تفسير سورة القلم

الفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية
تفسير سورة سورة القلم من كتاب الفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية المعروف بـالفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية .
لمؤلفه النخجواني . المتوفي سنة 920 هـ

جار ظاهر سهل المأخذ سوى الله رب العالمين فكيف تنكرون وجوده مع انكم مغمورون بسوابغ نعمه مستغرقون بسوابق كرمه
خاتمة سورة الملك
عليك ايها المحمدي المتمسك بعروة الشريعة المصطفوية التي لا عروة أوثق منها ولا جادة أقوم واعدل ان تتشبث بها وتعمل بمقتضاها متوكلا على الرحمن المستعان مفوضا أمورك كلها اليه على وجه الإيقان معرضا عن جنود امارتك ومقتضياتها مجاهدا معها مخاصما إياها حتى تصير مطمئنة راضية بعموم ما جرى عليها من مقتضيات القضاء صابرة على ما اصابها من البلاء الى ان تصير فانية عن هوياتها الباطلة باقية بهوية الحق وبقائه. جعلنا الله ممن فنى فيه وبقي ببقائه بمنه وجوده
[سورة القلم]
فاتحة سورة ن
لا يخفى على من تحقق بحيطة الحق وشمول أوصافه الذاتية على عموم مظاهره ومصنوعاته ان قلم تقديره الذي هو أول مصنوع صدر عنه سبحانه قادر غالب على تصويرات لا تتناهى وتشكيلات لا غاية لها فاثبت به سبحانه في لوح قضائه صدور عموم مظاهره ظاهرا وباطنا غيبا وشهادة ازلا وابدا ومن كمال عظمته ورفعة قدره ومكانته اقسم به سبحانه لبراءة حبيبه صلّى الله عليه وسلّم عما يتهمه الظالمون ويقولون في حقه ما يقولون عنادا ومكابرة أولئك المفسدون المفرطون فقال بعد ما تيمن باسمه مخاطبا لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم على طريق الرمز والإيماء بِسْمِ اللَّهِ المطلع على عموم ما في استعدادات عباده من الفضائل والكمالات الرَّحْمنِ لهم يهديهم الى سبيل الخيرات الرَّحِيمِ لهم يوصلهم الى أعلى الدرجات وارفع المقامات
[الآيات]
ن ايها النبي النائب عن الحق الناظر بنور الله النقي عن جميع الرذائل والآثام المنافية لمرتبتى النبوة والولاية وَحق الْقَلَمِ الأعلى الذي هو عبارة عن حضرة القدرة الغالبة الإلهية وَبحق ما يَسْطُرُونَ ويكتبون به الملأ الأعلى والاخرى حسب آثار الأوصاف والأسماء الإلهية التي لا تعد ولا تحصى
ما أَنْتَ يا أكمل الرسل المبعوث الى كافة البرايا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ الذي رباك على الهداية العامة والولاية المطلقة واعطاك من الفضائل والكمالات المتعلقة بمرتبتى النبوة والولاية مما لا يعد ولا يحصى بِمَجْنُونٍ اى ما أنت بغافل عنها ذاهل عن أداء حقها جاهل بشكر مولاها ومنعمها
وَإِنَّ لَكَ يا أكمل الرسل لَأَجْراً عظيما عند الله غَيْرَ مَمْنُونٍ منقطع ابد الآباد إذ ما يترتب على مرتبتك الجامعة من الكرامات البديعة اللائقة لا انقطاع لها أصلا
وَإِنَّكَ من كمال تخلقك بالأخلاق الإلهية وتحققك بمقام الخلة والخلافة لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ لا خلق أعظم من خلقك لحيازتك وجمعك خلق الأولين والآخرين حسب جامعية مرتبتك وبالجملة
