع الإيمان بأنه لا بدّ لذكر ذلك بالأسلوب الذي ذكر به من حكمة. ويلمح في الأحاديث كما يلمح في الآيات أن من تلك الحكمة التبشير والتطمين وإثارة الرغبة في التقرب إلى الله تعالى بصالح الأعمال.
ولقد حاول الأغيار أن يجدوا في جنات القرآن مغمزاً بالدين الإسلامي، بزعم أن ذلك يثير الأنانية والطمع في المسلمين، ويجعلهم لا يفعلون الصالحات إلا رغبة في الأجر الشخصي، ويخرج صفة الحياة الأخروية من نطاقها الروحاني التجريدي. أما إثارة الطمع والأنانية فالبداهة تقتضي بأن تكون الحياة الأخروية وجناتها قاضية عليها ؛ لأن الإنسان الذي يؤمن بأنه إذا آمن واتقى وعمل الصالحات واصلٌ إلى أعلى ما تصبو إليه نفسه من لذة ونعيم في الحياة الأخرى يستطيع أن يوطن النفس على التضحيات المتنوعة في المال والنفس، وعلى القناعة والغيرية وأعمال البر، دون أن ينتظر جزاء مادياً معجلاً في الحياة الدنيا. وأما النطاق الروحاني التجريدي فإن القرآن قد جرى فيما قرره في كل شأن مع طبائع الأمور وحقائقها.
والدين الإسلامي من أجل هذا صح أن يكون دين الخلود والإنسانية العام. وما جاء في القرآن من صفات الجنات ونعيمها قد جرى في هذا النطاق. على أنه لم يقصر ما سوف يتمتع به المؤمن الصالح في الحياة الأخروية على الجنات بل ذكر أيضا ما سوف يناله من رضوان الله الأكبر وقرة العين ومشتهيات النفس وطمأنينتها، بأساليب متنوعة ومواضع عديدة مما هو متسق كذلك مع طبائع الأمور من حيث إن الله يعلم أن هناك من يجد في هذا طمأنينة نفسه وقرة عينه أيضاً، فاحتوى القرآن ما يرضي الماديين والمثاليين معا، كما ترى في آية آل عمران هذه :﴿ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ( ١٥ ) ﴾، وفي آية التوبة هذه :﴿ وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ( ٧٢ ) ﴾. وفي آيات السجدة هذه :﴿ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ( ١٦ ) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ( ١٧ ) ﴾ ( ١٦- ١٧ ). وفي آيات سورة الفجر وهذه :﴿ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ( ٢٧ ) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً ( ٢٨ ) مَّرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي( ٢٩ ) وَادْخُلِي جَنَّتِي( ٣٠ ) ﴾ ( ٢٧- ٣٠ ).
تعليق على كلمة المسلمين
وبمناسبة ورود كلمة المسلمين في الآية ( ٣٥ ) التي صارت علماً على المؤمنين برسالة محمد صلى الله عليه وسلم لأول مرة نقول : إن الكلمة ومشتقاتها ومصدرها قد تكرر كثيراً في القرآن. وقد عنت إسلام النفس لله تعالى جاءت علماً على الدين الصحيح إطلاقاً، ووصف بها الذين يؤمنون بالله وحده وكتبه ورسله إطلاقاً كما جاء في آيات سورة البقرة هذه :﴿ ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ﴾( ١٢٨ ) و﴿ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ( ١٣١ )وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ( ١٣٢ ) أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـهَكَ وَإِلَـهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَـهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ( ١٣٣ ) ﴾ [ ١٣١- ١٣٣ ] و﴿ قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ( ١٣٦ ) فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ( ١٣٧ ) ﴾ [ ١٣٦- ١٣٧ ]، وآيات سورة آل عمران هذه :﴿ إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ( ١٩ ) فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ( ٢٠ ) ﴾[ ١٩- ٢٠ ]، و﴿ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ( ٨٥ ) ﴾.
فكل من تجرد عما سوى الله وحده وتحرر من الخضوع لغيره وأسلم وجهه ونفسه وانقاد له ولزم حدوده فهو مسلم. وفي هذا المعنى من الروعة والنفوذ والعمق في مجال توحيد الله والإخلاص له والتفاني فيه، وتحرر النفس من غيره ما هو واضح، وما يثير في أتباع محمد صلى الله عليه وسلم الاعتزاز بهذا المعنى للإسلام الذي أصبح علماً عليهم منذ العهد النبوي إلى أبد الآبدين.
أما علمية كلمة ( المسلمين ) عليهم فقد تقررت فيما نعتقد بعد نزول آية الحج هذه :﴿ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ( ٧٨ ) ﴾. وهذه
في هذه الآيات :
١- تقرير تبشيري بما للمتقين المصدقين عند ربهم من النعيم في جناته.
٢- تساؤل على سبيل الإنكار عما إذا كان يصح أن يجعل الله المسلمين كالمجرمين في اليوم الآخر.
٣- أسئلة فيها تحد وتهكم موجهة للمكذبين : فهل يظنون أن الله حقا يمكن أن يجعل المسلمين كالمجرمين ؟ وبأي وجه يحكمون بصحة هذا الظن ؛ وهل عندهم كتاب من الله يستندون إليه ويعلمون أن لهم في ذلك اليوم ما يشتهون ويختارون ؟ وهل عندهم عهد من الله مستمر وشامل ليوم القيامة بأن لهم فيه ما يبتغون ويحكمون ؟
٤- وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بسؤالهم عمن يضمن لهم ذلك ؛ وعما إذا كانوا يظنون أن شركائهم يفعلون ذلك حقاً، وتحدّ لهم بدعوة هؤلاء الشركاء وطلب نصرتهم إن كانوا صادقين.
٥- وحكاية لما سوف يكون من أمرهم يوم القيامة على سبيل الإنذار والتحدي والتبكيت : فحينما يشتد خطب ذلك اليوم عليهم، وتستدعي حالة الخطر المحيق بهم أن يسارعوا إلى السجود طلباً لغفران الله فلسوف يعجزون ؛ لأنهم أضاعوا الفرصة التي سنحت لهم حينما كانوا يؤمرون بالسجود وهم في متسع من الوقت والسلامة فلا يسجدون، ولسوف تكون أبصارهم حينئذ خاشعة من الرعب والخوف وقد حاقت بهم الذلة والهوان.
والآيات متصلة بالسياق السابق، وهي استمرار له، وتعقيب على المثل المضروب في القصة كما هو المتبادر.
وروح الآيات تلهم أن القصد من المتقين هم الذين آمنوا واستجابوا للدعوة، فوقوا أنفسهم من غضب الله، وأن القصد من المجرمين هم الذين جحدوا وتمردوا وناوأوا. وتلهم كذلك أن الكفار كانوا يزعمون أنهم في عقائدهم وتقاليدهم على حق. ولعل هذا الزعم متصل بما كان العرب يعرفونه ويقولون به من صلة تقاليدهم الدينية بإبراهيم عليه السلام وملته وصحفه.
وورود ضمير الجمع للمخاطب، وأمر النبي عليه السلام بتوجيه الأسئلة والتحدي يمكن أن يلهما أن الموقف كان موقف مواجهة ومناظرة، أو نتج عنه مواجهة ومناظرة وأن الكفار كانوا يصرون على صحة عقائدهم واتصالهم بتعاليم ربانية.
وحكاية مثل هذا الموقف تكررت كثيراً في القرآن ؛ مما يؤيد تكرر مواقف المناظرة والجدل والنقاش والحجاج الوجاهي بين النبي صلى الله عليه وسلم والكفار من حين لآخر، مما هو طبيعي في نشر الدعوة.
والإشارة الخاطفة على الجنات الأخروية يمكن أن تدل على أن ذكرها هنا يأتي لأول مرة. وبهذه المناسبة نقول : إن الجنات في القرآن جعلت عنواناً لما سيناله المؤمنين الصالحون من النعيم في الآخرة. فالناس في الدنيا وخاصة سامعي القرآن الأولين قد اعتادوا أن يجدوا اللذة والمُتعة في الجنات والبساتين، وما فيها من أشجار وأزهار ومياه وظلال وثمار. وفي إقامة مجالس الأكل والشرب واللهو فيها، فاقتضت حكمة الله أن يوعد المؤمنون الصالحون منهم بأحسن ما اعتاد الناس أن يتمتعوا به في الدنيا وتصبوا إليه نفوسهم. وقد وصفت في آيات كثيرة من القرآن بأوصاف وتشبيهات مألوفة في الدنيا تتناولها مفهوماتهم، وتشعر بها حواسهم. ونقول هنا ما قلناه في سياق الحياة الأخروية من أن الإيمان بما جاء في القرآن من مشاهد الجنة والنعيم وكون ذلك في نطاق قدرة الله تعالى واجب مع واجب الإيمان بأنه لا بد من ذكره بالأسلوب الذي ذكر به حكمة ولعل قصد التقريب للأذهان والتأثير في النفوس والتطمين البشري من هذه الحكمة.
ولقد أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم في وصف الجنة ونعيمها وأهلها ومشاهدها أحاديث كثيرا جداً. منها ما ورد في كتب الأحاديث الصحيحة، ومنها ما رواه أئمة معروفون من علماء الحديث. وقد رأينا أن نورد بعض ما ورد في كتب الأحاديث الصحيحة هنا على سبيل التمثيل ونرجئ بعضا آخر إلى مناسبات آتية أكثر ملاءمة. فمن ذلك حديث رواه الترمذي عن أبي هريرة قال :" قلت يا رسول الله ممّا خُلق الخلق ؟ قال : من الماء. قلنا الجنة ما بناؤها ؟ قال : لبنةٌ من فضة ولبنةٌ من ذهب، وملاطها المسك الأذفرُ، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وتربتها الزعفران من دخلها ينعم ولا يبؤُسُ. ويخلد ولا يموت، لا تبلى ثيابهم ولا يفنى شبابهم. ثم قال : ثلاثة لا ترد دعوتهم، الإمام العادل، والصائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم. يرفعها فوق الغمام وتفتح لها أبواب السماء ويقول الرب عزّ وجلّ : وعزتي لأنصرنّك ولو بعد حين " ١. وحديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي سعيد قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الذري الغابر في الأفق. من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم. قالوا : يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم ؟ قال : بلى، والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين " ٢. وحديث رواه الترمذي عن علي قال :" قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن في الجنة لغرفا يرى ظهورها من بطونها وبطونها من ظهورها فقام إليه أعرابي فقال : لمن هي يا رسول الله ؟ قال : هي لمن أطاب الكلامَ وأطعمَ الطعامَ وأدامَ الصّيامَ وَصلى لله بالليل والناس نيامٌ " ٣، وحديث رواه مسلم عن أنس قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن في الجنة لسوقاً يأتونها كل جمعة فتهب ريح الشمال فتحثُو في وجوههم وثيابهم فيزدادُون حسنا وجمالا فيرجعون إلى أهلهم وقد ازدادوا حسنا وجمالا فيقول لهم أهلوهم : والله لقد ازددتم بعدنا حسنا وجمالا. فيقولون : وأنتم والله لقد ازددتم بعدنا حسناً وجمالاً " ٤. وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن في الجنة سوقاً إذا دخلوها نزلوا فيها بفضل أعمالهم ثم يؤذن في مقدار يوم الجمعة من أيام الدنيا فيزورون ربهم ويُبرزُ لهم عرشه ويتبدّى لهم في روضة من رياض الجنة فيوضع لهم منابر من نور ومنابر من لؤلؤ ومنابر من يا قوت ومنابر من زبرجد ومنابر من ذهب ومنابر من فضة ويجلس أدناهم وما فيهم من دنيء على كثبان المسك والكافور وما يرون أن أصحاب الكراسي بأفضل منهم مجلسا " ٥. وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الجنة جرد مرد كحل لا يفنى شبابهم ولا تبلى ثيابهم " ٦. وحديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي هريرة قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر والذين يلونَهم على أشد كوكب دري في السماء إضاءة. لا يبولون ولا يتغوطون ولا يمتخطون ولا يتفلون. أمشاطهم الذهب ورشحهم المسك ومجامرهم الألُوّة. وأزواجهم الحور العين. أخلاقهم على خلق رجل واحد، على صورة أبيهم آدم ستون ذراعا في السماء. وفي رواية ولكل واحد منهم زوجتان يرى مخ ساقهما من وراء اللحم من الحسن. لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم واحدة يسبّحون الله بكرة وعشياً " ٧.
وواضح من هذه الأمثلة أن الأحاديث النبوية في الجنة متساوقة مع الآيات القرآنية الكثيرة في وصف مشاهد الجنة بأحسن المشاهد الدنيوية. والإيمان بما يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك وكونه في نطاق قدرة الله تعالى واجب مثل ما هو واجب بالنسبة للقرآن. مع الإيمان بأنه لا بدّ لذكر ذلك بالأسلوب الذي ذكر به من حكمة. ويلمح في الأحاديث كما يلمح في الآيات أن من تلك الحكمة التبشير والتطمين وإثارة الرغبة في التقرب إلى الله تعالى بصالح الأعمال.
ولقد حاول الأغيار أن يجدوا في جنات القرآن مغمزاً بالدين الإسلامي، بزعم أن ذلك يثير الأنانية والطمع في المسلمين، ويجعلهم لا يفعلون الصالحات إلا رغبة في الأجر الشخصي، ويخرج صفة الحياة الأخروية من نطاقها الروحاني التجريدي. أما إثارة الطمع والأنانية فالبداهة تقتضي بأن تكون الحياة الأخروية وجناتها قاضية عليها ؛ لأن الإنسان الذي يؤمن بأنه إذا آمن واتقى وعمل الصالحات واصلٌ إلى أعلى ما تصبو إليه نفسه من لذة ونعيم في الحياة الأخرى يستطيع أن يوطن النفس على التضحيات المتنوعة في المال والنفس، وعلى القناعة والغيرية وأعمال البر، دون أن ينتظر جزاء مادياً معجلاً في الحياة الدنيا. وأما النطاق الروحاني التجريدي فإن القرآن قد جرى فيما قرره في كل شأن مع طبائع الأمور وحقائقها.
والدين الإسلامي من أجل هذا صح أن يكون دين الخلود والإنسانية العام. وما جاء في القرآن من صفات الجنات ونعيمها قد جرى في هذا النطاق. على أنه لم يقصر ما سوف يتمتع به المؤمن الصالح في الحياة الأخروية على الجنات بل ذكر أيضا ما سوف يناله من رضوان الله الأكبر وقرة العين ومشتهيات النفس وطمأنينتها، بأساليب متنوعة ومواضع عديدة مما هو متسق كذلك مع طبائع الأمور من حيث إن الله يعلم أن هناك من يجد في هذا طمأنينة نفسه وقرة عينه أيضاً، فاحتوى القرآن ما يرضي الماديين والمثاليين معا، كما ترى في آية آل عمران هذه :﴿ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ( ١٥ ) ﴾، وفي آية التوبة هذه :﴿ وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ( ٧٢ ) ﴾. وفي آيات السجدة هذه :﴿ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ( ١٦ ) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ( ١٧ ) ﴾ ( ١٦- ١٧ ). وفي آيات سورة الفجر وهذه :﴿ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ( ٢٧ ) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً ( ٢٨ ) مَّرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي( ٢٩ ) وَادْخُلِي جَنَّتِي( ٣٠ ) ﴾ ( ٢٧- ٣٠ ).
تعليق على كلمة المسلمين
وبمناسبة ورود كلمة المسلمين في الآية ( ٣٥ ) التي صارت علماً على المؤمنين برسالة محمد صلى الله عليه وسلم لأول مرة نقول : إن الكلمة ومشتقاتها ومصدرها قد تكرر كثيراً في القرآن. وقد عنت إسلام النفس لله تعالى جاءت علماً على الدين الصحيح إطلاقاً، ووصف بها الذين يؤمنون بالله وحده وكتبه ورسله إطلاقاً كما جاء في آيات سورة البقرة هذه :﴿ ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ﴾( ١٢٨ ) و﴿ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ( ١٣١ )وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ( ١٣٢ ) أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـهَكَ وَإِلَـهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَـهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ( ١٣٣ ) ﴾ [ ١٣١- ١٣٣ ] و﴿ قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ( ١٣٦ ) فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ( ١٣٧ ) ﴾ [ ١٣٦- ١٣٧ ]، وآيات سورة آل عمران هذه :﴿ إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ( ١٩ ) فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ( ٢٠ ) ﴾[ ١٩- ٢٠ ]، و﴿ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ( ٨٥ ) ﴾.
