ﰡ
قوله تبارك وتعالى :﴿ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا قَيِّما ١ ﴾
المعنى : الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب قَيِّما، ولم يجعل له عوجاً. ويقال في القيّم : قَيّم على الكتب أي أنه يُصَدِّقها.
وقوله :﴿ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ﴾ نصبَها أصحاب عبد الله، ورفعها الحسن وبعض أهل المدينة. فمن نصب أضمر في ( كبرت ) : كبُرت تلك الكلمة كلمةً. ومَن رفع لم يضمر شيئاً ؛ كما تقول : عظم قولك وكبر كلامك.
وقوله :﴿ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ ﴾ تكسرها إذا لم يكونوا آمنوا على نيّة الجزاء، وتفتحها إذا أردت أنها قد مضت ؛ مثل قوله في موضع آخر :﴿ أَفَنَضْرِبُ عَنْكم الذِّكْرَ صَفْحا إنْ كُنْتُم ﴾ و ﴿ أَنْ كُنْتُمْ ﴾.
ومثله قول الشاعر :
أتجزع أن بان الخلِيطُ المودّع | وحبل الصَّفَا من عَزَّة المتقطع |
يخاطب محمداً صَلّى الله عليه وسلم ﴿ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ ﴾ الكهف : الجبل الذي أَوَوْ إليه. والرقيم : لَوْح رَصَاصٍ كتبت فيه أنسابُهم ودِينهم ومِمَّ هربوا.
وَقوله :﴿ سِنِينَ عَدَداً ﴾ العَدَد ها هنا في معنى معدودة وَالله أعلم. فإذا كان ما قبل العدد مُسَمّىً مثل المائةِ وَالأَلْف وَالعشرة وَالخمسة كان في العدد وَجهان :
أحدهما : أن تنصبه على المصدر فتقول : لك عندي عشرة عَدَداً. أخرجت العدد من العشرة ؛ لأن في العشرة معنَى عُدَّت، كأنك قلت : أُحْصِيَتْ وَعُدَّت عَدَداً وَعَدّا. وَإن شئت رفعت العدد، تريد : لك عشرة معدودة ؛ فالعدد ها هنا مع السنين بمنزلة قوله تباركَ وَتعالى في يوسف ﴿ وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ ﴾ لأن الدراهم ليست بمسماة بعدد. وَكذلك ما كان يُكال وَيوزَن تخرجه ( إذا جاء ) بعد أسمائه على الوجهين. فتقول لك عندي عشرة أرطال وَزنا وَوَزنٌ وَكيلاً وَكيلٌ على ذلك.
رفعت أيَّا بأحصى لأن العِلْم ليس بواقع على أي ؛ إنما هو : لتعلم بالنظر وَالمسألة وَهو كقولك اذهب فاعلم لي أَيُّهم قام، أفَلاَ ترى أنك إنما توقع العِلم على مَن تستخبِره. وَيُبيّن ذلك أنك تقول : سَلْ عبدَ الله أَيُّهم قامَ فلو حَذفت عبد الله لكنت له مرِيداً، وَلمثله من المُخْبِرين.
وَقوله :﴿ أَيُّ الحِزْبَيْنِ ﴾ فيقال : إِنَّ طائفتين من المسلمين في دهر أصحاب الكهف اختلفوا في عَدَدهم. وَيقال : اختلف الكفَّار وَالمسلمون. وَأما ( أَحْصَى ) فيقال : أصوب : أي أيّهم قال بالصواب.
وقوله :﴿ أَمَداً ﴾ الأمد يكون نصبه على جهتين إن شئت جعلته خرج من ﴿ أَحْصَى ﴾ مفسِّراً، كما تقول : أي الحزبين أصوب قولاً وإن شئت أوقعت عليه اللُّبَاث : لِلُباثهم أمَداً.
وقوله :﴿ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ ﴾ جواب لإذْ كما تقول : إذْ فعلت ما فعلت فتُبْ.
وقوله :﴿ مِّنْ أَمْرِكُمْ مِّرْفَقاً ﴾ كَسر الميم الأعمش والحسن، ونَصبها أهلُ المدينة وعاصم. فكأنَّ الذين فتحوا الميم وكسروا الفاء أرادوا أن يَفْرُقوا بين المَرْفِق من الأمر والمِرْفَق من الإنسان وأكثر العرب على كسر الميم من الأمر ومن الإنسان. والعرب أيضاً تفتح الميم من مرفق الإنسان. لغتان فيهما.
