تفسير سورة ق

بيان المعاني
تفسير سورة سورة ق من كتاب بيان المعاني المعروف بـبيان المعاني .
لمؤلفه ملا حويش . المتوفي سنة 1398 هـ

مطلب الآية المدنية في هذه السورة:
هذا على القول بأن هذه الآية مكية، وعلى القول بأنها مدنية فيكون المراد الركوع في الصلاة الذي هو جزء منها، أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود أن هذه السورة نزلت في غار بمنى وأن هذه الآية نزلت معها دفعة واحدة فإذا صح هذا فتكون مكية ويؤول الركوع فيها على الخشوع لغة، وإذا أريد وقوعه في الركعتين التي فرضت عليه قبل فرض الصلاة في الغداة والعشي فيؤول على معناه الشرعي ومن قال انها مدنية احتج بلفظ الركوع لأن نزولها قبل فرض الصلاة «وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ٤٩» بأنبيائهم الجاحدين المنكرين آيات الله الباهرة وهؤلاء إذا لم يؤمنوا بهذا الكتاب المنزل من لدنا على نبيهم الجامع لما في الدنيا والآخرة من خير وشر وقد كررت جملة «فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ» عشر مرات كل لمعنى كما علمت «فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ» بعد هذا القرآن المشتمل على سير كتب الأولين كلهم «يُؤْمِنُونَ ٥٠» أي لا يؤمنون البتة. آمنا بالله وحده واتبعنا ما جاءنا به عبده وهذا والله أعلم، واستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وأصحابه والتابعين أجمعين.
تفسير سورة ق عدد ٣٤- ٥٠
نزلت بمكة بعد المرسلات وهي خمس وأربعون آية، عدا الآية ٣٨ فإنها نزلت بالمدينة وثلاثماية وسبع وخمسون كلمة، وألف وأربعمائة وتسعون حرفا، لا يوجد سورة مبدوءة أو مختومة بما بدئت وختمت به.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قال تعالى: «ق» مفتاح اسمه القادر والقاهر والقريب والقدوس والقيوم والقدير وهي اسم للسورة أيضا والأحسن في معاني هذه الحروف أن يكل أمرها إلى منزلها وتقول الله أعلم بمراده بها وقد ذكرنا في تفسير نون أنها رمز بين المحب والمحبوب لا يعرفه غيرهما وسنذكر أوائل السور المبدوءة بالحروف معاني متفرقة أولا بأول فراجعها ففي كل منها ما ليس في الأخرى، راجع بحث الفرق بين الوحي والإلهام في المقدمة، هذا وقد افتتح جل
256
شأنه سورا من كتابه ببعض حروف الهجاء على سبيل التحدي والتنبيه لكونه معجزا لا يضاهى، ودلالة على عظمته، أتبعه بالقسم فقال «وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ» العالي الشرف وجواب القسم هذا محذوف تقديره انه لبالغ الإعجاز وإنه جدير أن يؤمن به من يسمعه وأنه لحقيق أن يعذب جاحده، قال ابن عباس رضي الله عنهما ق جبل محيط في هذه الدنيا، وقال غيره معناه قضي الأمر بما هو كائن إلى يوم القيامة «بَلْ» إضراب عما تقدم من معنى القسم إلى ما هم عليه من الجهل فقال «عَجِبُوا» أولئك الكفار قوم محمد «أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ» رسول ينذرهم ويخوفهم عاقبة أمرهم إن أصروا على كفرهم وذلك المنذر «مِنْهُمْ» في أنفسهم عرفوا صدقه وأمانته ونسبه ومكانته وآيته في القرآن البليغ الذي هو في لغتهم ومع ذلك أعرضوا «فَقالَ الْكافِرُونَ هذا» الذي جاء به محمد من عند ربه «شَيْءٌ عَجِيبٌ ٢» غريب في بابه ونوعه إذ يقول فيه «أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً» فإنا نحيا مرة ثانية ونسأل عما فعلناه «ذلِكَ» القول الذي يخبرنا به في رجوعنا بعد الموت إلى حالتنا الأولى بعد تفتتها وفنائها «رَجْعٌ بَعِيدٌ» عن العقل لا يوافقه عليه أحد ولا يكاد يصدقه إذ لم يخبرنا به آباؤنا فلا يكون ذلك أبدا وكلامك هذا يا محمد مرجوع عليك لبعد إمكانه قال تعالى ردّا لاستبعادهم ذلك «قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ» من الموتى وما تأكله الأرض من لحومهم وتشربه من دمائهم وترمه من عظامهم بحيث لا يشتبه عليه جزء أحد من الآخر ولا يعزب عن علمه ما تداخل منها في تخوم الأرض وما دخل في بطون الوحوش «وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ ٤» بعددهم وأسمائهم وما ينقص منهم وما يبقى في كل لحظة. وفي هذا رد لاستبعادهم النشأة الأخرى، أي فالذي هو كذلك أيها الناس وقد خلقكم من العدم ألا يقدر على إعادتكم؟ بلى قال تعالى (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) الآية ٢٨ من الأعراف الآتية، ثم اتبع الأضراب عن معنى القرآن باضراب آخر عن مغزى الإعادة فقال «بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ» الحياة بعد الموت الثانية بالبراهين المتلوة عليهم من الأنبياء من لدن آدم بادي الرأي ولأول وهلة دون تفكر وتدبر كما أنكروا الإله والنبوة والقرآن ت (١٧)