فَسَتُبْصِرُ يا أكمل الرسل وَيُبْصِرُونَ ايضا أولئك المسرفون المفرطون بنسبتك الى الجنون حين تبلى السرائر وينكشف ما في الضمائر وينزل العذاب على اهله
بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ اى مع أيكم الفتنة وأيكم يفتن بالجنون المؤمنون المهتدون بهدايتك وارشادك او الكافرون الضالون بغوايتهم وضلالهم وبالجملة
إِنَّ رَبَّكَ الذي رباك على الرشد والهداية هُوَ أَعْلَمُ بعلمه الحضوري بِمَنْ ضَلَّ وانحرف عَنْ سَبِيلِهِ الموصل الى توحيده وَهُوَ ايضا أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ
المتمكنين منهم على جادة التوحيد والصراط المستقيم الموصل الى جنة الرضا وروضة التسليم وبعد ما سمعت نبذا من شأنك في نشأتك الاخرى
فَلا تُطِعِ ايها النبي المجبول على فطرة الهداية والفلاح الْمُكَذِّبِينَ المجبولين على فطرة الغواية والضلالة يعنى مشركي مكة خذلهم الله فإنهم كانوا يدعونه الى دين آبائه فنهاه سبحانه ان يطيعهم ويقبل منهم دعوتهم فإنهم وان
وَدُّوا وأحبوا لَوْ تُدْهِنُ وتلاين أنت معهم وتوافقهم في دينهم فَيُدْهِنُونَ ايضا معك ويلاينونك ويوافقونك ولا يطعنون لدينك حينئذ لكن لا يليق بشأنك هذا
وَبعد ما قد صرت يا أكمل الرسل متخلقا بالخلق العظيم ومتصفا بالأوصاف الحميدة الإلهية لا تُطِعْ آراء ذوى الأخلاق الذميمة والأطوار القبيحة مطلقا سيما كُلَّ حَلَّافٍ مبالغ بالحلف الكاذب لترويج الباطل الزاهق الزائل مَهِينٍ مهان عند الناس بسبب الكذب المفرط والحلف الكاذب عليه
هَمَّازٍ عياب طعان يغتاب ويطعن بعض الناس عند بعضهم مَشَّاءٍ يدور بين الناس بِنَمِيمٍ اى بنقل حديث بعض عند بعض حتى يوقع بينهم الفتنة والبغضاء
مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ شحيح بخيل لا ينفق من ماله على المستحقين ويمنع ايضا صديقه وصاحبه عن الانفاق لئلا يلحق العار والتعيير عليه خاصة مُعْتَدٍ متجاوز الحد في أنواع الظلم واصناف الفسوق والعصيان أَثِيمٍ مبالغ في اقتراف الإثم والعدوان بلا مبالاة بوخامة شأنه
عُتُلٍّ غليظ الهيكل قاسى القلب كريه المنظر عريض القفاء متناه في البلادة سيما بَعْدَ ذلِكَ اى بعد الاتصاف بالأوصاف المذمومة المذكورة زَنِيمٍ دعىّ بين القوم لا يكون له نسب معروف ولا حسب مستحسن مقبول ومن كمال دناءته وخساسته
أَنْ كانَ ذا مالٍ اى انه كان ذا مال عظيم وَبَنِينَ كثيرة فلا بد له ان يشكر المنعم المتفضل ومع ذلك لم يشكره بل يكفره لأنه
إِذا تُتْلى عَلَيْهِ وعنده آياتُنا الدالة على وحدة ذاتنا وكمالات أسمائنا وصفاتنا قالَ من غاية كفره وكفرانه ونهاية بغيه وعدوانه ما هذا الا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اى الأكاذيب القديمة التي سطرها الأولون ودونوها في كتبهم قيل هذا هو الوليد بن المغيرة الذي جمع الله فيه هذه المثالب الذميمة والمساوى القبيحة وبالجملة لا تطعه أنت يا أكمل الرسل ولا تلتفت الى ثروته وسيادته بحال من الأحوال فانا بمقتضى قهرنا وجلالنا
سَنَسِمُهُ ونعلمه بالكي عَلَى الْخُرْطُومِ اى على انفه بحيث يعرف ويعلم به في عرصات المحشر
