ﰡ
إن قلتَ : كيف قال هنا " نَزَّلَ " ثم قال : " وأَنْزَلَ " مرتين ؟
قلتُ : للاحتراز عن كثرة التكرار.
وخُصّ المشدّد بالأول لمناسبته " مصدّقا ".
وقيل : لأن القرآن نزل منجّما، والتوراة والإنجيل نزلا جملة واحدة، فحيث عُبِّر فيه ب " نَزَّل " أُريد الأول، أو " أنزل " أُريد الثاني.
ورُدّ الأول بقوله :﴿ وقال الذين كفروا لولا نزّل عليه القرءان جملة واحدة ﴾ [ الفرقان : ٣٢ ].
والثاني بقوله :﴿ وأنزل الفرقان ﴾ [ آل عمران : ٤ ] إن أُريد به القرآن.
وبقوله :﴿ هو الذي أنزل عليك الكتاب ﴾.
وبقوله :﴿ والذين يؤمنون بما أنزل إليك ﴾ [ البقرة : ٤ ].
قوله تعالى :﴿ مصدّقا لما بين يديه... ﴾ [ آل عمران : ٣ ].
سمّى ما مضى بأنه " بين يديه " لغاية ظهور أمره.
قدّم الأرض على السماء هنا وفي موضع من " يونس " ( ١ ) و " إبراهيم " و " طه " و " العنكبوت ".. عكْسَ الغالب في سائر الآيات، لأن المخاطبين في الخمس كائنون في الأرض فقط، بخلافهم في غيرها كذا قيّد.
إن قلتَ : كيف قال ذلك و " مِنْ " للتبعيض، وقال في هود :﴿ كتاب أُحكمت آياته ﴾ [ هود : ١ ] وهو يقتضي إحكام آياته كلها ؟
قلتُ : المراد ب " المحكمات " هنا النّاسخات، أو العقليّات، أو ما ظهر معناها.
كما أن المراد ب " المتشابهات " المنسوخات، أو الشرعيات، أو ما كان في معناها غموض ودقّة.
والمراد بقوله :﴿ أُحكمت آياته ﴾ أن جميع القرآن صحيح ثابت، مصون عن الخلل والزّلل.
ولا تنافي بين " متشابهات " وقوله :﴿ والرّمان متشابها ﴾( ١ ) إذ المراد ب " متشابهات " ما مرّ.. وب " متشابهاً " أنه يشبه بعضه بعضا في الصِّحة، وعدم التناقض، وتأييد بعضه لبعض.
قاله بلفظ الغَيْبة، وقال في آخر السورة ﴿ إنك لا تخلف الميعاد ﴾ [ آل عمران : ١٩٤ ] بلفظ الخطاب.. لأن ما هنا متّصل بما قبله وهو قوله تعالى :﴿ ربّنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه ﴾ [ آل عمران : ٩ ] اتصالا لفظيا فقط.
وما في آخرها متّصل بما قبله وهو قوله :﴿ ربّنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ﴾ [ آل عمران : ١٩٤ ] اتصالا لفظيا ومعنويا، لتقدم لفظ الوعد.
قال هنا وفي موضع من الأنفال( ١ ) ﴿ كذّبوا ﴾ وفي آخر منها " كفروا " ( ٢ ) تفنّنا، جريا على عادة العرب في تفنّنهم في الكلام.
٢ - في قوله تعالى: ﴿ كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنا آل فرعون وكل كانوا ظالمين﴾ الأنفال: ٥٤..
أي ترى الفئة الكافرة المسلمة بمثلي عدد نفسها، أو بالعكس( ١ ) على الخلاف.
إن قلتَ : هذا ينافي قوله في الأنفال :﴿ وإذ يريكموهم إذِ التقيتم في أعينكم قليلا ويقلّلكم في أعينهم ﴾ [ الأنفال : ٤٤ ] إذ قضيّته أن كلا منهما ترى الأخرى قليلة ؟
قلتُ : التقليل والتكثير في حالتين :
قلّل الله المشركين في نظر المؤمنين، وعكسه أولا، حتى اجترأت كلّ منهما على قتال الأخرى.