فكل من تجرد عما سوى الله وحده وتحرر من الخضوع لغيره وأسلم وجهه ونفسه وانقاد له ولزم حدوده فهو مسلم. وفي هذا المعنى من الروعة والنفوذ والعمق في مجال توحيد الله والإخلاص له والتفاني فيه، وتحرر النفس من غيره ما هو واضح، وما يثير في أتباع محمد صلى الله عليه وسلم الاعتزاز بهذا المعنى للإسلام الذي أصبح علماً عليهم منذ العهد النبوي إلى أبد الآبدين.
أما علمية كلمة ( المسلمين ) عليهم فقد تقررت فيما نعتقد بعد نزول آية الحج هذه :﴿ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ( ٧٨ ) ﴾. وهذه
في هذه الآيات :
١- تقرير تبشيري بما للمتقين المصدقين عند ربهم من النعيم في جناته.
٢- تساؤل على سبيل الإنكار عما إذا كان يصح أن يجعل الله المسلمين كالمجرمين في اليوم الآخر.
٣- أسئلة فيها تحد وتهكم موجهة للمكذبين : فهل يظنون أن الله حقا يمكن أن يجعل المسلمين كالمجرمين ؟ وبأي وجه يحكمون بصحة هذا الظن ؛ وهل عندهم كتاب من الله يستندون إليه ويعلمون أن لهم في ذلك اليوم ما يشتهون ويختارون ؟ وهل عندهم عهد من الله مستمر وشامل ليوم القيامة بأن لهم فيه ما يبتغون ويحكمون ؟
٤- وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بسؤالهم عمن يضمن لهم ذلك ؛ وعما إذا كانوا يظنون أن شركائهم يفعلون ذلك حقاً، وتحدّ لهم بدعوة هؤلاء الشركاء وطلب نصرتهم إن كانوا صادقين.
٥- وحكاية لما سوف يكون من أمرهم يوم القيامة على سبيل الإنذار والتحدي والتبكيت : فحينما يشتد خطب ذلك اليوم عليهم، وتستدعي حالة الخطر المحيق بهم أن يسارعوا إلى السجود طلباً لغفران الله فلسوف يعجزون ؛ لأنهم أضاعوا الفرصة التي سنحت لهم حينما كانوا يؤمرون بالسجود وهم في متسع من الوقت والسلامة فلا يسجدون، ولسوف تكون أبصارهم حينئذ خاشعة من الرعب والخوف وقد حاقت بهم الذلة والهوان.
والآيات متصلة بالسياق السابق، وهي استمرار له، وتعقيب على المثل المضروب في القصة كما هو المتبادر.
وروح الآيات تلهم أن القصد من المتقين هم الذين آمنوا واستجابوا للدعوة، فوقوا أنفسهم من غضب الله، وأن القصد من المجرمين هم الذين جحدوا وتمردوا وناوأوا. وتلهم كذلك أن الكفار كانوا يزعمون أنهم في عقائدهم وتقاليدهم على حق. ولعل هذا الزعم متصل بما كان العرب يعرفونه ويقولون به من صلة تقاليدهم الدينية بإبراهيم عليه السلام وملته وصحفه.
وورود ضمير الجمع للمخاطب، وأمر النبي عليه السلام بتوجيه الأسئلة والتحدي يمكن أن يلهما أن الموقف كان موقف مواجهة ومناظرة، أو نتج عنه مواجهة ومناظرة وأن الكفار كانوا يصرون على صحة عقائدهم واتصالهم بتعاليم ربانية.
وحكاية مثل هذا الموقف تكررت كثيراً في القرآن ؛ مما يؤيد تكرر مواقف المناظرة والجدل والنقاش والحجاج الوجاهي بين النبي صلى الله عليه وسلم والكفار من حين لآخر، مما هو طبيعي في نشر الدعوة.
والإشارة الخاطفة على الجنات الأخروية يمكن أن تدل على أن ذكرها هنا يأتي لأول مرة. وبهذه المناسبة نقول : إن الجنات في القرآن جعلت عنواناً لما سيناله المؤمنين الصالحون من النعيم في الآخرة. فالناس في الدنيا وخاصة سامعي القرآن الأولين قد اعتادوا أن يجدوا اللذة والمُتعة في الجنات والبساتين، وما فيها من أشجار وأزهار ومياه وظلال وثمار. وفي إقامة مجالس الأكل والشرب واللهو فيها، فاقتضت حكمة الله أن يوعد المؤمنون الصالحون منهم بأحسن ما اعتاد الناس أن يتمتعوا به في الدنيا وتصبوا إليه نفوسهم. وقد وصفت في آيات كثيرة من القرآن بأوصاف وتشبيهات مألوفة في الدنيا تتناولها مفهوماتهم، وتشعر بها حواسهم. ونقول هنا ما قلناه في سياق الحياة الأخروية من أن الإيمان بما جاء في القرآن من مشاهد الجنة والنعيم وكون ذلك في نطاق قدرة الله تعالى واجب مع واجب الإيمان بأنه لا بد من ذكره بالأسلوب الذي ذكر به حكمة ولعل قصد التقريب للأذهان والتأثير في النفوس والتطمين البشري من هذه الحكمة.
ولقد أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم في وصف الجنة ونعيمها وأهلها ومشاهدها أحاديث كثيرا جداً. منها ما ورد في كتب الأحاديث الصحيحة، ومنها ما رواه أئمة معروفون من علماء الحديث. وقد رأينا أن نورد بعض ما ورد في كتب الأحاديث الصحيحة هنا على سبيل التمثيل ونرجئ بعضا آخر إلى مناسبات آتية أكثر ملاءمة. فمن ذلك حديث رواه الترمذي عن أبي هريرة قال :" قلت يا رسول الله ممّا خُلق الخلق ؟ قال : من الماء. قلنا الجنة ما بناؤها ؟ قال : لبنةٌ من فضة ولبنةٌ من ذهب، وملاطها المسك الأذفرُ، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وتربتها الزعفران من دخلها ينعم ولا يبؤُسُ. ويخلد ولا يموت، لا تبلى ثيابهم ولا يفنى شبابهم. ثم قال : ثلاثة لا ترد دعوتهم، الإمام العادل، والصائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم. يرفعها فوق الغمام وتفتح لها أبواب السماء ويقول الرب عزّ وجلّ : وعزتي لأنصرنّك ولو بعد حين " ١. وحديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي سعيد قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الذري الغابر في الأفق. من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم. قالوا : يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم ؟ قال : بلى، والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين " ٢. وحديث رواه الترمذي عن علي قال :" قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن في الجنة لغرفا يرى ظهورها من بطونها وبطونها من ظهورها فقام إليه أعرابي فقال : لمن هي يا رسول الله ؟ قال : هي لمن أطاب الكلامَ وأطعمَ الطعامَ وأدامَ الصّيامَ وَصلى لله بالليل والناس نيامٌ " ٣، وحديث رواه مسلم عن أنس قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن في الجنة لسوقاً يأتونها كل جمعة فتهب ريح الشمال فتحثُو في وجوههم وثيابهم فيزدادُون حسنا وجمالا فيرجعون إلى أهلهم وقد ازدادوا حسنا وجمالا فيقول لهم أهلوهم : والله لقد ازددتم بعدنا حسنا وجمالا. فيقولون : وأنتم والله لقد ازددتم بعدنا حسناً وجمالاً " ٤. وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن في الجنة سوقاً إذا دخلوها نزلوا فيها بفضل أعمالهم ثم يؤذن في مقدار يوم الجمعة من أيام الدنيا فيزورون ربهم ويُبرزُ لهم عرشه ويتبدّى لهم في روضة من رياض الجنة فيوضع لهم منابر من نور ومنابر من لؤلؤ ومنابر من يا قوت ومنابر من زبرجد ومنابر من ذهب ومنابر من فضة ويجلس أدناهم وما فيهم من دنيء على كثبان المسك والكافور وما يرون أن أصحاب الكراسي بأفضل منهم مجلسا " ٥. وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الجنة جرد مرد كحل لا يفنى شبابهم ولا تبلى ثيابهم " ٦. وحديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي هريرة قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر والذين يلونَهم على أشد كوكب دري في السماء إضاءة. لا يبولون ولا يتغوطون ولا يمتخطون ولا يتفلون. أمشاطهم الذهب ورشحهم المسك ومجامرهم الألُوّة. وأزواجهم الحور العين. أخلاقهم على خلق رجل واحد، على صورة أبيهم آدم ستون ذراعا في السماء. وفي رواية ولكل واحد منهم زوجتان يرى مخ ساقهما من وراء اللحم من الحسن. لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم واحدة يسبّحون الله بكرة وعشياً " ٧.
وواضح من هذه الأمثلة أن الأحاديث النبوية في الجنة متساوقة مع الآيات القرآنية الكثيرة في وصف مشاهد الجنة بأحسن المشاهد الدنيوية. والإيمان بما يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك وكونه في نطاق قدرة الله تعالى واجب مثل ما هو واجب بالنسبة للقرآن. مع الإيمان بأنه لا بدّ لذكر ذلك بالأسلوب الذي ذكر به من حكمة. ويلمح في الأحاديث كما يلمح في الآيات أن من تلك الحكمة التبشير والتطمين وإثارة الرغبة في التقرب إلى الله تعالى بصالح الأعمال.
ولقد حاول الأغيار أن يجدوا في جنات القرآن مغمزاً بالدين الإسلامي، بزعم أن ذلك يثير الأنانية والطمع في المسلمين، ويجعلهم لا يفعلون الصالحات إلا رغبة في الأجر الشخصي، ويخرج صفة الحياة الأخروية من نطاقها الروحاني التجريدي. أما إثارة الطمع والأنانية فالبداهة تقتضي بأن تكون الحياة الأخروية وجناتها قاضية عليها ؛ لأن الإنسان الذي يؤمن بأنه إذا آمن واتقى وعمل الصالحات واصلٌ إلى أعلى ما تصبو إليه نفسه من لذة ونعيم في الحياة الأخرى يستطيع أن يوطن النفس على التضحيات المتنوعة في المال والنفس، وعلى القناعة والغيرية وأعمال البر، دون أن ينتظر جزاء مادياً معجلاً في الحياة الدنيا. وأما النطاق الروحاني التجريدي فإن القرآن قد جرى فيما قرره في كل شأن مع طبائع الأمور وحقائقها.
والدين الإسلامي من أجل هذا صح أن يكون دين الخلود والإنسانية العام. وما جاء في القرآن من صفات الجنات ونعيمها قد جرى في هذا النطاق. على أنه لم يقصر ما سوف يتمتع به المؤمن الصالح في الحياة الأخروية على الجنات بل ذكر أيضا ما سوف يناله من رضوان الله الأكبر وقرة العين ومشتهيات النفس وطمأنينتها، بأساليب متنوعة ومواضع عديدة مما هو متسق كذلك مع طبائع الأمور من حيث إن الله يعلم أن هناك من يجد في هذا طمأنينة نفسه وقرة عينه أيضاً، فاحتوى القرآن ما يرضي الماديين والمثاليين معا، كما ترى في آية آل عمران هذه :﴿ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ( ١٥ ) ﴾، وفي آية التوبة هذه :﴿ وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ( ٧٢ ) ﴾. وفي آيات السجدة هذه :﴿ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ( ١٦ ) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ( ١٧ ) ﴾ ( ١٦- ١٧ ). وفي آيات سورة الفجر وهذه :﴿ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ( ٢٧ ) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً ( ٢٨ ) مَّرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي( ٢٩ ) وَادْخُلِي جَنَّتِي( ٣٠ ) ﴾ ( ٢٧- ٣٠ ).
تعليق على كلمة المسلمين
وبمناسبة ورود كلمة المسلمين في الآية ( ٣٥ ) التي صارت علماً على المؤمنين برسالة محمد صلى الله عليه وسلم لأول مرة نقول : إن الكلمة ومشتقاتها ومصدرها قد تكرر كثيراً في القرآن. وقد عنت إسلام النفس لله تعالى جاءت علماً على الدين الصحيح إطلاقاً، ووصف بها الذين يؤمنون بالله وحده وكتبه ورسله إطلاقاً كما جاء في آيات سورة البقرة هذه :﴿ ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ﴾( ١٢٨ ) و﴿ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ( ١٣١ )وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ( ١٣٢ ) أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـهَكَ وَإِلَـهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَـهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ( ١٣٣ ) ﴾ [ ١٣١- ١٣٣ ] و﴿ قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ( ١٣٦ ) فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ( ١٣٧ ) ﴾ [ ١٣٦- ١٣٧ ]، وآيات سورة آل عمران هذه :﴿ إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ( ١٩ ) فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ( ٢٠ ) ﴾[ ١٩- ٢٠ ]، و﴿ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ( ٨٥ ) ﴾.
فكل من تجرد عما سوى الله وحده وتحرر من الخضوع لغيره وأسلم وجهه ونفسه وانقاد له ولزم حدوده فهو مسلم. وفي هذا المعنى من الروعة والنفوذ والعمق في مجال توحيد الله والإخلاص له والتفاني فيه، وتحرر النفس من غيره ما هو واضح، وما يثير في أتباع محمد صلى الله عليه وسلم الاعتزاز بهذا المعنى للإسلام الذي أصبح علماً عليهم منذ العهد النبوي إلى أبد الآبدين.
أما علمية كلمة ( المسلمين ) عليهم فقد تقررت فيما نعتقد بعد نزول آية الحج هذه :﴿ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ( ٧٨ ) ﴾. وهذه
في هذه الآيات :
١- تقرير تبشيري بما للمتقين المصدقين عند ربهم من النعيم في جناته.
٢- تساؤل على سبيل الإنكار عما إذا كان يصح أن يجعل الله المسلمين كالمجرمين في اليوم الآخر.
٣- أسئلة فيها تحد وتهكم موجهة للمكذبين : فهل يظنون أن الله حقا يمكن أن يجعل المسلمين كالمجرمين ؟ وبأي وجه يحكمون بصحة هذا الظن ؛ وهل عندهم كتاب من الله يستندون إليه ويعلمون أن لهم في ذلك اليوم ما يشتهون ويختارون ؟ وهل عندهم عهد من الله مستمر وشامل ليوم القيامة بأن لهم فيه ما يبتغون ويحكمون ؟
٤- وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بسؤالهم عمن يضمن لهم ذلك ؛ وعما إذا كانوا يظنون أن شركائهم يفعلون ذلك حقاً، وتحدّ لهم بدعوة هؤلاء الشركاء وطلب نصرتهم إن كانوا صادقين.
٥- وحكاية لما سوف يكون من أمرهم يوم القيامة على سبيل الإنذار والتحدي والتبكيت : فحينما يشتد خطب ذلك اليوم عليهم، وتستدعي حالة الخطر المحيق بهم أن يسارعوا إلى السجود طلباً لغفران الله فلسوف يعجزون ؛ لأنهم أضاعوا الفرصة التي سنحت لهم حينما كانوا يؤمرون بالسجود وهم في متسع من الوقت والسلامة فلا يسجدون، ولسوف تكون أبصارهم حينئذ خاشعة من الرعب والخوف وقد حاقت بهم الذلة والهوان.
والآيات متصلة بالسياق السابق، وهي استمرار له، وتعقيب على المثل المضروب في القصة كما هو المتبادر.
وروح الآيات تلهم أن القصد من المتقين هم الذين آمنوا واستجابوا للدعوة، فوقوا أنفسهم من غضب الله، وأن القصد من المجرمين هم الذين جحدوا وتمردوا وناوأوا. وتلهم كذلك أن الكفار كانوا يزعمون أنهم في عقائدهم وتقاليدهم على حق. ولعل هذا الزعم متصل بما كان العرب يعرفونه ويقولون به من صلة تقاليدهم الدينية بإبراهيم عليه السلام وملته وصحفه.
