تفسير سورة الحاقة

مختصر تفسير ابن كثير
تفسير سورة سورة الحاقة من كتاب تيسير العلي القدير لاختصار تفسير ابن كثير المعروف بـمختصر تفسير ابن كثير .
لمؤلفه محمد نسيب الرفاعي . المتوفي سنة 1412 هـ

﴿ الحاقة ﴾ من أسماء يوم القيامة، لأن فيها يتحقق الوعد والوعيد، ولهذا عظمَّ الله أمرها فقال ﴿ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الحاقة ﴾، ثم ذكر تعالى أهلاكه الأمم المكذبين بها فقال تعالى :﴿ فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بالطاغية ﴾ وهي الصيحة التي أسكتتهم والزلزلة التي أسكنتهم، هكذا قال قتادة :﴿ الطاغية ﴾ الصيحة، وهو اختيار ابن جرير وقال مجاهد :﴿ الطاغية ﴾ الذنوب، وكذا قال ابن زيد إنها الطغيان، وقرأ :﴿ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَآ ﴾ [ الشمس : ١١ ]، ﴿ وَأَمَا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ ﴾ أي باردة، قال قتادة والسدي :﴿ عَاتِيَةٍ ﴾ أي شديدة الهبوب، عتت عليهم حتى نقبت عن أفئدتهم، وقال الضحّاك :﴿ صَرْصَرٍ ﴾ باردة ﴿ عَاتِيَةٍ ﴾ عتت عليهم بغير رحمة ولا بركة، وقال علي : عتت على الخزنة فخرجت بغير حساب، ﴿ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ ﴾ أي سلطها عليهم، ﴿ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً ﴾ أي كوامل متتابعات مشائيم، قال ابن مسعود :﴿ حُسُوماً ﴾ متتابعات، وعن عكرمة والربيع : مشائيم عليهم كقوله تعالى :﴿ في أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ ﴾ [ فصلت : ١٦ ] ويقال : إنها التي تسميها الناس الأعجاز، وكأن الناس أخذوا ذلك من قوله تعالى :﴿ فَتَرَى القوم فِيهَا صرعى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ ﴾. وقيل : لأنها تكون في عحجز الشتاء، قال ابن عباس :﴿ خَاوِيَةٍ ﴾ خربة، وقال غيره : بالية، أي جعلت الريح تضرب بأحدهم الأرض فيخرّ ميتاً على أُمّ رَأسه، فينشدخ رأسه، وتبقى جثته هامدة، كأنها قائمة النخلة إذا خرت بلا إغصان، وقد ثبت عن رسول الله ﷺ أنه قال :« نصرت بالصَّبا وأهلك عاد بالدَّبور » وعن ابن عمر قال : قال رسول الله ﷺ :« ما فتح الله على عاد من الريح التي هلكوا بها إلا مثل موضع الخاتم، فمرت أهل البادية فحملتهم ومواشيهم وأموالهم فجعلتهم بين السماء والأرض، فلما رأى ذلك أهل الحاضرة من عادٍ، الريحَ وما فيها قالوا : هذا عارض ممطرنا، فألقت أهل البادية، ومواشيهم على أهل الحاضرة » ﴿ فَهَلْ ترى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ ﴾ ؟ أي هل تحس منهم من أحد من بقاياهم أو ممن ينتسب إليهم؟ بل بادوا عن آخرهم، ولم يجعل الله لهم خلفاً، ثم قال تعالى :﴿ وَجَآءَ فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ ﴾ أي ومن قبله من الأمم المشبهين له، وقوله تعالى :﴿ والمؤتفكات ﴾ وهم الأمم المكذبون بالرسل، ﴿ بِالْخَاطِئَةِ ﴾ وهي التكذيب بما أنزل الله، قال الربيع ﴿ بِالْخَاطِئَةِ ﴾ أي بالمعصية، وقال مجاهد : بالخطايا، ولهذا قال تعالى :﴿ فَعَصَوْاْ رَسُولَ رَبِّهِمْ ﴾ أي كل كذب رسول الله إليهم كما قال تعالى :﴿ إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرسل ﴾ [ ص : ١٤ ] ﴿ كَذَّبَ الرسل فَحَقَّ وَعِيدِ ﴾ [ ق : ١٤ ]، ومن كذب برسول فقد كذب بالجميع، كما قال تعالى :﴿ كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ المرسلين ﴾ [ الشعراء : ١٠٥ ]، ﴿ كَذَّبَتْ عَادٌ المرسلين ﴾ [ الشعراء : ١٢٣ ] وإنما جاء إلى كل أمّة رسول واحد، ولهذا قال هاهنا :﴿ فَعَصَوْاْ رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً ﴾ أي عظيمة شديدة أليمة، قال مجاهد ﴿ رَّابِيَةً ﴾ : شديدة، وقال السدي : مهلكة.
