ﰡ
والخلاصة: أن السورة حافلة بالوعد والوعيد، والعظات والعبر بأخبار الماضين، وتهديد الكفار بعقاب مماثل، وإكرام المتقين في جنات ونعيم.
فضل السورة:
تقدم في فضل سورة ق إيراد حديث أبي واقد الليثي فيما يرويه الإمام أحمد ومسلم وأصحاب السنن الأربعة: «أن رسول الله ﷺ كان يقرأ بقاف واقتربت الساعة في الأضحى والفطر» وكان يقرأ بهما في المحافل الكبار كالجمع والعيد، لاشتمالها على ذكر الوعد والوعيد، وبدء الخلق وإعادته، والتوحيد وإثبات النبوات وغير ذلك من المقاصد العظيمة.
انشقاق القمر وموقف المشركين منه
[سورة القمر (٥٤) : الآيات ١ الى ٨]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (١) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (٢) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (٣) وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (٤)حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (٥) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (٦) خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (٧) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ (٨)
ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ أصله «مزتجر» بوزن مفتعل من الزجر، وإنما أبدلت التاء دالا، لأن التاء مهموسة والزاي مجهورة، فأبدلوا من التاء دالا، لتوافق الزاي في الجهر. وهو اسم مصدر أو اسم مكان. وما اسم موصول أو نكرة موصوفة. والجار والمجرور: مِنَ الْأَنْباءِ متعلق بمحذوف حال مقدم من ما. حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ: حِكْمَةٌ: إما بدل مرفوع من ما في قوله تعالى: ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ وما: مرفوعة فاعل: «جاء»، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره: هي حكمة بالغة. وفَما في قوله: فَما تُغْنِ النُّذُرُ: إما استفهامية استفهام إنكاري، في موضع نصب ب تُغْنِ أي، أيّ شيء تغني النذر، أو نافية على تقدير حذف مفعول تُغْنِ وتقديره: فما تغني النذر سيئا. وحذفت ياء «تغني» وواو «يدعو» اتباعا لخط المصحف، لأنه كتب على لفظ الوصل، لا على لفظ الوقف. يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ ناصب يوم: يخرجون الآتي بعده.
خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ خُشَّعاً: حال منصوب من ضمير عَنْهُمْ في قوله تعالى:
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ وكذلك قوله تعالى: مُهْطِعِينَ حال منصوب من ضمير عَنْهُمْ.
البلاغة:
يَدْعُ الدَّاعِ بينهما جناس الاشتقاق.
المفردات اللغوية:
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ قربت القيامة ودنت. وَانْشَقَّ الْقَمَرُ روى الشيخان أن الكفار سألوا رسول الله ﷺ آية، فانشق القمر، أي انفلق فلقتين على أبي قبيس وقعيقعان. وَإِنْ يَرَوْا أي كفار قريش. آيَةً معجزة له ﷺ دالة على نبوته. وَيَقُولُوا: سِحْرٌ أي هذا سحر. مُسْتَمِرٌّ محكم قوي، من المرّة وهي القوة، أو دائم مطرد. وَكَذَّبُوا النّبي صلى الله عليه وسلم.
وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ ما زيّن لهم الشيطان من الوساوس ورد الحق بعد ظهوره. وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ أي وكل أمر من الخير والشر منته إلى غاية من خذلان أو نصر في الدنيا، وشقاوة أو سعادة في الآخرة، وبعبارة أخرى: كل أمر لا بدّ أن يصير إلى غاية يستقر عليها، وقرئ بفتح القاف.
مُسْتَقِرٌّ أي ذو استقرار، أو له زمان استقرار أو موضع استقرار، فهو إما مصدر أو ظرف زمان أو مكان.
الْأَنْباءِ أخبار الأمم الماضية وما أصابهم من عذاب أو إهلاك لتكذيبهم الرسل.
مُزْدَجَرٌ ما يزجرهم ويكفيهم، يقال: زجرته وازدجرته: نهيته بغلظة، أو كففته فانكف.
النُّذُرُ المنذرون، جمع نذير بمعنى منذر، أو الأمور المنذرة لهم، جمع المنذر منه، أو مصدر بمعنى الإنذار.
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ أعرض عنهم ولا تجادلهم، لعلمك أن الإنذار لا ينفع ولا يغني فيهم. يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ يوم ينادي إسرافيل. إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ إلى شيء شديد الهول تنكره النفوس إذ لا عهد لها مثله. خُشَّعاً أذلة، جمع خاشع، أي ذليل، ويقرأ خشعا بضم الخاء وفتح الشين، أي مشددة. الْأَجْداثِ القبور جمع جدث. كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ في الكثرة والتموج والانتشار في الأمكنة، والجراد: حيوان طائر معروف يأكل النبات، والمنتشر: الكثير.
مُهْطِعِينَ مسرعين، مادّين أعناقهم، منقادين. هذا يَوْمٌ عَسِرٌ يوم صعب شديد على الكافرين، كما في قوله تعالى: فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ، عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ [المدثر ٧٤/ ٩- ١٠].
سبب النزول: نزول الآية (١- ٢) :
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ... : أخرج الشيخان والحاكم- واللفظ له- عن ابن مسعود قال: رأيت القمر منشقا شقين بمكة، قبل مخرج النّبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا:
سحر القمر، فنزلت: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ، وَانْشَقَّ الْقَمَرُ.
وأخرج الترمذي عن أنس قال: سأل أهل مكة النّبي ﷺ آية، فانشق القمر بمكة، مرتين، فنزلت: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ، وَانْشَقَّ الْقَمَرُ إلى قوله: سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ.
وأخرج محمد بن جرير وأبو داود الطيالسي والبيهقي عن عبد الله بن مسعود قال: انشقّ القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت قريش: هذا سحر ابن أبي كبشة، سحركم، فاسألوا السّفّار، فسألوهم، فقالوا: نعم قد رأينا، فأنزل الله عزّ وجلّ: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ، وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا: سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ.
يخبر الله تعالى عن اقتراب القيامة وانتهاء الدنيا، فيقول:
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ أي قربت القيامة ودنت، واقترب موعد انقضاء الدنيا، أي قد صارت باعتبار نسبة ما بقي بعد النبوة المحمدية إلى ما مضى من الدنيا قريبة، كما قال تعالى: أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [النحل ١٦/ ١] وقال سبحانه: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ، وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ [الأنبياء ٢١/ ١].
وروى أبو بكر البزّار عن أنس أن رسول الله ﷺ خطب أصحابه، وقد كادت الشمس أن تغرب، فلم يبق منها إلا سفّ يسير، فقال:
«والذي نفسي بيده، ما بقي من الدنيا فيما مضى منها إلا كما بقي من يومكم هذا، فيما مضى منه، وما نرى من الشمس إلا يسيرا».
ويعضده ما أخرجه أحمد والشيخان عن سهل بن سعد قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «بعثت أنا والساعة هكذا»
وأشار بأصبعيه: السبابة والوسطى. وقيل: المراد تحقق وقوع الساعة.
ثم أخبر الله تعالى عن انشقاق القمر معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: وَانْشَقَّ الْقَمَرُ أي وقد انشق القمر معجزة لرسول الله ﷺ وآية ظاهرة على قرب القيامة وإمكانها. قال ابن كثير: قد كان هذا في زمان رسول الله ﷺ كما ورد ذلك في الأحاديث المتواترة بالأسانيد الصحيحة، وهذا أمر متفق عليه بين العلماء، وأنه كان إحدى المعجزات الباهرات «١». وقرب القيامة بالرغم من مضي أكثر من أربعة عشر قرنا باعتبار أن كل ما هو آت قريب.
أخرج أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم عن أنس أن أهل مكة سألوا
وأخرجا أيضا عن ابن مسعود قال: انشق القمر على عهد رسول الله ﷺ فرقتين: فرقة فوق الجبل، وفرقة دونه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اشهدوا».
وقيل: المراد الإخبار عن أنه سينشق القمر.
ثم أخبر الله تعالى عن موقف الكفار وعنادهم أمام هذه المعجزة، فقال:
وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا، وَيَقُولُوا: سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ أي وإن ير المشركون علامة على النبوة ودليلا على صدق النّبي صلى الله عليه وسلم، يعرضوا عن التصديق والإيمان بها، ويولوا مكذبين بها قائلين: هذا سحر قوي شديد يعلو كل سحر، مأخوذ من قولهم: استمرّ الشيء: إذا قوي واستحكم، وقيل: مستمر، أي دائم مطرد.
وهذا ردّ على المشركين الذين طالبوا بآية، قال المفسرون: لما انشق القمر، قال المشركون: سحرنا محمد، فقال الله تعالى: وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يعني انشقاق القمر. ثم أكد تعالى موقفهم هذا بقوله:
وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ، وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ أي وكذبوا بالحق إذ جاءهم، واتبعوا ما أملته عليه أهواؤهم وآراؤهم في أن محمدا ﷺ ساحر أو كاهن، بسبب جهلهم وسخافة عقولهم. ثم هددهم تعالى وأخبرهم بأن كل أمر منته إلى غاية مماثلة له، فالخير يستقر بأهل الخير، والشر يستقر بأهل الشرّ، فقوله: وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ
استئناف للرد على الكفار في تكذيبهم، ببيان أنه لا فائدة لهم في ذلك، لأن كل أمر له غاية حتما، وسينتهي أمر النّبي ﷺ إلى غاية يظهر فيها أنه على حق، وهم على باطل.
وفي هذا أيضا تسلية لرسول الله ﷺ وتبشير له بأن النصر سيكون حليفه في الدنيا، وأن له ولأتباعه الدرجة العالية والجنة في الآخرة.
ووصف الله تعالى تلك الأنباء بقوله:
حِكْمَةٌ بالِغَةٌ، فَما تُغْنِ النُّذُرُ أي إن هذه الأنباء في القرآن وما تضمنته من عبرة وعظة وهداية حكمة بالغة كاملة قد بلغت منتهى البيان، ليس فيها نقص ولا خلل، ولا تفيد النذر أو الإنذارات شيئا للمعاندين، فإن عنادهم يصرفهم عن الحق، فتكون «ما» نافية، ويصح أن تكون استفهاما إنكاريا، بمعنى أي غناء أو شيء تغني النذر أي الإنذارات لهؤلاء الكفار الطغاة؟ فإنك أيها النّبي أتيت بما عليك من الإخبار بالنبوة مقرونة بالآية الباهرة، وأنذرتهم بأحوال الأقدمين، فلم يفدهم شيئا.
ونظير الآية قوله تعالى: وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ [يونس ١٠/ ١٠١].
