ﰡ
وورث يتعدّى بنفسه وم " من " وقد جُمع بينهما في الآية، وقيل :«من " للتبعيض لا للتعدية، لأن آل يعقوب لم يكونوا كلهم أنبياء ولا علماء، وعلى الأول المراد من «من آل يعقوب » الأنبياء، لأنهم الذين لا يورّثون إلا العلم والنبوّة.
إن قلتَ : كيف استبعد زكريا ذلك وأنكره ؟
قلتُ : لم يفعله إنكارا، بل ليُجاب بما أُجيب به عن طلبه الولد، وهو قوله تعالى :﴿ يا زكريا إنّا نبشرك بغلام اسمه يحيى ﴾ [ مريم : ٧ ] فيزداد الموقنون إيقانا، ويرتدع المبطلون.
أو قاله : تعجّب فرح وسرور، لا تعجّب إنكار واستبعاد، ويعقوب المذكور هو أبو " يوسف " ( ١ ) وقيل : هو أخو زكريا، وقيل : هو أخو عمران أبي مريم عليه السلام.
فإن قلتَ : كيف طلب العلامة على وجود الولد، بعدما بشّره الله تعالى ؟
قلتُ : ليبادر إلى الشكر، ويتعجل السرور، إذ الحمل لا يظهر في أول العُلُوقِ، فأراد معرفته أوّل وجوده، فجعل الله آية وجوده، عجزه عن كلام الناس.
قال ذلك هنا، وقال بعده ﴿ ولم يجعلني جبّارا شقيّا ﴾ [ مريم : ٣٢ ] لأن الأول في حق " يحيى " والثاني في حقّ " عيسى " عليهما السلام.
قاله هنا : في قصّة " يحيى " منكَّرا، وقال بعدُ في قصة " عيسى " :﴿ والسلام عليّ يوم ولدت ﴾ [ مريم : ٣٣ ] معرَّفا، لأن الأول من الله، والقليل منه كثير، والثاني من عيسى و " أل " للاستغراق، أو للعهد كما في قوله تعالى :﴿ كما أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصى فرعون الرسول ﴾ [ المزمل : ١٥، ١٦ ] أي ذلك السلام الموجّه إلى يحيى موجّه إليّ.
فإن قلتَ : كيف قال ذلك، مع اتفاق العلماء على أن الوحي لم ينزل على امرأة، ولهذا قالوا في قوله :﴿ وأوحينا إلى أمّ موسى ﴾ [ القصص : ٧ ] أنه وحي إلهام، وقيل : وحي منام.
قلتُ : لا نسلّم أن الوحي لم ينزّل على امرأة، فقد قال مقاتل في قوله تعالى :﴿ وأوحينا إلى أم موسى ﴾ أنه كان وحيا بواسطة جبريل، والمتّفق عليه( ١ ) إنما هو وحي الرسالة، لا مطلق الوحي، والوحي هنا إنما هو ببشارة الولد لا بالرسالة.
إن قلتَ : كيف قالت مريم ذلك، مع أنه إنما يُتعوّذ من الفاسق لا من التقيّ ؟
قلتُ : معناه إن كنت ممن يتّقي الله، فأنت تنتهي عني بتعوذي بالله منك.
وقيل : ظنّته رجلا اسمه " تقيّ " –وكان فاجرا- فتعوّذت منه( ١ ).
أو هو : " فعيل " بمعنى فاعل، فتركوا التاء فيه كما في قوله تعالى :﴿ إن رحمت الله قريب من المحسنين... ﴾ [ الأعراف : ٥٦ ] أو لموافقة الفواصل.