وورود ضمير الجمع للمخاطب، وأمر النبي عليه السلام بتوجيه الأسئلة والتحدي يمكن أن يلهما أن الموقف كان موقف مواجهة ومناظرة، أو نتج عنه مواجهة ومناظرة وأن الكفار كانوا يصرون على صحة عقائدهم واتصالهم بتعاليم ربانية.
وحكاية مثل هذا الموقف تكررت كثيراً في القرآن ؛ مما يؤيد تكرر مواقف المناظرة والجدل والنقاش والحجاج الوجاهي بين النبي صلى الله عليه وسلم والكفار من حين لآخر، مما هو طبيعي في نشر الدعوة.
والإشارة الخاطفة على الجنات الأخروية يمكن أن تدل على أن ذكرها هنا يأتي لأول مرة. وبهذه المناسبة نقول : إن الجنات في القرآن جعلت عنواناً لما سيناله المؤمنين الصالحون من النعيم في الآخرة. فالناس في الدنيا وخاصة سامعي القرآن الأولين قد اعتادوا أن يجدوا اللذة والمُتعة في الجنات والبساتين، وما فيها من أشجار وأزهار ومياه وظلال وثمار. وفي إقامة مجالس الأكل والشرب واللهو فيها، فاقتضت حكمة الله أن يوعد المؤمنون الصالحون منهم بأحسن ما اعتاد الناس أن يتمتعوا به في الدنيا وتصبوا إليه نفوسهم. وقد وصفت في آيات كثيرة من القرآن بأوصاف وتشبيهات مألوفة في الدنيا تتناولها مفهوماتهم، وتشعر بها حواسهم. ونقول هنا ما قلناه في سياق الحياة الأخروية من أن الإيمان بما جاء في القرآن من مشاهد الجنة والنعيم وكون ذلك في نطاق قدرة الله تعالى واجب مع واجب الإيمان بأنه لا بد من ذكره بالأسلوب الذي ذكر به حكمة ولعل قصد التقريب للأذهان والتأثير في النفوس والتطمين البشري من هذه الحكمة.
ولقد أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم في وصف الجنة ونعيمها وأهلها ومشاهدها أحاديث كثيرا جداً. منها ما ورد في كتب الأحاديث الصحيحة، ومنها ما رواه أئمة معروفون من علماء الحديث. وقد رأينا أن نورد بعض ما ورد في كتب الأحاديث الصحيحة هنا على سبيل التمثيل ونرجئ بعضا آخر إلى مناسبات آتية أكثر ملاءمة. فمن ذلك حديث رواه الترمذي عن أبي هريرة قال :" قلت يا رسول الله ممّا خُلق الخلق ؟ قال : من الماء. قلنا الجنة ما بناؤها ؟ قال : لبنةٌ من فضة ولبنةٌ من ذهب، وملاطها المسك الأذفرُ، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وتربتها الزعفران من دخلها ينعم ولا يبؤُسُ. ويخلد ولا يموت، لا تبلى ثيابهم ولا يفنى شبابهم. ثم قال : ثلاثة لا ترد دعوتهم، الإمام العادل، والصائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم. يرفعها فوق الغمام وتفتح لها أبواب السماء ويقول الرب عزّ وجلّ : وعزتي لأنصرنّك ولو بعد حين " ١. وحديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي سعيد قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الذري الغابر في الأفق. من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم. قالوا : يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم ؟ قال : بلى، والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين " ٢. وحديث رواه الترمذي عن علي قال :" قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن في الجنة لغرفا يرى ظهورها من بطونها وبطونها من ظهورها فقام إليه أعرابي فقال : لمن هي يا رسول الله ؟ قال : هي لمن أطاب الكلامَ وأطعمَ الطعامَ وأدامَ الصّيامَ وَصلى لله بالليل والناس نيامٌ " ٣، وحديث رواه مسلم عن أنس قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن في الجنة لسوقاً يأتونها كل جمعة فتهب ريح الشمال فتحثُو في وجوههم وثيابهم فيزدادُون حسنا وجمالا فيرجعون إلى أهلهم وقد ازدادوا حسنا وجمالا فيقول لهم أهلوهم : والله لقد ازددتم بعدنا حسنا وجمالا. فيقولون : وأنتم والله لقد ازددتم بعدنا حسناً وجمالاً " ٤. وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن في الجنة سوقاً إذا دخلوها نزلوا فيها بفضل أعمالهم ثم يؤذن في مقدار يوم الجمعة من أيام الدنيا فيزورون ربهم ويُبرزُ لهم عرشه ويتبدّى لهم في روضة من رياض الجنة فيوضع لهم منابر من نور ومنابر من لؤلؤ ومنابر من يا قوت ومنابر من زبرجد ومنابر من ذهب ومنابر من فضة ويجلس أدناهم وما فيهم من دنيء على كثبان المسك والكافور وما يرون أن أصحاب الكراسي بأفضل منهم مجلسا " ٥. وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الجنة جرد مرد كحل لا يفنى شبابهم ولا تبلى ثيابهم " ٦. وحديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي هريرة قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر والذين يلونَهم على أشد كوكب دري في السماء إضاءة. لا يبولون ولا يتغوطون ولا يمتخطون ولا يتفلون. أمشاطهم الذهب ورشحهم المسك ومجامرهم الألُوّة. وأزواجهم الحور العين. أخلاقهم على خلق رجل واحد، على صورة أبيهم آدم ستون ذراعا في السماء. وفي رواية ولكل واحد منهم زوجتان يرى مخ ساقهما من وراء اللحم من الحسن. لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم واحدة يسبّحون الله بكرة وعشياً " ٧.
وواضح من هذه الأمثلة أن الأحاديث النبوية في الجنة متساوقة مع الآيات القرآنية الكثيرة في وصف مشاهد الجنة بأحسن المشاهد الدنيوية. والإيمان بما يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك وكونه في نطاق قدرة الله تعالى واجب مثل ما هو واجب بالنسبة للقرآن. مع الإيمان بأنه لا بدّ لذكر ذلك بالأسلوب الذي ذكر به من حكمة. ويلمح في الأحاديث كما يلمح في الآيات أن من تلك الحكمة التبشير والتطمين وإثارة الرغبة في التقرب إلى الله تعالى بصالح الأعمال.
ولقد حاول الأغيار أن يجدوا في جنات القرآن مغمزاً بالدين الإسلامي، بزعم أن ذلك يثير الأنانية والطمع في المسلمين، ويجعلهم لا يفعلون الصالحات إلا رغبة في الأجر الشخصي، ويخرج صفة الحياة الأخروية من نطاقها الروحاني التجريدي. أما إثارة الطمع والأنانية فالبداهة تقتضي بأن تكون الحياة الأخروية وجناتها قاضية عليها ؛ لأن الإنسان الذي يؤمن بأنه إذا آمن واتقى وعمل الصالحات واصلٌ إلى أعلى ما تصبو إليه نفسه من لذة ونعيم في الحياة الأخرى يستطيع أن يوطن النفس على التضحيات المتنوعة في المال والنفس، وعلى القناعة والغيرية وأعمال البر، دون أن ينتظر جزاء مادياً معجلاً في الحياة الدنيا. وأما النطاق الروحاني التجريدي فإن القرآن قد جرى فيما قرره في كل شأن مع طبائع الأمور وحقائقها.
والدين الإسلامي من أجل هذا صح أن يكون دين الخلود والإنسانية العام. وما جاء في القرآن من صفات الجنات ونعيمها قد جرى في هذا النطاق. على أنه لم يقصر ما سوف يتمتع به المؤمن الصالح في الحياة الأخروية على الجنات بل ذكر أيضا ما سوف يناله من رضوان الله الأكبر وقرة العين ومشتهيات النفس وطمأنينتها، بأساليب متنوعة ومواضع عديدة مما هو متسق كذلك مع طبائع الأمور من حيث إن الله يعلم أن هناك من يجد في هذا طمأنينة نفسه وقرة عينه أيضاً، فاحتوى القرآن ما يرضي الماديين والمثاليين معا، كما ترى في آية آل عمران هذه :﴿ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ( ١٥ ) ﴾، وفي آية التوبة هذه :﴿ وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ( ٧٢ ) ﴾. وفي آيات السجدة هذه :﴿ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ( ١٦ ) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ( ١٧ ) ﴾ ( ١٦- ١٧ ). وفي آيات سورة الفجر وهذه :﴿ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ( ٢٧ ) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً ( ٢٨ ) مَّرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي( ٢٩ ) وَادْخُلِي جَنَّتِي( ٣٠ ) ﴾ ( ٢٧- ٣٠ ).
تعليق على كلمة المسلمين
وبمناسبة ورود كلمة المسلمين في الآية ( ٣٥ ) التي صارت علماً على المؤمنين برسالة محمد صلى الله عليه وسلم لأول مرة نقول : إن الكلمة ومشتقاتها ومصدرها قد تكرر كثيراً في القرآن. وقد عنت إسلام النفس لله تعالى جاءت علماً على الدين الصحيح إطلاقاً، ووصف بها الذين يؤمنون بالله وحده وكتبه ورسله إطلاقاً كما جاء في آيات سورة البقرة هذه :﴿ ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ﴾( ١٢٨ ) و﴿ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ( ١٣١ )وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ( ١٣٢ ) أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـهَكَ وَإِلَـهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَـهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ( ١٣٣ ) ﴾ [ ١٣١- ١٣٣ ] و﴿ قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ( ١٣٦ ) فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ( ١٣٧ ) ﴾ [ ١٣٦- ١٣٧ ]، وآيات سورة آل عمران هذه :﴿ إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ( ١٩ ) فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ( ٢٠ ) ﴾[ ١٩- ٢٠ ]، و﴿ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ( ٨٥ ) ﴾.
فكل من تجرد عما سوى الله وحده وتحرر من الخضوع لغيره وأسلم وجهه ونفسه وانقاد له ولزم حدوده فهو مسلم. وفي هذا المعنى من الروعة والنفوذ والعمق في مجال توحيد الله والإخلاص له والتفاني فيه، وتحرر النفس من غيره ما هو واضح، وما يثير في أتباع محمد صلى الله عليه وسلم الاعتزاز بهذا المعنى للإسلام الذي أصبح علماً عليهم منذ العهد النبوي إلى أبد الآبدين.
أما علمية كلمة ( المسلمين ) عليهم فقد تقررت فيما نعتقد بعد نزول آية الحج هذه :﴿ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ( ٧٨ ) ﴾. وهذه
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٤:﴿ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ( ٣٤ ) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ( ٣٥ ) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ( ٣٦ ) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ ١( ٣٧ ) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ٢ ( ٣٨ ) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ٣( ٣٩ ) سَلْهُم أَيُّهُم بِذَلِكَ زَعِيمٌ ٤ ( ٤٠ ) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِن كَانُوا صَادِقِينَ( ٤١ ) يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ ٥ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ ( ٤٢ ) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ٦ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ( ٤٣ ) ﴾ ( ٣٤- ٤٣ ).
في هذه الآيات :
١- تقرير تبشيري بما للمتقين المصدقين عند ربهم من النعيم في جناته.
٢- تساؤل على سبيل الإنكار عما إذا كان يصح أن يجعل الله المسلمين كالمجرمين في اليوم الآخر.
٣- أسئلة فيها تحد وتهكم موجهة للمكذبين : فهل يظنون أن الله حقا يمكن أن يجعل المسلمين كالمجرمين ؟ وبأي وجه يحكمون بصحة هذا الظن ؛ وهل عندهم كتاب من الله يستندون إليه ويعلمون أن لهم في ذلك اليوم ما يشتهون ويختارون ؟ وهل عندهم عهد من الله مستمر وشامل ليوم القيامة بأن لهم فيه ما يبتغون ويحكمون ؟
٤- وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بسؤالهم عمن يضمن لهم ذلك ؛ وعما إذا كانوا يظنون أن شركائهم يفعلون ذلك حقاً، وتحدّ لهم بدعوة هؤلاء الشركاء وطلب نصرتهم إن كانوا صادقين.
٥- وحكاية لما سوف يكون من أمرهم يوم القيامة على سبيل الإنذار والتحدي والتبكيت : فحينما يشتد خطب ذلك اليوم عليهم، وتستدعي حالة الخطر المحيق بهم أن يسارعوا إلى السجود طلباً لغفران الله فلسوف يعجزون ؛ لأنهم أضاعوا الفرصة التي سنحت لهم حينما كانوا يؤمرون بالسجود وهم في متسع من الوقت والسلامة فلا يسجدون، ولسوف تكون أبصارهم حينئذ خاشعة من الرعب والخوف وقد حاقت بهم الذلة والهوان.
والآيات متصلة بالسياق السابق، وهي استمرار له، وتعقيب على المثل المضروب في القصة كما هو المتبادر.
وروح الآيات تلهم أن القصد من المتقين هم الذين آمنوا واستجابوا للدعوة، فوقوا أنفسهم من غضب الله، وأن القصد من المجرمين هم الذين جحدوا وتمردوا وناوأوا. وتلهم كذلك أن الكفار كانوا يزعمون أنهم في عقائدهم وتقاليدهم على حق. ولعل هذا الزعم متصل بما كان العرب يعرفونه ويقولون به من صلة تقاليدهم الدينية بإبراهيم عليه السلام وملته وصحفه.
وورود ضمير الجمع للمخاطب، وأمر النبي عليه السلام بتوجيه الأسئلة والتحدي يمكن أن يلهما أن الموقف كان موقف مواجهة ومناظرة، أو نتج عنه مواجهة ومناظرة وأن الكفار كانوا يصرون على صحة عقائدهم واتصالهم بتعاليم ربانية.
وحكاية مثل هذا الموقف تكررت كثيراً في القرآن ؛ مما يؤيد تكرر مواقف المناظرة والجدل والنقاش والحجاج الوجاهي بين النبي صلى الله عليه وسلم والكفار من حين لآخر، مما هو طبيعي في نشر الدعوة.
والإشارة الخاطفة على الجنات الأخروية يمكن أن تدل على أن ذكرها هنا يأتي لأول مرة. وبهذه المناسبة نقول : إن الجنات في القرآن جعلت عنواناً لما سيناله المؤمنين الصالحون من النعيم في الآخرة. فالناس في الدنيا وخاصة سامعي القرآن الأولين قد اعتادوا أن يجدوا اللذة والمُتعة في الجنات والبساتين، وما فيها من أشجار وأزهار ومياه وظلال وثمار. وفي إقامة مجالس الأكل والشرب واللهو فيها، فاقتضت حكمة الله أن يوعد المؤمنون الصالحون منهم بأحسن ما اعتاد الناس أن يتمتعوا به في الدنيا وتصبوا إليه نفوسهم. وقد وصفت في آيات كثيرة من القرآن بأوصاف وتشبيهات مألوفة في الدنيا تتناولها مفهوماتهم، وتشعر بها حواسهم. ونقول هنا ما قلناه في سياق الحياة الأخروية من أن الإيمان بما جاء في القرآن من مشاهد الجنة والنعيم وكون ذلك في نطاق قدرة الله تعالى واجب مع واجب الإيمان بأنه لا بد من ذكره بالأسلوب الذي ذكر به حكمة ولعل قصد التقريب للأذهان والتأثير في النفوس والتطمين البشري من هذه الحكمة.
