تفسير سورة سورة المدثر من كتاب أوضح التفاسير
المعروف بـأوضح التفاسير
.
لمؤلفه
محمد عبد اللطيف الخطيب
.
المتوفي سنة 1402 هـ
ﰡ
﴿يأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ﴾ المتلفف في ثيابه. قيل: إنها أول سورة أنزلت على الرسول: رأى الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه - في أول الأمر - جبريل عليه الصلاة والسلام على هيئته وصورته التي خلقه الله تعالى عليها: فرعب رعباً شديداً، وذهب إلى أم المؤمنين خديجة رضي الله تعالى عنها. وقال: دثروني، دثروني؛ فدثرته خديجة. فنزلت: «يا أيها المدثر»
﴿قُمْ فَأَنذِرْ﴾ قم من نومك فحذر قومك من عذاب الله تعالى (انظر آية صلى الله عليه وسلّم من سورة المزمل)
﴿وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ﴾ أي فعظم؛ وقد يحمل الأمر على تكبير الصلاة
﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾ أي طهر ذاتك ونفسك مما يستقذر من الأفعال. يقال: فلان طاهر الثياب؛ إذا كان نقياً من المعايب، سالماً من النقائص. أو ثيابك فقصر: لتطهر من عادة الكبر؛ كشأن سادات العرب وكبرائها - في الجاهلية من جر الثياب كبراً وبطراً. أو المراد ظاهر اللفظ: فطهرها بالماء من النجاساة
﴿وَالرُّجْزَ﴾ القذر، أو أريد به الأصنام «والرجز» والرجس: كل مستقذر يجر إلى العذاب والعقاب
﴿وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ﴾ أي لا تعط رغبة في رد ما تعطيه مضاعفاً. وهو أمر مشاهد في زمننا الحاضر؛ فكم قد رأينا من يهدي البيضة منتظراً للدجاجة، ومن يهدي الدجاجة منتظراً للشاة، ومن يعطي رغبة في الذكر والثناء العريض. وقد يكون المعنى: لا تعط العطاء وتستكثره (انظر آية ٣٩ من سورة الروم)
﴿وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ﴾ أي لوجه الله تعالى اصبر على أداء الفرائض، وعلى أذى المشركين وكيدهم لك
﴿فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ﴾ نفخ في الصور
﴿فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ﴾ شديد
﴿عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ بك، المعاندين لك
-[٧١٩]- ﴿غَيْرُ يَسِيرٍ﴾ لما ينتابهم فيه من الرعب القائم، يتلوه العذاب الدائم
﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً﴾ أي دعه لي وحدي فإني أكفيكه، وأنتقم لك منه؛ وهو الوليدبن المغيرة. أو ذرني ومن خلقته وحدي بلا معين؛ فلا أحتاج إلى معين في إهلاكه، أو ذرني ومن خلقته وحيداً؛ بلا مال، ولا ولد
﴿وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً﴾
كثيراً وفيراً
﴿وَبَنِينَ شُهُوداً﴾ حضوراً معه - يتمتع بقربهم ومشاهدتهم، ويتمتعون بقربه ومشاهدته - وذلك لاستغنائه واستغنائهم عن التجارة ومشاق السفر
﴿وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً﴾ أي بسطت له الجاه والرياسة
﴿ثُمَّ يَطْمَعُ﴾ بعد كفره ومزيد إنعامنا عليه ﴿أَنْ أَزِيدَ﴾ أي يرجو أن أزيد في ماله وولده؛ من غير شكر لما تقدم من إنعامنا
﴿كَلاَّ﴾ لن أزيده، ولن أجمع له بين الكفر والمزيد من النعم ﴿إِنَّهُ كان لآيَاتِنَا عَنِيداً﴾ أي كان للقرآن جاحداً معانداً
﴿سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً﴾ الإرهاق: حمل ما لا يطاق. أي سأجعل له مكان ما يطمع فيه من الزيادة عقبة شاقة المصعد. وهو مثل لما يلقى من العذاب الصعب الأليم
﴿إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ﴾ أي فكر في تكذيب القرآن ومنزله وقدر ما يقوله من الإفك، ونسبة الرسول عليه الصلاة والسلام للسحر والجنون
﴿فَقُتِلَ﴾ لعن وطرد من رحمة الله تعالى ﴿كَيْفَ قَدَّرَ﴾ تعجيب من تدبيره وتقديره؛ حيث بلغ غاية الكفر؛ وهو تكذيب الرسول، والطعن فيما جاء به
﴿ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ﴾ تكراراً لتأكيد لعنه
﴿ثُمَّ نَظَرَ﴾ تفكر في أمر القرآن
﴿ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ﴾ قطب وجهه، وزاد في التقبض والكلوح
﴿أَدْبَرَ﴾ عن الحق والإيمان ﴿وَاسْتَكْبَرَ﴾ عن اتباع النبي
﴿فَقَالَ﴾ عن القرآن ﴿إِنْ هَذَآ﴾ ما هذا ﴿إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ﴾ يروى عن السحرة
﴿إِنْ هَذَآ﴾ ما هذا القرآن ﴿إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ﴾ قاله محمد، أو تعلمه ممن قاله. قال تعالى رداً على قوله وكفره
﴿سَأُصْلِيهِ﴾ سأدخله ﴿سَقَرَ﴾ هو علم لجهنم
﴿وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ﴾ تهويل لشأنها
﴿لاَ تُبْقِي وَلاَ تَذَرُ﴾ لا تدع شيئاً ألقي فيها إلا أحرقته
﴿لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ﴾ البشر: جمع بشرة؛ وهي ظاهر جلد الإنسان. أي محرقة للجلود، مسودة لها. والمراد بذلك تبيين أنها لا تهلكهم فيستريحوا
﴿عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ﴾ ملكاً؛ يلون أمرها
