تفسير سورة إبراهيم

معاني القرآن
تفسير سورة سورة إبراهيم من كتاب معاني القرآن .
لمؤلفه الفراء . المتوفي سنة 207 هـ

ومن سورة إبراهيم :( بسم الله الرحمن الرحيم )
قول الله عزّ وجل :﴿ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ١ اللَّهِ الَّذِي ٢ ﴾
يُخفض في الإعراب ويُرْفع. الخفضُ على أن تُتبعه ( الحَمِيدِ ) والرّفع على الاستئناف لانفصاله من الآية ؛ كقوله عَزَّ وجَلَّ ﴿ إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ ﴾ إِلى آخر الآية، ثم قال ﴿ التَّائبُونَ ﴾ وفي قراءة عبد الله ( التائبين ) كل ذلك صواب.
وقوله :﴿ وَما أَرْسَلْنا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ٤ ﴾
يقول : ليفهمهم وتلزمَهم الحجّةُ. ثم قال عز وجَل ﴿ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يشاء ﴾ فرفع لأنّ النيّة فيه الاستئناف لا العطف على ما قبله. ومثله ﴿ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ في الأَرْحامِ ما نشَاء ﴾ ومثله في براءة ﴿ قَاتِلُوهُمْ يَعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِكُمْ ﴾ ثم قال ﴿ وَيَتُوبُ اللهُ على مَنْ يشاء ﴾ فإذا رأيتَ الفعل منصوباً وبعده فعل قد نُسَقِ عليه بواو أو فاء أو ثُمّ أو أوْ فإن كان يشاكل معنى الفعل الذي قبله نَسقْته عليه. وإن رأيته غير مشاكِل لمعْناه استأنفته فرفعته.
فمن المنقطع ما أخبرتكَ به. ومنه قول الله عز وجل ﴿ وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُم وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُون الشَّهَوَاتِ ﴾ رفعت ( ويريد الذين ) لأنها لا تشاكل ( أَنْ يَتُوبَ ) ألا ترى أن ضمّك إيَّاهُما لا يجوز، فاستأنفت أو رددته على قوله ﴿ وَاللهُ يُرِيدُ ﴾ ومثله ﴿ يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ ﴾ فيأبَى في موضع رفع لا يجوز إلا ذلك.
ومثله قوله :
والشعر لا يَسْطيعُه من يظلمه يريد أن يعربه فيُعجِمُه
وكذلك تقول : آتيك أن تأتينى وأكرمُك فتردّ ( أكرمكَ ) على الفعل الأول لأنه مشاكِل له وتقول آتيك أن تأتِيَني وتحسنَ إلىَّ فتجعل ( وتحسن ) مردوداً على ما شاكلها ويقاس على هذا.
وقوله :﴿ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ ٥ ﴾
يقول : خوّفهم بأيَّام عاد وثََمُود وأشباههم بالعذاب وبالعفو عن آخَرِين. وهو في المعنى كقولك : خذهم بالشدّة واللين.
وقوله ها هنا :﴿ وَيُذَبِّحُونَ ٦ ﴾
وفي موضع آخر ﴿ يُذَبِّحُونَ ﴾ بغير واو وفي موضع آخر ﴿ يُقَتِّلُونَ ﴾ بغير واو. فمعنى الواو أنهم يمسُّهم العذابُ غير التذبيح كأنه قال : يعذبونكم بغير الذبح وبالذبح. ومعنى طرح الواو كأنه تفسير لصفات العذاب. وإذا كان الخَبَر من العذاب أو الثواب مجمَلاً في كلمة ثم فسرته فاجعله بغير الواو. وإذا كان أوّله غير آخره فبالواو. فمن المجمل قول الله عز وجل ﴿ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاما ﴾ فالأثام فيه نيَّة العذاب قليلهِ وكثيره. ثم فسَّره بغير الواو فقال ﴿ يُضاعَفْ لَهُ العَذَابُ يَوْمَ القِيَامَةِ ﴾ ولو كان غير مجمل لم يكن ما ليس به تفسيراً له، أَلا ترى أَنك تقول عندي دابَّتان بغل وبِرْذَوْن ولا يجوز عندي دابَّتان وبغل وبِرذَوْنٌ وأنت تريد تفسير الدَّابتين بالبغل والبِرذون، ففي هذا كفاية عَما نترك من ذلك فقس عَليه.
