تفسير سورة ق

مراح لبيد
تفسير سورة سورة ق من كتاب مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد المعروف بـمراح لبيد .
لمؤلفه نووي الجاوي . المتوفي سنة 1316 هـ

سورة ق
مكية، خمس وأربعون آية، ثلاثمائة وخمس وتسعون كلمة، ألف وأربعمائة وأربعة وتسعون حرفا
ق. قال ابن عباس: هو جبل أخضر محدق بالدنيا وخضرة السماء منه، وهو قسم أقسم الله به.
قال الرازي: المنقول عن ابن عباس أن «ق» اسم جبل وأما أن المراد في هذا الموضع به ذلك فلا. وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (١) أي العظيم، لأن القرآن عظيم الفائدة، أو لأنه كلام
الله تعالى، أو كثير الكرم، لأن كل من طلب مقصوده من القرآن وجده، فإنه مغنى كل من لاذ به، أو ذي الشرف، فإن من علم معانيه وعمل بما فيه شرف عند الله تعالى وعند الناس. بَلْ عَجِبُوا وهذا إضراب عن جواب القسم المحذوف، أي ما آمن كفار مكة بمحمد والقرآن بل جعلوا كلا منهما عرضة للتعجب، مع كونهما أقرب شيء إلى التلقي بالقبول، وإنما عجبوا من ذلك لكون محمد من جنسهم لا من جنس الملائكة، ولكون القرآن أخبر بالبعث بعد الموت وذلك قوله تعالى.
أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (٢) أي عجبوا من أن جاءهم رسول من جنسهم يخوفهم بالنار بعد البعث فقال كفار مكة منهم أبي، وأمية ابنا خلف ومنبه ونبيه ابنا الحجاج هذا أي كون المنذر منا، وكون المنذر به هو البعث بعد الموت أمر يتعجب منه، أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً أي أحين نموت ونصير ترابا رميما نبعث ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (٣) أي ذلك الخبر برجوعنا إلى ما كنا عليه بعد موتنا رجع بعيد من الأوهام والإمكان. وقرأ نافع وحفص، وحمزة والكسائي بكسر ميم «متنا». والباقون بالضم قال الله تعالى ردا لاستبعادهم قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ أي ما تأكل الأرض من لحومهم وعظامهم فلا تخفى علينا أجزاؤهم بسبب تشتتها في الأرض، أي إن الله تعالى عالم بجميع أجزاء كل واحد من الموتى لا يشتبه عليه جزء أحد على الآخر، وقادر على الجمع والتأليف فليس الرجوع منه ببعيد، وكما يعلم أجزاءهم يعلم أعمالهم فذلك قوله تعالى:
وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (٤) أي حافظ لأجزائهم وأعمالهم بحيث لا ننسى شيئا منها، أي فالعلم
443
عندي كما يكون في الكتاب أعلم جزءا جزءا وشيئا شيئا، بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ أي بالنبوة الثابتة بالمعجزات الباهرة لَمَّا جاءَهُمْ أي حين جاءهم منذر هو محمد صلّى الله عليه وسلّم من غير تأمل وتفكر.
وقرئ «لما جاءهم» بكسر اللام على أن اللام للتوقيت، أي وقت مجيء المنذر إياهم فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (٥)، أي فهم في شأن المنذر في قول مختلف فإنهم تارة يقولون: إنه ساحر، وأخرى شاعر، وأخرى كاهن وأخرى مجنون.
قال الرازي: نقول كان الواجب أن ينتقلوا من الشك إلى الظن بصدقه صلّى الله عليه وسلّم لعلمهم بأمانته واجتنابه الكذب طول عمره بينهم، ومن الظن إلى القطع بصدقه لظهور المعجزات القاهرات على يديه ولسانه، فلما غيّروا الترتيب حصل عليهم المرج ووقع الدرك مع المرج أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ أي أعموا فلم يشاهدوا السماء كل وقت وهي ظاهرة فوق رؤوسهم غير غائبة عنهم، كَيْفَ بَنَيْناها أي رفعناها بغير عمد، وَزَيَّنَّاها بالكواكب وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (٦) أي والحال ليس لها فتوق.