2601
ثم قال تعالى :﴿ إِنَّا لَمَّا طَغَا المآء ﴾ أي ازداد على الحد، وقال ابن عباس :﴿ طَغَا المآء ﴾ كثر، وذلك بسبب دعوة نوح عليه السلام، فاستجاب الله له، وعمَّ أهل الأرض بالطوفان إلا من كان مع نوح في السفينة، فالناس كلهم من سلالة نوح وذريته، قال علي بن أبي طالب : لم تنزل قطرة من ماء إلا بكيل على يدي ملك، فلما كان يوم نوح أذن للماء دون الخزان، فطغى الماء على الخزان، فخرج، فذلك قوله تعالى :﴿ إِنَّا لَمَّا طَغَا المآء ﴾ أي زاد على الحد بإذن الله، ﴿ حَمَلْنَاكُمْ فِي الجارية ﴾ ولم ينزل شيء من الريح إلا بكيل على يدي ملك إلا يوم عاد فإنه أذن لها دون الخزان فخرجت، فذلك قوله تعالى :﴿ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ ﴾، ولهذا قال تعالى ممتناً على الناس ﴿ حَمَلْنَاكُمْ فِي الجارية ﴾ وهي السفينة الجارية على وجه الماء، ﴿ لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً ﴾ أي وأبقينا لكم من جنسها ما تركبون على تيار الماء في البحار، كما قال :﴿ وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الفلك والأنعام مَا تَرْكَبُونَ ﴾ [ الزخرف : ١٢ ] وقال تعالى :﴿ وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الفلك المشحون * وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ ﴾ [ يس : ٤١-٤٢ ] وقال قتادة : أبقى الله السفينة حتى أدركها أوائل هذه الأمة، والأول أظهر، ولهذا قال تعالى :﴿ وَتَعِيَهَآ أُذُنٌ وَاعِيَةٌ ﴾ أي وتفهم هذه النعمة وتذكرها أذن واعية، قال ابن عباس : حافظة سامعة، وقال قتادة :﴿ أُذُنٌ وَاعِيَةٌ ﴾ عقلت عن الله فانتفعت بما سمعت من كتاب الله. وقال الضحّاك :﴿ وَتَعِيَهَآ أُذُنٌ وَاعِيَةٌ ﴾ سمعتها أذن ووعت، أي من له سمع صحيح وعقل رجيح، وهذا عام في كل من فهم ووعي.