وقوله ﴿ وَفِي ذلكمْ بَلاء مِّن رَّبَّكُمْ عَظِيمٌ ﴾ يقول : فيما كان يَصنع بكم فرعونُ من أصناف العذاب بلاء عظيم من البلِيَّة. ويقال : في ذلكم نِعَم من ربّكم عظيمة إذ أنجاكم منها. والبَلاء قد يكون نعما، وعذاباً. ألا ترى أنك تقول : إن فلانا لحسن البلاء عندك تريد الإنعام عليك.
وقوله :﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ ٧ ﴾
معناه : أعلم ربّكم وربما قالت العرب في معنى أفْعلت تفعَّلت فهذا من ذلك والله أعلم. أوعدني وتوعَّدني وهو كثير.
وقوله ﴿ فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ ٩ ﴾
جاء فيها أقاويل. حدثنا محمَّد قال حدّثنا الفراء قال : حَدّثني حِبَّان عن الكلبيّ عن أبى صالح عن ابن عباس قال : كانوا إذا جاءهم الرسول قالوا له : اسكت وأشاروا بأصَابعهم إلى أفواه أنفسهم ؛ كما تُسَكِّت أنت - قال : وأشار لنا الفراء بأصبعه السبَّابة على فيه - ردّا عليهم وتكذيبا. وقال بعضهم : كانوا يكذِّبونهم ويردّون القول بأيديهم إلى أفواه الرسل وأشار لنا الفراء هكذا بظهر كفه إلى من يخاطبه. قال وأرانا ابن عبد الله الإشارة في الوجهين ( وأرانا الشيخ ابْن العباس بالإشارة بالوجهين ) وقال بعضهم : فردُّوا أيديهم في أفواههم يقول رَدُّوا ما لو قبلوه لكان نِعَما وأيادي من الله في أفواههم، يقول بأفواههم أي بألسنتهم. وقد وجدنا من العرب مِن يجعل ( في ) موضع الباء فيقول : أدخلك الله بالجنَّة يريد : في الجنة. قال : وأنشدني بعضهم :
وأرغب فيها عن لَقِيطٍ ورهطه ولكنّني عن سِنْبِس لست أرغب
فقال : أرغب فيها يعنى بنتاً له. أي إني أرغب بها عن لقيط.
وقوله :﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِّنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا ١٣ ﴾
قال ﴿ أَوْ لَتَعُودُنَّ ﴾ فجعل فيها لاما كجواب اليمين وهي في معنى شرط، مثلُه من الكلام أن تقول : والله لأضربنّك أو تُقِرَّ لي : فيكون معناه معنى حَتَّى أَو إلاّ، إلا أنها جاءت بحرف نَسَق. فمن العرب من يجعل الشرط مُتْبعاً للذي قبله، إن كانت في الأول لام كان في الثاني لام، وإن كان الأول منصوبا أو مجزوما نَسَقوا عليه كقوله :﴿ أَوْ لَتَعُودُنَّ ﴾ ومن العرب من ينصب ما بعد أوْ ليُؤذن نصبُه بالانقطاع عما قبله. وقال الشاعر :
لَتقعُدِنَّ مقعدَ القَصِيِّ منِّيَ ذي القاذُورة المَقْلِيّ
أَو تحلفي بربّك العليّ أنيِّ أبو ذيَّالِكِ الصبيّ
فنصب ( تحلفي ) لأنه أراد : أن تحلفي. ولو قال أو لتحلفِنّ كان صوابا ومثله قول امرئ القيس :
بكى صاحبي لَما رأي الدرب دونه وأيقن أنا لاحقان بقَيْصَرا
فقلت له لا تبك عَيْنُك إنّما نحاولُ مُلْكا أَو نموتَ فنُعذرا
فنصب آخره ورفع ( نحاول ) على معنى إلاّ أو حتى. وفي إحدى القراءتين :﴿ تَقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُوا ﴾ والمعنى - والله أعلم - تقاتلونهم حتى يُسلموا. وقال الشاعر :
لا أستطيع نُزوعاً عن مودّتها أوْ يصنعَ الحبُّ بي غير الذي صَنَعَا
وأنت قائل في الكلام : لست لأبى إن لم أقتلك أو تسبقْنَي في الأرض فتنصب ( تسبقني ) وتجزمها. كأنّ الجزم في جوازه : لستُ لأبى إن لم يَكن أحدُ هذين، والنصب على أَنّ آخره منقطِع عن أوَّله ؛ كما قالوا : لا يسعُني شيء وَيضيقَ عنك، فلم يَصْلح أن تردّ ( لا ) على ( ويضيق ) فعُلم أَنها منقطِعة من معناها. كذلك قول العرب : لو تُرِكْتَ وَالأَسَدَ لأكلك لما جاءت الواو ترُدُّ اسما على اسم قبله، وقبح أن تردّ الفعل الذي رَفَع الأوّل على الثاني نصب ؛ أَلا ترى أنك لا تقول لو تُركت وتُرك الأسدُ لأكلك. فمِن ها هنا أتاه النصب. وجَاز الرفع لأن الواو حرف نَسَق معروف فجاز فيه الوجهان للعِلَّتين.