257
والآيات الدالة على صدقها «فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ ٥» مضطرب مختلط فكل تكذيب منهم يكون أفظع من الذي قبله، فتارة يكذبون نفس الرسول وأخرى يتهمونه بالسحر والكهانة والجنة والشعر، وطورا يقولون أن ما جاءنا به من أساطير الأولين وخرافاتهم وانه يتعلمه من أهل الكتاب وأنه يتقوله من تلقاء نفسه ومرة يدّعون ألوهية الملائكة والنجوم والأصنام والأوثان فتراهم لا يثبتون على شيء وتقلبهم هذا دليل على كذبهم، قال تعالى موبخا فعلهم ومذكرا لهم بصنعه ببعض حلقه «أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها» بلا عمد يرونها أو بلا عمد أصلا، راجع تفسير الآية ٢ من سورة الرعد في ج ٣ والآية ١٠ من سورة لقمان في ج ٢ «وَزَيَّنَّاها» بأنواع الكواكب والشمس والقمر «وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ ٦» شقوق أو صدوع، فاعجبوا من هذا فإنه أعظم من الإعادة بعد الموت، راجع الآية ٥٧ من سورة غافر «وَالْأَرْضَ مَدَدْناها» على الخلاء لا شيء يمسكها ولا يقلها بشيء «وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ» جبالا عظاما لئلا تتحرك بكم فتزعجكم وهذا دليل على كونها قائمة بالهواء وإلا لما قال ذلك «وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ» صنف ونوع من مأكول وغيره «بَهِيجٍ ٧» نظارة وحسنا ولطافة فكل من يراه يبتهج ويسر، أي اغفلوا عن هذا الذي جعلناه «تَبْصِرَةً» للعاقل يتفكر به «وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ ٨» إلى ربه تبصر في بدايع صنعه «وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً» فيه حياة كل شيء «فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ» بساتين يستدلون بها على جنات الآخرة «وَحَبَّ الْحَصِيدِ ٩» البر والشعير
والذرة والسمسم والدّخن والعدس والرز وكل ما يقطف ويحصد من مأكول الإنسان والحيوان فهل يجهل أحد صنعنا لهذا «وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ» مرتفعات في السماء طوالا مستويات «لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ ١٠» ثمر متراكب بعضه فوق بعض وهو في أكمامه فإذا خرج من الكم بأن انشق عنه فيكون منضودا ولهذا قال تعالى في حق الموز (وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ) الآية ٢٩ من الواقعة الآتية لأنه يطلع بعضه فوق بعض ولم يخلق في الكم أولا ثم يخرج منه، ولهذا فان ثمر النخيل قبل أن ينشق
258
عنه الكم يسمى طلعا، وقد جعلنا هذا كله
«رِزْقاً لِلْعِبادِ» فضلا من لدنا ورحمة بهم «وَأَحْيَيْنا بِهِ» أي الماء المبارك «بَلْدَةً مَيْتاً» جف نباتها واسودت أرضها «كَذلِكَ» أي كما نحيي الأرض الميتة بانزال الماء وإخراج النبات يكون «الْخُرُوجُ ١١» من المقابر وإحياء الخلق راجع الآية ٥٦ من الأعراف الآتية واعلم يا أكمل الرسل أن قومك ليسوا بأول من كذب الرسل بما جاءوهم من عندنا فقد «كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ» نوحا «وَأَصْحابُ الرَّسِّ» شعيبا بعد إرساله إلى أصحاب الأيكة كما سيأتي في الآية ٨٥ من الأعراف الآتية، والرس البئر المطوية كانت لبقية من ثمود كذبوا نبيهم ورسوه في بئر لهم في اليمن قاتلهم الله، وقيل هم قوم باليمامة وأن صاحبهم الذي كذبوه قسطلة بن صفوان وقيل هم أصحاب الأخدود وصاحبهم الغلام الذي مر ذكره في الآية ٤ من سورة البروج المارة «وَثَمُودُ ١٢» كذبت صالحا «وَعادٌ» كذبت هودا «وَفِرْعَوْنُ» كذب موسى وهارون «وَإِخْوانُ لُوطٍ ١٣» كذبوا لوطا وسماهم إخوانا لأن بينه وبينهم نسبا قريبا لأنهم طائفة من قوم إبراهيم عليه السلام ومعارفه وهو ابن أخت ابراهيم «وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ» الأشجار الملتفة كذبوا شعيبا أيضا «وَقَوْمُ تُبَّعٍ» أي كرب الحميري حيث آمن وكذبه قومه لذلك خصه الله بالذكر كما خص فرعون نفسه لأنه هو المكذب راجع الآية ٣٧ من سورة الدخان في ج ٢ فكان «كُلٌّ» من هؤلاء الأمم «كَذَّبَ الرُّسُلَ» المرسلين إليهم فلا تحزن يا حبيبي على قومك «فَحَقَّ» على المصرين منهم على الكفر إنقاذ «وَعِيدِ ١٤»