وهذا إشارة إلى وجه الدلالة فالإنسان له أساس وهي العظام التي هي كالدعامة، وله قوى وأنوار كالسمع والبصر فبناء السماء أرفع من أساس البدن، وزينة السماء أكمل من زينة الإنسان بلحم وشحم وليس للسماء فروج، وللإنسان مسام، فتأليف السماء أشد ولا شك أن التأليف الأشد كالنسج الأصفق، والتأليف الأضعف كالنسج الأسخف، والأول أصعب عند الناس وأعجب، فكيف يستبعدون الأدون مع علمهم بوجود الأعلى من الله تعالى؟! وَالْأَرْضَ مَدَدْناها أي بسطناها على الماء وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ أي جبالا ثوابت أوتادا لها وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٧) أي من لون حسن في المنظر. وهذا إشارة إلى دليل آخر يدفع قولهم ذلك رجع بعيد وهم قالوا: الإنسان إذا مات وفارقته القوى لا تعود إليه تلك القوى فنقول: الأرض أشد جمودا والله تعالى ينبت فيها أنواع النبات، فكذلك الإنسان تعود إليه الحياة وذكر الله في الأرض ثلاثة أمور، كما ذكر في السماء ثلاثة أمور فكل واحد في مقابلة واحد فالمد في مقابلة البناء وإثبات الرواسي في الأرض في مقابلة ركز الكواكب في السماء وشق الأرض بالإنبات في مقابلة سد الفروج إذا علمت هذا ففي الإنسان أشياء موضوعة وأشياء مرفوعة، وأشياء ثابتة، كالأنف والأذن، وأشياء متحركة كالمقلة واللسان، وأشياء مسدودة الفروج كدور الرأس، وأشياء لها فروج كالمناخر والصماخ والفم. فالقادر على هذه الأضداد في السبع الشداد غير عاجز عن خلق نظيرها في هذه الأجساد. تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٨) أي خلقنا السماء والأرض تبصيرا وتذكيرا لكل عبد مقبل إلى الله راجع إلى التفكر في بدائع صنائعه، فإن فيهما آيات مستمرة منصوبة على مرور الزمان، وآيات متجددة مذكرة عند التناسي ونصب الاسمين على المفعول من أجله أو على الحال أي مبصرين ومذكرين. وقرأ زيد بن علي «تبصرة وذكر» برفعهما، أي هي تبصرة
444
وذكر، أي عبرة وعظة وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً أي نافعا كثير الخير فَأَنْبَتْنا بِهِ أي بذلك الماء جَنَّاتٍ أي أشجارا كثيرة يقطف ثمارها والأصول باقية. وَحَبَّ الْحَصِيدِ (٩) أي حب زرع يحصد كل عام وَالنَّخْلَ وهو جنس مختلط من الزرع والشجر، لأن الثمر فاكهة وقوت بخلاف غيره فإن بعض الثمار فاكهة ولا قوت فيه، وأكثر الزرع قوت، وأيضا إن من النباتات ما يبقى أصلها سنين ولا يحتاج إلى عمل عامل وما لا يبقى أصلها ويحتاج كل سنة إلى عمل عامل وما يبقى أصلها يحتاج كل سنة إلى عمل عامل. باسِقاتٍ أي طوالا أو حوامل. وهي حال مقدرة.
وقرئ «باصقات» بالصاد لأجل القاف لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (١٠) أي لتلك النخل كفرى مجتمعة بعضها فوق بعض،
رِزْقاً لِلْعِبادِ أي لنرزقهم. وهذا علة ل «أنبتنا»، والحكمة في تعليل الإنبات بالرزق بعد تعليل الإنبات الأول بالتبصرة والتذكير إشارة إلى أن الواجب على العبد أن يكون انتفاعه بالنباتات من حيث الاستبصار والتذكر أقدم من تمتعه بها من حيث الرزق والحكمة في إطلاق العباد في الرزق، وفي تقييدهم بكونهم منيبين في التبصرة والتذكير، لأن الرزق حصل لكل أحد، والتذكرة لا تكون إلّا لكل منيب فهو يأكل ذاكرا شاكرا للإنعام، ثم التبصرة بالخلق هو الاستدلال بأن القادر على خلق السموات والأرض قادر على خلق الخلق بعد الفناء والتذكرة بالبقاء بالرزق بعد الإعادة هو الاستدلال بأن البقاء في الدنيا يكون بالرزق وبأن القادر على إخراج الأرزاق من النجم والشجر قادر على أن يرزق العبد في الجنة وأن يبقيه فيها، وَأَحْيَيْنا بِهِ أي بذلك الماء بَلْدَةً مَيْتاً أي أرضا جدبة لا نماء فيها أصلا كَذلِكَ الْخُرُوجُ (١١) أي مثل خروج النبات من الأرض بالماء خروجهم من القبور يوم القيامة بالمطر الذي كمني الرجال، ومثل تلك الحياة في النبات بالإخراج حياتهم بالبعث من القبور على ما كانوا عليه في الدنيا، كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ أي قبل قومك قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وهو بئر دون اليمامة، وهم قوم شعيب. وقيل: هم قوم عيسى الذين