﴿وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَابَ النَّارِ﴾ خزنتها ﴿إِلاَّ مَلاَئِكَةً﴾ لأنهم في قواهم واستعدادهم خلاف البشر و ﴿لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ وقد أمرهم المنتقم الجبار بألا تأخذهم رأفة، ولا رحمة بمن عصى الله تعالى ﴿وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ﴾ بتسعة عشر ﴿إِلاَّ فِتْنَةً﴾ أي ابتلاء واختباراً (انظر آية صلى الله عليه وسلّم من سورة الفاتحة) ﴿لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ﴾ أن هذا القرآن منزل من عند الله تعالى؛ لأن هذا العدد موجود في كتبهم ﴿إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى * صُحُفِ
-[٧٢٠]- إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى﴾ ﴿وَلاَ يَرْتَابَ﴾ لا يشك ﴿وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ﴾ شك؛ وهم المنافقون ﴿مَاذَآ أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً﴾ أي أي شيء أراده الله بهذا العدد؟ ﴿وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ﴾ وعددهم، ومبلغ قوتهم ﴿وَمَا هِيَ﴾ أي وما جهنم وذكرها ووصفها ﴿إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ﴾ عبرة وعظة
﴿كَلاَّ وَالْقَمَرِ﴾ أقسم تعالى بالقمر؛ لما فيه من النفع العميم. فبه تنضج المزروعات، وبه يحدث المد والجزء في البحار؛ وبهذا المد والجزر - الذي يحدث كل يوم وليلة - تتنفس الأرض؛ لأن المياه للأرض كالرئة، والهواء كالنفس؛ فإذا ما حدث الجزر - وهو انحسار الماء عن شواطىء البحار، وارتفاعه في وسطها - كان ذلك بمثابة الزفير. وإذا حصل المد - وهو رجعة المياه إلى الشواطىء، وعودتها إلى مستواها السابق - كان ذلك بمثابة الشهيق؛ وبذلك يتم في الكون والكائنات ما أراده لهما مبدعهما؛ من نمو، ونضج، ومعيشة؛ ﴿صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾
{وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ *
وَالصُّبْحِ إِذَآ أَسْفَرَ} أي أضاء. أقسم تعالى أيضاً بإدبار الليل، وإسفار الصبح؛ لأن فيهما وقت صلاة الفجر؛ وفي هذا الوقت ما فيه من التجليات؛ قال تعالى: ﴿إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً﴾
﴿إِنَّهَا لإِحْدَى الْكُبَرِ﴾ أي إن سقر لإحدى البلايا والدواهي الكبير
﴿لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ﴾ لفعل الخير ﴿﴾ عنه
﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ﴾ من شر ﴿رَهِينَةٌ﴾ أي كل نفس مذنبة مرهونة بذنبها؛ فلا يفك رهنها حتى تؤدي ما عليها من العقوبات. ومنها ما يحبس في النار أبد الآبدين، ودهر الداهرين
﴿إِلاَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ﴾ إلا المسلمين؛ الذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون؛ فإنهم
﴿فِي جَنَّاتٍ يَتَسَآءَلُونَ﴾ فيما بينهم
﴿عَنِ الْمُجْرِمِينَ﴾ قائلين لهم ما الذي أدخلكم فيها، وجعلكم من سكانها؟
﴿قَالُواْ﴾ لأنا ﴿لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ﴾ أي لم نك في زمرة المؤمنين بربهم، المصلين له
﴿وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ﴾ كما كانوا يطعمون
﴿وَكُنَّا نَخُوضُ﴾ في الباطل
﴿وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ﴾ يوم الجزاء؛ وهو يوم القيامة
﴿حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ﴾ الموت، أو القيامة التي كنا نكذب بها
﴿فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ﴾ عن تذكرة الله تعالى لهم بهذا القرآن لا يستمعون لها؛ فيتعظون بها. وهم في إعراضهم وتوليهم وانصرافهم عن الحق
﴿كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ﴾ وهي الحمر الوحشية، الغير المستأنسة: التي تجمح وتنفر
﴿فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ﴾ أي فرت من الأسد، أو فرت من الرامي للسهام. وقد كانوا يسمونه «قسورة» أو هو القانص. شبه تعالى انصرافهم عن الإيمان، وإدبارهم عن الهدى: بالحمر المستنفرة؛ إذا رأت أسداً مفترساً، أو صائداً مقتنصاً
﴿بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِىءٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً﴾ أي يريد كل واحد منهم أن يكون
-[٧٢١]- نبياً، ويؤتى صحفاً تنشر وتقرأ على الناس؛ كصحف الأنبياء. أو يريد كل واحد منهم أن ينزل له كتاباً خاصاً؛ يراه نازلاً من السماء باسمه
﴿كَلاَّ﴾ لن يكون ما يريدون ﴿إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ﴾ أي إن القرآن تذكرة بليغة كافية للجميع
﴿فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ﴾ أي من شاء: ذكر القرآن واتعظ به
﴿وَمَا يَذْكُرُونَ﴾ هذا القرآن، ويتعظون بما فيه
﴿إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ﴾ ذلك التذكر، وهذا الاتعاظ. ولن يشاء الله ذلك: إلا إذا التزم الإنسان طاعته، واجتنب عصيانه، واتقاه حق تقاته
﴿هُوَ﴾ جل شأنه
﴿أَهْلُ التَّقْوَى﴾ أهل لأن يتقى؛ لأنه القوي الجليل
﴿وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ﴾ أهل لأن يغفر لمن أطاعه واتقاه؛ لأنه الغفور البر الرحيم
721
سورة القيامة
بسم الله الرحمن الرحيم
721