وقوله :﴿ ذلك لِمَنْ خَافَ مَقَامِي ١٤ ﴾
معناه : ذلك لمن خاف مقامه بين يَدَيّ ومثله قوله :﴿ وَتَجْعَلُون رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ ﴾ معناه : رزقي إِيَّاكم أنكم تكذِّبون والعرب تضيف أفعالها إلى أنفسها وإلى ما أُوقعت عليه، فيقولون : قد ندمت على ضربي إيَّاك وندمت على ضربك فهذا من ذلك والله أعلم.
وقوله :﴿ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ ١٧ ﴾
فهو يُسيغه. والعرب قد تجعل ( لا يكاد ) فيما قد فُعل وفيما لم يُفعل. فأما ما قد فُعِل فهو بَيّن هنا منْ ذلك لأن الله عزَّ وَجلّ يقول لَما جعله لهم طعاما ﴿ إِنَّ شَجَرّةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الأَثيمِ كالمُهْلِ يَغْلِى في البُطُونِ ﴾ فهذا أيضاً عذاب في بطونهم يُسيغونه. وأما ما دخلت فيه ( كاد ) ولم يُفعل فقولك في الكلام : ما أتيته ولا كِدت، وقول الله عزّ وجلّ في النور ﴿ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها ﴾ فهذا عندنا - والله أعلم - أنه لا يراها. وقد قال ذلك بعض الفقهاء لأنها لا تُرى فيما هو دون هذا من الظلمات، وكيف بظلمات قد وُصفت بأشدّ الوصف.
وقوله :﴿ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ ﴾ : حدَّثنا الفراء : قال : حدثني حِبَّان عن الكلبيّ عن أبى صالح عن ابن عباس قال :( يأتِيِه المَوْتُ ) يعنى : يأتيه العذاب من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله. حدثني هُشَيم عن العوَّام بن حَوْشَب عن إبراهيم التَّيْمِيّ قال : من كل شَعَرة.
وقوله :﴿ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ ﴾ العرب إذا كان الشيء قد مات قالوا : ميْت وميِّت. فإن قالوا : هو ميت إن ضربته قالوا : مائت وميّت. وقد قرأ بعض القراء ﴿ إِنَّك مائتٌ وَإِنَّهُمْ مائتُون ﴾ وقراءة العوامّ على ( ميّت ). وكذلك يقولون هذا سيّد قومه وما هو بسائدهم عن قليل، فيقولون : بسائدهم وسيّدهم، وكذلك يفعلون في كل نعْت مثل طمع، يقال : طَمِعٌ إذا وُصف بالطمع، ويقال هو طامع أن يُصيب منك خيراً، ويقولون : هُو سكران إذا كان في سكره، وما هو ساكر عن كثرة الشراب، وهو كريم إذا كان موصُوفاً بالكرم، فإن نويت كَرَما يكون منه فيما يُستقبَلِ قلت : كارم.
وقوله :﴿ مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ ١٨ ﴾
أضاف المَثَل إليهم ثم قال ﴿ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ ﴾ والمَثَل للأعمال والعرب تفعل ذلك : قال الله عزّ وجلّ ﴿ وَيَوْمَ القِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا على اللهِ وُجُوهُهُم مُسْوَدَّةٌ ﴾ والمعنى تَرى وجوهَهم مسودّة. وذلك عربيّ لأنهم يجدون المعنى في آخِر الكلمة فلا يبالونَ ما وقع على الاسم المبتدأ. وفيه أن تكُرَّ ما وقع على الاسم المبتدأ على الثاني كقوله ﴿ لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً ﴾ فأعِيدت اللام في البيوت لأنها التي تراد بالسقف ولو خفضت ولم تظهر اللام كان صَواباً كما قال الله عز وجل ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فيه ﴾.