فيهم ووعد الرسل بالنصر عليهم، فقل يا سيد الرسل لهؤلاء المنكرين اعادتهم بعد موتهم «أَفَعَيِينا» أعجزنا أم تعبنا «بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ» لهم حتى نتعب باعادتهم ثانيا، كلا وعظمتنا إنما هو بين الكاف والنون، وقل لهم يا أكمل الرسل كيف تعترفون ببداية الخلق وتنكرون الإعادة وليس بشيء أهون علينا منها. وهذا جواب لقولهم (ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) «بَلْ هُمْ» هؤلاء الجاحدون «فِي لَبْسٍ» شك وخلط وشبه ألقاها الشيطان في قلوبهم وأوقع الحيرة منه فيها بتسويله لهم بأن إحياء الموتى محال وأنساهم
259
التفكر بأن من قدر على الإنشاء لا تعبيه الإعادة بل هو على الإعادة أقدر «مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ١٥» بعد الموت، وقيل إن هذه الآية عامة في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فهي أن الله تعالى يعدم كل موجود في كل لحظة ويحييه وهذا معنى التجدد، وأما في الآخرة فإنه يحيي من أماته إلى الحساب والجزاء ولا يعظم هذا على الله، كيف وهو يقول «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ» من الخطرات والهواجس الحادثة الآن والتي ستحدث بعد في قلبه، لا يخفى علينا شيء من ضمائره، وكيف تخفى علينا «وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ١٦» العرق الذي يجري فيه الدم المتصل بكل جزء من أجزاء الإنسان، وهو بين الحلقوم والمري، ولذلك سمي وربدا، واذكر لهم يا محمد «إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ» الملكان الموكلان بكل نفس يكتبان ما تعمل من الخير والشر ويحفظانه إلى يوم الحساب أحدهما «عَنِ الْيَمِينِ» يكتب الحسنات «وَعَنِ الشِّمالِ» الآخر يكتب السيئات «قَعِيدٌ ١٧» كل منهما بمحله لا يفارقه طرفة عين، وقد اكتفى بذكر أحدهما عن الآخر كقوله:
رماني بأمر كنت منه ووالدي بريئا ومن أجل الهوان رماني
أي وكان والدي بربئا. وقوله:
نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض والرأي مختلف أي نحن راضون، وهنا يكون عن اليمين قعيد أيضا إذ الحذف من الأول لدلالة الثاني عليه وبالعكس من أبواب البلاغه وسمي احتباكا وهو فضلا عن أنه لا يخل بالمعنى فلا يخفى على بصير، ولفظ قعيد يدل على الملازمة فهو أبلغ من قاعد ولهذا قال تعالى «ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ» يقوله الإنسان «إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ» يراقبه لا يبرح عنه «عَتِيدٌ ١٨» تهيأ لتدوين ما يخرج من فيه، وهذان الملكان لا يفارقان الإنسان إلا عند الغائط والجماع، ولذلك يكره الكلام في هاتين الحالتين لئلا يؤذيهما في كتابة ما يقع منه فيهما لأنهما لا يهملان شيئا حتى أنينه في المرض ليثيبه الله عليه. روى البغوي بإسناد الثعلبي عن أبي أمامه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
260
كاتب الحسنات أمين على كاتب السيئات، فإذا عمل حسنة كتبها صاحب اليمين حالا، وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال دعه سبع ساعات لعله يسبّح أو يستغفر، وهذان غير المعقّبات الآتي ذكرهم في قوله تعالى (لَهُ مُعَقِّباتٌ) الآية ١١ من سورة الرعد في ج ٣ لأن الله وكل في بني آدم ملائكة كثيرين من حين يكون في بطن أمه إلى أن يدفن في قبره، ومن لطفه على عباده أنه يكتب للمريض والمسافر مثل ما كانا يعملان في الصحة والإقامة من الحسنات فقط أما السيئات فلا، لأن العقاب فيها متوقف على الفعل فلو نوى ولم يعمل لا يكتب عليه شيء بل تكتب له حسنة كما سيأتي في تفسير الآية ٨٤ من سورة القصص الآتية. أخرج بن أبي شيبة والدارقطني في الافراد والطبراني والبيهقي في الشعب عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: ما من أحد من المسلمين يبتلى ببلاء في جسده إلا أمر الله تعالى الحفظة فقال اكتبوا لعبدي ما كان يعمل وهو صحيح مادام مشدودا في وثاقي. واخرج ابن أبي شيبة عن أبي موسى قال: قال صلّى الله عليه وسلم: من مرض أو سافر كتب الله تعالى له ما كان يعمل صحيحا مقيما قال تعالى «وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ» أي شدته المذهبة لعقلة وغمرته التي تغشى المحتضر حالة نزعه إذ تحول بينة وبين عقله فتصيّره كالسكران «بِالْحَقِّ» عند بلوغ الأجل اليوم الذي يتبين به الإنسان من أمري الدنيا والآخرة ويعلم فيه ما يوصل إليه حاله من السعادة والشقاوة ويراه عيانا.
