تفسير سورة الفتح

الوجيز للواحدي
تفسير سورة سورة الفتح من كتاب الوجيز في تفسير الكتاب العزيز المعروف بـالوجيز للواحدي .
لمؤلفه الواحدي . المتوفي سنة 468 هـ
مدنية وهي عشرون وتسع آيات

﴿إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً﴾ حكمنا لك بإظهار دينك والنُّصرة على عدوِّك وفتحنا لكم أمر الدِّين
﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ﴾ ما علمت في الجاهليَّة ﴿وما تأخَّر﴾ ممَّا لم تعمله وقيل: ما تقدَّم من ذنبك يعني: ذنب أبويك آدم وحوَّاء ببركتك وما تأخَّر من ذنوب أُمَّتك بدعوتك ﴿ويتم نعمته عليك﴾ بالنبوة والحكمة ﴿ويهديك صراطاً مستقيماً﴾ أَيْ: يُثبِّتك عليه
﴿وينصرك الله نصرا عزيز﴾ ذا عزٍّ لا يقع معه ذلٌّ
﴿هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين﴾ اليقين والطُّمأنينة ﴿ليزدادوا إيماناً﴾ بشرائع الدِّين ﴿مع إيمانهم﴾ تصديقهم بالله وبرسله وقوله:
﴿ليدخل الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خالدين فيها ويكفر عنهم سيئاتهم وكان ذلك عند الله فوزا عظيما﴾
﴿الظانين بالله ظنَّ السوء﴾ يظنُّون أن لن ينصر الله محمَّداً والمؤمنين ﴿عليهم دائرة السوء﴾ بالذُّلَّ والعذاب أَيْ: عليهم يدور الهلاك والخزي
﴿ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عزيزا حكيما﴾
﴿إنا أرسلناك شاهدا﴾ على أُمَّتك يوم القيامة ﴿ومبشراً﴾ بالجنَّة مَنْ عمل خيراً ﴿ونذيراً﴾ منذراً بالنَّار مَنْ عمل سوءً
﴿وتعزروه﴾ أَيْ: تنصروه ﴿وتوقروه﴾ وتعظِّموه
﴿إنَّ الذين يبايعونك﴾ بالحديبية ﴿إنما يبايعون الله﴾ أَيْ: أخذك عليهم البيعة عقدُ الله عليهم ﴿يد الله فوق أيديهم﴾ نعمة الله علهيم فوق ما صنعوا من البيعة ﴿فمن نكث﴾ نقض البيعة ﴿فإنما ينكث على نفسه﴾ فإنما يضرُّ نفسه بذلك النَّكث
﴿سيقول لك المخلفون من الأعراب﴾ الآية لمَّا أراد رسول الله ﷺ المسير إلى مكَّة عام الحديبية استنفر مَنْ حول المدينة من الأعراب حذراً من قريش أن يعرضوا بحرب فتثاقلوا عنه وخافوا قريشاً على رسول الله ﷺ وعلى أنفسهم فأنزل الله تعالى: ﴿سيقول لك المخلفون﴾ الذين خلَّفهم الله عن صحبتك إذا انصرفت إليهم فعاتبتهم عن التَّخلُّف: ﴿شغلتنا﴾ عن الخروج معك ﴿أموالنا وأهلونا﴾ أَيْ: ليس لنا مَنْ يقوم فيها إذا خرجنا ﴿فاستغفر لنا﴾ تركنا الخروج معك ثمَّ كذَّبهم الله تعالى في ذلك العذر فقال: ﴿يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم﴾ الآية
﴿بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبداً﴾ وذلك أنَّهم قالوا: إنَّ محمداً وأصحابه أكلة رأس أًيْ: قليلو العدد وأنهم لا لا يرجعون من هذا الوجه أبداً فقال الله تعالى: ﴿وظننتم ظنَّ السوء وكنتم قوماً بُوْراً﴾ هالكين عند الله تعالى بهذا الظن
﴿ومن لم يؤمن بالله ورسوله فإنا أعتدنا للكافرين سعيرا﴾
﴿ولله ملك السماوات والأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء وكان الله غفوراً رحيماً﴾