فلو خَفَض قارئ الأعمال فقال ( أعمالِهمْ كَرَمادٍ ) كان جائزاً ولم أسمعه في القراءة. وقد أنشدني بعضهم :
ما للجِمالِ مَشْيِها وئيداً *** أجندلاً يحملن أَم حديدَا
أراد ما للجمال ما لمشيها وئيداً. وقال الآخر :
ذرِيني إن أمركِ لن يطاعَا *** وما ألفيتنِي حِلِمي مُضَاعَا
فالحلم منصوب بالإلقاء على التكرير ولو رفعته كان صَوابا.
وقال ﴿ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ ﴾ فجعل العصوف تابعاً لليوم في إعرابه، وإنما العصُوف للريح. وذلك جائز على جهتين، إحداهما أن العصوف وإن كان للريح فإن اليوم يوصف به ؛ لأن الريح فيه تكون، فجاز أن تقول يوم عَاصف كما تقول : يوم بارد ويوم حارّ. وقد أنشدني بعضهم :
يومين غيمين ويوما شمساً ***...
فوصف اليومين بالغيمين وإنما يكون الغيم فيهما. والوجه الآخر أن يريد في يوم عَاصِفِ الريح فتحذف الريح لأنها قد ذكرت في أوّل الكلمة كما قال الشاعر :
فيضحكُ عرفانَ الدروع جلودُنا *** إذا جاء يوم مظلمُ الشمس كاسفُ
يريد كاسف الشمس فهذان وجهان. وإن نويت أن تجعل ( عاصف ) من نعت الريح خاصّةً فلما جاء بعد اليوم أتبعته إعراب اليوم وذلك من كلام العرب أن يُتبعوا الخفض الخفض إذا أشبهه.
قال الشاعر :
كأَنَّما ضربت قدّام أعينِها *** قُطْنا بمستحصِد الأوتار محلوج
وقال الآخر :
تريك سُنَّة وجه غيرِ مُقرفَةٍ *** مَلْسَاء ليس بها خال وَلاَ نَدَبُ
قال : سمعت الفراء قال : قلت لأبى ثَرْوان وقد أنشدني هذا البيت بخفضٍ : كَيف تقول : تُريك سُنَّة وجه غيرَ مقرفة ؟ قال : تريك سنّة وجه غَيْرَ مقرفة. قلت له : فأنشِد فخفض ( غير ) فَأعدت القول عَليه فقال : الذي تقول أنت أجود مما أقول أنا وكانَ إنشاده على الخفض. وقال آخر :
وإيَّاكم وحَيَّة بطنِ وادٍ *** هَمُوزِ الناب ليسَ لكم بِسِىّ
ومِما يرويه نحويُّونا الأوَّلون أن العرب تقول : هذا جُحْرُ ضَبّ خَرِبٍ. والوجه أن يقول : سُنَّةَ وجه غيْرَ مقرفة، وحَيَّةَ بطنِ واد هموزَ الناب، وهذا جُحْرٍ ضبّ خرِبٌ. وقد ذُكر عن يحيى بن وثَّاب أنه قرأ ﴿ إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو القُوَّة المَتِينِ ﴾ فخفض المتين وبه أخَذ الأعمش. والوجه أن يرفع ( المتين ) أنشدني أبو الجَرّاح العُقَيليّ :
يا صاحِ بَلِّغ ذَوي الزوجَات كُلِّهم *** أن ليس وصلٌ إذا انحلّت عُرَا الذَنْب
فأتبع ( كلّ ) خفض ( الزوجات ) وهو منصوب لأنه نعت لذوي.
وقوله :﴿ ما أَنا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ ٢٢ ﴾
أي الياء منصوبة ؛ لأن الياء من المتكلّم تسكن إذا تحرك ما قبلها وتُنصب إرادة الهاء كما قرئ ﴿ لكم دينكم ولىَ دين ﴾ ( ولِى دين ) فنصبت وجُزمت. فإذا سَكن ما قبلها رُدّت إلى الفتح الذي كان لها. والياء من ( مُصْرِخِيّ ) سَاكنة والياء بعدها من المتكلم سَاكنة فحرِّكت إلى حَركة قد كانت لها. فهذا مطَّرِد في الكلام.