وقرئت ﴿ تزَّاوَرُ ﴾ وتريد ( تَتَزاور ) فتدغم التاء عند الزاي. وقرأ بعضهم ( تَزْوَرّ ) وبعضهم ( تَزْوَارّ ) مثل تَحْمرّ وتَحْمارّ. والازورار في هذا الموضع أنها كانت تطلُع على كهفهم ذات اليمين ولا تدخل عليهم، وذات الشمال. والعرب تقول : قرضته ذات اليمين وحَذَوته وكذلك ذات الشمال وقُبُلا ودُبُرا، كلّ ذلك أي كنت بحذائه من كلّ ناحية.
الوَصِيد : الفِناء. والوصيد والأَصيد لغتان مثل الإكَاف والوِكَاف، ومثل أَرَّخْت الكتاب ووَرَّخته، ووكَّدت الأمر وأكَّدته، ووضعْتُه يَتْنا وأَتْنا ووَتْنا يعنى الوَلَد. فأَما قول العرب : واخيت ووامرت وواتيت وواسيت فإنها بُنيت على المواخاة والمواسَاة والمواتاة والموامرة، وأصلها الهمز ؛ كما قيل : هو سْوَل منك، وأصله الهمز فبُدِّل واوا وبُني على السوَال.
وقوله :﴿ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ ﴾ أي ناحية متَّسعة.
وقوله :﴿ وَلَمُلِئْتَ ﴾ بالتخفيف قرأه عاصم والأعمش وقرأ أهل المدينة ﴿ وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ ﴾ مشدّداً. وهذا خوطب به محمّد صَلّى الله عَلَيْهِ وسلم.
وقوله ﴿ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكَى ﴾ يقال : أحَلّ ذَبِيحة لأنهم كانوا مَجُوساً.
قال ابن عباس : كانوا سبعة وثامنهم كلبهم. وقال ابن عباس : أنا من القليل الذين قال الله عَزّ وجَل :﴿ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ ﴾.
ثم قال الله تبارك وتعالى لنبيه عليه السّلام ﴿ فَلاَ تُمارِ فِيهِمْ ﴾ يا محمد ﴿ إِلاَّ مِرَاء ظَاهِراً ﴾ إلا أن تحدّثهم به حديثاً.
وقوله :﴿ وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ ﴾ في أهل الكهف ( مِّنْهُمْ ) من النصارى ( أَحَداً ) وهم فريقان أتَوه من أهل نَجْران : يعقوبيّ ونُسْطورِيّ. فسَألهم النبي صَلى الله عليهِ وسلم عن عددهم، فنُهي. فذلك قوله ﴿ وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِّنْهُمْ أَحَداً ﴾.
إلاَّ أن تقول : إن شاء الله ( ويكون مع القول : ولا تقولنَّه إِلا أن يشاء الله ) أي إلاَّ ما يُريد الله.
إلاَّ أن تقول : إن شاء الله ( ويكون مع القول : ولا تقولنَّه إِلا أن يشاء الله ) أي إلاَّ ما يُريد الله.
وقوله ﴿ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ ﴾ قال ابن عَبَّاس : إذا حَلفت فنسِيت أن تستثنى فاستثن متى ما ذكرتَ ما لم تَحْنَثْ.
ومن العرب من يضع السنين في موضع سَنَة فهي حينئذ في موضع خفض لمنْ أضَاف. ومن نَوَّن على هذا المعنى يريد الإضافة نصب السّنِين بالتفسير للعدد كقول عنترة :
فيها اثنتان وَأربعونَ حَلُوبةً | سُودا كخافية الغُراب الأَسحم |
وقوله ﴿ وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً ﴾ ترفع إذا كان بالياء على : وَليس يُشرك. ومن قال ﴿ لاَ تُشْرِكْ ﴾ جزمها لأنها نهي.
إنما يقولون : أتيتكَ غَدَاة الخميس، ولا يقولون : غُدْوةَ الخميس. فهذا دليل على أَنها معرفة.
وقوله ﴿ وَلاَ تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ ﴾ الفعل للعينين : لا تنصرفْ عيناك عنهم. وهذه نزلت في سَلْمان وأصحابه.
وقوله ﴿ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً ﴾ متروكاً قد تُرك فيه الطاعة وغُفِل عنها. ويقال إنه أفرط في القول فقال : نحن رءوس مُضَر وأشرافُها، وليس كذلك. وهو عُييْنة ابن حِصْن. وقد ذكرنا حديثه في سُورة الأنعام.
