تفسير سورة القلم

التفسير المنير
تفسير سورة سورة القلم من كتاب التفسير المنير .
لمؤلفه وهبة الزحيلي . المتوفي سنة 1436 هـ

وختمت السورة بأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بالصبر على أذى المشركين، وحذرته من التبرم والتضجر في تبليغ دعوته، حتى لا يكون مثل يونس عليه السلام:
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ، وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ.. وأعلنت حمايته من أذاهم، ودحضت افتراءهم بأنه مجنون، وردت عليهم بأن القرآن عظة وعبرة للعالمين، فكيف يكون المنزل عليه مجنونا: وَإِنْ يَكادُ.. إلى آخر السورة.
فضلها:
هذه السورة من أوائل ما نزل من القرآن بمكة، فقد نزلت على ما روي عن ابن عباس: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ثم هذه، ثم المزمل، ثم المدثر.
كمال الدين والخلق عند النبي صلّى الله عليه وسلّم
[سورة القلم (٦٨) : الآيات ١ الى ٧]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (١) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (٢) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (٣) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (٤)
فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (٥) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٧)
الإعراب:
ن في موضع نصب إما بتقدير: اقرأ نون، أو بتقدير: أقسم بنون، فحذف حرف القسم، فاتصل الفعل به، فنصبه، وعلى هذا يكون: ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ جواب القسم. وقال أبو حيان: ن من حروف المعجم، نحو ص وق، وهو غير معرب كبعض الحروف التي جاءت مع غيرها مهملة من العوامل، والحكم على موضعها بالإعراب تخرص.
بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ أي بأيكم الفتنة، كما يقال: ماله معقول، أي عقل، وقيل: الباء في بِأَيِّكُمُ زائدة، وتقديره: أيكم المفتون، أي المجنون.
43
البلاغة:
بِمَجْنُونٍ مَمْنُونٍ جناس ناقص بينهما لاختلاف الحرف الثاني.
فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ وعيد وتهديد، وحذف المفعول للتهويل.
وَما يَسْطُرُونَ بِمَجْنُونٍ مَمْنُونٍ الْمَفْتُونُ إلخ سجع مرصع.
ضَلَّ وبِالْمُهْتَدِينَ بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
ن إما اسم للسورة، أو الغرض منه التحدي، مثل: ق، وص بأن يأتوا بمثل القرآن أو بعضه، ما دام مكونا من حروف اللغة العربية التي بها ينطقون ويكتبون وينظمون الشعر، ويدبّجون الخطب البليغة وَالْقَلَمِ أكثر المفسرين على أن المراد به جنس القلم الذي يكتب به، أقسم الله سبحانه بكل قلم يكتب به في السماء وفي الأرض. وَما يَسْطُرُونَ يكتبون، فإن التفاهم يحصل بالكتابة كما يحصل بالعبارة.
ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ أي ما أنت يا محمد في حالة جنون بسبب إنعام ربك عليك بالنبوة وغيرها، وهذا رد لقول مشركي قريش: إنه مجنون غَيْرَ مَمْنُونٍ غير مقطوع وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ إذ تحتمل من قومك مالا يحتمله أمثالك الْمَفْتُونُ المجنون، أو الفتون أي الجنون، أي أبك أم بهم، من فتن: إذا أصيب بفتنة، أي محنة أو بلاء من ذهاب عقل أو مال أو موت ولد، فابتلي بالجنون. إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ أعلم بمعنى عالم، فالله عالم بهم، وهم المجانين على الحقيقة. وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ الفائزين بكمال العقل.
سبب النزول:
نزول الآية (٢) ما أَنْتَ..:
أخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال: كانوا يقولون للنّبي صلّى الله عليه وسلّم: إنه مجنون، ثم شيطان، فنزلت: ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ.
نزول الآية (٤) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ:
سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلقه، فقالت: كان خلقه القرآن ألست تقرأ القرآن: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ إلى عشر آيات [المؤمنون ٢٣/ ١- ١٠].
44
التفسير والبيان:
ن، وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ، ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ن: من الحروف المقطعة مثل: ص، ق التي يبدأ بها في بعض السور للتنبيه والتحدي. ومعنى الآية: أقسم بالقلم الذي يكتب به، وبما يكتبه الناس بالقلم من العلوم والمعارف، إنك يا محمد، لست بسبب النعمة أو بواسطة النعمة التي أنعم الله بها عليك وهي النبوة والإيمان والحصافة والخلق بالمجنون، كما يزعمون.
وهذا رد على افتراء وزعم أهل مكة أنه مجنون، فهو استبعاد ما كان ينسبه إليه كفار مكة عداوة وحسدا، وأنه ذو منزلة عالية ومكانة رفيعة من إنعام الله عليه بحصافة العقل وسائر الأخلاق الفاضلة المؤهلة للنبوة. فقوله: ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ هو المقسم عليه.
والقسم بالقلم وما يكتب به إشارة إلى عظم النعمة بهما، وأنهما من أجلّ النعم على الإنسان بعد النطق والبيان، فهما طريق التثقيف وانتشار العلوم والمعارف بين الجماعات والأمم والأفراد، ودليل على ما تقدم الأمم والشعوب ونبوغها.
وروى ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: «أول ما خلق الله القلم، قال: اكتب، قال: وماذا أكتب؟ قال: اكتب القدر، فجرى بما يكون من ذلك اليوم إلى قيام الساعة، ثم خلق النون» أي الدواة.
وروى ابن عساكر عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن أول شيء خلقه الله القلم، ثم خلق النون وهو الدواة، ثم قال: اكتب ما هو كائن من عمل أو أثر أو رزق أو أجل، فكتب ما هو كائن وما كان إلى يوم القيامة، ثم ختم على القلم، فلم يتكلم إلى يوم القيامة».
وروى الطبراني مرفوعا عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن
45
أول ما خلق الله القلم والحوت، قال للقلم: اكتب، قال: ما أكتب؟ قال: كل شيء كائن إلى يوم القيامة» ثم قرأ ن، وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ.
ثم ذكر تتمة المقسم عليه، فقال تعالى:
وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ أي وإن لك لثوابا عظيما على ما تحملت من مهام النبوة، وقاسيت في إبلاغ الدعوة من أنواع الشدائد، وذلك الثواب غير مقطوع وإنما هو مستمر، أو لا يمنّ به عليك من جهة الناس.
وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ أي وإنك لصاحب الخلق العظيم الذي أمرك الله به في القرآن، لما تحملت من قومك ما لم يتحمله أمثالك، ففيك الأدب الجمّ والحياء والجود والشجاعة والحلم والصفح وغير ذلك من محاسن الأخلاق. وقد امتثلت تأديب الله تعالى إياك في قوله تعالى: خُذِ الْعَفْوَ، وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ، وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ [الأعراف ٧/ ١٩٩].
روى أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي عن عائشة: أنها سئلت عن خلق النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقالت: كان خلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم القرآن. أو كان خلقه القرآن، أما تقرأ: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ.
يدل عليه
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله بعثني لأتمم مكارم الأخلاق» «١»
ومكارم الأخلاق: هي صلاح الدنيا والدين والمعاد.
وروي عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه قال فيما رواه ابن السمعاني في أدب الإملاء عن ابن مسعود: «أدّبني ربّي فأحسن تأديبي» إذ قال: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ [الأعراف ٧/ ١٩٩] فلما قبلت ذلك منه، قال: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ.
(١) هذه رواية،
وفي رواية أحمد والبخاري في الآدب والحاكم والبيهقي عن أبي هريرة: «إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق».
46
وثبت في الصحيحين عن أنس قال: «خدمت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عشر سنين، فما قال لي: أفّ قط، ولا قال لشيء فعلته: لم فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله:
ألا فعلته؟»
.
وأخرج أحمد عن عائشة قالت: ما ضرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيده خادما له قط، ولا ضرب امرأة، ولا ضرب بيده شيئا قط، إلا أن يجاهد في سبيل الله، ولا خيّر بين شيئين قط، إلا كان أحبّهما إليه أيسرهما، حتى يكون إثما، فإذا كان إثما، كان أبعد الناس من الإثم، ولا انتقم لنفسه من شيء يؤتى إليه إلا أن تنتهك حرمات الله، فيكون هو ينتقم لله عزّ وجلّ».
وبعد وصفه بأنه على خلق عظيم أوعد الله تعالى المشركين وهددهم بقوله:
فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ أي ستعلم يا محمد، وسيعلم الكفار المشركون مخالفوك ومكذبوك في الدنيا ويوم القيامة من المفتون المجنون الضالّ منكم ومنهم؟ وهذا ردّ على زعمهم أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم كان مفتونا ضالّا. فالمراد بالمفتون: الذي فتن بالجنون. وهو أسلوب رفيع من الخطاب، فيه البعد عن الإثارة، ولفت النظر والعقل.
وهذا التهديد كقوله تعالى: سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ [القمر ٥٤/ ٢٦]. وقوله سبحانه: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ ٣٤/ ٢٤].