ثم أمر الله نبيه بالإعراض عن مجادلتهم بعدئذ، فقال:
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ، يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ أي أعرض عنهم يا محمد، ولا تتعب نفسك بدعوتهم، حيث لم يؤثر فيهم الإنذار، وانتظرهم واذكر يا محمد ذلك اليوم الذي يدعو فيه إسرافيل إلى شيء فظيع تنكره نفوسهم، استعظاما له، إذ لا عهد لهم بمثله أبدا، وهو موقف الحساب الرهيب وما فيه من البلاء والأهوال.
وهذا كقوله تعالى: يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ [القارعة ١٠١/ ٤].
مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ، يَقُولُ الْكافِرُونَ: هذا يَوْمٌ عَسِرٌ أي مسرعين إلى الداعي، وهو إسرافيل دون تلكؤ ولا تأخر، يقول الكفار: هذا يوم صعب شديد الهول على الكفار، ولكنه ليس بشديد على المؤمنين.
ونظير الآية: فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ، عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ [المدثر ٧٤/ ٩- ١٠]. وهذا يدل بطريق المفهوم على أنه يوم هيّن يسير على المؤمنين.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- اقتراب موعد يوم القيامة، فكل آت قريب، وإن مرور عشرات القرون بعد نزول هذه الآية وأمثالها لا يعد شيئا في حساب عمر الدنيا الذي قدّر بخمسة مليارات سنة.
٢- حدوث انشقاق القمر بمكة في عهد النّبي ﷺ معجزة له، قال القرطبي: وقد ثبت بنقل الآحاد العدول أن القمر انشق بمكة، وهو ظاهر التنزيل، ولا يلزم أن يستوي الناس فيها، لأنها كانت آية ليلية، وأنها كانت
وقال الرازي: وأما المؤرخون فتركوه، لأن التواريخ في أكثر الأمر يستعملها المنجم، وهو لما وقع الأمر قالوا بأنه مثل خسوف القمر، وظهور شيء في الجو على شكل نصف القمر في موضع آخر، فتركوا حكايته في تواريخهم، والقرآن أدل دليل، وأقوى مثبت له، وإمكانه لا يشك فيه، وقد أخبر عنه الصادق، فيجب اعتقاد وقوعه «٢».
والقائلون بأن الأخبار الواردة بشأن انشقاق القمر أخبار آحاد غير متواترة يرون أن منكر ذلك لا يكفر، لعدم التواتر في السنة، وكون الآية ليست نصا في ذلك.
٣- دلّ قوله تعالى: وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا على أن المشركين رأوا انشقاق القمر.
قال ابن عباس: اجتمع المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا:
إن كنت صادقا فاشقق لنا القمر فرقتين، نصف على أبي قبيس ونصف على قعيقعان، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن فعلت تؤمنون؟» قالوا: نعم، وكانت ليلة بدر، فسأل رسول الله ﷺ ربّه أن يعطيه ما قالوا، فانشق القمر فرقتين، ورسول الله ﷺ ينادي المشركين: «يا فلان، يا فلان اشهدوا».
ويؤيده حديث ابن مسعود المتقدم في سبب النزول.
٤- لم يجد المشركون طريقا لتكذيب آية الانشقاق إلا بأن يصفوه بأنه سحر محكم قوي شديد، من المرّة وهي القوة، أو دائم نافذ مطرد، أو ذاهب، من قولهم: مرّ الشيء واستمر: إذا ذهب.
(٢) تفسير الرازي: ٢٩/ ٢٨
٦- هددهم الله تعالى بأن كل أمر مستقر، أي يستقر بكل عامل عمله، فالخير مستقرّ بأهله في الجنة، والشرّ مستقرّ بأهله في النار، وكل أمر صائر إلى غاية، وأن أمر محمد ﷺ سيصير إلى حدّ يعرف منه حقيقته، وكذلك أمرهم مستقر على حالة البطلان والخذلان.
٧- لقد أعذر من أنذر، وجاء هؤلاء الكفار من أنباء الأمم الخالية ما يزجرهم عن الكفر لو قبلوه، وأخبرهم الرسول باقتراب القيامة، وأقام الدليل على صدقه، ووعظهم بأحوال القرون الخالية وأهوال الدار الآخرة.
٨- الأنباء التي في القرآن الكريم أو القرآن نفسه حكمة بالغة النهاية في الكمال والبيان.
٩- إذا كذّب الكفار وخالفوا وعاندوا وأصروا على كفرهم، فليست تغني عنهم النذر، فتكون «ما» نافية في قوله: فَما تُغْنِ النُّذُرُ. ويجوز أن تكون استفهاما بمعنى التوبيخ، أي فأي شيء تغني النذر عنهم، وهم معرضون عنها؟! والنذر بمعنى الإنذار، أو جمع نذير.
١٠- إذا كان هذا شأن الكفار، فأعرض يا محمد عن مجادلتهم ومحاجتهم، ولا تسأل عنهم وعن أحوالهم، واذكر يوم يدع الداعي: إسرافيل إلى شيء فظيع عظيم شديد تنكره نفوسهم لشدة أهواله، وهو موقف الحساب ويوم القيامة.
١١- في يوم القيامة يخرج الكفار من قبورهم ذليلة أبصارهم، كأنهم لكثرتهم واختلاطهم وتموجهم جراد منتشر مبثوث في كل مكان. وقال تعالى في آية أخرى: يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ [القارعة ١٠١/ ٤]. قال القرطبي: فهما صفتان في وقتين مختلفين:
الثاني- فاذا سمعوا المنادي قصدوه، فصاروا كالجراد المنتشر، لأن الجراد له جهة يقصدها.
وهم في سيرهم مهطعون، أي مسرعون، ويقولون: إن يوم القيامة يوم صعب عسر، لما ينالهم فيه من الشدة.
إعادة قصص الأمم الخالية المكذبة للرسل
- ١- قصة قوم نوح عليه السلام
[سورة القمر (٥٤) : الآيات ٩ الى ١٧]
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (٩) فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (١٠) فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (١١) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (١٢) وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (١٣)
تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (١٤) وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٥) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٦) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٧)
الإعراب:
فَالْتَقَى الْماءُ أراد بالماء الجنس، ولو لم يرد ذلك لقال: الماءان: ماء السماء، وماء الأرض. والأصل في الماء: موه، لقولهم في تكسيره: أمواه، وفي تصغيره: مويه، لأن التصغير
جَزاءً منصوب بفعل مقدر، أي أغرقوا انتصارا، أو عقابا.
فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ أصل مُدَّكِرٍ مذتكر بوزن مفتعل، من الذكر، إلا أن الذال مجهورة والتاء مهموسة، فأبدلوا من التاء حرفا من مخرجها يوافق الذال في الجهر، وهي الدال، وأدغمت الذال في الدال لتقاربها، فصار مدكر. ويجوز أن تدغم الدال في الذال، فيقال: مذّكر، وقد قرئ به.
فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ فَكَيْفَ: إما خبر كانَ إن كانت ناقصة، وعَذابِي: وهو مصدر بمعنى الإنذار، أو جمع نذير، كرغيف ورغف.
البلاغة:
فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ استعارة تمثيلية، شبه تدفق المطر من السحاب بانصباب أنهار انفتحت بها أبواب السماء. وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ كناية عن السفينة التي تتركب من الأخشاب والمسامير.
المفردات اللغوية:
كَذَّبَتْ بالرسل. قَبْلَهُمْ قبل قومك قريش. قَوْمُ نُوحٍ تأنيث الفعل المعنى قَوْمُ. فَكَذَّبُوا عَبْدَنا نوحا، وهو تفصيل بعد إجمال. وَازْدُجِرَ أي زجر عن التبليغ بأنواع الأذى من السبّ وغيره.
فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي أي بأني. مَغْلُوبٌ غلبني قومي. فَانْتَصِرْ فانتقم لي منهم، وذلك بعد يأسه منهم، فقد روي أن الواحد منهم كان يلقاه فيخنقه، حتى يخرّ مغشيا عليه، فيفيق، ويقول: اللهم اغفر لقومي، فإنهم لا يعلمون.
مُنْهَمِرٍ منصب، كثير. وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً أي وجعلنا الأرض كلها كأنها عيون، وأصله: فجرنا عيون الأرض، أي جعلناها تنبع، فغيّر للمبالغة. فَالْتَقَى الْماءُ ماء السماء وماء الأرض. عَلى أَمْرٍ على حال قَدْ قُدِرَ قضي به في الأزل، وهو هلاكهم غرقا.
وَحَمَلْناهُ حملنا نوحا. عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ حملناه على سفينة ذات أخشاب عريضة ومسامير، والدسر: جمع دسار مثل كتب وكتاب، والمراد أن السفينة ذات دفع شديد. تَجْرِي بِأَعْيُنِنا بمرأى منا، والمراد بحراستنا وحفظنا. جَزاءً أي أغرقوا عقابا. لِمَنْ كانَ كُفِرَ جحد به، وهو نوح عليه السلام، أي أغرقوا عقابا لهم، وقرئ: كُفِرَ أي جزاء للكافرين.
مُدَّكِرٍ أي متذكر معتبر ومتعظ. فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ أي إنذاراتي لهم بالعذاب قبل نزوله، وهو استفهام تعظيم ووعيد، وتقرير، والمعنى: حمل المخاطبين على الإقرار بوقوع عذاب الله تعالى بالمكذبين لنوح موقعه. يَسَّرْنَا سهلنا. لِلذِّكْرِ للعظة والاعتبار. مُدَّكِرٍ متعظ بمواعظه.
المناسبة:
بعد أن أجمل الله تعالى الزجر بأخبار الأمم الماضية المكذبة رسلها، أعاد بعض الأنباء وفصلها، وهي قصص أربع: قصة قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط لهدفين: بيان أن حال الرسول ﷺ كحال الرسل المتقدمين مع أقوامهم، ووعيد المشركين من أهل مكة وغيرهم على تكذيبهم رسولهم.
التفسير والبيان:
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ، فَكَذَّبُوا عَبْدَنا، وَقالُوا: مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ أي كذبت قبل قومك يا محمد بالرسل قوم نوح، فإنهم كذبوا عبدنا نوحا عليه السلام، واتهموه بالجنون، وانتهروه وزجروه وتواعدوه عن تبليغ الدعوة بمختلف أنواع الإيذاء والسبّ والتخويف، قائلين: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ [الشعراء ٢٦/ ١١٦].
