ﰡ
١ - ﴿ن﴾؛ أي: هذه السورة (١) نون أو بحق ﴿ن﴾، وهي هذه السورة أقسم الله بها على سبيل التأكيد في إثبات الحكم الآتي على ما عليه عادة الخلق مع ما فيه من بيان شأن المقسم به، وإلا فكما أنه تعالى لا يليق القسم بشأنه العالي فكذا لا يصح لغيره أن يكون مقسمًا به.
واختلف في معنى النون. قيل: إنه اسم لهذه السورة، وقيل: إنه مقتطع فن اسمه تعالى الرحمن أو النصير أو الناصر أو النور، وقيل: اسم للحوت الذي جعل الله على ظهره الأرض، وقيل: المراد به الدواة التي يكتب بها، وقيل: اسم للقرآن. والأرجح كما مر غير مرة أنه من المتشابه الذي اختص الله بعلمه كسائر حروف الهجاء التي افتتح بها كثير من السور. وفي المراغي: إنَّ أرجح الآراء في معنى الحروف المقطعة التي وقعت في أوائل السور أنها حروف تنبيه، نحو: ألا وأما. وقرأ الجمهور أبو بكر، وورش، وابن عامر، والكسائي، وابن محيصن، وابن هبيرة بإدغام النون الثانية. من هجائها في واو ﴿وَالْقَلَمِ﴾ بغنّة، وقوم بغير غنّة. وقرأ الباقون (٢): حمزة، وأبو عمرو، وابن كثير، وقالون، وحفص بالإظهار. وقرأ ابن عباس، وابن أبي إسحاق، والحسن، وأبو السمال، ونصر بكسر النون لالتقاء الساكنين، أو بإضمار حرف قسم.
وقرأ سعيد بن جبير، وعيسى بخلاف عنه بفتحها، فاحتمل أن تكون حركة إعراب بإضمار فعل. وقرأ محمّد بن السميفع وهارون بضمّها على البناء.
والواو في قوله: ﴿وَالْقَلَمِ﴾ واو القسم، أقسم الله سبحانه بالقلم لما فيه من البيان، وهو واقع على كل قلم يكتب به. وقال جماعة من المفسرين: المراد به القلم الذي كتب به اللوح المحفوظ، أقسم الله به تعظيمًا له.
وفي "الخطيب": تنبيه: في القلم المقسم به قولان:
أحدهما: أنَّ المراد به جنس القلم الشامل للأقلام التي يكتب بها في الأرض والسماء. قال تعالى: ﴿اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤)﴾، لأنه ينتفع به كما
(٢) البحر المحيط والشوكاني.
والثاني: أنه القلم الذي جاء في الخبر عن ابن عباس: "أول ما خلق الله القلم ثم قال له: اكتب، قال: ما أكتب، قال: اكتب ما كان وما يكون وما هو كائن إلى يوم القيامة من عمل أو أجل أو رزق أو أثر، فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة. قال: ثم ختم فم القلم فلم ينطق، ولا ينطق إلى يوم القيامة، وهو قلم من نور طوله كما بين السماء والأرض". وروى مجاهد: أول ما خلق الله تعالى القلم، قال: اكتب المقادير، فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، وما يجري بين الناس، فهو أمر قد فرغ منه انتهى.
وقوله: ﴿وَمَا يَسْطُرُونَ﴾ معطوف على القلم، و ﴿ما﴾ موصول اسميّ، والواو عائد على أصحاب القلم المدلول عليهم بذكره؛ لأنَّ ذكر آلة الكتابة يدل على الكاتب.
والمعنى: وبالكتاب الذي يسطره الكاتبون من الملائكة وغيرهم؛ أي: وبما تكتبه الملائكة في صحفهم التي يكتبون فيها المقادير التي تقع في العالم ينتسخون ذلك من اللوح المحفوظ، أو المراد به ما تكتبه الحفظة الموكلون ببني آدم من أعمالهم، كذا في القرطبي. ويجوز أن تكون ﴿ما﴾ مصدرية؛ أي: وبسطرهم وكتابتهم. فاقسم أوّلًا بالقلم، ثم بسطر الملائكة أو بمسطورهم، فالمقسم به شيئان على ثلاثة أشياء: نفي الجنون عنه، وثبوت الأجر له، وكونه على دين الإسلام اهـ شيخنا.
والمعنى: أقسم بالقلم وبما يكتب به من الكتب. قال الزمخشري: ويجوز أن يراد بالقلم أصحابه، ويكون الضمير في ﴿يَسْطُرُونَ﴾ لهم، كأنّه قيل: أقسم بأصحاب القلم ومسطوراتهم أو تسطيرهم انتهى. فيكون كقوله تعالى: ﴿كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ﴾؛ أي: وكذا ظلمات، ولهذا عاد عليه الضمير في قوله: ﴿يَغْشَاهُ مَوْج﴾. وقيل: إن الضمير في ﴿يَسْطُرُونَ﴾ راجع إلى القلم خاصة من باب إسناد الفعل إلى الآلة وإجرائها مجرى العقلاء. كأنّه قيل: أقسم بالقلم وما يسطره القلم. والسطر: الصفّ
إن يَخْدُمِ الْقَلَمُ السَّيْفَ الَّذِيْ خَضَعَتْ | لَهُ الرِّقَابُ وَدَانَتْ خَوْفَهُ الأُمَمُ |
كَذَا قَضَى الله للأقْلاَمِ مُذْ بُرِيَتْ | أَنَّ السُّيُوفَ لَهَا مُذ أُرْهِفَتْ خَدَمُ |
إِذَا أَقْسَمَ الأَبْطَالُ يَوْمًا بِسَيْفِهِمْ | وَعَدُّوهُ مِمَّا يَجْلِبُ الْمَجْدَ وَالْكَرَمْ |
كَفَى قَلَمَ الْكُتَابِ فَخْرًا وَرِفْعَةً | مَدَى الدَّهْرِ أنَّ الله أَقْسَمَ بِالْقَلَمْ |
قال أبو حبان (٢): قوله: ﴿بِنِعْمَةِ رَبِّكَ﴾ قسم اعترض به بين المحكوم عليه والحكم على سبيل التأكيد، والتشديد والمبالغة في انتفاء الوصف الذميم عنه - ﷺ -، وذهب إلى القسم أيضًا الشيخ نجم الدين في "تأويلاته". والمعنى؛ أي: وما أنت ونعمة ربك بمجنون. وقيل: النعمة هنا الرحمة، والآية رد على الكفار حيث قالوا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ﴾.
ومعنى الآية: أنك لست بالمجنون كما يزعمون، فقد أنعم الله عليك بالنبوة وحصافة العقل وحسن الخلق.
٣ - ثم بين بعض نعمه عليه، فقال:
(٢) البحر المحيط.
والمعنى: أي وإنّ لك الأجر العظيم والثواب الجزيل الذي لا ينقطع على إبلاغك رسالة ربك إلى الخلق وصبرك على الأذى ومقاساة الشدائد.
٢ - ٤ ﴿وَإِنَّكَ﴾ يا محمد ﴿لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾؛ أي: إنك على طبع كريم. قال الماوردي: وهذا هو الظاهر. وحقيقة الخلق في اللغة: ما يأخذ الإنسان نفسه به من الأدب؛ أي: خلقت على خلق عظيم لا يدرك شأوه أحد من الخلق، ولذلك تحتمل من جهتهم ما لا يكاد يحتمله البشر. قال بعضهم: لكونك متخلقًا بأخلاق الله وأخلاق كلامه القديم ومتأيّدًا بالتأييد القدسي، فلا تتأثر بافترائهم، ولا تتأذى بأذاهم، إذ بالله تصبر لا بنفسك، كما قال: ﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ﴾، ولا أحد أصبر من الله. وكلمة ﴿على﴾ للاستعلاء فدلت على أنه - ﷺ - مشتمل على الأخلاق الحميدة، ومستول على الأفعال المرضية حتى صارت بمنزلة الأمور الطبيعية له، ولهذا قال تعالى: ﴿قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (٨٦)﴾؛ أي: لست متكلفًا فيما يظهر لكم من أخلاقي، لأنّ المتكلف لا يدوم أمره طويلًا بل يرجع إليه الطبع. وقد ثبت في "الصحيح" عن عائشة رضي الله عنها: أنها سئلت عن خلق النبي - ﷺ - فقالت: كان خلقه القرآن، أرادت به أنه - ﷺ - كان متحليًا بما في القرآن من مكارم الأخلاق ومحاسن الأوصاف، ومتخلِّيًا عما يزجر عنه من السيئات وسفاسف الخصال. وقد جمع الله سبحانه وتعالى فيه ما كان متفرّقًا في غيره من الأنبياء، كما يدل عليه قوله تعالى: ﴿فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾. فهذه درجة عالية لم يتيسر لأحد من الأنبياء عليهم السلام، فلا جرم وقد وصفه الله تعالى بكونه على خلق
لِكُلِّ نَبِيٍّ فِي الأَنَامِ فَضِيْلَةٌ | وَجُمْلَتُهَا مَجْمُوْعَةٌ لِمُحَمَّدِ |
والمعنى: وإنَّك يا محمد قد بَرأك الله سبحانه وتعالى على الحياءِ والكرم، والشجاعة والصفح، والحلم، وكل خلق كريم. روى الشيخان عن أنس رضي الله عنه خادم رسول الله - ﷺ - قال: خدمت رسول الله - ﷺ - عشر سنين، فما قال لي: أفّ قطّ، ولا قال لشيء فعلته: لم فعلته، ولا لشيء لم أفعله: ألا فعلته". وروى أحمد عن عائشة رضي الله عنها: "ما ضرب رسول الله - ﷺ - بيده خادمًا له قطّ، ولا ضرب امرأة، ولا ضرب بيده شيئًا قطّ، إلا أن يجاهد في سبيل الله، ولا خير بين شيئين قطّ إلا كان أحبهما إليه أيسرهما ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس منه، ولا انتقم لنفسه من شيء يؤتى إليه إلّا أن تنتهك حرمات الله فينتقم له.
وفي الآية: رمز إلى أنّ الأخلاق الحسنة لا تكون مع الجنون، وكلما كان الإنسان أحسن أخلاقًا كان أبعد من الجنون.
٥ - ثم توعدهم بما يحل بهم من النكال، والوبال في الدنيا والآخرة فقال: ﴿فَسَتُبْصِرُ﴾ يا محمد ﴿وَيُبْصِرُونَ﴾ أي (١): ويبصر الكفّار إذا تبيّن الحقّ وانكشف الغطاء، وذلك يوم القيامة. يقال: أبصرته وبصرت به: علمته وأدركته، فالمعنى: فستعلم يا محمد، ويعلمون يوم القيامة حين يتبين الحق من الباطل.
وقال الفاشاني: فستبصر ويبصرون عند كشف الغطاء بالموت. وقال قتادة: هذا وعيد لهم بعذاب يوم بدر، والمعنى: سترى ويرى أهل مكة إذا نزل بهم العذاب ببدر بأيّكم المفتون. وهذا هو الأوضح.
٦ - ﴿بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (٦)﴾؛ أي: أيكم الذي ابتلي بفتنة الجنون. ﴿فأيّكم﴾ مبتدأ، و ﴿الْمَفْتُونُ﴾ بمعنى المجنون خبره، والباء مزيدة في المبتدأ كما في بحسبك درهم. وقيل: الباء: ليست زائدة، والمفتون مصدر بمعنى الفتون، وهو الجنون، جاء على وزن مفعول كالمعقول والميسور والمجلود بمعنى العقل كما في قوله:
حَتَّى إِذَا لَمْ يَتْرُكُوْا لِعِظَامِهِ | لَحْمًا وَلَا لِفُؤَادِه مَعْقُولًا |
والمعنى (١): فستعلم أيها الرسول وسيعلم مكذّبوك من المفتون الضال منكم ومنهم؟. ونحو الآية قوله تعالى: ﴿سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (٢٦)﴾؛ أي: أصالح عليه السلام أم قومه؟ وقوله: ﴿وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٢٤)﴾.
والخلاصة: ستبصر ويبصرون غلبة الإِسلام واستيلاءك عليهم بالقتل والأسر، وهيبتك في أعين الناس أجمعين، وصيرورتهم أذلاء صاغرين. وهذا يشمل ما كان في بدر وغيرها من الوقائع التي كان فيها النصر المبين للمؤمنين، والخزي والهوان وذهاب صولة المشركين مما كان عبرة ومثلًا للآخرين.
٧ - ثم أكد ما تضمنه الكلام السابق من الوعد والوعيد، فقال: ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ...﴾ إلخ. وهذه الجملة تعليل للجملة التي قبلها، فإنها تتضمن الحكم عليهم بالجنون لمخالفتهم لما فيه نفعهم في العاجل والآجل، واختيارهم ما فيه ضررهم فيهما.
والمعنى: أي إنّ ربك يا محمد هو وحده أعلم ﴿بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ سبحانه الذي هو التوحيد الموصل إلى سعادة الدارين، وهام في تيه الضلال متوجهًا
٨ - والفاء في قوله: ﴿فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (٨)﴾ فاء الفصيحة؛ لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت ما تقدم لك، وأردت بيان ما هو اللازم لك فأقول لك: لا تطع المكذبين؛ أي: دم على ما أنت عليه من عدم طاعتهم فيما يدعونك إليه من الك عنهم ليكفّوا عنك، وتصلب في ذلك. نهاه سبحانه عن ممايلة المشركين، وهم رؤساء كفار مكة؛ لأنهم كانوا يدعونه إلى دين آبائهم، فنهاه الله عن طاعتهم. أو هو تعريض بغيره عن أن يطيع الكفّار. أو المراد بالطاعة مجرّد المداراة بإظهار خلاف ما في الضمير. فنهاه الله عن ذلك،
٩ - كما يدل عليه قوله: ﴿وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ﴾؛ أي: أحبوا لو تلاينهم وتسامحهم في بعض الأمور وترك الدعوة إلى الله سبحانه ﴿فَيُدْهِنُونَ﴾؛ أي: فهم يداهنونك حينئذٍ ويلاينونك، ويسامحونك بترك الطعن في دينك، وترك رميك بالجنون والكهانة والسحر، فإنَّ الإدهان هو الملاينة والمسامحة والمداراة، كذا قال الفرّاء والكلبي. وقال الضحاك والسدّي: ودّوا لو تكفر فيتمادوا على الكفر. وقال الربيع بن أنس: ودّوا لو تكذب فيكذبون. وقال قتادة: ودّوا لو تذهب عن هذا الأمر فيذهبون معك. وقال الحسن (٢): ودّوا لو تصانعهم في دينك فيصانعونك. وقال مجاهد: ودّوا لو تركن إليهم وتترك ما أنت عليه من الحقّ فيما يلونك. قال ابن قتيبة: كانوا أرادوه على أن يعبد آلهتهم مدّة، ويعبدوا الله مدة. و ﴿لو﴾ مصدرية؛ أي: ودّوا ادهانك فهم الآن يدهنون لطمعهم في إدهانك. والفاء في ﴿يدهنون﴾ للعطف على ﴿تُدْهِنُ﴾، فيكون ﴿يدهنون﴾ داخلًا في حيّز ﴿لو﴾، ولذا لم ينصب ﴿يدهنون﴾ بسقوط النون جوابًا للتمنّي. قال سيبويه: وزعم قالون أنها في بعض المصاحف {ودّوا لو تدهن
(٢) الشوكاني.
وقال بعضهم: المعنى (١): لا توافقهم في الظاهر كما لا توافقهم في الباطن. قال: موافقة الظاهر أثر موافقة الباطن وكذا المخالفة، وإلا كان نفاقًا سريع الزوال ومصانعة وشيكة الانقضاء، وأما هم فلانهماكهم في الرذائل وتعمقهم في التلون والاختلاف لتشعب أهوائهم، وتفرق أمانيهم يصانعون، ويضمون تلك الرذيلة إلى رذيلتهم طمعًا في مداهنتك معهم، ومصانعتك إيّاهم. قال بعضهم (٢): المداهنة يبيع الدين بالدنيا فهي من السيئات، والمداراة يبيع الدنيا بالدين فهي من الحسنات. ويقال: الإدهان: الملاينة لمن لا ينبغي له ذلك، وهو لا ينافي الأمر بالمداراة كما قال - ﷺ -: "أمرت بمداراة الناس كما أمرت بالتبليغ". وفرّق الإمام الغزالي بين المداراة والمداهنة بالغرض الباعث على الإغضاء. فإن أغضيت لسلامة دينك، ولِمَا ترى فيه من إصلاح أخيك بالإغضاء فأنت مدار، وإن أغضيت لحظ نفسك واجتلاب شهواتك، وسلامة جاهك فأنت مداهن. قال أبو الدرداء رضي الله عنه: إنا لنبشّ في وجوه أقوامٍ وإنّ قلوبنا لتلعنهم. وهذا معنى المداراة، وهو مع من يخاف شره.
ومعنى الآية: ﴿فَلَا تُطِعِ اَلمكَذِبِينَ (٨)﴾؛ أي: دم على ما أنت عليه من عدم طاعة المكذّبين عامّةً، وتشدد في ذلك. وفي هذا النهي إيماء إلى النهي عن مداراتهم، ومداهنتهم استجلابًا لقلوبهم وجذبًا لهم إلى اتباعه. ﴿وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (٩)﴾؛ أي: ودَّ المشركون لو تلين لهم في دينك بالركون إلى آلهتهم فيلينون لك في عبادة إلهك. روى: أنَّ رؤساء مكة دعوه إلى دين آبائه، فنهاه عن طاعتهم.
وخلاصة ذلك (٣): ودّوا لو تترك بعض ما أنت عليه مما لا يرضونه مصانعة لهم فيفعلون مثل ذلك، ويتركون بعض ما لا ترضى، فتلين لم ويلينون لك، وترك بعض الدين أو كله كفر بواح. والمراد من هذا النهي التهييج والتشدّد في المخالفة، والتصميم على معاداتهم. ونحو الآية قوله: ﴿وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (٧٤) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (٧٥)﴾.
