تفسير سورة النازعات

جامع البيان في تفسير القرآن
تفسير سورة سورة النازعات من كتاب جامع البيان في تفسير القرآن .
لمؤلفه الإيجي محيي الدين . المتوفي سنة 905 هـ
سورة النازعات مكية
وهي ست وأربعون آية وفيها ركوعان

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿ والنازعات ﴾ أقسم سبحانه بالملائكة التي تنزع١ أرواح الكفار، ﴿ غرقا ﴾ : إغراقا في النزع، فإنها تنزعها من أقاصي الأجساد من الأنامل والأظفار بعسر وشدة، أو المراد النجوم التي تنزع من المشرق إلى المغرب، وإغراقها قطع الفلك كله حتى تنحط في أقصى الغرب، أو المراد قسي الغزاة تنزع السهام إغراقا في النزع، والأصح الأول، وهو قول أكثر الصحابة،
١ هذا قول ابن عباس وابن مسعود- رضي الله عنهم- وغيرهما من السلف/١٢ منه..
﴿ والناشطات نشطا ﴾ : الملائكة التي تنشط، أي تخرج أرواح المؤمنين، كما ينشط العقال من يد البعير بسهولة، أو النجوم التي تخرج من برج إلى آخر، أو الغزاة تخرج السهم للرمي،
﴿ والسابحات سبحا ﴾ : الملائكة التي تسبح في مضيها، وتسرع في قضاء الحوائج، أو السيارات، فكل في فلك يسبحون، أو خيل الغزاة تسبح في جريها، أو السفن١،
١ فإنها تجري في كف الله سبحانه كما ورد في الحديث/١٢ وجيز..
﴿ فالسابقات سبقا ﴾ : الملائكة١ التي سبقت ابن آدم في الإيمان والأعمال، أو أرواح المؤمنين تسبق شوقا إلى لقاء الله، أو النجوم تسبق بعضها بعضا في السير، أو خيل الغزاة،
١ قال علي- رضي الله عنه- ومسروق وغيرهما/١٢ منه..
﴿ فالمدبرات أمرا ﴾ : الملائكة التي تدبر الأمر من السماء إلى الأرض بأمر ربها، والسلف ما اختلفوا في هذا الأخير، ولم ينقل عنهم إلا قول واحد، وجواب القسم محذوف، وهو مثل " لتبعثن " وما بعده يدل عليه،
﴿ يوم ترجف الراجفة ﴾ أي : تضطرب، وتتحرك الواقعة التي ترجف عندها الأجرام، كيوم ترجف الأرض، والجبال، وهي النفخة الأولى، ويوم ظرف لجواب القسم المحذوف،
﴿ تتبعها الرادفة ﴾ : الواقعة التي تردف الأولى، وهي النفخة الثانية، وبينهما أربعون سنة، والجملة حال، وفي الترمذي وغيره " كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا ذهب ثلث الليل، قام فقال : يا أيها الناس اذكروا الله جاءت الراجفة تتبعها الرادفة جاء الموت بما فيه " ١،
١ وحسنه الشيخ الألباني في "صحيح الترمذي" (١٩٩٩)..