ثم أكّد الله تعالى الوعيد والوعد بقوله:
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ أي إن الله ربّك يعلم من هو في الحقيقة الضالّ، أنت أم من اتّهمك بالضلال، ومن هو المهتدي من الفريقين منكم ومنهم، هداية موصلة إلى السعادة العاجلة والآجلة؟
47
والمعنى: بل هم الضالون، لمخالفتهم لما فيه نفعهم في العاجل والآجل، واختيارهم ما فيه ضرهم، وسيجازي الله كل فريق بما يستحق من العقاب والثواب.
والمراد بالضلال: ضلال الدين والعقيدة، وبالاهتداء: الهداية إلى الدين.
وفيه تعريض بأبي جهل بن هشام والوليد بن المغيرة وأمثالهما.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلّت الآيات على ما يأتي:
١- القسم بالقلم وبالمكتوب إشارة إلى خطرهما، وعظيم أثرهما ونفعهما في ميادين العلم والمعرفة والتقدم والحضارة.
٢- المقسم عليه ثلاثة أمور: نفي الجنون عن النبي صلّى الله عليه وسلّم كما زعم الكفار، واستمرار الثواب الجزيل والعطاء العظيم له، وكونه صاحب الخلق العظيم، وهو خلق القرآن، وهو أصح الأقوال كما ثبت في صحيح مسلم وغيره عن عائشة.
ووجود هذه النعم الكثيرة على النبي صلّى الله عليه وسلّم من الله عزّ وجل، وظهورها في حقه من الفصاحة وكمال العقل والاتصاف بكل مكرمة، ينافي حصول الجنون، وكلام الأعداء نوع من الهذيان.
والخلق: ملكة نفسانية يقدر معها على الإتيان بالفعل الجميل بسهولة، فإذا وصف بالعظم وهو كونه على النهج الأفضل، لم يكن خلق أحسن منه.
روى الترمذي عن أبي ذرّ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اتّق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن»
وروى أيضا عن أبي الدرداء أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن، وإن الله تعالى ليبغض الفاحش البذيء».
48
وروى أيضا عن أبي هريرة قال: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ فقال: «تقوى الله وحسن الخلق»، وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار؟ فقال: «الفم والفرج».
٣- هدد الله تعالى وأوعد الكفار بأنهم سيعلمون حين يتبين الحق والباطل في الدنيا والآخرة من هو الذي فتن بالجنون، ومن الذي يتبين رجحان عقله، وسلامة منهجه، وصحة دينه واعتقاده؟
ويؤكد ذلك أن الله تعالى هو العالم بمن حاد عن دينه، والذين هم على الهدى والصواب والحق، فيجازي كلّا يوم القيامة بعمله.
الأخلاق الذميمة عند الكفار
[سورة القلم (٦٨) : الآيات ٨ الى ١٦]
فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (٨) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (٩) وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ (١٠) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (١١) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢)
عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (١٣) أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ (١٤) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٥) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (١٦)
الإعراب:
أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ أَنْ كانَ: مفعول لأجله، تقديره: لأن كان ذا مال وبنين، واللام تتعلق بفعل محذوف، تقديره: أيكفر أن كان ذا مال. ولا يجوز أن تتعلق ب تُتْلى لأن إِذا مضافة إليه، والمضاف إليه لا يعمل في المضاف ولا فيما قبل المضاف، كما لا يجوز أن تتعلق ب قالَ لأنه جواب الشرط، وجواب الشرط لا يعمل فيما قبله.
قالَ: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أَساطِيرُ: خبر مبتدأ محذوف تقديره: هذه أساطير الأولين.
49
البلاغة:
حَلَّافٍ، هَمَّازٍ، مَشَّاءٍ، مَنَّاعٍ صيغة مبالغة على وزن فعّال، وكذلك أَثِيمٍ، زَنِيمٍ صيغة مبالغة على وزن فعيل.
سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ استعارة، استعار خرطوم الفيل لأنف الإنسان، للاستهانة والاستخفاف.
المفردات اللغوية:
فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ تهييج للتصميم على مخالفتهم. وَدُّوا لَوْ تمنوا، ولَوْ:
مصدرية. تُدْهِنُ تلين لهم بأن تدع نهيهم عن الشرك، أو توافقهم فيه أحيانا، من الادّهان:
وهو المداهنة واللين والمصانعة. فَيُدْهِنُونَ فيلينون لك بترك الطعن والموافقة، والفاء للعطف على تُدْهِنُ أي تمنوا الملاينة، ولكنهم أخروا ذلك حتى تلين، أو للسببية، أي ودّوا لو تدهن، فهم يدهنون حينئذ. وفي بعض المصاحف: فيدهنوا على أنه جواب التمني المفهوم من وَدُّوا. وعلى قراءة يدهنون يقدر قبله بعد الفاء: هم.
حَلَّافٍ كثير الحلف في الحق والباطل. مَهِينٍ حقير الرأي. هَمَّازٍ عيّاب طعّان مغتاب. مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ يمشي بين الناس بالنميمة والسعاية للإفساد بينهم. مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ بخيل بالمال، ويمنع الناس من الإيمان والإنفاق والعمل الصالح. مُعْتَدٍ ظالم، يتجاوز الحق إلى الباطل. أَثِيمٍ آثم، أو كثير الإثم والذنب. عُتُلٍّ غليظ جاف. زَنِيمٍ دعي في قريش، أي يلحق بهم في النسب وليس منهم، وهو الوليد بن المغيرة، ادّعاه أبوه بعد ثماني عشرة سنة، قال ابن عباس: لا نعلم أن الله وصف أحدا بما وصفه به من العيوب، فألحق به عارا لا يفارقه أبدا. وقيل: هو الذي يعرف بالشر واللؤم.
أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ أي لأن كان، والمعنى: أيكفر لأن كان ذا مال. آياتُنا القرآن. أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي هي خرافات وأباطيل الأقدمين. سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ سنجعل على أنفه سمة وعلامة يتميز بها ما عاش، فخطم أنفه بالسيف يوم بدر، أي أصيب أنف الوليد بجراحة يوم بدر، فبقي أثرها. والوسم: وضع علامة على الشيء لتمييزه بها عن غيره.
سبب النزول:
أخرج ابن أبي حاتم عن السّدّي في قوله: وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ قال: نزلت في الأخنس بن شريق، وأخرج ابن المنذر عن الكلبي مثله وهو قول
50
الشعبي وابن إسحاق. وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد قال: نزلت في الأسود بن عبد يغوث، أو عبد الرحمن بن الأسود.
والمشهور أن الآيات نزلت في الوليد بن المغيرة، أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: نزلت على النّبي صلّى الله عليه وسلّم: وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ، هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ فلم نعرفه، حتى نزل عليه بعد ذلك: عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ فعرفناه له زنمة كزنمة الشاة «١».
المناسبة:
بعد بيان ما عليه الرسول صلّى الله عليه وسلّم من كمال الدين والخلق، بيّن ما عليه الكفار من الأخلاق الذميمة، والدعوة إلى التشدد معهم ومخالفتهم، مع قلة عدد المؤمنين، وكثرة الكفار.
التفسير والبيان:
فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ أي داوم على مخالفة الكفار المكذبين لرسالتك، وتشدد في ذلك. وهذا نهي صريح من الله سبحانه عن ملاينة المشركين رؤساء مكة لأنهم كانوا يدعونه إلى دين آبائه، فنهاه الله عن طاعتهم أو مجاملتهم في شيء من العقيدة بقصد ترغيبهم في الإسلام. والمراد من النهي: التحميس والتهييج والتشدد في مخالفتهم. قال المفسرون: إن المشركين أرادوا من النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يعبد الله مدة وآلهتهم مدة، وهم يعبدون الله مدة، وآلهتهم مدة، فأنزل الله تعالى: فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ.
وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ أي تمنوا لو تلين لهم، فيلينون لك، بأن تركن إلى آلهتهم، وتقربها، وتترك ما أنت عليه من الحق، فيعترفون بعبادة إلهك.
(١) أي الجزء المسترخي من أذنها حين تشق، ويبقى كالجزء المعلّق. [.....]
51
ونظير الآية: وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ، لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا، إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ، ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً [الإسراء ١٧/ ٧٤- ٧٥].
ثم خصص تعالى من جميع المكذبين الكفار من اتصف بالأوصاف المذمومة العشرة التالي، غير الكفر، فقال:
١- ٢: وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ أي ولا تطع كل شخص كثير الحلف بالباطل حقير الرأي والفكر. ومثله قوله تعالى: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ [البقرة ٢/ ٢٢٤]. وفيه إشارة إلى أن عزّة النفس منوطة بتصحيح نسبة العبودية، ومهانة النفس مربوطة بالغفلة عن سرّ الربوبية، وأيضا الحلاف يكذب كثيرا، والكذاب حقير عند الناس.
٣- ٤: هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ أي عيّاب طعّان يذكر الناس بالشرّ في وجوههم، يمشي بالنميمة بين الناس ليفسد بينهم. أما اللمّاز: فهو الذي يذكر الناس في مغيبهم.
روى الجماعة إلا ابن ماجه عن حذيفة قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لا يدخل الجنة قتّات»
أي نمام.