ثم كثّر الله المؤمنين في نظر المشركين لما التقيا، حتى جَبُنوا وفشلوا.
وكثّر الله المشركين في نظر المؤمنين، وأراهم إيّاهم على ما هم عليه –وكانوا في الحقيقة أكثر من المؤمنين- ليعلموا صدق وعد الله في قوله ﴿ فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين ﴾ [ الأنفال : ٦٦ ] فإن المؤمنين غلبوهم في هذه الغزاة وهي " غزاة بدر " مع أنهم كانوا أضعاف عدد المؤمنين.
كرّر فيها ﴿ لا إله إلا هو ﴾ لأن الأول قول الله، والثاني حكاية قول الملائكة وأولي العلم.
أو لأن الأول جرى مجرى الشهادة، والثاني مجرى الحكم بصحة ما شهدته الشّهود.
وقال جعفر الصادق : وصف، والثاني : تعليم، أي قولوا واشهدوا كما شهدت.
إن قلتَ : التولّي والإعراض واحد –كما مرّ في البقرة- فلم جَمَع بينهما ؟
قلتُ : لأن المعنى يتولون عن الدّاعي، ويعرضون عمّا دعاهم إليه وهو كتاب الله، أو يتولون بإيذائهم، ويعرضون عن الحقّ بقلوبهم.
أو كان الذي تولّى علماؤهم، والذي أعرض أتباعهم( ١ ).
أو أراد الخير والشرّ، واكتفى بأحدهما لدلالته على الآخر، كما في قوله تعالى :﴿ سرابيل تقيكم الحرّ... ﴾ ( ١ ) [ النحل : ٨١ ] وإنما خصّ الخير بالذكر لأنه هو المرغوب فيه.
والأحسن –كمال قال التفتازانيّ- ما قيل : إنه ذكره أولا للمنع من موالاة الكافرين، وثانيا للحثّ على عمل الخير، والمنع من عمل الشرّ.
إن قلتَ : ما فائدة ذكره مع أنه معلوم.
قلتُ : فائدته اعتذارها عما قالته ظنا، فإنها ظنت ما في بطنها ذكرا، فنذرت أن تجعله خادما لبيت المقدس، وكان من شريعتهم صحة هذا الندر في الذكور خاصة، فلما خاب ظنها استحيت حيث لم يُقبل نذرها فقال ذلك، معتذرة أنها لا تصلح لما يصلح له الذكر من خدمة المسجد( ١ )، فمن الله عليها بتخصيص " مريم " بقبولها في النذر، دون غيرها من الإناث فقال :﴿ فتقبّلها ربّها بقَبول حسن ﴾ [ آل عمران : ٣٧ ].
إن قلتَ : كيف نادت الملائكة زكريا وهو قائم يصلي، وأجابها وهو في الصلاة ؟
قلتُ : المراد بالصلاة هنا الدّعاء كقوله تعالى :﴿ ولا تجهر بصلاتك ﴾ [ الإسراء : ١١٠ ].
فإن قلتَ : لم خصّ " يحيى " عليه السلام بقوله :﴿ مصدّقا بكلمة من الله ﴾ [ آل عمران : ٣٩ ] مع أن كل واحد من المؤمنين، مصدّق بجميع كلمات الله تعالى ؟
قلتُ : لأن معناه مصدّقا ب " عيسى " الذي كان وجوده بكلمة من الله تعالى وهو قوله : كن من غير أب في الوجود أو المرتبة، وكان تصديق يحيى لعيسى أصدق من تصديق كل أحد به.