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
١ - ﴿وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ﴾؛ أي: ولا تطع يا محمد المكثار من الحلف في الحق، وفي الباطل لجهله حرمة اليمين وعدم مبالاته من الحنث لسوء عقيدته، الكاذب الذي يتقي بأيمانه الكاذبة التي يجترىء بها على الله ضعفه ومهانته أمام الحق، وتقديم هذا الوصف على سائر الأوصاف الزاجرة عن الطاعة لكونه أدخل في الزجر. قال في "الكشاف": وكفى به مزجرةً لمن اعتاد الحلف، ومثله قوله تعالى: ﴿وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ﴾ انتهى. ودخل (١) فيه الحلف بغير الله تعالى، فإنه من الكبائر. وأصل الحلف: اليمين الذي يأخذ بعضهم من بعض بها الحلف؛ أي: العهد. ثم عبر بها عن كل يمين.
٢ - ﴿مَّهِينٍ﴾ فعيل من المهانة، وهي القلّة والحقارة أي: حقير الرأي والتدبير؛ لأنَّه لا يعرف عظمة الله سبحانه، ولذا أقدم على كثرة الحلف. ويجوز أن يراد به الكذّاب؛ لأنّه حقير عند الناس. والكذب أس كل شر ومصدر كل معصية.
٣ - ١١ ﴿هَمَّازٍ﴾؛ أي؛ عياب طعان مغتاب للناس، وهو مبالغة هامز من الهمز، وهو الضرب والطعن والكسر والعيب، فاستعير للمغتاب الذي يذكر الناس بالمكروه ويظهر عيوبهم ويكسر أعراضهم، كأنه يضربهم بأذاه إيَّاهم. وقيل (٢): الهمَّاز الذي يذكر الناس في وجوههم، واللماز الذي يذكرهم في مغيبهم، كذا قال أبو العالية والحسن، وعطاء بن أبي رباح. وقال مقاتل عكس هذا. قال الحسن: يلوي شدقيه في أقفية الناس. وفي الحديث: "لا يكون المؤمن طعّانًا ولا لعّانًا، وفي حديث آخر: "طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس". يعني: من ينظر إلى عيب نفسه، فيكون ذلك مانعًا له عن النظر إلى عيب غيره وتعييبه به، وذلك لا يقتضي أن لا ينهى العاصي عن معصيته اقتداءً بأمر الله تعالى بالنهي عن المنكر لا إعجابًا بنفسه وازدراء لقدر غيره عند الله تعالى.
٤ - ﴿مَشَّاءٍ﴾ أي: ساع بين الناس ﴿بِنَمِيمٍ﴾؛ أي: بنميمة. والنميم كالنميمة:
(٢) الشوكاني.
وَمَولَى كَبَيْتِ النَّمْلِ لَا خَيْرَ عِنْدَهُ | لِمَوْلاَهُ إِلَّا سَعْيُهُ بِنَمِيْمِ |
٥ - ١٢ ﴿مَنَّاعٍ﴾ مبالغة مانع ﴿لِلْخَيْرِ﴾؛ أي: بخيل بالمال، والخير: المال؛ أي: بخيل بماله ممسك له لا يجود به لدى البأساء والضرّاء، فهو لا يدفع عوز المعوزين، ولا يساعد المحتاجين، ولا ينجد الأمّة إذا حزبها الأمر، وضاقت بها السبل كدفع عدوٍّ يهاجم البلاد أو دفع كارثة نزلت بها تحتاج إلى بذل المال. أو منَّاع للناس من الخير الذي هو الإيمان، والطاعة. وكان للوليد بن المغيرة عشرة من البنين، وكان يقول لهم ولأقاربه: من تبع منكم دين محمد لا أنفعه بشيء أبدًا. وكان الوليد موسرًا له تسعة آلاف مثقال فضة، وكانت له حديقة في الطائف.
٦ - ﴿مُعْتَدٍ﴾؛ أي: متجاوز لما حدّه الله سبحانه من أوامر ونواه. فهو يخوض في الباطل خوضه في الحقّ، ولا يتحرج عن ارتكاب المآثم والمظالم، وفي "التأويلات النجمية": متجاوز في الظلم على نفسه بانغماسه في بحر الشهوات، وانهماكه في ظلمة المنهيات.
٧ - ﴿أَثِيمٍ﴾؛ أي: كثير الآثام، ديدنه ذلك، فهو لا يبالي بما ارتكب ولا بما اجترح، وفي "التأويلات النجمية": كثير الآثام بالركون إلى الأخلاق الرديئة والرغبة في الصفات المردودة.
٨ - ١٣ ﴿عُتُلٍّ﴾؛ أي: جاف غليظ القلب، يعامل الناس بالغلظة والفظاظة. من عتله إذا قاده بعنف وغلظة. ﴿بَعْدَ ذَلِكَ﴾؛ أي: هو بعدما عدّ من مقابحه ومعايبه ﴿زَنِيمٍ﴾؛ أي: دعي ملصق بالقوم وملحق بهم بالنسب، وليس منهم. فالزنيم هو الذي تبنّاه أحد؛ أي: اتخذه ابنا وليس بابن له من نسبه في الحقيقة، قال تعالى:
زَنيْمٌ لَيْسَ يُعْرَفُ مَنْ أَبَوهُ | بِغَيُّ الأمِّ ذُو حَسبٍ لَئِيْمُ |
ثم هذا الترتيب إنما هو في قول الواصف لا في حصول تلك الصفات في الموصوف، وإلا فكونه عتلًا هو قبل كونه صاحب خير يمنعه. وفي "برهان القرآن": قوله: ﴿حَلَّافٍ﴾ إلى قوله: ﴿زَنِيمٍ﴾ أوصاف تسعة، ولم يدخل بينها واو العطف، ولا بعد السابع، فدل على أن ضعف القول بواو الثمانية صحيح. وقرأ الحسن ﴿عتل﴾ برفع اللام على الذمّ، والجمهور بجرّها.
وقرأ ابن عامر، وأبو جعفر، والمغيرة، وأبو حيوة ﴿آن كان﴾ بهمزة واحدة ممدودة على الاستفهام. وقرأ حمزة وأبو بكر والمفضل ﴿أأن كان﴾ بهمزتين مخففتين. وقرأ الباقون بهمزة واحدة على الخبر. وعلى قراءة الاستفهام يكون المراد به التوبيخ والتقريع، حيث جعل شكر نعمة الله الكفر به وبرسوله. وقرأ نافع في رواية عنه بكسر الهمزة على الشرط.
١٥ - ثم ذكر سبب النهي عن طاعته، فقال: ﴿إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا﴾ استئناف جار مجرى التعليل للنهي؛ أي: إذا تقوأ عليه آيات كلامنا القديم. يعني: القرآن ﴿قَالَ﴾ ذلك الخلاف المهين هي ﴿أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾؛ أي: أحاديث لا نظام لها، اكتتبها الأقدمون كذبًا فيما زعموه لقوله تعالى: ﴿اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ﴾. قال السدي: أساجيع الأوّلين؛ أي: جعل مجازاة النعم التي خولناها من المال والبنين، وشكرها الكفر بآياتنا. قال المبرد: الأساطير جمع أسطورة نحو: أحدوثة وأحاديث.
والمعنى: أي إذا تلي عليه القرآن قال: ما هو إلا من كلام البشر، ومن قصص الأولين التي دونت في الكتب، وليس هو من عند الله تعالى.
١٦ - وبعد أن ذكر قبائح أفعاله توعده، فقال: ﴿سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (١٦)﴾؛ أي: سنجعل له سمةً وعلامةً يعرف بها بالكيّ على أكرم مواضعه لغاية إهانته وإذلاله. وأصل (١) ﴿سَنَسِمُهُ﴾ سنوسمه، كما سيأتي. من الوسم، وهو إحداث السمة بالكسر؛ أي: العلامة بالميسم، والميسم بالكسر: المكواة؛ أي: آلة الكيّ. والخرطوم كزنبور: الأنف أو مقدمه. وفي التعبير عن الأنف بلفظ الخرطوم استهانة بصاحبه واستقباح له، لأنّه لا يستعمل إلّا في الفيل والخنزير، وكلما كان الحيوان أخبث وأقبح كانت
والمراد: أنَّا سنبين أمره بيانًا واضحًا حتى لا يخفى على أحد كما لا يخفى ذو السمة على الخرطوم. وفي هذا إذلالٌ ومهانة له؛ لأنّ السمة على الوجه شين، فما بالك بها في أكرم موضع؟ وهو الأنف الذي هو مكان العزّة والحمية والأنفة، ومن ثم قالوا: الأنف في الأنف، وقالوا: حمي أنفه، وقالوا: هو شامخ العرنين. وعلى عكسه قالوا في الذليل: جدع أنفه ورغم أنفه. قال جرير:
لمَّا وَضَعْتُ على الْفَرَذْدَقِ مَيْسِمِيْ | وَعَلَى الْبُعَيْثِ جَدَعْتُ أَنْفَ الأَخْطَلِ |
والخلاصة: سنذله في الدنيا غاية الإذلال، ونجعله ممقوتًا مذمومًا مشهورًا بالشرّ، ونسمُهُ يوم القيامة على أنفه ليعرف بذلك كفره وانحطاط درجته؛ أي: سنُعلمه يوم القيامة بعلامة مشوهة يعلم بها من سائر الكفرة بأن نسود وجهه غاية التسويد، إذ كان بالغًا في عداوة سيد المرسلين عليه وعليهم السلام أقصى مراتب العداوة. فيكون الخرطوم مجازًا عن الوجه على طريق ذكر الجزء وإرادة الكلّ.
١٧ - ﴿إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ﴾ أي: إنَّا نحن ابتلينا وامتحنا كفار مكة بالقحط والجوع. والابتلاء: الاختبار. وهذا كلام مرتب على محذوف تقديره: أعطينا أهل مكة الأموال ليشكروا لا ليبطروا، فلما بطروا ابتليناهم بالجوع والقحط سبع سنين بدعوة رسول الله - ﷺ - حتى أكلوا الجيف والجلود والعظام والدم لتمردهم وكفرانهم نعم الله تعالى. ﴿كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ﴾ أي (١): ابتلاء مثل ابتلاء أصحاب الجنة المعروف. خبرها عندهم، واللام في الجنة للعهد، والكاف في موضع النصب على أنها نعت لمصدر محذوف، و ﴿ما﴾ مصدرية. والجنة: البستان، وأصحاب الجنة: قوم من
وقوله: ﴿إِذْ أَقْسَمُوا﴾ وحلفوا. ظرف لبلونا ﴿لَيَصْرِمُنَّهَا﴾؛ أي: والله ليصرمن ثمارها من الرطب والعنب، ويقطعنها، ويجمعن محصولها من الزرع وغيره ﴿مُصْبِحِينَ﴾؛ أي: حال كونهم داخلين في الصباح مبكرين إليها، وسواد الليل باق. و ﴿يصرمنها﴾ جواب القسم، و ﴿مُصْبِحِينَ﴾ حال من فاعل ﴿يصرمنها﴾ وجاء جواب القسم على خلاف منطوقهم، ولو جاء على منطوقهم.. لقيل: لنصرمنها بنون التكلم.
١٨ - ﴿وَلَا يَسْتَثْنُونَ (١٨)﴾؛ أي: لا يقولون: إن شاء الله. وتسميته استثناء مع أنه شرط من حيث إن مؤداه مؤدى الاستثناء، فإن قولك: لأخرجن إن شاء الله، ولا أخرج إلا إن شاء الله بمعنى واحد، والجملة مستأنفة، أو حال بعد حال.
والأظهر أنَّ المعنى (١): ولا يستثنون حصة المساكين، أي: لا يميزونها ولا يخرجونها كما يفعله أبوهم. وقال أبو حيان: ولا يثنون عما عزموا عليه من منع المساكين، ولعل إيراد الاستثناء بعد إيراد إقسامهم على فعل مضمر لمقصودهم مستنكر عند أرباب المروءة، وأصحاب الفتوة لتقبيح شأنهم بذكر السببين لحرمانهم، وإن كان أحدهما كافيًا فيه، لكن ذكر الإقسام على أمر مستنكر أولًا، وجعل ترك الاستثناء حالًا منه ثانيًا يفيد أصالته وقوته في اقتضاء الحرمان.
ومعنى الآية (٢): أنّا امتحنا كفار مكة بما تظاهر عليهم من النعم والآلاء وما رحمناهم به من واسع العطاء لنرى حالهم أيشكرون هذه النعم، ويؤدون حقها
(٢) المراغي.
١٩ - ثم أخبر سبحانه عما جازاهم لكفرانهم بهذه النعم ومنعهم حق الفقراء فقال: ﴿فَطَافَ عَلَيْهَا﴾؛ أي: على تلك الجنة؛ أي: أحاط بها ﴿طَائِفٌ﴾؛ أي: بلاء طائف كقوله: ﴿وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ﴾. وذلك إذ لا يكون الطائف إلا بالليل، وأيضًا دل عليه ما بعده من ذكر النوم. وكان ذلك الطائف نارًا نزلت من السماء، فأحرقتها. وقيل: الطائف جبريل اقتلعها. ﴿مِنْ رَبِّكَ﴾؛ أي: مبتدىء من جهته تعالى. قال الراغب: الطوف: الدّوران حول الشيء، ومنه: الطائف لمن يدور حول البيت حافظًا، ومنه: استعير الطائف من الجن والحبال والخادم وغيرها. قال تعالى: ﴿فَطَافَ﴾ إلخ، تعريضًا بما نالهم من النائبة انتهى. ﴿وَهُمْ نَائِمُونَ﴾ في محل نصب على الحال؛ أي: وهم (١) غافلون عما جرت به المقادير، أو غافلون عن طوافه بالنوم الذي هو أخو الموت. والنوم: استرخاء أعصاب الدماغ برطوبات البخار الصاعد إليه، أو أن يتوفى الله النفس من غير موت؛ أي: أن يقطع ضوء الروح عن ظاهر الجسد دون باطنه، أو النوم موت خفيف، والموت نوم ثقيل. وكلّ هذه التعريفات صحيحة.
٢٠ - ﴿فَأَصْبَحَتْ﴾؛ أي: فصارت تلك الجنة بالاحتراق ﴿كَالصَّرِيمِ﴾؛ أي: شبيهة بالبستان الذي صرمت وقطعت ثماره بحيث لم يبق منها شيء؛ لأنَّ النار السماوية أحرقتها، أو صارت كالليل في اسودادها؛ لأنّ الليل يقال له: الصريم؛ أي: صارت سوداء كالليل لاحتراقها، أو كالنهار في ابيضاضها من فرط اليبس، والصريم فعيل بمعنى مفعول.
والمعنى (٢): فطرق تلك الجنة طارق من أمر الله ليلًا، وهم نيام، إذ أرسل
(٢) المراغي.
٢١ - ﴿فَتَنَادَوْا﴾؛ أي: نادى بعضهم بعضًا حال كونهم ﴿مُصْبِحِينَ﴾؛ أي: داخلين في الصباح
٢٢ - ﴿أَنِ اغْدُوا﴾؛ أي: (١) أنّ اغدوا وبكروا على أن ﴿أَنِ﴾ مفسرة؛ لأن في التنادي معنى القول، أو بأن اغدوا وبكّروا على أنّها مصدرية؛ أي: اخرجوا غدوة وأول النهار. ﴿عَلَى حَرْثِكُمْ﴾ وبستانكم وضيعتكم والمراد بالحرث: الثمار والزروع. يقول الفقير: فالحرث يجوز أن يراد به الحاصل مطلقًا، وأن يراد به الزرع خصوصًا؛ لأنه أعزُّ شيء يعيش به الإنسان. وتعدية الغدو بعلى لتضمنه معنى الإقبال والاستيلاء. وقال بعضهم: إنه يتعدى بعلى كما في "القاموس": غدا عليه غدوًّا وغدوة بالضم واغتدى: بكر. قال الراغب: الحرث: إلقاء البذر في الأرض وتهيئتها للزرع، ويسمى المحروث: حرثًا. قال تعالى: ﴿أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ﴾ ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ﴾؛ أي: قاصدين للصرم وقطع الثمرة، وجمع المحصول. وجواب الشرط محذوف؛ أي: إن كنتم صارمين فاغدوا. وقيل: معنى ﴿صَارِمِينَ﴾ ماضين في العزم من قولهم: سيف صارم.
والمعنى (٢): فنادى بعضهم بعضًا عند طلوع الفجر؛ أي: هلموا واذهبوا إلى الثمار والزروع والأعناب فاصرموها؛ إن كنتم قاصدين للصرم، ولا تخبروا المساكين.
٢٣ - وقد أحكموا التدبير، وأخذوا الأمر جد الخفية حتى لا يستمع لهم أحد، كما قال: ﴿فَانْطَلَقُوا﴾؛ أي: فمضوا وذهبوا إلى جنتهم وحرثهم ﴿وَهُمْ﴾؛ أي: والحال أنهم ﴿يَتَخَافَتُونَ﴾ ويسرون الكلام بينهم؛ لئلا يعلم أحد بهم. وقيل (٣): المعنى: يخفون أنفسهم من الناس حتى لا يروهم فيقصدوهم كما كانوا يقصدون أباهم وقت الحصاد.
٢٤ - والأوّل أولى لقوله: ﴿أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا﴾؛ أي: الجنة ﴿الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ﴾ من
(٢) المراح.
(٣) الشوكاني.
والمعنى: يسرّ بعضهم إلى بعض هذا القول، وهو لا يدخل هذه الجنة اليوم عليكم مسكين فيطلب منكم أن تعطوه منها ما كان يعطيه أبوكم.
والمعنى (١): يتشاورون فيما بينهم بطريق المخافتة والسر كي لا يسمع أحد بهم، ولا يدخل عليهم. وقرأ عبد الله وابن أبي عبلة ﴿لَا يَدْخُلَنَّهَا﴾ بإسقاط أن على إضمار يقولون. والمسكين: هو الذي لا شيء له، وهو أبلغ من الفقير، والمراد بنهي المسكين عن الدخول المبالغة في النهي عن تمكينه من الدخول كقولهم: لا أرينك هاهنا، فإنّ دخول المسكين عليهم لازم لتمكينهم إيّاه من الدخول كما أنَّ رؤية المتكلم المخاطب لازم لحضوره عنده، فذكر اللازم لينتقل منه إلى الملزوم.