٥- ٦: مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ، مُعْتَدٍ، أَثِيمٍ أي بخيل: يمنع الخير عن الناس من الإيمان والإنفاق والعمل الصالح، ظالم متجاوز الحق وحدود الله من أمر ونهي، كثير الآثام والذنوب. كان للوليد بن المغيرة عشرة بنين، وكان يقول لهم ولمن قاربهم: لئن تبع دين محمد منكم أحد، لا أنفعه بشيء أبدا. فمنعهم الإسلام، وهو الخير الذي منعهم.
٧- ٨: عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ، زَنِيمٍ أي هو بعد ما ذكر من معايبه غليظ جاف فظّ، شديد الخلق، فاحش الخلق، دعي في قريش ملصق بالقوم وليس هو منهم، مشهور بالشر والسوء.
52
أخرج الإمام أحمد وأصحاب الكتب الستة إلا أبا داود عن حارثة بن وهب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ألا أنبئكم بأهل الجنة كل ضعيف متضعّف «١»، لو أقسم على الله لأبرّه، ألا أنبئكم بأهل النار كل عتلّ جوّاظ «٢» مستكبر».
ثم ذكر الله تعالى بعض دوافع ومظاهر كبره وكفره، فقال:
٩- ١٠: أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ أي أيكفر بالله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم لأن الله أنعم عليه بالأموال والبنين، حيث جعل جزاء النعم الكفر والجحود؟
فذلك لا ينفعه عند ربّه. وهذا تقريع وتوبيخ على مقابلة ما أنعم الله عليه من المال والبنين بالكفر بآيات الله تعالى والإعراض عنها. وقال الزمخشري: متعلق بقوله: وَلا تُطِعْ، يعني: ولا تطعه مع هذه المثالب لأن كان ذا مال، أي ليساره وحظه من الدنيا.
إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي وإنه إذا تليت عليه آيات القرآن، زعم أنها كذب مأخوذ من قصص وأباطيل القدماء، وليس هو من عند الله تعالى.
وهذا كقوله تعالى حكاية عن هذا الطاغية الجبار: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً، وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً، وَبَنِينَ شُهُوداً، وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً، ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ، كَلَّا، إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً، سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً، إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ، فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ، ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ، ثُمَّ نَظَرَ، ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ، ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ، فَقالَ: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ، إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ [المدثر ٧٤/ ١١- ٢٥].
(١) روي بكسر العين وفتحها، والمشهور الفتح، ومعناه: يستضعفه الناس ويحتقرونه، وبالكسر: المتواضع المتذلل.
(٢) الجوّاظ: الجمّاع المنّاع، الذي يجمع المال ويمنعه.
53
ثم ذكر الله تعالى عقابه في الدنيا أو الآخرة، فقال:
سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ أي سنجعل له وسما بالسواد على أنفه، فإنه قاتل يوم بدر، فخطم بالسيف في القتال، قال المبرد: الخرطوم هاهنا الأنف. وعبر به إذلالا له واستخفافا به وإهانة له لأن السمة على الوجه أو الأنف شين. وقال جماعة: سَنَسِمُهُ سمة أهل النار، يعني نسود وجهه يوم القيامة، وعبر عن الوجه بالخرطوم، فيسود وجهه بالنار قبل دخولها، فيكون له عليه أو على أنفه علامة.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- نهى الله تعالى نبيّه- والنهي يقتضي التحريم- ومثله المؤمنون، عن ممايلة المشركين المكذبين لرسالته، وكانوا يدعونه إلى أن يكفّ عنهم ليكفّوا عنه، فبيّن الله تعالى أن مما يلتهم كفر.
٢- تمنى الكفار ملاينة النبي صلّى الله عليه وسلّم ومصانعتهم ومجاملتهم في أديانهم، فيلينون له في دينه، فإنهم طلبوا أن يعبد آلهتهم مدة، ويعبدوا إلهه مدة، ولكن الله نهاه عن ذلك.
٣- خصص الله من بين المكذبين النهي عمن اتصف بصفات عشر: هي الحلاف: الكثير الحلف، المهين: الحقير الرأي والتمييز والتفكير، الهمّاز: الذي يذكر الناس في وجوههم، وهو غير اللماز: الذي يذمهم في مغيبهم، النمام: الذي يمشي بالنميمة بين الناس ليفسد بينهم، المناع للخير: للمال أن ينفق في وجوهه، ويمنع الناس عن الإسلام، المعتدي: أي الظالم، المتجاوز الحد، صاحب الباطل، الأثيم: الكثير الإثم والذنوب، العتلّ: الغليظ الجافي الشديد في كفره،
54
الشديد الخصومة بالباطل، الزنيم: الملصق بالقوم الدّعي، وكان الوليد بن المغيرة المخزومي دعيّا في قريش، ليس من أصلهم، ادّعاه أبوه بعد ثماني عشرة سنة من مولده، كما تقدم، [الطاغية المفتري].
٤- وبّخ الله الوليد على مقابلته الإحسان والنعمة بالإساءة، فقد أنعم الله عليه بالمال والبنين، فكفر واستكبر. ويكون تقدير الآية: أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ: ألأن كان ذا مال وبنين يكفر ويستكبر؟ ويجوز أن يكون التقدير:
ألأن كان ذا مال وبنين تطيعه؟ ويجوز أن يكون التقدير: ألأن كان ذا مال وبنين يقول: إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ.
٥- هدد الله الوليد بالوسم على أنفه في الدنيا، وبالعلامة الظاهرة على أنفه في الآخرة. قال ابن عباس: سَنَسِمُهُ: سنخطمه بالسيف، وقد خطم الذي نزلت فيه يوم بدر بالسيف، فلم يزل مخطوما إلى أن مات. وقال قتادة:
سنسمه يوم القيامة على أنفه سمة يعرف بها، وقد قال تعالى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ، وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آل عمران ٣/ ١٠٦] فهذه علامة ظاهرة. وقال تعالى:
وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً [طه ٢٠/ ١٠٢]، وهذه علامة أخرى ظاهرة.
فأفادت هذه الآية: سَنَسِمُهُ.. علامة ثالثة وهي الوسم على الأنف بالنار.
والراجح لدي أن هذا الوسم كان في الدارين.
وهذا كله نزل في الوليد بن المغيرة. ولا نعلم أن الله تعالى بلغ من ذكر عيوب أحد ما بلغه منه فألحقه به عارا، لا يفارقه في الدنيا والآخرة كالوسم على الخرطوم «١».
قال ابن العربي بمناسبة قوله تعالى: سَنَسِمُهُ: كان الوسم في الوجه لذي المعصية قديما عند الناس، حتى إنه روي أن اليهود لما أهملوا رجم الزاني،
(١) تفسير القرطبي: ١٨/ ٢٣٧.
55
اعتاضوا عنه بالضرب وتحميم الوجه «١»، وهذا وضع باطل.
ومن الوسم الصحيح في الوجه: ما رأى العلماء من تسويد وجه شاهد الزور علامة على قبح المعصية، وتشديدا لمن يتعاطاها لغيره، ممّن يرجى تجنبه بما يرجى من عقوبة شاهد الزور وشهرته. وقد كان عزيزا بقول الحق، وصار مهينا بالمعصية، وأعظم الإهانة: إهانة الوجه، وكذلك كانت الاستهانة به في طاعة الله سببا لحياة الأبد، والتحريم له على النار فإن الله قد حرّم على النّار أن تأكل من ابن آدم أثر السجود حسبما ثبت في الصحيح «٢».
قصة أصحاب الجنة
[سورة القلم (٦٨) : الآيات ١٧ الى ٣٣]
إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (١٧) وَلا يَسْتَثْنُونَ (١٨) فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (١٩) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (٢٠) فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (٢١)
أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (٢٢) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (٢٣) أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (٢٤) وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ (٢٥) فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (٢٦)
بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٢٧) قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْتُسَبِّحُونَ (٢٨) قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٢٩) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (٣٠) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (٣١)
عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ (٣٢) كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٣٣)
(١) تحميم الوجه: تسخيمه بالفحم.
(٢) أحكام القرآن لابن العربي: ٤/ ١٨٤٥.
56
الإعراب:
فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ كالشيء المصروم، وهو فعيل بمعنى مفعول، مثل عين كحيل، وكف خضيب، ولحية دهين، أي عين مكحولة، وكفّ مخضوبة، ولحية مدهونة.
أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ تفسير ل فَتَنادَوْا أو أَنِ مصدرية، أي بأن. وكذا قوله: أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا.
وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ عَلى حَرْدٍ: جار ومجرور، في موضع نصب على الحال، وتقديره: وغدوا حاردين قادرين.
البلاغة:
فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ بينهما جناس اشتقاق.
المفردات اللغوية:
بَلَوْناهُمْ امتحنا أهل مكة بالقحط والجوع وغيرهما من ألوان البلاء والآفات، أي عاملناهم معاملة المختبر. الْجَنَّةِ البستان، كان دون صنعاء بفرسخين، وكان لرجل صالح، ينادي الفقراء وقت الصرام ويترك لهم ما أخطأه المنجل وألقته الريح، أو بعد عن البساط الذي يبسط تحت النخلة، فيجتمع لهم شيء كثير، فلما مات قال بنوه: إن فعلنا ما كان يفعل أبونا، ضاق علينا، فحلفوا ليصرمنها وقت الصباح خفية عن المساكين.