إِنَّا بمقتضى جلالنا وقهرنا وانتقامنا من اهل مكة قد بَلَوْناهُمْ اى أصبناهم وابتليناهم بالقحط سبع سنين لكفرانهم بنعمنا التي من معظمها بعثة الرسول الذي هو أكمل الرسل منهم ومن شيعتهم فكذبوه وأنكروا عليه وعلى دينه وكتابه واستهزؤا به كَما بَلَوْنا وأصبنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ التي اسمها ضروان كانت دون صنعاء بفرسخين لصالح قد كان ينادى الفقراء وقت الصرام والقطع فلما مات الصالح قال بنوه ان فعلنا مثل ما كان يفعل أبونا لضاق علينا الأمر فان المال قليل والعيال كثير وكان مال أبينا كثيرا وعياله قليلا فحلفوا فيما بينهم ليصر منها مصبحين خوفا من شدة هجوم المساكين كما حكى عنهم سبحانه إِذْ أَقْسَمُوا يعنى أولاد الصالح وورثته لَيَصْرِمُنَّها وليقطعنها مُصْبِحِينَ داخلين في الصباح
وَلا يَسْتَثْنُونَ اى لا يتكلمون بكلمة ان شاء الله حين تقاولوا وتقاسموا وهم بعد ما اتفقوا على حرمان الفقراء ومع ذلك لم يفوضوا أمورهم الى مشية الله
فَطافَ عَلَيْها اى على تلك الجنة طائِفٌ اى بلاء مخصوص بها حيث أحاط جميع جوانبها ولم يضر ما في حواليها من الجنان والبساتين الاخر
ناش مِنْ رَبِّكَ يا أكمل الرسل وَهُمْ حينئذ نائِمُونَ في بيوتهم
فَأَصْبَحَتْ الجنة وصارت بعد ما أصاب عليها ما أصاب كَالصَّرِيمِ اى التي صرم ثمارها بحيث لم يبق فيه شيء او صارت كالليل في اسودادها واحتراقها او كالنهار في غاية يبسها وجفافها
فَتَنادَوْا اى نادى بعضهم بعضا حال كونهم مُصْبِحِينَ داخلين في الصباح المعهود للصرام صايحين
أَنِ اغْدُوا واخرجوا غدوة ايها الملاك عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ قاصدين الصرم والقطع فخرجوا فَانْطَلَقُوا بأجمعهم نحوها
وَهُمْ حين خروجهم يَتَخافَتُونَ ويكتمون ذهابهم عن الناس ويسرون كلامهم فيما بينهم
أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ
وَبالجملة غَدَوْا وذهبوا غدوة عَلى حَرْدٍ اى مع قصد تام وسرعة كاملة قادِرِينَ على القطع بلا مشاركة ومعين
فَلَمَّا وصلوا إليها رَأَوْها كذلك قالُوا في بادى الرأى ما هي جنتنا هذه بل إِنَّا لَضَالُّونَ طريقها ثم لما تأملوا في اماراتها وجزموا بعلاماتها قالوا على سبيل الإضراب عن القول الاول من غاية الحسرة والأسف
بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ قد حرمنا عنها وعن ثمارها وخيراتها لخساستنا وخباثة نفوسنا وبعد ما حرموا عنها
قالَ أَوْسَطُهُمْ أعدلهم رأيا وعقلا على وجه التقريع والتشنيع لإخوانه أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ وقت مشاورتكم على حرمان الفقراء واتفاقكم على منعهم لَوْلا تُسَبِّحُونَ وهلا تذكرون الله بالخير ولم لا تشكرون نعمه بالإنفاق على الفقراء حتى يزيد عليكم سبحانه نعمه وهو كان قاله هكذا حين عزموا أولا على المنع وشاوروا فيه وبعد ما وقع ما وقع اعترفوا بالظلم والعدوان حيث
قالُوا عن غاية الندامة والإنابة سُبْحانَ رَبِّنا ننزهك من ان ننازع في ملكك وسلطانك ونخالف حكمك وشأنك وبالجملة إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ خارجين عن مقتضى أمرك بالإنفاق عارضين أنفسنا على انتقامك تب علينا بفضلك وكرمك انك أنت التواب الرحيم وبعد وقوع الواقعة الهائلة