﴿ قلوب ﴾، مبتدأ خصص بتنكير التنويع، ﴿ يومئذ واجفة ﴾ : شديدة الاضطراب خائفة،
﴿ أبصارها ﴾ أي : أبصار أصحابها، ﴿ خاشعة ﴾ : ذليلة من الخوف،
﴿ يقولون ﴾ مستأنفة للتعليل، كأنه قال : لأنهم يقولون في الدنيا :﴿ أئنا لمردودون في الحافرة ﴾ في الحالة الأولى : أي : الحياة بعد الموت، يقال : رجع في حافرته أي : من حيث جاء، وعن مجاهد : أئنا لمردودون إلى الحياة حال كوننا في الحافرة أي القبرة،
﴿ أئذا كنا عظاما نخرة ﴾ أي : أئذا كنا عظاما بالية تردوا، المحذوف عامل إذا،
﴿ قالوا تلك إذا كرة خاسرة ﴾ : ذات خسران، يعني : إن صحت فنحن إذا خاسرون، وهذا منهم استهزاء،
﴿ فإنما هي زجرة واحدة ﴾، هذا قول الله أي : لا تستصعبوها فما هي إلا صيحة، والمراد النفخة الأخيرة،
﴿ فإذا هم بالساهرة١ أي : فإذا الناس أحياء على وجه الأرض، والساهرة : الأرض المستوية، وعن قتادة : هي جهنم،
١ ولما أقسم بأن البعث حق، واتبعه إنكارهم، أعقبه تسلية قلب محمد- صلى الله عليه وسلم- بحكاية موسى وفرعون وانتقام الله منه، فقال:﴿هل أتاك حديث موسى﴾ الآية/١٢ وجيز..
﴿ هل أتاك حديث١ موسى ﴾، وهذا تسلية من الله لرسوله،
١ توقيف لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- على جمع الناس لاستماع الحكاية/. ١٢.
﴿ إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى ﴾ اسم الوادي على الأصح، كما مر في سورة طه،
﴿ اذهب ﴾ أي : قال له اذهب، ﴿ إلى فرعون إنه طغى ﴾ : تكبر وتمرد،
﴿ فقل هل لك إلى أن تزكى١ : أي هل لك ميل، ورغبة إلى أن تتطهر من الشرك والطغيان،
١ تلطف في الاستدعاء، فإن كل عاقل له رغبة في التحلي بالفضائل، والتطهر عن الرذائل/١٢..
﴿ وأهديك إلى ربك ﴾ : إلى معرفته١، ﴿ فتخشى٢ : من عقابه،
١ والوصول إلى عنايته ووصاله/١٢ وجيز..
٢ الخشية: ملاك الأمر/١٢ وجيز..
﴿ فأراه١ أي : فذهب فبلغ فأراه، ﴿ الآية الكبرى ﴾ أي : المعجزة الكبرى،
١ هذه الفاء هي الفصيحة لإفصاحها عن كلام محذوف، يعني فذهب، فقال له ما قال مما حكاه الله في غير موضع، وأجاب عليه بما أجاب، إلى أن قال:﴿إن كنت جئت بآية فأت بها﴾(الأعراف: ١٠٦) فعند ذلك أراه الآية الكبرى، واختلف فيها ما هي، فقيل: العصا، وقيل: يده، وقيل: فلق البحر، وقيل: هي جميع ما جاء به من الآيات التسع، والأول أولى، ثم اليد، والأكثرون على أنه أراهما له، وأطلق عليهما الآية الكبرى لإتحادها معنى، أو أراد بالكبرى العصا وحدها، لأنها كانت مقدمة على الأخرى، ولا ينافي هذا قوله في الآية الأخرى:﴿لقد أريناه آياتنا كلها﴾ وكل آياته كبرى، لأن الإخبار هنا عما أراه له أول ملاقاته إياه، وهو العصا واليد، ثم أردف ذلك برؤية الكل، ولا مساغ لحمل الآية على مجموع معجزاته، فإن ما عدا هاتين الآيتين من الآيات التسع، إنما ظهر على يده- عليه السلام- بعدما غلب السحرة، على مهل في نحو من عشرين سنة/١٢ فتح..