لَيَصْرِمُنَّها يقطعون ثمرتها. مُصْبِحِينَ وقت الصباح كيلا يشعر بهم المساكين، فلا يعطون منها ما كان أبوهم يتصدق به عليهم منها. وَلا يَسْتَثْنُونَ لا يقولون في يمينهم إن شاء الله، وإنما سمّاه استثناء لأن معنى: لا أخرج إن شاء الله، ولا أخرج إلا أن يشاء الله، واحد، والجملة مستأنفة، أي وشأنهم ذلك. فَطافَ عَلَيْها على الجنة. طائِفٌ أي أصابها بلاء طارق أو نازل من عذاب ربّك، وهو نار أحرقتها. كَالصَّرِيمِ كالبستان الذي صرم ثماره بحيث لم يبق فيه شيء، أو كالليل في السواد بعد أن احترقت، أي سوداء.
فَتَنادَوْا نادى بعضهم بعضا. أَنِ اغْدُوا اخرجوا في الغدوة مبكّرين. عَلى حَرْثِكُمْ بستاتكم أو غلتكم. إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ مريدين قطع ثماره، وجواب الشرط دل عليه ما قبله. يَتَخافَتُونَ يتسارّون فيما بينهم ويتناجون حتى لا يسمعهم أحد. اغْدُوا ساروا غدوة إلى حرثهم. عَلى حَرْدٍ أي على منع للفقراء، وقيل: الحرد: القصد والسرعة. قادِرِينَ على الصرم في ظنهم.
57
فَلَمَّا رَأَوْها رأوا الجنة سوداء محترقة. لَضَالُّونَ تائهون عنها، أي ليست هذه.
مَحْرُومُونَ ممنوعون ثمرتها بمنعنا الفقراء منها. قالَ أَوْسَطُهُمْ خيرهم وأرجحهم رأيا. تُسَبِّحُونَ هلا تذكرون الله وتستغفرونه من فعلكم وتتوبون إليه من خبث نيتكم. إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ بمنع الفقراء حقهم.
يَتَلاوَمُونَ يلوم بعضهم بعضا على قصدهم وإصرارهم على منع المساكين. يا وَيْلَنا يا هلاكنا، ويا: للتنبيه. طاغِينَ متجاوزين حدود الله. أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها ببركة التوبة والاعتراف بالخطيئة، وقد روي أنهم بدّلوا خيرا منها. إِلى رَبِّنا راغِبُونَ طالبون منه العفو والخير. كَذلِكَ الْعَذابُ أي مثل ذلك العذاب لهؤلاء أصحاب الجنة عذاب الدنيا.
الْعَذابُ لمن خالف أمرنا من أهل مكة وغيرهم. أَكْبَرُ أعظم منه. لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ أي لو علموا عذابها لاحترزوا عما يؤدّيهم إلى العذاب.
سبب النزول: نزول الآية (١٧) :
إِنَّا بَلَوْناهُمْ..: أخرج ابن أبي حاتم عن ابن جريج أن أبا جهل قال يوم بدر: خذوهم أخذا، فاربطوهم في الحبال، ولا تقتلوا منهم أحدا، فنزلت:
إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أي في قدرة أهل مكة على المؤمنين، كما اقتدر أصحاب الجنة على الجنة.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى عن الوليد بن المغيرة أو غيره أنه لأجل كونه ذا مال وبنين، جحد وكفر وعصى وتمرد، بطريق الاستفهام على سبيل الإنكار، بيّن في هذه الآية أنه تعالى إنما أعطاه المال والبنين على سبيل الابتلاء والامتحان، ليعرف هل يصرفه في طاعة الله ويشكر نعم الله، فيزيده من النعمة، أم يكفر بها فيقطعها عنه، ويصب عليه أنواع البلاء والآفات؟ ومثله في هذا ومثل أهل
58
مكة كمثل أصحاب الجنة ذات الثمار، كلّفوا أن يشكروا النعم ويعطوا الفقراء حقوقهم، فلما جحدوا النعمة وحرموا المساكين، حرمهم الله الثمار كلها.
روي أن واحدا من ثقيف، وكان مسلما، كان يملك ضيعة فيها نخل وزرع بقرب صنعاء، وكان يجعل من ناتجها عند الحصاد نصيبا وافرا للفقراء، فلما مات، ورثها منه بنوه، ثم قالوا: عيالنا كثير، والمال قليل، ولا يمكننا أن نعطي المساكين، مثلما كان يفعل أبونا، فأحرق الله جنتهم.
التفسير والبيان:
إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ، وَلا يَسْتَثْنُونَ أي إنا اختبرنا كفار مكة وامتحناهم بالجوع والقحط بدعوة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، كما اختبرنا أصحاب البستان المعروف خبرهم عند قريش، حين حلفوا أنهم سيقطعون ثمر الجنة (البستان) عند الصباح، حتى لا يعلم بهم الفقراء، فيأخذون ما كانوا يأخذونه، طمعا في اقتناء كامل الغلة والزرع، ولم يقولوا: إن شاء الله، فالأكثرون أنهم إنما لم يستثنوا فيما حلفوا به بمشيئة الله تعالى لأنهم كانوا كالواثقين بأنهم يتمكنون من ذلك لا محالة. وقال آخرون: بل المراد أنهم يصرمون كل الزرع، ولا يستثنون للمساكين نصيبهم أو القدر الذي كان أبوهم يدفعه إليهم.
والمقصود اختبار أهل مكة، لمعرفة حالهم، أيشكرون نعم الله عليهم، فيؤمنون بالرسول صلّى الله عليه وسلّم الذي أرسله الله إليهم مبشرا ونذيرا، أم يكذبونه ويكفرون برسالته، ويجحدون حق الله عليهم؟ فيجازوا بما يستحقونه، كما جوزي أصحاب الجنة، وهو ما أخبر عنه في قوله تعالى:
فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ، فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ أي طاف على تلك الجنة من عند الله نار أحرقتها، أي أصابتها آفة سماوية، حتى
59
صارت سوداء كالليل الأسود المظلم. ووجه التشبيه أنها يبست وذهبت خضرتها، أو لم يبق منها شيء.
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إياكم والمعاصي، إن العبد ليذنب الذنب، فيحرم به رزقا قد كان هيئ له، ثم تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ، وَهُمْ نائِمُونَ، فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ قد حرموا خير جنتهم بذنبهم».
ولكنهم لم يدروا بما حدث، وانطلقوا مصمّمين على ما أرادوا، فقال تعالى:
فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ، أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ أي فنادى بعضهم بعضا وقت الصباح، ليذهبوا إلى الجذاذ أي القطع: أن اخرجوا مبكرين في الصباح إلى الثمار والزرع، إن كنتم قاصدين للصرام أي القطع. قال مجاهد:
كان حرثهم عنبا.
فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ أي فبادروا مسرعين إلى حرثهم، وهم يتسارون ويتناجون ويقول بعضهم لبعض: لا تمكّنوا اليوم فقيرا يدخل عليكم، فيطلب منكم أن تعطوه منها ما كان يعطيه أبوكم.
وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ أي وذهبوا في الغداة مبكرين، زاعمين أنهم قادرون على الصرام ومنع المساكين وحرمانهم. فقوله: عَلى حَرْدٍ على قصد المنع، وقيل: الحرد: القصد والجدّ والسرعة. وقوله: قادِرِينَ من باب عكس الكلام للتهكم. وفيه أنهم طلبوا حرمان الفقراء، فعورضوا بنقيض مقصودهم.
فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا: إِنَّا لَضَالُّونَ أي فلما وصلوا إليها وشاهدوها وهي على الحالة المؤلمة من الاحتراق والسواد، قال بعضهم لبعض: قد أخطأنا وتهنا طريق جنتنا، وليست هذه.
60
ثم لما تأملوا وعلموا أنها جنتهم، وأن الله سبحانه قد عاقبهم بإذهاب ما فيها من الثمر والزرع قالوا:
بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ أي بل في الحقيقة والواقع حرمنا الله ثمر جنتنا، بسبب عزمنا على منع المساكين وحرمانهم من خيرها، فلا حظ لنا ولا نصيب، ونحن نادمون على ما فعلنا، كما أخبر تعالى فيما يأتي:
قالَ أَوْسَطُهُمْ: أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْتُسَبِّحُونَ أي قال أمثلهم وأعقلهم وأعدلهم وخيرهم رأيا وتدينا: هلا تسبّحون الله وتذكرونه وتشكرونه على ما أعطاكم وأنعم به عليكم، وتستغفرون الله من فعلكم وتتوبون إليه من هذه النية التي عزمتم عليها.
ولما صدموا بالحقيقة المرة ذكروا الله واعترفوا بذنبهم قائلين:
قالُوا: سُبْحانَ رَبِّنا، إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ أي قالوا: تنزيها لله عن أن يكون ظالما فيما صنع بجنتنا، فإنا كنا ظالمين أنفسنا في حرماننا المساكين حقوقهم. ولكنهم أتوا بالطاعة حيث لا تنفع، وندموا واعترفوا حيث لا ينجع الندم.