﴿سيقول المخلفون﴾ يعني: هؤلاء: ﴿إذا انطلقتم إلى مغانم﴾ يعني: عنائم خيبر ﴿ذرونا نتبعكم﴾ إلى خيبر فنشهد معكم ﴿يريدون أن يبدلوا كلام الله﴾ يغيّروا وعد الله الذي وعد أهل الحديبية وذلك أنَّ الله تعالى حكم لهم بغنائم خيبر دون غيرهم ﴿قل لن تتبعونا﴾ إلى خيبر ﴿كذلكم قال الله من قبل﴾ أَيْ: من قبل مرجعنا إليكم إنَّ غنيمة خيبر لمّنْ شهد الحديبية دون غيرهم ﴿فسيقولون بل تحسدوننا﴾ أن نصيب معكم من الغنائم
﴿قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم﴾ إلى قتال قوم ﴿أولي بأس شديد﴾ وهم فارس والرُّوم وقيل: بنو حنيفة أصحاب اليمامة ﴿تقاتلونهم أو يسلمون﴾ يعني: أو هم يسلمون أصحاب مسيلمة الكذاب فيترك قتالهم ﴿فإن تطيعوا﴾ مَنْ دعاكم إلى قتالهم ﴿يؤتكم الله أجراً حسناً وإن تتولوا كما توليتم من قبل﴾ عام الحديبية يعني: نافقتم وتركتم الجهاد ﴿يعذِّبكم عذاباً أليماً﴾ ثم ذكر أهل العُذر في التَّخلُّف عن الجهاد فقال:
﴿لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حرج ولا على المريض حرج﴾ الآية ثمَّ ذكر خبر مَنْ أخلص نيَّته فقال:
﴿لقد رضي الله عن المؤمنين﴾ وكانوا ألفاً وأربعمائة ﴿إذ يبايعونك﴾ بالحديبية على أن يناجزوا قريشاً ولا يفرُّوا ﴿تحت الشجرة﴾ يعني: سمرة كانت هنالك وهذه البيعة تسمَّى بيعة الرِّضوان ﴿فعلم ما في قلوبهم﴾ من الإِخلاص والوفاء ﴿فأنزل﴾ الله ﴿السكينة عليهم﴾ وهي الطُّمأنينة وثلج الصدر بالنُّصرة من الله تعالى لرسوله ﴿وأثابهم فتحاً قريباً﴾ أَيْ: فتح خيبر
﴿ومغانم كثيرة يأخذونها﴾ يعني: عقار خيبر وأموالها
﴿وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها﴾ وهي الفتوح التي تفتح لهم إلى يوم القيامة ﴿فعجَّل لكم هذه﴾ يعني: خيبر ﴿وكفَّ أيدي الناس عنكم﴾ لما خرجوا وخلفوا عيالهم بالمدينة حفظ الله عليهم عيالهم وقد همَّت اليهود بهم فقذف الله في قلوبهم الرُّعب فانصرفوا ﴿ولتكون﴾ هزيمتهم وسلامتكم ﴿آية للمؤمنين ويهديكم صراطاً مستقيماً﴾ يعني: طريق التَّوكُّل وتفويض الأمر إلى الله سبحانه في كلِّ شيء
﴿وأخرى﴾ أَيْ: ومغانم أخرى ﴿لم تقدروا عليها﴾ يعني: فارس والرُّوم ﴿قد أحاط الله بها﴾ علم أنَّه يفتحها لكم
﴿ولو قاتلكم الذين كفروا﴾ أَيْ: أهل مكَّة لو قاتلوكم عام الحديبية ﴿لولوا الأدبار﴾ لانهزموا عنك ولنصرت عليهم
﴿سنة الله﴾ كسنَّة الله في النُّصرة لأوليائه
﴿وهو الذي كفَّ أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة﴾ مَنَّ الله سبحانه على المؤمنين بما أوقع من صلح الحديبية فكفَّهم عن القتال بمكَّة وذكر حُسن عاقبة ذلك في الآية الثَّانية وقوله: ﴿من بعد أن أظفركم عليهم﴾ وذلك أنَّ رجالاً من قريش طافوا بعسكر رسول الله ﷺ ذلك العام ليصيبوا منهم فأُخذوا وأُتي بهم رسول الله ﷺ فعفا عنهم وخلَّى سبيلهم وكان ذلك سبب الصُّلح بينهم
﴿هم الذين كفروا﴾ يعني: أهل مكَّة ﴿وصدوكم عن المسجد الحرام﴾ منعوكم من زيارة البيت ﴿والهدي﴾ ومنعوا الهدي ﴿معكوفاً﴾ محبوساً ﴿أن يبلغ محله﴾ منحره وكانت سبعين بدنةً ﴿ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات﴾ بمكَّة ﴿لم تعلموهم أن تطئوهم﴾ أَيْ: لولا أن تطؤوهم في القتال لأنَّكم لم تعلموهم مؤمنين وهو قوله: ﴿بغير علم﴾ ﴿فتصيبكم منهم معرَّة﴾ كفَّارةٌ وعارٌ وعيبٌ من الكافرين يقولون: قتلوا أهل دينهم ﴿ليدخل الله في رحمته﴾ دينه الإِسلام ﴿مَنْ يشاء﴾ من أهل مكَّة قبل أن يدخلوها ﴿لو تزيلوا﴾ تميَّز عنهم هؤلاء المؤمنين ﴿لعذَّبنا الذين كفروا منهم عذاباً أليماً﴾ لأنزلنا بهم ما يكون عذاباً لهم أليماً بأيديكم