إِن الخليفة إنَّ الله سَرْبله | سِرْبالَ مُلْك بها تُزْجَى الخواتيمُ |
لو ألقيت ( منْ ) الأساور كانت نصباً. ولو ألقيت ( منْ ) منَ الذهب جاز نصبه على بعض القبح، لأن الأساور ليس بمعلوم عددها، وإنما يحسن النصب في المفسّر إذا كان معروف العدد، كقولك : عندي جُبَّتان خَزّا، وأسواران ذهباً، وثلاثة أساور ذهبا. فإذا قلت : عندي أساور ذهباً فلم تبيّن عددها كان بمن، لأن المفسِّر ينبغي لما قبله أن يكون معروف المقدار. ومثله قول الله تبارك وتعَالى ﴿ وَيُنَزِّلُ مِنَ السماء مِنْ جِبَالٍ فِيها مِنْ بَرَد ﴾ المعنى : فيها جبال بَرَد، فدخلت ( من ) لأن الجبال غير معدودة في اللفظ. ولكنه يجوز كأنك تريد بالجبال والأساور الكثيرة، كقول القائل : ما عنده إلا خاتمان ذهباً قلت أنت : عنده خواتِم ذهباً لما أن كان ردَّا على شيء معلوم العدد فأنزِل الأَساور والجبال من بَرَد على هذا المذهب.
فأما ( يُحَلّون ) فلو قال قائل : يَحْلَون لجاز، لأن العرب تقول : امرأة حالية، وقد حلِيت فهي تحلَى إِذا لبِست الحُلِيَّ فهي تحلَى حُلِيّاً وحلْياً.
وقوله ﴿ نِعْمَ الثَّوَابُ ﴾ ولم يقل : نعمت الثواب، وقال ﴿ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً ﴾ فأنَّث الفعل على معنى الجنَّة ولو ذكَّر بتذكير المرتفق كان صوابا، كما قال ﴿ وبِئْسَ المِهادُ ﴾ ﴿ وَبِئْسَ القَرَارُ ﴾ ﴿ وبئس المَصِيرُ ﴾ وكما قال ﴿ بئْسَ لِلظالِمينَ بَدَلاً ﴾ يريد إبليس وذُرِّيتّه، ولم يقل بئسوا.
وقد يكون ( بئس ) لإبليس وحده أيضاً. والعرب توحّد نعم وبئس وإن كانتا بعد الأَسماء فيقولون : أَما قومُك فنِعْمُوا قوما، ونعم قوما، وكذلك بئس. وإنما جاز توحيدها لأَنهما ليستا بفعل يُلتمَس معناه، إنما أدخلوهما لتدلاّ على المدح والذمّ، ألا ترى أن لفظهما لفظ فَعَل وليس معناهما كذلك، وأنه لا يقال منهما يبأس الرجل زيد، ولا ينعم الرجل أخوك، فلذلكَ استجازوا الجمع والتوحيد في الفعل. ونظيرهما ﴿ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ ﴾ وفي قراءة عبد الله ( عَسَوْا أَنْ يَكُونوا خَيْراً مِنْهُمْ ) ألا ترى أنك لا تقول، هو يَعْسِي كما لم تقل يَبْأَس.
وكلتاهما قد خُطّ لي في صَحيفتي *** فلا العَيْشُ أهواه ولا الموت أرْوح
وقد تفرِد العرب إحدى كلتا وهم يذهبون بإفرادها إلى اثنتيها، أنشدني بعضهم.
في كِلت رجليها سُلاَمَى واحده *** كلتاهما مقرونة بزائده
يريد بكلت كلتا.
والعرب تفعَل ذلك أيضاً في ( أي ) فيؤنثونَ ويذكِّرونَ، والمعنى التأنيث، من ذلكَ قول الله تبارك وتعالىَ ﴿ وَما تَدْرِى نَفْسٌ بِأي أَرْضٍ تَمُوتُ ﴾ ويجوز في الكلام بأيَّة أرض. ومثله ﴿ في أي صُورة ﴾ يجوز في الكلام في أيَّة صورة. وقال الشاعر :
بأي بلاء أمْ بأيَّة نعمة *** يقدَّم قبلي مُسلم والمُهَلَّب
ويجوز أيّتهُما قال ذاك. وقالت ذاكَ أجود. فتذكّر وقد أدخلت الهاء، تتوهّم أنّ الهاء سَاقطة إذا جاز للتأنيث ﴿ بأي أرضٍ تَمُوتُ ﴾ وكذلك يجوز أن تقول للاثنتين : كلاهما وكلتاهما قال الشاعر :
كلا عقِبيه قد تشعّبَ رَأسُها *** من الضرب في جَنْبَيْ ثَفَالٍ مباشر
الثفال : البعير البطئ.