ثم لام بعضهم بعضا كما قال تعالى:
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ أي ثم أخذ بعضهم يلوم بعضا على ما كانوا أصروا عليه من منع المساكين من حق الجذاذ أي القطاف، ولم يجدوا سبيلا إلا الاعتراف بالخطيئة والذنب، والدعاء على أنفسهم بالهلاك، فقال تعالى:
قالُوا: يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ أي قالوا: يا هلاكنا أقبل، فإنا كنا معتدين متجاوزين الحد، حتى أصابنا ما أصابنا.
61
ثم دعوا ربهم أن يعوضهم عما حلّ بهم، فقالوا:
عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها، إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ أي لعل الله ربّنا أن يعطينا بدلا خيرا من جنتنا، فإنا راجون العفو والخير منه. قال مجاهد: إنهم تابوا فأبدلوا خيرا منها.
ثم ذكر الله تعالى العبرة من القصة، فقال:
كَذلِكَ الْعَذابُ، وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ أي مثل ذلك العذاب الذي بلونا به أهل الجنة من الحرمان، وأهل مكة من القحط والقتل عذاب الدنيا، وهو عذاب كل من خالف أمر الله، وبخل بما آتاه الله وأنعم به عليه، ومنع حق المسكين والفقير، وإن عذاب الآخرة أشد وأعظم وأشق من عذاب الدنيا، فلو كان المشركون يعلمون ذلك، لعادوا إلى رشدهم، وبادروا إلى الإيمان بدعوة النبي المصطفى صلّى الله عليه وسلّم، وأقلعوا عن الغي والضلال، ولكنهم لا يعلمون. وهذا دليل على غفلتهم وجهلهم وبعدهم عن الحق والصواب.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلّت قصة أصحاب الجنة على ما يأتي:
١- الدنيا دار ابتلاء واختبار، فقد ابتلى الله تعالى أصحاب الجنة (البستان) وابتلى أهل مكة، بأن أعطاهم ربّهم أموالا ليشكروا، لا ليبطروا، فلما بطروا، وعادى المشركون محمدا صلّى الله عليه وسلّم، ابتلاهم بالجوع والقحط، كما ابتلى (اختبر) أهل الجنة المعروف خبرها عندهم لأنهم من أهل اليمن القريبة منهم، على بعد ستة أميال من صنعاء.
٢- قال بعض العلماء: على من حصد زرعا أو جدّ ثمرة أن يواسي منها من حضره، وذلك معنى قوله تعالى: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ [الأنعام ٦/ ١٤١]
62
وأنه غير الزكاة، لذا نهي عن الحصاد في الليل، لا خشية الحيّات وهوّام الأرض لأن عقوبة أصحاب الجنة كانت بسبب ما أرادوه من منع المساكين، كما ذكر الله تعالى.
٣- دلّ قوله تعالى: إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ على أن العزم مما يؤاخذ به الإنسان لأنهم عزموا على أن يفعلوا، فعوقبوا قبل فعلهم. ونظير هذه الآية: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ، نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ [الحج ٢٢/ ٢٥].
وفي الصحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار، قيل: يا رسول الله، هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصا على قتل صاحبه».
٤- إن الإنسان ضعيف القوة والتدبير والرأي، فلقد أحكم أصحاب الجنة الخطّة، وصمموا على صرام الزرع والثمر أو العنب في الصباح الباكر قبل أن ينتشر المساكين في البساتين، وذهبوا جادين مسرعين، متسارّين، أي يخفون كلامهم ويسرّونه لئلا يعلم بهم أحد قائلين: لا يدخل علينا مسكين، أي لا تمكنوه من الدخول، وعزموا على حرمان المساكين، مع كونهم قادرين على نفعهم، وهم يظنون أنهم تمكنوا من مرادهم، ففوجئوا بتدمير الله وإحراقه الحرث وإتلافه الغلة والثمر.
٥- ولما رأوا الجنة محترقة لا شيء فيها، قد صارت كالليل الأسود وأضحت كالرماد، شكوا فيها، وقالوا: ضللنا الطريق إلى جنتنا، ثم لما تيقنوا منها قالوا: بل نحن محرومون، أي حرمنا جنتنا بما صنعنا. وهذا دليل على أن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل.
٦- كان أوسطهم، أي أمثلهم وأعدلهم وأعقلهم قد أمرهم بالاستثناء وهو سبحان الله أي تنزيها لله عزّ وجلّ، فقال لهم: هلّا تسبّحون الله أي تقولون:
63
سبحان الله وتشكرونه على ما أعطاكم، وتعلقون الأمر بمشيئة الله، وتتوبون إليه من خبث نيّتكم، فإن الله ينتقم من المجرمين، ولكنهم لم يطيعوه.
ثم تذكروا قوله، واعترفوا بالمعصية، ونزّهوا الله عن أن يكون ظالما فيما فعل، وإنما هم الظالمون أنفسهم في منعهم المساكين.
٧- لام بعضهم بعضا في تدبير الخطة، كشأن كل جماعة تخيب في أمرها، فقال أحدهم لغيره: أنت أشرت علينا بهذا الرأي، وقال الآخر: أنت خوّفتنا بالفقر، وقال الثالث: أنت الذي رغبتني في جمع المال.
٨- أكد أصحاب الجنة اعترافهم بالمعصية، فقالوا: يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ أي عاصين بمنع حق الفقراء وترك الاستثناء، وكان استثناؤهم تسبيحا كما قال مجاهد وغيره، وهو في موضع: «إن شاء الله» لأن المعنى تنزيه الله عزّ وجلّ أن يكون شيء إلا بمشيئته. والخلاصة في رأي الأكثرين أن معنى قوله: تُسَبِّحُونَ هلا تستثنون، فتقولون: إن شاء الله.
٩- أعلن أصحاب الجنة توبتهم وأخلصوا نيّتهم في رأي الأكثرين، حين قالوا: عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ فإنهم تعاقدوا وتعاهدوا وقالوا: إن أبدلنا الله خيرا منها لنصنعن كما صنعت آباؤنا، فدعوا الله وتضرعوا، فأبدلهم الله، من ليلتهم تلك، ما هو خير منها. والإبدال: رفع الشيء ووضع آخر مكانه. قال مجاهد: إن هذه كانت توبة منهم، فأبدلوا خيرا منها.
١٠- هدد الله المكلفين من أهل مكة وغيرهم بقوله: كَذلِكَ الْعَذابُ أي عذاب الدنيا وهلاك الأموال، والمعنى: مثلما فعلنا بهؤلاء أصحاب الجنة، نفعل بمن تعدّى حدودنا في الدنيا. ثم خوّف تعالى الكفار بعذاب أشد وهو عذاب الآخرة في قوله: وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ، لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ.
64
وقال ابن عباس: هذا مثل لأهل مكة حين خرجوا إلى بدر، وحلفوا ليقتلن محمدا صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، وليرجعن إلى مكة حتى يطوفوا بالبيت ويشربوا الخمر، وتضرب القينات على رؤوسهم، فأخلف الله ظنهم، وأسروا وقتلوا وانهزموا كأهل هذه الجنة، لما خرجوا عازمين على الصّرام، فخابوا.
١١- الأظهر كما قال القرطبي: أن الحق الذي منعه أهل الجنة المساكين كان واجبا عليهم. وقيل: يحتمل أنه كان تطوعا.
جزاء المتقين وإنكار التسوية بين المطيع والعاصي
[سورة القلم (٦٨) : الآيات ٣٤ الى ٤٣]
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٣٤) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (٣٥) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٦) أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (٣٧) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ (٣٨)
أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ (٣٩) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ (٤٠) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٤١) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (٤٢) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ (٤٣)
الإعراب:
ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ما: في موضع رفع مبتدأ، ولَكُمْ: خبره، وكَيْفَ: في موضع نصب على الحال ب تَحْكُمُونَ.
إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ: إنما كسرت إِنَّ لمكان اللام في لَما ولولا دخول اللام في لَما لكانت مفتوحة لأنها مفعول تَدْرُسُونَ وهو كقولهم: علمت أن في الدار لزيدا.
أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ مبتدأ وخبر، وبالِغَةٌ: صفة ل أَيْمانٌ. وقرئ:
بالغة بالنصب على الحال من الضمير في لَكُمْ.
65
إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ كسرت أَيْمانٌ إما لمكان اللام كما كسرت فيما قبله، أو لأن ما قبله قسم، وهي تكسر في جواب القسم.
يَوْمَ يُكْشَفُ.. يَوْمَ: ظرف منصوب، وعامله إما فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ أو فعل مقدر، تقديره: واذكر يوم.
خاشِعَةً.. حال من ضمير يُدْعَوْنَ أو من ضمير يَسْتَطِيعُونَ وأَبْصارُهُمْ:
مرفوع بفعله. وتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ: جملة فعلية إما منصوبة على الحال، وإما مستأنفة لا موضع لها من الإعراب.
البلاغة:
الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ بينهما طباق.
ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ، أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ؟ والجمل التي بعدها: تقريع وتوبيخ.
أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ تشبيه مقلوب ليكون أبلغ وأروع لأن الأصل: أفنجعل المجرمين كالمسلمين في الأجر والثواب.
يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ كناية عن شدة الهول يوم القيامة.