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ اى يلوم بعضهم بعضا فان منهم من كان استصوب ومنهم من أشار ومنهم من سكت وبالجملة
قالُوا اى الكل متحسرين يا وَيْلَنا وهلكتنا ادركينا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ متجاوزين حدود الله مستحقين للويل والثبور وبعد ما أنابوا الى الله وتضرعوا نحوه عن محض الندم والإخلاص قالوا على سبيل التمني والرجاء
عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها ببركة التوبة والانابة بالإخلاص والاعتراف بالخطإ والاستغفار بالندم والانكسار التام إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ مائلون راجون منه العفو طالبون الخير والمغفرة. وقد روى انهم قد ابدلوا خيرا منها عناية وفضلا وبالجملة
كَذلِكَ الْعَذابُ لمن خرج عن مقتضى الحدود الإلهية في الدنيا وَالله لَعَذابُ الْآخِرَةِ المعدة لأصحاب الغفلة عن الله أَكْبَرُ وأعظم واقطع بل بأضعافه وآلافه لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ويعتقدون وقوعه لاحترزوا البتة عما يئول بهم اليه ويوقعهم فيه. ثم قال سبحانه
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ الحافظين المتحفظين نفوسهم عن غضب الله المحترزين عن الخروج عن مقتضى الحدود الإلهية عِنْدَ رَبِّهِمْ الذي وفقهم على صيانة النفس عن المعاصي والمنكرات حين وصولهم الى كنف حفظه وجوار قدسه جَنَّاتِ النَّعِيمِ اى روضة الرضاء وجنة التسليم ولهم فيها نعيم مقيم خالدين فيها ابدا والله عنده اجر عظيم لمن وصل اليه وتحقق دونه. ثم لما كانت الكفرة يقولون ان صح انا نبعث كما يزعم محمد وأصحابه لا يتفوقون بنا ولا يفضلون علينا أولئك الأراذل هناك ايضا بل نحن هناك ايضا احسن حالا منهم كما
في الدنيا رد الله عليهم زعمهم هذا بقوله
أَفَنَجْعَلُ يعنى أيزعم الكفرة المفسدون المفرطون انا نجعل الْمُسْلِمِينَ المتصفين بالإيمان والأعمال الصالحة المنزهين عن مطلق العصيان ولوازمها كَالْمُجْرِمِينَ الموصوفين بأنواع الجرائم والآثام الخارجة عن مقتضى الاحكام الإلهية الجارية على مقتضى الحكمة والعدالة
ما لَكُمْ وما عرض ولحق بكم ايها العقلاء حتى أخرجكم عن مقتضى العقل الفطري كَيْفَ تَحْكُمُونَ وتدعون مساواة المسيء مع المحسن فكيف يفضله سيما عند العليم الحكيم المتقن في عموم الأفعال بمقتضى القسط والعدل السوى أتحكمون هذا بمقتضى رأيكم الفاسد ايها الضالون
أَمْ لَكُمْ كِتابٌ نازل عليكم من السماء فِيهِ اى في الكتاب المنزل تَدْرُسُونَ وتقرءون هكذا
إِنَّ لَكُمْ فِيهِ اى في الكتاب النازل لَما تَخَيَّرُونَ اى ما تختارونه لأنفسكم وتشتهونه من خير ما تجدون فيه
أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عهود ومواثيق مؤكدة لازمة عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مشتملة متضمنة لهذا إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ به علينا من ان الخير والكرامة لكم عندنا اكثر مما لهم وبالجملة