2602
يقول تعالى مخبراً عن أهوال يوم القيامة، وأول ذلك ( نفخة الفزع )، ثم يعقبها ( نفخة الصعق ) حيث يصعق من في السماوات ومن في الأرض، إلا من شاء الله، ثم بعدها ( نخفة القيامة )، لرب العالمين، وقد أكدها ههنا بأنها واحدة لأن أمر الله لا يخالف ولا يمانع، ولا يحتاج إلى تكرار ولا تأكيد، قال الربيع : هي النخفة الأخيرة، والظاهر ما قلناه، ولهذا قال هاهنا :﴿ وَحُمِلَتِ الأرض والجبال فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً ﴾ أي فمدت مد الأديم، وتبدلت الأرض غيرا لأرض، ﴿ فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الواقعة ﴾ أي قامت القيامة، ﴿ وانشقت السمآء فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ ﴾. عن علي قال : تنشق السماء من المجرة، وقال ابن جريج : هي كقوله :﴿ وَفُتِحَتِ السمآء فَكَانَتْ أَبْوَاباً ﴾ [ النبأ : ١٩ ]، ﴿ والملك على أَرْجَآئِهَآ ﴾ الملك اسم جنس أي الملائكةن علىأرجاء السماء : أي حافاتها، وقال الضحّاك : أطرافها، وقال الحسن البصري : أبوابها، وقال الربيع بن أنَس في قوله :﴿ والملك على أَرْجَآئِهَآ ﴾ يقول : على ما استدق من السماء ينظرون إلى أهل الأرض، وقوله تعالى :﴿ وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ ﴾ أي يوم القيامة يحمل العرش ثمانية من الملائكة، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله ﷺ قال :« أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله تعالى من حملة العرش أن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام » وعن سعيد بن جبير في قوله تعالى :﴿ وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ ﴾ قال : ثمانية صفوف من الملائكة. وقوله تعالى :﴿ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تخفى مِنكُمْ خَافِيَةٌ ﴾ أي تعرضون على عالم السر والنجوى، الذي لا يخفى عليه شيء من أموركم، بل هو عالم بالظواهر والسرائر والضمائر، ولهذا قال تعالى :﴿ لاَ تخفى مِنكُمْ خَافِيَةٌ ﴾، وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل توزنوا، فإنه أخف عليكم من الحساب غداً، وتزينوا للعرض الأكبر ﴿ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تخفى مِنكُمْ خَافِيَةٌ ﴾، وروى الإمام أحمد، عن أبي موسى قال : قال رسول الله ﷺ :« يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات : فأما عرضتان فجدال ومعاذير، وأما الثالثة فعند ذلك تطير الصحف في الأيدي فآخذ بيمينه وآخذ بشماله ».
يخبر تعالى عن سعادة من يؤتى كتابه يوم القيامة بيمينه، وفرحة بذلك وأنه من شدة فرحه يقول لكل من لقيه :﴿ هَآؤُمُ اقرؤا كِتَابيَهْ ﴾ أي خذوا اقرأوا كتابيه، لأنه يعلم أن الذي فيه خير وحسنات محضة، لأنه ممن بدل الله سيئاته حسنات، وعن عبد الله بن عبد الله بن حنظلة ( غسيل الملائكة ) قال : إن الله يوقف عبده يوم القيامة فيبدي أي يظهر سيئاته في ظهر صحيفته، فيقول له : أنت عملت هذا فيقول : نعم أي رب، فيقول له : إني لم أفضحك به وإني قد غفرت، فيقول عند ذلك :﴿ هَآؤُمُ اقرؤا كِتَابيَهْ ﴾، ﴿ إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ ﴾ حين نجا من فضيحته يوم القيامة، وقد تقدم في الصحيح حديث ابن عمر حين سئل عن النجوى فقال : سمعت رسول الله صل الله عليه وسلم يقول :« يدني الله العبد يوم القيامة فيقرره بذنوبه كلها، حتى إذا رأى أنه قد هلك، قال الله تعالى : إني سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، ثم يعطى كتاب حسناته بيمينه، وأما الكافر والمنافق فيقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين »، وقوله تعالى :﴿ إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ ﴾ أي قد كنت موقناً في الدنيا، أن هذا اليوم كائن لا محالة، كما قال تعالى :﴿ الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم ملاقوا رَبِّهِمْ ﴾ [ البقرة : ٤٦ ]، قال تعالى :﴿ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ ﴾ أي مرضية، ﴿ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ ﴾ أي رفيعة قصورها، حسان حورها، نعمية دُورها، دائم حبورها، روى ابن أبي حاتم، عن أبي أمامة قال :« سأل رجل رسول الله ﷺ : هل يتزاور أهل الجنة؟ قال :» نعم. إنه ليهبط أهل الدرجة العليا إلى أهل الدرجة السفلى فيحيونهم ويسلمون عليهم ولا يستطيع أهل الدرجة السفلى يصعدون إلى الأعلين تقصر بهم أعمالهم « »، وقد ثبت في الصحيح :« أن الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض » وقوله تعالى :﴿ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ ﴾ قال البراء بن عازب : أي قريبة يتناولها أحدهم وهو نائم على سريره، وكذا قال غير واحد، روى الطبراني، عن سلمان الفارسي قال : قال رسول الله ﷺ :« لا يدخل أحد الجنة إلا بجواز : بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من الله لفلان بن فلان أدخلوه جنة عالية قطوفها دانية » ؛ وفي رواية :« يعطى المؤمن جوازاً على الصراط : بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من الله العزيز الحكيم لفلان : أدخلوه جنة عالية قطوفها دانية »، وقوله تعالى :﴿ كُلُواْ واشربوا هَنِيئَاً بِمَآ أَسْلَفْتُمْ فِي الأيام الخالية ﴾ أي يقال لهم ذلك تفضلاً عليهم وامتناناً، وانعاماً وإحساناً، وإلا فقد ثبت في الصحيح عن رسول الله ﷺ أنه قال :« » اعملوا وسددوا وقاربوا واعلموا أن أحداً منكم لن يدخله عمله الجنة « قالوا : ولا أنت يا رسول الله؟ قال :» ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل « ».