ومثله ﴿ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهْ ﴾ ومثله ﴿ فَمَنْ تَبِعَ هُدَاي ﴾ ومثله ﴿ مَحْيَاي ومماتي ﴾.
وقد خفض الياء من قوله ﴿ بِمُصْرِخِيَّ ﴾ الأعمش ويحيى بن وثَّاب جميعاً. حَدَّثني القاسم بن مَعْن عن الأعمش عن يحيى أنه خفض الياء. قال الفراء : ولعلها من وَهْم القُرَّاء طبقة يحيى فإنه قل من سَلم منهم من الوَهْم. ولعله ظَن أن الباء في ( بمصرخيّ ) خافضة للحرف كله، والياء من المتكلّم خارجة من ذلك. ومما نرى أنهم أوهمُوا فيه قوله ﴿ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى ونُصْلِهِ جَهَنَّمَ ﴾ ظنُّوا - والله أعلم - أن الجزم في الهاء ؛ والهاء في موضع نصب، وقد انجزم الفعل قبلها بسقوط الياء منه.
ومما أوهموا فيه قوله ﴿ وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشيَاطِينُ ﴾ وحدَّث مندل بن علي العَنَزِيّ عن الأعمش قالَ : كنت عند إبراهيم النَخَعيّ وطَلْحةُ بن مُصَرِّف [ يقرأ ] ﴿ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلاَ تَسْتَمِعْونَ ﴾ بنصب اللام من ( حوله ) فقال إبراهيم : ما تزال تأتينا بحرف أشنع، إنما هي ﴿ لِمَنْ حَوْلِه ﴾ قال قلت : لاَ، إِنما هي ( حَولَه ) قال : فقال إِبراهيم يا طلحة كيف تقول ؟ قال : كما قلتَ ( لمن حَوْلِهِ ) قال الأعمش. قلت : لحنتما لا أجالسكما اليوم. وقد سمعت بعض العرب يُنشد :
قال لها هل لك يا تافِيِّ قالت له ما أنتَ بالمرضِىّ
فخفض الياء من ( في ) فإن يك ذلك صَحيحا فهو مما يلتقي من الساكنين فيُخفض الآخِر منهما، وإن كان له أصْل في الفتح : ألا ترى أنهم يقولون : لم أره مُذُ اليوم ومُذِ اليوم والرفع في الذالِ هو الوجه ؛ لأنه أصل حركة مُذ والخفض جائز، فكذلك الياء من مصرخىّ خُفضت ولها أصل في النصب.
وقوله ﴿ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ ﴾ هذا قول إبليس. قال لهم : إني كنت كفرت بما أشركتمون يعنى بالله عز وجَل ( مِنْ قَبْل ) فجعل ( ما ) في مذهب ما يؤدّى عن الاسم ٨٩ ب.
وقوله :﴿ ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت ٢٦ ﴾ رفعَت المَثَل بالكاف التي في شجرة. ولو نصبت المثل. تُريد : وضرب الله مثلَ كلمةٍ خبيثة. وهي في قراءة أُبَيّ ( وضرب مثلاً كلمة خبيثة ) كشجرة خبيثة وكل صواب.
وقوله :﴿ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ ٢٧ ﴾
يقال : بلا إله إلا الله فهذا في الدنيا. وإذا سئل عنها في القبر بعد موته قالها إذا كان من أهل السَّعادة، وإذا كان منْ أهل الشقاوة لم يقلها. فذلك قوله - عزَّ وجلّ - ﴿ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ ﴾ عنها أي عن قول لا إله إلا الله ﴿ وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يشاء ﴾( ٢٩ ) أي لا تنكروا له قدرةً ولا يُسأل عما يَفعل.
وقوله :﴿ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها ٢٩ ﴾
منصوبة على تَفسير ( دَارَ البَوَارِ ) فردّ عَليها ولو رفعت على الائتناف إذا انفصلَتْ من الآية كانَ صوابا. فيكون الرفع على وجهين : أحدهما الابتداء. والآخر أن ترفعها بعائد ذِكْرها ؛ كما قال ﴿ بِشرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النارُ وَعَدَها اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾.