سَلْهُمْ يا أكمل الرسل وفتش عنهم على سبيل التبكيت والإلزام أَيُّهُمْ بِذلِكَ الحكم زَعِيمٌ قائم متكفل يستدل عليه ويصححه أهو اى الزعيم المستدل واحد منهم
أَمْ لَهُمْ في هذه الدعوى شُرَكاءُ متشاركون في هذا القول والحكم وهم يقلدونهم فان ادعوا شركاء قل لهم نيابة عنا فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ حتى يثبتوا الدعوى ويصححوها إِنْ كانُوا صادِقِينَ في هذه الدعوى وبعد ما بهتوا اذكر لهم يا أكمل الرسل
يَوْمَ يُكْشَفُ الأمور والخطوب عَنْ ساقٍ اى عن أصلها وحقيقتها وتبلى السرائر برمتها وارتفعت حجب الأعيان وسدل الاعتبارات بأسرها وبالجملة ثم لم يبق الا الله الواحد القهار وَيُدْعَوْنَ حينئذ هؤلاء الاظلال الهالكون في تيه الحيرة والضلال إِلَى السُّجُودِ والتذلل على وجه الانكسار لدى الملك الجبار فَلا يَسْتَطِيعُونَ حينئذ لمضى نشأة الاختيار وأوان الاختبار بل قد صاروا
خاشِعَةً ذليلة خاسرة أَبْصارُهُمْ هائمة عقولهم وبالجملة تَرْهَقُهُمْ وتلحقهم ذِلَّةٌ عظيمة محيطة بجميع جوانبهم وَكيف لا يكونون كذلك يومئذ إذ هم قَدْ كانُوا في نشأة الاختبار يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ حينئذ سالِمُونَ متمكنون قادرون عليه فلم يفعلوا عنادا ومكابرة فالآن قد انقضى وقت الاختبار فلا ينفعهم التذلل والانكسار سواء قدروا او لم يقدروا وبعد ما بالغ المنكرون المكذبون في قدح القرآن وطعنه وأصروا على العناد والاستكبار
فَذَرْنِي اى خلنى يا أكمل الرسل وَفوض على امر مَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ يعنى القرآن ولا تتعب نفسك في معارضتهم ومجادلتهم ولا تعجل في أخذهم وانتقامهم فانى انتقم منهم وأكفيك مؤنة شرورهم فاعلم انا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ اى ندنيهم درجة درجة الى أسوأ العذاب بان نهملهم في الدنيا وننعم عليهم ونديم صحتهم ونوفر عليهم اسباب الشقاوة حتى صاروا مغمورين في الكفران والطغيان منهمكين في الضلال والعصيان ثم نبطشهم مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ اى من جهة وطريق لا يفهمون انه جهة الأخذ وطريقه مكرا عليهم وزجرا لهم
وَبالجملة أُمْلِي لَهُمْ وامهلهم كيدا عليهم وهم لا يشعرون إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ محكم لا يفهمه احد ولا يدفعه شيء أينكرون ارشادك وتبليغك إياهم عنادا ومكابرة
أَمْ يدعون انك تَسْئَلُهُمْ أَجْراً جعلا على ارشادك وتكميلك إياهم فَهُمْ حينئذ مِنْ مَغْرَمٍ اى من أجل غرامة مُثْقَلُونَ بحملها فيعرضون عنك ويكذبونك بسببها
أَمْ يدعون الاطلاع على المغيبات ويزعمون انه
عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ اى لوح القضاء فَهُمْ يَكْتُبُونَ منه جميع ما يحكمون به من الإقرار والإنكار وبه يستغنون عن تعليمك وارشادك لذلك يكذبونك وينكرون عليك وهم وان بالغوا في العناد والإنكار