قدّم هنا ذكر " الكِبر " على ذكر المرأة، وعكس في " مريم " ( ١ ) لأن الذكر مقدّم على الأنثى، فقدّم كبَره هنا وأخّر ثَمَّ لتتوافق الفواصل في " عتيّا، وسوياّ، وعشيّا، وصبيّا " وغيرها.
فإن قلتَ : كيف استبعد زكريا ذلك، ولم يكن شاكا في قدرة الله تعالى عليه ؟
قلتُ : إنما قال ذلك تعجبا من قدرة الله تعالى، لا استبعاداً.
قوله تعالى :﴿ قال كذلك الله يفعل ما يشاء ﴾ [ آل عمران : ٤٠ ]. قال في حقّ زكريا ﴿ يفعل ﴾ وفي حقّ مريم ﴿ يخلق ﴾( ٢ ) [ آل عمران : ٤٧ ]. مع اشتراكهما في بشارتهما بولد.
لأن استبعاد زكريا لم يكن لأمر خارق، بل نادر بعيد فحسن التعبير ب " يفعل ".
واستبعاد مريم كان لأمر خارق، فكان ذكر " الخلق " أنسب.
٢ - في قوله تعالى: ﴿قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون﴾ والسرّ في هذا التفريق هو أن خلق عيسى من غير أب إيجاد واختراع، من غير سبب عادي، فناسبه ذكر الخلق، وهناك الزوج والزوجة موجودان، ولكن وجود الشيخوخة والعقم مانع في العادة من وجود الولد، فناسبه ذكر الفعل والله أعلم..
إن قلتَ : ما الجمع بين قوله هنا " ثلاثة أيام " وقوله في مريم " ثلاث ليال " ؟
قلتُ : كل منهما مقيّد بالآخر، فلا بد من الجمع بينهما.
كرّر " اصطفاك " لأن الاصطفاء الأول للعبادة التي هي خدمة " بيت المقدس " وتخصيص مريم بقبولها في النّذر مع كونها أنثى، والاصطفاء الثاني لولادة عيسى.
إن قلتَ : كيف نفى وجود النبي صلى الله عليه وسلم في زمن مريم، مع أنه معلوم عندهم، وترك ما كانوا يتوهمونه من استماعه ذلك الخبر من حُفّاظه ؟
قلتُ : لأنهم يعلمون أنه صلى الله عليه وسلم أميّ لا يقرأ ولا يكتب، وإنما كانوا منكرين للوحي، فنفى الله الوجود الذي هو غاية الاستحالة، على وجه التهكّم بالمنكرين للوحي، مع علمهم أنه لا قراءة له ولا رواية.
فإن قلت : كيف قال " ابن مريم " والخطاب معها، وهي تعلم أن الولد الذي بُشّرت به يكون ابنها ؟
قلتُ : لأن الناس يُنسبون إلى الآباء، لا إلى الأمهات، فأُعلمت بنسبته إليها أنه يولد من غير أب، فلا ينسب إلا إلى أمه.
إن قلت : أي معجزة لعيسى عليه السلام في تكليمه الناس كهلا ؟
قلتُ : معناه تكلّمه في الحالتين بكلام الأنبياء، من غير تفاوت بين الطفولة والكهولة، التي يستحكم فيها العقل وتُنبّأ فيها الأنبياء.
وقال الزّجاج : هذا أُخرج مخرج البشارة لمريم، ببقاء " عيسى " إلى وقت الكهولة( ١ ).
قال هنا ﴿ ولد ﴾ وفي مريم " غلام ".
لأن ذكر المسيح تقدّم هنا وهو ولدها، وفي مريم تقدّم ذكر الغلام.
نسبة هذه الأفعال إلى عيسى، لكونه سببا فيها ومعنى " بإذن الله " بإرادته، وقال هنا " فأنفخ فيه " وفي المائدة ﴿ فتنفخ فيها ﴾ [ المائدة : ١١٠ ] بإعادة الضمير هنا إلى الطير أو الطين، وفي المائدة إلى هيئة الطّير، تفنّنا جريا على عادة العرب في تفنّنهم في الكلام. وخصّ ما هنا بتوحيد الضمير مذكرا، وما في المائدة بجمعه مؤنثا( ٢ ) ! !