٢٥ - ﴿وَغَدَوْا﴾؛ أي: مشوا بكرة مصممين ﴿عَلَى حَرْدٍ﴾؛ أي: على منع المساكين وحرمانهم. والحرد: المنع عن حدة وغضب، يقال: نزل فلان حريدًا، أيّ: ممتنعًا من مخالطة القوم، وحاردت السنة: منعت قطرها، والناقة: منعت درها، وحرد: غضب. وقرأ الجمهور ﴿حَرْدٍ﴾ بسكون الراء، وقرأ أبو العالية، وابن السميفع بفتحها. ﴿قَادِرِينَ﴾ حال مقدرة من فاعل ﴿غَدَوْا﴾، فإنَّ القدرة مع الفعل عند أهل الحقّ.
والمعنى: أي وخرجوا أول الصباح مصممين على امتناع من أن يتناول المساكين من جنتهم حال كونهم قادرين على نفعهم أو على الاجتناء، والصرم بزعمهم، فلم يحصل إلّا الكد والحرمان، فهم قد تعجلوا الحرمان، وكان أولى بهم أنت تكون هممهم متوجهة إلى النفع الذي هم قادرون عليه. ولكن (٢) واخيبة أملاه، وواضياع مسعاهم، ويا هول ما رأوه مما لا تصدقه العين، ولا يخطر لهم ببال بستان كان بالأمس عامرًا زاخرًا بالخير والبركة أصبح قاعًا صفصفًا قد تغيرت معالمه، ودرست رسومه حتى تشككوا فيه حين رأوه،
٢٦ - كما قال سبحانه؛ ﴿فَلَمَّا رَأَوْهَا﴾؛ أي: فلما صاروا إلى جنتهم ورأوها محترقة أنكروها، وشكوا فيها، و ﴿قَالُوا﴾؛ أي: قال بعضهم لبعضٍ: ﴿إِنَّا لَضَالُّونَ﴾ عن طريق جنتنا، وما هي بها لما رأوا من هلاكها، أي: قالوا: أبستاننا هذا أم نحن ضالون طريقه؟.
٢٧ - ولكن بعد أن تبينت لهم معالمه
(٢) المراغي.
٢٨ - وندموا على ما فرط منهم حيث لا ينفع الندم، كما يرشد إلى ذلك قوله سبحانه حاكيًا عنهم: ﴿قَالَ أَوْسَطُهُمْ﴾؛ أي: أرجحهم رأيًا وأحسنهم تدبيرًا ﴿أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ﴾ يا قوم ﴿لَوْلَا تُسَبِّحُونَ﴾؛ أي: هلا تذكرون الله سبحانه بالتسبيح والتلهيل والتكبير وغيرها، وتشكرونه على ما أولاكم من النعم، فتؤدّوا حق البائس الفقير، وتتوبون إليه من خبث نيتكم ليبارك لكم فيما أنعم وتفضل، ولكنكم أعرضتم عما أظهرتُ لكم به من الرأي، وضربتم به عرض الحائط، وقد كان قال لهم حين عزموا على ذلك: اذكروا الله وانتقامه من المجرمين، وتوبوا إليه من هذه العزيمة الخبيثة من فوركم، وسارعوا إلى حسم شرها قبل حلول النقمة، فعصوه فعيرهم.
وفي الآية (١): دليل على أنّ العزم على المعصية مما يؤاخذ به الإنسان؛ لأنهم عزموا على أن يفعلوا، فعوقبوا قبل فعلهم، ونظيرها قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (٢٥)﴾، وعلى هذا قوله تعالى: ﴿وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ﴾، والعزم: قوة قصد الفعل والجزم به، والمحققون على أنه يؤاخذ به. وأما الهم وهو ترجيح قصد الفعل فمرفوع.
٢٩ - وبعد اللتيا والتي (٢) وبعد ضياع الفرصة تبين لهم خطأ ما كانوا عزموا عليه، واعترفوا بذنوبهم، كما حكى عنهم سبحانه بقوله: ﴿قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا﴾؛ أي: تنزيهًا لربنا عن أن يكون ظالمًا فيما صنع بجنتنا؛ أي: قالوا معترفين بالذنب، والاعتراف به يعد من التوبة: ﴿سُبْحَانَ رَبِّنَا﴾؛ أي: تنزه مالك أمرنا عن كل سوء ونقصان سيما عن أن يكون ظالمًا فيما فعل بنا. ﴿إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ﴾ لأنفسنا بقصد حرمان المساكين اتباعًا لشح النفس، كأنهم قالوا: نستغفر الله من سوء صنيعنا، ونتوب إليه من خبث نيتنا حيث قصدنا عدم إخراج حق المساكين من غلة بستاننا، ولو تكلموا بهذه الكلمة قبل نزول العذاب لنجوا من نزوله، لكنّهم تكلَّموا بعد خراب البصرة، هيهات هيهات فقد ضاعت الفرصة، وحل مكانها الغصة. وهكذا شأن الإنسان.
(٢) المراغي.
٣١ - ثم نادوا عفى أنفسهم بالويل والثبور، كما أشار إلى ذلك سبحانه حاكيًا عنهم ﴿قَالُوا يَا وَيْلَنَا﴾ ويا هلاكنا أقبل إلينا لنتعجب منك، أي: قالوا: أقبل أيها الهلاك فلا نستحق غيرك. ثم بينوا علة هذا الدعاء بقولهم: ﴿إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ﴾؛ أي: عاصين متجاوزين حدود الله بمنع الفقراء وترك الاستثناء. قال ابن كيسان أي: طغينا في نعم الله فلم نشكرها كما شكرها أبونا من قبل.
٣٢ - ثم رجعوا إلى الله، وسألوه أن يعوضهم بخير منها، فقالوا: ﴿عَسَى رَبُّنَا﴾؛ أي: نترجى ربنا ﴿أَنْ يُبْدِلَنَا﴾ ويعطينا بدلًا ﴿خَيْرًا مِنْهَا﴾ أي: من جنتنا بتوبتنا من زلَّاتنا، ويكفر عنا سيئاتنا. قيل: إنهم تعاقدوا فيما بينهم، وقالوا: إن أبدلنا الله خيرًا منها لنصنعن كما صنع أبونا، فدعوا الله وتضرّعوا إليه، فأبدلهم من ليلتهم ما هو خير منها. قيل: إنَّ الله أمر جبريل أن يقتلع تلك الجنة المحترقة، ويأخذ من الشام جنة فيجعلها مكانها. وقرأ الجمهور (٢) ﴿يُبْدِلَنَا﴾ بالتخفيف من الإبدال. وقرأ أبو عمرو وأهل المدينة بالتشديد من التبديل، وهما لغتان. والإبدال: رفع الشيء جملةً ووضع آخر مكانه. والتبديل: تغيير ذات الشيء أو تغيير صفته.
﴿إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ﴾؛ أي: راجون العفو منه، طالبون الخير منه، راجعون إليه تعالى. و ﴿إِلَى﴾ لانتهاء الرغبة؛ لأنّ الله تعالى منتهى رجائهم، وطلبهم أو لتضمنها معنى الرجوع، وإلا فالمشهور أن تتعدى الرغبة بكلمة في أو عن دون إلى. روى عن مجاهد: أنهم تابوا فأبدلهم الله تعالى خيرًا منها.
٣٣ - ﴿كَذَلِكَ﴾ خبر مقدم لإفادة القصر ﴿الْعَذَابُ﴾ مبتدأ مؤخر، والألف واللام فيه
(٢) الشوكاني.
والمعنى (١): وهكذا عذاب من خالف أمر الله تعالى، وبخل بما آتاه الله وأنعم به عليه ومنع حق البائس الفقير، وإذا كانت هذه حال من فعل الذنب اليسير كأصحاب الجنة، فما بالكم بذنب من يعاند الرسول ويصر على الكفر والمعصية.
وبعد أن أبان لهم أن عذاب الدنيا كما سمعتم، ورأيتم أشار إلى عذاب الآخرة، فقال: ﴿وَلَعَذَابُ اَلأَخِرَةِ﴾ المعد للكفرة والطغاة ﴿أَكْبَرُ﴾؛ أي: أشدُّ وأعظم لبقائه ودوامه ﴿لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾؛ أي: لو كان المشركون يعلمون أنه أكبر وأعظم لاحترزوا عما يؤديهم إليه، ويطرحهم ويرميهم فيه، ولكنهم لا يعلمون ذلك، ولذلك أصروا على إشراكهم وتكذيبهم للنبي - ﷺ -. وجواب الشرط محذوف كما قدرنا.
والخلاصة: أنَّ عذاب الآخرة أشد وأنكى من عذاب الدنيا، فما عذاب هذه إلا هلاك الأموال والثمرات، وعذاب تلك نار وقودها الناس والحجارة، لو كانوا من ذوي العلم والمعرفة.. لارتدعوا عن غيّهم، وثابوا إلى رشدهم، وهذا نعي عليهم بالغفلة، وأنهم ليسوا من أرباب النهى والمعرفة.
٣٤ - ولما فرغ سبحانه وتعالى من ذكر حال الكفّار وتشبيه ابتلائهم بابتلاء أصحاب الجنة المذكورة.. ذكر حال المتقين، وما أعده لهم من الخير، فقال: ﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ﴾ ما يوجب سخطه من الكفر والمعاصي ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ سبحانه وتعالى في الدار الآخرة ﴿جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾ الخالص الذي لا يشوبه كدر، ولا ينغّصه خوف زوال. وذكر (٢) ﴿عِنْدَ﴾ للتشريف والتكريم، وذلك لأنه لا ملك فيها حقيقة ولا صورة إلا لله تعالى، فكأنها حاضرة عنده تعالى يتصرف فيها كيف يشاء، وإلا فمحال كون عندية الجنة بالنسبة إلى الله تعالى مكانيةً، وهي ظرف معمول للاستقرار الذي تعلق به للمتقين.
(٢) روح البيان.
وكان صناديد كفار قريش يرون وفور حظهم في الدنيا وقلة حظوظ المسلمين فيها، فإذا سمعوا ذكر الآخرة، وما وعد الله المسلمين فيها قالوا: إن صح أنا نبعث كما يزعم محمد ومن معه لم تكن حالنا وحالهم إلا مثل ما هي في الدنيا، وإلا لم يزيدوا علينا ولم يفضلونا، وأقصى أمرهم أن يساوونا.
٣٥ - فرد الله سبحانه عليهم مكذّبًا لهم بقوله: ﴿أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (٣٥)﴾... إلخ. والهمزة (١) فيه للاستفهام الإنكاري داخلة على مقدر يقتضيه المقام، والفاء: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أنحيف في الحكم فنجعل المؤمنين كالكافرين في حصول النجاة والوصول إلى الدرجات، فنسوي بين هؤلاء وهؤلاء في الجزاء، كلا ورب الأرض والسماء. والمراد (٢) بالمجرمين الكافرون على ما دل عليه سبب النزول، وهم المجرمون الكاملون الذين أجرموا بالكفر والشرك، وإلا فالإجرام في الجملة لا ينافي الإسلام نعم المسلم المطيع ليس كالمسلم الفاسق. ففيه وعظ للعاقل وزجر للمتبصر.
٣٦ - ثم قيل لهم بطريق الالتفات لتأكيد الرد وتشديده: ﴿مَا لَكُمْ﴾ أيها المجرمون ﴿كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ هذا الحكم الأعوج الأقبح، كأنَّ أمر الجزاء مفوض إليكم فتحكمون فيه بما شئتم. وهذا تعجيب من حكمهم، واستبعاد له، وإيذان بأنّه لا يصدر عن عاقل. و ﴿مَا﴾ الاستفهامية في موضع رفع بالابتداء، والاستفهام للإنكار؛ أي: لإنكار أن يكون لهم وجه مقبول يعْتدّ به في دعواهم حتى يتمسّك به، و ﴿لَكُمْ﴾ خبرها.
والمعنى: أيّ شيء ظهر لكم حتى حكمتم هذا الحكم القبيح كأنَّ أمر الجزاء مفوّض إليكم فتحكمون فيه بما شئتم. ومعنى ﴿كيفَ﴾ في أيّ حال حكمتم أفي حال
(٢) روح البيان.
والخلاصة: أي ماذا حصل لكم من فساد الرأي وخبل العقل حتى قلتم ما قلتم؟
٣٧ - ثم سد عليهم طريق القول، وقطع عليهم كلَّ حجة يستندون إليها فيما يدّعون، فقال: ﴿أَمْ لَكُمْ﴾؛ أي: بل ألكم ﴿كِتَابٌ﴾ نازل من السماء. و ﴿أَمَّ﴾ فيه منقطعة بمعنى بل الإضرابية وهمزة الإنكار. ﴿فِيهِ﴾ متعلق بقوله: ﴿تَدْرُسُونَ﴾ أي: تقرؤون فيه
٣٨ - ﴿إِنَّ لَكُمْ فِيهِ﴾ أي: في ذلك الكتاب، أو في يوم القيام ﴿لَمَا تَخَيَّرُونَ﴾ وتشتهون؛ أي: بل ألكم كتالت نازل من السماء فيه تقرؤون أنّ لكم في ذلك الكتاب ما تشتهونه في الآخرة. وأصل الكلام: ﴿أنّ لكم﴾ بالفتح؛ لأنّه مدروس فيكون مفعولًا واقعًا مَوْقِعَ المفرد، وتكون لام الابتداء زائدة. فلا تكسر همزة ﴿إنّ﴾ ولكن لما جيءَ باللام كسرت، فإن لام الابتداء لا تدخل على ما هو في حيّز ﴿أنّ﴾ المفتوحة، وهذه اللام للابتداء، داخلة على اسم ﴿إنّ﴾.
والمعنى: تدرسون في الكتاب أنّ لكم في الآخرة ما تختارونه لأنفسكم، وأن يكون العاصي المطيع بل أرفع حالًا منه، فأتوا بكتاب إن كنتم صادقين. ويجوز أن يكون حكاية للمدروس كما هو كقوله تعالى: ﴿وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (٧٨) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (٧٩)﴾، فيكون الموضع من مواضع كسر همزة ﴿إنّ﴾ لعدم وقوعها موقع المفرد، حكاه الله في القرآن بصورته. والفرق بين الوجهين: أنّ المدروس في الأول ما انسبك من الجملة، وفي الثاني الجملة بلفظها. وقوله: ﴿فِيِه﴾ لا يستغنى عنه بفيه أوّلًا، فقد يكتب المؤلف في كتابه ترغيبًا للناس في مطالعته أنّ في هذا الكتاب كذا وكذا.
قال سعديٌّ المفتي: لك أن تمنع كون الضمير للكتاب، بل الظاهر أنّه ليوم القيام المعلوم بدلالة المقام.
وقرأ الجمهور (١): ﴿إنَّ لَكُمْ﴾ بكسر الهمزة، فقيل: هو استئناف قول على معنى: إن لكم كتابًا فلكم فيه متخيَّر. وقيل: ﴿أنَّ﴾ معمولة لتدرسون؛ أي:
وحاصل معنى الآية (١): أفبأيديكم كتاب نزل من السماء تدرسونه، وتتداولونه ينقله الخلف من السلف، يتضمن حكمًا مؤكَّدًا كما تدّعون أن لكم ما تختارون وتشتهون، وأنَّ الأمر مفوّض إليكم لا إلى غيركم.
وخلاصة هذا: أفسدت عقولكم حتى حكمتم بهذا؟ أم جاءكم كتاب فيه تخييركم، وتفويض الأمر إليه.
٣٩ - ثم زاد سبحانه في التوبيخ، فقال: ﴿أَمَّ لَكُمْ﴾؛ أي: بل ألكم أيّها المشركون ﴿أَيْمَانٌ﴾؛ أي: مواثيق وعهود مؤكّدة بالأيمان مضمونة لكم ﴿عَلَيْنَا بَالِغَةٌ﴾ نهاية الصحة وغاية الجودة، لا نخرج من عهدتها ﴿إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ على ﴿إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ﴾ وتشتهون. و ﴿أَمَّ﴾ منقطعة تقدر بـ (بل) الإضرابية وهمزة الإنكار، نظير ما مرّ. و ﴿عَلَيْنَا﴾ (٢) صفة ﴿أَيْمَانٌ﴾، وكذا ﴿بَالِغَةٌ﴾؛ أي: متناهية في التوكيد والصحة؛ لأنّ كل شيء يكون في نهاية الجودة وغاية الصحة يوصف بأنّه بالغ، يقال لفلان عليَّ يمين بكذا إذا ضمنت وكفلت له به، وحلفت له على الوفاء به؛ أي: بل أضمنا لكم وأقسمنا لكم بأيمان مغلظة، فثبت لكم علينا عهود مؤكدة بالأيمان مستمرة إلى يوم القيامة لا نخرج من عهدتها إلا بوفائها. وقوله: ﴿إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ متعلّق بالمقدر في ﴿لَكُمْ﴾؛ أي: ثابتة لكم إلى يوم القيامة لا نخرج من عهدتها حتى نحكمكم يومئذٍ، ونعطيكم ما تحكمون، أو متعلق بـ ﴿بَالِغَةٌ﴾؛ أي: أيمان تبلغ ذلك اليوم وتنتهي إليه وافرة لم تبطل منها يمين إلى أن يحصل المقسم عليه الذي هو التحكيم واتباعنا لحكمهم.
(٢) روح البيان.
وقوله: ﴿إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ﴾ جواب القسم، وقيل: قد تمّ الكلام عند قوله: ﴿إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ ثم ابتدأ فقال: ﴿إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ﴾ أي: ليس الأمر كذلك.
وقرأ الجمهور (١): ﴿بَالِغَةٌ﴾ بالرفع على النعت لـ ﴿أَيْمَانٌ﴾. وقرأ الحسن وزيد بن علي بنصبها على الحال من ﴿أَيْمَانٌ﴾؛ لأنّها قد تخصصت بالوصف، أو من الضمير في ﴿لَكُمْ﴾، أو من الضمير في ﴿عَلَيْنَا﴾. وقرأ الأعرج ﴿إن لكم علي﴾ كالتي قبلها على الاستفهام.
والمعنى: أم معكم عهود منا مؤكدة لا نخرج من عهدتها إلى يوم القيامة على أنه سيحصل لكم كل ما تهوون وتشتهون.