واعلم أن الإنسان خلق لشيئين: لعبادة ربه مادام حيا قال تعالى (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) الآية ٥٦ من الذاريات في ج ٢، وللموت عند انقضاء أجله قال تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) الآية ١٨٥ من آل عمران ج ٣، وهي مكررة في الأنبياء والعنكبوت ٣٥ و ٥٧ الآتيتين ج ٢ وهو لا ينجو منه أحد، قال: مناديه ينادي كل يوم: لدوا للموت وابنوا للخراب ويقال له «ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ» تميل تعدل عن الموت الذي تنفر عنه ولا تريده بحالة من الأحوال، فها هو قد جاءك. أخرج البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجه عن عائشة وصححه الحاكم قالت: لقد رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو
261
بالموت وعنده قدح فيه ماء وهو يدخل يده في القدح ثم يمسح وجهه بالماء ثم يقول اللهم أعني على سكرات الموت. وجاء في بعض الآثار ما أخرجه ابن سعد عن عروة قال: لما مات الوليد بكت أم سلمة فقالت:
يا عين فابكي للوليد بن الوليد بن المغيرة كان الوليد أبو الوليد فتى العشيرة
فقال صلّى الله عليه وسلم لا تقولي هكذا يا أم سلمة ولكن قولي (وجاءت سكرة الموت بالحق) وأخرج أحمد وابن جرير عن عبد الله مولى الزبير بن العوام قال: لما حضر أبو بكر الوفاة تمثلت عائشة بهذا البيت:
أعاذل ما يغني الحذار عن الفتى إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر
فقال أبو بكر، ليس كذلك يا بنية ولكن قولي: (وجاءت سكرة الموت بالحق) وفي رواية لابن المنذر وأبي عبيد أنها قالت:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل
فقال رضي الله عنه: بل قولي (وجاءت سكرة الموت) إلخ. ولما بين جل شأنه بعضا من حالة الإنسان في حياته ومماته طفق يبين شيئا من أحوال القيامة التي لا بد له منها فقال «وَنُفِخَ فِي الصُّورِ» النفخة الثانية للبعث بدليل قوله «ذلِكَ» أي وقت هذه النفخة هو «يَوْمُ الْوَعِيدِ ٢٠» للحساب والجزاء الذي وعدكم الله به في الدنيا على لسان رسله وحذركم من هوله لأن النفخة الأولى تكون لإماتة من بقي في الدنيا وبينهما كما قيل أربعون سنة، وفي النفخة الثانية يقوم الخلق من كفاتهم
قال تعالى «وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ» برة كانت أو فاجرة «مَعَها سائِقٌ» ملك يسوقها إلى الحشر الذي يقف الناس فيه للحساب «وَشَهِيدٌ ٢١» ملك آخر يشهد عليها بما عملت في الدنيا ويقال له «لَقَدْ كُنْتَ» أيها الإنسان في دنياك وبرزخك مدة طويلة «فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا» اليوم العظيم وقد كنت تنكره وتجحده وتكذب رسلنا الذين أنذروكه «فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ» الذي كان على بصرك والرين الذي كان على بصيرتك، وأزحناه عنك الآن لتنظره عيانا، وأمطنا ما كان على سمعك من الثقل لتسمعه جهرا حقيقة وأجلينا الصدأ الذي على قلبك لتعيه يقينا
262
«فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ٢٢» قوي جدا يرى ما كان محجوبا عنه في الدنيا بسبب غفلتك عن النظر إلى قدرتنا والسماع لأوامرنا والتفكر في مصيرك ومصنوعاتنا «وَقالَ قَرِينُهُ» الملك الموكل به الشهيد عليه الكاتب لأعماله «هذا ما» أي الديوان الذي «لَدَيَّ» عن سجل أعمالك «عَتِيدٌ» مهيأ ظاهر حاضر فينظر فيه فإذا هو والعياذ بالله جامع لكل شيء، وهو الكتاب المنوه به في الآية ١٤ من الإسراء الآتية، فيقول الله حينذاك، وهو أعلم بما فيه قبل إظهاره لأنه مدون في لوحه للسائل وللمشاهد اللذين جاءا به «أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ ٢٤ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ» في الدنيا «مُعْتَدٍ» على نفسه وعلى غيره، يمنع خيره، ويوقع شره وضره «مُرِيبٍ ٢٥» شاك في التوحيد وفي هذا اليوم وهو «الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ» من أصنام وغيرها «فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ ٢٦» الكائن في الطبقة السفلى من طبقات النار أعاذنا الله منها «قالَ قَرِينُهُ» شيطانه الذي قيض له السوء المنوه به في الآية ٣٠ من سورة الزخرف في ج ٢ والوارد ذكره في قوله صلّى الله عليه وسلم ما من أحد الا وقد وكل به قرينه من الجن قالوا ولا أنت يا رسول الله؟ قال ولا أنا، إلا أن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني الا بخير هذا وإن بعض المفسرين فسر القرين الأول بالشيطان، وبما أن الجمهور على خلافهم فسرناه بالملك لأن سياق الآية بدل عليه، ويأبى الآخر، فانظر ماذا ترى. ولفظ القرين من النوع المبهم أحد أقسام البديع في الكلام، ولهذا فإنه يفسر بنسبة المقام كما جرينا عليه «رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ» أي ما أجبرته على الطغيان ولا أوقعته فيه، وهذا بعد أن سئل وقال أطغاني الشيطان، فيدافع الشيطان عن نفسه معتذرا ثم يقول «وَلكِنْ كانَ» هو يا رب غارقا «فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ ٢٧» عن الحق وسبله، إذ اختار بطوعه ورضاه الضلال على الهدى وأكب على الردى، فيقول الكافر يا رب كذب هو الذي سوّل لي الشر وحسّن لي القبيح فأراد الشيطان أن يكذبه ثانيا فقطع الله. عليه كلامه «قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ» الآن اسكتوا لأني أرسلت إليكم رسلا «وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ ٢٨» على ألسنتهم وبالكتب
263
التي أنزلتها عليهم، وقد أنذروكم وحذّروكم هول هذا اليوم وبينوا لكم منافع الإيمان ومضار الكفر فلم تفعلوا فلا فائدة من خصامكم الآن وقد قضي الأمر عليكم بالعذاب «ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ» فلا تطمعوا أن أغيره لأنه حق عليكم «وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ٢٩» لأني لا أعذب أحدا بغير ذنب، وأنا العلام بما وقع منكم قبلا راجع تفسير الآية ٢٢ من سورة ابراهيم في ج ٢ والآية ٣٠ من سورة المرسلات المارة تقف على مواقف القيامة، واذكر يا محمد لقومك «يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ» إيفاء بوعده لها في سابق علمه وانجازا لقوله: «لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ» الآية ١١٩ من سورة هود في ج ٢ قال ابن عباس فلما سيق أعداء الله إليها لا يلقى فيها فوج إلا ذهب فيها ولا يملأها شيء فتقول مخاطبة ربها عز علاه، ألست قد أقسمت لتملأني؟ قال فيضع قدمه عليها فيقول هل امتلأت، فتقول قط قط أي حسبي حسبي قد اكتفيت. وفيها ثلاث لغات بإسكان الطاء وكسرها وتنوينها، أي قد امتلأت وليس في مزيد وكانت تقول قبل هذا زدني فيزيدها «وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ ٣٠» ولا يقال أن النار معنى وان كانت جسما فلا يأتي منها النطق، ولانها ليست صالحة للخطاب لأن الله الذي أنطق كل شيء في الدنيا وأنطق جوارح الإنسان بما صنعت، والحيوان بما اعتدى، والجماد بما وقع منه وعليه، قادر على إنطاق النار وجعلها صالحة للخطاب بإبداع سر من أسراره فيها، وقد خاطبها الله في غير هذا الموضع في الآية ٧٩ من سورة
الأنبياء وخاطب الجبال في الآية ١٠ من سورة سبأ وخاطب النحل في الآية ٦٩ من سورة النحل وخاطب السماء والأرض في الآية ١١ من سورة السجدة في ج ٢ وأمثاله كثير في القرآن العظيم كما نبين كلا في محله ان شاء الله.