﴿ فكذب ﴾ : بأنها من الله، ﴿ وعصى ﴾ : الله،
﴿ ثم أدبر ﴾ : أعرض عن الطاعة، ﴿ يسعى ﴾ : ساعيا في الفساد، وإبطال أمره،
﴿ فحشر ﴾ : جمع جنوده، ﴿ فنادى ﴾، في المجمع،
﴿ فقال أنا ربكم الأعلى ﴾ : لا رب فوقي، قيل : هم يعبدون الأصنام، فأراد ربها وربكم،
﴿ فأخذه الله نكال الآخرة والأولى ﴾ : نكال الآخرة بالإحراق ونكال الدار الدنيا بالإغراق، وعن مجاهد نكال الكلمة الآخرة، وهي قوله " أنا ربكم الأعلى " ونكال الكلمة الأولى، وهي قوله :﴿ ما علمت لكم من إله غيري ﴾ ( القصص : ٣٨ )، وبينهما أربعون سنة، ونصب نكال، بأنه مصدر مؤكد أو مفعول له، أي : للتنكيل فيهما،
﴿ إن في ذلك لعبرة لمن يخشى ﴾ : لمن كان من شأنه الخشية.
﴿ أأنتم١ : يا منكري البعث، ﴿ أشد ﴾ : أصعب، ﴿ خلقا ﴾، بعد الموت، ﴿ أم السماء ﴾ ثم بين كيفية خلقها فقال :﴿ بناها ﴾، ثم بين البناء فقال :
١ ولما تم مجمل أمره، وقف من هو على دينه في إنكار البعث بقدرته التامة، فقال:﴿أأنتم﴾ الآية/١٢ وجيز..
﴿ رفع سمكها ﴾ : جعل مقدار ذهابها في سمت العلو مديدا رفيعا، ﴿ فسواها ﴾ : عدلها مستوية بلا قطور، أو تممها وأصلحها، من سويت أمره إذا أصلحته،
﴿ وأغطش ﴾ : أظلم، ﴿ ليلها وأخرج ضحاها ﴾ : أبرز ضوء شمسها، أضاف الليل والنهار إلى السماء، لأنهما يحدثان بحركتهما،
﴿ والأرض بعد ذلك دحاها ﴾ : بسطها، خلق الأرض قبل السماء لكن دحوها بعدها، نقل ذلك عن ابن عباس، وفيه إشكال لأن الدحو هو البسط، وخلق الجبال، والأنهار، والمراعي، كما صرح ابن عباس، وقد مر في سورة " حم " السجدة أن ذلك مقدم على خلق السماء، ويدل على ذلك صريح الآية في تلك السورة، وأيضا كثير من الصحابة صرحوا بأن خلق نفس الأرض في يوم الأحد والاثنين، وخلق الجبال والآكام وما بينهما في الثلاثاء والأربعاء، وخلق السماء في الخميس والجمعة، قيل : فالوجه أن يجعل الأرض منصوبا بمضمر، نحو تذكر وتدبر، أو اذكر الأرض بعد ذلك وإن جعل مضمرا على شريطة التفسير، جعل بعد ذلك إشارة إلى المذكور سابقا، من ذكر السماء لا خلق السماء نفسه، ليدل على أنه متأخر في الذكر عن خلق السماء، تنبيها على أنه قاصر في الدلالة عن الأول، لكنه تتميم، ولو قلنا : إن " ثم " في قوله " ثم استوى إلى السماء " في سورة حم السجدة، لتفاوت ما بين الخلقين لا للتراخي في المدة، ويكون دحو الأرض بعد خلق السماء، لما يبقى مخالفة بين الآيتين، لكن مخالف لإطباق أهل التفسير، ثم خلق الأرض وما فيها في أربعة أيام، ثم خلق السماء وما فيها في يومين، إلا ما نقل الواحدي في البسيط، عن مقاتل : أن خلق السماء مقدم على إيجاد الأرض فضلا عن دحوها، وعلى أي وجه لا يخلوا عن إشكال فلا تغفل،
﴿ أخرج منها ماءها ﴾ : عيونها، ترك العطف لأنه حال بتقدير١ " قد " أو بيان للدحو وهو المراد منه، ﴿ ومرعاها ﴾ : رعيها، الرعي بالكسر : الكلاء، وبالفتح : المصدر، والمرعى يقع عليهما، وعلى الموضع،
١ في البحر إنه حال، ولهذا ترك العطف، وعند الأخفش: إن الماضي يقع حالا من غير احتياج إلى تقدير/١٢ و جيز..