وخلاصة ذلك: أم أقسمنا لكم قسما على أنَّ لكم كل ما تحبون.
٤٠ - ثم طلب إلى رسوله - ﷺ - أن يسألهم على طريق التوبيخ والتقريع، فقال: ﴿سَلْهُمْ﴾ أمر من (٢) سأل يسأل بحذف العين وهمزة الوصل. وهو تلوين للخطاب وتوجيه له إلى رسول الله - ﷺ - بإسقاطهم عن درجة الخطاب؛ أي: سل يا محمّد هؤلاء المشركين مبكتًا لهم ﴿أَيُّهُمْ بِذَلِكَ﴾ الحكم الخارج عن المعقول ﴿زَعِيمٌ﴾؛ أي: كفيل متصدٍّ لتصحيحه كفيل لهم بأنَّ لهم في الآخرة ما للمسلمين فيها. والزعيم: هو القائم بالدعوى وإقامة الحجة عليها؛ أي: قل لهم: من الكفيل لهم بتنفيذ هذا الحكم الخارج عن الصواب.
٤١ - ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ﴾؛ أي: بل ألهم ناس يشاركونهم في هذا الرأي والقول الفاسد، ويذهبون مذهبهم، وهو التسوية بين المسلمين والمجرمين في الآخرة. وإن كان الأمر كذلك ﴿فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ﴾ وموافقيهم في هذا الرأي القبيح ﴿إنْ كَانُوا صَادِقِينَ﴾ في دعواهم، وقولهم هذا، إذ لا أقل من التقليد. وهو أمر تعجيز،
(٢) روح البيان.
وقصارى هذا الحجاج (٣): نفي جميع ما يمكن أن يتعلقا به في تحقيق دعواهم، فنبه أوَّلًا إلى نفي الدليل العقلي بقوله: ﴿مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٦)﴾ ثم إلى نفي الدليل النقلي بقوله: ﴿أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (٣٧)﴾ ثم إلى نفي الوعد بذلك ووعد الكريم دين عليه بقوله: ﴿أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا﴾ ثم إلى نفي التقليد الذي هو أوهن من حبال القمر بقوله: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ﴾.
وقرأ الجمهور (٤): ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ﴾ وقرأ عبد الله وابن أبي عبلة ﴿فليأتوا بشركهم﴾. قيل: والمراد في القراءتين الأصنام، أو ناس يشاركونهم في قولهم ويوافقونهم فيه؛ أي: لا أحد يقول بقولهم كما أنه لا كتاب لهم ولا عهد من الله، ولا زعيم بذلك فليأتوا بشركائهم. وهذا استدعاء وتوقيف وتعجيز.
٤٢ - وقوله: ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ﴾ منصوب بـ (اذكر) المقدر، و ﴿عَنْ سَاقٍ﴾ نائب فاعل لـ ﴿يُكْشَفُ﴾، والمراد به يوم القيامة؛ أي: واذكر يا محمد لهؤلاء المشركين ولسائر أمّتك أهوال يوم يكشف الله سبحانه عن ساقه، ويتجلى لعباده، فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة. وقيل: الساق متعلق بقوله: ﴿فَلْيَأْتُوا﴾ أي: فليأتوا بشركائهم، وآلهتهم يوم يكشف عن ساق ليشفعوا لهم. وقيل: التقدير: يوم يكشف عن ساق كان كيت وكيت، حذف للتهويل العظيم بما يكون فيه من الحوادث. ﴿وَيُدْعَوْنَ﴾ أي: ويُدعى الكفّار والمنافقون ﴿إِلَى السُّجُودِ﴾ له تعالى توبيخًا وتعنيفًا لهم على تركهم إيّاه في الدنيا، وتحسيرًا لهم على تفريطهم في ذلك، لا على سبيل التكليف والتعبّد؛ لأنَّ يوم القيامة ليس دار تعبّد وتكليف. ﴿فَلَا يَسْتَطِيعُونَ﴾؛ أي: الكفرة والمنافقون على
(٢) الشوكاني.
(٣) المراغي.
(٤) البحر المحيط.
قال الواحدي: قال المفسرون: يسجد الخلق كلهم لله سجدة واحدةً، ويبقى الكفار والمنافقون يريدون أن يسجدوا فلا يستطيعون، لأن أصلابهم تيبس فلا تلين للسجود. قال الربيع بن أنس: يكشف عن الغطاء فيقع من كان آمن بالله في الدنيا فيسجدون له، ويدعى الآخرون إلى السجود فلا يستطيعون، لأنهم لم يكونوا آمنوا بالله في الدنيا.
فصل في الاختلاف في معنى الساق
وهذا التفسير الذي ذكرناه في بيان معنى الساق وإيضاح معنى الآية هو المذهب الأسلم الذي عليه السلف، ونلقى عليه الرب سبحانه. فساق الله صفة ثابتة له نثبتها، ونعتقدها لا نكيفها ولا نمثلها ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾. ومعنى كشف الساق رفع الحجاب بينه وبين عابده. وقد دلت على هذا المعنى أحاديث مرفوعة صحيحة.
وقد أخرج البخاري وغيره عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - ﷺ - يقول: "يكشف ربنا عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة، ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقًا واحدًا"، وهذا الحديث ثابت من طرق كثيرة في "الصحيحين" وغيرهما، وله ألفاظ في بعضها طول، وهو حديث مشهور معروف.
وأخرج ابن منده عن أبي هريرة رضي الله عنه في الآية قال: "يكشف الله عز وجل عن ساقه". وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن منده عن ابن مسعود في الآية قال: يكشف عن ساقه تبارك وتعالى. وأخرج أبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في "الأسماء والصفات"، وضعفه وابن عساكر عن أبي موسى عن النبي - ﷺ - قال: "عن نور عظيم فيخرون له سجدًا".
وقيل: معنى ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ﴾ يوم يشتد الأمر، ويصعب الخطب. وكشف الساق مثل في ذلك، ولا كشف ولا ساق ثمة كما تقول للأقطع الشحيح: يده
ومعنى الآية على هذا القول: فليأتوا بهؤلاء الشركاء ليعاونوهم إذا اشتد الهول وعظم الخطب يوم القيامة، ويدعون إلى السجود توبيخًا لهم على تركهم إيّاه في الدنيا فلا يستطيعون، فتزداد حسرتهم وندامتهم على ما فرطوا فيه حين دعوا إليه في الدنيا، وهم سالمون أصحاء فلم يفعلوا.
وقيل: الساق التي كشفت لهم عبارة عن أمر عظيم من أهوال يوم القيامة تقول العرب: كشفت الحرب عن ساقها إذا عظم أمرها، وتقول لمن وقع في أمر عظيم شديد يحتاج فيه إلى جهد ومقاساة؛ شمر عن ساقك، وكذلك التفت الساق بالساق؛ أي: دخلت الأهوال والأمور العظام بعضها إلى بعض يوم القيامة.
والمعنى عليه: يوم يكشف عن أمر عظيم من أهوال يوم القيامة. وتنكيره على هذا الوجه للتهويل؛ لأنَّ يوم القيامة يوم يقع فيه أمر فظيع هائل منكر خارج عن المألوف.
وقيل: ساق الشيء أصله الذي به قوامه كساق الشجر وساق الإنسان، فإنَّ ساق الشجر مثلًا أصله والأغصان تنبت على ذلك الأصل وتقوم به.
والمعنى عليه: يوم يكشف عن ساق الأمور وأصولها وحقائقها بحيث تظهر وتصير عيانا. وعلى هذا فالتنوين للتعظيم. وقيل: يكشف عن ساق جهنم، وقيل: عن ساق العرش، وقيل: هو عبارة عن القرب، وقيل: يكشف الرب عن نوره. وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، والحاكم وغيرهم عن ابن عباس رضي الله عنه: أنه سئل عن قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ﴾ فقال: إذا خفي عليكم شيء
سَنَّ لَنَا قَوْمُكَ ضَرْبَ الأَعْنَاقِ | وَقَامَتِ الْحَرْبُ بِنَا عَلَى سَاقِ |
دَعُوا كُلَّ قولِ عِنْدَ قَوْلٍ مُحَمَّدٍ | فَمَا آمِنٌ فِي دِيْنِهِ كَمُخَاطِرِ |
٤٣ - ﴿خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ﴾ حال من ضمير ﴿يُدْعَوْنَ﴾ على أنَّ ﴿أَبْصَارُهُمْ﴾ مرتفع به على الفاعلية. ونسبة الخشوع إلى الأبصار لظهور أثره فيها، وإلا فالأعضاء أيضًا خاشعة ذليلة متواضعة بل الخاشع في الحقيقة هو القلب لكونه مبدأ الخشوع. وذلك أن المسلمين إذا رفعوا رؤوسهم من السجود صارت بيضاء كالثلج، فلما نظر إليهم اليهود والنصارى والمنافقون، وهم الذين لم يقدروا على السجود حزنوا واغتموا واسودت وجوههم، كما قال تعالى: ﴿تَرْهَقُهُمْ﴾ أي: تلحقهم وتغشاهم ﴿ذِلَّةٌ﴾؛ شديدة تخزيهم وحسرة وندامة، كأنّه تصير لخشوع أبصارهم. ﴿وَقَدْ كَانُوا﴾ في الدنيا ﴿يُدْعَوْنَ﴾ دعوة التكليف ﴿إِلَى السُّجُودِ﴾؛ أي: إليه. والإظهار (٢) في موضع الإضمار لزيادة التقرير، أو لأن المراد به الصلاة أو ما فيها من السجود. وخص السجود بالذكر من حيث إنه أعظم الطاعات. قال بعضهم: يدعون بدعوة الله صريحًا مثل قوله تعالى: ﴿فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (٦٢)﴾ أو ضمنا مثل قوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾، فإن الدعوة إلى الصلاة دعوة إلى السجود، وبدعوة الرسول - ﷺ - صريحًا
(٢) روح البيان.
والمعنى (١): يدعون إلى السجود، وتكون أبصارهم خاشعة وتغشاهم ذلة في ذلك اليوم، وقد كانوا في الدنيا متكبرين متجبرين، فعوقبوا بنقيض ما كانوا عليه في الدنيا ﴿وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ﴾؛ أي: إنهم لمّا دعوا إلى السجود في الدنيا، فامتنعوا منه مع صحتهم وسلامة أبدانهم عوقبوا في الآخرة بعدم قدرتهم عليه، فإذا تجلى الرب سجد له المؤمنون ولم يستطع أحد من الكافرين والمنافقين أن يسجد، بل يعود ظهر أحدهم طبقًا واحدًا، فكلّما همّ السجود خرّ لقفاه بعكس السجود في الدنيا. وقال النخعي، والشعبيّ: المراد بالسجود الصلوات المفروضة. وقال آخرون: إنّ المراد جميع العبادات.
٤٤ - والفاء في قوله: ﴿فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ﴾ فاء الفصيحة؛ لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت حالهم في الدنيا والآخرة، وأردت بيان ما هو اللازم لك فأقول لك: ذرني ومن يكذب.. إلخ. و ﴿مَنْ﴾ (٢) الموصولة في محل النصب على أنه معطوف على ضمير المتكلم أو على أنّه مفعول معه، وهو مرجوح
(٢) روح البيان.
والمعنى (١): كِلْ أيها الرسول أمر هؤلاء المكذّبين بالقرآن إليَّ ولا تشغل قلبك بشأنهم، فأنا أكفيك أمرهم، وهذا كما يقول القائل لمن يتوعد رجلًا: دعني وإياه وخلّني واياه، وأنا أعلم بمساءته والانتقام منه، وفي هذا تسلية لرسوله - ﷺ -، وتهديد للمشركين، كما لا يخفى. والخلاصة: حسبك انتقامًا منهم أن تأكل أمرهم إليّ، وتخليَ بيني وبينهم.
ثم بين كيف يكون ذلك التعذيب المستفاد إجمالًا من الكلام السابق، فقال: ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُمْ﴾؛ أي: سنتنزلهم إلى العذاب درجة فدرجة بالإحسان وإدامة الصحة وازدياد النعمة حتى نوقعهم فيه. فاستدراج (٢) الشخص إلى العذاب عبارة عن هذا الاستنزال والاستدناء، يقال: استدرجه إلى كذا إذا استنزله إليه درجة درجة حتى يورطه فيه. ﴿مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ﴾؛ أي: من الجهة التي لا يشعرون أنّه استدراج، وهو الإنعام عليهم؛ لأنّهم يحسبونه إيثارًا لهم وتفضيلًا على المؤمنين، وهو سبب لهلاكهم في العاقبة. وهذه الجملة (٣) مستأنفة مسوقة لبيان كيفية التعذيب لهم المستفاد من قوله: ﴿فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ﴾ والضمير عائد إلى ﴿مَنْ﴾ باعتبار معناها، والمعنى: سنأخذهم بالعذاب على غفلة، ونسوقهم إليه درجة فدرجة حتى نوقعهم فيه من حيث لا يعلمون أن ذلك استدراج؛ لأنّهم يظنونه إنعامًا ولا يفكرون في عاقبته وما سيلقون في نهايته. قال سفيان الثوري: يسبغ عليهم النعم، وينسيهم الشكر. وقال الحسن: كم من مستدرج بالإحسان إليه، وكم من مفتون بالثناء عليه،
(٢) روح البيان.
(٣) الشوكاني.
وفي الحديث: "إذا رأيت الله ينعم على عبد، وهو مقيم على معصيته، فاعلم أنه مستدرج، وتلا هذه الآية. وقال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: "من وسع عليه دنياه، فلم يعلم أنه قد مكر به فهو مخدوع من عقله". قال بعض أهل المعرفة من المكر الإلهي بالعبد أن يرزق العلم ويحرم العمل به أو يرزق العمل ويحرم الإخلاص فيه، فمن علم اتصافه بهذا من نفسه فليعلم أنه ممكور به، وأخفى ما يكون المكر الإلهي في المتأولين من أهل الاجتهاد وغيرهم، ومن يعتقد أن كل مجتهد مصيب يدعو الناس على بصيرة وعلم قطعي. ونحو الآية قوله تعالى: ﴿أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (٥٥) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (٥٦)﴾، وقوله: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (٤٤)﴾.
٤٥ - ثم ذكر سبحانه أنه يمهل الظالمين، فقال: ﴿وَأُمْلِي لَهُمْ﴾؛ أي: وأمهلهم بإطالة العمر، وتأخير الأجل ليزدادوا إثمًا وهم يزعمون أنّ ذلك لإرادة الخير بهم. ﴿إنَّ كَيْدِي﴾ بالإمهال المؤذي إلى العذاب ﴿مَتِينٌ﴾ أي: قويّ شديد لا يطاق، ولا يدفع بشيء.
والمعنى: أمهلهم وأؤخرهم وأنسىء في آجالهم ملاوة ومدة من الزمان على كفرهم، وتمردهم عليَّ لتتكامل حججي عليهم، وإنّ كيدي لأهل الكفر لقوي شديد. وسمى سبحانه إحسانه إليهم كيدًا. والكيد: ضرب من الاحتيال لكونه في صورته من قبل أنه تعالى يفعل بهم ما هو نفع لهم ظاهرًا، وهو يريد الضرر لما علم من حيث طويتهم، وسوء استمدادهم وتماديهم في الكفر وتدسيتهم أنفسهم بالآثام والمعاصي.
وفي "الصحيحين" عن رسول الله - ﷺ - أنه قال: "إنّ الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ثم قرأ ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (١٠٢)﴾.
وفي "الكشاف": سمي إحسانه وتمكينه لهم كيدًا كما سمّاه استدراجًا لكونه في صورة الكيد، حيث كان سببًا للتورط في الهلكة، ووصفه بالمتانة لقوة أثر
قلت: والقول الأصح الأسلم الموافق لمذهب السلف. أن يقال في تعريف الكيد في حقه تعالى: إنه صفة ثابتة لله سبحانه وتعالى نثبتها ونعتقدها لا نكيفها ولا نمثلها بها مجازاة الخلق على أعمالهم السيئة في الدنيا.
٤٦ - ثم ذكر من الشبه ما ربما يكون هو المانع لهم عن قبول الحق فقال:
١ - ﴿أَمْ تَسْأَلُهُمْ﴾ معطوف في المعنى على قوله: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ﴾؛ أي: بل أتسأل أيها الرسول هؤلاء المكذبين لك ﴿أَجْرًا﴾؛ أي: ثوابًا دنيويًا وتلتمس منهم مكافأة على ما تدعوهم إليه من الإيمان بالله سبحانه. ﴿فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ﴾؛ أي: من غرامة ذلك الأجر وحملها ﴿مُثْقَلُونَ﴾؛ أي: مكلّفون حملًا ثقيلًا فيعرضون عنك، أي: يثقل عليهم حمله لشحهم ببذل المال، فأعرضوا عن إجابتك بهذا السبب. والاستفهام هنا كسابقه فيما مرّ للإنكار؛ أي: لا تسأل منهم ذلك فليس لهم عذر في إعراضهم وفرارهم منك. والمغرم مصدر ميميّ بمعنى الغرامة، والغرامة (١): هي ما ينوب الإنسان في ماله من ضرر بغير جناية منه.
والمعنى: بل أتسأل أيها الرسول هؤلاء المشركين بالله على ما آتيتهم من النصيحة والدعوة إلى الحق أجرًا دنيويًا، فهم من غرم ذلك الأجر مثقلون بأدائه، فتحاموا لذلك قبول نصيحتك، وتجنّبوا لعظم ما أصابهم من الغرم الدخول في الدين الذي دعوتهم إليه.
وخلاصة ذلك: أن أمرهم لعجيب، فإنك لتدعوهم إلى الله بلا أجر تأخذه منهم بل ترجو ثواب ذلك من ربك، وهم مع ذلك يكذبونك فيما جئتهم به من الحق جهلًا وعنادًا.
٢ - ٤٧ ﴿أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ﴾؛ أي: اللوح المحفوظ، أو كل ما غاب عنهم ﴿فَهُمْ﴾ من ذلك الغيب ﴿يَكْتُبُونَ﴾ ما يريدون من الحجج التي يزعمون أنها تدل على ما
٤٨ - ولما بالغ في تزييف طريق الكافرين، وزجرهم عمّا هم عليه أمر رسوله بالصبر على أذاهم، فقال: ﴿فَاصْبِرْ﴾ أيها الرسول الكريم ﴿لِحُكْمِ رَبِّكَ﴾؛ أي: لقضائه الذي قد قضاه في سابق علمه. قيل: والحكم هو إمهالهم وتأخير نصرته عليهم. وقيل: هو ما حكم به عليه من تبليغ الرسالة. قيل: وهذا منسوخ بآية السيف كما مرَّ في أول السورة عن ابن حزم.