مطلب في آيات الصفات وما يجب فيها:
ولنورد ما يتعلق في هذه الآيات من الأحاديث: روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول هل من مزيد حتى يضع ربّ العرش، وفي رواية رب العزة، فيها قدمه فينزوي بعضها إلى
264
بعض وتقول قط قط بعزتك ولا يزال في الجنة فضل، حتى ينشيء الله لها خلقا فيسكنهم فيها، فتقول الجنة قط قط. ولأبي هريرة بزيادة: ولا يظلم الله من خلقه أحدا. وهذا من أحاديث الصفات التي سبق البحث عنها في الآية ٢١ من سورة الفجر المارة، وذكرنا أن جمهور المتكلمين وطائفة من العلماء يصرفونها عن ظاهرها بالتأويل، فيضعون بدل القدم المقدم أي حتى يضع الله من قدم من أهل النار لقيام الدليل على استحالة الجارحية على الله تعالى، وجمهور من السلف وطائفة من المتكلمين بحروفها على ظاهرها ويؤمنون بها من غير تأويل وهو الأقرب وعليه فيكون معنى الرجل الجماعة كما تقول رجل من جراد أي جماعة منه أي يضع فيها جماعة أو قوما مسميين بلفظ الرجل القدم والإضافة هنا اختصاصية راجع تفسير هذا الحديث في شرحي البخاري ومسلم. وقال البغوي القدم والرجل في هذا الحديث من صفات الله المنزه عن الكيفية والتشبيه، والإيمان بها فرض، والامتناع عن الخوض فيها واجب، فالمهتدي من سلك فيها طريق التسليم، والخائض فيها زائغ والمنكر معطل، والمكيف مشبّه، وهو ليس كمثله شيء هذا والله أعلم
قال تعالى «وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ» قربت وهيئت للمتقين المساعدين عما نهوا عنه الفاعلين ما أمروا به «غَيْرَ بَعِيدٍ ٣١» مكان قريب منهم كي يروها وتقر أعينهم بها ويقال لهم «هذا ما تُوعَدُونَ» في الدنيا على لسان رسلكم وهي لكم و «لِكُلِّ أَوَّابٍ» رجاع توأب من الذنوب. «حَفِيظٍ» على حدود الله مبالغ في طاعته وهو «مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ» خافه وأطاعه وصدق رسله «بِالْغَيْبِ» وآمن به من غير أن يراه «وَجاءَ» يوم القيامة الى ربه «بِقَلْبٍ مُنِيبٍ ٣٣» اليه خاضع له خاشع لهيبته مخلص لعبادته مقبل اليه بكليته فهذا وأمثاله يقال لهم «ادْخُلُوها» أي الجنة التي قرّبت إليكم «بِسَلامٍ» وأمن من زوالها وسلام من الله وملائكته عليكم «ذلِكَ» يوم يدخل أهل الجنة الجنّة، وأهل النار النّار، هو «يَوْمُ الْخُلُودِ ٣٤» لا موت ولا خروج بعده أبدا «لَهُمْ» لأهل الجنة «ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ ٣٥» لهم مما لم يخطر على بالهم وهو رؤية
265
الله عز وجل إذ لا مزيد عليه لأهل الجنة بعدها، ولهذا فان جمهور المفسرين فسروا المزيد بالجنة كما فسروا الزيادة الواردة بالآية ٢٦ من سورة يونس في ج ٢ بها وبين مزيد وزيادة مناسبة باللفظ وبالآيتين بالمعنى، والقرآن يفسر بعضه، وبعد أن بين تعالى حال أهل النار وحال أهل الجنة للذكرى والاعتبار قال مهددا أهل مكة بما فعله من قبلهم بقوله «وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ» يا محمد من الأمم الماضية الذين لم تنفعهم الذكرى ولم يعتبروا بما وقع عليهم «مِنْ قَرْنٍ» أي قرون كثيرة ممن لم يتعظ بنذرنا «هُمْ» أي المهلكون «أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً» من قومك الذين يزعمون أنهم أشداء كثيرون، وأكثر عددا وعددا، وأعظم سطوة وجولة «فَنَقَّبُوا» طافوا وتقلبوا «فِي الْبِلادِ» شرقا وغربا جنوبا وشمالا ليروا ما يعصمهم من عذاب في الدنيا فلم يجدوا ما يقيهم منه فلينظر قومك «هَلْ مِنْ مَحِيصٍ ٣٦» مخلص أو مهرب لهم أو مأمن أو ملجأ من عذابي فلم يجدوا وهل وجد أحد من العصور الخالية وزرا مني؟ كلا بل لا بد من الموت والرجوع إلي، قال الحارث بن كلدة:
نقبوا في البلاد من حذر الموت وجالوا في الأرض كل مجال
وقال امرئ القيس:
وقد نقّبت في الآفاق حتى رضيت من الغنيمة بالإياب
«إِنَّ فِي ذلِكَ» الذي قصصناه عليكم يا أمة محمد بشير إلى أنكم ومن قبلكم ومن بعدكم صائرون إلينا وإن هو «لَذِكْرى» عظيمة وعبرة باهرة وعظة بالغة «لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ» واع وعقل ثابت وفكر ثاقب «أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ» لما يتلى عليه من القرآن، وسمعه سماع قبول لا يحدث نفسه بخلافه مصغيا لإرشاده «وَهُوَ شَهِيدٌ ٣٧» فطن لا غافل ولا نسيان، لأن من لا يحصر ذهنه ولبه وسمعه وبصره لآيات الله لا يدخل في هذه الآية بل يكون في عداد الذين ذكرهم الله في الآية ١٨٧ من الأعراف، الآتية أعاذنا الله من ذلك.