قيل : لأن ما هنا إخبار من عيسى قبل الفعل فوحّده، وما في المائدة خطاب من الله له في القيامة، وقد سبق من عيسى الفعل مرّات فجمعه.
قوله تعالى :﴿ بإذن الله... ﴾ [ آل عمران : ٤٩ ].
ذُكر هنا مرتين بهذا اللفظ، وفي المائدة أربعا بلفظ " بإذني " ! ! لأنه هنا من كلام عيسى، وثم من كلام الله.
٢ - أراد قوله تعالى: ﴿فتنفخ فيها﴾ في المائدة بصيغة الجمع المؤنث، وفي آل عمران ﴿فأنفخ فيه﴾ بتوحيد الضمير مذكرا..
قال هنا ب " أنا " وفي المائدة( ١ ) ب " أننا " لأن ما فيها أول كلام الحواريين، فجاء على الأصل، وما هنا تكرار له بالمعنى، فناسب فيه التخفيف، لأن كلا من التخفيف والتكرار فرع، والفرع بالفرع أولى.
إن قلتَ : كيف قاله والله رفعه ولم يتوفّه ؟
قلتُ : لما هدّده اليهود بالقتل، بشّره بأنه لا يقبض روحه، إلا بالوفاة لا بالقتل، والواو لا تقتضي الترتيب. أو إني متوفّي نفسك بالنوم( ١ ) من قوله تعالى :﴿ الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها... ﴾ [ الزمر : ٤٢ ] ورافعك وأنت نائم لئلا تخاف، بل تستيقظ وأنت في السماء آمن مقرّب.
إن قلتَ : كيف قاله وآدم خلق من التراب، وعيسى من الهواء، وآدم خلق من غير أب وأم، وعيسى خلق من أم.
قلتُ : المراد تشبيه به في الوجود بغير أب، والتشبيه لا يقتضي المماثلة من جميع الوجوه.
إن قلتَ : لم خصّ أهل الكتاب بذلك، مع أن غيرهم منهم الأمين والخائن ؟
قلتُ : إنما خصّهم باعتبار واقعة الحال، إذ سبب نزول الآية أن " عبد الله بن سلام " أُودع ألفا ومائتي أوقية من الذهب، فأدّى الأمانة فيها، و " فنحاص بن عازوراء " أُودع دينارا فخانه. ولأن خيانة أهل الكتاب المسلمين، تكون عن استحلال( ١ ) بدليل آخر الآية، بخلاف خيانة المسلم المسلمَ.
إن قلتَ : كيف قال ذلك، مع أن أكثر الإنس والجن كفرة ؟
قلتُ : المراد بهذا الاستسلام والانقياد لما قدّره عليهم، من الحياة والموت، والمرض والصّحة، والشقاء والسعادة( ١ )، ونحوها.
إن قلتَ : كيف قال ذلك، مع أن المرتدّ وإن ازداد ارتداده مقبول التوبة ؟
قلتُ : الآية نزلت في قوم ارتدّوا، ثم أظهروا التوبة بالقول، لستر أحوالهم، والكفر في ضمائرهم( ١ ).
وإنما لم يذكر الواو هنا، لأن " تبغونها " وقع حالا، والواو لا تزاد مع الفعل إذا وقع حالا، كما في قوله تعالى :﴿ ولا تمنن تستكثر ﴾ [ المدثر : ٦ ].
إن قلتَ : كيف قال ذلك، ولم يقل : أنتم خير أمة ؟
قلتُ : لأن معناه : كنتم في سابق علم الله، أو في يوم أخذ الميثاق على الذرية.
