ﰡ
( هَذَا الْقُرْآنَ )، منصوب بوقوع الفعل عليه. كأنك قلت : بوحينا إليك هذا القرآنَ. ولو خفضت ( هذا ) و ( القرآنَ ) كان صواباً : تجعل ( هذا ) مكروراً على ( ما )، تقول : مررت بما عندك متاعِك، تجعل المتاع مردوداً على ( ما )، ومثله في النحل :﴿ وَلاَ تَقُولُوا لِما تَصِفُ ألْسِنَتِكُمْ الكَذِبَ ﴾، و( الكَذِبِ ) على ذلك.
كِلِينِي لِهَمٍّ يا أُميمةَ ناصبِ ***...
وأما الوجه الذي لا يجوز الوقف على الهاء، فأن تنوى : يا أبتاه، ثم تحذف الهاء والألف ؛ لأنها في النِّيَّة متّصلة بالألف كاتّصالها في الخفض بالياء من المتكلّم.
وأَما وقوله :﴿ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً ٤ ﴾،
فإن العرب تجعل العدد بين أحد عشر إلى تسعة عشر منصوباً في خفضه ورفعه. وذلك أنهم جَعلوا اسمين معروفين واحداً، فلم يُضيفوا الأوَّل إلى الثاني فيخرجَ من معنى العدد. ولم يرفعوا آخره فيكونَ بمنزلة بعلبكّ إذا رفعوا آخرَها. واستجازوا أن يضيفوا ( بعل ) إلى ( بَكّ ) ؛ لأن هذا لا يُعرف فيه الانفصال من ذا، والخمسة تنفرد من العشرة والعشرة من الخمسة، فجعلوها بإعراب واحد ؛ لأن معناهما في الأصل هذه عشرة وخمسة، فلما عُدِلا عن جهتهما أُعطيا إعراباً واحداً في الصرف كما كان إعرابهما واحداً قبل أن يُصرفا.
فأما نصب كوكب، فإنه خرج مفسِّراً للنوع من كل عدد ليعرف ما أخبرْتَ عنه. وهو في الكلام بمنزلة قولك : عندي كذا وكذا درهما. خرج الدرهم مفسراً لكذا وكذا ؛ لأنها واقعة على كلّ شيء. فإذا أدخلت في أحد عشر الألف واللام أدخلتهما في أوَّلها، فقلت : ما فعلت الخمسةَ عَشَرَ. ويجوز ما فعلت الخمسةَ العشرَ، فأدخلت عليهما الألف واللام مرّتين لتوهّمهم انفصَال ذا من ذا في حال. فإن قلت : الخمسة العشرِ، لم يجز ؛ لأن الأوّل غير الثاني ؛ ألا ترى أن قولهم : ما فعلت الخمسةُ الأثوابِ، لمن أجازه، تجد الخمسة هي الأثواب ولا تجد العشر الخمسة. فلذلك لم تصلح إضافته بألف ولام. وإن شئت أدخلت الألف واللام أيضاً في الدرهم الذي يخرج مفسراً، فتقول : ما فعلت الخمسة العشر الدرهم ؟. وإذا أضفت الخمسة العشر إلى نفسك رفعت الخمسة. فتقول : ما فعلت الخمسةُ عشرِي ؟، ورأيت خمسةَ عَشْرِي، ( ومررت بخمسة عشرى ) ؛ وإنما عُرِّبت الخمسة لإضافتك العشر، فلما أضيف العشر إلى الياء منك لم يسقم للخمسة أن تضاف إليها وبينهما عشر فأضيفت إلى عشر لتصير اسما، كما صَار ما بعدها بالإضافة اسما. سمعتها من أَبى فَقْعَس الأَسَدىّ وأبى الهيثم العُقَيْليّ : ما فعلت خمسةُ عشرِك ؟ ولذلك لا يصلح للمفسر أن يصحبهما ؛ لأن إعرابيهما قد اختلفا. ب : اختلف، وإنما يخرج الدرهم والكوكب مفسراً لهما جميعاً كما يخرج الدرهم من عشرين مفسراً لكلّها. فإذا أضفت العشرين دخلَتْ في الأسماء وبطل عنها التفسير. فخطأ أن تقول : ما فعلت عِشروك درهما، أو خمسةُ عشرِك درهما. ومثله أنك تقول : مررت بضارب زيداً. فإذا أضفت الضارب إلى غير زيد لم يصلح أن يقع على زيد أبداً.
ولو نويت بخمسة عشر أن تضيف الخمسة إلى عشر في شعر لجاز، فقلت : ما رأيت خمسةَ عشرٍ قطُّ خيراً منها، لأنك نويت الأسماء ولم تنوِ العدد. ولا يجوز للمفسِّر أن يدخل ها هنا، كما لم يجز في الإضافة ؛ أنشدني العُكْلىّ أبو ثرْوان :
كُلِّف من عَنائه وشِقْوتهْ *** بنت ثماني عَشرةٍ من حِجتَّهْ
ومن القُرَّاء من يسكّن العين من عَشرَ في هذا النوع كلّه، إلاّ اثنا عشر. وذلك أنهم استثقلوا كثرة الحركات، ووجدوا الألف في ( اثنا ) والياء في ( اثني ) سَاكنة فكرهوا تسكين العين وإلى جنبها ساكن، ( ولا يجوز تسكين العين في مؤنّث العدد لأن الشين من عشرة يسكن، فلا يستقيم تسكين العين والشين معاً ).