فإن قال قائل : إنما استجزتَ توحيد ( كلتا ) لأن الواحد منهما لا يُفرد فهل تجيز : الاثنتان قام وتوحّد، وَالاثنان قام إذْ لم يفرَد له واحد ؟
قلت : إن الاثنين بُنيا على واحد ولم يُبن ( كِلاَ ) على واحد، ألا ترى أن قولك : قام عبدُ الله كلُّه خطأ، وأنك تجد معنى الاثنين على واحد كمعنى الثلاثة وزيادات العدد، ولا يجوز إلا أن تقول : الاثنان قاما والاثنتان قامَتَا.
وهي في قراءة عبد الله.
كُلّ الجنتين آتى أُكُله ***...
ومعناه كلّ شيء من ثمر الجنتين آتى أكله. ولو أراد جمع الثنتين ولم يرد كل الثمر لم يجز إلاَّ كلتاهما، ألا تَرَى أنك لا تقول : قامت المرأتان كلهما، لأن ( كل ) لا تصلح لإحدى المرأتين وتصلح لإحدى الجنَّتين. فقِس على هاتين كل ما يتبعِّض مما يقسم أوْ لا يُقسْم.
وقوله ﴿ وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً ﴾ يقال : كيف جَاز التَّشديد وإنما النهر واحد ؟ قلت : لأن النهر يمتدّ حتى صار التفجر كأنه فيه كلّه فالتخفيف فيه والتثقيل جائزان. ومثله ﴿ حتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعاً ﴾ يثقّل ويخفّف.
وترمينني بالطّرْف أي أنت مذنب | وتقلِينني لكنّ إيّاكَ لا أَقلى |
وقوله :﴿ إِن تَرَنِ أَنا أَقَلَّ مِنكَ ﴾ ( أنا ) إذا نصبت ( أقلَّ ) عماد. وإذا رفعت ( أقل ) فهي اسم والقراءة بهما جائزة.
فقلت له صوِّب ولا تجهَدَنَّهُ | فيُذرِكَ منْ أُخْرى القطاةِ فتَزْلَقِ |
يقال هي الصلوات الخمس ويقال هي سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر.
وقوله :﴿ وَخَيْرٌ أَمَلاً ﴾ ( يقول خير ما يؤْمَل ) والأمل للعمل الصَّالح خير من الأمل للعمل السّيء.
وقوله :﴿ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً ﴾ يقول : أبرزنا أهلها من بطنها. وَيقال : سُيّرت عنها الجبال فصَارت كلها بارزة لا يستر بعضُها بعضاً.
وقوله :﴿ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ ﴾ هذه القراءة ( ولو قرئت " ولم نغْدِرْ " كانَ صَوَاباً ) ومعناهما واحد يقال : ما أغدرت منهم أحداً، وما غادرت وأنشدني بعضهم :
هل لك والعائض منهم عائض *** في هجمة يغدر منها القابض
سُدْسا ورُبعا تحتها فرائض ***...
قال، الفراء سدس ورُبْع من أسنان الإبل.
( الموئل المَنْجى ) وهو الملْجأ في المعنى وَاحد. والعرب تقول : إنه ليوائل إلى موضعه يريدون : بذهب إِلى موضعه وحِرْزه.
وقال الشاعر :
لا وألت نفسك خلَّيتها | للعامريّين ولم تُكْلَم |
ومن أراد المصدر فتح العين. مثل المضرِب والمضرَب والمَدِبّ والمَدَبّ والمفِرّ والمَفَرّ فإذا كان يفعل مفتوح العين آثرت العرب فتحها في مفعل، اسما كان أو مصدراً. وربما كسروا العين في مفعل إذا أرادوا به الاسم. منهم من قال ﴿ مَجْمِعَ البَحْرَيْنِ ﴾ وهو القياس وإن كان قليلاَ.
فإذا كان يفعل مضموم العين مثل يدخل ويخرج آثرت العرب في الاسم منه والمصدرِ فتح العين ؛ إلا أحرفاً من الأسماء ألزموها كسر العين في مفعل. من ذلكَ المسجِد والمطلِع والمغرِب والمشرِق والمسقِط والمفرِق والمجزِر والمسكِن والمَرْفِق من رَفَق يَرْفُق والمنسِك من نَسَك يَنْسُك، والمنبت.