وقوله :﴿ قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ ٣١ ﴾
جُزِمت ( يُقِيمُوا ) بتأويل الجزاء. ومعناه - والله أعلم - معنى أمر ؛ كقولك : قل لعبد الله يذهبْ عنا، تريد : اذهب عنا فجُزِمَ بِنيّة الجواب للجزم، وَتأويله الأمر ولم يُجزم على الحكاية. ولو كان جَزمُه على مَحْض الحكاية لجاز أن تقول : قلت لكَ تذهبْ يا هذا وإنما جُزِم كما جُزِم قوله : دَعْه يَنَمْ، ﴿ فَذ‍َرُوها تَأْكُلْ ﴾ والتأويل - والله أعلم - ذ‍َروها فَلْتَأْكُل. ومثله ﴿ قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ ﴾ ومثله ﴿ وَقُلْ لعِبَادِي يَقُولُوا التي هي أَحْسَنُ ﴾.
وقوله - تبارك وتعالى - :﴿ وَآتَاكُم مِّن كُلِّ ما سَأَلْتُمُوه ٣٤ ﴾
تضيف ( كلّ ) إلى ( ما ) وهي قراءة العامّة. وقد قرأ بعضهم ( وَآتَاكُم مِّن كُلٍّ ما سَأَلْتُمُوهُ ) وكأنهم ذهبوا إلى أنا لم نسأل الله عَزَّ وَجل شمساً ولا قمراً ولا كثيراً من نِعمَه، فقال : وآتاكم من كلٍّ ما لم تسألوه فيكون ( ما ) جحداً. والوجه الأوّل أعجب إلىّ ؛ لأن المعنى - والله أعلم - آتاكم من كلِّ ما سَألتموه لو سألتموه، كأنك قلت : وآتاكم كل سُؤْلكم، أَلا ترى أَنك تقول للرجل لم يسأل شيئاً : والله لأُعطينَّك سُؤْلكَ : ما بلغته مسألتك وإن لم تسأل.
وقوله :﴿ وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنامَ ٣٥ ﴾
أَهل الحجاز يقولون : جَنَبنى، وهي خفيفة. وأَهل نجد يقولون : أَجنبني شرَّه وجنَّبني شرَّه. فلو قرأَ قارئ :( وَأَجْنِبْنِي وَبَنِيَّ ) لأصاب ولم أَسمعه من قارئ.
وقوله :﴿ إِنَّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي ٣٧ ﴾
وقال ﴿ إِنَّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي ﴾ ولم يأت منهم بشيء يقع عَليه الفعل. وهو جائز : أن تقول : قد أصَبنا من بني فلان، وقتلنا من بني فلان وإن لم تقل : رجَالا، لأن ( مِن ) تؤدّى عن بَعض القوم كقولك : قد أصبنا من الطعام وشربنا من الماء. ومثله ﴿ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الماء أَوْ مِما رَزَقَكُمُ اللهُ ﴾.
وقوله ﴿ تَهْوِي إِلَيْهِمْ ﴾ يقول : اجعل أفئدة من الناس تريدهم ؛ كقولك : رأيت فلانا يهوِى نحوك أي يريدك. وقرأ بعض القرّاء ( تَهْوَى إلَيْهِمْ ) بنصب الواو، وبمعنى تهواهم كما قال ﴿ رَدِفَ لَكُمْ ﴾ يريد ردفكم، وكما قالوا : نَقدت لها مائة أي نَقدتها.
وقوله :﴿ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ ٤٣ ﴾
رفعت الطرف بيرتد واستأنفت الأفئدة فرفعتها بهواء ؛ كما قال في آل عمران ﴿ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ في العِلْم ﴾ استأنفتهم فرفعتهم بيقولون لا بيعلم.
وقوله :﴿ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ ٤٤ ﴾
رَفْع تابع ليأتيهم وليسَ بجواب للأمر ولو كان جوابا لجاز نصبه ورفعه، كما قال الشاعر :
يَا ناق سيرى عَنَقاً فسيحا إلى سُليمان فنَستريحا
والرفع على الاستئناف. والائتناف بالفاء في جواب الأمر حسن، وكان شيخ لنا يقال له : العلاء بن سَيابة - وهو الذي علم مُعَاذا الهَرَّاء وأصْحابه - يقول : لا أنصب بالفاء جَوَابا للأمر.
وقوله :﴿ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ ٤٥ ﴾ وأصْحاب عبد الله :﴿ ونُبَيِّنْ لَكُمْ ﴾.