وأما قوله :﴿ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ﴾، فإن هذه النون والواو إنما تكونان في جمع ذُكران الجنّ والإنس وما أشبههم. فيقال : الناس ساجدون، والملائكة والجِنّ ساجدون : فإذا عدَوت هذا صار المؤنّث المذكّر إلى التأنيث. فيقال : الكِباش قد ذُبِّحن وذُبِّحت ومذبَّحات. ولا يجوز مذبّحون. وإنما جاز في الشمس والقمر والكواكب بالنون والياء ؛ لأنهم وُصفوا بأفاعيل الآدميين، ( ألا ترى أن السجود والركوع لا يكون إلاّ من الآدميين فأُخرِج فعلهم على فعال الآدميَّين )، ومثله :﴿ وَقَالُوا لِجُلودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُم عَلَيْنا ﴾، فكأنهم خاطبوا رجالا إذا كلّمتهم وكلّموها. وكذلك :﴿ يَا أَيُّها النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ ﴾، فما أتاك مواقعاً لفعل الآدميين من غيرهم أجريتَه على هذا.
وإذا تركت الهمزة من ( الرُؤْيا )، قالوا : الرُّويَا، طلبا للهمزة. وإذا كان من شأنهم تحويل الهمزة، قالوا : لا تقصص رُيّاك في الكلام، فأما في القرآن، فلا يجوز، لمخالفة الكتاب. أنشدني أبو الجرَّاح :
لعِرض من الأعراض يُمسى حَمامُه | ويُضحى على أفنانِهِ العين يَهتِفُ |
أحبّ إلى قلبي من الديك رُيَّة | وبابٍ إذا ما مال للغلق يَصرِف |
وتكون هذه الضمّة مثل قوله :( وحِيلَ )، ( وسيق ). وزَعَمَ الكسائي أنه سمع أعرابيّاً يقول :( إِن كُنْتُم للرِّيَّا تَعْبُرُون ).
جواب لقوله :﴿ إنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً ﴾، فقيل له : وهكذا يجتبيك ربّك. كذلك وهكذا سواء في المعنى. ومثله في الكلام : أن يقول الرجل : قد فعلت اليوم كذا وكذا من الخير فرأيتُ عاقبته محمودة، فيقول له القائل : هكذا السعادة، هكذا التوفيق، و( كذلك )، يَصلح فيه. و( يَجْتَبِيكَ ) : يَصطفيك.
واحدة. وقد قرأ أهل الحجاز ( غَياَبَاتِ ) على الجمع، ﴿ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ ﴾، قرأه العامّة بالياء ؛ لأن ( بعض ) ذكر، وإن أُضيف إلى تأنيث. وقد قرأ الحسن - فيما ذُكِر عنه - ب : ذكروا ( تَلْتَقِطْهُ )، بالتاء، وذلك أنه ذهب إلى السَّيارة. والعرب إذا أضافت المذكّر إلى المؤنّث وهو فعل له أو هو بعض له قالوا فيه بالتأنيث والتذكير. وأنشدونا :
على قبضة موجوءة ظهر كفّه | فلا المرء مُسْتحىٍ ولا هو طاعم |
أرى مَرَّ السنين أخذن منى | كما أخَذ السِّرار من الهلال |
قد صرَّح السير عن كُتْمان وابتُذلتْ | وَقْعُ المحاجن بالمَهْرِيَّة الذُقُنِ |
إذا ماتَ منهم سَيّد قام سَيّد | فَدانَتْ له أهل القُرَى والكنائسِ |
وتَشرَقُ بالقول الذي قد أذعْتَه | كما شرِقت صدرُ القناة منَ الدَّم |
لما أتى خبرُ الزُبَير تهدّمت | سورُ المدينة والجبالُ الخُشّعُ |
تشير إلى الرَفْعة، وإن تركْتَ فصواب، كلٌّ قد قُرئ به ؛ وقد قرأ يحيى بن وثَّاب :( تيمَنا ).
مَنْ سَكّن العين، أخذه من القيد والرَّتْعَة، وهو يفعل حينئذ ؛ ومن قال ( يَرْتَعِ ويَلْعَبْ )، فهو يفتعل من رعَيت، فأسقط الياء للجزم.
معناه : مكذوب. والعرب تقول للكذب : مكذوب، وللضعف : مضعوف، وليس له عَقْد رأي ومعقودُ رأي ؛ فيجعلون المصدر في كثير من الكلام مفعولاً. ويقولون : هذا أمر ليس له مَعْنِىّ، يريدون : مَعْنىً، ويقولون للجَلَد : مجلود ؛ قال الشاعر :
إن أخا المجلود من صَبَرَا ***...