فجعلوا الكسر علامة للاسم، والفتح علامة للمصدر. وربما فتحه بعض العرب ( في الاسم ) وقد قرئ مسكِن ومسكَن. وقد سمعنا المسجِد والمسجَد وهم يريدون الاسم، والمطلَع والمطلِع. والنصب في كلّه جائز وإن لم تسمعهُ فلا تنكرنه إن أتى.
وما كان من ذوات الياء والواو من دعوت وقضيت فالمفعل منه فيه مفتوح اسما كان أو مصدراً، إلا المأقِي من العين فإن العرب كسرت هذا الحرف. وبعضُ العرب يسمّى مأوَى الإبل مأوِي فهذان نادران. وإنما امتنعوا من ( كسر العين ) في الياء والواو لأن الياء والواو تذهبان في السكت للتنوين الذي يلحق، فردّوها إلى الألف إذ كانت لا تسقط في السكوت.
وإذا كان المفعل من كال يكيل وشبهه من الفعل فالاسم منه مكسور، والمصدر مفتوح من ذلكَ مال مَمِيلا ومَمالا تذهب بالكسر إلى الأسماء، وبالفتح إلى المصَادر. ولو فتحتهما جميعاً أو كسرتهما في المصدر والاسم لجاز. تقول العرب : المعاش. وقد قالوا : المعيش. وقال رُؤبة ابن العجَّاج :
إليك أشكو شدّة المعيش ١٠٦ ا *** ومرّ أعوام نتَفْن ريشى
نتف الحُبَارَى عن قَرَا رَهِيشِ ***...
القَرَا : الظهر، وقال الآخر :
أنا الرجل الذي قد عبتموهُ *** وما فيكم لَعَيّاب مَعَاب
ومثله مَسَار ومَسِير، وما كان يشبهه فهو مثله.
وإذا كان يفعل مفتوحا من ذوات اليَاء والواو مثل يخاف ويهاب فالاسم والمصدر منه مفتوحان مثل المخاف والمهاب :
وما كان من الواو مضموما مثل يقوم ويقول ويعود ويقود وأشباهه فالاسم والمصدر فيه مفتوحان، وإنما فتحوه إذا نووا الاسم ولَمْ يكسروه كما كُسِر المَغْرِب لأنهم كرهوا تحول الواو إلى الياء فتلتبس الواو بالياء.
وما كان أوّله واواً مثل وزنت وورثت ووجِلت فالمفعل فيه اسما كان أو مصدراً مكسور ؛ مثل قوله ﴿ أَنْ لَنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً ﴾ وكذلك يَوْحَل ويَوْحَل المفعل منهما مكسور ( في الوجهين ) وزعم الكسائي أنه سمع مَوْجَل ومَوْحَل. قال الفراء : وسمعت أنا موضَع. وإنما كسروا ما أوّله الواو، لأن الفعل فيه إذا فتح يكون على وجهين. فأما الذي يقع فالواو منه ساقطة ؛ مثل وَزَن يزِنُ. والذي لا يقع تثبت واوه في يفعل. والمصادر تستوي في الواقع وغير الواقع. فلم يجعلوا في مصدرَيهما فرقاً، إنما تكون الفروق في فعل يفعل.
وما كان من الهمز فإنه مفتوح في الوجهين. وكأنهم بَنَوه على يفعَل ؛ لأن ما لامه همزة يأتي بفتح العين من فَعَل ومن فَعِل. فإن قلت : فلو كَسَروه إرادَة الاسم كما كسروا مجمِعاً. قلت : لم يأت. وكأنهم أنزلوا المهْمُوز. بمنزلة اليَاء والواو ؛ لأن الهمز قد يُترك فتَلْحقهما.
وما كان مفعل مُشتقّاً من أفعلت فلك فيه ضمّ الميم من اسمه ومصدره. ولك أن تخرجه على أوَّليته قبل أن تزاد عليه الألف. فتقول : أخرجته مُخْرجاً ومَخْرجاً، وأنزلته مُنْزَلاً ومَنْزِلاً. وقرئ ﴿ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاَ مُبَارَكاً ﴾ ﴿ وَأَنْتَ خَيْرُ المُنْزِلِينِ ﴾ و ﴿ مَنْزِلا ﴾.