ولقد أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم في وصف الجنة ونعيمها وأهلها ومشاهدها أحاديث كثيرا جداً. منها ما ورد في كتب الأحاديث الصحيحة، ومنها ما رواه أئمة معروفون من علماء الحديث. وقد رأينا أن نورد بعض ما ورد في كتب الأحاديث الصحيحة هنا على سبيل التمثيل ونرجئ بعضا آخر إلى مناسبات آتية أكثر ملاءمة. فمن ذلك حديث رواه الترمذي عن أبي هريرة قال :" قلت يا رسول الله ممّا خُلق الخلق ؟ قال : من الماء. قلنا الجنة ما بناؤها ؟ قال : لبنةٌ من فضة ولبنةٌ من ذهب، وملاطها المسك الأذفرُ، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وتربتها الزعفران من دخلها ينعم ولا يبؤُسُ. ويخلد ولا يموت، لا تبلى ثيابهم ولا يفنى شبابهم. ثم قال : ثلاثة لا ترد دعوتهم، الإمام العادل، والصائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم. يرفعها فوق الغمام وتفتح لها أبواب السماء ويقول الرب عزّ وجلّ : وعزتي لأنصرنّك ولو بعد حين " ١. وحديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي سعيد قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الذري الغابر في الأفق. من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم. قالوا : يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم ؟ قال : بلى، والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين " ٢. وحديث رواه الترمذي عن علي قال :" قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن في الجنة لغرفا يرى ظهورها من بطونها وبطونها من ظهورها فقام إليه أعرابي فقال : لمن هي يا رسول الله ؟ قال : هي لمن أطاب الكلامَ وأطعمَ الطعامَ وأدامَ الصّيامَ وَصلى لله بالليل والناس نيامٌ " ٣، وحديث رواه مسلم عن أنس قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن في الجنة لسوقاً يأتونها كل جمعة فتهب ريح الشمال فتحثُو في وجوههم وثيابهم فيزدادُون حسنا وجمالا فيرجعون إلى أهلهم وقد ازدادوا حسنا وجمالا فيقول لهم أهلوهم : والله لقد ازددتم بعدنا حسنا وجمالا. فيقولون : وأنتم والله لقد ازددتم بعدنا حسناً وجمالاً " ٤. وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن في الجنة سوقاً إذا دخلوها نزلوا فيها بفضل أعمالهم ثم يؤذن في مقدار يوم الجمعة من أيام الدنيا فيزورون ربهم ويُبرزُ لهم عرشه ويتبدّى لهم في روضة من رياض الجنة فيوضع لهم منابر من نور ومنابر من لؤلؤ ومنابر من يا قوت ومنابر من زبرجد ومنابر من ذهب ومنابر من فضة ويجلس أدناهم وما فيهم من دنيء على كثبان المسك والكافور وما يرون أن أصحاب الكراسي بأفضل منهم مجلسا " ٥. وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الجنة جرد مرد كحل لا يفنى شبابهم ولا تبلى ثيابهم " ٦. وحديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي هريرة قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر والذين يلونَهم على أشد كوكب دري في السماء إضاءة. لا يبولون ولا يتغوطون ولا يمتخطون ولا يتفلون. أمشاطهم الذهب ورشحهم المسك ومجامرهم الألُوّة. وأزواجهم الحور العين. أخلاقهم على خلق رجل واحد، على صورة أبيهم آدم ستون ذراعا في السماء. وفي رواية ولكل واحد منهم زوجتان يرى مخ ساقهما من وراء اللحم من الحسن. لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم واحدة يسبّحون الله بكرة وعشياً " ٧.
وواضح من هذه الأمثلة أن الأحاديث النبوية في الجنة متساوقة مع الآيات القرآنية الكثيرة في وصف مشاهد الجنة بأحسن المشاهد الدنيوية. والإيمان بما يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك وكونه في نطاق قدرة الله تعالى واجب مثل ما هو واجب بالنسبة للقرآن. مع الإيمان بأنه لا بدّ لذكر ذلك بالأسلوب الذي ذكر به من حكمة. ويلمح في الأحاديث كما يلمح في الآيات أن من تلك الحكمة التبشير والتطمين وإثارة الرغبة في التقرب إلى الله تعالى بصالح الأعمال.
ولقد حاول الأغيار أن يجدوا في جنات القرآن مغمزاً بالدين الإسلامي، بزعم أن ذلك يثير الأنانية والطمع في المسلمين، ويجعلهم لا يفعلون الصالحات إلا رغبة في الأجر الشخصي، ويخرج صفة الحياة الأخروية من نطاقها الروحاني التجريدي. أما إثارة الطمع والأنانية فالبداهة تقتضي بأن تكون الحياة الأخروية وجناتها قاضية عليها ؛ لأن الإنسان الذي يؤمن بأنه إذا آمن واتقى وعمل الصالحات واصلٌ إلى أعلى ما تصبو إليه نفسه من لذة ونعيم في الحياة الأخرى يستطيع أن يوطن النفس على التضحيات المتنوعة في المال والنفس، وعلى القناعة والغيرية وأعمال البر، دون أن ينتظر جزاء مادياً معجلاً في الحياة الدنيا. وأما النطاق الروحاني التجريدي فإن القرآن قد جرى فيما قرره في كل شأن مع طبائع الأمور وحقائقها.
والدين الإسلامي من أجل هذا صح أن يكون دين الخلود والإنسانية العام. وما جاء في القرآن من صفات الجنات ونعيمها قد جرى في هذا النطاق. على أنه لم يقصر ما سوف يتمتع به المؤمن الصالح في الحياة الأخروية على الجنات بل ذكر أيضا ما سوف يناله من رضوان الله الأكبر وقرة العين ومشتهيات النفس وطمأنينتها، بأساليب متنوعة ومواضع عديدة مما هو متسق كذلك مع طبائع الأمور من حيث إن الله يعلم أن هناك من يجد في هذا طمأنينة نفسه وقرة عينه أيضاً، فاحتوى القرآن ما يرضي الماديين والمثاليين معا، كما ترى في آية آل عمران هذه :﴿ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ( ١٥ ) ﴾، وفي آية التوبة هذه :﴿ وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ( ٧٢ ) ﴾. وفي آيات السجدة هذه :﴿ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ( ١٦ ) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ( ١٧ ) ﴾ ( ١٦- ١٧ ). وفي آيات سورة الفجر وهذه :﴿ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ( ٢٧ ) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً ( ٢٨ ) مَّرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي( ٢٩ ) وَادْخُلِي جَنَّتِي( ٣٠ ) ﴾ ( ٢٧- ٣٠ ).
تعليق على كلمة المسلمين
وبمناسبة ورود كلمة المسلمين في الآية ( ٣٥ ) التي صارت علماً على المؤمنين برسالة محمد صلى الله عليه وسلم لأول مرة نقول : إن الكلمة ومشتقاتها ومصدرها قد تكرر كثيراً في القرآن. وقد عنت إسلام النفس لله تعالى جاءت علماً على الدين الصحيح إطلاقاً، ووصف بها الذين يؤمنون بالله وحده وكتبه ورسله إطلاقاً كما جاء في آيات سورة البقرة هذه :﴿ ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ﴾( ١٢٨ ) و﴿ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ( ١٣١ )وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ( ١٣٢ ) أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـهَكَ وَإِلَـهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَـهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ( ١٣٣ ) ﴾ [ ١٣١- ١٣٣ ] و﴿ قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ( ١٣٦ ) فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ( ١٣٧ ) ﴾ [ ١٣٦- ١٣٧ ]، وآيات سورة آل عمران هذه :﴿ إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ( ١٩ ) فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ( ٢٠ ) ﴾[ ١٩- ٢٠ ]، و﴿ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ( ٨٥ ) ﴾.
فكل من تجرد عما سوى الله وحده وتحرر من الخضوع لغيره وأسلم وجهه ونفسه وانقاد له ولزم حدوده فهو مسلم. وفي هذا المعنى من الروعة والنفوذ والعمق في مجال توحيد الله والإخلاص له والتفاني فيه، وتحرر النفس من غيره ما هو واضح، وما يثير في أتباع محمد صلى الله عليه وسلم الاعتزاز بهذا المعنى للإسلام الذي أصبح علماً عليهم منذ العهد النبوي إلى أبد الآبدين.
أما علمية كلمة ( المسلمين ) عليهم فقد تقررت فيما نعتقد بعد نزول آية الحج هذه :﴿ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ( ٧٨ ) ﴾. وهذه
﴿ فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُم ١ مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ( ٤٤ ) وَأُمْلِي ٢ لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي ٣ مَتِينٌ ٤( ٤٥ ) ﴾ ( ٤٤- ٤٥ ).
الآيتان استمرار في حملة التقريع كسابقاتهما، مع تطمين للنبي صلى الله عليه وسلم وتقوية له وإنذار للمكذبين. والخطاب موجه إليه : فليترك لله الذين يكذبون بالقرآن ولا يغتر بما يتمتعون به من قوة ومال، فإن الله إنما يفعل ذلك استدراجا لهم من حيث لا يعلمون وإملاء، وإن كيده لقوي شديد، ولسوف يحيط بهم.
تعليق على آيتي
﴿ سنستدرجهم من حيث لا يعلمون ﴾
و﴿ وأملي لهم إن كيدي متين ﴾
وصيغة هاتين الآيتين قد تكررت في مواضيع أخرى في مقامات مماثلة للمقام الذي جاءتا فيه. والمتبادر من روحهما أن تعابير ﴿ سنستدرجهم ﴾ و﴿ وأملي لهم ﴾ و﴿ كيدي ﴾ هي تعابير أسلوبية مألوفة في الخطاب البشري ثم في الكلام العربي. ولا محل للتوهم بأنها تعني أن الله يصبر على الكفار المكذبين بقصد توريطهم ويمد لهم بقصد بث الاغترار فيهم، أو أنه يكيد لخلقه كيداً. فإنه سبحانه منزّه عن ذلك كله. وقد وقع من الكفار التكذيب ووقفوا موقف الجحود والتمرد والمناوأة والصد عن سبيل الله فاستحقوا النكال والعذاب. والتعابير إلى هذا تنطوي على تطمين النبي صلى الله عليه وسلم وتثبيته وتقويته وإنذار للكفار المكذبين كما قلنا.
وهناك آيات فيها تعليل لعدم التعجيل بعذاب أمثال هؤلاء والاكتفاء بمثل هذه الإنذارات التي احتوتها الآيتان. من ذلك آية سورة الكهف هذه :﴿ وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئِلًا( ٥٨ ) ﴾، وآية سورة فاطر هذه :﴿ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا( ٤٥ ) ﴾.
وهناك حديث يرويه الشيخان والترمذي وأبو داود يصح أن يساق في هذا المقام عن أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته " ١.
ويتبادر من ذلك كله أن حكمة الله تعالى اقتضت أن يمنح الكفار والمكذبون والبغاة الفرصة لعلهم يرتدعون ويرعوون فإذا أضاعوها واستمروا في غيهم وبغيهم استحقوا النكال في الدنيا أو في الآخرة أو في الدنيا والآخرة معا حسب مشيئة الله تعالى. وجملة :﴿ وربك الغفور ذو الرحمة ﴾ [ ٥٨ ] في آية الكهف ذات دلالة جليلة في المدى المتبادر.
والآيات في ذات الوقت تسجيل للحالة التي كان عليها الكفار المكذبون حين نزولها، ومن المعلوم اليقيني أن كثيراً منهم قد آمن بعد نزولها قبل الفتح المكي أو بعده فظهر مصداق حكمة الله المتبادرة، والله تعالى أعلم.
- الكيد : التدبير ضد العدو ونكايته.
- متين : قوي أو شديد.
﴿ فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُم ١ مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ( ٤٤ ) وَأُمْلِي ٢ لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي ٣ مَتِينٌ ٤( ٤٥ ) ﴾ ( ٤٤- ٤٥ ).
الآيتان استمرار في حملة التقريع كسابقاتهما، مع تطمين للنبي صلى الله عليه وسلم وتقوية له وإنذار للمكذبين. والخطاب موجه إليه : فليترك لله الذين يكذبون بالقرآن ولا يغتر بما يتمتعون به من قوة ومال، فإن الله إنما يفعل ذلك استدراجا لهم من حيث لا يعلمون وإملاء، وإن كيده لقوي شديد، ولسوف يحيط بهم.
تعليق على آيتي
﴿ سنستدرجهم من حيث لا يعلمون ﴾
و﴿ وأملي لهم إن كيدي متين ﴾
وصيغة هاتين الآيتين قد تكررت في مواضيع أخرى في مقامات مماثلة للمقام الذي جاءتا فيه. والمتبادر من روحهما أن تعابير ﴿ سنستدرجهم ﴾ و﴿ وأملي لهم ﴾ و﴿ كيدي ﴾ هي تعابير أسلوبية مألوفة في الخطاب البشري ثم في الكلام العربي. ولا محل للتوهم بأنها تعني أن الله يصبر على الكفار المكذبين بقصد توريطهم ويمد لهم بقصد بث الاغترار فيهم، أو أنه يكيد لخلقه كيداً. فإنه سبحانه منزّه عن ذلك كله. وقد وقع من الكفار التكذيب ووقفوا موقف الجحود والتمرد والمناوأة والصد عن سبيل الله فاستحقوا النكال والعذاب. والتعابير إلى هذا تنطوي على تطمين النبي صلى الله عليه وسلم وتثبيته وتقويته وإنذار للكفار المكذبين كما قلنا.
وهناك آيات فيها تعليل لعدم التعجيل بعذاب أمثال هؤلاء والاكتفاء بمثل هذه الإنذارات التي احتوتها الآيتان. من ذلك آية سورة الكهف هذه :﴿ وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئِلًا( ٥٨ ) ﴾، وآية سورة فاطر هذه :﴿ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا( ٤٥ ) ﴾.
وهناك حديث يرويه الشيخان والترمذي وأبو داود يصح أن يساق في هذا المقام عن أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته " ١.
ويتبادر من ذلك كله أن حكمة الله تعالى اقتضت أن يمنح الكفار والمكذبون والبغاة الفرصة لعلهم يرتدعون ويرعوون فإذا أضاعوها واستمروا في غيهم وبغيهم استحقوا النكال في الدنيا أو في الآخرة أو في الدنيا والآخرة معا حسب مشيئة الله تعالى. وجملة :﴿ وربك الغفور ذو الرحمة ﴾ [ ٥٨ ] في آية الكهف ذات دلالة جليلة في المدى المتبادر.
والآيات في ذات الوقت تسجيل للحالة التي كان عليها الكفار المكذبون حين نزولها، ومن المعلوم اليقيني أن كثيراً منهم قد آمن بعد نزولها قبل الفتح المكي أو بعده فظهر مصداق حكمة الله المتبادرة، والله تعالى أعلم.
أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ١ مُّثْقَلُونَ( ٤٦ ) أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ ٢( ٤٧ ) } ( ٤٦- ٤٧ ).
٢- يكتبون : هنا بمعنى يقضون أو يقررون ما يريدون.
والآيتان أيضا استمرار في السياق، والخطاب فيهما موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم كذلك. وقد جاءتا كذلك بأسلوب التساؤل عما إذا كان يطلب من الكفار أجرا على دعوته لهم وإرشادهم حتى يستثقلوا الطلب ويتهربوا من الدعوة تفادياً من المغرم والخسارة ؛ أو عما إذ كانوا مطلعين على غيب الله أم بيدهم أمر المستقبل، فيقررون لأنفسهم ما يشاؤون حتى يبدو منهم هذا الاطمئنان إلى العاقبة.
نفي طمع النبي صلى الله عليه وسلم في أجر على رسالته
وأسلوب الآيتين منطو على التنديد بالمكذبين على تصاممهم عن الدعوة وعدم مبالاتهم، كما هو منطو على الإنذار كما هو المتبادر. كذلك فإنه منطو على نفي طلب النبي صلى الله عليه وسلم أو طمعه في أجر أو مكافأة على مهمته العظمى، وقد تكرر في القرآن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإعلانه ذلك في معرض الدعوة والتنديد، ثم في معرض التدليل على صدق الدعوة والإخلاص لها إخلاصاً مجرداً من أي غاية خاصة إلا واجب القيام بأمر الله ورغبة هدايتهم إلى الله ومكارم الأخلاق، وتأمين أسباب السعادة لهم في الدنيا والآخرة وإنذارهم بالعواقب الوخيمة لعدم استجابتهم مثل آيات سورة سبأ هذه :﴿ قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَاب شَدِيدٍ ( ٤٦ ) قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ( ٤٧ ) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ( ٤٨ ) قُلْ جَاء الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ( ٤٩ ) ﴾ [ ٤٦- ٤٩ ]. وآية سورة الفرقان هذه :﴿ قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَن شَاء أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا( ٥٧ ) ﴾.
٢- يكتبون : هنا بمعنى يقضون أو يقررون ما يريدون.
والآيتان أيضا استمرار في السياق، والخطاب فيهما موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم كذلك. وقد جاءتا كذلك بأسلوب التساؤل عما إذا كان يطلب من الكفار أجرا على دعوته لهم وإرشادهم حتى يستثقلوا الطلب ويتهربوا من الدعوة تفادياً من المغرم والخسارة ؛ أو عما إذ كانوا مطلعين على غيب الله أم بيدهم أمر المستقبل، فيقررون لأنفسهم ما يشاؤون حتى يبدو منهم هذا الاطمئنان إلى العاقبة.