وقال الآخر :
حتّى إذا لم يتركوا لعظامه *** لحما ولا لفؤادهِ معقولاَ
وقال أبو ثَرْوان : إنّ بنى نُمَير ليس لحدّهم مكذوبة. ومعنى قوله :( بِدَمٍ كذِبٍ ) : أنهم قالوا ليعقوب : أكله الذئب. وقد غمسوا قميصه في دم جَدْي. فقال : لقد كان هذا الذئب رفيقاً بابْنيِ، مزَّق جلده ولم يمزق ثيابه. قال : وقالوا : اللصوص قتلوه، قال : فلم تركوا قميصه ! وإنما يريدونَ الثياب ؛ فلذلك قيل :( بِدَمٍ كَذِبٍ ). ويجوز في العربيَّة أن تقول : جاءوا على قميصه بدم كذباً ؛ كما تقول : جَاءوا بأمرٍ باطل وباطلا، وحق وحقاً.
وقوله :﴿ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ﴾، مثل قوله :﴿ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ﴾، ﴿ فإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ ﴾، ولو كان : فَصَبْرا جميلاً، يكون كالآمر لنفسه بالصبر، لجاز. وهي في قراءة أُبَىّ :( فَصَبْرا جَمِيلاً )، كذلك على النصب بالألف.
( وَيَا بشراي )، بنصب الياء، وهي لغة في بعض قيس. وهُذَيلٌ : يا بُشْرَىَّ. كل ألف أضافها المتكلم إلى نفسه جعلتها ياء مشدَّدة. أنشدني القاسم بن مَعْن :
تركوا هوَىّ وأعْنَقوا لهواهم | ففقدتهم ولكل جَنْب مَصْرع |
يطوِّف بي عِكَبّ في مَعَدّ | ويطعُن بالصُمُلَّة في قَفَيَّا |
فإن لم تَثْأَروا لي من عِكَبّ | فلا أرويتما أبداً صَدَيَّا |
وقوله :﴿ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً ﴾، ذلك أن الساقى الذي التقطه قال للذين كانوا معه : إن سَألكم أصْحابُكم عن هذا الغلام فقولوا : أَبضعَناه أهلُ الماء لنبيعه بمصر.
قيل : عشرين. وإنما قيل : معدودة، ليُستدل به على القلَّة ؛ لأنهم كانوا لا يزِنون الدراهم حتى تبلغ أُوقِيّة، كانت وزن أربعين درهما.
وقوله :﴿ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ ﴾، يقول : لم يعلموا منزلته من الله عَزَّ وجلّ.
قرأها عبد الله بن مسعود وأصحابه، حدثنا الفرّاء، قال : حدثني بن أبى يحيى، عَنْ أبى حبيب، عن الشَّعبيّ، عن عبد الله بن مسعود أنه قال : أقرأني رسول الله صلى عليه وسلم :( هَيْتَ )، ويقال : إنها لغة لأهل حَوْران، سقطت إلى مكّة فتكلّموا بها. وأهل المدينة يقرءون :( هِيتَ لك )، بكسر الهاء ولا يهمزون. وذُكر عن على بن أبى طالب وابن عبّاس أنهما قرءا :( هِئتُ لك )، يراد بها : تهيّأت لك. وقد قال الشاعر :
أنّ العِراق وَأَهْلَه | سَلْمٌ عَلَيْكَ فَهَيتَ هَيْتَا |
وقوله :﴿ إِنَّهُ رَبِّي ﴾، يعنى : مولاه الذي اشتراه. يقول : قد أحسن إلىَّ فلا أخونُه.
ذكروا أنه رأى صورة يعقوب عليه السلام.
يعنى : يوسف وامرأة العزيز وجدا العزيز وابن عمّ لامرأته على الباب، فقالت :﴿ ما جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا ﴾، فقال :﴿ هي راودتني عن [ نفسي ] ﴾، فذكروا أن ابن عمّها قال :﴿ إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴾. فلما رأَوا القميص مقدوداً من دُبر، قال ابن العمّ :﴿ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ﴾. ثم إن ابن العمّ طلب إلى يوسف فقال : ﴿ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا ﴾، أي : اكتمه، وقال للأخرى :( استَغْفِرِي ) زوجك ( لِذَنْبِكِ ).
قال : حدّثنا الفرَّاء، قال : وحدّثني قيس بن الربيع، عن أبى حَصِين، عن سَعِيد بن جُبَير في قوله :﴿ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِها ﴾، قال : صبىّ. قال : وحدّثني قيس، عن رجل، عن مجاهد أنه رجل. قال : وحدّثني مُعَلَّي بن هلال، عن أبى يحيى، عن مجاهد في قوله :﴿ وَشهد شاهد من أهلها ﴾، قال : حكم حاكم من أهلها.
ولو كان في الكلام :( أَنْ إِنْ كان قميصُه )، لصلح ؛ لأن الشهادة تُستقبل ب ( أن ) ولا يكتفى بالجزاء، فإذا اكتفت، فإنما ذهب بالشهادة إلى معنى القول كأنه قال : وقال قائل من أهلها، كما قال :﴿ يُوصِيكُمُ اللهُ في أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ ﴾، فذهب بالوصية إلى القول، وأنشدني الكسائي :
وخَبَّرتُما أَنْ إِنَّما بَينِ بِيشَةٍ | ونَجْران أَحْوَى والمحَلّ قَرٍيبُ |
أي : قد خرق شَغَاف قلبها، وتقرأ :( قَدْ شَعَفَها )، بالعين، وهو من قولك : شُعِف بها ؛ كأنه ذَهَب بها كلّ مَذهب. والشَعَف : رءوس الجبال.