مطلب الآية المدنية في هذه السورة وخلق السموات والأرض والتسبيح:
وهذه الآية المدنية قال تعالى «وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما»
266
من الجن والإنس والملائكة والطير والوحش والمياه وغيرها «فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا» لحقنا ولا أصابنا «مِنْ لُغُوبٍ ٣٨» إعياء أو تعب فكيف تستعظمون علينا إعادتكم أيها الناس وهي لا شيء بالنسبة لهذا الذي لا تفي به القوى لأنه أعظم من الخلق كله راجع الآية ٥٧ من سورة غافر من ج ٢، وهذه الآية أيضا كالمستطردة بالنسبة لما قبلها وبعدها كسائر الآيات المدنيات في المكيات، وسبب نزولها أن اليهود قالوا أن الله خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام أولها الأحد وآخرها الجمعة ثم استراح يوم السبت واستلقى على العرش فلذلك تركوا العمل فيه كما هو موجود في التوراة الموجودة الآن راجع الاصحاح الأول والثاني من التكوين في التوراة، فكذّبهم الله عز وجل في هذه الآية، نافيا عن ذاته المقدسة التعب والاعياء المستلزمين للراحة. ومما يدل على كذبهم أن الأيام أزمنة مستمرة بعضها بعد بعض فلو كان بدأ خلقها بالأحد كما يزعمون لكان الزمان مخلوقا قبل الأيام مع أن الزمان لا ينفك عن الأجسام فيكون قبل خلق الأجسام لأن اليوم عبارة عن سير الشمس من طلوعها إلى غروبها وقبل خلق السموات والأرض ما كان شمس ولا قمر لأن اليوم يطلق ويراد به الوقت والحين وقد يعبر به عن مدة من الزمن أيّ مدة كانت فبطل قول اليهود وثبت التحريف في التوراة الموجودة الآن بين أيديهم وأن ما ينسبونه إلى الله من الاستراحة والاستلقاء محض زور وبهتان تعالى الله عنهما علوا كبيرا. انتهت الآية المدنية. قال تعالى «فَاصْبِرْ» يا حبيبي «عَلى ما يَقُولُونَ» فيك من التكذيب والبهتان فإني بالمرصاد لهم، يعلمون أنهم يجحدون آياتي بتكذبيك راجع الآية ٣٢ من الأنعام في ج ٢ وإنما أمره ربه بالصبر مع تطاولهم عليه الذي كاد أن يمحق صبره لأنه لم يؤمر بقتالهم بعد «وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ» إنما أمره بالتسبيح فيه لأنه سيفرض عليه وعلى أمته فيه صلاة الصبح كما في أزله وكذلك الأمر في قوله «وَقَبْلَ الْغُرُوبِ ٣٩» لأنه ستفرض فيه صلاة المغرب وقبله صلاتا الظهر والعصر «وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ» أيضا حيث يفرض فيه صلاة العشاءين وتسمى فيه النافلة والتهجد «وَأَدْبارَ السُّجُودِ ٤٠»
267
سبحه بعده أيضا والسجود كان يفعله صلّى الله عليه وسلم قبل فرض الصلاة إذ أنه سجد في آخر اقرأ والنجم وغيرها، والمراد من هذه الآية مطلق التسبيح لأن الصلاة التي فيها التسبيح لم تفرض بعد وقال علي وعمر رضي الله عنهما: المراد بأدبار السجود الركعتان بعد المغرب (وَإِدْبارَ النُّجُومِ) الآية الأخيرة من سورة الطور في ج ٢ الركعتان قبل الصبح إلا أن هذه بكسر الهمزة إذ يراد بها ذهابها لجهة سيرها الذي تغيب فيه عن يمين الرائي وهناك بفتح الهمزة حيث يراد بالإدبار البعدية المطلقة، أي سبحه بعد كل سجود حين الهدى اليه، لأن التسبيح يكون فيه وهو المراد هنا وإن كان مطلوبا في غيره وفي كل حال، إذ ينبغي للانسان أن لا يغفل عن ذكر الله كما جاء في الآية ١٩١ من آل عمران في ج ٣ وبعض المفسرين يجوزه في هذا أيضا ويقولون ان المراد بآية الطور الركعتان قبل الصبح. روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها وعن أبيها أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها. يعني سنة الفجر. وروى البخاري عن ابن عباس قال: أمر رسول الله أن يسبح في أدبار الصلوات كلها. وهذا