المفردات اللغوية:
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ.. أي في الآخرة. جَنَّاتِ النَّعِيمِ جنات ليس فيها إلا التنعم الخالص. أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ أي في الدرجة والمنزلة في الجنان، وهو إنكار التسوية في نتيجة الإسلام والاجرام، أي بين أهل الطاعة وأهل المعصية، وهو إنكار لقول الكفرة، فإنهم كانوا يقولون: إن صح أنّا نبعث كما يزعم محمد ومن معه، لم يفضلونا، بل نكون أحسن حالا منهم، كما نحن عليه في الدنيا.
ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ هذا الحكم الفاسد؟ وهو التفات فيه تعجب من حكمهم، واستبعاد له، وإشعار بأنه صادر من اختلال فكر واعوجاج رأي. أَمْ لَكُمْ كِتابٌ منزل من السماء.
تَدْرُسُونَ تقرؤون، وأَمْ أي بل ألكم. إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ أي لما تختارونه وتشتهونه. أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا عهود مؤكدة بالأيمان. بالِغَةٌ متناهية في التوكيد موثّقة.
إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ أي ثابتة لكم علينا إلى هذا اليوم. إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ أي تحكمون به لأنفسكم، وهو جواب القسم «لأن معنى أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا: أم أقسمنا لكم.
سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ أي سلهم أيهم كفيل لهم بذلك الحكم الذي يحكمون به لأنفسهم من
66
أنهم يعطون في الآخرة أفضل من المؤمنين. أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ أي بل ألهم أي عندهم شركاء موافقون لهم في هذا القول يكفلون لهم به. فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ أي فإن كان لهم شركاء كفلاء فليأتوا بشركائهم الكافلين لهم به. إِنْ كانُوا صادِقِينَ في دعواهم.
يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ أي اذكر لهم حين شدة الأمر يوم القيامة للحساب والجزاء، أي يوم يشتد الأمر، يقال: كشفت الحرب عن ساق: إذا اشتد الأمر فيهما. وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ يطلب منهم السجود توبيخا على تركهم السجود. فَلا يَسْتَطِيعُونَ لذهاب وقته أو زوال القدرة عليه. خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ أي ذليلة لا يرفعون أبصارهم. تَرْهَقُهُمْ تغشاهم وتلحقهم. وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ في الدنيا. وَهُمْ سالِمُونَ أصحاء متمكنون لا شيء يمنعهم.
المناسبة:
بعد تخويف الكفار بعذاب الدنيا في قوله تعالى: وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ذكر الله تعالى أحوال السعداء، وأبان أن للمتقين جنات النعيم، ثم ردّ على الكفار الذين يزعمون المساواة في الآخرة بينهم وبين المسلمين من غير كتاب إلهي، ولا عهد ممنوح مؤكد بالأيمان، ولا كفلاء في يوم شديد الأهوال، عسير الحساب على الصلاة وغيرها.
التفسير والبيان:
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ إن لكل من اتقى الله وأطاعه، في الدار الآخرة جنات ليس فيها إلا التنعم الخالص الذي لا يزول ولا ينقضي، ولا يكدره شيء.
قال مقاتل: لما نزلت هذه الآية، قال كفار مكة للمسلمين: إن الله تعالى فضلنا عليكم في الدنيا، فلا بد وأن يفضلنا عليكم في الآخرة، فإن لم يحصل التفضيل، فلا أقل من المساواة.
ثم أجاب الله تعالى عن هذا الكلام بقوله:
أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ؟ أي كيف نساوي بين الفريقين في
67
الجزاء، فنجعل من يلتزم الطاعة كمن هو فاجر مجرم عاص لا يبالي بمعصيته؟
كلا فلا تسوية بين المطيع والعاصي.
ثم نفى الله تعالى وجود كل الأدلة العقلية أو النقلية التي تصلح لإثبات التسوية أو تحقيق الدعوى، فقال:
١- ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ؟ أي كيف تظنون ذلك، وتحكمون هذا الحكم الأعوج، كأن أمر الجزاء مفوّض إليكم؟ إن أبسط مبادئ العقل وأصول الرأي يمنع مثل هذا الظن أو الحكم. وهذا نفي الدليل العقلي.
٢- أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ، إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ أي بل ألكم أو بأيديكم كتاب منزل من السماء تدرسونه وتحفظونه وتتداولونه، يتضمن حكما مؤكدا كما تدعونه، وتقرؤون فيه، فتجدون المطيع كالعاصي؟! وهل في ذلك الكتاب أن لكم في الآخرة ما تختارون وتشتهون؟ وهذا نفي الدليل النقلي.
٣- أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ أي بل ألكم أو معكم عهود عند الله موثقة مؤكدة ثابتة إلى يوم القيامة في أن يدخلكم الجنة، ويحصل لكم ما تريدون وتشتهون، وينفّذ لكم الحكم الذي تصدرونه؟
وهذا نفي الوعد الإلهي بما توقعوا وظنوا.
٤- سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ أي قل لهم يا محمد موبخا لهم ومقرّعا: من هو المتضمن المتكفل بهذا، أو أيهم بذلك كفيل لهم بأن لهم في الآخرة ما للمسلمين فيها؟
٥- أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ أي بل ألهم شركاء لله بزعمهم من الأصنام والأنداد قادرون على أن يجعلوهم مثل المسلمين في الآخرة؟
فإن كان لهم شركاء، فليأتوا بهم لمناصرتهم إن كانوا صادقين في دعواهم. وهذا نفي التقليد وإبطال جوهر الاعتقاد لدى المشركين.
68
والخلاصة: المراد من الآيات أنه ليس لهم دليل عقلي في إثبات مذهبهم، ولا نقلي، وهو كتاب يدرسونه، ولا عهد لهم به عند الله، ولا كفيل لهم يتكفل بما يقولون، ولا لهم مؤيد يوافقهم من العقلاء، مما يدل على بطلان دعواهم.
ثم تحداهم الله تعالى بالإتيان بالشركاء يوم اشتداد الأمر، فقال:
يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ، وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ، فَلا يَسْتَطِيعُونَ أي فليأتوا بشركائهم لإنقاذهم يوم يشتد الأمر ويعظم الخطب في القيامة، وحين يدعى هؤلاء الشركاء وأنصارهم من الكفار والمنافقين إلى السجود توبيخا لهم على تركه في الدنيا، فلا يتمكنون من السجود لأن ظهورهم تيبس وتصبح طبقا واحدا، فلا تلين للسجود.
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «يكشف ربنا عن ساقه، فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة، ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة، فيذهب ليسجد، فيعود ظهره طبقا واحدا».
والمراد بقوله: يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ شدة الأمر وعظم الخطب لأن الله تعالى منزه عن الجسمية وعن كل صفات الحوادث، فليس المراد بالساق الجارحة، وإنما ذلك مؤول بما ذكر.
خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ، تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ، وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ، وَهُمْ سالِمُونَ أي تكون أبصارهم ذليلة خاسئة منكسرة، تغشاهم ذلة شديدة، وحسرة وندامة، وقد كانوا في الدنيا مدعوين إلى الصلاة والسجود لله تعالى، فأبوا وتمردوا وامتنعوا، مع أنهم كانوا سالمين أصحاء، متمكنين من الفعل، لا علل ولا موانع تمنعهم من أداء السجود. قال النخعي والشعبي: المراد بالسجود:
الصلوات المفروضة.
والخلاصة: أنهم لا يدعون إلى السجود تعبدا وتكليفا، ولكن توبيخا
69
وتعنيفا على تركهم السجود في الدنيا، وبما أنهم تكبروا عن السجود في الدنيا مع صحتهم وسلامتهم، عوقبوا بنقيض ما كانوا عليه، بعدم قدرتهم عليه في الآخرة إذا تجلى الرب عز وجل، فيسجد له المؤمنون، ولا يستطيع أحد من الكافرين ولا من المنافقين أن يسجد، بل يعود ظهره طبقا واحدا، كما ثبت في الحديث المتقدم.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يأتي:
١- إن للمتقين الملتزمين أوامر الله المجتنبين نواهيه في الآخرة جنات ليس فيها إلا التنعم الخالص، لا يشوبه ما ينغّصه كما يشوب جنات الدنيا.
٢- لا تسوية في الجزاء الأخروي بين المسلمين والكفار، أو بين الطائعين والعصاة، وذلك بحكم الفضل والإحسان، لا من قبيل الاستحقاق على الله شيئا.
٣- استنكر الله تعالى حكم المشركين الأعوج في المساواة بينهم وبين المسلمين، كأن أمر الجزاء مفوض إليهم، حتى يحكموا بما شاؤوا أن لهم من الخير ما للمسلمين.
واستنكر أيضا وجود كتاب سماوي يجدون فيه المطيع كالعاصي، وأن لهم ما يختارون وما يشتهون.
ونفى أن يكون لهم عهود ومواثيق مؤكدة بالله تعالى، يستوثقون بها في أن يدخلهم الجنة، فليس الأمر كما يحكمون ويظنون.
٤- أنكر الله تعالى عليهم كذلك أن يكون لهم كفيل بما زعموا، قائم بالحجة والدعوى، أو أن يكون لهم ناس شركاء، أي شهداء يشهدون على ما زعموا، إن كانوا صادقين في دعواهم.