جاءهم من أقصى المدينة رجل يسعى. وقيل: هم أصحاب الأخدود وَثَمُودُ (١٢) وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ. وإنما نص عليه لأنه ليس في قادة قومه كافر غيره، لأنه استخف قومه فأطاعوه، فجعل الاعتبار له خاصة وَإِخْوانُ لُوطٍ (١٣) وإنما قال هاهنا ذلك، لأن لوطا كان مرسلا إلى طائفة من قوم إبراهيم معارف لوط وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ، أي الغيظة وهم قوم شعيب غير أهل مدين وَقَوْمُ تُبَّعٍ وهو كان معتمدا بقومه، كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ أي فالمذكورون كانوا منكرين للحشر، وكل واحد منهم كذب جميع الرسل، فَحَقَّ وَعِيدِ (١٤) أي فثبت وعيدي من نصرة الرسل عليهم وإهلاكهم. أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ أي قصدنا إيجاد الإنسان وسائر الحيوان وإيجاد السموات والأرض، فعجزنا عنه حتى يتوهم عجزنا عن الإعادة بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (١٥)، أي إنهم غير منكرين لقدرتنا على اختراع الخلق من العدم، بل هم في شك في إعادة الخلق إلى الحياة بعد
الموت لما فيه من مخالفة العادة، وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ أي ما يخطر بباله، وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (١٦) أي ونحن أقرب إلى الإنسان من العرق الذي يجري فيه الدم، ويصل إلى كل جزء من أجزاء البدن بعلمنا بحاله، وبنفوذ قدرتنا فيه يجري فيه أمرنا كما يجري الدم في عروقه إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (١٧) ف «إذ» منصوب بأقرب، أي فالله أقرب إلى الإنسان من عرقه المخالط له في وقت أخذ الملكين الحافظين منه قوله وفعله، فلهما عن اليمين مقاعد وعن الشمال مقاعد. وفي هذا إشارة إلى أن المكلف غير متروك سدى. ويقال:
وقت ما يتلقاه المتلقيان يكون عن يمينه وعن شماله قعيد، فالملتقيان على هذا الوجه هما الملكان اللذان يأخذان روحه من ملك الموت، أحدهما يأخذ أرواح الصالحين وينقلها إلى السرور إلى يوم النشور، والآخر يأخذ أرواح الطالحين وينقلها إلى الثبور إلى يوم النشر من القبور، أي فهذان الملكان ينزلان إلى الإنسان وعنده ملكان
كاتبان لأعماله، قاعدن عن يمينه وشماله فوقت تلقيهما إياهما يسألانهما عن أيّ النوعين كان هذا الإنسان، فإن كان من الصالحين يأخذ روحه ملك السرور ويرجع إلى الملك الآخر مسرورا، وإن كان من الطالحين يأخذها ملك العذاب ويرجع إلى الآخر محزونا. ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ أي ما يرمي الإنسان المكلف به من فيه من خير أو شر، إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (١٨) أي إلّا لديه ملك يحفظ قوله ويكتبه، وملك يهيئ لكتابة ما أمر به من الخير أو الشر، فكل من كاتب الحسنات وكاتب السيئات يقال له: رقيب عتيد.
وقرئ «ما يلفظ» على البناء للمفعول. وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ أي جاءت شدة الموت الذاهبة بالعقل بالموت، كأن شدة الموت. تحضر الموت كما قرئ «وجاءت سكرة الحق بالموت»، أو يقال: المراد من الحق هو الدين. فالمعنى وأظهرت سكرة الموت الدين إذ ما من أحد في تلك الحالة إلّا وهو يظهر الإيمان لكنه لا يقبل إلّا ممن سبق منه ذلك ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (١٩) أي ذلك الموت ما كنت تفر منه أيها السامع، وَنُفِخَ فِي الصُّورِ هي نفخة البعث فقوله تعالى: وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ إشارة إلى الإماتة. وقوله تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ إشارة إلى الإحياء والإعادة. ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (٢٠) أي ذلك الزمان يوم وقوع الوعيد، وهو العذاب الموعود،
وَجاءَتْ في ذلك اليوم كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ أي ملك يسوق البر إلى الجنة والفاجر إلى النار، وَشَهِيدٌ (٢١) أي كاتب فإنه يشهد عليها بعملها ويقال لَقَدْ كُنْتَ أيها الشخص في الدنيا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا أي اليوم فما من أحد إلّا وله غفلة ما عن الآخرة.