﴿ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ ١ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ ٢ ( ٤٨ ) لَوْلَا أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ ٣ بِالْعَرَاء ٤ وَهُوَ مَذْمُومٌ ٥ ( ٤٩ ) فَاجْتَبَاهُ ٦ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ( ٥٠ ) ﴾ ( ٤٨- ٥٠ ).
الآيات موجهة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وفيها :
١- أمر بالصبر إلى أن يتم أمر الله وحكمه.
٢- ونهي عن أن يكون كصاحب الحوت الذي ضاق ذرعه ولم يطق صبراً على تكذيب أمته له.
٣- وإشارة خاطفة إلى ما كان من عاقبته ؛ حيث استغاث الله وناداه فعطف عليه وتداركته نعمته واجتباه وجعله من الصالحين. ولولا ذلك لألقاه الحوت إلى الأرض العارية منبوذاً مذموماً.
والآيات استمرار للسياق كما هو واضح. وفيها صورة مما كان يطرأ على النبي صلى الله عليه وسلم من أزمات وضيق صدر من موقف الصدّ والتكذيب والمناوأة الذي أخذ يواجهه منذ أوائل الدعوة. وقد تكررت الإشارات القرآنية إلى مثل هذه الصورة كما تكررت الأوامر القرآنية للنبي صلى الله عليه وسلم بالصبر والثبات١.
والإشارة إلى صاحب الحوت هي أولى الإشارات القرآنية إلى الأنبياء وقصصهم ؛ لأن صاحب الحوت هو النبي يونس على ما ذكر ذلك بصراحة في سورة الصافات. ثم توالت الفصول القرآنية في قصص الأنبياء وأقوامهم. ومعظمها تكرر وروده أكثر من مرة مقتضيا في مكان مسهباً في مكان آخر حتى شغلت حيزاً غير قليل من القرآن وخاصة المكي منه. واقتضاب الإشارة وخاصة الاكتفاء بالإشارة الضمينة إلى النبي يونس بتعبير صاحب الحوت يدلان على أن قصة يونس لم تكن غريبة عن سامعي القرآن. ولقد ذكرت بتفصيل واف في سفر يونان أحد أسفار العهد القديم المتداولة اليوم. وهذه الأسفار كانت متداولة بين اليهود والنصارى في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم والمتبادر أن أهل بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وسامعي القرآن منهم قد سمعوها أو أن بعضهم قد سمعها منهم.
وملخص ما ورد في السفر المذكور وهو متطابق إجمالاً مع ما ورد في القرآن أن الله تعالى أمر يونان بن أمتاي٢ بإنذار أهل نينوى بعذاب الله ولكنه هرب من وجه الرب إلى يافا ليبحر إلى ترشيش، فركب سفينة فثارت زوبعة عظيمة فخاف الملاحون وألقوا أثقالهم، ثم اقترعوا على إلقاء بعضهم على أمل أن يلقوا من كان الشر بسببه، فوقعت القرعة عليه وحثهم على إلقائه قائلاً : إن الزوبعة ثارت من أجلي، فألقوه فوقفت الزوبعة. وابتلع يونان حوت عظيم وبقي في بطنه ثلاثة أيام وكان يصلي لله و يستغيث به فاستجاب الله له وأمر الحوت بقذفه من جفوه ثم أمره بالذهاب إلى نينوى ثانية فلما جاءهم وأنذرهم آمنوا فكشف الله عنهم الشر الذي كان يوشك أن ينزل بهم.
والإشارة إلى صاحب الحوت هنا وردت في معرض التمثيل والتحذير والتثبيت حتى لا يضيق صدر النبي صلى الله عليه وسلم بموقف التكذيب واللجاج الذي وقفه قومه منه. وهذا ما استهدفته قصص الأنبياء في القرآن التي يلحظ أنها استهدفت ثلاثة أهداف :
الأول : تثبيت النبي عليه السلام ودعوته إلى التأسي كما هي في الآيات التي نحن في صددها وكما ذكر في آيات كثيرة منها آيات سورة الأنعام هذه :﴿ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ( ٣٣ ) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ( ٣٤ ) ﴾ ( ٣٣- ٣٤ ).
والثاني : إنذار الكفار وتذكيرهم بما حل بمن سبقهم من الجاحدين المكذبين الصادين كما ذكر في آيات كثيرة منها آيات سورة العنكبوت هذه :﴿ وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ( ٣٨ )وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءهُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ( ٣٩ ) فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ( ٤٠ ) ﴾ ( ٣٨- ٤٠ ).
والثالث : تطمين وتبشير المسلمين بما كان من عاقبة كل من المؤمنين والكفار من الأمم السابقة حيث أهلك الله الكفار ونصر ونجى المسلمين ودعوتهم إلى التأسي بما كان من صبر الأنبياء والمؤمنين السابقين وثباتهم على دين الله كما ذكر في آيات كثيرة منها آيات سورة هود هذه :﴿ فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ( ٦٦ ) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ( ٦٧ ) كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْدًا لِّثَمُودَ( ٦٨ ) ﴾ [ ٦٦- ٦٨ ].
ومجمل الأهداف الثلاثة هو العبرة والموعظة والتطمين والتسلية والتنديد والإنذار، وفي القرآن آيات كثيرة أخرى تتضمن تقرير هدف القصص القرآنية في نطاق ذلك منها آية سورة الأعراف هذه :﴿ تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبائِهَا وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللّهُ عَلَىَ قُلُوبِ الْكَافِرِينَ( ١٠١ ) ﴾. وآية سورة هود هذه :﴿ وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَـذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ( ١٢٠ ) ﴾، وآية سورة يوسف هذه :﴿ لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب( ١١١ ) ﴾.
ولقد قلنا : إن قصة يونس لم تكن غريبة عن سامعي القرآن، وهذا يطّرد في القصص القرآنية عامة على ما سوف نبينه في مناسباته. وآيات العنكبوت تنطوي على دليل قوي على ذلك إذا ما أنعم القارئ النظر فيها. وهناك آيات عديدة أخرى تفيد ذلك منها آية سورة الأنبياء هذه :﴿ بَلْ قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ( ٥ ) ﴾، وآية سورة القصص هذه :﴿ فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى( ٤٨ ) ﴾. حيث يمكن أن يقال : إن حكمة الله اقتضت أن تكون القصص معروفة من قبل السامعين جزئياً أو كلياً لتكون العبرة و العظة والإلزام والإفحام أشد ؛ لأن الناس يتأثرون بالأمثال التي يعرفونها، والأحداث التي يعلمون نبأها.
ولقد سبق الآيات التي نحن في صددها آيات تنديدية وإنذارية، كما لحقتها آيتان فيهما تنديد وتثبيت أيضا. وهذا مؤيد لكون الهدف هو التثبيت والتحذير. وقد جرى القرآن على هذا الأسلوب في معظم الفصول التي وردت فيها قصص الأنبياء، بل إن هذا في الفصول أوفى وأظهر، مما هو مؤيد لفكرة الهدف من جهة ومظهر من مظاهر الانسجام في النظم القرآني من جهة ثانية، ودليل على أن القصص القرآنية لم ترد لماهيتها التاريخية من جهة ثالثة.
ولقد قلنا : إن معظم قصص الأنبياء وأقوامهم قد تكررت في القرآن وتنوعت أساليبها ومنها ما تكرر مراراً عديدة، وقد غمز المغرضون من المبشرين والمستشرقين القرآن بسبب ذلك وبسبب تكراره الفصول التدعيمية الأخرى كمشاهد الكون ومشاهد الآخرة والحجج والبراهين. ورداً على ذلك نقول : إن الفصول القصصية لم تكن للسرد التاريخي وإنما هي للوعظ والعبرة، ولقد كانت اتصالات النبي صلى الله عليه وسلم بمختلف طبقات الناس والمناسبات والأوقات مستمرة متجددة. وكانت متنوعة في ظروفها وأشخاصها. فمن الطبيعي أن تتماثل الفصول القرآنية التي كانت تتلى بوحي الله على مختلف الطبقات وفي مختلف المناسبات والأوقات بسبيل تدعيم الدعوة وتحقيق الهدف من القصص القرآنية. ومع جلالة قدر النبوة وصاحبها صلى الله عليه وسلم يمكن أن يقال : إن مثل النبي في ذلك مثل الواعظ أو المدرس أو المعلم الذي يلقي دروسه على طلابه ومستمعيه. فهؤلاء يتجددون من آن لآخر، فمن الطبيعي أن يكرر المعلم والواعظ والمدرس دروسه ومواعظه بناء على ذلك. وقصارى ما يمكن أن يحدث هو شيء من التبدل والتنوع في طريقة العرض والأسلوب والألفاظ. وهو نفس الشيء الذي كان بالنسبة للفصول القصصية والتدعيمية الأخرى المتكررة١، حيث كانت حكمة التنزيل توحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بما يقتضي الموقف ذكره من القصص بالأسلوب الذي يقتضيه. ولا يتناقض هذا مع كون النبي صلى الله عليه وسلم كان قد عرف أو سمع هذه القصص. ويلحظ أنه كل مرة تكررت فيها هذه الفصول جاء فيها شيء جديد استكمالاً للعبرة والموعظة على ما سوف ننبه إليه في مناسباته. وهذا من مظاهر تلك الحكمة كما هو المتبادر.
وهناك نقطة أخرى يحسن أن نشير إليها، وهي أن المفسرين يجنحون إلى القول أو الظن أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلم شيئا من القصص التي كان يوحى إليه بها قبل نزولها. ولسنا نرى هذا وجيهاً لا من وجهة نظر الوحي القرآني ولا من وجهة نظرة النبوة. فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يعيش قبل نزول الوحي عليه في بيئة فيها كتابيون يروون ما في كتبهم من قصص ويتداولونها والروايات العديدة تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتصل بهم ويسمع منهم ما في كتبهم. وتجار وغير تجار كانوا يرحلون إلى البلاد المجاورة للجزيرة يسمعون من أهلها مختلف الأنبياء والأخبار والقصص. والنبي صلى الله عليه وسلم نفسه قام ببعض الأسفار إلى بعض هذه البلاد كما هو ثابت ثبوتاً في درجة اليقين. ورواة العرب يروون ما يتناقله الأجيال من أخبار وأحداث وقصص عربية. فليس من المعقول ولا من الطبيعي أن يقال : إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجهل هذه القصص كلياً أو جزئياً. ونقول هنا ما قلناه قبل قليل : إن ذلك آت من سوء فهم كنه وهدف الوحي بهذه القصص عن حسن نية. وليس من تعارض قط بين وحي ما اقتضت حكمة التنزيل إيحاءه منها بالأسلوب الذي أوحيت به وبين ما يمكن ويصح أن يكون النبي قد عرفه منها قبل نزولها. ولقد كان في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم تقاليد دينية واجتماعية متنوعة وكان يجري فيها أحداث متنوعة شاهد بعضها وسمع بعضها وعاش بعضها. ولقد ذكر في القرآن كثير من ذلك وليس أحد يدعي أو يمكن أن يدعي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرف ذلك قبل بعثته. وهذا وذاك من باب واحد.
ويورد الذين يقولون ذلك القول بعض آيات وردت في سياق بعض القصص منها آية سورة هود هذه في سياق قصة نوح :﴿ تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا( ٤٩ ) ﴾، وآية سورة آل عمران هذه في سياق قصة مريم :﴿ ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ( ٤٤ ) ﴾، وآية سورة يوسف في سياق قصة يوسف وإخوته :﴿ ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُون( ١٠٢ ) ﴾. وقصتا نوح ويوسف وردتا متصلتين في سفر التكوين وبين ما ورد في هذا السفر وما ورد في القرآن تطابق كثير. وهذا السفر كان مما يتداوله الكتابيون. وكان العرب يعرفون قصة نوح واتخذوا أصنام قومه التي ذكرها الله في سورة نوح أصناماً لهم على ما سوف نشرحه في سياقها. فلا يصح أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم وقومه لم يعرفوا شيئاً من هذه القصص الثلاث، وليس من مناص إزاء الواقع من تخريج الآيات بما يزيل الإشكال ويتفق معه. وقد رأينا الخازن يعلق على آية هود فيقول : إن هذه القصة مشهورة وإنه ليس مما يحتمل أن لا تكون معروفة. وإنه يجب صرف الآية على محمل قصد عدم معرفة النبي وقومه بجميع تفصيلاتها، وفي هذا التعليق وجاهة ظاهرة كما أنه لا معدى عنه أو عن ما يقاربه كصرف كلمة ( الغيب ) على معنى الزمن البعيد غير المشاهد أو الذي صار في طيات الدهر.
وننبه على أن بقية الفصول القصصية في سورتي هود وآل عمران، وكذلك الفصول المتنوعة الواردة في مختلف السور بما في ذلك قصص نوح ويوسف ومريم لم يرد فيها مثل هذا التعليق والتقييد. وأن قصة نوح ذكرت بتفصيل أو اقتضاب مرات كثيرة في السور التي نزلت قبل سورة هود مثل سور ص والأعراف والقمر والشعراء، وأن قصة مريم وولادة عيسى ذكرت بتفصيل أيضا في سورة مريم التي نزلت هي الأخرى قبل سورة آل عمران وأشير إليها باقتضاب في سور متعددة أخرى، ولم يرد في هذه القصص في هذه السور مثل هذا التعليق والتقييد مما يجعل التأويل والتخريج سائغاً وصواباً.
ومما يصح إضافته إلى الآيات العديدة التي احتوت دلائل وقرائن على أن السامعين كانوا يعرفون أخبار الأمم والأنبياء التي تتلى عليهم في القرآن على سبيل العظة والتذكر أن المفسرين قد أوردوا بيانات كثيرة في سياق كل قصة من القصص مسهبة حيناً ومقتضبة حيناً معزوة إلى علماء الأخبار إطلاقاً حيناً وبأسماء حيناً مثل ابن عباس ومقاتل ومجاهد والضحاك والكلبي وابن اسحق ووهب بن منبه وكعب الأحبار وغيرهم. واحتوت تفاصيل وجزئيات حول هذه القصص أو قصصاً لسبيلها مهما كان فيها من إغراب ومفارقات، فإننا نستبعد أن تكون كلها موضوعة بعد النبي صلى الله عليه وسلم ونميل إلى القول، بل نرجح أنها احتوت أشياء كثيرة مما كان يدور في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم قبل ا
- العراء : الأرض العارية من الشجر.
- مذموم : سيء الذكر والعاقبة
﴿ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ ١ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ ٢ ( ٤٨ ) لَوْلَا أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ ٣ بِالْعَرَاء ٤ وَهُوَ مَذْمُومٌ ٥ ( ٤٩ ) فَاجْتَبَاهُ ٦ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ( ٥٠ ) ﴾ ( ٤٨- ٥٠ ).
الآيات موجهة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وفيها :
١- أمر بالصبر إلى أن يتم أمر الله وحكمه.
٢- ونهي عن أن يكون كصاحب الحوت الذي ضاق ذرعه ولم يطق صبراً على تكذيب أمته له.
٣- وإشارة خاطفة إلى ما كان من عاقبته ؛ حيث استغاث الله وناداه فعطف عليه وتداركته نعمته واجتباه وجعله من الصالحين. ولولا ذلك لألقاه الحوت إلى الأرض العارية منبوذاً مذموماً.
والآيات استمرار للسياق كما هو واضح. وفيها صورة مما كان يطرأ على النبي صلى الله عليه وسلم من أزمات وضيق صدر من موقف الصدّ والتكذيب والمناوأة الذي أخذ يواجهه منذ أوائل الدعوة. وقد تكررت الإشارات القرآنية إلى مثل هذه الصورة كما تكررت الأوامر القرآنية للنبي صلى الله عليه وسلم بالصبر والثبات١.