وفائدة قوله: فَكَذَّبُوا «١» عَبْدَنا بعد قوله: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ هي التخصيص بعد التعميم، أي كذبت الرسل أجمعين، فلذلك كذبوا نوحا. وقوله: عَبْدَنا تشريف وتنبيه على أنه هو الذي حقق المقصود من الخلق وقتئذ، ولم يكن على وجه الأرض حينئذ عابد لله سواه، فكذبوه.
وقد طلب النصرة عليهم، بعد أن علم تمردهم وعتوهم وإصرارهم على الضلال. فأجاب الله دعاءه قائلا:
فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ «١» مُنْهَمِرٍ أي صببنا عليهم ماء غزيرا كثيرا متدفقا. وهذا التعبير مجاز عن كثرة انصباب الماء من السماء، كما يقال في المطر الوابل: جرت ميازيب السماء، وفتحت أبواب القرب.
وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً، فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ أي وجعلنا الأرض كلها عيونا متفجرة وينابيع متدفقة، فالتقى ماء السماء وماء الأرض على أمر قد قضي عليهم، أي على أمر مقدر عليهم من الأزل، لما علم الله من حالهم.
وهذا دليل على عقابهم والانتقام منهم، ثم ذكر تعالى كيفية إنجاء نوح، فقال:
وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ أي وحملنا نوحا على سفينة ذاتِ أَلْواحٍ: وهي الأخشاب العريضة، وَدُسُرٍ: وهي المسامير التي تشد بها الألواح. وهذا الإيجاز من فصيح الكلام وبديعه.
ونظير الآية قوله تعالى: فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ [العنكبوت ٢٩/ ١٥].
تَجْرِي بِأَعْيُنِنا، جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ أي تسير بمنظر ومرأى منا وحفظ وحراسة لها، جزاء لهم على كفرهم بالله، وانتصارا لنوح عليه السلام، لأنه نعمة من الله، وتكذيبه كفران أو جحود لتلك النعمة.
ثم ذكر الله تعالى أنه أبقى السفينة عبرة لمن بعدهم، فقال:
وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً، فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ أي لقد أبقينا السفينة عبرة للمعتبرين، أو لقد تركنا هذه الفعلة التي فعلناها بهم عبرة وعظة، فهل من متعظ ومعتبر، يتعظ بهذه الآية ويعتبر بها.
قال قتادة: أبقى الله سفينة نوح حتى أدركها أول هذه الأمة، وعقب عليه الحافظ ابن كثير قائلا: والظاهر أن المراد من ذلك جنس السفينة، كقوله تعالى: وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ، وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ [يس ٣٦/ ٤١- ٤٢]، وقال تعالى: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ، لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ [الحاقة ٦٩/ ١١- ١٢] «١» ولهذا قال ها هنا:
فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ أي هل من متعظ ومعتبر يتعظ بهذه الآية ويعتبر بها؟! فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ أي فانظر أيها السامع كيف كان عذابي لمن كفر بي، وكذّب رسلي، ولم يتعظ بما جاءت به نذري المرسلون، وكيف انتصرت لهم، وأخذت لهم بالثأر، أو كيف كانت إنذاراتي؟ والاستفهام للتوبيخ والتخويف، وإنما أفرد العذاب فلم يقل: أنواع عذابي، وجمع النذر، إشارة إلى غلبة الرحمة الغضب، لأن الإنذار إشفاق ورحمة.
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ، فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ؟ أي لقد سهلناه
وفي الآية الحث على درس القرآن، والاستكثار من تلاوته، والمسارعة في تعلّمه، كما قال تعالى: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ، لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ، وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ [ص ٣٨/ ٢٩]، وقال سبحانه: فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ، وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا [مريم ١٩/ ٩٧]. قال ابن عباس: لولا أن الله يسره على لسان الآدميين ما استطاع أحد من الخلق أن يتكلم بكلام الله عزّ وجلّ.
والحكمة في تكرير قوله: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ... هي تجديد التنبيه على الادّكار والاتعاظ والتعرف على تعذيب الأمم السالفة، للاعتبار بحالهم.
وهكذا حكم التكرير في سورة الرحمن عند عدّ كل نعمة، وفي سورة المرسلات عند عدّ كل آية، لتكون مصوّرة للأذهان، محفوظة في كل أوان. وهذه القصص نفسها كم كررت في القرآن بعبارات مختلفة أوجز وأطنب، لأن التكرير يوجب التقرير في النفوس، والتذكير ينبه الغافل على أن كل موضع مختص بمزيد فائدة لم يعرف من غيره «١».
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- كان نوح عليه السلام في وقته ومبدأ دعوته العابد الوحيد لله عزّ وجلّ، وكان قومه أول المكذبين للرسل، لذا شرفه الله تعالى بقوله:
عَبْدَنا فالإضافة إلى الله تشريف منه، واختيار لفظ العبد أدل على صدقه وقبح تكذيبهم من قوله: رسولنا.
والأول أصح.
٣- لما زجروه وانزجر عن دعوتهم دعا ربّه: أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ أي غلبوني بتمردهم فانتصر لي.
٤- أجاب الله دعاءه، وأمره باتخاذ السفينة، ثم أغرقهم بالطوفان بماء كثير منصب متدفق من السحب، وماء نابع من الأرض فالتقى الماءان: ماء السماء وماء الأرض على حال قدرها الله وقضى بها من الأزل، لعلمه بتكذيبهم.
٥- ونجى الله نوحا عليه السلام ومن آمن معه بحملهم على سفينة ذات ألواح شدت بمسامير، وفي حفظ الله ورعايته وكلاءته، وقد جعل الله ذلك ثوابا وجزاء لنوح على صبره على أذى قومه الذين جحدوا برسالته، وعقابا للكافرين على كفرهم بالله تعالى.
٦- لقد ترك الله هذه الغفلة أو السفينة عبرة، فهل من متعظ خائف؟! قال قتادة: أبقاها- أي السفينة- الله بباقردى من أرض الجزيرة عبرة وآية، حتى نظرت إليها أوائل هذه الأمة، وكم من سفينة كانت بعدها، فصارت رمادا.
٧- عقب الله تعالى على القصة بأمرين: أولهما- فكيف كان العذاب والإنذار؟ تنبيها عاما للخلق. وثانيهما- لقد سهل الله القرآن الكريم للاتعاظ والادّكار، أو للحفظ وأعان عليه من أراد حفظه. قال سعيد بن جبير: ليس من كتب الله كتاب يقرأ كله ظاهرا إلا القرآن.
- ٢- قصة عاد قوم هود عليه السلام
[سورة القمر (٥٤) : الآيات ١٨ الى ٢٢]
كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٨) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (١٩) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (٢٠) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٢١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٢٢)
الإعراب:
رِيحاً صَرْصَراً صرصر: أصله صرّر، إلا أنه اجتمعت ثلاث راءات، فأبدلوا من الراء الثانية صادا، كما قالوا: رقرقت، وأصله رققت، فاجتمع فيه ثلاث قافات، فأبدلوا من القاف الوسطى راء، هربا من الاستثقال.
أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ إنما ذكر مُنْقَعِرٍ لأن النخل يذكر ويؤنث، ولهذا قال في موضع آخر: أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ [الحاقة ٦٩/ ٧]. والقاعدة: كل ما كان الفرق بين واحده وجمعه من أسماء الأجناس الهاء، نحو النخل والشجر والسدر، فإنه يجوز فيه التذكير والتأنيث.
البلاغة:
كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ تشبيه مرسل مجمل، حذف منه وجه الشبه.
المفردات اللغوية:
كَذَّبَتْ عادٌ نبيّهم هودا عليه السلام، فعذبوه. فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ إنذاري لهم بالعذاب قبل نزوله، أو إنذاري لمن بعدهم في تعذيبهم. صَرْصَراً شديدة الصوت والبرد.
نَحْسٍ شؤم. مُسْتَمِرٍّ دائم شؤمه حتى أهلكهم. تَنْزِعُ النَّاسَ تقلعهم من أماكنهم،
فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ كرره للتهويل، أو أنه ذكر مرتين في قصة عاد، لأن الاستفهام الأول للبيان، كما يقول المعلم لمن لا يعرف: كيف المسألة الفلانية؟ ليتنبه الطالب المسؤول للجواب الذي سيذكره المعلم، والاستفهام الثاني للتوبيخ والتخويف. أما في قصة ثمود فاقتصر على الأول للاختصار، وفي قصة نوح اقتصر على الثاني للاختصار أيضا، ولعله ذكر الاستفهامين معا في قصة عاد لفرط عتوهم، وقولهم: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً؟ [فصلت ٤١/ ١٥].
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ، فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ؟ أي متعظ، والمعنى كما تقدم: سهلناه للادّكار والاتعاظ بسبب المواعظ الشافية والبيانات الوافية، وقيل: للحفظ. والأول أنسب بالمقام، وإن روي أنه لم يكن شيء من كتب الله محفوظا على ظهر القلب سوى القرآن.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى تكذيب قوم نوح الذي بدأ به، لأن تكذيبهم كان أبلغ وأشد، حيث دعاهم قريبا من ألف سنة، وأصروا على التكذيب، أعقبه بقصة عاد قوم هود، تأكيدا للعظة والعبرة، وتبيانا للمشركين المكذبين في مكة وأمثالهم أن عاقبة المكذبين الهلاك والدمار، دون تفاوت بين الأقوام. وإنما قال عادٌ ولم يقل (قوم هود) كما قال (قوم نوح) لأن التعريف بالاسم العلم أولى من التعريف بالإضافة إليه.
التفسير والبيان:
كَذَّبَتْ عادٌ، فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ أي كما صنع قوم نوح في تكذيبهم رسولهم، كذبت قبيلة عاد قوم هود عليه السلام رسولهم، فانظروا واسمعوا أيها المخاطبون من قريش وغيرهم كيف كان عذابي لهم، وإنذاري إياهم.
وقوله: فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ لفت للأنظار، وتنبيه للأسماع لما سيذكر.
ونظير الآية: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ [فصلت ٤١/ ١٦] وقوله تعالى: سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً [الحاقة ٦٩/ ٧] أي متتابعة.
تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ أي إن تلك الريح الصرصر كانت تقتلعهم من الأرض اقتلاع النخلة من أصلها، قال مجاهد: كانت تقلعهم من الأرض، فترمي بهم على رؤوسهم، فتدقّ أعناقهم، وتبين رؤوسهم من أجسادهم.
والمعنى أنهم كانوا يتساقطون على الأرض أمواتا، وهم جثث طوال عظام، كأنهم أعجاز نخل وهي أصولها فلا فروع، مُنْقَعِرٍ: منقلع عن مغارسه.