فَاصْبِرْ أنت يا أكمل الرسل لِحُكْمِ رَبِّكَ وهو تأخير نصرتك عليهم وإمهالهم زمانا على حالهم ولا تستعجل في مؤاخذتهم وَلا تَكُنْ في الاستعجال كَصاحِبِ الْحُوتِ يعنى يونس بن متى صلوات الله عليه قد استعجل العذاب لقومه حين بالغوا في العصيان عليه وتكذيبه ثم لما ظهر اماراته خرج من بينهم مغاضبا عليهم حتى اقتحم البحر فساهم في السفينة فكان من المدهضين فالتقمه الحوت وهو حينئذ مليم نفسه اذكر إِذْ نادى ربه في بطن الحوت وَهُوَ حينئذ مَكْظُومٌ مملو غضبا وغيظا مبتلى بالبلاء العظيم
لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ وأدركته نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ يعنى لو لم يوفقه سبحانه على نعمة التوبة والانابة والرجوع الى الله على وجه الإخلاص والندامة لَنُبِذَ وطرح هو البتة بِالْعَراءِ اى الأرض الخالية من الشجر وَهُوَ حينئذ مَذْمُومٌ مليم مطرود من الرحمة والكرامة لكن قد أدركته العناية الإلهية وانفتح له باب التوبة والاستغفار على وجه الندم والانكسار فاستغفر ربه وتاب عليه واستجاب له تفضلا وامتنانا
فَاجْتَباهُ رَبُّهُ ايضا لمصلحة النبوة وقبله فأرسله مرة اخرى الى قومه فَجَعَلَهُ حسب فضله وطوله مِنَ الصَّالِحِينَ الكاملين في الصلاح الفائزين بالعصمة والفلاح اللائقين لشأن النبوة والهداية والإرشاد والتكميل
وَمن غلظ غيظهم معك يا أكمل الرسل وشدة شكيمتهم وضغينتهم بالنسبة إليك إِنْ يَكادُ انه يقرب الَّذِينَ كَفَرُوا بالله وستروا محامد أخلاقكم ومحاسن شيمكم لَيُزْلِقُونَكَ يا أكمل الرسل ويزيلونك عن الحياة بل يريدون ان يصرعوك ميتا على الأرض بِأَبْصارِهِمْ اى بحدة نظرهم نحوك حسدا عليك لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ اى حين سمعوا منك تلاوة القرآن المعجز معجبين من بدائع نظمه وغرائب أسلوبه وكمال فصاحته وبلاغته ومتانة تركيباته الفائقة على تراكيب عموم اللسن والفصاحة وعجائب معانيه التي قرعت اسماعهم لذلك قد حسدوا عليك خفية وقصدوا مقتك باصابة العين اللامّة وَان كانوا يَقُولُونَ عند الملأ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ يتكلم بكلام المجانين ما هو من جنس كلام الناس تلبيسا على ضعفاء الأنام وتغريرا لهم لئلا يتفطنوا على عظمة شأنك ورفعة قدرك ومكانك وهم في خلواتهم على ضنة تامة وحسد كامل مما صدر منك وظهر عنك من الخوارق
وَيقولون لك مجنون وينسبون كلامك الى الجنون ظاهرا مع انه ما هُوَ اى القرآن المعجز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه إِلَّا ذِكْرٌ اى محض هداية ورشد وتبصرة كاملة وتذكير شامل لِلْعالَمِينَ اى لعموم المكلفين ممن يوفقهم الحق الى صراط مستقيم. جعلنا الله ممن تذكر به واتعظ بما فيه بمنه وجوده
خاتمة سورة ن
عليك ايها المريد القاصد لسلوك طريق التوحيد هداك الله الى سواء السبيل ان تتصبر في مشاق الطاعات ومتاعب التكاليف الواقعة في سلوك طريق الفناء وسيما على اذيات اصحاب الزيغ والضلال المائلين عن سبيل الهداية والرشد المنحرفين عن جادة العدالة الإلهية فعليك ان لا تلتفت نحوهم ولا تبالي بشأنهم ولا تستعجل بانتقامهم فان ربك يكفى لك مؤنة شرورهم وبالجملة فعليك بالوقار والاصطبار والأمر بيد الله الحكيم الجبار القدير القهار فسينتقم قريبا عن اهل البغي والإنكار
Icon