والإشارة إلى صاحب الحوت هي أولى الإشارات القرآنية إلى الأنبياء وقصصهم ؛ لأن صاحب الحوت هو النبي يونس على ما ذكر ذلك بصراحة في سورة الصافات. ثم توالت الفصول القرآنية في قصص الأنبياء وأقوامهم. ومعظمها تكرر وروده أكثر من مرة مقتضيا في مكان مسهباً في مكان آخر حتى شغلت حيزاً غير قليل من القرآن وخاصة المكي منه. واقتضاب الإشارة وخاصة الاكتفاء بالإشارة الضمينة إلى النبي يونس بتعبير صاحب الحوت يدلان على أن قصة يونس لم تكن غريبة عن سامعي القرآن. ولقد ذكرت بتفصيل واف في سفر يونان أحد أسفار العهد القديم المتداولة اليوم. وهذه الأسفار كانت متداولة بين اليهود والنصارى في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم والمتبادر أن أهل بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وسامعي القرآن منهم قد سمعوها أو أن بعضهم قد سمعها منهم.
وملخص ما ورد في السفر المذكور وهو متطابق إجمالاً مع ما ورد في القرآن أن الله تعالى أمر يونان بن أمتاي٢ بإنذار أهل نينوى بعذاب الله ولكنه هرب من وجه الرب إلى يافا ليبحر إلى ترشيش، فركب سفينة فثارت زوبعة عظيمة فخاف الملاحون وألقوا أثقالهم، ثم اقترعوا على إلقاء بعضهم على أمل أن يلقوا من كان الشر بسببه، فوقعت القرعة عليه وحثهم على إلقائه قائلاً : إن الزوبعة ثارت من أجلي، فألقوه فوقفت الزوبعة. وابتلع يونان حوت عظيم وبقي في بطنه ثلاثة أيام وكان يصلي لله و يستغيث به فاستجاب الله له وأمر الحوت بقذفه من جفوه ثم أمره بالذهاب إلى نينوى ثانية فلما جاءهم وأنذرهم آمنوا فكشف الله عنهم الشر الذي كان يوشك أن ينزل بهم.
والإشارة إلى صاحب الحوت هنا وردت في معرض التمثيل والتحذير والتثبيت حتى لا يضيق صدر النبي صلى الله عليه وسلم بموقف التكذيب واللجاج الذي وقفه قومه منه. وهذا ما استهدفته قصص الأنبياء في القرآن التي يلحظ أنها استهدفت ثلاثة أهداف :
الأول : تثبيت النبي عليه السلام ودعوته إلى التأسي كما هي في الآيات التي نحن في صددها وكما ذكر في آيات كثيرة منها آيات سورة الأنعام هذه :﴿ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ( ٣٣ ) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ( ٣٤ ) ﴾ ( ٣٣- ٣٤ ).
والثاني : إنذار الكفار وتذكيرهم بما حل بمن سبقهم من الجاحدين المكذبين الصادين كما ذكر في آيات كثيرة منها آيات سورة العنكبوت هذه :﴿ وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ( ٣٨ )وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءهُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ( ٣٩ ) فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ( ٤٠ ) ﴾ ( ٣٨- ٤٠ ).
والثالث : تطمين وتبشير المسلمين بما كان من عاقبة كل من المؤمنين والكفار من الأمم السابقة حيث أهلك الله الكفار ونصر ونجى المسلمين ودعوتهم إلى التأسي بما كان من صبر الأنبياء والمؤمنين السابقين وثباتهم على دين الله كما ذكر في آيات كثيرة منها آيات سورة هود هذه :﴿ فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ( ٦٦ ) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ( ٦٧ ) كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْدًا لِّثَمُودَ( ٦٨ ) ﴾ [ ٦٦- ٦٨ ].
ومجمل الأهداف الثلاثة هو العبرة والموعظة والتطمين والتسلية والتنديد والإنذار، وفي القرآن آيات كثيرة أخرى تتضمن تقرير هدف القصص القرآنية في نطاق ذلك منها آية سورة الأعراف هذه :﴿ تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبائِهَا وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللّهُ عَلَىَ قُلُوبِ الْكَافِرِينَ( ١٠١ ) ﴾. وآية سورة هود هذه :﴿ وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَـذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ( ١٢٠ ) ﴾، وآية سورة يوسف هذه :﴿ لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب( ١١١ ) ﴾.
ولقد قلنا : إن قصة يونس لم تكن غريبة عن سامعي القرآن، وهذا يطّرد في القصص القرآنية عامة على ما سوف نبينه في مناسباته. وآيات العنكبوت تنطوي على دليل قوي على ذلك إذا ما أنعم القارئ النظر فيها. وهناك آيات عديدة أخرى تفيد ذلك منها آية سورة الأنبياء هذه :﴿ بَلْ قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ( ٥ ) ﴾، وآية سورة القصص هذه :﴿ فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى( ٤٨ ) ﴾. حيث يمكن أن يقال : إن حكمة الله اقتضت أن تكون القصص معروفة من قبل السامعين جزئياً أو كلياً لتكون العبرة و العظة والإلزام والإفحام أشد ؛ لأن الناس يتأثرون بالأمثال التي يعرفونها، والأحداث التي يعلمون نبأها.
ولقد سبق الآيات التي نحن في صددها آيات تنديدية وإنذارية، كما لحقتها آيتان فيهما تنديد وتثبيت أيضا. وهذا مؤيد لكون الهدف هو التثبيت والتحذير. وقد جرى القرآن على هذا الأسلوب في معظم الفصول التي وردت فيها قصص الأنبياء، بل إن هذا في الفصول أوفى وأظهر، مما هو مؤيد لفكرة الهدف من جهة ومظهر من مظاهر الانسجام في النظم القرآني من جهة ثانية، ودليل على أن القصص القرآنية لم ترد لماهيتها التاريخية من جهة ثالثة.
ولقد قلنا : إن معظم قصص الأنبياء وأقوامهم قد تكررت في القرآن وتنوعت أساليبها ومنها ما تكرر مراراً عديدة، وقد غمز المغرضون من المبشرين والمستشرقين القرآن بسبب ذلك وبسبب تكراره الفصول التدعيمية الأخرى كمشاهد الكون ومشاهد الآخرة والحجج والبراهين. ورداً على ذلك نقول : إن الفصول القصصية لم تكن للسرد التاريخي وإنما هي للوعظ والعبرة، ولقد كانت اتصالات النبي صلى الله عليه وسلم بمختلف طبقات الناس والمناسبات والأوقات مستمرة متجددة. وكانت متنوعة في ظروفها وأشخاصها. فمن الطبيعي أن تتماثل الفصول القرآنية التي كانت تتلى بوحي الله على مختلف الطبقات وفي مختلف المناسبات والأوقات بسبيل تدعيم الدعوة وتحقيق الهدف من القصص القرآنية. ومع جلالة قدر النبوة وصاحبها صلى الله عليه وسلم يمكن أن يقال : إن مثل النبي في ذلك مثل الواعظ أو المدرس أو المعلم الذي يلقي دروسه على طلابه ومستمعيه. فهؤلاء يتجددون من آن لآخر، فمن الطبيعي أن يكرر المعلم والواعظ والمدرس دروسه ومواعظه بناء على ذلك. وقصارى ما يمكن أن يحدث هو شيء من التبدل والتنوع في طريقة العرض والأسلوب والألفاظ. وهو نفس الشيء الذي كان بالنسبة للفصول القصصية والتدعيمية الأخرى المتكررة١، حيث كانت حكمة التنزيل توحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بما يقتضي الموقف ذكره من القصص بالأسلوب الذي يقتضيه. ولا يتناقض هذا مع كون النبي صلى الله عليه وسلم كان قد عرف أو سمع هذه القصص. ويلحظ أنه كل مرة تكررت فيها هذه الفصول جاء فيها شيء جديد استكمالاً للعبرة والموعظة على ما سوف ننبه إليه في مناسباته. وهذا من مظاهر تلك الحكمة كما هو المتبادر.
وهناك نقطة أخرى يحسن أن نشير إليها، وهي أن المفسرين يجنحون إلى القول أو الظن أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلم شيئا من القصص التي كان يوحى إليه بها قبل نزولها. ولسنا نرى هذا وجيهاً لا من وجهة نظر الوحي القرآني ولا من وجهة نظرة النبوة. فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يعيش قبل نزول الوحي عليه في بيئة فيها كتابيون يروون ما في كتبهم من قصص ويتداولونها والروايات العديدة تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتصل بهم ويسمع منهم ما في كتبهم. وتجار وغير تجار كانوا يرحلون إلى البلاد المجاورة للجزيرة يسمعون من أهلها مختلف الأنبياء والأخبار والقصص. والنبي صلى الله عليه وسلم نفسه قام ببعض الأسفار إلى بعض هذه البلاد كما هو ثابت ثبوتاً في درجة اليقين. ورواة العرب يروون ما يتناقله الأجيال من أخبار وأحداث وقصص عربية. فليس من المعقول ولا من الطبيعي أن يقال : إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجهل هذه القصص كلياً أو جزئياً. ونقول هنا ما قلناه قبل قليل : إن ذلك آت من سوء فهم كنه وهدف الوحي بهذه القصص عن حسن نية. وليس من تعارض قط بين وحي ما اقتضت حكمة التنزيل إيحاءه منها بالأسلوب الذي أوحيت به وبين ما يمكن ويصح أن يكون النبي قد عرفه منها قبل نزولها. ولقد كان في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم تقاليد دينية واجتماعية متنوعة وكان يجري فيها أحداث متنوعة شاهد بعضها وسمع بعضها وعاش بعضها. ولقد ذكر في القرآن كثير من ذلك وليس أحد يدعي أو يمكن أن يدعي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرف ذلك قبل بعثته. وهذا وذاك من باب واحد.
ويورد الذين يقولون ذلك القول بعض آيات وردت في سياق بعض القصص منها آية سورة هود هذه في سياق قصة نوح :﴿ تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا( ٤٩ ) ﴾، وآية سورة آل عمران هذه في سياق قصة مريم :﴿ ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ( ٤٤ ) ﴾، وآية سورة يوسف في سياق قصة يوسف وإخوته :﴿ ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُون( ١٠٢ ) ﴾. وقصتا نوح ويوسف وردتا متصلتين في سفر التكوين وبين ما ورد في هذا السفر وما ورد في القرآن تطابق كثير. وهذا السفر كان مما يتداوله الكتابيون. وكان العرب يعرفون قصة نوح واتخذوا أصنام قومه التي ذكرها الله في سورة نوح أصناماً لهم على ما سوف نشرحه في سياقها. فلا يصح أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم وقومه لم يعرفوا شيئاً من هذه القصص الثلاث، وليس من مناص إزاء الواقع من تخريج الآيات بما يزيل الإشكال ويتفق معه. وقد رأينا الخازن يعلق على آية هود فيقول : إن هذه القصة مشهورة وإنه ليس مما يحتمل أن لا تكون معروفة. وإنه يجب صرف الآية على محمل قصد عدم معرفة النبي وقومه بجميع تفصيلاتها، وفي هذا التعليق وجاهة ظاهرة كما أنه لا معدى عنه أو عن ما يقاربه كصرف كلمة ( الغيب ) على معنى الزمن البعيد غير المشاهد أو الذي صار في طيات الدهر.
وننبه على أن بقية الفصول القصصية في سورتي هود وآل عمران، وكذلك الفصول المتنوعة الواردة في مختلف السور بما في ذلك قصص نوح ويوسف ومريم لم يرد فيها مثل هذا التعليق والتقييد. وأن قصة نوح ذكرت بتفصيل أو اقتضاب مرات كثيرة في السور التي نزلت قبل سورة هود مثل سور ص والأعراف والقمر والشعراء، وأن قصة مريم وولادة عيسى ذكرت بتفصيل أيضا في سورة مريم التي نزلت هي الأخرى قبل سورة آل عمران وأشير إليها باقتضاب في سور متعددة أخرى، ولم يرد في هذه القصص في هذه السور مثل هذا التعليق والتقييد مما يجعل التأويل والتخريج سائغاً وصواباً.
ومما يصح إضافته إلى الآيات العديدة التي احتوت دلائل وقرائن على أن السامعين كانوا يعرفون أخبار الأمم والأنبياء التي تتلى عليهم في القرآن على سبيل العظة والتذكر أن المفسرين قد أوردوا بيانات كثيرة في سياق كل قصة من القصص مسهبة حيناً ومقتضبة حيناً معزوة إلى علماء الأخبار إطلاقاً حيناً وبأسماء حيناً مثل ابن عباس ومقاتل ومجاهد والضحاك والكلبي وابن اسحق ووهب بن منبه وكعب الأحبار وغيرهم. واحتوت تفاصيل وجزئيات حول هذه القصص أو قصصاً لسبيلها مهما كان فيها من إغراب ومفارقات، فإننا نستبعد أن تكون كلها موضوعة بعد النبي صلى الله عليه وسلم ونميل إلى القول، بل نرجح أنها احتوت أشياء كثيرة مما كان يدور في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم قبل ا
﴿ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ ١ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ ٢ ( ٤٨ ) لَوْلَا أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ ٣ بِالْعَرَاء ٤ وَهُوَ مَذْمُومٌ ٥ ( ٤٩ ) فَاجْتَبَاهُ ٦ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ( ٥٠ ) ﴾ ( ٤٨- ٥٠ ).
الآيات موجهة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وفيها :
١- أمر بالصبر إلى أن يتم أمر الله وحكمه.
٢- ونهي عن أن يكون كصاحب الحوت الذي ضاق ذرعه ولم يطق صبراً على تكذيب أمته له.
٣- وإشارة خاطفة إلى ما كان من عاقبته ؛ حيث استغاث الله وناداه فعطف عليه وتداركته نعمته واجتباه وجعله من الصالحين. ولولا ذلك لألقاه الحوت إلى الأرض العارية منبوذاً مذموماً.
والآيات استمرار للسياق كما هو واضح. وفيها صورة مما كان يطرأ على النبي صلى الله عليه وسلم من أزمات وضيق صدر من موقف الصدّ والتكذيب والمناوأة الذي أخذ يواجهه منذ أوائل الدعوة. وقد تكررت الإشارات القرآنية إلى مثل هذه الصورة كما تكررت الأوامر القرآنية للنبي صلى الله عليه وسلم بالصبر والثبات١.
والإشارة إلى صاحب الحوت هي أولى الإشارات القرآنية إلى الأنبياء وقصصهم ؛ لأن صاحب الحوت هو النبي يونس على ما ذكر ذلك بصراحة في سورة الصافات. ثم توالت الفصول القرآنية في قصص الأنبياء وأقوامهم. ومعظمها تكرر وروده أكثر من مرة مقتضيا في مكان مسهباً في مكان آخر حتى شغلت حيزاً غير قليل من القرآن وخاصة المكي منه. واقتضاب الإشارة وخاصة الاكتفاء بالإشارة الضمينة إلى النبي يونس بتعبير صاحب الحوت يدلان على أن قصة يونس لم تكن غريبة عن سامعي القرآن. ولقد ذكرت بتفصيل واف في سفر يونان أحد أسفار العهد القديم المتداولة اليوم. وهذه الأسفار كانت متداولة بين اليهود والنصارى في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم والمتبادر أن أهل بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وسامعي القرآن منهم قد سمعوها أو أن بعضهم قد سمعها منهم.
وملخص ما ورد في السفر المذكور وهو متطابق إجمالاً مع ما ورد في القرآن أن الله تعالى أمر يونان بن أمتاي٢ بإنذار أهل نينوى بعذاب الله ولكنه هرب من وجه الرب إلى يافا ليبحر إلى ترشيش، فركب سفينة فثارت زوبعة عظيمة فخاف الملاحون وألقوا أثقالهم، ثم اقترعوا على إلقاء بعضهم على أمل أن يلقوا من كان الشر بسببه، فوقعت القرعة عليه وحثهم على إلقائه قائلاً : إن الزوبعة ثارت من أجلي، فألقوه فوقفت الزوبعة. وابتلع يونان حوت عظيم وبقي في بطنه ثلاثة أيام وكان يصلي لله و يستغيث به فاستجاب الله له وأمر الحوت بقذفه من جفوه ثم أمره بالذهاب إلى نينوى ثانية فلما جاءهم وأنذرهم آمنوا فكشف الله عنهم الشر الذي كان يوشك أن ينزل بهم.