وقوله :﴿ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ٤٦ ﴾
فأكثر القراء على كسر اللام ونصب الفعل من قوله ﴿ لِتَزُولَ ﴾ يريدون : ما كانت الجبالُ لتزول من مكرهم. وقرأ عبد الله بن مسعود ( وَما كان مكرُهم لتزول منه الجبال ) حدّثنا محمد قال
حدثنا الفراء يقال له غالب بن نجيح - وكان ثقة ورعاً - أن عليا كان يقرأ :( وإنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْه ) بنصب اللام الأولى ورفع الثانية. فمن قرأ :( وإنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْه ) فعلى معنى قراءة علي أي مكروا مكراً عظيما كادت الجبالُ تزول منه.
وقوله :﴿ فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ ٤٧ ﴾
أضفت ( مُخْلف ) إلى الوعد ونصبت الرسل على التأويل. وإذا كان الفعل يقع على شيئين مختلفين مثل كسوتك الثوب وأدخلتك الدار فابدأ بإضافة الفعل إلى الرجل فتقول : هو كاسى عَبدِ الله ثوباً، ومُدخلُه الدار. ويجوز : هو كاسى الثوب عبدَ الله ومدخل الدار زيداً، جاز ذلك لأن الفعل قد يأخذ الدار كأخذه عَبد الله فتقول : أدخلت الدار وكسوت الثوب. ومثله قول الشاعر :
ترى الثور فيها مُدخلَ الظلِّ رأسَه *** وَسائره بادٍ إلى الشمس أجمعُ
فأضاف ( مُدْخل ) إلى ( الظل ) وكان الوجه أن يضيف ( مدخل ) إلى ( الرأس ) ومثله :
رُبّ ابن عمَّ لسُلَيمى مشمعلّْ *** طبَّاخ سَاعاتِ الكرى زاد الكسِلْ
ومثله :
فرِشْنى بخير لا أكونَنْ ومِدْحتى *** كناحت يوم صخرةً بعَسِيل
وقال آخر :
يا سارقَ الليلةِ أهلَ الدار ***...
فأضاف سَارقا إلى الليلة ونصب ( أهل الدار ) وكان بعض النحويّين ينصب ( الليلة ) ويخفض ( أهل ) فيقول : يا سَارق الليلةَ أهلِ الدار.
وكناحت يوما صخرةٍ ***...
وليس ذلك حسنا في الفعل ولو كان اسْما لكان الذي قالوا أَجْوز. كقولكَ : أنت صَاحبُ اليومَ ألفِ دينار، لأن الصَّاحب إنما يأخذ واحداً ولا يأخذ الشيئين، والفِعل قد ينصب الشيئين، ولكن إذا اعترضت صفة بين خافض وما خَفَض جاز إضافته ؛ مثل قولك : هذا ضاربُ في الدار أخِيه، ولا يجوز إلاّ في الشعر، مثل قوله :
تروَّحَ في عِمِّيَّةٍ وأَغاثه *** على الماء قوم بالهراوات هُوجُ
مؤخِّر عن أنيابه جلدِ رأسه *** لهنّ كأشباه الزِّجَاج خُرُوج
وقال الآخر :
وكرَّار دونَ المجْحَرِين جَوادِه *** إذا لم يُحام دُون أنثى حَليلُها
وزعم الكسائي أنهم يؤثرون النصب إذا حالوا بين الفعل المضاف بصفة فيقولون : هُوَ ضارِبُ فيغير شيء أخاه، يتوهَّمُون إذا حالوا بينهما أنهم نوَّنوا. وليسَ قول من قال ( مُخْلِفَ وَعْدَهُ رُسُلِه ) ولا ﴿ زُيِّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ المُشْرِكِينَ قَتْلُ أَوْلاَدَهُمْ شُرَكائهمْ ﴾ بشيء، وقد فُسّر ذلك. ونحويُّو أهلِ المدينة ينشدون قوله :
فَزَجَجْتُها مُتمَكِّنا *** زَجَّ القَلوصَ أبى مَزَادَهْ
قال الفراء : باطل والصواب :
زَجَّ القَلوصِ أبُو مَزَادَهْ ***...
قوله :﴿ سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ ٥٠ ﴾
عامَّة القراء مجمعون على أن القطِران حرف واحد مثل الظَّرِبان. حدثنا محمد قال حدثنا الفراء قال : وحدَّثني حِبَّان عن الكلبىّ عن أبى صَالح أن ابن عَباس فسّرها ﴿ مِنْ قِطْرانٍ ﴾ : قد انتهي حَرّه، قرأها ابن عبَّاس كذلك. قال أبو زكريّا، وهو من قوله :﴿ قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً ﴾.
Icon