﴿إذْ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حَمِيَّةَ الجاهلية﴾ حين صدُّوا رسول الله ﷺ وأصحابه عن البيت ﴿فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين﴾ أَيْ: الوقار حين صالحوهم ولم تأخذهم من الحمية ما أخذهم فيلجُّوا ويقاتلوا ﴿وألزمهم كلمة التقوى﴾ توحيد الله والإيمان به وبرسوله: لا إله إلا الله محمد رسول الله وقيل: يعني: بسم الله الرحمن الرحيم أبى المشركون أن يقبلوا هذا لمَّا أراد رسول الله ﷺ أن يكتب كتاب الصُّلح بينهم وقالوا: اكتب باسمك اللَّهم فقال الله تعالى: ﴿وكانوا أحقَّ بها وأهلها﴾ أي: المؤمنين لأنَّ الله اختارهم للإيمان وكانوا أحقَّ بكلمة التَّقوى من غيرهم
﴿لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق﴾ الآية كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم رأى في منامه قبل خروجه عام الحديبية كأنَّه وأصحابه يدخلون مكَّة مُحلِّقين ومُقصِّرين غير خائفين فلمَّا خرج عام الحديبية كانوا قد وطنوا أنفسهم على دخول مكَّة لرؤيا رسول الله ﷺ فلمَّا صدُّوا عن البيت راب بعضهم ذلك فأخبر الله تعالى أنَّ تلك الرُّؤيا صادقةٌ وأنَّهم يدخلونها إٍن شاء الله آمنين وقوله: ﴿فعلم ما لم تعلموا﴾ علم الله تعالى أنًّ الصَّلاح كان في ذاك الصُّلح ولم تعلموا ذلك ﴿فجعل من دون ذلك﴾ أَيْ: من دون دخولكم المسجد ﴿فتحاً قريباً﴾ وهو صلح الحديبية ولم يكن فتحٌ في الإسلام كان أعظم من ذلك لأنَّه دخل في الإسلام في تلك السِّنين مثل من كان في الإسلام قبل ذلك أو أكثر وقيل: يعني: فتح خيبر
﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ ليظهره على الدين كله﴾ ليجعل دين الحقِّ ظاهراً على سائر الأديان عالياً عليها ﴿وكفى بالله شهيداً﴾ أنَّك مرسلٌ بالحقِّ ثمَّ حقَّق الله تلك الشَّهادة وبيَّنها فقال:
﴿محمد رسول الله والذين معه﴾ من المؤمنين ﴿أشداء﴾ غلاظٌ ﴿على الكفار رحماء بينهم﴾ متوادُّون متعاطفون ﴿تراهم ركعاً سجداً﴾ في صلواتهم ﴿يبتغون فضلاً من الله﴾ أن يدخلهم الجنَّة ﴿ورضواناً﴾ أن يرضى عنه ﴿سيماهم﴾ علامتهم ﴿في وجوههم من أثر السجود﴾ يعني: نوراً وبياضاً في وجوههم يوم القيامة يُعرفون بذلك النُّور أنَّهم سجدوا في دار الدُّنيا لله تعالى ﴿ذلك مثلهم﴾ صفة محمَّد ﷺ وأصحابه ﴿في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه﴾ فراخه ونباته ﴿فآزره﴾ قوَّاه وأعانه أيْ: قوَّى الشَّطأ الزَّرع كما قوَّى أمر محمَّد وأصحابه والمعنى: أنَّهم يكونون قليلاً ثمَّ يكثرون وهذا مثل ضربه الله تعالى لنبيِّه عليه السَّلام إذ خرج وحده فأيَّده بأصحابه كما قوَّى الطَّاقة من الزرع بما ينبت حوله ﴿فاستغلظ﴾ فَغَلُظَ وقوِيَ ﴿فاستوى﴾ ثمَّ تلاحق نباته وقام على ﴿سوقه﴾ جمع ساق ﴿يعجب الزراع﴾ بحسن نباته واستوائه ﴿ليغيظ بهم الكفار﴾ فعل الله تعالى ذلك بمحمَّد وأصحابه ليغيظ بهم أهل الكفر ﴿وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم﴾ أَيْ: من أصحاب محمد عليه السَّلام ﴿مغفرة وأجراً عظيماً﴾
Icon