وقرئ «كنت» بكسر التاء باعتبار تأنيث النفس فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ أي أزلنا عنك غفلتك فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (٢٢)، أي نافذ، وكان من قبل كليلا.
وقرئ بكسر الكاف في المواضع الثلاثة. وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ (٢٣) أي قال الشيطان الذي زيّن له العصيان: هذا العصيان هو الذي عندي معد لجهنم أو قال الملك الذي يكتب
أعماله: هذا الكتاب مكتوب عندي مهيأ للعرض. قال تعالى خطابا للسائق والشهيق: أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ.
وقرأ الحسن «ألقين» بنون التوكيد خطاب لواحد من خزنة النار. عَنِيدٍ (٢٤) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (٢٥) أي ألقيا في جهنم كل كافر بالله معاند لآياته، مانع الناس من اتباع رسول الله ومن الإنفاق على من عنده ظالم بالإيذاء وكثرة الهذاء، شاك في اليوم الآخر فلا يظن أن الساعة قائمة، فكل كافر هو موصوف بهذه الصفات. الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ (٢٦) وقوله تعالى: الَّذِي مبتدأ يشبه الشرط في العموم، ولذا دخلت الفاء في خبره، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هو الذي جعل ويكون «فألقياه» تأكيدا ل «ألقيا» الأول. قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ أي إن الكافر حين يلقى في النار يقول: ربنا أطغاني شيطاني فيقول الشيطان متبرئا منه: ربنا ما أضللته وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (٢٧)، أي عن الحق.
وقال ابن عباس: لما يقول الكافر: يا رب، إن الملك زاد علي في الكتابة، فكتب على ما لم أقل وما لم أفعل، وعجلني بالكتابة حتى نسيت. قال الملك الذي يكتب عليه سيئاته: ربنا ما زدت عليه وما كتبت إلّا ما قال وعمل وما أعجلته بالكتابة، ولكن كان في ضلال طويل لا يرجع عنه إلى الحق. قالَ تعالى خطابا للكافرين وقرنائهم: لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ أي في موقف الحساب والجزاء وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (٢٨) أي بالتهديد في دار الكسب في كتبي، وعلى ألسنة رسلي حيث قلت لكم: إذا اتبعتم الشيطان تدخلون النار وقد اتبعتموه، ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ أي ما يغير الوعيد بتخليد الكافر في النار ومجازاة العصاة على حسب استحقاقهم في هذا الموقف وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (٢٩)، أي وما أنا بمعذب للعبيد بغير ذنب من قبلهم، يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ- وقرئ «يقول» بالياء-: هَلِ امْتَلَأْتِ أي قد امتلأت كما وعدتك، وهو استفهام تقرير والمراد الإخبار عنه امتلاء جهنم وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (٣٠)، أي قد امتلأت فليس في مكان رجل واحد لم يمتلئ، فهو استفهام إنكار أي لما خاطب الله جهنم بصورة الاستفهام أيضا ومرادها الإقرار بامتلائها، أو استفهام لطلب الزيادة فهو بمعنى الأمر أي زدني يا رب،
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (٣١) أي قربت الجنة للمتقين عن الكفر والمعاصي قربا حقيقيا بحيث يشاهدونها من الموقف أو قربت تقريب حصول، لأنها تنال بكلمة طيبة وحسنة. هذا أي الجنة ما تُوعَدُونَ في الدنيا.
وقرأ ابن كثير بالياء على الغيبة. لِكُلِّ أَوَّابٍ أي مقبل إلى الله. و «هذا» بدل كل من «المتقين». حَفِيظٍ (٣٢) أي حافظ لأمر الله في الخلوات، مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ حال من المفعول، أي غائبا عن الخاشي، و «من» بدل من «كل» أو خبر مبتدأ مضمر، أي هم من خشي إلخ، والخشية من عظمة المخشي والخوف من ضعف الخاشي. وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (٣٣) أي
بريء من الشرك يقول الله تعالى لهم: ادْخُلُوها أي الجنة بِسَلامٍ أي بسلامة من عذاب الله تعالى أو بسلام على من فيها، فلا تتركوا حسن عادتكم ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (٣٤)، أي ذلك الزمان يوم خلود أهل الجنة في الجنة، لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها من فنون المطالب وَلَدَيْنا مَزِيدٌ (٣٥) هو ما لا يخطر ببالهم ولا يندرج تحت مشيئتهم من معالي الكرامات.