والمعنى: فاصبر على قضاء ربك وحكمه فيك، وفي هؤلاء المشركين، وامض لما أمرك به ولا يثنك عن تبليغ ما أمرت بتبليغه تكذيبهم لك، وأذاهم إيّاك. روي: أنه - ﷺ - أراد أن يدعو على ثقيف لما آذوه حين عرض نفسه على القبائل بمكة، فنزل قوله تعالى: ﴿وَلَا تَكُنْ﴾ أيها الرسول الكريم في التضجر والعجلة بعقوبة قومك ﴿كَصَاحِبِ الْحُوتِ﴾ يونس بن متّى عليه السلام؛ أي: مثله. ﴿إِذْ نَادَى﴾ صاحب الحوت داعيًا إلى الله في بطن الحوت بقوله: ﴿لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾. ﴿وَهُوَ مَكظُومٌ﴾؛ أي: مملوء غيظًا وغما، والجملة حال من فاعل ﴿نَادَى﴾، وعليها يدور النهي؛ لأنّها عبارة عن الضجرة والمغاضبة المذكورة صريحًا في قوله: ﴿وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا﴾. لا على النداء، فإنه أمر مستحسن، ولذلك لم يذكر المنادى. و ﴿إِذْ﴾ منصوب بمضاف محذوف؛ أي: لا يكن حالك كحاله وقت ندائه، أي: لا يوجد منك ما وجد منه من الضجرة والمغاضبة، فتبتلى ببلائه، وهو التقام الحوت أو بنحو ذلك. قال قتادة: إنّ الله سبحانه يعزي نبيه - ﷺ -، ويأمره بالصبر، ولا يعجل كما عجل صاحب الحوت. وقد تقدّم بيان قصته في سورة الأنبياء، ويونس والصافات.
ومعنى الآية (١): ولا تكن يا محمد كيونس بن متّى حين ذهب مغاضبًا لقومه، فكان من أمره ما كان من ركوب البحر، والتقام الحوت له، وشروده به في البحار، فنادى ربه في الظلمات من بطن الحوت، وهو مملوء غيظًا من قومه إذ لم يؤمنوا
وقال بعضهم: المعنى (١): فاصبر لحكم ربك بسعادة من سعد وشقاوة من شقي ونجاة من نجا وهلاك من هلك، ولا تكن كصاحب الحوت في استيلاء صفات النفس عليه، وغلبة الطيش والغضب للاحتجاب عن حكم الرب حتى رد عن جناب القدس إلى مقر الطبع، فالتقمه حوت الطبيعة السفلية في مقام النفس، وابتلي بالاجتنان في بطن حوت الرحم انتهى.
٤٩ - ﴿لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ﴾؛ أي: ناله، وبلغه، ووصل إليه ﴿نِعْمَةٌ﴾؛ أي: رحمة كائنة ﴿مِنْ رَبِّهِ﴾ سبحانه، وهو توفيقه للتوبة وقبولها منه. وحسن تذكير الفعل للفصل بالضمير، و ﴿أن﴾ المصدرية مع الفعل في تأويل مصدر مرفوع على أنه مبتدأ خبره محذوف تقديره: ولولا تدارك نعمة من ربه حاصل ﴿لَنُبِذَ﴾؛ أي: طرح من بطن الحوت، فإن النبذ إلقاء الشيء وطرحه لقلة الاعتداد به. ﴿بِالْعَرَاءِ﴾ أي: بالأرض الخالية من الأشجار. قال الراغب: العراء: مكان لا سترة به. ﴿وَهُوَ مَذْمُومٌ﴾ أي مليم مطرود من الرحمة والكرامة، لكنّه رحم فنبذ غير مذموم بل سقيمًا من جهة الجسد. والجملة حال من مرفوع ﴿نبذ﴾ عليها يعتمد جواب ﴿لَوْلَا﴾؛ لأنها هي المنفية لا النبذ بالعراء، كما في الحال الأولى؛ لأنه نبذ غير مذموم بل محمود. ومليم من ألام الرجل بمعنى أتى ما يلام عليه، ودخل في اللوم. فإن قلت: فسر المذموم بالمليم وقد أثبته الله تعالى بقوله: ﴿فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (١٤٢)﴾.
أجيب: عن ذلك التفسير: بأن الإلامة حين الالتقام لا تستلزم الإلامة حين النبذ، إذ التدارك نفاها، فالتفت على ما هو حكم لولا الامتناعية، كما أشير إليه في تصوير المعنى آنفًا.
والخلاصة: أي لولا أنْ تداركته نعمة الله بتوفيقه للتوبة وقبولها منه.. لطرح بالقضاء من بطن الحوت وهو مليم مطرود من الرحمة والكرامة.
وقرأ الجمهور: ﴿تَدَارَكَهُ﴾ فعلًا ماضيًا، ولم تلحقه علامة التأنيث لتحسين
٥٠ - وقوله: ﴿فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ﴾ معطوف على مقدّر، أي: فتداركته نعمة ورحمة من ربه، فاصطفاه وجمعه إليه، وقرّبه بالتوبة عليه بأن رد إليه الوحي، وأرسله إلى مئة ألف أو يزيدون. يقال: جببت الماء في الحوض: جمعته، والحوض الجامع له جابية، والاجتباء: الجمع على طرق الاصطفاء. وقيل: معناه: استنبأه إن صح أنه لم يكن نبيًّا قبل هذه الواقعة، ومن أنكر الكرامات والإرهاص لا بد أن يختار القول الأول؛ لأنّ احتباسه في بطن الحوت وعدم موته هناك لما لم يكن إرهاصًا ولا كرامة لا بد أن يكون معجزة، وذلك يقتضي أن يكون رسولًا قبل هذه الواقعة؛ أي: استخلصه واصطفاه واختاره للنبوة. ﴿فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾؛ أي؛ من الكاملين في الصلاح بأن عصمه من أن يفعل فعلًا يكون تركه أولى. وقيل: رد إليه النبوة وشفعه في نفسه وفي قومه، وأرسله إلى مئة ألف أو يزيدون كما تقدم. رُوي: أنها نزلت بأحد حين همَّ رسول الله - ﷺ - أن يدعو على المنهزمين، فتكون الآية مدنية. وقيل: حين أراد أن يدعو على ثقيف، كما مرّ. ودلت الآية على فضيلة الصبر، وعلى أن ترك الأولى يصدر من الأنبياء عليهم السلام، وإلا لما كان يونس عليه السلام مليمًا، وعلى أن الندم على ما فرط من العبد والتضرع إلى الله لذلك من وسائل الإكرام، وعلى أن توفيق الله نعمة باطنة منه، وعلى أن الصلاح درجة عالية لا ينالها إلا أهل الاجتباء، وعلى أن فعل العبد مخلوق لله لدلالة قوله: ﴿فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾، وعلى أن الصلاح إنما يكون بجعل الله وخلقه، وإن كان للعبد مدخل فيه بسبب الكسب بصرف إرادته الجزئية خلافًا للمعتزلة.
٥١ - ثم بين سبحانه بالغ عداوتهم له - ﷺ -، فذكر أنها سرت من القلب إلى النظر، فقال: ﴿وَإِنْ﴾ مخففة من الثقيلة، واللام دليل عليها؛ أي: وإن الشأن والحال ﴿يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ من كفّار مكة؛ أي: يقرب الذين كفروا ﴿لَيُزْلِقُونَكَ﴾ وينظرونك ﴿بِأَبْصَارِهِمْ﴾ نظرًا شديدًا بمؤخر العين لشدة عداوتهم وبغضهم إياك، بحيث يصيبونك بعيونهم ويصرعونك على الأرض كالمغمى عليه. وقيل: معنى ﴿لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ﴾ ليأخذونك بالعين.
وذلك (١) أن الكفار أرادوا أن يصيبوا النبي - ﷺ - بالعين، فنظرت قريش إليه وقالوا: ما رأينا مثله ولا مثل حججه. والمعنى: وإن يكاد الذين كفروا ليصيبونك بعيونهم عند سماع القرآن منك كما يصيب العائن بعينه ما يعجبه لشدّة حسدهم وبغضهم إياك. وروي: أنّه كان في بني أسد عيّانون، فأراد بعضهم أن يعين رسول الله - ﷺ - فعصمه الله، وأنزل عليه هذه الآية. قيل: كانت العين في بني أسد حتى إن كانت الناقة، أو البقرة لتمر بأحدهم فيعاينها ثم يقول لجاريته: خذي المكتل والدراهم فائتنا بلحم من لحم هذه، فما تبرح حتى تقع بالموت فتنحر. وقيل: كان رجل من العرب يمكث لا يأكل يومين أو ثلاثة، ثم يرفع جانب خبائه فتمر به الإبل، فيقول: لم أر كاليوم إبلًا ولا غنمًا أحسن من هذه، فما تذهب إلا قليلًا حتى يسقط ما عناه، فسأل الكفار هذا الرجل أن يصيب رسول الله - ﷺ - بالعين ويفعل به مثل ذلك، فعصم الله نبيه - ﷺ -، وأنزل ﴿وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ﴾. قال ابن عباس رضي الله عنهما: معناه: ينفذونك ويطعنونك بأبصارهم لشدّة بغضهم إيّاك. وقيل: يصرعونك بأبصارهم على الأرض كالمغمى عليه. وقيل: يصرفونك عما أنت عليه من تبليغ الرسالة.
وإنما أراد سبحانه أنهم ينظرون إليك إذا قرأت نظرًا شديدًا بالعداوة والبغض يكاد يسقطك على الأرض، ومنه: قولهم: نظر إليَّ نظرًا: يكاد يصرعني أو يكاد يهلكني، يدل على صحة هذا المعنى أنه قرن هذا النظر بسماع القرآن، وهو قوله: ﴿لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ﴾ لأنهم كانوا يكرهون ذلك أشد الكراهة، ويحدون النظر إليه بالبغضاء. ﴿وَيَقُولُونَ﴾؛ أي: يقول بعضهم لبعض: إذا سمعوه يقرأ القرآن: ﴿إِنَّهُ﴾؛ أي: إن محمدًا - ﷺ - ﴿لَمَجْنُونٌ﴾ حيرةً في أمره وتنفيرًا للناس منه.
أي: ﴿وَيَقُولُونَ﴾ (٢) لغاية حيرتهم في أمره - ﷺ - ونهاية جهلهم بما في القرآن من
(٢) روح البيان.
٥٢ - ولما كان مدار حكمهم الباطل ما سمعوا منه - ﷺ -.. رد ذلك ببيان علو شأنه وسطوع برهانه، فقال: ﴿وَمَا هُوَ﴾؛ أي: القرآن ﴿إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ﴾ من الجن والإنس. والجملة حالى من فاعل ﴿يقولون﴾، مفيدة (١) لغاية بطلان قولهم، وتعجيب للسامعين من جراءتهم على التفوّه بتلك الجريمة العظيمة؛ أي: يقولون ذلك، والحال أنَّ القرآن ذكر للعالمين من الثقلين؛ أي: تذكير وعظة لهم، وبيان لجميع ما يحتاجون إليه من أمور دينهم، فأين من أنزل عليه ذلك، وهو مطلع على أسراره طرًّا؟ ومحيط بجميع حقائقه خبرًا مما قالوا في حقه من الجنون؛ أي: إن هذا القرآن من أولى الأمور الدالة على كمال عقله وعلو شأنه، فمن نسب إليه القصور فإنما هو من جهله وجنته، فإن الفضل لا يعرفه إلا ذووه.
إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَرْءِ عَيْنٌ صَحِيْحَةٌ | فَلَا غَرْوَ أَنْ يَرْتَابَ وَالصُّبْحُ مُسْفِرُ |
خاتمة
وعن الحسن البصريّ قال: دواء من أصابته العين أن تقرأ عليه هذه الآية. وفي "الأسرار المحمدية" قيل: إنَّ في هذه الآية خاصية لدفع العين حملا وغسلًا وشربًا انتهى. وروى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - ﷺ -: "العين حقّ"، زاد البخاري و"نهى عن الوشم". وأخرج مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله - ﷺ - قال: "العين حقّ، ولو كان شيء سابق القدر سبقته العين، وإذا استغسلتم فاغسلوا".
وعن عبيد الله بن رفاعة الزرقي رضي الله عنه: أنّ أسماء بنت عميس كانت
وقد صح من عدة طرق حديث: "أنّ العين لتدخل الرجل القبر والجمل القدر". وروى أحمد عن أبي ذرّ مرفوعًا: "أن العين لتولع بالرجل بإذن الله حتى يصعد حالفًا ثم يتردى منه".
والأحاديث في هذه الباب كثيرة، وسرُّ هذا أنَّ من خصائص بعض النفوس أن تؤثر في غيرها بوساطة العين لما فيها من كهربية خاصة يكون بها تأثير فيما تنظر إليه، والله يختص ما شاء بما شاء، وشبيه بهذا تأثير بعض النفوس في بعض بوساطة التنويم المغناطيسي الذي أصبح الآن فنًّا له أساليب علمية لا يمكن إنكارها.
ولا تختص العين بالإنس بل تكون في الجن أيضًا. وقيل: عيونهم أنفذ من أسنة الرماح. وعن أمّ سلمة رضي الله عنها: أنَّ النبي - ﷺ - رأى في بيتها جارية تشتكي وفي وجهها صفرة، فقال: "استرقوا لها، فإن بها النظرة" وأراد بها العين "أصابتها من الجن". وورد في الرقية عنها أحاديث منها: حديث أم سلمة هذا.
ومنها: حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: دخلت على رسول الله - ﷺ - في أوّل النهار، فرأيته شديد الوجع، ثم عدت إليه آخر النهار فوجدته معافى فقال: إن جبريل أتاني فرقاني، فقال: بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك ومن كل عين وحاسد، الله يشفيك، قال النبي - ﷺ - فأفقت. والرقية مصدر رقاهُ الراقي رقيا ورقية إذا عوذه ونفث في عوذته، فالرقية القراءة على المريض، وينفث عليه. وإنما تكره الرقية إذا كانت بغير لسان العرب، ولا يدرى ما هو ولعله يدخله سحر أو كفر. وأما ما كان بآي من القرآن، أو بشيء من الدعوات والأذكار، وأسماء الله تعالى فلا بأس به، كما في حديث عبادة بن الصامت.
ويجوز التعوذ والتحصن منها، فقد كان النبي - ﷺ - يعوذ الحسن والحسين، فيقول: أعوذ بكلمات الله التامة من كلّ شيطان وهامّة، ومن كلّ عين لامّة، ويقول:
ومما يدفع العين ما روي: أن عثمان بن عفان رضي الله عنه رأى صبيًّا مليحًا فقال: دسموا نونته لئلا تصيبه العين؛ أي: سودوا نقرة ذقنه. قالوا: ومن هذا القبيل نصب عظام الرؤوس في المزارع والكروم، ووجهه أن النظر الشؤم يقع عليها أوَّلًا فتكسر سورته فلا يظهر أثره.
ومن الشفاء من العين: أن يقرأ على ماء في إناء نظيف قوله تعالى: ﴿فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ﴾، والفاتحة، وآية الكرسي، وست آيات الشفاء، وهي: ﴿وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ﴾ ﴿وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ﴾ ﴿فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ﴾ ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ ﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾ ﴿قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ﴾. ويسقى المريض من ذلك الماء، ويغسل به.
ومن الشفاء: أن يؤمر العائن فيغتسل، أو يتوضأ بماء ثم يغتسل به المعين، كما ورد به الحديث.
قيل وجه إصابة العين: أن الناظر إذا نظر إلى شيء واستحسنه، ولم يرجع إلى الله، وإلى رؤية صنعه قد يحدث الله سبحانه في المنظور علة بجناية نظره على غفلة ابتلاء لعباده، ليقول المخق؛ إنه من الله وغيره من غيره، فيؤاخذ الناظر لكونه سببها.
ووجَّهها بعضهم (١): بأن العائن قد ينبعث من عينه قوة سمية تتصل بالمعين فيهلك أو يفسد، كما قيل ذلك في بعض الحيّات، وبه يحصل الجواب عمن أنكر إصابة العين، كبعض المعتزلة وقال: إنها لا حقيقة لها؛ لأن تأثير الجسم في الجسم لا يعقل إلا بواسطة المماسة ولا مماسة هنا، فامتنع حصول التأثير انتهى.
وفائدة الرقي: أن الروح إذا تكيفت به، وقويت واستعانت بالنفث والتفل
والحاصل: أن الرقية بما ليس بشرك مشروعة، لكن التحرز من العين لازم، وأنه واجب على كل مسلم أعجبه شيء أن يبرك ويقول: تبارك الله أحسن الخالقين، اللهم بارك فيه، فإنه إذا دعا بالبركة صرف المحذور لا محالة، ومن عرف بإصابة العين منع مداخلة الناس دفعًا لضرره. وفي هذا المقام مباحث كثيرة نافعة جدًا من المسائل الفقهية والطبية ضربنا عنها صفحًا خوفًا من الإطالة.
الإعراب
﴿ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (١) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (٢) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (٣)﴾.