وقد شبهوا في طول قاماتهم حين صرعتهم الريح. وطرحتهم على وجوههم بالنخل الساقط على الأرض التي ليست لها رؤوس.
والآية تومئ إلى أن الريح كانت تقتلع رؤوسهم، فتصبح الأجسام من غير رؤوس ولا هامات، وتشير أيضا إلى عظمة أجسادهم وطول قاماتهم، وإلى محاولتهم الثبات في الأرض والتشبث بها لمقاومة الريح، كما تشير أيضا إلى يبسهم وجفافهم بالريح التي كانت تقتلهم ببردها المفرط، فتجعلهم كأنهم أخشاب يابسة.
فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ أي فانظروا كيفية بطشي وعقابي وإنذاري.
ثم كرر التصريح بسهولة التعرف على ذلك بالقرآن، فقال:
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ، فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ أي لقد سهلنا القرآن للادكار والاتعاظ، بما أوردنا فيه من المواعظ الشافية، وبينا ما فيه من الوعد والوعيد، فهل من متعظ معتبر؟! وقيل: ولقد سهلناه للحفظ وأعنّا عليه من أراد حفظه، فهل من طالب لحفظه ليعان عليه «١» ؟
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- كذبت قبيلة عاد قوم هود برسولهم هود عليه السلام، فاستحقوا العقاب، لذا بادر الله تعالى إلى التخويف والتهويل بقوله: فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ وقد وقعت كلمة نُذُرِ في هذه السورة في ستة أماكن محذوفة الياء في جميع المصاحف، وقرأها يعقوب مثبتة في الحالين: حال الوقف والوصل، وقرأها ورش بالياء في الوصل لا غير.
٢- كان عقابهم بإرسال ريح شديدة البرد، شديدة الصوت، في يوم كان مشؤوما عليهم، قال ابن عباس: كان آخر أربعاء في الشهر، أفنى صغيرهم وكبيرهم. والمراد أنه يوم نحس على الفجار والمفسدين، كما كانت الأيام النحسات المذكورة في القرآن نحسات على الكفار من قوم عاد، لا على نبيهم والمؤمنين به منهم.
٣- وصف الله الريح بأنها تقلعهم من مواضعهم، قيل: قلعتهم من تحت
وكانت الريح تنزع الناس، فتتركهم كأنهم أعجاز نخل منقعر. والأعجاز:
جمع عجز: وهو مؤخر الشيء، وكانت أشخاص عاد موصوفين بطول القامة، فشبّهوا بالنخل انكبت لوجوهها.
٤- كانت العاقبة على قوم عاد سوءا وشرا مستطيرا، يستدعي التفكير بكيفية عذاب الله وإنذاراته. وطريق فهم ذلك ميسر، فإن القرآن بما اشتمل عليه من العظات والعبر سهل يسير الاعتبار والاتعاظ، فهل من متعظ معتبر؟!
- ٣- قصة ثمود قوم صالح عليه السلام
[سورة القمر (٥٤) : الآيات ٢٣ الى ٣٢]
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (٢٣) فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٢٤) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (٢٥) سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (٢٦) إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (٢٧)
وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (٢٨) فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ (٢٩) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٣٠) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (٣١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٣٢)
أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ بَشَراً منصوب بتقدير فعل دل عليه نَتَّبِعُهُ تقديره:
أنتبع بشرا منا واحدا؟
إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فِتْنَةً: إما مفعول لأجله، أو مصدر، منصوب على المصدرية. وقوله: وَاصْطَبِرْ أصله: اصتبر، على وزن: افتعل من الصبر، إلا أنهم أبدلوا من التاء طاء لتوافق الصاد في الإطباق.
فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ كَهَشِيمِ: في موضع نصب، لأنه خبر كان، والْمُحْتَظِرِ:
بكسر الظاء وهو المشهور، أي المتخذ الحظيرة، وقرئ بفتحها الْمُحْتَظِرِ أي مكان الحظيرة.
البلاغة:
بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ صيغة مبالغة على وزن فعال وفعل، أي كثير الكذب، عظيم البطر.
فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ تشبيه مرسل مجمل.
المفردات اللغوية:
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ أي بالرسل جمع نذير بمعنى منذر أو بالإنذارات والمواعظ، فإنهم كذبوا بالأمور التي أنذرهم بها نبيهم صالح عليه السلام، وتكذيبه تكذيب لجميع الرسل، لاتفاقهم على أصول الدين. أَبَشَراً مِنَّا أي من جنسنا أو من جملتنا لا فضل له علينا. واحِداً منفردا لا تبع له، والاستفهام بمعنى النفي، المعنى: كيف نتبعه ونحن جماعة كثيرة، وهو واحد منا، وليس بحاكم ولا ملك؟ أي لا نتبعه. إِنَّا إِذاً أي إنا إن اتبعناه. لَفِي ضَلالٍ خطأ وبعد عن الصواب. وَسُعُرٍ جنون، ومنه: ناقة مسعورة أي مجنونة.
الذِّكْرُ الوحي. عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا أي وفينا من هو أحق منه بذلك. بَلْ هُوَ كَذَّابٌ في أنه أوحي إليه. أَشِرٌ متكبر بطر، حمله بطره على الترفع علينا بادّعائه.
سَيَعْلَمُونَ غَداً أي عند نزول العذاب بهم، أو يوم القيامة. مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ هو أو هم، أي الذي حمله أشره على الاستكبار عن الحق، وطلب الباطل.
إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ مخرجوها وباعثوها. فِتْنَةً لَهُمْ اختبارا أو امتحانا لهم.
فَارْتَقِبْهُمْ فانتظرهم يا صالح وتبصر ما يصنعون. وَاصْطَبِرْ اصبر على أذاهم. قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ مقسوم بينهم وبين الناقة، يوم لهم ويوم لها. كُلُّ شِرْبٍ نصيب من الماء.
مُحْتَضَرٌ يحضره صاحبه في نوبته.
إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً هي صيحة جبريل عليه السلام، والجملة بيان للعذاب المشار إليه في الجملة السابقة. كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ أي مثل المتهشم اليابس، المتكسر من الشجر، الذي يجمعه صاحب الحظيرة لماشيته في الشتاء. وقرئ بفتح الظاء، أي كهشيم الحظيرة. وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ سهلنا القرآن للاتعاظ به. فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ متعظ.
المناسبة:
هذه قصة ثالثة أو أنموذج من تكذيب الأمم الخالية رسلها، فإن عادتهم ومذهبهم إنكار الرسل وتكذيبهم، فكذبوا نوحا وهودا وصالحا عليهم السلام فيما يدعيه من الوحي عن ربه، وكل من كذب رسولا كذب جميع الرسل لاتحادهم في أصول الاعتقاد والدين. وكانت معجزة صالح عليه السلام ناقة فريدة تشرب ماء نهير كله يوما، وتدر لبنا يكفي جميع القبيلة، بل يفيض عنهم، فقتلوها، فعاقبهم الله بعذاب الصيحة: صيحة جبريل عليه السلام، فبادوا عن آخرهم.
التفسير والبيان:
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ كذبت قبيلة ثمود قوم صالح برسل الله الكرام، بتكذيبهم لرسولهم، وهو صالح، ومن كذب واحدا من الأنبياء، فقد كذب سائرهم، لاتفاقهم في الدعوة إلى كليات الشرائع وأصولها العامة، كتوحيد الله تعالى، وعبادته، والإيمان بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. ويلاحظ أنه في قصة نوح وقصة عاد قال: كَذَّبَتْ ولم يقل بالنذر، وفي هذه القصة وقصة قوم لوط قال: بِالنُّذُرِ والأمر سواء، لأن عادتهم التكذيب.
ثم أبان الله تعالى مظاهر تكذيبهم، فقال:
٢- أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا، بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ أي كيف خصّ من بيننا بالوحي والنبوة، وفينا من هو أحق بذلك منه، بل هو متجاوز في حد الكذب فيما يدعيه من نزول الوحي الإلهي عليه، ومتكبر بطر، حمله تكبره على الترفع علينا بادعائه الوحي.
فوجّه الله تعالى إليهم تهديدا شديدا ووعيدا أكيدا بقوله:
سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ أي سيعرفون عما قريب في المستقبل وقت نزول العذاب بهم في الدنيا، أو يوم القيامة، وسيتبين لهم من هو المفتري الكذب، الأبلغ في الشرارة، أصالح في تبليغ رسالة ربه، أم هم في تكذيبهم إياه؟ والمراد أنهم هم الكذابون البطرون المتكبرون.
ثم وصف الله تعالى جرمهم مخاطبا صالحا فقال:
- إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ أي إنا مخرجو الناقة العظيمة العشراء من صخرة صماء، كما سألوا، لتكون حجة الله عليهم في تصديق صالح عليه السلام فيما جاءهم به، ولتكون امتحانا واختبارا لهم، فانتظر ما يؤول إليه أمرهم وما يصنعون واصبر عليهم وعلى ما يصيبك من الأذى منهم، فإن العاقبة لك والنصر في الدنيا والآخرة.
- وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ، كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ أي وأخبرهم أن ماء البئر أو النهير مقسوم بينهم وبين الناقة، لها يوم ولهم يوم، وكل حظ أو نصيب
ونحو الآية: قالَ: هذِهِ ناقَةٌ، لَها شِرْبٌ، وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [الشعراء ٢٦/ ١٥٥].
- فَنادَوْا صاحِبَهُمْ، فَتَعاطى فَعَقَرَ أي ولكن ثمود ملّوا هذه القسمة، وبادروا إلى التخلص من هذا الوضع كفرا وعنادا، فنادوا نداء المستغيث قدار بن سالف، وكان أشقى قومه، وأشجع وأهجم على الأمور، وحرضوه على عقر الناقة، فاجترأ على الأمر العظيم، وتعاطى أسباب العقر، فأهوى بسيفه على قوائم الناقة، فكسر عرقوبها، ثم نحرها.
- فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ أي فعاقبتهم، فانظر كيف كان عقابي لهم على كفرهم بي وتكذيبهم رسولي الذي ينذرهم ويخوفهم عذاب الله. ويلاحظ أن هذه الآية ذكرت في قصة ثمود قبل بيان العذاب للبيان، وفي قصة نوح بعد بيان العذاب للتهويل والتعظيم، وفي قصة عاد قبل بيان العذاب وبعد بيانه، للجمع بين الأمرين.
- إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً، فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ أي إنا أرسلنا عليهم صيحة جبريل، فصاح بهم، فبادوا عن آخرهم، لم تبق منهم باقية، وجمدوا وهمدوا كما يهمد وييبس الزرع والنبات، وصاروا كالعشب أو فتات الشجر اليابس الذي جمعه الراعي المحتظر في الحظيرة إذا داسته الغنم بعد سقوطه.
والهشيم: الشجر اليابس المتهشم، أي المتكسر، والمحتظر: الذي يعمل الحظيرة ليحفظ الغنم من الذئاب. ووجه التشبيه: أن ما يحتظر به ييبس بطول
- وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ، فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ أي ولقد سهلنا القرآن للتذكر والاتعاظ، والاعتبار بالأحداث والوقائع، فهل من متعظ؟!
فقه الحياة أو الأحكام:
يستفاد من الآيات ما يأتي:
١- كذبت قبيلة ثمود كغيرها الرسل ونبيهم، وكذبوا بالآيات التي جاء بها، وأنكروا أن ينبأ بشر كائن منهم منفرد لا أتباع له، وزعموا أنهم إن اتبعوه كانوا في خطأ وذهاب عن الصواب، وجنون وعناء.
٢- وقالوا على طريق الاستفهام المراد به الإنكار: كيف خصص بالرسالة من بين آل ثمود، وفيهم من هو أكثر مالا وأحسن حالا؟ بل هو كذاب فيما يدّعيه، وإنما يريد أن يتعاظم ويلتمس التكبر علينا من غير استحقاق.
٣- هددهم الله بأنه سيحل بهم العذاب في الدنيا، والعذاب يوم القيامة.
وقوله: سَيَعْلَمُونَ غَداً.. على التقريب، على عادة الناس في قولهم للعواقب: إن مع اليوم غدا. وهذا القول مفروض الوقوع في وقت قولهم:
بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ أو أنه تهديد بالتعذيب يوم القيامة. وسيتبين لهم من هو الكذاب الأشر، أهو صالح عليه السلام أم هو؟
٤- أخرج الله لهم ناقة عظيمة من الهضبة التي سألوها، روي أن صالحا صلى ركعتين، ودعا، فانصدعت الصخرة التي عينوها عن سنامها، فخرجت ناقة عشراء. وكان ذلك ابتلاء واختبارا لهم. ومعنى قوله: إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ:
٥- أمر الله تعالى نبيه صالحا عليه السلام بأوامر ثلاثة: انتظر ما يصنعون، واصبر على أذاهم، وأخبرهم أن الماء مقسوم بين آل ثمود وبين الناقة، لها يوم ولهم يوم. قال ابن عباس: كان يوم شربهم لا تشرب الناقة شيئا من الماء، وتسقيهم لبنا، وكانوا في نعيم، وإذا كان يوم الناقة شربت الماء كلّه، فلم تبق لهم شيئا.
أي أنهم يوم شربها أو وردها الماء يحتلبون منها ما شاؤوا.
٦- ملّوا هذه القسمة، فحرضوا صاحبهم قدار بن سالف أشقى ثمود على عقرها، فعقرها، بأن رماها بسهم، ثم ضرب قوائمها بالسيف، ثم نحرها.
٧- عاقبهم الله جزاء تكذيبهم وكفرهم برسولهم صالح، واعتدائهم على الناقة، فأرسل عليهم صيحة واحدة من جبريل عليه السلام، فلما سمعوا الصيحة ماتوا، وبادوا عن آخرهم، ولم يبق منهم أحد، وأصبحوا كهشيم المحتظر، قال ابن عباس: المحتظر: هو الرجل يجعل لغنمه حظيرة بالشجر والشوك، فما سقط من ذلك وداسته الغنم فهو الهشيم. وعنه: كحشيش تأكله الغنم، أو كالعظام النخرة المحترقة. وقوله: فَكانُوا فيه استعمال الماضي فيما اتصل بالحال.
٨- المتأمل ينظر بما آل إليه هؤلاء القوم من إبادة وعذاب أصبحوا مثلا وعبرة للتاريخ.
٩- يسهل على كل إنسان إدراك هذه الحقيقة من القرآن الذي أخبر عن هذه المحنة الأليمة، فهو كتاب سهل المأخذ، يسر الله به فهم المواعظ والعبر، فهل من متعظ معتبر؟! والتكرار للتذكار والتأكيد.
[سورة القمر (٥٤) : الآيات ٣٣ الى ٤٠]
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (٣٣) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (٣٤) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (٣٥) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (٣٦) وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (٣٧)
وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ (٣٨) فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (٣٩) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٤٠)
الإعراب:
إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ، نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا آلَ لُوطٍ: منصوب على الاستثناء، وبِسَحَرٍ في موضع نصب، لأنه متعلق ب نَجَّيْناهُمْ وصرفه أي نونه، لأنه أراد به سحرا من الأسحار. ولو أراد به التعريف لكان ممنوعا من الصرف، أي التنوين للتعريف والعدل عن لام التعريف. ونِعْمَةً: مفعول لأجله.
المفردات اللغوية:
بِالنُّذُرِ بالرسل والأمور المنذرة على لسانهم، وتكذيب نبي واحد كتكذيب جميع الأنبياء، لاتفاقهم على أصول الشرائع كما تقدم. حاصِباً ريحا تحصبهم بالحجارة، أي ترميهم بالحصباء: وهي صغار الحجارة، الواحد دون ملء الكف. إِلَّا آلَ لُوطٍ أهله وابنتاه معه.
بِسَحَرٍ أي بسحر من الأسحار، من يوم غير معين، والسحر: السدس الأخير من الليل قبيل طلوع الفجر. نِعْمَةً مصدر، أي إنعاما. كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ أي مثل ذلك الجزاء نجزي من شكر نعمنا، وكان مؤمنا بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، مطيعا الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ أي خوّفهم لوط عليه السلام. بَطْشَتَنا أخذتنا بالعذاب. فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ أي شكّوا في الإنذارات وكذبوا بها. راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ قصدوا الفجور بضيوفه، وطلبوا منه تمكينهم منهم وأن يسلمهم أضيافة الذين كانوا ملائكة. فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ أعميناهم، أو
بُكْرَةً أول النهار. عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ دائم يستقر بهم إلى أن يهلكوا، أو يتصل بعذاب الآخرة. فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ، وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ، فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ قال البيضاوي:
كرر ذلك في كل قصة إشعارا بأن تكذيب كل رسول مقتض لنزول العذاب، واستماع كل قصة مستدع للادّكار والاتعاظ، واستئنافا للتنبيه والإيقاظ، لئلا يغلبهم السهو والغفلة، وهكذا تكرير قوله:
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وفَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ونحوهما.
وإنما لم يقل هنا فَكَيْفَ كانَ عَذابِي كما قال في القصص الثلاث الأخرى، لأن التكرار ثلاث مرات بالغ كاف، ويحصل التأكيد بالثلاث.
المناسبة:
هذه قصة رابعة هي قصة قوم لوط، ذكرها الله تعالى لبيان السبب وهو تكذيب الرسل وارتكاب الفواحش، وبيان العقاب الشديد وهو التدمير والإهلاك، ليعتبر كل الناس، ويعلموا أنه ما من هلاك إلا بعد إنذار بالعذاب على لسان رسول، ثم تكذيبه.
التفسير والبيان:
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ هذا حال قوم آخرين، وهم قوم لوط الذين كذبوا رسولهم وخالفوه، وكذبوا بالآيات التي أنذرهم بها، واقترفوا الفاحشة.
ثم بيّن الله تعالى عذابهم وإهلاكهم، فقال:
إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ أي إننا أرسلنا عليهم ريحا ترميهم بالحصباء، وهي الحصى والحجارة، فأهلكتهم ودمرتهم إلا لوطا عليه السلام ومن آمن به واتبعه، فإنا أنجيناهم من الهلاك في آخر الليل أو في قطعة من الليل وهو السدس الأخير، نجوا مما أصاب قومهم.
وكان سبب نجاتهم شكرانهم النعمة، فقال تعالى:
نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا، كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ أي لقد أنجيناهم إنعاما منا عليهم، وتكريما لهم، ومثل ذلك الجزاء الحسن، نجزي من شكر نعمتنا ولم يكفرها، بأن آمن وأطاع أمرنا، واجتنب نهينا.
ثم بين الله تعالى عدله في العقاب وهو مجيئه بعد إنذار، فقال:
وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا، فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ أي ولقد أنذرهم نبيهم بطشة الله بهم، وهي عذابه الشديد، وعقوبته البالغة، قبل حلوله بهم، إن لم يؤمنوا، فما التفتوا إلى ذلك ولا أصغوا إليه، بل شكوا في الإنذار ولم يصدقوه، وكذبوه.
ثم ذكر الله تعالى جرما آخر لهم عدا الكفر والتكذيب، فقال:
وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ، فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ، فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ أي لقد أرادوا منه تمكينهم ممن أتاه من الضيوف الملائكة الذين جاؤوا في صورة شباب مرد حسان، ليفجروا بهم، كما هو دأبهم، إذ قد بعثت امرأته العجوز السوء إلى قومها، فأعلمتهم بأضياف لوط، فأقبلوا يهرعون إليه من كل مكان، فأغلق لوط دونهم الباب، فجعلوا يحاولون كسر الباب عشية الليل، ولوط عليه السلام يدافعهم ويمانعهم دون أضيافه، وأرشدهم إلى نسائهم الذين هم بمثابة بناته، وهو لهم كالأب.
فلما اشتد الخلاف، وأبوا إلا الدخول، طمس الله أبصارهم، فأصبحوا لا يرون شيئا، فرجعوا على أدبارهم، يتحسسون بالحيطان، ويتوعدون لوطا عليه السلام، إلى الصباح.
ثم ذكر تعالى نوع العذاب العام الذي أصابهم ووقته، فقال:
وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ أي لقد أتاهم صباحا عذاب مستقرّ بهم، نازل عليهم، لا يفارقهم ولا ينفك أو يحيد عنهم، كما قال تعالى: إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ [هود ١١/ ٨١] والعذاب المستقر: الثابت الذي لا محيد عنه أو الذي استقر عليهم إلى الاستئصال الكلي.
ثم أوضح تعالى العبرة وحكى ما قيل لهم، فقال:
- فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ أي فذوقوا جزاء أفعالكم ومقتضى إنذاركم السابق.
- وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ، فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ أي ولقد سهلنا آيات القرآن للاتعاظ والتذكر، فهل من متعظ معتبر. وهذه الجملة الواردة عقب القصص الأربع للتأكيد والتنبيه والاتعاظ والزجر، كما تقدم.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- لما كذب قوم لوط نبيهم، أرسل الله عليهم ريحا ترميهم بالحصباء وهي الحصى، فلا عقاب دون جريمة، ولا عذاب قبل إنذار.
٢- نجّى الله تعالى نبيه لوطا عليه السلام ومن تبعه على دينه، ولم يكن إلا بنتاه، وتمت النجاة في وقت السحر آخر الليل، إنعاما من الله على لوط وبنتيه، ومثل ذلك الجزاء يجازي الله كل من آمن بالله وأطاعه، أي أن ذلك الإنجاء كان فضلا من الله ونعمة، كما أن ذلك الإهلاك كان عدلا. وفيه فائدة وهي الدلالة
٣- لا عقاب أيضا إلا بعد إنذار، فلقد أنذر لوط عليه السلام قومه، وخوّفهم عقوبة ربهم، وأخذه إياهم بالعذاب الدنيوي والأخروي، فشكّوا فيما أنذرهم به الرسول، ولم يصدقوه. وفي هذا تبرئة لوط عليه السلام وبيان أنه أتى بما عليه.
٤- اقترن مع كفرهم جريمة كبري أخرى هي اقترافهم الفواحش، بل إنهم أرادوا من لوط عليه السلام تمكينهم ممن كان أتاه من الملائكة في هيئة الأضياف، طلبا للفاحشة.
٥- لما أصرّوا على الاعتداء على الملائكة، واقتحام منزل لوط عليه السلام، أعماهم الله مع صحة أبصارهم، فلم يروهم. ويروى أن جبريل عليه السلام ضربهم بجناحه فعموا. قال الضحاك: طمس الله على أبصارهم، فلم يروا الرسل، فقالوا: لقد رأيناهم حين دخلوا البيت، فأين ذهبوا؟ فرجعوا ولم يروهم.
٦- قال الله لهم على ألسنة الملائكة: ذوقوا عذابي الذي أنذركم به لوط، والمراد بذوق العذاب مجازاة الفعل وموجبه.
٧- لقد صبّحهم أول النهار، وقت الصبح عذاب دائم عام، استقر فيهم، حتى يفضي بهم إلى عذاب الآخرة. وفائدة قوله: بُكْرَةً تبيين حدوث العذاب في أول النهار، لأن التصبيح يطلق على الإتيان في أزمنة كثيرة من أول الصبح إلى ما بعد الإسفار، فإذا قال: بُكْرَةً أفاد أنه كان أول جزء منه.
٨- كرر الله تعالى للتأكيد ما قالته الملائكة لهم: ذوقوا العذاب الذي نزل بكم من طمس الأعين، غير العذاب الذي أهلكوا به، لأن العذاب كان مرتين:
أحدهما- خاص بالمراودين، والآخر عام.
- ٥- قصة آل فرعون
[سورة القمر (٥٤) : الآيات ٤١ الى ٤٢]
وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (٤١) كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (٤٢)
المفردات اللغوية:
آلَ فِرْعَوْنَ قومه معه، واكتفى بذكرهم دونه للعلم بأنه القائد وأنه أولى بذلك.
النُّذُرُ الإنذارات على لسان موسى وهارون، فلم يؤمنوا. كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها أي بل كذبوا بالآيات التسع التي أوتيها موسى عليه السلام. فَأَخَذْناهُمْ بالعذاب. أَخْذَ عَزِيزٍ قوي لا يغالب ولا يغلب. مُقْتَدِرٍ قادر لا يعجزه شيء.
التفسير والبيان:
هذه قصة خامسة بإيجاز، أخبر الله بها عن تكذيب فرعون وقومه بالرسل، فقال:
وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ أي والله لقد جاءت الإنذارات والبشائر فرعون وقومه من طريق موسى وهارون، الإنذار بالعذاب إن كفروا، والبشارة بالجنة إن آمنوا. والفرق بين الآل والقوم: أن القوم أعم من الآل، فالقوم: كل من يقوم الرئيس بأمرهم ويأتمرون بأمره، والآل: كل من يؤول إلى الرئيس خيرهم وشرهم، أو يؤول إليهم خيره وشره.
فقه الحياة أو الأحكام:
هذا خبر موجز عن فرعون وقومه: القبط، يتضمن بيان الجريمة والعقاب، فإن الله أرسل لهم موسى وهارون بالإنذارات والبشائر، فكذبوا بجميع الآيات أو المعجزات الدالة على توحيد الله ونبوة الأنبياء، وهي تسع: العصا، واليد، والسّنون، والطمسة، والطوفان، والجراد، والقمّل، والضفادع، والدم، فعاقبهم الله بكفرهم بربهم وتكذيبهم رسل الله، وكان العقاب شديدا لصدوره من إله غالب في انتقامه، قادر على ما أراد.
ويلاحظ أن القصص الخمس المذكورة في هذه السورة: قصة قوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم لوط، وآل فرعون مشتركة في السبب أو الجريمة، وفي الجزاء أو العقاب، والسبب أو الجريمة يكاد يكون واحدا وهو الكفر بالله وتكذيب الرسل، مع معاص أخرى، والعقوبة وإن اختلفت بين طوفان، وريح صرصر عاتية، وصيحة جبريل، وريح حاصب، وإغراق، فنتيجتها واحدة وهي الإبادة والاستئصال التام، وتلك عبرة وعظة لكفار قريش وأمثالهم.
[سورة القمر (٥٤) : الآيات ٤٣ الى ٥٥]
أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (٤٣) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (٤٤) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (٤٥) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (٤٦) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٤٧)
يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (٤٨) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (٤٩) وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (٥٠) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٥١) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (٥٢)
وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (٥٣) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (٥٤) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (٥٥)
الإعراب:
أَمْ يَقُولُونَ: نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ نَحْنُ: مبتدأ، جَمِيعٌ: خبره، ومُنْتَصِرٌ: خبر لمحذوف تقديره: أمرنا أو جمعنا.
إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ كُلَّ: بالنصب بتقدير (خلقنا) وذلك يدل على العموم واشتمال الخلق على جميع الأشياء، ولا يجوز أن يكون (خلقنا) صفة شَيْءٍ لأن الصفة لا تعمل فيما قبل الموصوف. وتقرأ كُلَّ بالرفع على الابتداء، وخَلَقْناهُ: خبره، لكن لا يكون كُلَّ حينئذ متمحضا للعموم، لأن المعنى: إنا كل شيء مخلوق لنا بقدر، فيحتمل أن يكون هاهنا ما ليس بمخلوق من الأشياء، بخلاف حالة النصب، فإنه لا يحتمل إلا العموم. وبِقَدَرٍ: حال من كُلَّ، أي مقدرا.
البلاغة:
أَكُفَّارُكُمْ أَمْ يَقُولُونَ الاستفهام إنكاري يقصد به النفي.
بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ، وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ إطناب بتكرار لفظ الساعة لزيادة التخويف.
ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ المس مجاز مرسل عن الألم، وعلاقته السببية، فإن مسها سبب للألم، ويراد بالذوق الإحساس.
صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ بينهما طباق.
في أواخر الآيات كلها سجع غير متكلف له وقع وجرس وجمال في اللفظ.
المفردات اللغوية:
أَكُفَّارُكُمْ يا قريش. مِنْ أُولئِكُمْ المذكورين في القصص السابقة من قوم نوح إلى آل فرعون. بَراءَةٌ وثيقة مكتوبة بالنجاة من العذاب. الزُّبُرِ الكتب السماوية، جمع زبور، المعنى: أم أنزل لكم في الكتب السماوية أن من كفر منكم، فهو في أمان من العذاب. والاستفهام في الموضعين بمعنى النفي، أي ليس الأمر كما تزعمون أو تتصورون.
أَمْ يَقُولُونَ كفار قريش. نَحْنُ جَمِيعٌ جمع. مُنْتَصِرٌ على محمد، قال أبو جهل يوم بدر: إنا جمع منتصر، فنزلت الآية: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ يرجعون إلى الأدبار هاربين، فقد هزموا ببدر، ونصر رسول الله ﷺ عليهم، وهو من دلائل النبوة. بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ بالعذاب الأصلي. وَالسَّاعَةُ أي وعذاب الساعة. أَدْهى أعظم وأشد بلية وداهية، والداهية: أمر فظيع لا يهتدى لعلاجه. وَأَمَرُّ أشد مرارة ومذاقا من عذاب الدنيا، والمراد: أصعب على النفس وأكثر شدة وهولا.
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ الكفار والمشركين. فِي ضَلالٍ خطأ وبعد عن الحق. وَسُعُرٍ نيران مستعرة في الآخرة. يُسْحَبُونَ يجرّون على وجوههم. ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ أي يقال لهم: ذوقوا حر النار وألمها، فإن مسّها أي إصابتها سبب للتألم بها، وسَقَرَ اسم جهنم، ولذلك كان ممنوعا من الصرف. بِقَدَرٍ أي مقدّرا بمقدار معلوم مكتوب في اللوح قبل وقوعه.
أَمْرُنا شأننا، أو أمرنا بإيجاد الشيء الذي نريده. إِلَّا واحِدَةٌ أي كلمة واحدة، وهي قول (كن) فيوجد، أو فعلة واحدة، وهو الإيجاد بلا معاناة. كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ أي في اليسر والسرعة. أَشْياعَكُمْ أشباهكم في الكفر من الأمم الماضية. فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ متعظ، والاستفهام بمعنى الأمر، أي اذكروا واتعظوا. فِي الزُّبُرِ مكتوب في سجل أو كتب الحفظة.
مُسْتَطَرٌ مسطور أو مكتوب في اللوح المحفوظ.
فِي جَنَّاتٍ بساتين. وَنَهَرٍ أنهار، المراد به الجنس. وقرئ بضم النون وسكون الهاء كأسد وأسد. فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ في مكان مرضي، أو في مجلس حق لا لغو فيه ولا تأثيم، والمراد
والعندية ليست عندية مكان، وإنما إشارة إلى الرتبة والقربة من فضل الله تعالى.
سبب النزول:
نزول الآية (٤٥) :
سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ..: أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: قالوا يوم بدر: نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ، فنزلت: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ، وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ.
نزول الآية (٤٧) :
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ..: أخرج مسلم والترمذي عن أبي هريرة قال: جاء مشركو قريش يخاصمون رسول الله ﷺ في القدر، فأنزل الله تعالى: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ إلى قوله: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ.