وهذا إخبار عن حال الأشقياء إذا أعطي أحدهم كتابه في العرصات بشماله فحينئذٍ يندم غاية الندم، ﴿ فَيَقُولُ ياليتني لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * ياليتها كَانَتِ القاضية ﴾ قال الضحّاك : يعني موتة لا حياة بعدها، وقال قتادة : تمنّى الموت ولم يكن شيء في الدنيا أكره إليه منه، ﴿ مَآ أغنى عَنِّي مَالِيَهْ * هَّلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ ﴾ أي لم يدفع عني مالي ولا جاهي عذاب الله وبأسه، بل خلص الأمر إليّ وحدي؛ فلا معين لي ولا مجير فعندها يقول الله عزَّ وجلَّ :﴿ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الجحيم صَلُّوهُ ﴾ أي يأمر الزبانية أن تأخذه عنفاً من المحشر فتغله، أي تضع الأغلال في عنقه، ثم تورده إلى جهنم فتصليه إيّاها، أي تغمره فيها. عن المنهال بن عمرو قال : إذا قال الله تعالى : خذوه، ابتدره سبعون ألف ملك، إن الملك منهم ليقول : هكذا، فيلقى سبعين ألفاً في النار، وقال الفضيل بن عياض إذا قال الرب عزَّ وجلَّ ﴿ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ﴾ ابتدره سبعون ألف ملك أيهم يجعل الغل في عنقه، ﴿ ثُمَّ الجحيم صَلُّوهُ ﴾ أي أغمروه فيها، وقوله تعالى :﴿ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ ﴾ قال كعب الأحبار : كل حلقة منها قدر حديد الدنيا، وقال ابن عباس : بذراع الملك، وقال العوفي عن ابن عباس : يسلك في دبره حتى يخرج من منخريه حتى لا يقوم على رجليه، روى الإمام أحمد، عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله ﷺ :« لو أن رضاضة مثل هذه - وأشار إلى جمجمة - أرسلت من السماء إلى الأرض وهي مسيرة خمسمائة سنة لبلغت الأرض قبل الليل، ولو أنها أرسلت من رأس السلسلة لسارت أربعين خريفاً الليل والنهار قبل أن تبلغ قعرها وأصلها » وقوله تعالى :﴿ إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بالله العظيم * وَلاَ يَحُضُّ على طَعَامِ المسكين ﴾ أي لا يقوم بحق الله عليه من طاعته وعبادته، ولا ينفع خلقه ويؤدي حقهم، فإن لله على العباد أن يوحدوه ولا يشركوا به شيئاً، وللعباد بعضهم على بعض حق الإحسان والمعاونة على البر والتقوى، ولهذا أمر الله بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وقبض النبي ﷺ وهو يقول :« الصلاة، وما ملكت أيمانكم »، وقوله تعالى :﴿ فَلَيْسَ لَهُ اليوم هَا هُنَا حَمِيمٌ * وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ * لاَّ يَأْكُلُهُ إِلاَّ الخاطئون ﴾ أي ليس له اليوم من ينقذه من عذاب الله تعالى؛ لا ﴿ حَمِيمٌ ﴾ وهو القريب، ولا ﴿ شَفِيعٍ ﴾ يطاع، ولا طعام له هاهنا ﴿ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ ﴾ قال قتادة : هو شر طعام أهل النار، وقال الضحّاك : هو شجرة في جهنم، وقال ابن عباس : ما أدري ما الغسلين؟ ولكني أظنه الزقوم، وقال عكرمة عنه : الغسلين : الدم والماء يسيل من لحومهم، وعنه : الغسلين صديد أهل النار.