وقيل: إن السحابة تمر بأهل الجنة فتمطرهم الحور، فتقول: نحن المزيد الذي قال تعالى:
وَلَدَيْنا مَزِيدٌ. وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ أي قبل قومك مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ أي من قومك بَطْشاً أي قوة فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ أي خرقوا فيها وجالوا في أكناف الأرض كل مجال حذر الموت، هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٦) أي هل لهم مخلص من أمر الله تعالى، إِنَّ فِي ذلِكَ أي في إهلاكهم لَذِكْرى أي لعظة لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أي قلب واع سليم، يتفكر في الأمور كما ينبغي بذكائه، أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ إلى ما يتلى عليه من الوحي الدال على ما جرى عليهم، وَهُوَ شَهِيدٌ (٣٧) أي حاضر بفطنته لأن من لا يحضر ذهنه، فكأنه غائب وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما من أصناف المخلوقات فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ أولها: يوم الأحد، وآخرها: يوم الجمعة وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (٣٨)، أي وما أصابنا من تعب. قيل: هذه الآية نزلت في اليهود حيث قالوا: خلق الله السموات والأرض في ستة أيام أولها: الأحد، وآخرها: الجمعة، ثم استراح يوم السبت، واستلقى على العرش. فأنزل الله هذه الآية تكذيبا لهم: فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ من حديث التعب بالاستلقاء.
قال الرازي: والأقرب والظاهر أن المراد بهذه الآية الرد على المشرك في إنكار البعث والاستدلال بخلق السموات والأرض، وما بينهما في إثبات البعث، وعلى هذا فالمعنى فاصبر على ما يقولون: هذا شيء عجيب أي هذا الذي يقول محمد نبعث بعد الموت شيء عجيب فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (٣٩) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ (٤٠) أي نزه الله تعالى عن الشرك، وعن العجز الممكن الذي هو البعث، وذكّرهم بعظمة الله تعالى في وقت اجتماعهم، وهو قبل الطلوع، وقبل الغروب وأول الليل أي عقب سجودك نزه ربك بالبرهان عند اجتماع القوم ليحصل لك العبادة بالسجود والهداية أدبار السجود ولا تسأم من تكذيبهم إياك وامتناعهم من استماع وعظك. ويقال: صل حامدا لربك الصلوات الخمس والنوافل بعد المكتوبات وشغل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمران: عبادة الله وهداية الخلق، فإذا هداهم ولم يهتدوا. قيل له: أقبل على شغلك الآخر وهو عبادة الله، واجعل كلامك بدل الدعاء عليهم التسبيح لله والحمد له.
وقرأ نافع وابن كثير وحمزة «إدبار» بكسر الهمزة والباقون بالفتح.
وَاسْتَمِعْ لما يوحى إليك من أحوال القيامة يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٤١) بحيث يصل نداؤه إلى الكل على سواء
448
قيل يقف المنادي إسرافيل أو جبريل على صخرة بيت المقدس.
من غير أن يشاركنا في ذلك أحد، وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (٤٣) أي الرجوع في الآخرة للجزاء يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً أي مسرعين في خروجهم من الأرض والتشقق يكون عند الخروج منها ف «سراعا»، حال من الضمير في «عنهم»، و «يوم» بدل من «يوم» الأول. أو ظرف للمصير، أو ظرف للخروج.
وقرأ نافع، وابن كثير، وابن عامر «تشقق» بتشديد الشين. والباقون بالتخفيف. وقرئ «تشقق» على البناء للمفعول. وقرئ «تنشق». ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ (٤٤) أي ذلك الإخراج بتشقيق الأرض إحياء وجمع هين علينا للحساب والجزاء فكيف ينكره منكر؟ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ من نفي البعث وتكذيب الآيات الناطقة بثبوت البعث، وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ أي بمسلط أن تقسرهم على الإيمان وإنما أنت مذكر فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ (٤٥).
وقرأ «ورش» بإثبات الياء بعد الدال بالوصل. وقوله تعالى: فَذَكِّرْ إشارة إلى أن سيدنا محمدا صلّى الله عليه وسلّم مرسل مأمور بالتذكير وقوله تعالى: بِالْقُرْآنِ إشارة إلى أنه أنزل عليه القرآن.
وقوله تعالى: وَعِيدِ إشارة إلى اليوم الآخر، وضمير المتكلم في قوله تعالى: وَعِيدِ يدل على الوحدانية، أي إنما يقبل عظتك من يخاف عذابي في الآخرة.
449
Icon