٥- من أنواع العذاب في الآخرة للكفار: أنهم يوم يشتد الأمر، ويعظم
70
الخطب يوم القيامة، يطالبون تقريعا وتوبيخا بأداء الصلاة والسجود، فلا يتمكنون عقابا لهم بنقيض ما كانوا عليه في الدنيا، وتكون أبصارهم ذليلة خاسئة منكسرة، وتغشاهم الذلة والمهانة، وذلك أن المؤمنين يرفعون رؤوسهم، ووجوههم أشد بياضا من الثلج، وتسودّ وجوه المنافقين والكافرين حتى ترجع أشد سوادا من القار.
تخويف الكفار من قدرة الله تعالى وأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بالصبر والتذكير العالمي بالقرآن
[سورة القلم (٦٨) : الآيات ٤٤ الى ٥٢]
فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (٤٤) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (٤٥) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٦) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤٧) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ (٤٨)
أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (٤٩) فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٥٠) وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (٥١) وَما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٥٢)
الإعراب:
فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ.. مَنْ: في موضع نصب لأنه معطوف على ياء المتكلم في فَذَرْنِي.
أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ قال: تَدارَكَهُ بالتذكير لأن تأنيث النعمة غير حقيقي، أو حملا على المعنى لأن النعمة بمعنى النعيم. وقرئ بالتأنيث تداركته نعمة بالتأنيث حملا على اللفظ وَهُوَ مَذْمُومٌ الجملة حال.
71
وَإِنْ يَكادُ إِنْ مخففة من الثقيلة بدليل اللام.
لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ قرئ بضم الياء وفتحها، وهما لغتان، والضم أفضل.
المفردات اللغوية:
فَذَرْنِي دعني واتركني. وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ اتركه إلي فإني أكفيكه، والحديث: القرآن. سَنَسْتَدْرِجُهُمْ نأخذهم تدريجيا أو قليلا قليلا. والاستدراج: أن تنزل بالمرء درجة درجة إلى حيث تريد لتوريطه فيه، والمراد هنا: سندنيهم من العذاب تدريجيا بالإمهال وإدامة الصحة وازدياد النعمة. مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ أنه استدراج، وهو الإنعام عليهم لأنهم حسبوه تفضيلا لهم على المؤمنين.
وَأُمْلِي لَهُمْ وأمهلهم وأطيل لهم المدة. كَيْدِي تدبيري. مَتِينٌ شديد لا يطاق، ولا يدفع بشيء. أَمْ تَسْئَلُهُمْ بل أتسألهم على تبليغ الرسالة. أَجْراً أجرة على البلاغ.
مَغْرَمٍ غرامة مالية يعطونكها. مُثْقَلُونَ محمّلون أثقالا، فيعرضون عنك، ولا يؤمنون بك.
الْغَيْبُ الشيء المغيب الذي استأثر الله بعلمه، أو اللوح المحفوظ الذي فيه الغيب.
فَهُمْ يَكْتُبُونَ أي يحكمون به ويستغنون به عن علمك، ويكتبون منه ما يقولون. لِحُكْمِ رَبِّكَ قضاؤه فيهم وإمهالهم وتأخير نصرتك عليهم. وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ وهو يونس عليه السلام في الضجر والعجلة. نادى دعا ربه في بطن الحوت. مَكْظُومٌ مملوء غيظا وغما، مأخوذ من كظم السقاء: إذا ملأه.
تَدارَكَهُ أدركه. نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ رحمة من الله وهي التوفيق للتوبة وقبولها.
بِالْعَراءِ الأرض الخالية عن الأشجار والزروع. وَهُوَ مَذْمُومٌ ملوم مطرود عن الرحمة والكرامة. فَاجْتَباهُ رَبُّهُ اصطفاه ورد إليه الوحي والنبوة. مِنَ الصَّالِحِينَ من الأنبياء الكاملين في الصلاح. لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ ينظرون إليك نظرا شديدا يكاد أن يصرعك ويسقطك من مكانك، والمعنى: إنهم لشدة عداوتهم ينظرون إليك شزرا بحيث يكادون يزلون قدمك ويرمونك. لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ القرآن. وَيَقُولُونَ حسدا وعداوة. إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ بسبب القرآن الذي جاء به، حيرة من أمره وتنفيرا عنه. إِلَّا ذِكْرٌ موعظة وتذكير. لِلْعالَمِينَ الجن والإنس، فلا يحدث بسببه جنون. قال البيضاوي: لما جننوه لأجل القرآن، بيّن أنه ذكر عام، لا يدركه ولا يتعاطاه إلا من كان أكمل الناس عقلا، وأمتنهم رأيا.
72
المناسبة:
بعد تخويف الكفار بأهوال يوم القيامة وشدائدها، خوّفهم تعالى وهددهم بما في قدرته من القهر، ففيه الكفاية بالجزاء لمن يكذب بالقرآن، ثم أمر نبيه صلّى الله عليه وسلّم بالصبر، ونهاه عن الضجر في أمر التبليغ كحال يونس عليه السالم، ثم أخبر نبيه صلّى الله عليه وسلّم عن حسد قومه، وحرصهم على إيقاع المكروه به بعد أن صبّره وشجعه، ثم أعلم الناس قاطبة أن القرآن عظة للجن والإنس جميعا، يتلقاه أهل العقول والأفهام، وليس المجانين كما زعموا.
التفسير والبيان:
فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ، سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ أي دعني وإياهم، وخلّ بيني وبينهم، واترك أمر هؤلاء المكذبين بالقرآن، فأنا أكفيك أمرهم، وأعلم كيف أجازيهم، فلا تشغل قلبك بشأنهم، فإنا سنأخذهم بالعذاب على غفلة، ونسوقهم إليه درجة فدرجة، حتى نوقعهم فيه من حيث لا يعلمون أن ذلك استدراج لأنهم يظنونه إنعاما، ولا يفكرون في عاقبته، وما سيلقون في نهايته. وهذا تهديد شديد، وتسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم.
فهم لا يشعرون أن الإنعام استدراج، بل يعتقدون أن ذلك من الله تعالى كرامة، وهو في الأمر نفسه إهانة كما قال تعالى: أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ، نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ؟ بَلْ لا يَشْعُرُونَ [المؤمنون ٢٣/ ٥٥- ٥٦] وقال سبحانه: فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ، فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا، أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً، فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ [الأنعام ٦/ ٤٤].
وقال الله تعالى هنا:
وَأُمْلِي لَهُمْ، إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ أي أمهلهم وأؤخرهم ليزدادوا إثما، ويتورطوا، فإن تدبيري وكيدي لأهل الكفر قوي شديد، فلا يفوتني شيء لكل
73
من خالف أمري، وكذب رسلي، واجترأ على معصيتي. وسمى الله الجزاء كيدا- والكيد احتيال- لكونه في صورته، إذ نفعهم وهو يريد الضرر بهم، لما علم من خبثهم وتماديهم في الكفر.
جاء في الصحيحين عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إن الله ليملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته» ثم قرأ: وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى، وَهِيَ ظالِمَةٌ، إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود ١١/ ١٠٢].
ثم أخبر الله تعالى عن إزالة كل الموانع التي تمنعهم من قبول الإسلام والحق، فقال:
- أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ أي بل أتطلب منهم أجرة على الهداية والتعليم وتبليغ رسالتك ودعوتك إياهم إلى الإيمان بالله تعالى؟ فهم من الغرامة المالية التي يتحملونها مثقلون بأدائها، لشحهم ببذل المال. والمراد: هل طلبت منهم أجرا، فأعرضوا عن إجابتك بهذا السبب؟ الحقيقة أنك يا محمد تدعوهم إلى الله عز وجل بلا أجر تأخذه منهم، بل ترجوا ثواب ذلك عند الله تعالى، وهم مع ذلك يكذبونك فيما جئتهم به من الحق جهلا وكفرا وعنادا.
وفي هذا إثبات النبوة لأن النبي ينشد الخير لذاته، لا لمنفعة مادية.
- أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ أي بل أعندهم علم الغيب يكتبون ما يريدون من الحجج التي يزعمون، ويخاصمونك بما يكتبونه من ذلك، ويحكمون لأنفسهم بما يريدون، ويستغنون بذلك عن إجابتك وامتثال قولك.
والمراد أنه ليس لهم حجة نقلية يعتمدون عليها في الإعراض عن قبول رسالة الإسلام.
ولما بالغ الله تعالى في تزييف منهج الكفار، وتفنيد شبهاتهم وإبطالها،
74
وزجرهم عليها، أمر رسوله صلّى الله عليه وسلّم بالصبر على أذاهم وعلى تبليغ رسالته، فقال:
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ، وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ، إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ أي فاصبر يا محمد على قضاء ربك وحكمه فيك وفي هؤلاء المشركين، وعلى أذى قومك وتكذيبهم، وامض في تبليغ دعوتك، دون توقف أو تعثر بمعارضتهم وإيذائهم، فإن العاقبة لك ولأتباعك في الدنيا والآخرة.
ولا تكن مثل يونس عليه السلام في الضجر والعجلة والغضب، حين ذهب مغاضبا على قومه، فكان من أمره ما كان، من ركوبه البحر، والتقام الحوت له، وشروده في البحار، وندمه على ما فعل، فنادى ربه في الظلمات في بطن الحوت، وهو مملوء غيظا وغما على قومه، إذ لم يؤمنوا لما دعاهم إلى الإيمان، كما جاء في آية أخرى: فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ، سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، فَاسْتَجَبْنا لَهُ، وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ، وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ [الأنبياء ٢١/ ٨٧- ٨٨].