﴿ن﴾: تقدم غير مرّة أنّ الأصح الأسلم في الحروف المقطعة في أوائل السور أنها من المشتبهات التي استأثر الله سبحانه بعلمها، فليس معناها معلومًا لنا، فإذًا لا إعراب لها؛ لأن الإعراب فرع عن إدراك المعنى. ﴿وَالْقَلَمِ﴾ ﴿الواو﴾: حرف جر وقسم، ﴿القلم﴾ مقسم به مجرور بواو القسم، الجار والمجرور متعلق بفعل قسم محذوف وجوبًا تقديره: أقسم بالقلم. وجملة القسم مستأنفة استئنافًا نحويًّا، أقسم تعالى به تعظيمًا لشأنه. ﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿ما﴾ موصولة أو مصدرية، معطوفة على ﴿القلم﴾، وجملة ﴿يَسْطُرُونَ﴾ صلة للموصول الاسميّ، والعائد محذوف؛ أي: وما يسطرونه، والتقدير: أقسم بالقلم أوّلًا، ثم بمسطور الملائكة. أو صلة للموصول الحرفيّ، والتقدير: أقسم بالقلم، ثم بسطر الملائكة، فالمقسم به شيئان على ثلاثة أشياء: نفي الجنون عنه، وثبوت الأجر له، وكونه على الملة الحنيفية السمحاء. ﴿مَا﴾ نافية حجازية، ﴿أَنْتَ﴾ اسمها، ﴿بِنِعْمَةِ رَبِّكَ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بمعنى النفي المدلول عليه بـ ﴿ما﴾، والباء سببية، ﴿بِمَجْنُونٍ﴾ خبر ﴿ما﴾ الحجازية، والباء زائدة في خبرها، والجملة جواب القسم لا محل لها من الإعراب، والمعنى: انتفى عنك الجنون بسب إنعام ربّك عليك بالنبوة. ﴿وَإِنَّ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿إنَّ﴾ حوف نصب ﴿لَكَ﴾ خبرها مقدم، ﴿لَأَجْرًا﴾ اللام: حرف ابتداء، ﴿أجرا﴾ اسمها مؤخر، ﴿غَيْرَ مَمْنُونٍ﴾ صفة ﴿أجرًا﴾، وجملة ﴿إنّ﴾ معطوفة على جملة ﴿مَا﴾ الحجازية على كونها جواب القسم.
﴿وَإِنَّكَ﴾ ناصب واسمه، ﴿لَعَلَى خُلُقٍ﴾ جار ومجرور خبر ﴿إِنَّ﴾، واللام: حرف ابتداء، ﴿عَظِيمٍ﴾ صفة ﴿خُلُقٍ﴾، وجملة ﴿إنّ﴾ معطوفة أيضًا على جملة ﴿ما﴾ الحجازية على كونها جواب القسم. ﴿فَسَتُبْصِرُ﴾ الفاء: استئنافية والسين حرف استقبال، ﴿تبصر﴾ فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة مستأنفة. ﴿وَيُبْصِرُونَ﴾ فعل وفاعل، معطوف على جملة ﴿فَسَتُبْصِرُ﴾. ﴿بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (٦)﴾ اختلف المعربون في إعرابه اختلافًا كثيرًا، ونورد أرجح الأقوال منها، وهي أربعة:
الأوّل: أنّ الباء مزيدة في المبتدأ، و ﴿الْمَفْتُونُ﴾ خبره، والتقدير: أيّكم المفتون. فزيدت الباء كزيادتها في نحو: بحسبك درهم.
والثاني: أنّ الباء بمعنى في الظرفية، وهي مع مجرورها خبر مقدم، ﴿الْمَفْتُونُ﴾ مبتدأ مؤخّر نظير قولك: زيد بالبصرة؛ أي: فيها. والمعنى أي: في أيّ فرقة وطائفة منكم المفتون.
والثالث: أنّه على حذف مضاف؛ أي: بأيّكم فتن المفتون، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، وتكون الباء سببية.
والرابع: أنَّ المفتون مصدر جاء على مفعول كالمعقول والميسور، والتقدير: بأيّكم الفتون. والجملة على كل التقادير في محل النصب معمولة لما قبلها؛ لأنه معلق عنها باسم الاستفهام.
﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٧) فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (٨) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (٩)﴾.
﴿إِنَّ رَبَّكَ﴾ ناصب واسمه، ﴿هُوَ﴾ مبتدأ، ﴿أَعْلَمُ﴾ خبره، والجملة الابتدائية في محل الرفع خبر ﴿إِنَّ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. ﴿بِمَن﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿أَعْلَمُ﴾ وجملة ﴿ضَلَّ﴾ صلة ﴿مَنْ﴾ الموصولة، ﴿عَنْ سَبِيلِهِ﴾ متعلق بضل، ﴿وَهُوَ أَعْلَمُ﴾ مبتدأ وخبر، والجملة في محل الرفع معطوفة على ما قبلها على كونها خبر لـ ﴿إِنَّ﴾، ﴿بِالْمُهْتَدِينَ﴾ متعلق بـ ﴿أَعْلَمُ﴾ ﴿فَلَا تُطِعِ﴾ الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت ما ذكرته لك من علم الله بحال كل من الفريقين، وأردت بيان ما هو اللازم لك فأقول لك: لا
﴿وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (١٠) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (١١) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (١٣) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (١٤) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٥) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (١٦)﴾.
﴿وَلَا تُطِعْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿لا﴾ ناهية، ﴿تُطِعْ﴾ فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على محمد مجزوم بـ ﴿لا﴾ الناهية، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة ﴿فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (٨)﴾. ﴿كُلَّ حَلَّافٍ﴾ مفعول به، ومضاف إليه، ﴿مَهِينٍ﴾ صفة أولى لـ ﴿حَلَّافٍ﴾ ﴿هَمَّازٍ﴾ صفة ثانية له، ﴿مَشَّاءٍ﴾ ثالثة، ﴿بِنَمِيمٍ﴾ متعلق بـ ﴿مَشَّاءٍ﴾، ﴿مَنَّاعٍ﴾ رابعة، ﴿لِلْخَيْرِ﴾ متعلق بـ ﴿مَنَّاعٍ﴾، ﴿مُعْتَدٍ﴾ خامسة، ﴿أَثِيمٍ﴾ سادسة، ﴿عُتُلٍّ﴾ سابعة، ﴿بَعْدَ ذَلِكَ﴾ ظرف ومضاف إليه متعلق بـ ﴿زَنِيمٍ﴾، و ﴿زَنِيمٍ﴾ صفة ثامنة، وهذه البعدية في الرتبة؛ أي: هذا الوصف، وهو زنيم متأخر في الرتبة والشناعة عن الصفات السابقة. فـ ﴿بَعْدَ﴾ هنا كـ ثمّ التي للترتيب والتراخي في الرتبة، كما مرّ. ﴿أن﴾ حرف نصب ومصدر، ﴿كاَنَ﴾ فعل ماض ناقص في محل النصب بـ ﴿أنْ﴾، واسمها ضمير يعود على كلّ حلاف، ﴿ذَا مَالٍ﴾ خبرها، ﴿وَبَنِينَ﴾ معطوف على مال، وجملة ﴿أَن﴾ المصدرية مع صلتها في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض؛ أي: لكونه ذا مال وبنين. قال الزمخشري: الجار والمجرور متعلقّ بقوله: ﴿وَلَا تُطِعْ﴾: أي: لا تطعه مع هذه المثالب لكونه ذا مال وبنين. وقيل: متعلق بما دل عليه إذا تتلى؛ أي: كذّب بآياتنا لكونه ذا مال وبنين، ولا يصحُّ أن يكون معمولًا لـ ﴿قال﴾ الذي هو جواب الشرط؛ لأنَّ ما بعد أداة الشرط لا يعمل
﴿إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (١٧) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (١٨)﴾.
﴿إِنَّا﴾ ناصب واسمه، ﴿بَلَوْنَاهُمْ﴾ فعل وفاعل ومفعول به، والهاء: عائد إلى أهل مكة، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إنّ﴾، وجملة ﴿إنّ﴾ مستأنفة. ﴿كَمَا﴾ الكاف حرف جرّ وتشبيه، و ﴿ما﴾ مصدرية، ﴿بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ﴾ فعل وفاعل ومفعول به، وجملة ﴿ما﴾ المصدرية مع مدخولها في تأويل مصدر مجرور بالكاف، الجار والمجرور صفة لمصدر محذوف تقديره: إنا بلوناهم بلاء كائنًا كبلائنا أصحاب الجنة. ﴿إذ﴾ ظرف لما مضى من الزمان، مجرّد عن معنى الشرط، متعلق بـ ﴿بلونا﴾ الثاني، ﴿أَقْسَمُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذْ﴾. ﴿لَيَصْرِمُنَّهَا﴾ اللام موطئة للقسم ﴿يصرمن﴾ فعل مضارع مرفوع لتجرده عن الناصب والجازم، وعلامة رفعه ثبوت النون المحذوفة لتوالي الأمثال، والواو المحذوفة لالتقاء الساكنين في محل الرفع فاعل، أصله: ليصرموننها، والهاء مفعول به، ﴿مُصْبِحِينَ﴾ حال من فاعل ﴿يصرمنها﴾، وهو اسم فاعل من أصبح التامة بمعنى دخل في الصباح، والجملة الفعلية جواب القسم، لا محل لها من الإعراب. ﴿وَلَا﴾ ﴿الواو﴾: حالية أو استئنافية، ﴿لا﴾ نافية، ﴿يَسْتَثْنُونَ﴾ فعل وفاعل، والجملة في محل النصب حال من فاعل أقسموا أو مستأنفة، أي: لا يستثنون في أيمانهم. ويضعف كون الواو حالية من حيث إن المضارع المنفيّ بـ ﴿لا﴾ كالمثبت في عدم في خول الواو عليه، وإلا فبإضمار مبتدأ قبله حتى تكون الجملة اسمية.
﴿فَطَافَ﴾ الفاء عاطفة، ﴿طاف﴾ فعل ماض، ﴿عَلَيْهَا﴾ متعلق بطاف، ﴿طَائِفٌ﴾ فاعل، ﴿مِنْ رَبِّكَ﴾ صفة لطائف، والجملة معطوفة على جملة ﴿أَقْسَمُوا﴾. ﴿وَهُمْ نَائِمُونَ﴾ مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب حال من ضمير عليها على تقدير صاحب الحال؛ أي: على جنتهم. ﴿فَأَصْبَحَتْ﴾ الفاء عاطفة، ﴿أصبحت﴾ فعل ناقص، واسمها ضمير يعود على الجنة، تقديره: هي. ﴿كَالصَّرِيمِ﴾ خبرها، والجملة معطوفة على جملة ﴿طاف﴾. ﴿فَتَنَادَوا﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿تنادوا﴾ فعل ماض وفاعل، ﴿مُصْبِحِينَ﴾ حال من فاعل ﴿تنادوا﴾، والجملة معطوفة على جملة ﴿أَقْسَمُوا﴾، ﴿أَنِ﴾ مفسرة؛ لأنّها مسبوقة بما فيه معنى القول دون حروفه، ويجوز أن تكون مصدرية، فتكون هي ومدخولها في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض، والجار المقدر متعلق بـ ﴿تنادوا﴾، أي: تنادوا بالغدوّ ﴿اغْدُوا﴾ فعل أمر، ﴿والواو﴾: فاعل، ﴿عَلَى حَرْثِكُمْ﴾ متعلق به، الجملة مفسرة لـ ﴿تنادواو﴾، لا محل لها من الإعراب، ﴿إنْ﴾ حرف شرط ﴿كُنُتم﴾ فعل ناقص واسمه في محل الجزم بـ ﴿إنْ﴾ الشرطية، ﴿صَارِمِينَ﴾ خبر ﴿كان﴾، وجواب الشرط محذوف تقديره: إن كنتم صارمين فاغدوا على حرثكم، وجملة الشرط معترضة لا محل لها من الإعراب. ﴿فَانْطَلَقُوا﴾ فعل وفاعل، معطوف على ﴿تنادوا﴾، ﴿وَهُمْ﴾ مبتدأ، وجملة ﴿يَتَخَافَتُونَ﴾ خبره، والجملة في محل النصب حال من فاعل ﴿انطلقوا﴾، ﴿أَن﴾ مفسّرة أو مصدرية ﴿لا﴾ نافية، ﴿يَدْخُلَنَّهَا﴾ ﴿يدخلن﴾ فعل مضارع في محل الرفع، أو في محل النصب مبنيّ على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، والهاء: مفعول به على السعة، و ﴿الْيَوْمَ﴾ ظرف متعلق بـ ﴿يدخلن﴾، ﴿عَلَيْكُمْ﴾ متعلق به أيضًا، ﴿مِسْكِينٌ﴾ فاعل، والجملة مفسرة لـ ﴿تنادوا﴾ أيضًا، لا محل لها من الإعراب. أو في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض؛ أي: فتنادوا بأن لا يدخلنها عليكم مسكين، أي: بعدم دخول مسكين فيها عليكم. ﴿وَغَدَوْا﴾ فعل وفاعل، معطوف على ﴿انطلقوا﴾، ﴿عَلَى حَرْدٍ﴾ متعلق بـ ﴿قَادِريِنَ﴾، و ﴿قَادِريِنَ﴾ حال من فاعل ﴿غدوا﴾.
{فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (٢٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٢٧) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (٢٨)
﴿فَلَمَّا﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿لما﴾ اسم شرط غير جازم، في محل نصب مفعول فيه ظرف زمان ﴿رَأَوهَا﴾ فعل وفاعل ومفعول به والجملة فعل شرط لـ ﴿لمّا﴾، في محل جر بالإضافة والرؤية هنا بصرية، ﴿قَالُوا﴾ فعل وفاعل جواب لمّا، لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿لمّا﴾ معطوفة على جملة ﴿غدوا﴾. ﴿إِنَّا﴾ ناصب واسمه، ﴿لَضَالُّونَ﴾ خبره، واللام: حرف ابتداء، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾، ﴿بَلْ﴾ حرف عطف وإضراب، ﴿نَحْنُ مَحْرُومُونَ﴾ مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة ﴿إنّ﴾ على كونها مقولًا لـ ﴿قَالُوا﴾. ﴿قَالَ أَوْسَطُهُمْ﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿أَلَمْ﴾ الهمزة للاستفهام التقريريّ، ﴿لم﴾ حرف جزم، ﴿أَقُل﴾ فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على المتكلم مجزوم بـ ﴿لم﴾، ﴿لَكُمْ﴾ جار ومجرور متعلق به، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾، ﴿لَوْلَا﴾ حرف تحضيض بمعنى هلّا، ﴿تُسَبِّحُونَ﴾ فعل وفاعل ومفعوله محذوف تقديره: تسبّحون الله. والجملة في محل النصب مقول ﴿أَقُلْ﴾، وإن شئت قلت: مقول محكيّ لـ ﴿أَقُلْ﴾. ﴿قَالُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، ﴿سُبْحَانَ﴾ مفعول مطلق لفعل محذوف وجوبًا تقديره: نسبّح ربّنا تسبيحًا، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾، و ﴿رَبِّنَا﴾ مضاف إليه، ﴿إنَّا﴾ ناصب واسمه، ﴿كُنَّا﴾ فعل ناقص واسمه، ﴿ظَالِمِينَ﴾ خبره، وجملة ﴿كان﴾ في محل الرفع خبر ﴿إنّ﴾، وجملة ﴿إنّ﴾ في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾.
﴿فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (٣٠) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (٣١) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (٣٢) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (٣٣)﴾.
﴿فَأَقْبَلَ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿أقبل بعضهم﴾ فعل وفاعل، معطوف على ﴿قَالُوا﴾، ﴿عَلَى بَعْضٍ﴾ متعلق بـ ﴿أقبل﴾، وجملة ﴿يَتَلَاوَمُونَ﴾ في محل النصب حال من فاعل ﴿أقبل﴾. ﴿قَالُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة ﴿يَا وَيْلَنَا﴾ ﴿يَا﴾: حرف نداء ﴿ويلنا﴾ منادى مضاف والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾، ﴿إِنَّا﴾ ناصب واسمه، وجملة ﴿كُنَّا طَاغِينَ﴾ خبره، وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾ على كونها جواب النداء. ﴿عَسَى﴾ فعل ماض ناقص من أفعال الرجاء، و ﴿رَبُّنَا﴾ اسمها، ﴿أَن﴾ حرف نصبـ ﴿يُبْدِلَنَا﴾ فعل مضارع منصوب بـ ﴿أن﴾، و ﴿نا﴾ مفعول أوّل، وفاعله ضمير يعود على الربّ سبحانه، ﴿خَيْرًا﴾ مفعول ثان، ﴿مِنْهَا﴾ متعلق بـ
﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٣٤) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (٣٥) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٦) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (٣٧)﴾.
﴿إِنَّ﴾ حرف نصب، ﴿لِلْمُتَّقِينَ﴾ خبرها مقدم، ﴿عِندَ رَبِهِمْ﴾ ظرف ومضاف إليه متعلق بمحذوف حال من جنات أو متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الخبر، ﴿جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾ اسم ﴿إنَّ﴾ مؤخّر ومضاف إليه، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة مسوقة لبيان ما أعدّ الله للمتقين يوم القيامة. ﴿أَفَنَجْعَلُ﴾ الهمزة للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف، و ﴿الفاء﴾: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أنحيف في الحكم فنجعل المسلمين كالمجرمين، والجملة المحذوفة جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب. ﴿نجعل﴾ فعل مضارع وفاعل مستتر، معطوف على تلك المحذوفة، ﴿الْمُسْلِمِينَ﴾ مفعول أوّل، ﴿كَالْمُجْرِمِينَ﴾ في موضع المفعول الثاني، وهذا أوّل توبيخ وتقريع للكافرين، ستأتي بعده ستة توبيخات أخرى. وقوله: ﴿مَا لَكُمْ﴾ هو التقريع الثاني. ﴿مَا﴾ اسم استفهام، مبتدأ، ﴿لَكُمْ﴾ خبر، والجملة جملة إنشائية، لا محل لها من الإعراب، ﴿كَيْفَ﴾ اسم استفهام في محل النصب على الحال من فاعل ﴿تَحْكُمُونَ﴾، و ﴿تَحْكُمُونَ﴾ فعل وفاعل، والجملة في محل النصب على الحال من ضمير ﴿لَكُمْ﴾، وهذا هو التقريع الثالث. ﴿أَم﴾ منقطعة بمعنى بل الإضرابيّة وهمزة الإنكار، وهذا هو التقريع الرابع، ﴿لَكُمْ﴾ خبر مقدم، ﴿كِتَابٌ﴾ مبتدأ مؤخّر، ﴿فِيهِ﴾ متعلق بـ ﴿تَدْرُسُونَ﴾، والجملة جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب. ﴿تَدْرُسُونَ﴾ فعل
﴿إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (٣٨) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (٣٩) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (٤٠)﴾.