﴿ والجبال أرساها ﴾ : أثبتها حتى لا يتحرك،
﴿ متاعا ﴾ : تمتيعا، ﴿ لكم ولأنعامكم ﴾
﴿ فإذا جاءت الطامة ﴾ : الداهية، التي تطم١ وتعلو وتغلب على الدواهي، ﴿ الكبرى ﴾ : وهي القيامة،
١ قال المبرد، وقال مجاهد، وغيره، هو من طم السيل الركية، أي: دفنها، والطم: الدفن/ ١٢ فتح..
﴿ يوم يتذكر الإنسان ما سعى ﴾ : ما عمل في الدنيا، وقد نسيها بدل من إذا جاءت،
﴿ وبرزت الجحيم لمن يرى١ : أظهرت لمن له عين،
١ أي: أظهرت النار المحرقة إظهارا بينا مكشوفا، لا يخفى على أحد، والظاهر أنها تبرز لكل راء، فأما المؤمن فيعرف برؤيتها قدر نعمة الله عليه بالسلامة منها، وأما الكافر فيزداد غما إلى غمه وحسرة إلى حسرته/١٢ فتح..
﴿ فأما من طغى ﴾ : تمرد،
﴿ وآثر١ الحياة الدنيا ﴾، على الآخرة،
١ أي: قدمها على الآخرة بإتباع الشهوات المحرمة، ولم يستعد لها ولا عمل عملها/١٢ فتح..
﴿ فإن الجحيم هي المأوى ﴾ أي : هي مأواه واللام ساد مسد الإضافة للعلم به،
﴿ وأما من خاف مقام ربه ﴾، أي : مقامه بين يديه في الآخرة، ﴿ ونهى النفس١عن الهوى ﴾ : زجرها عن إتباع شهوتها،
١ قال مقاتل: هو الرجل يهم بالمعصية، فيذكر مقامه للحساب فيتركها، والهوى: ميل النفس إلى شهواتها/ ١٢ فتح..
﴿ فإن الجنة هي المأوى ﴾، وجواب فإذا جاءت هو قوله :" فأما " كأنه قال : فإذا جاءت، فإن الطاغي للجحيم مأواه، وإن الخائف للجنة مأواه، وزيادة إما لزيادة المبالغة، وتحقيق الترتيب، والثبوت على كل تقدير، أو جوابه محذوف كأنه قال : فإذا جاءت وقع ما وقع، وقوله، " فأما " تفصيل ذلك المحذوف،
﴿ يسألونك عن الساعة أيان ﴾ : متى، ﴿ مرساها ﴾ : إرساءها وإقامتها،
﴿ فيم أنت من ذكراها ﴾ : في أي شيء أنت يا محمد، من أن تذكر وقتها لهم، يعنى ما أنت من تبيين وقتها في شيء، وقيل : تتمة لسؤالهم، أي : سألوا متى وقتها ؟ وفي أي شيء أنت من ذكرها ؟ أي : هل لك يقين أو ظن أو جهل ؟
والجواب قوله :﴿ إلى ربك منتهاها ﴾، أي : منتهى علمها إلى الله وحده،
﴿ إنما أنت منذر من يخشاها ﴾، لا معين وقتها،
﴿ كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا ﴾ : في الدنيا، وقيل : في القبر، ﴿ إلا عشية أو ضحاها ﴾، أي : ضحى تلك١ العشية يعني : استقصروا مدة لبثهم في الدنيا كأنها لم تبلغ يوما كاملا، ولكن ساعة منه إما عشية أو ضحاه كما تقول آتيك العشية أو غداتها.
والحمد لله حق حمده.
١ والإضافة تكون بأدنى ملابسة، ولما كانتا من يوم واحد، كان بينهما ملابسة مصححة لإضافة إحداهما إلى الأخرى/١٢ فتح..
Icon