وما كان مما يعمل به من الآلة مثل المِرْوحة والمِطرقة وأشباه ذلك مما تكون فيه الهاء أو لا تكون فهو مكسور الميم منصوب العين ؛ مثل المِدْرع والمِلحف والمِطرق وأشباه ذلك. إلا أنهم. قالوا : المَطهرة والمِطهرة، والمَرقاة والمِرقاة والمَسقاة والمِسقاة. فمن كَسرها شبَّهها بالآلة التي يُعمل بها. ومن فتح قال : هذا موضع يُفعل فيه فجعله مخالفاً ففتح الميم ؛ أَلا ترى أن المروحة وأشباهها آلة يعمل بها، وأن المطهرة والمرقاة في موضعهما لا تزولان يعلم فيهما.
وما كان مصدراً مؤنّثاً فإنّ العرب قد ترفع عينه ؛ مثل المقدُرة وأشباهه. ولا يفعلون ذلك في مذكَّر ليست فيه الهاء ؛ لأن الهاء إذا أدخلت سقط عنها بناء فعل يفعل فصَارت اسما مختلفاً، ومفعل يبنى على يفعل، فاجتنوا الرَّفعة في مفعل، لأن خِلقة يفعل التي يلزمها الضمّ كَرُم يكرُم فكرهوا أن يُلزموا العين من ١٠٦ ب مفعل ضمَّة فيَظنَّ الجاهل أن في مفعل فرقاً يلزم كما يلزم فَعِل يفعَل الفُروقُ، ففتحت إرادة أن تَخلط بمصادر الواقع. فأما قول الشاعر :
لِيوم رَوْعٍ أو فَعَال مَكْرُم ***...
فإنه جمع مَكْرُمة وَمكْرُم. ومثله قول الآخر :
بثين الزمى لا إنّه إن لزِمته *** على كثرة الواشين أي مَعُونِ
أراد جمع معونة. وكان الكسائي يقول : هما مفعل نادران لا يقاس عَليهما وقد ذهبَ مذهباً. إلاّ أنى أجد الوجه الأول أجمل للعربية مما قال. وقد تقلب فيه الياء إلى الواو فيقال :
وكنت إذا جارى دعا لَمضُوفةٍ *** أشمِّر حتى يَنْصُف الساق مئزرى
جعلها مفعُلة وهي من الياء فقبلها إلى الواو لضمَّة ما قبلها، كما قالوا : قد سُور به.
وقد قالت العرب في أحرف فضمّوا الميم والعين، وكسروا الميم والعين جميعاً. فما ضمّوا عينه وميمَهُ قولهم : مُكْحُلة ومُسْعُط ومُدْهُن ومُدُقّ. ومما كسروا ميمه وعينه مِنْخِر ومِنْتِن. ومما زادوا عليه ياء للكسر، وواواً للضم مِسكين ومِنديل ومِنطيق. والواو نحو مُغْفُور ومُغْثُور وهو الذي يسقط على الثُمام ويقال للمِنخِر : مُنخور وهم طَيء. والذين ضمّوا أوله وعينه شبّهوا الميم بما هو من الأصل، كأنه فُعلول. وكذلك الذين كسروا الميم والعين شبّهوه بفِلعيل وفِعلِل.
وما كان من ميم زائدة أدخلتها على فِعل رباعى قد زيد على ثلاَثيّة شيء من الزيادات فالميم منه في الفاعل والمفعول به والمصدر مضمومة. من ذلك قولك رجل مُستضرَبٌ ( ومُستضَربٌ ) ومستطعِم ومستطعَم. يكون المستطعم - بالفتح - مصدراً ورجلا وكذلك المضاربَ هو الفاعل والمضاربَ - بالفتح - مصدر ورجل. وكلّ الزيادات على هذا لا ينكسر، ولا يختلف فيه في لغات ولا غيرها ؛ إلا أن من العرب - وهم قليل - مَن يقول في المتكبِّر : متكبَّر كأنهم بنَوه على يتكبَّر. وهو من لغة الأنصار وليس مما يُبنى عليه. قال الفراء : وحُدّثتُ أن بعض العرب يكسر الميم في هذا النوع إذا أدغم فيقول هم المِطَّوِّعة والمِسَّمِع للمُستمع. وهم من الأنصار. وهي من المرفوض. وقالت العرب : مَوْهَب فجعلوه اسما موضوعا على غير بناء، ومَوْكَل اسما موضوعاً. ومنه مَوحَد لأنهم لم يريدوا مصدر وَحَد، إنما جُعل اسما في معنى واحد مثل مَثْنَى وثُلاَث ورُبَاع. وأما قولهم : مَزْيد وَمَزْوَد فهما أيضاً اسمان مختلِفان على غير بناء الفعل ؛ ولك في الاختلاف أن تفتح ما سَبيله الكسر إذا أشبه بعض المُثُل، وتضمّ المفتوح أو تكسره إذا وجَّهته إلى مثالٍ من أسمائهم كما قيل مَعفور للذي يسقط على الثمام وميمه زائدة فشبه بفُعلول، وكما قَالَتْ العرب ( في المصير وهو من صِرت مُصْران للجميع ) ومَسيلِ الماء وهو مفعِل : مُسْلان للجميع فشبَّهوا مفعلا بفَعِيل ؛ ألا ترى أنهم قالوا سُؤته مسائية وإنما هي مساءة على مَفْعَلة فزيدت عليها الياء من آخرها كما تزاد على فعالة نحو كراهة وكراهية وطَبَانة وطبانِيَة.