والإشارة إلى صاحب الحوت هنا وردت في معرض التمثيل والتحذير والتثبيت حتى لا يضيق صدر النبي صلى الله عليه وسلم بموقف التكذيب واللجاج الذي وقفه قومه منه. وهذا ما استهدفته قصص الأنبياء في القرآن التي يلحظ أنها استهدفت ثلاثة أهداف :
الأول : تثبيت النبي عليه السلام ودعوته إلى التأسي كما هي في الآيات التي نحن في صددها وكما ذكر في آيات كثيرة منها آيات سورة الأنعام هذه :﴿ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ( ٣٣ ) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ( ٣٤ ) ﴾ ( ٣٣- ٣٤ ).
والثاني : إنذار الكفار وتذكيرهم بما حل بمن سبقهم من الجاحدين المكذبين الصادين كما ذكر في آيات كثيرة منها آيات سورة العنكبوت هذه :﴿ وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ( ٣٨ )وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءهُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ( ٣٩ ) فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ( ٤٠ ) ﴾ ( ٣٨- ٤٠ ).
والثالث : تطمين وتبشير المسلمين بما كان من عاقبة كل من المؤمنين والكفار من الأمم السابقة حيث أهلك الله الكفار ونصر ونجى المسلمين ودعوتهم إلى التأسي بما كان من صبر الأنبياء والمؤمنين السابقين وثباتهم على دين الله كما ذكر في آيات كثيرة منها آيات سورة هود هذه :﴿ فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ( ٦٦ ) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ( ٦٧ ) كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْدًا لِّثَمُودَ( ٦٨ ) ﴾ [ ٦٦- ٦٨ ].
ومجمل الأهداف الثلاثة هو العبرة والموعظة والتطمين والتسلية والتنديد والإنذار، وفي القرآن آيات كثيرة أخرى تتضمن تقرير هدف القصص القرآنية في نطاق ذلك منها آية سورة الأعراف هذه :﴿ تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبائِهَا وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللّهُ عَلَىَ قُلُوبِ الْكَافِرِينَ( ١٠١ ) ﴾. وآية سورة هود هذه :﴿ وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَـذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ( ١٢٠ ) ﴾، وآية سورة يوسف هذه :﴿ لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب( ١١١ ) ﴾.
ولقد قلنا : إن قصة يونس لم تكن غريبة عن سامعي القرآن، وهذا يطّرد في القصص القرآنية عامة على ما سوف نبينه في مناسباته. وآيات العنكبوت تنطوي على دليل قوي على ذلك إذا ما أنعم القارئ النظر فيها. وهناك آيات عديدة أخرى تفيد ذلك منها آية سورة الأنبياء هذه :﴿ بَلْ قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ( ٥ ) ﴾، وآية سورة القصص هذه :﴿ فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى( ٤٨ ) ﴾. حيث يمكن أن يقال : إن حكمة الله اقتضت أن تكون القصص معروفة من قبل السامعين جزئياً أو كلياً لتكون العبرة و العظة والإلزام والإفحام أشد ؛ لأن الناس يتأثرون بالأمثال التي يعرفونها، والأحداث التي يعلمون نبأها.
ولقد سبق الآيات التي نحن في صددها آيات تنديدية وإنذارية، كما لحقتها آيتان فيهما تنديد وتثبيت أيضا. وهذا مؤيد لكون الهدف هو التثبيت والتحذير. وقد جرى القرآن على هذا الأسلوب في معظم الفصول التي وردت فيها قصص الأنبياء، بل إن هذا في الفصول أوفى وأظهر، مما هو مؤيد لفكرة الهدف من جهة ومظهر من مظاهر الانسجام في النظم القرآني من جهة ثانية، ودليل على أن القصص القرآنية لم ترد لماهيتها التاريخية من جهة ثالثة.
ولقد قلنا : إن معظم قصص الأنبياء وأقوامهم قد تكررت في القرآن وتنوعت أساليبها ومنها ما تكرر مراراً عديدة، وقد غمز المغرضون من المبشرين والمستشرقين القرآن بسبب ذلك وبسبب تكراره الفصول التدعيمية الأخرى كمشاهد الكون ومشاهد الآخرة والحجج والبراهين. ورداً على ذلك نقول : إن الفصول القصصية لم تكن للسرد التاريخي وإنما هي للوعظ والعبرة، ولقد كانت اتصالات النبي صلى الله عليه وسلم بمختلف طبقات الناس والمناسبات والأوقات مستمرة متجددة. وكانت متنوعة في ظروفها وأشخاصها. فمن الطبيعي أن تتماثل الفصول القرآنية التي كانت تتلى بوحي الله على مختلف الطبقات وفي مختلف المناسبات والأوقات بسبيل تدعيم الدعوة وتحقيق الهدف من القصص القرآنية. ومع جلالة قدر النبوة وصاحبها صلى الله عليه وسلم يمكن أن يقال : إن مثل النبي في ذلك مثل الواعظ أو المدرس أو المعلم الذي يلقي دروسه على طلابه ومستمعيه. فهؤلاء يتجددون من آن لآخر، فمن الطبيعي أن يكرر المعلم والواعظ والمدرس دروسه ومواعظه بناء على ذلك. وقصارى ما يمكن أن يحدث هو شيء من التبدل والتنوع في طريقة العرض والأسلوب والألفاظ. وهو نفس الشيء الذي كان بالنسبة للفصول القصصية والتدعيمية الأخرى المتكررة١، حيث كانت حكمة التنزيل توحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بما يقتضي الموقف ذكره من القصص بالأسلوب الذي يقتضيه. ولا يتناقض هذا مع كون النبي صلى الله عليه وسلم كان قد عرف أو سمع هذه القصص. ويلحظ أنه كل مرة تكررت فيها هذه الفصول جاء فيها شيء جديد استكمالاً للعبرة والموعظة على ما سوف ننبه إليه في مناسباته. وهذا من مظاهر تلك الحكمة كما هو المتبادر.
وهناك نقطة أخرى يحسن أن نشير إليها، وهي أن المفسرين يجنحون إلى القول أو الظن أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلم شيئا من القصص التي كان يوحى إليه بها قبل نزولها. ولسنا نرى هذا وجيهاً لا من وجهة نظر الوحي القرآني ولا من وجهة نظرة النبوة. فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يعيش قبل نزول الوحي عليه في بيئة فيها كتابيون يروون ما في كتبهم من قصص ويتداولونها والروايات العديدة تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتصل بهم ويسمع منهم ما في كتبهم. وتجار وغير تجار كانوا يرحلون إلى البلاد المجاورة للجزيرة يسمعون من أهلها مختلف الأنبياء والأخبار والقصص. والنبي صلى الله عليه وسلم نفسه قام ببعض الأسفار إلى بعض هذه البلاد كما هو ثابت ثبوتاً في درجة اليقين. ورواة العرب يروون ما يتناقله الأجيال من أخبار وأحداث وقصص عربية. فليس من المعقول ولا من الطبيعي أن يقال : إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجهل هذه القصص كلياً أو جزئياً. ونقول هنا ما قلناه قبل قليل : إن ذلك آت من سوء فهم كنه وهدف الوحي بهذه القصص عن حسن نية. وليس من تعارض قط بين وحي ما اقتضت حكمة التنزيل إيحاءه منها بالأسلوب الذي أوحيت به وبين ما يمكن ويصح أن يكون النبي قد عرفه منها قبل نزولها. ولقد كان في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم تقاليد دينية واجتماعية متنوعة وكان يجري فيها أحداث متنوعة شاهد بعضها وسمع بعضها وعاش بعضها. ولقد ذكر في القرآن كثير من ذلك وليس أحد يدعي أو يمكن أن يدعي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرف ذلك قبل بعثته. وهذا وذاك من باب واحد.
ويورد الذين يقولون ذلك القول بعض آيات وردت في سياق بعض القصص منها آية سورة هود هذه في سياق قصة نوح :﴿ تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا( ٤٩ ) ﴾، وآية سورة آل عمران هذه في سياق قصة مريم :﴿ ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ( ٤٤ ) ﴾، وآية سورة يوسف في سياق قصة يوسف وإخوته :﴿ ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُون( ١٠٢ ) ﴾. وقصتا نوح ويوسف وردتا متصلتين في سفر التكوين وبين ما ورد في هذا السفر وما ورد في القرآن تطابق كثير. وهذا السفر كان مما يتداوله الكتابيون. وكان العرب يعرفون قصة نوح واتخذوا أصنام قومه التي ذكرها الله في سورة نوح أصناماً لهم على ما سوف نشرحه في سياقها. فلا يصح أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم وقومه لم يعرفوا شيئاً من هذه القصص الثلاث، وليس من مناص إزاء الواقع من تخريج الآيات بما يزيل الإشكال ويتفق معه. وقد رأينا الخازن يعلق على آية هود فيقول : إن هذه القصة مشهورة وإنه ليس مما يحتمل أن لا تكون معروفة. وإنه يجب صرف الآية على محمل قصد عدم معرفة النبي وقومه بجميع تفصيلاتها، وفي هذا التعليق وجاهة ظاهرة كما أنه لا معدى عنه أو عن ما يقاربه كصرف كلمة ( الغيب ) على معنى الزمن البعيد غير المشاهد أو الذي صار في طيات الدهر.
وننبه على أن بقية الفصول القصصية في سورتي هود وآل عمران، وكذلك الفصول المتنوعة الواردة في مختلف السور بما في ذلك قصص نوح ويوسف ومريم لم يرد فيها مثل هذا التعليق والتقييد. وأن قصة نوح ذكرت بتفصيل أو اقتضاب مرات كثيرة في السور التي نزلت قبل سورة هود مثل سور ص والأعراف والقمر والشعراء، وأن قصة مريم وولادة عيسى ذكرت بتفصيل أيضا في سورة مريم التي نزلت هي الأخرى قبل سورة آل عمران وأشير إليها باقتضاب في سور متعددة أخرى، ولم يرد في هذه القصص في هذه السور مثل هذا التعليق والتقييد مما يجعل التأويل والتخريج سائغاً وصواباً.
ومما يصح إضافته إلى الآيات العديدة التي احتوت دلائل وقرائن على أن السامعين كانوا يعرفون أخبار الأمم والأنبياء التي تتلى عليهم في القرآن على سبيل العظة والتذكر أن المفسرين قد أوردوا بيانات كثيرة في سياق كل قصة من القصص مسهبة حيناً ومقتضبة حيناً معزوة إلى علماء الأخبار إطلاقاً حيناً وبأسماء حيناً مثل ابن عباس ومقاتل ومجاهد والضحاك والكلبي وابن اسحق ووهب بن منبه وكعب الأحبار وغيرهم. واحتوت تفاصيل وجزئيات حول هذه القصص أو قصصاً لسبيلها مهما كان فيها من إغراب ومفارقات، فإننا نستبعد أن تكون كلها موضوعة بعد النبي صلى الله عليه وسلم ونميل إلى القول، بل نرجح أنها احتوت أشياء كثيرة مما كان يدور في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم قبل ا
٢- الذكر : في الآية الأولى كناية عن القرآن، وقد تكرر ذلك في آيات عديدة، وفي الآية الثانية بمعنى التذكير، وقد تكرر ذلك كذلك.
﴿ وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ ١ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ ٢ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ ( ٥١ ) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ( ٥٢ ) ﴾ ( ٥١- ٥٢ ).
وفي هاتين الآيتين صورة أخرى من مواقف الكفار تجاه النبي صلى الله عليه وسلم، إذ كانوا حينما يسمعونه يتلو القرآن ينظرون إليه شزراً حتى يكادوا يلتهمونه ويهلكونه بأبصارهم ويأخذون في نعته بالمجنون. وقد احتوت الآية الثانية رداً عليهم وتوكيداً بأن القرآن هو هدى للعالمين ومنبه ومذكر لهم.
والآيتان متصلتان بالسياق والموقف الذي هو موضوع الآيات السابقة كما هو المتبادر، وأسلوب الآية الأولى تنديدي في معرض حكاية موقفهم.
ولقد تكررت هذه الصورة في القرآن، مما يدل على أن مثل هذا الموقف والقول كان يتكرر من الكفار. وأسلوب الآية الثانية يلهم بقوة أن الكفار لم يعنوا بنعت النبي صلى الله عليه وسلم بالجنون أنه كان مختل العقل أو به خبل وصرع. مما هو من أعراض الأمراض العقلية فقد كانوا من النباهة في درجة لا يعقل معها ذلك وهم يسمعون ما يتلوه عليهم من الفصول القرآنية الرائعة في بلاغتها وقوتها وحكمتها وأمثالها وانسجامها ؛ وما بدا منهم من جنوح إلى التفاهم معه ومصانعته، وحلفهم له الأيمان على ذلك دليل قوي آخر. وفي القرآن آيات تفيد أنهم كانوا يعرفون فيه رجاحة العقل وسلامة الذهن والبعد عن الفضول والتكلف مثل ما تلهمه آية سورة يونس هذه :﴿ قُل لَّوْ شَاء اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ( ١٦ ) ﴾. وما تلهمه آيات سورة المؤمنون هذه :﴿ أفلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آبائهم الأولين( ٦٧ ) أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون( ٦٩ ) ﴾ [ ٦٨- ٦٩ ]. فالذي يتسق مع هذا أن نعتهم كان على سبيل الاستنكار ومن قبيل ما اعتاد الناس أن يفعلوه إزاء من يدعو إلى شيء جديد مثير في العقائد والآراء ويرون منه جرأة لا تتسع لها حوصلتهم. ومن الممكن أن يكونوا قد أرادوا بذلك أيضا نسبة اتصال الجن بالنبي صلى الله عليه وسلم وتلقيه عنهم، على ما كانوا يعتقدونه بالنسبة إلى الشعراء والكهان والعرافين والسحرة٣ ؛ حيث كانوا يعتقدون أن شياطين الجن هم الذين يوحون للشعراء النوابغ بشعرهم وإلى الكهان والعرافين والسحرة بما يقولونه للناس الذين يراجعونهم لحل ما يلمّ بهم من مشاكل. والراجح أن نسبتهم الشعر والكهانة والسحر إلى النبي صلى الله عليه وسلم على ما جاء في آيات كثيرة مثل آية الذاريات هذه :﴿ كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون( ٥٢ ) ﴾، ومثل آيات سورة الطور هذه :﴿ فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَة رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُون( ٢٩ ) ٍأَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ( ٣٠ ) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُتَرَبِّصِينَ( ٣١ ) ﴾ متصل بذلك. ومن المحتمل أن يكون نعتهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنون يرمي إلى القصدين معاً، بحيث كانوا أو كان بعضهم يقصد هذا حيناً، وكانوا أو كان بعضهم يقصد ذاك حيناً. وفي سورة الشعراء آيات تنفي تنزّل الشياطين بالقرآن وهي :﴿ وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ ( ٢١٠ ) وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ( ٢١١ ) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ( ٢١٢ ) ﴾ [ ٢١٠- ٢١٢ ]. وفي سورة الحجر آيات تحكي قولهم إنه مجنون وتتحداه أن يأتي بالملائكة إن كان من الصادقين وهي :﴿ وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ( ٦ ) لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ( ٧ ) ﴾ ( ٦-٧ )، كأنما تقول إن اتصالك إنما هو بالجن وإلا فائتنا بالملائكة إن كنت صادقاً أن اتصالك بالله، حيث كانوا يعترفون أن الملائكة هم المختصون بخدمة الله. ويعتقدون أنهم بنات الله على ما حكته عنهم آيات كثيرة، منها آيات الصافات هذه :﴿ فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ( ١٤٩ ) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ( ١٥٠ ) ﴾٤.
وفي جملة ﴿ وما هو إلا ذكر للعالمين ﴾ ينطوي رد قوي على الكفار الذين نعتوا النبي صلى الله عليه وسلم بالجنون. ففي هذا القرآن الذي يتلوه عليهم هدى وموعظة وذكر للعالمين جميعهم ولا يمكن أن يصدر هذا من جنون.