وقوله :﴿ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ﴾، يقول : وخَدَشنها ولم يُبِنَّ أيديهن، مِنْ إعظامه، وذلك قوله :﴿ حاشَ للَّهِ ﴾، أَعظمنه أن يكون بشراً، وقلن : هذا مَلَكٌ. وفي قراءة عبد الله :( حاشَا لِلّه )، بالألف، وهو في معنى : مَعَاذ الله.
وقوله :﴿ ما هَذَا بَشَراً ﴾، نصبت ( بَشراً ) ؛ لأن الباء قد استُعملت فيه فلا يكاد أهل الحجاز ينطقون إلا بالباء، فلما حذفوها أحبّوا أن يكون لها أثر فيما خَرَجت منه، فنصبوا على ذلك ؛ أَلاَ ترى أن كلّ ما في القرآن أتى بالباء إلاَّ هذا، وقولَه :﴿ ما هُنَّ أُمّهاتِهِمْ ﴾، وأما أهل نجد فيتكلّمون بالباء وغير الباء، فإذا أسقطوها رفعوا. وهو أقوى الوجهين في العربية. أنشدني بعضهم :
لَشتَّان ما أنوِى وينوِى بنو أبى *** جَميعاً فما هذان مستويان
تَمنَّوا ليَ الموتَ الذي يَشْعَب الفتى *** وكلُّ فتىً والموتُ يلتقيانِ
وأنشدوني :
ركابُ حُسَيل أَشهرَ الصيف بُدْن *** وناقةُ عَمْرو ما يُحَلُّ لها رَحلُ
ويزعم حِسْلٌ أَنه فَرْع قومِهِ *** وما أَنت فرع يا حُسيل ولا أصْلُ
وقال الفرزدق :
أَما نحن راءو دارِها بعد هذه *** يدَ الدهر إلا أنَّ يمرّ بها سَفْرُ
وإذا قدّمت الفعل قبل الاسم رفعت الفعل واسمه فقلت : ما سامعٌ هذا وما قائم أخوك. وذلك أن الباء لم تستعمل ها هنا ولم تدخل ؛ أَلا ترى أنه قبيح أن تقول : ما بقائم أخوك ؛ لأنها إنما تقع في المنفي إذا سَبَق الاسم، فلما لم يمكن في ( ما ) ضمير الاسم قبح دخول الباء. وحسُن ذلك في ( ليس ) : أن تقول : ليس بقائم أخوك ؛ لأنَّ ( ليس ) فعل يقبل المضمر، كقولك : لست ولسنا ؛ ولم يمكن ذلك في ( ما ).
فإن قلت : فإني أراه لا يمكن في ( لا ) وقد أَدخلتِ العرب الباء في الفعل التي تليها فقالوا :
لا بالْحَصُور ولا فِيها بسوَّارِ ***...
قلت : إن ( لا ) أشبه بليس من ( ما )، ألا ترى أنك تقول : عبد الله لا قائم ولا قاعد، كما تقول : عبد الله ليس قاعداً ولا قائما، ولا يجوز عبد الله ما قائم ولا قاعد فافترقتا ها هنا.
ولو حملت الباء على ( ما ) إذا وليها الفعل تتوَهّم فيها ما توهّمت في ( لا )، لكان وجها، أنشدتني امرأة من غَنِىّ :
أَما واللهِ أن لو كنتَ حُرّاً *** وما بالْحُرّ أنتَ ولا العَتِيقِ
فأدخلتِ الباء فيما يلي ( ما ) فإن ألقيتَها رفعت ولم يَقْوَ النصب لقلّة هذا. قال : وحدّثنا الفرّاء قال : وحدّثني دِعامة بن رجاء التَّيْمىّ - وكان غرّا - عن أبى الْحُوَيرث الحنفي أنه قال :( ما هذا بِشِرًى )، أي : ما هذا بمشترىً.
ولم تكن منه مسألة، إنما قال :﴿ إِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ ﴾، فجعَله الله دعاء ؛ لأن فيه معنى الدعاء، فلذلك قال :﴿ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ ﴾، ومثله في الكلام أن تقول لعبدك : إلاّ تطِع تعاقَب، فيقول : إذاً أطيعك كأنك قلت له : أطع فأجابك.
حدّثنا الفراء قال : حدّثنا ابن الغَسيل الأنصارىّ، عن عِكرمة، قال : الْحِين حينان : حين لا يدرك، وهو قوله عزّ وجلّ :﴿ هَلْ أَتَى على الإنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ ﴾، ( قال الفرّاء : فهذا يقلّ ويكثر )، ليست له غاية. قال عكرمة : وحينٌ يدرَك، وهو قوله :﴿ تُؤْتِى أُكُلَها كُلَّ حِينٍ ﴾، يعنى : ستّة أشهر.