فَلاَ وأَبىِ دَهْماء زَالَتْ عزِيزةً | على قومها ما فتَّل الزَّنْدَ قَادِحُ |
فقلت يمينُ الله أبرح قاعداً | ولو قطعُوا رَأسي لديكِ وأوصَالي |
وقوله :﴿ فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ ﴾.
يقول : اتخذ موسَى سَبيل الحوت ﴿ في البَحْرِ عَجَباً ﴾.
ثم قال حين أخبره بقصَّة الحوت.
وقوله ﴿ وَلاَ تُرْهِقْنِي ﴾ يقول : لا تُعجلني.
مَرَّ بغلام لم تجن جناية رآها موسَى فقتله. وقوله ( زَكِيَّة ) قرأها عاصم ويحيى بن وثاب والحسن ( زكيّةِ ) وقرأها أهل الحجاز وأبو الرحمن السُّلَمِىّ ( زَاكية ) بألف. وهي مثل قوله ﴿ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيةً ﴾ ( وقَسِيَّة ).
و﴿ فَلاَ تَصْحَبْنِي ﴾ نَفْسُك ولا تصحبني أنت كل ذلك صواب والله محمود.
وقوله :﴿ فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُما ٧٧ ﴾ ( سِألوهم القِرَى : الإضافة فلم يفعلوا. فلو قرئَتْ ) ( أَنْ يُضِيفُوهُما ) كان صَوَاباً. ويقال القرية أنطاكية ) [ وقوله ] ﴿ يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ ﴾ يقال : كيفَ يريد الجدار أن ينقضّ ؟ وذلك من كلام العرب أن يقولوا : الجدار يريد أن يسقط. ومثله قول الله ﴿ وَلَما سَكَتَ عَنْ مُوسَى الغَضَبُ ﴾ والغضب لا يسكت ( إنما يسكت صَاحبه ) وَإنما معناه : سَكن، وقوله :﴿ فَإذا عَزَمَ الأَمْرُ ﴾ [ و ] إنما يَعزم الأمرَ أهلُه وقد قال الشاعر :
إن دهرا يلفُّ شملي بجُمْلٍ *** لزمان يَهُمُّ بالإِحْسَانِ
١٠٧ ب وقال الآخر :
شكا إلى جملى طول السُّرى *** صبراً جميلاً فكلاَنا مبتَلَى
والجمل لم يَشْك، إنما تُكلّم به على أنه لو نطق لقال ذلك. وكذلك قول عنترة.
فازوَرَّ من وَقْع القَنا بِلَبَانه *** وشكا إلىَّ بعَبْرة وتَحْمحُمِ
وقد ذُكرت ( يَنْقَاض ) للجدار والانقياض : الشَقّ في طول الجدار وفي طيّ البئر وفي سِنّ الرَّجُل يقال : انقاضت سِنُّهُ إذا انشقّت طولاً. فقال مُوسَى لَوْ شِئْتَ [ لم تُقِمه حتّى يَقُرونا فهو الأجر. وقرأ مجاهد ] ﴿ لو شئت لتَخِذْتَ عَلَيْهِ أجْراً ﴾ وأنشدني القَنانِيّ.
تَخِذَها سُرِّيَّةً تُقَعِّده ***...
وأصلها اتّخذ : افتعل.
[ ولو نصبت الثانية كان صوابا، يتوهم أنه كان ( فراق ما بيني وبينك ) ].