كله كان بعد فرض الصلاة، ولا يخفى أن عائشة وابن عباس كانا صغيرين دون سن التمييز، حيث كان سن عائشة عند الهجرة سبع سنين، وابن عباس أربع سنين، بما يدل على أن ليس المراد بها السجود في الصلاة ولذلك قال بعضهم المراد بالتسبيح هنا التسبيح بعد الصلاة مستدلا بما رواه مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله من سبح الله في دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين وحمد الله ثلاثا وثلاثين وكبر الله ثلاثا وثلاثين فذلك تسعة وتسعون ثم قال تمام المائة لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، غفرت ذنوبه وان كانت مثل زبد البحر. وفي حديث ابن عباس المتقدم أن هذا
جاء بمعرض الثواب لمن لا يقدر على تحصيله من جهة أخرى. يدل على هذا ما رواه البخاري عن أبي هريرة أن نفرا من المسلمين أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله ذهب أهل الوتور بالأجور وفي رواية بالدرجات والنعيم المقيم فقال وما ذاك؟ قالوا صلوا كما صلينا، وجاهدوا كما جاهدنا، وأنفقوا من فضول أموالهم وليست لنا أموال، قال:
268
أفلا أخبركم بأمر تدركون به من كان قبلكم. وتسبقون من جاء بعدكم ولا يأتي أحد بمثل ما جئتم به إلا من جاء بمثله؟ تسبحون في دبر كل صلاة عشرا وتحمدون عشرا. وتكبرون عشرا. وفي رواية أبي ذر الغفاري: ان لكم بكل تسبيحة صدقة وبكل تكبيرة صدقة وبكل تحميدة صدقة وفي بضع أحدكم صدقة إلخ قالوا يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له بها أجر؟ قال أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر، فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر،
قال تعالى «وَاسْتَمِعْ» يا سيد الرسل لما أخبرك به من حال يوم القيامة الذي قصصناه عليك كيف يكون «يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ» أهلها بالنفخة الثانية «مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ ٤١» قربا نسبيا من السماء إذ يقف على صخرة بيت المقدس، وهي على ما قيل بمكان أقرب الى السماء من الأرض بثمانية عشر أو اثني عشر ميلا وانها وسط الأرض، فيقول بصوت يسمع فيه أقطار الأرض كلها ولحج البحار وبطون الأودية ورؤس الجبال بدلالة قوله تعالى «يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ» وكيفيّتها أيتها العظام النخرة البالية والأوصال المنقطعة واللحوم الممزقة والشعور المتفرقة إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء «بِالْحَقِّ» يوم البعث والجزاء والحشر، ويقال هلموا لهذا فتستجيب تلك الذرات لأمر الرب وتلنئم كلها على بعضها، لا يعزب منها ذرة حتى تكون جسدا كما كانت في الدنيا، وتدبّ فيها الحياة بأمر محيي الموتى، فيا أيها الناس «ذلِكَ» يوم النداء هذا هو «يَوْمُ الْخُرُوجِ ٤٢» أي خروج الأموات من مدافنها والذرات من أماكنها وهو يوم التئامها وتكوينها في بعضها كما كانت في الدنيا، ليعلم هؤلاء المنكرون حقيقته عيانا «إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي» الخلق في الدنيا «وَنُمِيتُ» من نخلقه فيها بعد انقضاء أجله «وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ ٤٣» اي الحياة الأخرى في الآخرة «يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ» بالبناء للفاعل وقرىء المفعول وقرىء بتشديد الشين للتكثير وقرىء بتاءين، وهذه كلها جائزة، راجع بحث القراءات في المقدمة. فيخرجون «سِراعاً» إلى أرض الحشر بدليل قوله «ذلِكَ» أي يصير هذا الأمر العظيم «حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ ٤٤» جدا هين بالنسبة لقدرتنا إذ
Icon