إن قلتَ : كيف أُمر بذلك مع أنه كان طفلا، وخطاب التكليف إنما يكون بعد البلوغ والتمييز ؟
قلتُ : ذلك لا يدلّ على أنه أوصاه بأداء ذلك في الحال، بل أوصاه في الحال بالأداء بعد البلوغ والتمييز، أو أن الله صيّره عقب ولادته بالغا مميّزا، بدليل قوله تعالى :﴿ إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم ﴾ [ آل عمران : ٥٩ ] فكما أنه تعالى خلق آدم تاما كاملا دفعة، فكذا القول في " عيسى " عليهما السلام، وهو أقرب إلى ظاهر قوله :﴿ ما دمت حيّا ﴾ [ مريم : ٣١ ]، فما أوصاه بذلك إلا بعد بلوغه وتمييزه.
فإن قلتَ : الزكاة إنما تجب على الأغنياء، وعيسى لم يزل فقيرا، لابسا كساء مدة مكثه في الأرض، مع علمه تعالى بحاله، فكيف أوصاه بها ؟ !
قلتُ : المراد بالزكاة هنا تزكية النفس وتطهيرها من المعاصي، لا زكاة المال( ١ ).
قال ذلك هنا، وقال في الزخرف ﴿ إن الله هو ربي وربكم ﴾ [ الزخرف : ٦٤ ] بزيادة " هو " لأنه تعالى ذكر قصة عيسى عليه السلام هنا مستوفاة، فأغنى ذلك على التأكيد، بخلافه ثَمَّ، ولذلك قال هنا :﴿ فويل للذين كفروا ﴾ [ مريم : ٣٧ ] وفي الزخرف ﴿ فويل للذين ظلموا ﴾ [ الزخرف : ٦٥ ] إذ الكفر أشدّ قبحا من الظلم، فكان وصف من ذُكر بالكفر، في المحلّ الذي استوفى فيه قصة عيسى، أنسب بالمحلّ الذي أُجمل فيه قصّته.
وقال هنا :﴿ أسمع بهم وأبصر ﴾ [ مريم : ٣٨ ] وعكس في الكهف( ١ )، لأن معناه هنا أنه تعالى ذكر قصص الأنبياء، فاسمعها وتدبّرها، واستعمل النظر فيها ببصيرتك، ومعناه في الكهف أنه تعالى له غيب السموات والأرض، فاجعل بصيرتك في الفكر في مخلوقاته، وتدبّرها بحيث تصل إلى معرفته، واسمع لصفاته ووحِّده، فناسب تقديم السمع هنا، والبصر ثَمَّ.
إن قلتَ : الاستغفار للكافر حرام، فكيف وعد إبراهيم عليه السلام أباه، بالاستغفار له مع أنه كافر ؟
قلتُ : معناه سأسأل الله لك توبة، تنال بها مغفرته يعني الإسلام، والاستغفار بهذا الوجه جائز، كأن يقول : اللهم وفِّقه للإسلام، أو تب عليه واهده، أو أنه وعده ذلك قبل تحريم الاستغفار( ١ ).
أي الذي يلي يمين موسى، حين أقبل من مدين.
إن قلتَ : هارون كان أكبر من موسى، فما معنى هبته له ؟
قلتُ : معناه أن الله تعالى أنعم على موسى عليه السلام، بإجابته دعوته فيه، حيث قال :﴿ واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي ﴾ [ الآية [ طه : ٢٩، ٣٠ ]، فمعنى هبته له، جعله عضدا له، وناصرا ومعينا.
قاله هنا : وقال في الفرقان ﴿ وعمل عملا صالحا ﴾ [ الفرقان : ٧٠ ] لأنه تعالى أوجز هنا في ذكر المعاصي، فأوجز في التوبة، وأطال ثم فأطال.
إن قلتَ : ما فائدة ذكر العدّ بعد الإحصاء، مع أن الإحصاء هو العدوّ أو الحصر، والحصر لا يكون إلا بعد معرفة العدد ؟
قلتُ : له معنى ثالث، وهو العلم كقوله تعالى :﴿ وأحصى كل شيء عددا ﴾ [ الجن : ٢٨ ] أي علم عدد كل شيء، فالمعنى هنا : لقد علمهم، وعدّهم عدّا.