يقول تعالى مقسماً لخلقه، بما يشاهدونه من آياته في مخلوقاته، الدالة على كماله في أسمائه وصفاته، وما غاب عنهم مما لا يشاهدونه من المغيبات عنهم، إن القرآن كلامه ووحيه وتنزله على عبده ورسوله، الذي اصطفاه لتبليغ الرسالة وأداء الأمانة، فقال تعالى :﴿ فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ﴾ يعني محمداً ﷺ، أضافه إليه على معنى التبليغ، ﴿ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ * وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ ﴾ فأضافه الله تارة إلى ( جبريل ) الرسول الملكي، وتارة إلى ( محمد ) الرسول البشري، لأن كلا منهما مبلغ عن الله، ما استأمنه عليه من وحيه وكلامه. ولهذا قال تعالى :﴿ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ العالمين ﴾ قال عمر بن الخطاب :« خرجت أتعرض رسول الله ﷺ قبل أن أسلم، فوجدته قد سبقني إلى المسجد فقمت خلفه، فاستفتح سورة الحاقة فجعلت أعجب من تأليف القرآن، قال : فقلت : هذا والله شاعر كما قالت قريش، قال : فقرأ :﴿ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ ﴾، قال : فقلت : كاهن، قال : فقرأ :﴿ وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ العالمين ﴾ إلى آخر السورة، قال فوقع الإاسلام في قلبي كل موقع » فهذا من جملة الأسباب التي جعلها الله تعالى مؤثرة في هداية عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
يقول تعالى :﴿ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا ﴾ أي محمد ﷺ، لو كان كما يزعمون مفترياً علينا، فزاد في الراسلة أو نقص منها، أوقال شيئاً من عنده، فنسبه إلينا لعاجلناه بالعقوبة، ولهذا قال تعالى :﴿ لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين ﴾ قيل : معناه لانتقمنا منه باليمين لأنها أشد في البطش، وقيل : لأخذنا بيمينه، ﴿ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوتين ﴾ قال ابن عباس : وهو نياط القلب، وهو العرق الذي القلب معلق فيه؛ وقال محمد بن كعب : هو القلب ومراقه وما يليه، وقوله تعالى :﴿ فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ﴾ أي فما يقدر أحد منكم على أن يحجز بيننا وبينه، إذا أردنا به شيئاً من ذلك، والمعنى في هذا بل هو صادق بار راشد، لأن الله عزَّ وجلَّ مقرر له ما يبلغه عنه، ومؤيد له بالمعجزات الباهرات والدلالات القاطعات، ثم قال تعالى :﴿ وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ ﴾. كما قال تعالى :﴿ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ ﴾ [ فصلت : ٤٤ ] ثم قال تعالى :﴿ وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُمْ مُّكَذِّبِينَ ﴾ أي مع هذا البيان والوضوح، سيوجد منكم من يكذب بالقرآن، ثم قال تعالى :﴿ وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الكافرين ﴾ قال ابن جرير : وإن التكذيب لحسرة على الكافرين يوم القيامة، ويحتمل عود الضمير على القرآن، أي وإن القرآن والإيمان به لحسرة في نفس الأمر على الكافرين، كما قال تعالى :﴿ كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ المجرمين ﴾ [ الشعراء : ٢٠٠ ]، وقال تعالى :﴿ وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ ﴾ [ سبأ : ٥٤ ]، ولهذا قال هاهنا :﴿ وَإِنَّهُ لَحَقُّ اليقين ﴾ أي الخبر الصدق الحق، الذي لا مرية فيه ولا شك ولا ريب، ثم قال تعالى :﴿ فَسَبِّحْ باسم رَبِّكَ العظيم ﴾ أي الذي أنزل هذا القرآن العظيم.
Icon