﴿إِنَّ﴾ حرف نصب قائم مقام ﴿أنّ﴾ المفتوحة في كونه معمولًا لما قبله، ولكن كسرت همزته لمكان اللام بعدها، ﴿لَكُمْ﴾ خبرها مقدم، ﴿فِيهِ﴾ حال من ما الموصولة المذكورة بعده، ﴿لَمَا﴾ اللام حرف ابتداء، ﴿مَا﴾ اسم موصول في محل النصب اسمها مؤخر، وجملة ﴿تَخَيَّرُونَ﴾ صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة، وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب مفعول ﴿تَدْرُسُونَ﴾، علق عنها باللام؛ لأنها هي المدروسة. ﴿أَمْ لَكُمْ﴾ هذا هو التقريع الخامس، ﴿أَم﴾ منقطعة بمعنى بل، وهمزة الإنكار، ﴿لَكُمْ﴾ خبر مقدم، ﴿أَيْمَانٌ﴾ مبتدأ مؤخر، ﴿عَلَيْنَا﴾ صفة أولى لـ ﴿أَيْمَانٌ﴾، ﴿بَالِغَةٌ﴾ صفة ثانية، ﴿إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الخبر أعني: ﴿لَكُمْ﴾ أو بـ ﴿بَالِغَةٌ﴾؛ أي: تبلغ إلى ذلك اليوم، وتنتهي إليه. وفي قوله: ﴿أَمْ لَكُمْ...﴾ إلخ، معنى القسم كأنه قيل: أقسمنا لكم أيمانًا موثقة، وجملة قوله: ﴿إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ﴾ جواب القسم الملحوظ، فلا محل لها من الإعراب، ﴿إِنَّ﴾ حرف نصب، ﴿لَكُمْ﴾ خبرها مقدم، و ﴿اللام﴾ حرف ابتداء، ﴿مَا﴾ اسم ﴿إِنَّ﴾ مؤخّر، وجملة ﴿تَحْكُمُونَ﴾ صلة لـ ﴿مَا﴾. ﴿سَلْهُمْ﴾ فعل أمر، وفاعل مستتر، ومفعول أوّل، والجملة مستأنفة. ﴿أَيُّهُمْ﴾ مبتدأ، ﴿بِذَلِكَ﴾ متعلق بزعيم، و ﴿زَعِيم﴾ خبر ﴿أَيُّهُمْ﴾، والجملة الاسمية في محل النصب مفعول ثان لـ ﴿سأل﴾؛ لأنّها تنصب مفعولين، علّقت عن العمل في لفظه بالاستفهام الذي هو التقريع السادس.
﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (٤١) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (٤٢) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (٤٣)﴾.
﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ﴾ هذا هو التقريع السابع، ﴿أم﴾ منقطعة بمعنى بل، وهمزة الإنكار ﴿لَهُمْ﴾ خبر مقدم، ﴿شُرَكَاءُ﴾ مبتدأ مؤخّر، وهذه الجملة معطوفة في المعنى على جملة ﴿أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ﴾. ﴿فَلْيَأْتُوا﴾ ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا كان الأمر كذلك، وأردت بيان ما هو اللازم لهم.. فأقول لك: ﴿ليأتوا بشركائهم﴾. واللام لام الأمر، ﴿يأتوا﴾ فعل مضارع، مجزوم بلام
﴿فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (٤٤) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (٤٥)﴾.
﴿فَذَرْنِي﴾ ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا كانت أحوالهم كذلك، وأردت بيان ما هو اللازم لك فأقول لك: ذرني. وجملة ﴿إذا﴾ المقدرة مستأنفة. ﴿ذرني﴾ فعل أمر، ونون وقاية، ومفعول به، وفاعل مستتر، والجملة في محل النصب مقول لجواب ﴿إذا﴾ المقدرة، ﴿وَمَن﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿مَنْ﴾ اسم موصول في محل النصب، معطوف على الياء، أو في محل النصب مفعول معه، والأوّل أرجح كما مرّ. ﴿يُكَذِّبُ﴾ فعل مضارع وفاعل مستتر والجملة صلة الموصول، ﴿بِهَذَا﴾ متعلق بـ ﴿يُكَذِّبُ﴾، ﴿الْحَدِيثِ﴾ بدل من اسم الإشارة. ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُمْ﴾ السين حرف استقبال، ﴿نستدرجهم﴾ فعل مضارع وفاعل
﴿أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٦) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤٧) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (٤٨)﴾.
﴿أَمْ﴾ حرف عطف بمعنى بل وهمزة الاستفهام، ﴿تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا﴾ فعل مضارع، وفاعل مستتر، ومفعولان، والجملة معطوفة من حيث المعنى على قوله: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ﴾. ﴿فَهُم﴾ ﴿الفاء﴾: حرف عطف وسبب، ﴿هم﴾ مبتدأ، ﴿مِنْ مَغْرَمٍ﴾ متعلق بـ ﴿مثقَلُونَ﴾، و ﴿مُثْقَلُونَ﴾ خبر، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها مسبّبة عنها. ﴿أَمْ﴾ حرف عطف بمعنى بل وهمزة الاستفهام، ﴿عِندَهُمُ﴾ خبر مقدم، ﴿الْغَيْبُ﴾ مبتدأ مؤخر، والجملة معطوفة على جملة ﴿أَمْ تَسْأَلُهُمْ﴾، ﴿فَهُمْ﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿هم﴾ مبتدأ، وجملة ﴿يَكْتُبُونَ﴾ خبره، والجملة معطوفة على ما قبلها. ﴿فَاصْبِرْ﴾ ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت ما ذكرته لك، وأردت بيان ما هو اللازم لك فأقول لك: اصبر. ﴿اصبر﴾ فعل أمر وفاعل مستتر، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. ﴿لِحُكْمِ رَبِّكَ﴾ متعلق بـ ﴿اصبر﴾ ومضاف إليه، ﴿وَلَا﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة، ﴿لا﴾ ناهية جازمة. ﴿تَكُنْ﴾ فعل مضارع ناقص، مجزوم بـ ﴿لا﴾ الناهية، واسمها ضمير يعود على محمد، ﴿كَصَاحِبِ الْحُوتِ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بمحذوف خبر ﴿تكن﴾، وجملة ﴿تكن﴾ في محل النصب معطوفة على جملة ﴿اصبر﴾، ﴿إِذْ﴾ ظرف لما مضى من الزمان، متعلق بمضاف محذوف تقديره؛ أي: ولا يكن حالك كحال يونس إذ نادى، وقصتك كقصته في وقت ندائه، والمعنى: لا يوجد منك ما وجد منه من الضمير والمغاضبة فتبتلى ببلائِهِ. ﴿نَادَى﴾ فعل ماض وفاعل مستتر، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إذ﴾، ﴿وَهُوَ﴾ ﴿الواو﴾ حالية، ﴿هو مكظوم﴾ مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب حال من فاعل ﴿نادى﴾.
﴿لَوْلَا﴾ حرف امتناع لوجود مضمّن معنى الشرط، ﴿أَن﴾ حرف نصب ومصدر، ﴿تَدَارَكَهُ﴾ فعل ماض، ومفعول به في محل النصب بـ ﴿أَن﴾ المصدرية، ﴿نِعْمَةٌ﴾ فاعل، ﴿مِنْ رَبِّهِ﴾ صفة لنعمة، وذكر الفعل لأنَّ تأنيث النعمة غير حقيقي. والجملة الفعليّة مع ﴿أن﴾ المصدرية في تأويل مصدر مرفوع على كونه مبتدأ خبره محذوف وجوبًا تقديره: لولا تدارك نعمة من ربّه موجود ﴿لَنُبِذ﴾ اللام رابطة لجواب ﴿لولا﴾، ﴿نبذ﴾ فعل ماض مغيّر الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على ﴿يونس﴾، ﴿بِالْعَرَاءِ﴾ متعلق بـ ﴿نبذ﴾. أي: بالأرض الفضاء الجرداء، والجملة الفعلية جواب ﴿لَوْلَا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿لَوْلَا﴾ مستأنفة. ﴿وَهُوَ مَذْمُومٌ﴾ ﴿الواو﴾: حالية، ﴿هُوَ مَذْمُومٌ﴾ مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب حال من مرفوع ﴿نبذ﴾.
﴿فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٥٠) وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (٥١) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (٥٢)﴾.
﴿فَاجْتَبَاهُ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة على مقدر معلوم من السياق تقديره: فأدركته نعمة من ربه فاجتباه. ﴿اجتبى﴾ فعل ماض، والهاء: مفعول به، ﴿رَبُّهُ﴾ فاعل، والجملة معطوفة على تلك المحذوفة. ﴿فَجَعَلَهُ﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿جعله﴾ فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الله، ومفعول أوّل، ﴿مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ في موضع المفعول الثاني، والجملة معطوفة على جملة ﴿اجتباه﴾. ﴿وَإِنْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿إنْ﴾ مخفّفة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن؛ أي: وإنّه، ﴿يَكَادُ﴾ فعل مضارع من أفعال المقاربة، ﴿الَّذِينَ﴾ اسمها، وجملة ﴿كَفَرُوا﴾ صلة الموصول، ﴿لَيُزْلقُونَكَ﴾ اللام: حرف ابتداء، ﴿يزلقونك﴾ فعل مضارع مرفوع بثبات النون، ﴿والواو﴾: فاعل، الكاف: مفعول به، ﴿بِأَبْصَارِهِمْ﴾ متعلق به، وجملة ﴿يزلقونك﴾ في محل النصب خبر ﴿كاد﴾، وجملة ﴿كاد﴾ في محل الرفع خبر ﴿إن﴾ المخففة، وجملة ﴿إن﴾ المخففة مستأنفة. ﴿لَمَّا﴾ ظرف بمعنى حين في محل النصب على الظرفية، والظرف متعلق بـ ﴿يزلقونك﴾ ﴿سَمِعُوا﴾ فعل وفاعل، ﴿الذِّكْر﴾ مفعول به، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿لَمَّا﴾، أو ﴿لَمَّا﴾ شرطية وجوابها محذوف تقديره: لمّا سمعوا الذكر كادوا يزلقونك، والأوّل أولى بل هو المتعين من حيث المعنى. ﴿وَيَقُولُونَ﴾ فعل،
التصريف ومفردات اللغة
﴿ن وَالْقَلَمِ﴾ والقلم: ما يكتب به، وعن بعض الحكماء: قوام أمور الدين والدنيا بشيئين: القلم والسيف، والسيف تحت القلم ولولا القلم.. لما قام دين، ولا صلح عيش، كما مرّ. ﴿وَمَا يَسْطُرُونَ﴾؛ أي: وما يكتبون. والسطر: الصفّ من الكتابة ومن الشجر المغروس، ومن القوم الوقوف. ﴿مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (٢)﴾ والجنون: شيء حائل بين النفس والعقل، وجنّ فلان إذا أصابه الجن أو أصاب جنانه أو حيل بين نفسه وعقله، فجن عقله ذلك. ﴿غَيْرَ مَمْنُونٍ﴾؛ أي: غير مقطوع، يقال: منه السير إذا أضعفه، والمنين: الضعيف. ﴿فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (٥)﴾ يقال: أبصرته وبصرت به: علمته وأدركته، فإن البصر يقال للجارحة الناظرة ولقوة القلب المدركة، ولا يكاد يقال للجارحة: بصيرة. ﴿بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (٦)﴾ المفتون إما اسم مفعول بمعنى المجنون، أو مصدر بمعنى الفتون، وهو الجنون كالمعقول بمعنى العقل. والمجنون: هو من لا يفرق بين ما يضره وينفعه، فيحسب التفسير نفعًا والنفع ضرًا، والضال كذلك.
﴿بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ ﴿ضلّ﴾ أصله: ضلل بوزن فعل، أدغمت اللام الأولى في الثانية، وقوله: ﴿المهتدين﴾ فيه إعلال بالحذف، أصله: المهتديين بياءين: الأولى لام الكلمة، والثانية ياء الجمع، حذفت حركة الياء الأولى للتخفيف فسكنت فحذفت لالتقائها ساكنة مع ياء الجمع الساكنة. ﴿فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (٨)﴾ أصله: تطوع، نقلت حركة الواو إلى الطاء، فسكنت فالتقت ساكنة مع آخر الفعل المجزوم لدخول الجازم، وهو ﴿لا﴾ الناهية، فحذفت الواو لذلك. ﴿وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ﴾ من الإدهان، والإدهان في الأصل مثل التدهين، واشتقاقهما من الدهن، لكن جعل عبارة عن الملاينة وترك الجد. وقال الليث: الإدهان: اللين والمصانعة والمقاربة في الكلام. وقال المبرد: يقال: داهن الرجل في دينه، وداهن في أمره إذا
﴿كُلَّ حَلَّافٍ﴾؛ أي: كثير الحلف في الحقّ والباطل. ﴿مَهِينٍ﴾ حقير الرأي والتدبير، من المهانة، وهي الذثة والحقارة. ﴿هَمَّازٍ﴾؛ أي: عيّاب طعّان مغتاب. وقيل: الهمّاز الذي يهمز الناس بيده ويضربهم، والهمّاز مبالغة هامز، والهمز: الطعن والضرب والكسر والعيب. وفي "المختاردا: واللمز: العيب، وأصله: الإشارة بالعين ونحوها، وبابه: ضرب ونصر. وقرىء بهما في قوله تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ﴾. ورجل لمّازٌ لُمزة بوزن هُمزة أي: عيّاب، وفيه أيضًا، والهمز كاللمز وزنًا ومعنى، يقال: رجل هُمزة وامرأة هُمزة، ومنه: المهمز والمهماز بكسر الميم: حديدة تطعن بها الدابّة، قيل لأعرابيّ: أتهمز الفأرة؟ قال: السنور يهمزها. ﴿مَشَّاءٍ﴾ صيغة مبالغة؛ أي: ساع بالكلام بين الناس على وجه الإفساد بينهم. ﴿بِنَمِيمٍ﴾ النميم قيل: هو مصدر كالنميمة، وقيل: هو اسم جنس لها كتمرة وتمر، وهو نقل الكلام الذي يسوء سامعه ويحرش بين الناس لتأريث نار البغضاء في الصدور. وفي "المصباح"؛ نمَّ الرجل الحديث نما من بابي قتل وضرب: سعى به ليوقع فتنة أو وحشة، فالرجل ثم تسمية له بالمصدر، ونمّام مبالغة، والاسم: النميمة والنميم أيضًا. وقال الزمخشري: النميم والنميمة: السعاية بين الناس بالإفساد.
وقوله: ﴿مَشَّاءٍ﴾ فيه إعلال بالإبدال، أصله: مشّاي، أبدلت الياء همزة لتطرفها إثر ألف زائدة. ﴿مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ﴾؛ أي: بخيل بالمال، والخير هنا يراد به عموم ما يطلق عليه. ﴿عُتُلٌ﴾؛ أي: غليظ جاف. قيل: في الطبع، وقيل: في الجسم. وقال أبو عبيدة: هو الفاحش اللئيم، وقيل: الغليظ الجافي اهـ. وقيل: الشديد الخصومة الفظّ الغليظ، ووزنه فعل بضمتين وتشديد اللام. ﴿مُعْتَدٍ﴾ والمعتدي الذي يتجاوز الحق ويسير في الباطل. ﴿أَثِيمٍ﴾ والأثيم: كثير الآثام والذنوب. قوله: ﴿عُتُلٍّ﴾ أيضًا من عتله إذا قاده بعنف وغلظة. قال الراغب: العتل: الأخذ بمجامع الشيء وجره بقهر كمثل البعير. وفي "القاموس": العتل بضمتين مشددة اللام الأكول المنيع الجافي الغليظ. ﴿زَنِيمٍ﴾ والزنيم الذي يعرف بالشر واللؤم، كما تعرف الشاة بزنمتها "الجزء المسترخي من أذنها حين تشق، ويبقى كالشيء المعلق". قال الراغب: الزنيم والمزنم: الزائد في القوم وليس منهم والدعي. قال حسان بن ثابت:
وَأَنْتَ زَنِيمٌ نِيْطَ فِي آل هَاشِمٍ | كَمَا نِيْطَ خَلْفَ الرَّاكِبِ القَدَحُ الفَرْدُ |
﴿سَنَسِمُهُ﴾ أصله: سنوسمه، من الوسم، وهو إحداث السمة بالكسر؛ أي: العلامة، والميسم بالكسر؛ المكواة؛ أي: آلة الكي، وفيه إعلال بالحذف أصله في القياس: "سنوسمه، لأنّه مضارع وسم المثاليّ، لكن فاؤه حذفت من المضارع اطرادًا لوقوعها بين فتحة وكسرة. ﴿عَلَى الْخُرْطُومِ﴾ الخرطوم: أنف السباع، وغالب ما يستعمل في أنف الفيل والخنزير. وفي "القاموس": الخرطوم بوزن زنبور: الأنف أو مقدمه.
﴿إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ﴾؛ أي: امتحنّاهم واختبرناهم. يقال: بلي الثوب بليًا؛ أي: خلق بلوته: اختبرته كأني أخلقته من كثرة اختباري له، والبلايا: اختبارات. ﴿لَيَصْرِمُنَّهَا﴾ الصرام والصرم: قطع ثمار النخيل من صرمه إذا قطعه، يقال: صرم العذق عن النخلة، وأصرم النخل؛ أي: حان صرامه مثل: أركب المهر، وأحصد الزرع؛ أي: حان ركوبه وحصاده. وفي "المختار": صرم النخل: جده، وبابه: ضرب، وأصرم النخل: حان له أن يُصْرَمَ، والانصرام: الانقطاع، والتصارم: التقاطع، والتصرم: التقطع. وقوله: ﴿لَيَصْرِمُنَّهَا﴾ فيه إعلال بالحذف، أصله: ليصرمونها فدخلت نون التوكيد الثقيلة على الفعل فصار ليصرموننها، فاجتمع ثلاث نونات فحذفت نون الرفع لتوالي الأمثال فصار ليصرمونّها، فالتقى ساكنان فحذفت الواو، ولذلك الفعل هنا معرب لعدم مباشرة نون التوكيد؛ لأنَّ المحذوف لعلة صرفية مقدَّر.