يقول : بسببه وألوانه. وقوله :﴿ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ﴾، العرب لا تجمع اسْمين قد كُنِى عنهما ليسَ بينهما شيء إلاَّ أن ينووُا التكرير وإفهام المكلَّم ؛ فإذا أرادوا ذلك، قالوا : أنت أنت فعلت، وهو هو أخذها. ولا يجوز أن نجعل الآخرة توكيداً للأولى، لأن لفظهما واحد. ولكنهم إذا وصلوا الأوّل بناصب أو خافض أو رافع أَدخلوا له اسمه، فكان توكيداً. أَما المنصوب، فقولك : ضربتك أنت، والمخفوض : مررت بك أَنت، والمرفوع : قمتَ أَنت. وإنما فعلوا ذلك لأن الأوّل قلّ واختلف لفظه، فأدخلوا اسمه المبتدأ. فإذا قالوا : أَنت فينا أنت رَاغب، ففرقوا بينهما بصفة قالوا ذلك، وكأنه في مذهبه بمنزلة قوله :﴿ كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ ﴾، كأنّ الأوّل مُلْغىً والاتّكاء والْخَبَر عن الثاني. وكذلك قوله : ﴿ أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إذَا مِتُّمْ ﴾، ثم قال :﴿ أَنَّكُمْ مخْرَجُون ﴾، وهما جميعاً في معنى واحد، إلا أن ذلك جاز حينَ فُرق بينهما بإذا. ومثله :﴿ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ﴾.
تهمِز وتُثبت فيها الياء. وأصْحابنا يروون عن الأعمش :﴿ مِلَّةَ آبَائي إبراهيمَ ﴾، و ﴿ دُعَائي إِلاَّ فِرَاراً ﴾، بنصب الياء ؛ لأنه يترك الهمز ويقصرُ الممدود، فيَصير بمنزلة : مَحْياي وهداي.
ذكروا أنه لما عَبَّر لهما الرؤيا، فقال للآخر : تصلب، رجعا عن الرُؤْيا، فقالا : لم نر شيئاً، فقال يوسف :﴿ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ ﴾.
يقول : أنسى الشيطان يوسفَ أن يجعل ذكره ومستغاثه إلى الله. ويقال : أنسى الشيطان الساقي أن يذكر أمر يوسف.
وقوله :﴿ ذِكْرَ رَبِّهِ ﴾، يقول : ذكر يوسف لمولاه.
وقوله :﴿ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ ﴾، ذكروا أنه لبث سبعاً بعد خمس، والبِضع : ما دون العشرة.
هو من كلام العرب : أن يقول الرجل : إني أخرج إلى مكّة وغير ذلك، فعُلم أَنه للنوم ولو أراد الخبر لقال : إني أفعل، إني أَقوم، فيُستدلّ على أنها رُؤيا لقوله : أَرى، وإن لم يذكر نوما. وقد بيَّنها إبراهيم عليه السلام، فقال :﴿ إنّي أَرَى في المَنام أَنِّى أَذْبَحُكَ ﴾.
رَفْع، لأنهم أرادوا : ليس هذه بشي، إنما في أضغاث أحلام. وهو كقوله :﴿ ماذَا أَنْزلَ رَبَّكُمْ قالوا أَسَا طِيرُ الأَوَّلِينَ ﴾، كفروا، فقالوا : لم يُنزل شيئاً، إنما هي أساطير الأولين. ولو كان ( أَضغاثَ أَحلاَمٍ )، أي : أنك رأيت أضغاث أحلام، كان صواباً.
الأمة : الحين من الدهر. وقد ذُكر عن بعضهم :( بَعْدَ أَمَهٍ )، وهو النسيان. يقال : رجل مأموه، كأنه الذي ليس معه عقله، وقد أمِهَ الرجُل.
لو كان الخضر منصوبة تُجعل نعتاً للسّبْع، حسن ذلك. وهي إذا خُفضت نعْت للسنبلات. وقال الله عَزَّ وَجَل :﴿ ألَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقاً ﴾، ولو كانت :( طباقٍ )، كان صوابا.
وقرأ بعض قرّائنا :( سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً ) : فَعَلاً، وكذلك كل حرف فُتح أوَّله وسُكّن ثانيه فتثقيله جائز إذا كان ثانيه همزة أو عينا أو غينا أو حاء أو خاء أو هاء.
يقول : ما قدَّمتم فيه لهنَّ من الزرع.
قال ذلك يوسف لما رجع إليه الساقي فأَخبره ببراءة النسوة إيّاه. فقال يوسف :﴿ ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ﴾، وهو متّصل بقول امرأته : ﴿ اْلآنَ حَصْحَصَ الحَقُّ أَنا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ذَلِكَ ﴾، وربّما وُصل الكلامُ بالكلام، حتى كأنه قولُ واحدٍ وهو كلام اثنين، فهذا من ذلك. وقوله :﴿ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَماذا تَأْمُرُونَ ﴾، اتّصل قول فرعون بقول الملأ، وكذلك قوله :﴿ إنَّ المُلُوكَ إذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها ﴾، إلى قوله :﴿ وكَذَلكَ يَفْعَلُونَ ﴾، انقطع كلامها عند قوله :﴿ أَذِلَّةً ﴾، ثم قال عزّ وجَلّ :﴿ وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ﴾، ويقال : إنه من قول سليمان عليه السَّلام.