يقول : أمامهم مَلِك. وهو كقوله ﴿ مِنْ وَرَائه جَهَنَّم ﴾ أي أنها بين يديه. ولا يجوز أن تقول لرجل وراءكَ : هو بين يديك، ولا لرجل هو بين يديك : هو وراءك، إنما يجوز ذلك في المواقيت من الأيّام والليالي والدهر أن تقول : وراءك بَرْد شديد : وبين يديك بَرْد شديد ؛ لأنك أنت وراءهُ فجاز لأنه شيء يأتي، فكأنه إذا لحقك صَار من ورائك، وكأنك إذا بلغته صَار بين يديك. فلذلك جاز الوجهان.
صَلاحا ﴿ وَأَقْرَبَ رُحْما ﴾ يقول : أقرب أن يُرْحما به. وهو مصدر رحمت.
وقوله ﴿ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ﴾ نَصْب : فَعَل ذلك رحمة منه. وكلّ فعل رأيتَه مفسِّراً للخبر الذي قبله فهو منصوب. وتعرفه بأن ترى هو وهي تصلحان قبل المصدر. فإذا أُلقِيتا اتّصل المصدر بالكلام الذي قبله فنُصِب، كقوله ﴿ فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ﴾ وكقوله ﴿ إنَّكَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ على صِرَاطٍ مُسْتَقِيِم تَنْزِيلَ العزِيزِ الرَّحيم ﴾ معناه : إنك من المرسلين وهو تنزيل العزيز ﴿ وهذا تنزيل العزيز الرحيم ﴾ وكذلك قوله ﴿ فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْراً مِنْ عِنْدِنا ﴾ معناه : الفرق فيها أمر من عندنا. فإذا ألقيت ما يرفع المصدر اتّصل بما قبله فنُصِب.
قرئت ( فأتْبَع ) و ( اتَّبَع ) وأَتْبَع أحسن من اتَّبع، لأن اتَّبعت الرجل إِذا كان يسير وأنت تسير وراءه. وإذا قلت أَتبعته بقطع الألف فكأنك قفوته.
وقوله ﴿ إِما أَن تُعَذِّبَ وَإِما أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنا ﴾ مَوضع أن كلتيهما نَصْب. ولو رفعت كان صواباً أي فإنما هو هذا أو هَذا. وأنشدني بعض العرب :
فسيرا فإما حاجةٌ تقضيانها | وإما مَقِيل صالح وصديق |
ومن لا يزل يستودع الناسَ مالَه | تَرِبْهُ على بعض الخطوب الودائعُ |
ترى الناس إما جاعلوه وقاية | لمالهُم أو تاركوه فضائع |
أي فله جزاء الحسنى نَصَبت الجزاء على التفسير وهذا مما فسّرت لك. وقوله ﴿ جَزَاء الْحُسْنَى ﴾ مضاف. وقد تكون الحسنى حَسَناته فهو جزاؤها. وتكون الحسنى الجنة، تضيف الجزاء إليها، وهي هو، كما قال ﴿ حَقُّ اليَقِين ﴾ و ﴿ دِينُ القَيِّمةِ ﴾ ﴿ ولَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ ﴾ ولو جعلت ( الحسنى ) رفعاً وقد رفعت الجزاء ونوَّنت فيه كان وجها. ولم يقرأ به أحد. فتكون كقراءة مسروق ﴿ إِنا زَيَّنا السَّماء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الكَوَاكِب ﴾ فخفض الكواكب ترجمة عن الزينة.
أُدغمت نونه في النون التي بعدها. وقد ذكر عن مجاهد ( ذكره أبو طلحة الناقط ما يحضرني عن غيره ) قال :( ما مَكَّنَني ) بنونين ظاهرتين وهو الأصل.
و ( الصُّدُفَيْنِ ) و ( الصُّدْفَيْنِ ) سَآوى وسوَّى بينهما واحد.
[ قوله :﴿ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ ﴾ ] : قرأ حمزة والأعمش ( قال أْتُونِي ) ( مقصورة ) قنصبا القِطر بها وجعلاها ( من جيئوني ) و ( آتُوني ) أعطوني. إذا طوَّلت الألف كان جيّدا ﴿ آتِنا غَدَاءنا ﴾ : آتوني قِطرا أفرغ عليه. وإذا لم تطوّل الألِف أدخلت الياء في المنصوب فقلت ائتنا بغدائنا. وقول حمزة والأعمش صواب جَائز منْ وجهين. يكون مثل قولك : أخذت الخِطَام وأخذت بالخطام. ويكون على ترك الهمزة الأولى في ( آتوني ) فإذا أَسقطت الأولى همزت الثانية.
أبرزناها حتى نظر إليها الكفار وأعرضت هي : استبانت وظهرت.