﴿وَلَا يَسْتَثْنُونَ (١٨)﴾ أصله: يستثنيون بوزن يستفعلون، استثقلت الضمّة على الياء، فحذفت للتخفيف فالتقى ساكنان فحذفت الياء، وضمت النون لمناسبة الواو. قال الراغب: الاستثناء: إيراد لفظ يقتضي رفع بعض ما يوجبه عموم لفظ متقدم أو
﴿فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ﴾ قال الراغب: الطوف: الدوران حول الشيء، ومنه: الطائف لمن يدور حول البيت حافظًا كما مرّ، وأصله: طوف قلبت الواو ألفًا لتحركها بعد فتح. وقوله: ﴿طَائِفٌ﴾ فيه إعلال بإبدال الواو همزة، أصله: طاوف أبدلت الواو همزة حملًا للوصف على الفعل في الإعلال.
﴿وَهُمْ نَائِمُونَ﴾ جمع نائم، وأصله: ناوم من نام ينام، وأصل نام: نوم قلبت الواو ألفًا لتحركها بعد فتح، وأصل ﴿نَائِمُونَ﴾ على هذا: ناومون أبدلت الواو همزةً حملًا للوصف على الفعل في الإعلال. والنوم: استرخاء أعصاب الدماغ برطوبات البخار الصاعد إليه، أو أن يتوفَّى الله النفسَ من غير موت إلى آخر ما تقدم. ﴿فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (٢٠)﴾ فعيل بمعنى مفعول؛ أي: كالبستان الذي صرمت ثماره بحيث لم يبق فيها شيء. ﴿فَتَنَادَوْا﴾ أصله: تناديوا قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح ثم حذفت الألف لالتقائها ساكنة بواو الجماعة. ﴿أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ﴾ أصله: اغدووا، حذفت حركة الواو لام الكلمة للتخفيف فلما سكنت وبعدها واو الجماعة الساكنة حذفت لام الكلمة، فوزنه: افعوا. قال الراغب: الحرث: إلقاء البذر في الأرض وتهيئتها للزرع، ويسمى المحروث حرثًا، قال تعالى: ﴿أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ﴾. ﴿وَغَدَوْا﴾ أصله: غدووا، قلبت الواو الأولى ألفًا لتحركها بعد فتح ثم حذفت الألف لالتقائها ساكنة بواو الجماعة، فوزنه: فعوا. ﴿مِسْكِينٌ﴾ والمسكين: هو الذي لا شيء له، وهو أبلغ من الفقير. ﴿عَلَى حَرْدٍ﴾ الحرد: المنع عن حدة وغضب، يقال: نزل فلان حريدًا؛ أي: ممتنعًا عن مخالطة القوم، وحاردت السنة: منعت قطرها، والناقة: منعت درّا، وحرد: غضب. وفي "المختار": حرد قصد، وبابه: ضرب، وقوله تعالى: ﴿عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ﴾؛ أي: على قصد وقيل: على منع، والحرد بالتحريك: الغضب. وقال أبو نصر صاحب الأصمعيّ: هو مخفف، فعلى هذا بابه: فهم. وقال ابن السكيت: وقد يحرك، وعلى هذا بابه: طرب، فهو حارد وحردان. ﴿قَادِرِينَ﴾ إما من القدرة، وهو الظاهر، وإما من التقدير وهو التضييق، أي: مضيقين علي المساكين.
﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ قال الراغب: ﴿عِنْدَ﴾ لفظ موضوع للقرب، فتارةً يستعمل في المكان، وتارةً يستعمل في الاعتقاد نحو: عندي كذا، وتارةً في الزلفى والقرب والمنزلة كقوله تعالى: ﴿بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾، وعلى ذلك قيل: الملائكة المقربون انتهى. ﴿إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (٣٨)﴾ أصله: تتخيرون فحذفت منه إحدى التاءين. تخيّر الشيء واختياره: أخذ خيره. قال الراغب: الاختيار: طلب ما هو خير فعله، وقد يقال ما يراه الإنسان: خيرًا وإن لم يكن خيرًا. ﴿كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ﴾ قال في "المفردات": درس الشيء معناه: بقي أثره، ودرست العلم: تناولت أثره بالحفظ. ولما كان تناول ذلك بمداومة القراءة عبر عن إدامة القراءة بالدرس. ﴿أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ﴾ يقال: لفلان عليَّ يمين بكذا إذا ضمنت وكفلت له به وحلفت له على الوفاء. ﴿سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (٤٠)﴾ أمر من سأل يسأل بحذف العين وهمزة الوصل، قياس هذا الأمران يقال: اسألهم بهمزة الوصل وإثبات عين الكلمة الهمزة، لكن الهمزة في بعض الأحيان نقلت حركتها إلى السين، ثم حذفت تخفيفًا فاستغني عن همزة الوصل لتحرك الفاء، فقيل: سلهم بوزن فلهم. وفي بعض الأحيان يأتي الفعل على الأصل فيقال: اسأل، قال تعالى: ﴿اسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ﴾، لكن همزة الوصل حذفت من الخط في رسم المصحف مراعًاة لقراءة من
﴿وَيُدْعَوْنَ﴾ أصله: يدعوون بوزن يفعلون، قلبت الواو لام الكلمة ألفًا لتحركها بعد فتح ثمّ حذفت لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة. ﴿فَلَا يَسْتَطِيعُونَ﴾ فيه إعلال بالنقل والتسكين والقلب، أصله: يستطوعون نقلت حركة الواو إلى الطاء فسكنت إثر كسرة فقلبت ياء حرف مدّ. ﴿تَرْهَقُهُمْ﴾ والرهق: غشيان الشيء الشيء. ﴿ذِلَّةٌ﴾ يقال: ذلَّ يذلّ ذلا بالضم، وذلة بالكسر وهو ذليل يعني: خوار. ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ﴾ يقال: استدرجه إلى كذا إذا استنزله درجة درجة حتى يورطه، واستدرجه إلى كذا: قربه إليه ورقاه من درجة إلى درجة وجعله يدرج على الأرض. قال الخطيب: ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُمْ﴾؛ أي: سناخذهم بعظمتنا على التدريج لا على غرّة في عذاب لا شك فيه. ﴿إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾ قال بعضهم: الكيد: إظهار النفع وإبطان الضر للمكيد. وفي "المفردات": الكيد ضرب من الاحتيال، وقد يكون محمودًا ومذمومًا، وإن كان يستعمل في المذموم أكثر، وكذلك الاستدراج والمكر. ولكون بعض ذلك محمودًا قال تعالى: ﴿كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ﴾، قال بعضهم: أراد بالكيد العذاب والصحيح: أنه الإمهال المؤدّي إلى العذاب انتهى. وفي "التعريفات" الكيد: إرادة مضرّة الغير خفيةً، وهو من الخلق: الحيلة، ومن الله: التدبير بالحق في الخلق كما مرّ ﴿وَهُوَ مَكْظُومٌ﴾؛ أي: مملوء غمًّا وكربًا. قال الماوردي: والفرق بينهما أن الغم في القلب، والكرب في الأنفاس. وقيل: مكظوم: محبوس، والكظم: الحبس، قال المبرد: إنه المأخوذ بكظمه، وهو مجر النفس، ويقال: كظم السقاء إذا ملأه وشدَّ رأسه. ﴿لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ﴾ والنبذ: إلقاء الشيء وطرحه لقلّة الاعتداد به، والعراء: الأرض الخالية من الأشجار. قال الراغب: العراء: مكان لا سترة فيه، والهمزة فيه مبدلة من ياء أصله: العرا، أبدلت الياء همزة لتطرفها إثر ألف زائدة، كما تقدم أنَّ ذلك
البلاغة
وقد تضمنت هذه السورة الكريمة ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: المناسبة اللفظيَّة في قوله: ﴿ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (١)﴾ إلى قوله: ﴿غَيْرَ مَمْنُونٍ﴾، وهي عبارة عن الإتيان بلفظات متّزنات مقّفات.
ومنها: الجناس الناقص بين لفظي ﴿مَجْنُونٍ﴾ و ﴿مَمْنُونٍ﴾ لاختلاف الحرف الثاني.
ومنها: الوعيد والتهديد في قوله: ﴿فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (٥)﴾ وحذف المفعول فيه للتهويل؛ أي: يوم القيامة.
ومنها: إعادة ﴿أَعْلَمُ﴾ في قوله: ﴿وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ لزيادة التقرير والتأكيد.
ومنها: التهييج للتصميم على مباينتهم ومخالفتهم في قوله: ﴿فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (٨)﴾.
ومنها: صيغ المبالغة في قوله: ﴿كُلَّ حَلَّافٍ﴾ ﴿هَمَّازٍ مَشَّاءٍ﴾ ﴿مَنَّاعٍ﴾ ﴿أَثِيمٍ﴾ ﴿زَنِيمٍ﴾.
ومنها: المناسبة في مجيء هذه الصفات مسرودة على نمط عجيب خلاب، فجاء ﴿حَلَّافٍ﴾ وما بعده ﴿مَهِينٍ﴾؛ لأنّ النون فيها مع الميم تراخ، ثم جاء ﴿هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (١١)﴾ بصفتي المبالغة ثم جاء ﴿مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢)﴾، وبعدما عد له من المثالب والنقائص أتى بصفتين من أشد معايبه.
ومنها: الاستعارة في قوله: ﴿هَمَّازٍ﴾، لأنه حقيقة في الضراب والطعان، فاستعير للمغتاب الذي يذكر الناس بالمكروه ويظهر عيوبهم ويكسر أعراضهم كأنّه يضربهم بأذاه إيّاهم.
وَحُسْنُ الْفتى فِي الأَنْفِ وَالأَنفُ عَاطِلٌ | فَكَيْفَ إِذَا مَا الْخَالُ كَانَ لَهُ حَلْيا |
ومنها: الطباق بين ﴿ضَلَّ﴾ و ﴿الْمُهْتَدِينَ﴾، وبين ﴿المُسْلِمِينَ﴾ و ﴿الْمُجْرِمِينَ﴾.
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ﴾.
ومنها: تنكير ﴿طَائِفٌ﴾ للإبهام تعظيمًا لما أصاب جَنَّتهم.
ومنها: التشبيه في قوله: ﴿فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (٢٠)﴾.
ومنها: التقريع والتوبيخ في قوله: ﴿مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٦) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (٣٧)﴾ والجمل التي بعدها.
ومنها: التشبيه المقلوب بجعل المشبه به مشبّهًا والعكس في قوله: ﴿أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (٣٥)﴾؛ لأنّ الأصل: أفنجعل المجرمين كالمسلمين في الأجر والمثوبة، فقلب التشبيه ليكون أبلغ وأروع.
ومنها: تقدم الخبر على المبتدأ في قوله: ﴿كَذَلِكَ العَذَابْ﴾ لإفادة الحصر.
ومنها: الالتفات من الغيبة إلى الخطاب في قوله: ﴿مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ لتأكيد الرد وتشديده.
ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ﴾ على ما قالوا: شبهت حال من اشتد عليه الأمر في الموقف بالمخدّرات اللاتي اشتد عليهنّ الأمر، فاحتجن إلى تفسير سوقهنّ في الهرب بسبب وقوع أمر هائل بالغ إلى نهاية الشدّة مع أنّهنّ لا يخرجن من بيوتهنّ، ولا يبدين زينتهن لغير محارمهنّ لغاية خوفهنّ، وزوال
ومنها: تنكير الساق لغرض الإبهام مبالغة في الدلالة على أنّه أمر مبهم في الشدّة منكر خارج عن المألوف المعتاد.
ومنها: المجاز العقلي، في قوله: ﴿خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ﴾؛ لأنّ نسبة الخشوع إلى الأبصار مجاز عقلي؛ لأنّ ما في القلب يُعْرف من العين.
ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: ﴿وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ﴾ لزيادة التقرير، أو لأن المراد بالسجود هنا الصلاة، وخص السجود حينئذٍ بالذكر؛ لأنّه أعظم أركانها.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾، سمى إمهاله إياهم ومرادفة المنعم والآلاء. عليهم كيدًا؛ لأنّه سبب التورط والهلاك؛ لأنّ الكيد إيصال الضرر إلى الغير بطريق خفي.
ومنها: المجاز المرسل أيضًا في قوله: ﴿وَهُوَ مَذْمُومٌ﴾ أي: مملوء؛ لأنَّ اللوم في الحقيقة سبب للذم، فالعلاقة السبيبة.
ومنها: الزيادة والحذف في عدّة مواضع.
والله أعلم
* * *
تضمنت هذه السورة المقاصد التالية:
١ - محاسن الأخلاق النبوية إلى قوله: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (٤)﴾.
٢ - سوء أخلاق بعض الكفار وجزاؤهم من قوله: ﴿فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (٥)﴾ إلى قوله: ﴿سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (١٦)﴾.
٣ - ضرب المثل لهم بأصحاب الجنة من قوله: ﴿إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ﴾ إلى قوله: ﴿لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾.
٤ - تقريع المجرمين وتوبيخهم وإقامة الحجج عليهم.
٥ - تهديد المشركين المكذّبين بالقرآن بقوله: ﴿فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ﴾ إلخ.
٦ - أمره - ﷺ - بالصبر على أذى المشركين حتى لا يكون كصاحب الحوت.
وصلى الله سبحانه وتعالى، وسلم على سيّدنا ونبينا ومولانا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين (١).
والله أعلم.
* * *
سورة الحاقّة مكيّة، قال القرطبي: في قول الجميع، نزلت بعد سورة الملك. وأخرج ابن الضريس، والنحاس، وابن مردويه، والبيهقي عن ابن عباس: نزلت سورة الحاقّة بمكة، وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله.
مناسبتها لما قبلها من وجوه:
١ - أنّه (١) وقع في ﴿ن وَالْقَلَمِ﴾ ذكر يوم القيامة مجملًا، وهنا فصّل نبأه وذكر شأنه العظيم.
٢ - أنّه ذكر فيما قبلها من كذّب بالقرآن وما توعّده به، وهنا ذكر أحوال أمم كذبوا الرسل، وما جرى عليهم ليزدجر المكذّبون المعاصرون له - ﷺ -.
وعبارة أبي حيّان: مناسبتها لما قبلها (٢): أنه لما ذكر شيئًا من أحوال السعداء والأشقياء وقال: ﴿فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ﴾، ذكر حديث القيامة، وما أعد الله تعالى لأهل السعادة، وأهل الشقاوة، وأدرج بينهما شيئًا من أحوال الذين كذّبوا الرسل: كعاد، وثمود، وفرعون. ليزدجر بذكرهم، وما جرى عليهم الكفّار الذين عاصروا رسول الله - ﷺ -. وكانت العرب عالمةً بهلاك عاد وثمود وفرعون، فقص عليهم ذلك.
وآياتها (٣): إحدى أو اثنتان وخمسون آية، وكلماتها: مئتان وستّ وخمسون كلمة، وحروفها: ألف وأربع مئة وثمانون حرفًا. وسميت الحاقة لذكر الحاقة فيها.
الناسخ والمنسوخ فيها: وقال محمد بن حزم: سورة الحاقة كلها محكم، ليس فيها ناسخ ولا منسوخ.
فضلها: ومما يدل على فضلها ما أخرجه الطبراني عن أبي برزة: أنّ النبيّ - ﷺ - كان يقرأ في الفجر بالحاقّة ونحوها.
والله أعلم
* * *
(٢) البحر المحيط.
(٣) الخازن.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿الْحَاقَّةُ (١) مَا الْحَاقَّةُ (٢) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (٣) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (٤) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (٥) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (٦) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (٧) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (٨) وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (٩) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (١٠) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (١١) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (١٢) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (١٣) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (١٤) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (١٥) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (١٦) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (١٧) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (١٨) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (١٩) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (٢٠) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (٢١) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (٢٢) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (٢٣) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (٢٤) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (٢٥) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (٢٦) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (٢٧) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (٢٨) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (٢٩) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (٣٠) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (٣١) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (٣٢) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (٣٣) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (٣٤) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (٣٥) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (٣٦) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (٣٧) فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (٣٨) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (٣٩) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (٤٠) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (٤١) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (٤٢) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٤٣) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (٤٤) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (٤٦) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (٤٧) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (٤٨) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (٤٩) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (٥٠) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (٥١) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٥٢)﴾.المناسبة
تقدّم لك ذكر مناسبة هذه السورة لما قبلها، وذكر سبحانه في بدايتها أنَّ (١) يوم
قوله تعالى: ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (١٣)...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: أنَّ الله سبحانه لما قص هذه القصص الثلاثة، ونبه بها على ثبوت القدرة والحكمة، وبها ثبت إمكان وقوع يوم القيامة.. شرع يذكر تفاصيل أحوال هذا اليوم، وما يكون فيه من أهوال.
قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنَّ الله سبحانه وتعالى لما ذكر أنهم يعرضون على الله ولا يخفى عليه شيء من أعمالهم.. فصَّل أحكام هذا العرض، فأخبر بأن من يؤتى كتابه بيمينه يشتد فرحه حتى يقول لكل من لقيه: خذ كتابي واقرأه؛ لأنه يعلم ما فيه من خير وفضل من الله، ويقول: إني كنت أعلم أنَّ هذا اليوم آت لا ريب فيه، وأني سأحاسب على ما أعمل، وحينئذٍ يكون جزاؤه عند ربه جنة عالية ذات ثمار دانية، ويقال له ولأمثاله: كلوا واشربوا هنيئًا مما قدمتم لأنفسكم في الدنيا.
قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: أنه تعالى لما ذكر سرور السعداء بصحائف أعمالهم ثم بين حسن أحوالهم في معايشهم ومساكنهم.. أردف ذلك بذكر غمّ الأشقياء الكافرين وحزنهم بوضع الأغلال والقيود في أعناقهم وأيديهم وإعطائهم الغسلين طعامًا، ثم أعقبه بذكر سبب هذا، وهو أنهم كانوا لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يحثّون على مساعدة ذوي الحاجة والبائسين.
قوله تعالى: ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (٣٨)...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: أنّ الله سبحانه وتعالى لما أقام الدليل على إمكان القيامة؛ ثم على وقوعها، ثم ذكر أحوال المؤمنين السعداء والكافرين الأشقياء.. أردف ذلك بتعظيم القرآن والرسول