وروى ابن حبان عن أبي أمامة الباهلي قال: أشهد بالله لسمعت رسول الله ﷺ يقول: إن هذه الآية نزلت في القدرية «١» : إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ، يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ، ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ، إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ.
وذكر أبو بكر بن الحارث عن أبي زرارة الأنصاري: أن رسول الله ﷺ قرأ هذه الآية: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ.. ثم قال: أنزلت هذه الآية في أناس من آخر هذه الأمة يكذبون بقدر الله تعالى.
بعد بيان إهلاك بعض الأمم السابقة وهم قوم نوح وهود وصالح ولوط بسبب تكذيبهم الرسل، خاطب الله أهل مكة موبخا لهم بطريق الاستفهام الإنكاري، ليبين لهم أن ما أصاب غيرهم من العذاب والهوان سيصيبهم، لأن ما جرى على المثيل يجري على مثيله، إن استمروا على كفرهم، وأصروا على ضلالهم، وأنهم أيضا سيهزمون في الدنيا، وسيلقون في الآخرة عذابا أشد وأدهى.
ثم أبان الله تعالى نوع عذاب المجرمين أي المشركين في الآخرة، وأن كل شيء مخلوق لله سبحانه، وأن أمره تعالى سريع النفاذ بكلمة (كن) التكوينية، وختم السورة بذكر ثواب المتقين الأبرار.
التفسير والبيان:
أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ أي أكفاركم يا مشركي قريش خير من الذين تقدم ذكرهم ممن أهلكوا بسبب تكذيبهم الرسل، وكفرهم بالكتب السماوية، أم معكم من الله براءة فيما أنزل من الكتب ألا ينالكم عذاب ولا نكال؟! والمعنى: ليس كفاركم يا أهل مكة، أو يا معشر العرب، خيرا من كفار من تقدمكم من الأمم الذين أهلكوا بسبب كفرهم، فلستم بأفضل منهم، حتى تكونوا بمأمن مما أصابهم من العذاب عند تكذيبهم لرسلهم، وليست لكم براءة من عذاب الله في شيء من كتب الأنبياء.
وهذا تهديد وتوبيخ لمن أصرّ على الكفر من مشركي العرب، فالمراد بعض العرب لا كلهم، فليس كفارهم خيرا ممن سبقهم، وهم قوم نوح وهود وصالح ولوط، بل هم مثلهم أو شر منهم.
فرد الله تعالى عليهم بقوله: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ أي سيتفرق جمع أو شمل كفار مكة أو كفار العرب على العموم ويغلبون، ويولون الأدبار هاربين منهزمين. وكان هذا دليلا من دلائل النبوة، فقد هزمهم الله يوم بدر، وولوا الأدبار، وقتل رؤساء الكفر وأساطين الشرك.
سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ أي سيتفرق جمع أو شمل كفار مكة أو كفار العرب على العموم ويغلبون، ويولون الأدبار هاربين منهزمين. وكان هذا دليلا من دلائل النبوة، فقد هزمهم الله يوم بدر، وولوا الأدبار، وقتل رؤساء الكفر وأساطين الشرك.
عن أبي جهل: أنه ضرب فرسه يوم بدر، فتقدم في الصف، فقال: نحن ننصر اليوم من محمد وأصحابه، فنزلت: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ أي الأدبار.
وأخرج البخاري والنسائي عن ابن عباس: أن النبي ﷺ قال: وهو في قبّة له يوم بدر: «أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم في الأرض أبدا» فأخذ أبو بكر رضي الله عنه بيده، وقال: حسبك يا رسول الله، ألححت على ربّك، فخرج وهو يثب في الدرع، وهو يقول: «سيهزم الجمع، ويولون الدبر، بل الساعة موعدهم، والساعة أدهى وأمرّ».
ثم بيّن الله تعالى أن الأمر غير مقتصر على انهزامهم وإدبارهم، بل الأمر أعظم منه، فإن الساعة موعدهم، وسيلقون في الآخرة عذابا أشد إن بقوا مصرين على الكفر، فقال:
بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ، وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ أي بل إن القيامة موعد عذابهم الأخروي، وليس هذا العذاب الكائن في الدنيا بالقتل والأسر والقهر هو تمام ما وعدوا به من العذاب، وإنما هو مقدمة من مقدماته، وعذاب القيامة أعظم وأنكى، وأشد مرارة من عذاب الدنيا، كما أنه عذاب دائم خالد.
قال الرازي: هذا قول أكثر المفسرين، والظاهر أن الإنذار بالساعة لكل من تقدم، كأنه قال: أهلكنا الذين كفروا من قبلك، وأصرّوا، وقوم محمد ﷺ ليسوا بخير منهم، فيصيبهم ما أصابهم إن أصروا، ثم إن عذاب الدنيا ليس لإتمام المجازاة، فإتمام المجازاة بالأليم الدائم».
ثم أخبر الله تعالى عن نوع العذاب الأخروي، فقال:
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ أي إن المشركين بالله الذين كذبوا رسله وكل كافر ومبتدع كافر ببدعته من سائر الفرق في حيرة وتخبط في الدنيا وبعد عن الحق والصراط المستقيم، وفي نيران مستعرة في جهنم يوم القيامة.
وأكثر المفسرين اتفقوا على أن هذه الآية نازلة في القدرية، روى الواحدي في تفسيره بإسناده عن أبي هريرة قال: جاء مشركو قريش يخاصمون رسول الله ﷺ في القدر، فأنزل الله تعالى هذه الآية إلى قوله: خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ «١».
وعن عائشة أن النبي ﷺ قال: «مجوس هذه الأمة: القدرية» «٢»
وهم المجرمون الذين سماهم الله في قوله: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ عن الحق في الدنيا وَسُعُرٍ وهو نيران في الآخرة.
وبيّن الإمام الرازي رحمه الله معنى القدرية الذين قال النبي ﷺ نزلت الآية فيهم، فذكر أن كل فريق في خلق الأعمال يذهب إلى أن القدري خصمه، فالجبري يقول: القدري من يقول: الطاعة والمعصية ليستا بخلق الله وقضائه وقدره، فهم قدرية، لأنهم ينكرون القدر. والمعتزلي يقول: القدري: هو الجبري الذي يقول حين يزني ويسرق: الله قدرني، فهو قدري لإثباته القدر، وهما جميعا يقولان لأهل السنة الذين يعترفون بخلق الله، وليس من العبد: إنه قدري.
والحق أن القدري الذي نزلت فيه الآية: هو الذي ينكر القدر، وينكر قدرة الله تعالى، ويقول بأن الحوادث كلها حادثة بالكواكب واتصالاتها، ويدل عليه قوله: جاء مشركو قريش يحاجون رسول الله ﷺ في القدر، فإن مذهبهم ذلك. وأما المراد من
قوله صلى الله عليه وسلم: «مجوس هذه الأمة هم القدرية»
فهم القدرية
(٢)
رواه ابن ماجه عن جابر بلفظ «إن مجوس هذه الأمة المكذبون بأقدار الله تعالى..»
وهو ضعيف.
يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ، ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ أي إن المجرمين الكفار يعذبون في النار، ويجرّون فيها على وجوههم للإهانة والإذلال، ويقال لهم تقريعا وتوبيخا: ذوقوا وقاسوا حرّ النار وآلامها وشدة عذابها.
ثم أبان الله تعالى أن كل ما يحدث في الكون، ومنه أفعال العباد كلهم، هو مخلوق لله، فقال:
إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ أي إن كل شيء من الأشياء، وكل فعل من الأفعال في هذا الكون أو هذه الحياة خيرا كان أو شرا، مخلوق لله تعالى، مقدر محكم مرتّب على حسب ما اقتضته الحكمة، وعلى وفق ما هو مقدر مكتوب في اللوح، معلوم لله ثابت في سابق علم الله الأزلي، قبل وجوده أو كونه، يعلم حاله وزمانه. والقدر: التقدير.
ونظير الآية قوله تعالى: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ، فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً [الفرقان ٢٥/ ٢] وقوله سبحانه: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى، وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى [الأعلى ٨٧/ ١- ٣] أي قدر قدرا، وهدى الخلائق إليه.
وقد استدل أهل السنة بهذه الآية الكريمة على إثبات قدر الله السابق لخلقه:
وهو علمه الأشياء قبل كونها، وكتابته (أي تسجيله) لها قبل حدوثها.
أخرج الإمام أحمد ومسلم عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل شيء بقدر، حتى العجز والكسل».
وفي الحديث الصحيح الذي أخرجه أحمد ومسلم أيضا عن أبي هريرة: «استعن بالله، ولا تعجز، فإن أصابك أمر فقل:
وأخرج أحمد والترمذي والحاكم عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ قال له: «يا غلام، إني أعلّمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفّت الصحف».
ومن المعلوم أن الكتابة لا تغني الجبر والفرض على العباد، والعلم السابق بالأشياء لا يدل على الإلزام، وإنما يدل على أن جميع ما في الكون معلوم سابقا لله تعالى.
ثم أوضح الله تعالى نفاذ مشيئته في خلقه، ونفاذ قدره فيهم، فقال:
وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ أي إن أمرنا بإيجاد الأشياء إنما يكون مرة واحدة، لا حاجة فيه إلى تأكيد ثان، فيكون الذي نأمر به بكلمة واحدة حاصلا موجودا كلمح البصر في سرعته، لا يتأخر طرفة عين. ولمح البصر: إغماض البصر، ثم فتحه. وهذا تمثيل وتقريب لسرعة نفاذ المشيئة في إيجاد الأشياء، فهو كلمح البصر أو أقرب، كما قال تعالى: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ [يس ٣٦/ ٨٢].
ثم أعاد تعالى التنبيه للحق والاتعاظ بهلاك السابقين، فقال:
وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ، فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ؟ أي وتالله لقد أهلكنا أمثالكم وأشباهكم في الكفر يا معشر قريش، من الأمم السابقة المكذبين بالرسل، فهل
وهذا كما قال تعالى: وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ [سبأ ٣٤/ ٥٤].
وأتبع ذلك الإخبار عن إحصاء جميع أعمالهم ورقابة الله عليهم، فقال:
وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ، وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ أي إن جميع ما فعلته وتفعله الأمم والشعوب والأفراد من خير أو شر مكتوب في اللوح المحفوظ، وفي كتب (أو سجلات) الملائكة الحفظة، وما من شيء من أعمال الخلق وأقوالهم وأفعالهم إلا وهو مسطور في اللوح المحفوظ، وفي دواوين الملائكة وصحائفهم، صغيرة وكبيرة، وجليلة وحقيرة، كما قال تعالى: ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق ٥٠/ ١٨].