( ما ) في موضع نصب. وهو استثناء منقطع مما قبله : ومثله ﴿ إلاَّ حاجَةً في نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاها ﴾ ومثله في سورة يس ﴿ فلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلاَ هُمْ يُنْقَذُونَ إِلاَّ رَحْمَةً مِنا ﴾ إنما هو - والله أعلم - إلا أن يُرحموا. و ( أن ) تضارع ( ما ) إذا كانتا في معنى مصدر.
في موضع جزم، والنون في موضع نصب حذفت ياؤها. ولو جَعلتها رفعاً فنصبت النون كان صواباًَ على معنى قوله ولستم تقربونَ بعد هذه كقوله ﴿ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ ﴾ و ﴿ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ ﴾.
و ( لِفِتْيَتِهِ ) قراءتان مستفيضتان.
وقوله :﴿ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُواْ ﴾ قيل فيها قولان : أحدهما أن يوسف خاف ألاَّ يكون عند أبيه دراهم، فجعل البضاعة في رحالهم ليرجعوا. وقيل إنهم إن عرفوا أنَّها بضاعتهم وقد اكتالوا ردُّوها على يوسف ولم يستحلّوا إمساكها.
قرأ أصْحاب عبد الله ( يَكْتَلْ ) وسائر الناس ( نَكْتَلْ ) كلاهما صواب : من قال ( نَكْتَلْ ) جعله معهم في الكيل، ومن قال ( يكْتَلْ ) يصيبه كيل لنفسه فجعل الفعل له خاصّة لأنهم يُزادونَ به كيلَ بعير.
و( حِفْظاً وهي في قراءة عبد الله ( والله خير الحافظين ) وهذا شاهد للوجهين جميعاً. وذلك أنك إذا أضفت أفضل إلى شيء فهو بعضه، وحذف المخفوض يجوز وأنت تنويه. فإن شئت جَعله خيرهم حفظاً فحذفْت الهاء والميم وهي تُنوى في المعنى وإن شئت جعلت ( حافظا ) تفسيراً لأفضل. وهو كقولك : لك أفضلهم رجلاً ثم تلغِى الهاء والميم فتقول لك أفضل رَجُلاً وخير رجُلاً. والعرب : تقول لك أفضلها كَبْشا، وإنما هو تفسير الأفضل.
حدَّثنا الفراء قال حدّثنا أبو ليلى السجستانىّ عن أبى حريز قاضى سِجِستان أن ابن مسعود قرأ ( فالله خير حافظا وقد أعلمتك أنها مكتوبة في مصحف عبد الله ( خَيْرُ الحافِظِينَ ) وكان هذا - يعنى أبا ليلى - معروفا بالخير. وَحدَّثنا بهذا الإسناد عن عبد الله أنه قرأ ﴿ فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوْقعِ النُّجُومِ ﴾ ﴿ وإنا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ ﴾ يقولون : مُؤْدُونَ في السلاح آدى يُؤدِى.
كقولك في الكلام ماذا تَبغي ؟ ثم قال ﴿ هذه بِضَاعَتُنا ﴾ كأنهم طيَّبوا بنفسه. وَ ( ما ) استفهام في موضع نصب. ويكون معناها جحداً كأنهم قالوا : لسنا نريد منك دراهم. والله أعلم بصواب ذلك.
يقول : إلاّ أن يأتيكم من الله ما يَعذركم.
يقول : لا تدخلوا مِصر من طريق واحد. كانوا صِبَاحا تأخذهم العين.
يقول : إنه لذو علم لتعليمنا إيَّاه ويقال : إنه لذو حفظ لما علمناه.
معناه : لا تستكن من الحزن والبُؤْس. يَقول : لا تحزن.
جواب وربّما أدخلت العرب في مثلها الواو وهي جَواب على حالها ؛ كقوله في أول السورة ﴿ فَلَما ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعْوا أَنْ يَجْعَلُوهُ في غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأوحينا إلَيْهِ ﴾ والمعنى - والله أعلم - : أوحينا إليه. وهي في قراءة عبد الله ( فَلَما جَهَّزهُمْ بِجَهازِهِمْ وَجَعَلَ السِّقَايَةَ ) ومثله في الكلام : لما أتاني وأثِبَ عليه كأنه قال : وثبت عليه. وربما أَدخلت العرب في جواب لَما لكن. فيقول الرجل : لَما شتَمني لكن أَثِبُ عَليه، فكأنه استأنف الكلام استئنافا، وتوهَّم أنّ ما قبله فيه جوابه. وقد جاء ( الشعر في كل ذلك ) قال امرؤ القَيْس :
فلما أَجَزْنا ساحة الحَىّ وانتحى | بنا بطنُ خَبْت ذي قِفافٍ عَقَنْقَلِ |
حتَّي إِذا قمِلت بطونُكم | ورأيتُم أبْناءكم شَبُّوا |
وقلبتم ظهر المِجَنِّ لنا | إنّ اللّئيم العاجزُ الْخَبُّ |
وقوله : الصُّواع ذكر. وهو الإناء الذي كان الملك يشرب فيه. والصاع يؤنَّث ويذكّر. فمن أنَّثه قال : ثلاث أصْوُع مثل ثلاث أَدْؤُر. ومن ذكّره قال : ثلاثة أصواع مثل أبواب. وقوله ﴿ وَأَنا بِهِ زَعِيمٌ ﴾ يقول : كفيل. وزعيم القوم سيّدهم.