وفي سورة الشعراء آيات أخرى جاءت بعد تلك الآيات السابقة الذكر ذات مدى عظيم في هذا الباب وهي :﴿ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ( ٢٢١ ) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ( ٢٢٢ ) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ ( ٢٢٣ ) وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ( ٢٢٤ ) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ( ٢٢٥ ) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ( ٢٢٦ ) ﴾، حيث ينطوي فيها تقرير كون الوحي الذي يأتي النبي لا يمكن أن يكون شيطاناً وكون النبي لا يمكن أن يكون شاعراً ؛ لأن الشياطين كاذبون وإنما يتنزلون على الأفاكين الآثمين ولأن الشعراء يتصفون بأوصاف لا تمت إلى الأخلاق الفاضلة بسبب ولا يتبعهم إلا الغاوون أمثالهم في حين أن النبي صلى الله عليه وسلم صادق يدعو إلى توحيد الله وتمجيده وعبادته وحده ثم إلى الخير والحق والعدل والإحسان ومكارم الأخلاق وينهى عن الإثم والفواحش والمنكرات وأن الذين يتبعونه هم من ذوي الأخلاق الفاضلة والنفوس الكريمة والنوايا الطيبة الطاهرة.
تعليق على نعت المستشرقين
والمبشرين النبي صلى الله عليه وسلم بالجنون
ونقول بهذه المناسبة : إنه لما يدعو إلى الاشمئزاز ألا يتورع المبشرون والمغرضون من المستشرقين عن تكرار نعت النبي صلى الله عليه وسلم بالجنون، وأن يصل بهم الزعم إلى القول إنه كان مصاباً بالصرع، وإنه كان يفقد صوابه حينما تأتيه النوبة وتعتريه التشنجات ويسيل العرق منه حتى إذا أفاق منها تلا على المؤمنين ما يقول إنه من وحي الله إليه، في حين أن هذا الوحي لم يكن إلا أثراً من نوبات الصرع٥. وقد أساءوا تأويل بعض الأحاديث والروايات التي ذكرت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذه الوجد والعرق ويحمرّ وجهه حينما كان يوحى إليه وحرفوها عن حقيقة مداها.
ولقد كشفهم حقدهم وخبث سرائرهم فأنساهم أن المصابين بالصرع تتعطل فيهم أثناء النوبة حركة الشعور والتفكير والذاكرة٦وجعلهم يناقضون أنفسهم حين يعترفون أنه كان عقب ذلك يتلو آيات القرآن التي أوحي إليه بها، متجاهلين إلى ذلك ما فيها من الروعة والبلاغة والحكمة والمبادئ الإنسانية والاجتماعية والأخلاقية السامية والدعوة إلى الله وحده والخير والمعروف ومحاربة الشرك والوثنية والنهي عن الإثم والفواحش والمنكرات مما لا يعقل أن يصدر عن مريض في عقله وجسمه وخلقه. ولقد تجاهلوا إلى هذا أيضا أن القرآن قد حكى مراراً نسبة الجنون إليه على لسان خصومه الأشداء ومكذبيه العنيدين، وهو أمر بالغ الخطورة والقوة في هذا المقام ويردها عليهم رداً شديداً مرفقاً كما هو في الآية التي نحن في صددها بإعلان أن ما جاء به هو ذكر للعالمين ودعوة لهم. ومن ذلك آية سورة الأعراف هذه :﴿ أو لم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة إن هو إلا نذير مبين( ١٨٤ ) ﴾، وآيات سورة المؤمنون هذه :﴿ أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون( ٦٩ ) أم يقولون به جنة بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون( ٧٠ ) ﴾، وآيات سورة الطور هذه :﴿ فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون( ٢٩ ) ﴾، وآية سورة سبأ هذه :﴿ قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ( ٤٦ ) ﴾٧.
وهذا بالإضافة إلى آيات سورة الشعراء التي أوردناها الرائعة القوية في عبارتها وما ينطوي فيها، وأن حكاية أقوال الكفار والرد عليها بمثل هذه الردود النافذة إلى أعماق القلوب والعقول كافيان وحدهما للجم ألسنة الأفاكين الآثمين عند كل منصف مهما كانت نحلته.
ويقف بعض مفسري الشيعة عند الآية ( ٤٧ ) فيقولون : إنها عنت أبا بكر وعمر حين قالا يوم الغدير الذي أعلن فيه النبي صلى الله عليه وسلم وصاية علي وإمامته من بعده :" انظروا إلى عينيه تدوران كأنهما عينا مجنون " ٨. وفي هذا ما هو ظاهر من زور واجتراء على الله ورسوله وأصحابه لا يكونان من عاقل مؤمن والعياذ بالله.
وفي هاتين الآيتين صورة أخرى من مواقف الكفار تجاه النبي صلى الله عليه وسلم، إذ كانوا حينما يسمعونه يتلو القرآن ينظرون إليه شزراً حتى يكادوا يلتهمونه ويهلكونه بأبصارهم ويأخذون في نعته بالمجنون. وقد احتوت الآية الثانية رداً عليهم وتوكيداً بأن القرآن هو هدى للعالمين ومنبه ومذكر لهم.
والآيتان متصلتان بالسياق والموقف الذي هو موضوع الآيات السابقة كما هو المتبادر، وأسلوب الآية الأولى تنديدي في معرض حكاية موقفهم.
تعليق على جملة
﴿ وما هو إلا ذكر للعالمين ﴾
وجملة﴿ وما هو إلا ذكر للعالمين ﴾ التي اختتمت بها السورة عظيمة المدى في إطلاقها ؛ حيث ينطوي فيها إعلان كون الرسالة المحمدية دعوة شاملة لجميع الأجناس والألوان والأديان والبلدان في جميع الأزمان. وتبكير ورودها يعني أن ذلك كان هدفا محكماً من أهداف هذه الرسالة منذ بدئها خلافاً لما يحلو لبعض المستشرقين أن يزعموه من أن هذه الرسالة للعرب فقط، أو بأن عمومها قد كان تطوراً متأخراً. ولقد تكرر هذا المعنى في آيات كثيرة مكية ومدنية متنوعة الأساليب قوية المدى. منها آيات سورة ص هذه :﴿ إن هو إلا ذكر للعالمين١ ( ٨٧ ) ولتعلمن نبأه بعد حين( ٨٨ ) ﴾، وآية سورة الأنعام هذه :﴿ قل لا أسئلكم عليه أجراً إن هو إلا ذكرى للعالمين( ٩٠ ) ﴾، وفي سورة الأنبياء آية تضمنت المعنى مع زيادة تقرير كون رسالة النبي صلى الله عليه وسلم هي رحمة للعالمين وهي :﴿ وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين( ١٠٧ ﴾، وفي سورة الأعراف آية تأمر النبي صلى الله عليه وسلم بإعلان كون رسالته للناس جميعا وهي :﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ( ١٥٨ ) ﴾. وهذا بالإضافة إلى آيات عديدة وجهت فيها الدعوة إلى أهل الكتاب مثل آيات سورة المائدة هذه :﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ( ١٥ ) ﴾، وهذه ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ( ١٩ ) ﴾. وهناك آيات ذات مدى عظيم ؛ حيث تضمنت تقريراً ربانياً بأن الله قد أرسل رسوله بالهدى ودين الحق وبأنه سيظهره على الدين كله على ما جاء في آية سورة الفتح هذه :﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا( ٢٨ ) ﴾، وآية سورة الصف هذه :﴿ هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون( ٩ ) ﴾٢ حيث ينطوي في هذا تأييد لعموم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم ووعد رباني بأنها ستعم البشرية وتظهر على سائر الأديان لأنها رسالة الحق والهدى، ولن يخلف الله وعده.
هذا : ويلحظ أن فصول السورة قد نزلت بمناسبة مواقف الكفار وأقوالهم واحتوت رداً عليهم وإنذاراً وتثبيتاً وتأييداً للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين. فهي من قسم الوسائل ويصح أن تكون نموذجاً كاملاً من نماذجه المبكرة في النزول. ومع ذلك فقد تخللتها مبادئ اجتماعية وإيمانية محكمة أيضا، مما فيه صورة من صور التنزيل القرآني التي تكررت في كثير من فصول القرآن وسوره
ولقد تكررت هذه الصورة في القرآن، مما يدل على أن مثل هذا الموقف والقول كان يتكرر من الكفار. وأسلوب الآية الثانية يلهم بقوة أن الكفار لم يعنوا بنعت النبي صلى الله عليه وسلم بالجنون أنه كان مختل العقل أو به خبل وصرع. مما هو من أعراض الأمراض العقلية فقد كانوا من النباهة في درجة لا يعقل معها ذلك وهم يسمعون ما يتلوه عليهم من الفصول القرآنية الرائعة في بلاغتها وقوتها وحكمتها وأمثالها وانسجامها ؛ وما بدا منهم من جنوح إلى التفاهم معه ومصانعته، وحلفهم له الأيمان على ذلك دليل قوي آخر. وفي القرآن آيات تفيد أنهم كانوا يعرفون فيه رجاحة العقل وسلامة الذهن والبعد عن الفضول والتكلف مثل ما تلهمه آية سورة يونس هذه :﴿ قُل لَّوْ شَاء اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ( ١٦ ) ﴾. وما تلهمه آيات سورة المؤمنون هذه :﴿ أفلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آبائهم الأولين( ٦٧ ) أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون( ٦٩ ) ﴾ [ ٦٨- ٦٩ ]. فالذي يتسق مع هذا أن نعتهم كان على سبيل الاستنكار ومن قبيل ما اعتاد الناس أن يفعلوه إزاء من يدعو إلى شيء جديد مثير في العقائد والآراء ويرون منه جرأة لا تتسع لها حوصلتهم. ومن الممكن أن يكونوا قد أرادوا بذلك أيضا نسبة اتصال الجن بالنبي صلى الله عليه وسلم وتلقيه عنهم، على ما كانوا يعتقدونه بالنسبة إلى الشعراء والكهان والعرافين والسحرة٣ ؛ حيث كانوا يعتقدون أن شياطين الجن هم الذين يوحون للشعراء النوابغ بشعرهم وإلى الكهان والعرافين والسحرة بما يقولونه للناس الذين يراجعونهم لحل ما يلمّ بهم من مشاكل. والراجح أن نسبتهم الشعر والكهانة والسحر إلى النبي صلى الله عليه وسلم على ما جاء في آيات كثيرة مثل آية الذاريات هذه :﴿ كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون( ٥٢ ) ﴾، ومثل آيات سورة الطور هذه :﴿ فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَة رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُون( ٢٩ ) ٍأَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ( ٣٠ ) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُتَرَبِّصِينَ( ٣١ ) ﴾ متصل بذلك. ومن المحتمل أن يكون نعتهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنون يرمي إلى القصدين معاً، بحيث كانوا أو كان بعضهم يقصد هذا حيناً، وكانوا أو كان بعضهم يقصد ذاك حيناً. وفي سورة الشعراء آيات تنفي تنزّل الشياطين بالقرآن وهي :﴿ وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ ( ٢١٠ ) وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ( ٢١١ ) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ( ٢١٢ ) ﴾ [ ٢١٠- ٢١٢ ]. وفي سورة الحجر آيات تحكي قولهم إنه مجنون وتتحداه أن يأتي بالملائكة إن كان من الصادقين وهي :﴿ وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ( ٦ ) لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ( ٧ ) ﴾ ( ٦-٧ )، كأنما تقول إن اتصالك إنما هو بالجن وإلا فائتنا بالملائكة إن كنت صادقاً أن اتصالك بالله، حيث كانوا يعترفون أن الملائكة هم المختصون بخدمة الله. ويعتقدون أنهم بنات الله على ما حكته عنهم آيات كثيرة، منها آيات الصافات هذه :﴿ فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ( ١٤٩ ) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ( ١٥٠ ) ﴾٤.
وفي جملة ﴿ وما هو إلا ذكر للعالمين ﴾ ينطوي رد قوي على الكفار الذين نعتوا النبي صلى الله عليه وسلم بالجنون. ففي هذا القرآن الذي يتلوه عليهم هدى وموعظة وذكر للعالمين جميعهم ولا يمكن أن يصدر هذا من جنون.
وفي سورة الشعراء آيات أخرى جاءت بعد تلك الآيات السابقة الذكر ذات مدى عظيم في هذا الباب وهي :﴿ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ( ٢٢١ ) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ( ٢٢٢ ) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ ( ٢٢٣ ) وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ( ٢٢٤ ) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ( ٢٢٥ ) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ( ٢٢٦ ) ﴾، حيث ينطوي فيها تقرير كون الوحي الذي يأتي النبي لا يمكن أن يكون شيطاناً وكون النبي لا يمكن أن يكون شاعراً ؛ لأن الشياطين كاذبون وإنما يتنزلون على الأفاكين الآثمين ولأن الشعراء يتصفون بأوصاف لا تمت إلى الأخلاق الفاضلة بسبب ولا يتبعهم إلا الغاوون أمثالهم في حين أن النبي صلى الله عليه وسلم صادق يدعو إلى توحيد الله وتمجيده وعبادته وحده ثم إلى الخير والحق والعدل والإحسان ومكارم الأخلاق وينهى عن الإثم والفواحش والمنكرات وأن الذين يتبعونه هم من ذوي الأخلاق الفاضلة والنفوس الكريمة والنوايا الطيبة الطاهرة.
تعليق على نعت المستشرقين
والمبشرين النبي صلى الله عليه وسلم بالجنون
ونقول بهذه المناسبة : إنه لما يدعو إلى الاشمئزاز ألا يتورع المبشرون والمغرضون من المستشرقين عن تكرار نعت النبي صلى الله عليه وسلم بالجنون، وأن يصل بهم الزعم إلى القول إنه كان مصاباً بالصرع، وإنه كان يفقد صوابه حينما تأتيه النوبة وتعتريه التشنجات ويسيل العرق منه حتى إذا أفاق منها تلا على المؤمنين ما يقول إنه من وحي الله إليه، في حين أن هذا الوحي لم يكن إلا أثراً من نوبات الصرع٥. وقد أساءوا تأويل بعض الأحاديث والروايات التي ذكرت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذه الوجد والعرق ويحمرّ وجهه حينما كان يوحى إليه وحرفوها عن حقيقة مداها.
ولقد كشفهم حقدهم وخبث سرائرهم فأنساهم أن المصابين بالصرع تتعطل فيهم أثناء النوبة حركة الشعور والتفكير والذاكرة٦وجعلهم يناقضون أنفسهم حين يعترفون أنه كان عقب ذلك يتلو آيات القرآن التي أوحي إليه بها، متجاهلين إلى ذلك ما فيها من الروعة والبلاغة والحكمة والمبادئ الإنسانية والاجتماعية والأخلاقية السامية والدعوة إلى الله وحده والخير والمعروف ومحاربة الشرك والوثنية والنهي عن الإثم والفواحش والمنكرات مما لا يعقل أن يصدر عن مريض في عقله وجسمه وخلقه. ولقد تجاهلوا إلى هذا أيضا أن القرآن قد حكى مراراً نسبة الجنون إليه على لسان خصومه الأشداء ومكذبيه العنيدين، وهو أمر بالغ الخطورة والقوة في هذا المقام ويردها عليهم رداً شديداً مرفقاً كما هو في الآية التي نحن في صددها بإعلان أن ما جاء به هو ذكر للعالمين ودعوة لهم. ومن ذلك آية سورة الأعراف هذه :﴿ أو لم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة إن هو إلا نذير مبين( ١٨٤ ) ﴾، وآيات سورة المؤمنون هذه :﴿ أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون( ٦٩ ) أم يقولون به جنة بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون( ٧٠ ) ﴾، وآيات سورة الطور هذه :﴿ فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون( ٢٩ ) ﴾، وآية سورة سبأ هذه :﴿ قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ( ٤٦ ) ﴾٧.
وهذا بالإضافة إلى آيات سورة الشعراء التي أوردناها الرائعة القوية في عبارتها وما ينطوي فيها، وأن حكاية أقوال الكفار والرد عليها بمثل هذه الردود النافذة إلى أعماق القلوب والعقول كافيان وحدهما للجم ألسنة الأفاكين الآثمين عند كل منصف مهما كانت نحلته.
ويقف بعض مفسري الشيعة عند الآية ( ٤٧ ) فيقولون : إنها عنت أبا بكر وعمر حين قالا يوم الغدير الذي أعلن فيه النبي صلى الله عليه وسلم وصاية علي وإمامته من بعده :" انظروا إلى عينيه تدوران كأنهما عينا مجنون " ٨. وفي هذا ما هو ظاهر من زور واجتراء على الله ورسوله وأصحابه لا يكونان من عاقل مؤمن والعياذ بالله.
٢ في سورة التوبة آية مماثلة..