فأعلم بذلك أن كونهم خير أمة، صفة أصلية فيهم، لا عارضة متجدّدة، أو معنى " كنتم " وُجدتم، بجعل " كان " تامّة.
قوله تعالى :﴿ ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم... ﴾ [ آل عمران : ١١٠ ].
إن قلتَ : كيف قال ذلك، مع أن غير الإيمان لا خير فيه، حتى يُقال إن الإيمان خير منه ؟
قلتُ : ليس " خير " هنا أفعل تفضيل، بل هو خير، أو هو أفعل تفضيل، وإيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم مع إيمانهم بموسى وعيسى، خير من إيمانهم بموسى وعيسى فقط.
وقال تعالى :﴿ ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك ﴾ [ النساء : ٧٩ ].
وقال تعالى :﴿ إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسّه الشر جزوعا ﴾ [ المعارج : ١٩-٢٠ ]
أ- لأنه ذكر في هذه " لكم " لتمام القصة قبلها، وتركها ثَمّ إيجازا أو اكتفاءً بذكره له قبل في قوله «فاستجاب لكم ».
ب- وقدّم " قلوبكم " على " به " هنا، وعكس في الأنفال ليزاوج بين الخطائين هنا في " لكم " و " قلوبكم ".
ج- وذكر هنا وصفي " العزيز " و " الحكيم " تابعين بقوله ﴿ العزيز الحكيم ﴾ [ آل عمران : ٦٢ ] وثَمّ ذكرهما في جملة مستأنفة بقوله ﴿ إن الله عزيز حكيم ﴾ [ البقرة : ٢٢٠ ] لأنه لمّا خاطبهم هنا، حسُن تعجيل بشارتهم بأنّ ناصرهم عزيز حكيم. ولأن ما هناك قصة " بدر " وهي سابقة على ما هنا، فإنها في قصة " أُحد " فأخبر هناك بأنه " عزيز حكيم " وجعل ذلك هنا صفة لأن الخبر قد سبق.
إن قلتَ : كيف قال ذلك وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :( العجلة من الشيطان، والتأني من الرحمن ) ؟ !
قلتُ : استُثني منه –بتقدير صحته- التوبة، وقضاء الدّين الحالِّ، وتزويج البكر البالغ، ودفن الميت، وإكرام الضيف.
قوله تعالى :﴿ ومن يغفر الذنوب إلا الله... ﴾ [ آل عمران : ١٣٥ ] أي يسترها.
فإن قلتَ : كيف قال ذلك، مع أنه قال :﴿ وإذا ما غضبوا هم يغفرون ﴾ [ الشورى : ٣٧ ] وقال :﴿ قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيّام الله ﴾ ؟ [ الجاثية : ١٤ ].
قلتُ : معناه ومن يغفر الذنوب من جميع الوجوه إلا الله ؟ وهذا لا يوجد من غيره.
ونظير الأول قوله في الحج " فنعم المولى " وإن كان العطف فيه بالفاء.
٢ - في قوله تعالى: ﴿وإن تولّوا فاعلموا أن الله مولاكم نعم المولى ونعم النّصير﴾ الأنفال: ٤٠..
إن قلتَ : كيف قال ذلك، وقد قال ﴿ ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة ﴾ [ الأنعام : ٩٤ ] ؟
قلتُ : معناه يأتي به مكتوبا في ديوانه، أو يأتي به حاملا إثمه( ١ ).
ومعنى " فُرادى " منفردين عن أهل، ومال، وشركاء، ينتصرون بهم.
فإن قلتَ : الضمير في " هم " يعود على الفريقين، وأهل النار لهم دركات لا درجات ؟
قلتُ : الدّرجات تُستعمل في الفريقين، قال تعالى :﴿ ولكل درجات مما عملوا ﴾( ٢ ) [ الأنعام : ١٣٢ ] وإن افترقتا عند المقابلة في قولهم : المؤمنون في درجات، والكفار في دركات.