العرب لا تقول تالرحمنِ ولا يجعلونَ مكانَ الواو تَاء إلاّ في الله عزّ وجلّ. وذلك أنها أكثر الأيمان مُجْرى في الكلام ؛ فتوهّموا أنّ الواو منها لكثرتها في الكلام، وأبدلوها تاء كما قالوا : التُّرَاث، وهو من ورث، وكما قال :﴿ رُسُلَنا تَتْرَى ﴾ وهي من المواترة، وكما قالوا : التُخَمة وهي مِن الوَخَامة، والتُّجاه وهي مِن واجهك. وقوله ﴿ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ ﴾ يقول القائل : وكيف علموا أنهم لم يأتوا للفساد ولا للسرقة ؟ فذُكر أنهم كانوا في طريقهم لا يُنزلون بأَحد ظلما، ولا ينزلون في بساتين الناس فيُفسدوها فذلك قوله ﴿ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَما كُنا سَارِقِينَ ﴾ يقول : لو كنا سارقين ما رددنا عليكم البضاعة التي وجدناها في رحالنا.
( من ) في معنى جزاء وموضعها رفع بالهاء التي عادت. وجواب الجزاء الفاء في قوله :( فَهُوَ جَزَاؤهُ ) ويكون قوله ( جزاؤه ) الثانية مرتفعة بالمعنى المحمَّل في الجزاء وجوابِه. ومثله في الكلام أن تقول : ماذا لي عندك ؟ فيقول : لك عندي إن بشّرتني فلك أَلف درهم، كأنه قال : لك عندي هذا. وإن شئت جَعلت ( مَن ) في مذهب ( الذي ) وتدخل الفاء في خبرِ ( مَن ) إِذا كانت على معنى ( الذي ) كما تقول : الذي يقوم فإنا نَقوم معه. وإِن شئتَ جعلت الجزاء مرفوعاً بمَنْ خاصّة وصلتِها، كأنك قلت : جزاؤه الموجودُ في رَحْله. كأنك قلت : ثوابه أن يُسْتَرقّ، ثم تستأنِف أيضاً فتقول : هو جزاؤه. وكانت سنَّتهم أَن يترقّوا مَن سَرق.
ذهب إلى تأنيث السَّرقة. وإن يكن الصُّوَاع في معنى الصَّاع فلعلّ هذا التأنيث من ذلك. وأن شئت جعلته لتأنيث السِّقاية.
وقوله ﴿ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء ﴾ ( مَنْ ) في موضع نصب، أي نرفع مَنْ نَشَاء درجاتٍ. يقول : نفضِّل من نشاء بالدرجات. ومن قال ( نَرْفَعُ دَرَجَاتِ مَنْ نشَاء ) فيكون ( منَ ) في موضع خفض.
وقوله ﴿ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ﴾ يقول : ليس مِن عالِم إِلاّ وفوقه أعلم منه.
أَسَرَّ الكلمة. ولو قال :( فأسرَّه ) ذهب إلى تذكير الكلام كان صَواباً ؛ كقوله ﴿ تِلْكَ مِنْ أَنْبَاء الغَيْبِ ﴾ و ﴿ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاء الغَيْبِ ﴾ ﴿ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ ﴾ : أضمرها في نفسه ولم يظهرها.
نَصْب لأنه مصدر، وكل مصدر تكلّمت العرب في معناه بفَعَل أو يفعل فالنصب فيه جائز. ومن ذلك الحمدَ لله لأنك قد تقول في موضعه يحمد الله. وكذلك أعوذ بالله تصلح في معنى معاذَ الله.
و [ نَجوَى ] قال الله عزّ جلّ ﴿ ما يَكُون مِن نَجْوَى ثَلاَثَةٍ ﴾ وقوله :﴿ قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُواْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَّوْثِقاً مِّنَ اللَّهِ وَمِن قَبْلُ ما فَرَّطتُمْ ﴾ ( ما ) التي مع ( فَرَّطْتُمْ ) في موضع رفع كأنه قال : ومن قبلِ هذا تفريطكم في يوسف.
فإن شئت جعلتها نصباً، أي ألم تعلموا هذا وتعلموا من قبلُ تفريطكم في يوسف. وإِن شئت جعلت ( ما ) صلة كأنه قال :﴿ ومن قبلُ فرَّطتم في يوسف ﴾.
ويقرأ ( سُرِّق ) ولا أشتهيها ؛ لأنها شاذّة. وكأنه ذهب إلى أنه لا يستحلّ أن يسرَّقَ ولم يَسرِق : وذُكر أن ميمون بن مِهْران لقي رجاء بن حَيْوَة بمكَّة، وكان رجاء يقول : لا يصلح الكذب في جد ولا هزل. وكان ميمون يقول : ربّ كَذْبة هي خير من صدق كثير. قال فقال ميمون لرجاء : من كان زميلَك ؟ قال : رجل من قيس. قال : فلو أنك إذ مررت بالبِشْر قالت لك تغلِب : أنت الغاية في الصدق فمن زميلك هذا ؟ فإن كان مِنْ قيس قتلناه، فقد علمتَ ما قتلتْ قيسٌ منا، أكنت تقول : مِن قيس أم من غير قيس ؟ قال : بل من غير قيس. قال : فهي كانت أفضل أم الصدق ؟ قال الفراء : قد جعل الله عزّ وجلّ للأنبياء من المكايد ما هو أكثر من هذا. والله أعلم بتأويل ذلك.