أخرج الإمام أحمد والنسائي وابن ماجه عن عائشة أن رسول الله ﷺ كان يقول: «يا عائشة، إياك ومحقّرات الذنوب، فإن لها من الله طالبا».
ثم ذكر الله تعالى نوع جزاء المؤمنين المتقين لمقارنته بجزاء الكافرين، ومقابلة الثواب بالعقاب وبالعكس، فقال:
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ، فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ أي إن المتقين، بعكس ما يكون الأشقياء فيه من النار والسحب على الوجوه فيها، مع التوبيخ والتقريع والتهديد، هم في بساتين غنّاء مختلفة، وجنان متنوعة، وأنهار متدفقة بمختلف أنواع الأشربة من ماء وعسل ولبن وخمر غير مسكرة، وفي الجنة دار كرامة الله ورضوانه وفضله وامتنانه، وفي مجلس حق لا لغو فيه ولا تأثيم، وفي منزلة وكرامة عند ربهم القادر على ما يشاء، والذي لا يعجزه شيء، فهو
أخرج أحمد ومسلم والنسائي عن عبد الله بن عمرو، يبلغ به النبي ﷺ قال: «المقسطون عند الله على منابر من نور، عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولّوا».
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- كل من ارتكب جرما وعوقب بعقاب معين، فإن ذلك العقاب مستحق لأمثال أولئك المجرمين، فليس كفار العرب أو قريش خيرا من كفار من تقدم من الأمم الذين أهلكوا بكفرهم، وليس لهم صك براءة أو وثيقة بالسلامة من العقوبة في الكتب المنزلة على الأنبياء.
٢- زعم كفار قريش أنهم منتصرون على المؤمنين بسبب كثرة عددهم وقوتهم، وضعف المسلمين وقلتهم، غير أن موازين القوى البشرية تختل في ميزان القدرة والحكمة والتوفيق الإلهي: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ، وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة ٢/ ٢٤٩].
لذا قال تعالى هنا: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ أي سيهزم جمع كفار مكة، وقد كان ذلك يوم بدر وغيره. وهذا من دلائل صدق النبوة، قال ابن عباس: كان بين نزول هذه الآية وبين بدر سبع سنين. فالآية على هذا مكية، بل والسورة كلها مكية كما تقدم. أخرج البخاري عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: لقد أنزل على محمد ﷺ بمكة، وإني لجارية ألعب: بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ، وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ. وقد تقدم حديث ابن عباس وقصة أبي بكر يوم بدر.
٤- إن الكفار والمشركين في حيدة عن الحق واحتراق في نار جهنم، ويجرّون على وجوههم في النار بقصد الإذلال والإهانة.
٥- الله تعالى خالق كل شيء وخالق أفعال العباد كلها دون جبر ولا إكراه عليها: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ [الصافات ٣٧/ ٩٦] وقوله تعالى هنا: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ فالله قادر، غير أنه لم يجبر أحدا على ما يفعله بل تركه لاختياره وحريته.
ويعد المشركون قدرية لإثباتهم القدرة على الحوادث لغير الله من الكواكب، وطائفة القدرية من المسلمين يوصفون بهذا الوصف لقولهم: لا قدرة لله على تحريك العبد بحركة، كالصلاة والزنا، وإنما العبد يخلق أفعال نفسه.
قال القرطبي: والذي عليه أهل السنة: أن الله سبحانه قدّر الأشياء، أي علم مقاديرها وأحوالها وأزمانها قبل إيجادها، ثم أوجد منها ما سبق في علمه أنه يوجده على نحو ما سبق في علمه، فلا يحدث حدث في العالم العلوي والسفلي إلا وهو صادر عن علمه تعالى وقدرته وإرادته دون خلقه، وأن الخلق ليس لهم فيها إلا نوع اكتساب ومحاولة ونسبة وإضافة، وأن ذلك كله إنما حصل لهم بتيسير الله تعالى بقدرته وتوفيقه وإلهامه، سبحانه لا إله إلا هو، ولا خالق غيره، كما نص عليه القرآن والسنة، لا كما قالت القدرية وغيرهم من أن الأعمال إلينا، والآجال بيد غيرنا.
قال أبو ذرّ رضي الله عنه: قدم وفد نجران على رسول الله ﷺ فقالوا: الأعمال إلينا والآجال بيد غيرنا، فنزلت هذه الآيات إلى قوله: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ فقالوا: يا محمد يكتب علينا الذنب
٦- إن نفاذ أمر الله في خلقه سريع أسرع من لمح البصر، وما هي إلا كلمة واحدة، وهو قوله للأمر: «كن».
٧- كرر الله تعالى تحذيره وتوبيخه للمشركين، ونبّههم إلى أنه أهلك أشباههم في الكفر من الأمم الخالية، فهل من يتذكر؟! ٨- جميع ما فعلته الأمم قبل المشركين وجميع ما تفعله بعدهم من خير أو شر كان مكتوبا عليهم في اللوح المحفوظ أو في كتب الحفظة، وكل ذنب صغير أو كبير مكتوب على عامله قبل أن يفعله ليجازى به، ومكتوب إذا فعله، ومكتوب على الكفار إهلاكهم العاجل في الدنيا، وعذابهم الآجل المعد لهم في الآخرة على ما فعلوه، ومكتوب ما يفعله غيرهم.
٩- وصف الله المؤمنين بعد وصف الكفار للمقارنة والموازنة والترغيب والترهيب، فالمؤمنون الأتقياء في جنان الخلد التي تجري أنهار الماء والخمر والعسل واللبن من تحت قصورهم، وهم في كرامة ومنزلة عند ربهم المالك القادر على ما يشاء، في مجلس حقّ لا لغو فيه ولا تأثيم، وهو الجنة.
والعندية هنا كما تقدم: عندية القربة والزلفى والمكانة والرتبة والكرامة والمنزلة.
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الرّحمن جلّ ذكرهمكيّة أو: مدنيّة، وهي ثمان وسبعون آية.
مكيتها:
سورة الرحمن: في رأي ابن مسعود ومقاتل: مدنية كلها، وقد كتب في بعض المصاحف أنها مدنية، والأصح كما ذكر القرطبي وابن كثير والجمهور أنها مكية كلها، وهو قول الحسن وعروة بن الزبير وعكرمة وعطاء وجابر. وقال ابن عباس: إلا آية منها هي قوله تعالى: يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الآية. وهي ثمان وسبعون (٧٨) آية. وعدها بعضهم (٧٦) آية.
ودليل الجمهور والرأي الأصح: ما روى عروة بن الزبير قال: أول من جهر بالقرآن بمكة بعد النبي ﷺ ابن مسعود، وذلك أن الصحابة قالوا: ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر به قطّ، فمن رجل يسمعوه؟ فقال ابن مسعود: أنا، فقالوا: إنا نخشى عليك، وإنما نريد رجلا له عشيرة يمنعونه، فأبى، ثم قام عند المقام، فقال: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. الرَّحْمنُ. عَلَّمَ الْقُرْآنَ ثم تمادى رافعا بها صوته، وقريش في أنديتها، فتأملوا وقالوا: ما يقول ابن أمّ عبد؟ قالوا:
هو يقول الذي يزعم محمد أنه أنزل عليه، ثم ضربوه، حتى أثّروا في وجهه. وصح أن النبي ﷺ قام يصلّي الصبح بنخلة، فقرأ سورة (الرحمن) ومرّ النفر من الجن، فآمنوا به.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ قالوا: لا بشيء من نعمك ربّنا نكذب، فلك الحمد» «١».
وفي هذا دليل على أنها مكية.
تسميتها:
سميت سورة الرحمن، لافتتاحها باسم من أسماء الله الحسنى وهو (الرحمن) وهو اسم مبالغة من الرحمة، وهو أشد مبالغة من (الرحيم) وهو المنعم بجلائل النّعم ولجميع الخلق، أما الرحيم: فهو المنعم بدقائق النعم، والخاص بالمؤمنين.
قال الإمام الطبري: الرحمن: لجميع الخلق، والرحيم: بالمؤمنين.
وتسمى أيضا في حديث أخرجه البيهقي عن علي كرم الله وجهه مرفوعا (عروس القرآن).
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لكل شيء عروس، وعروس القرآن: سورة الرحمن».
مناسبتها لما قبلها:
تظهر صلة هذه السورة بما قبلها من وجوه:
١- هذه السورة بأسرها شرح وتفصيل لآخر السورة التي قبلها، ففي سورة القمر بيان إجمالي لأوصاف مرارة الساعة وأهوال النار وعذاب المجرمين، وثواب المتقين ووصف الجنة وأهلها، وفي هذه السورة تفصيل على الترتيب الوارد في الإجمال وعلى النحو المذكور من وصف القيامة والنار والجنة.
٢- ذكر الله تعالى في السورة السابقة أنواع النقم التي حلت بالأمم السابقة
٣- ختمت السورة السابقة ببيان صفتين لله عز وجل يدلان على الهيبة والرهبة والعظمة وهما (المليك المقتدر) أي ملك عظيم الملك، قادر عظيم القدرة، وابتدئت هذه السورة بصفة أخرى بجوار ذلك وهي صفة (الرحمن) وبيان مظاهر رحمته وفضله ونعمه على الإنسان وفي الكون كله سمائه وأرضه، فهو سبحانه عزيز شديد مقتدر بالنسبة إلى الكفار والفجار، رحمن منعم غافر للأبرار.
ما اشتملت عليه السورة:
سورة الرحمن كسائر السور المكية المتميزة بقصر آياتها، وشدة تأثيرها ووقعها، ومزيد رهبتها، والمتعلقة بأصول الاعتقاد وهي التوحيد وأدلة القدرة الإلهية، والنبوة والوحي، والقيامة وما فيها من جنة ونار، وآلاء ونعم، وشدائد وأهوال.
عدّد الله تعالى في مطلع السورة آلاءه ونعمه العظمى، وأولها نعمة الدين والوحي، وإنزال القرآن وتعليمه عباده به، فهو النعمة الكبرى، وسنام الكتب السماوية ومصداقها. ثم أتبعه ببيان خلق الإنسان ليعلم أنه إنما خلقه للدين، والإفادة من الوحي وكتاب الله، ثم ذكر ما تميز به عن سائر الحيوان من البيان:
وهو المنطق الفصيح المعرب عما في الضمير.
ثم أحصى الله تعالى أصول النعم الظاهرة الكبرى في الكون من الشمس والقمر، والنجم (النبات) والشجر، والسماء القائمة على التوازن الدقيق،