قوله تعالى :﴿ سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق... ﴾ [ الحج : ١٠ ] قال ذلك مع أنهم كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وما قتلوا أنبياء قط، لكنهم لما رضوا بقتل أسلافهم أنبياءهم، نُسب الفعل إليهم.
٢ - قال تعالى: ﴿ذلك بما قدّمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد﴾ الحج: ١٠..
قوله تعالى :﴿ وأن الله ليس بظلام للعبيد ﴾.
فإن قلتَ : " ظلام " صيغة مبالغة من الظلم، ولا يلزم من نفيها نفيه، مع أنه منفيّ عنه قال تعالى :﴿ ولا يظلم ربك أحدا ﴾ ؟ [ الكهف : ٤٩ ].
قلتُ : صيغة المبالغة هنا لكثرة العبيد لا لكثرة الظلم، كما في قوله تعالى :﴿ محلّقين رؤوسهم ﴾ [ الفتح : ٢٧ ] إذ التشديد فيه لكثرة الفاعلين، لا لتكرار الفعل.
أو الصيغة هنا للنسبة، أي لا يُنسب إليه ظلم، فالمعنى ليس بذي ظلم.
والتقدير : فإن كذّبوك فتأسّ بمن كُذب من الرسل قبلك، فهو من إقامة السبب مقام المسبّب.
إن قلتَ : ما فائذة :﴿ ولا تكتمونه ﴾ بعد ﴿ لتبيّنه للناس ﴾ مع أنه معلوم منه ؟
قلتُ : فائدته التأكيد، أو المعنى لتبيننّه في الحال، ولا تكتمونه في المستقبل.
إن قلتَ : هذا يقتضي خزي كل من يدخلها، وقوله :«يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه » يقتضي انتفاء الخزي عن المؤمنين فلا يدخلون النار ؟
قلتُ : " أخزى " في الأول من " الخِِزْي " وهو الإذلال والإهانة، وفي الثاني من " الخِزاية " وهي النِّكال والفضيحة، وكلّ من يدخل النار يذلّ، وليس كلّ من يدخلها يُنكّل به.
فالمراد بالخزي في الأول الخلود... وفي الثاني تحلّة القسم. أو التطهير بقدر ذنوب الداخل.
إن قلتَ : المسموع النّداء لا المنادي ؟
قلتُ : لما قال ﴿ مناديا ينادي ﴾ صار معناه : نداء مناد، كما يقال : سمعت زيدا يقول كذا، أي سمعت قوله، فمناديا مفعول سمع، و " ينادي " حال دالّة على محذوف مضاف للمفعول.
قوله تعالى :﴿ ربّنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفّر عنا سيئاتنا وتوفّنا مع الأبرار ﴾ [ آل عمران : ١٩٣ ].
فإن قلتَ : كيف قال الثاني مع أنه معلوم من الأول ؟
قلتُ : المعنى مختلف، لأن الغفران مجرّد فضل، والتكفير محو السيئات بالحسنات.
فإن قلتَ : ما فائدة الدّعاء، مع علمهم أن الله لا يخلف الميعاد ؟
قلتُ : فائدته العبادة، لأن الدّعاء عبادة، مع أن الوعد من الله للمؤمنين عام، يجوز أن يراد به الخصوص، فسألوا الله أن يجعلهم ممن أرادهم بالوعد.
والقصد بذلك النهي عن الاغترار بالتقلّب، ففي ذكر الغرور تنزيل السبب منزلة المسبّب، والمنع عن السبب –وهو غرور تقلّبهم له- منع للمسبّب وهو الاغترار بتقلبهم.
والمراد بتقلبهم : تصرّفهم في التجارات، والأموال، والانتقال بها في البلاد متنعّمين، والفقير إنما يتألم وينكسر قلبُه، إذا رأى الغنيّ يتقلّب ويتمتع بها، فلذلك ذكر التقلب.