والمعنى: لا يوجد منك ما يوجد منه من الضجر والمغاضبة، فتبتلى ببلائه، كما قال تعالى:
أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ، لَنُبِذَ بِالْعَراءِ، وَهُوَ مَذْمُومٌ أي لولا أن تداركته رحمة من الله ونعمة، بتوفيقه للتوبة وقبولها منه، فتاب الله عليه، لألقي من بطن الحوت على وجه الأرض الخالية من النبات، وهو ملوم بالذنب الذي أذنبه، مطرود من الرحمة والكرامة، لذا قال تعالى:
فَاجْتَباهُ رَبُّهُ، فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ أي فاصطفاه ربه واستخلصه واختاره للنبوة والوحي، وجعله من الأنبياء المرسلين لقومه الكاملين في الصلاح، وأرسله إلى مائة ألف أو يزيدون، فآمنوا جميعا. ويلاحظ أن كلمةدلت على أن المذمومية لم تحصل.
75
ثم حذر الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلّم من عداوة المشركين، قائلا:
وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ، وَيَقُولُونَ: إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ أي إنهم- كما قال الزمخشري- من شدة تحديقهم ونظرهم إليك شزرا بعيون العداوة والبغضاء، يكادون يزلون قدمك، أو يهلكونك، وكان هذا النظر يشتد منهم في حال قراءة النبي صلّى الله عليه وسلّم القرآن، لشدة كراهيتهم، وحسدا على ما أوتي من النبوة، ويقولون: إنه مجنون، حيرة في أمره، وتنفيرا عنه، وإلا فقد علموا أنه أعقلهم. والمعنى: أنهم جننوه لأجل القرآن.
وقال بعضهم: المراد أنهم يكادون يصيبونك بالعين، روي أن العين كانت في بني أسد، فكان الرجل منهم يتجوع ثلاثة أيام، فلا يمر به شيء فيقول فيه: لم أر كاليوم مثله، إلا عانة، فأريد بعض العيّانين على أن يقول في رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مثل ذلك، فقال: لم أر كاليوم رجلا، فعصمه الله.
قال الهروي: أراد ليعتانونك بعيونهم، فيزيلونك عن مقامك الذي أقامك الله فيه، عداوة لك.
ورد ابن قتيبة على ذلك قائلا: ليس يريد الله أنهم يصيبونك بأعينهم، كما يصيب العائن بعينه ما يعجبه وإنما أراد أنهم ينظرون إليك إذا قرأت القرآن نظرا شديدا بالعداوة والبغضاء، يكاد يسقطك.
ورأى ابن كثير أن المعنى: يحسدونك لبغضهم إياك، لولا وقاية الله لك، وحمايته إياك منهم، وفي هذه الآية- على رأي البعض- دليل على أن العين إصابتها وتأثيرها حق بأمر الله عز وجل، كما وردت بذلك الأحاديث المروية من طرق متعددة كثيرة.
منها:
ما أخرجه أحمد عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا حسد، والعين حق»
أي بإرادة الله.
76
ومنها:
ما أخرجه الحافظ أبو بكر البزار في مسنده عن جابر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «قد تدخل الرجل العين في القبر، وتدخل الجمل القدر»
وإسناد رجاله كلهم ثقات.
ومنها:
ما أخرجه الحافظ أبو يعلى الموصلي عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن العين لتولع الرجل بإذن الله، فيتصاعد حالقا، ثم يتردى منه»
وإسناده غريب.
وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ أي ويقولون عن محمد صلّى الله عليه وسلّم: إنه لمجنون، أي لمجيئه بالقرآن، وما القرآن إلا موعظة وتذكير للجن والإنس، فلا يتحمله إلا من كان أهلا له من العقلاء. وفيه نسبة الجهل إلى من يقول هذا القول، وكيف يجنن من جاء بمثله من الآداب والحكم وأصول كل العلوم والمعارف؟!.
قال الحسن البصري: دواء الإصابة بالعين أن يقرأ هذه الآية: وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا... الآية.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- كفى بالله مجازيا ومنتقما ممن يكذب بالقرآن العظيم، وإن الله سيأخذهم على غفلة وهم لا يعرفون، فعذّبوا يوم بدر. وهذا استدراج من الله تعالى، والاستدراج: ترك المعاجلة. وأصله النقل من حال إلى حال كالتدرّج.
٢- إن الله يمهل ولا يهمل، فهو سبحانه يمهل ويطيل المدة للظالمين والكفار، ثم يعاقبهم، فلا يفوته أحد، وعذاب الله قوي شديد، وتدبيره محكم لا يمكن التفلت منه.
77
٣- ليس للكفار والمشركين علم بالغيب الذي غاب عنهم، فيكون حكمهم لأنفسهم بما يريدون غلطا محضا، وتقوّلا كاذبا.
٤- الصبر على قضاء الله وحكمه مطلوب شرعا، ولا ينبغي لمؤمن العجلة والتضجر والغضب، كما عجل صاحب الحوت يونس بن متّى عليه السلام حين تضجر ثم تاب وندم، ودعا في بطن الحوت وهو مملوء غما، فقال: لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ، سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء ٢١/ ٨٧].
فقبل الله بفضله ومنّه ورحمته ونعمته دعاءه، واصطفاه ربه واختاره وجعله من الأنبياء الصالحين، بأن أرسله إلى مائة ألف أو يزيدون هم أهل نينوى، ولولا قبول توبته، لنبذ في الأرض الخالية الفضاء مذموما ملوما. والذم واللوم بسبب ترك الأفضل، فإن حسنات الأبرار سيئات المقرّبين. ولم يقع الذم بدليل كلمة
٥- اشتدت عداوة الكفار للنبي صلّى الله عليه وسلّم، فكانوا إذا سمعوه يقرأ القرآن، نظروا إليه نظرة شديدة ملؤها الحقد والعداوة والبغضاء، حتى لتكاد نظراتهم تسقطه وتزلّ قدمه، أو تهلكه.
وينسبونه أيضا إلى الجنون إذا رأوه يقرأ القرآن، مع أن القرآن لا يتحمله إلا من كان أهلا له من العقلاء، وهو شرف وتذكير وموعظة للعالمين، شرفوا باتباعه والإيمان به صلّى الله عليه وسلّم، فهل يعقل أن يكون هذا القرآن آتيا على يد مجنون؟
وكيف يجنن من جاء بمثله؟
78

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الحاقة
مكيّة، وهي اثنتان وخمسون آية.
تسميتها:
سميت سورة الحاقة لافتتاحها بالاستفهام عنها، تفخيما لشأنها وتعظيما لهولها، والْحَاقَّةُ اسم من أسماء يوم القيامة لأن فيها يتحقق الوعد والوعيد، ولهذا عظم الله أمرها بالسؤال عنها، أو هي الساعة الواجبة الوقوع، الثابتة المجيء، التي هي آتية لا ريب فيها.
مناسبتها لما قبلها:
تتعلق السورة بما قبلها من وجهين:
١- وقع في سورة (ن) ذكر يوم القيامة مجملا، في قوله تعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ [٤٢] وفي هذه السورة أوضح تعالى نبأ هذا اليوم وشأنه العظيم: الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ، وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ.
٢- هدد الله تعالى في السورة السابقة كل من كذب بالقرآن وتوعده بقوله:
فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ.. [٤٤] وفي هذه السورة ذكر أحوال الأمم التي كذبت الرسل وما عوقبوا به، للعظة والزجر والعبرة للمعاصرين.
79
ما اشتملت عليه السورة:
هذه السورة كغيرها من السور المكية التي عنيت بأصول العقيدة، وتحدثت عن أهوال القيامة، وصدق الوحي، وكون القرآن كلام الله، وتبرئة الرسول صلّى الله عليه وسلّم من افتراءات الكفار واتهامات الضالين.
بدئت بتفخيم شأن القيامة وتعظيم هولها، وتكذيب الأقوام السابقة بها، مثل ثمود، وعاد، وقوم لوط، وفرعون وأتباعه، وقوم نوح، وإهلاكهم بسبب تكذيبهم بها وتكذيب رسلهم، من أول السورة إلى قوله تعالى: أُذُنٌ واعِيَةٌ.
ثم وصفت وقائع عذاب الآخرة جزاء على إنكاره في الدنيا في قوله تعالى:
فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ.. إلى لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ.
وأردفت ذلك ببيان حال السعداء والأشقياء يوم القيامة: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ.. وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ إلى قوله: لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ.
ثم أقسم رب العزة قسما بليغا على صدق الوحي والقرآن وأنه كلام الله المنزل على قلب رسوله صلّى الله عليه وسلّم، وأنه ليس بقول شاعر ولا كاهن: فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ إلى قوله: تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ.
وختمت السورة ببيان البرهان القاطع على صدق الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وأمانته في تبليغ الوحي، وأن القرآن تذكرة وعظة وخبر حق لا مرية فيه، ورحمة للمؤمنين وحسرة على الكافرين: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ.. إلخ السورة.
80
Icon