وقوله :﴿ وَما كُنا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ ﴾ يقول : لم نكن نحفظ غيب ابنك ولا ندري ما يصنع إذا غاب عنا. ويقال : لو علمنا أن هذا يكون لم نخرجه معنا.
الصبر الجميل مرفوع لأنه عَزَّى نفسَه وقال : ما هو إلا الصبر، ولو أمرهم بالصبر لكان النصب أسهل، كما قال الشاعر :
يَشْكو إِليَّ جملى طول السُّرى | صَبراً جميلاً فكلانا مُبْتَلَى |
معناه لا تزال تذكر يوسف و ( لا ) قد تضمر مع الأَيمان ؛ لأنها إذا كانت خبرا لا يضمر فيها ( لا ) لم تكن إلا بِلاَم ؛ ألا ترى أنك تقول : والله لآتينَّكَ، ولا يجوز أن تقول : والله آتيك إلاَّ أن تكون تريد ( لا ) فلما تبيَّن موضعُها وقد فارقت الخبر أُضمرت، قال امرؤ القيس :
فقلت يَمينَ الله أبرح قاعداً | ولو قطعوا رأسي لديكِ وأوصَالي |
فلا وأبى دَهْماء زالت عزيزةً | على قَوْمها ما فَتَّل الزَّنْدَ قادح |
ذكروا أنهم قدِموا مصر ببضاعة، فباعوها بدراهم لا تَنْفُق في الطعام إلاَّ بغير سعر الجياد، فسألوا يوسف أن يأخذها منهم ولا ينقصهم. فذلك قوله :﴿ فَأَوْفِ لَنا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا ﴾ بفضل ما بين السِّعرين.
أي يرجع بَصيراً.
يقول : تكذّبون وتُعَجِّزون وتضعِّفون.
قال : حدَّثنا الفراء ( عن ) شريك عن السُّدِّيّ في هذه الآية أخّرهم إلى السّحر ( قال أبو زكريا وزادنا حِبّاًن عن الكلبىَّ عن أبى صالح عن ابن عبّاس قال : أخّرهم إلى السحر ) ليلة الجمعة.
فآيات السَّموات الشمس والقمر والنجوم. وآيات الأرض الجبال والأنهار وأشباه ذلك.
يقول : إذا سألتهم مَن خلقكم ؟ قالوا : الله، أو من رزقكم ؟ قالوا : اللهُ، وهم يشركون به فيعبِدون الأصنام. فذلك قوله :﴿ وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ ﴾.
يقول : أنا ومن اتّبعني، فهو يدعو على بصيرة كما أَدعوا.
أُضِيفت الدار إلى الآخرة وهي الآخرة وقد تُضيف العرب الشيء إلى نفسه إذا اختلف لفظُه كقوله ﴿ إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ اليَقِينِ ﴾ والحقّ هو اليقين. ومثله أتيتك بارحة الأولى، وعام الأوَّل وليلة الأولى ويوم الخميس. وجميع الأيّام تضاف إلى أنفسها لاختلاف لفظها. وكذلك شهر ربيع. والعرب تقول في كلامها - أنشدني بعضهم - :
أَتمدح فَقْعَساً وتذمّ عَبْساً | أَلا للهِ أُمُّك من هَجِين |
ولو أقوت عَليك ديار عَبْس | عرفتَ الذُلَّ عِرفان اليقين |
خفيف. وقرأها أهل المدينة بالتثقيل، وقرأها ابن عباس بالتخفيف، وفسَّرها : حتى إذا استيأس الرُسُل من قومهم أن يؤمنوا، وظن قومُهم أَن الرسل قد كُذِبوا جاءهم نصرنا. وحُكِيَتْ عن عبد الله ( كُذِّبُوا ) مشدًّدة وقوله :﴿ فَنَجى مَنْ نَشَاء ﴾ القراءة بنونين والكِتَاب أَتى بنون واحدة. وقد قرأ عاصم ( فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء ) فجعلها نْونا، كأنه كره زيادة نون ف ( مَنْ ) حينئذ في موضع رفع. وأما الذين قرءوا بنونين فإن النون الثانية، تخفي ولا تخرج من موضع الأولى، فلما خفيت حذفت، ألا ترى أنك لا تقول فننجى بالبيان. فلما خفيت الثانية حذفت واكتفي بالنون الأولى منها، كما يكتفي بالحرف من الحرفين فيدغم ويكون كتابُهما واحداً.
منصوب، يراد به : ولكن كان تصديقَ ما بين يديه من الكتب : التوراة والإنجيل. ولو رفعت التصديق كان صواباً كما تقول : ما كان هذا قائما ولكن قاعداً وقاعد. وكذلك قوله :﴿ ما كانَ مُحمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُم وَلَكِنْ رَسُولَ اللهِ ﴾ و ﴿ رَسُولُ اللهِ ﴾ فمن رفع لم يضمر كان أراد : ولكن هو رسول الله.