تفسير سورة البقرة

الوجيز للواحدي
تفسير سورة سورة البقرة من كتاب الوجيز في تفسير الكتاب العزيز المعروف بـالوجيز للواحدي .
لمؤلفه الواحدي . المتوفي سنة 468 هـ

﴿الم﴾ أنا الله أعلم
﴿ذلك الكتاب﴾ أَيْ: هذا الكتاب يعني: القرآن ﴿لا ريب فيه﴾ أي: لاشك فيه أَيْ: إنَّه صدقٌ وحقٌّ وقيل لفظه لفظ خبرٍ ويُراد به النهي عن الارتياب قال: ﴿فلا رفث ولا فسوق﴾ ولا ريب فيه أنَّه ﴿هدىً﴾ : بيانٌ ودلالةٌ ﴿للمتقين﴾ : للمؤمنين الذين يتَّقون الشِّرْك في تخصيصه كتابه بالهدى للمتقين دلالةٌ على أنَّه ليس بهدىً لغيرهم وقد قال: ﴿والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر﴾
﴿الذين يؤمنون:﴾ يُصدِّقون ﴿بالغيب﴾ : بما غاب عنهم من الجنَّة والنَّار والبعث ﴿ويقيمون الصَّلاة﴾ : يُديمونها ويحافظون عليها ﴿وممَّا رزقناهم﴾ : أعطيناهم ممّا ينتفعون به ﴿ينفقون﴾ : يُخرجونه في طاعة الله تعالى
﴿والذين يؤمنون بما أُنزل إليك﴾ نزلت في (مؤمني) أهل الكتاب يؤمنون بالقرآن ﴿وما أنزل من قبلك﴾ يعني: التَّوراة ﴿وبالآخرة﴾ يعني: وبالدَّار الآخرة ﴿هم يوقنون﴾ : يعلمونها علماً باستدلالٍ
﴿أولئك﴾ يعني: الموصوفين بهذه الصِّفات ﴿على هدىً﴾ : بيانٍ وبصيرةٍ ﴿من ربِّهم﴾ أَيْ: من عند ربِّهم ﴿وأولئك هم المفلحون﴾ : الباقون في النَّعيم المقيم
﴿إنَّ الذين كفروا﴾ : ستروا ما أنعم الله عزَّ وجل به عليهم من الهدى والآيات فجحدوها وتركوا توحيد الله تعالى ﴿سواء عليهم﴾ : معتدلٌ ومتساوٍ عندهم ﴿أأنذرتهم﴾ : أعلمتهم وخوَّفتهم ﴿أم لم تنذرهم﴾ أم تركت ذلك ﴿لا يؤمنون﴾ نزلت فِي أبي جهلٍ وخمسةٍ من أهل بيته ثمَّ ذكر سبب تركهم الإيمان
﴿ختم الله على قلوبهم﴾ أَيْ: طبع الله على قلوبهم واستوثق منها حتى لا يدخلها الإيمان ﴿وعلى سمعهم﴾ : أَيْ: مسامعهم حتى لا ينتفعوا بما يسمعون ﴿وعلى أبصارهم﴾ : على أعينهم ﴿غشاوة﴾ غطاءٌ فلا يبصرون الحقَّ ﴿ولهم عذابٌ عظيمٌ﴾ مُتواصل لا تتخلَّله فُرجةٌ
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخر﴾ نزلت فِي المنافقين حين أظهروا كلمة الإيمان وأسرُّوا الكفر فنفى الله سبحانه عنهم الإِيمان بقوله: ﴿وما هم بمؤمنين﴾ فدلَّ أنَّ حقيقة الإيمان ليس الإِقرار فقط
﴿يخادعون الله والذين آمنوا﴾ أَيْ: يعملون عمل المخادع بإظهار غير ما هم عليه ليدفعوا عنهم أحكام الكفر ﴿وما يخدعون إلاَّ أنفسهم﴾ لأنَّ وبال خداعهم عاد عليهم بإطلاع الله تعالى نبيَّه عليه السَّلام والمؤمنين على أسرارهم وافتضاحهم ﴿وما يشعرون﴾ : وما يعلمون ذلك
﴿في قلوبهم مرض﴾ شك ونفاقٌ ﴿فزادهم الله مرضاً﴾ أَيْ: بما أنزل من القرآن فشكُّوا فِيهِ كما شكُّوا في الذي قبله ﴿ولهم عذابٌ أليم﴾ : مؤلمٌ ﴿بما كانوا يكذبون﴾ بتكذيبهم آيات الله عز وجل ونبيه ﷺ (ومَنْ قرأ يُكذِّبون فمعناه: بكذبهم في ادّعائهم الإيمان)
﴿وإذا قيل لهم﴾ (لهؤلاء) المنافقين: ﴿لا تفسدوا فِي الأرض﴾ بالكفر وتعويق النَّاس عن الإيمان ﴿قالوا إنما نحن مصلحون﴾ أَي: الذين نحن عليه هو صلاحٌ عند أنفسنا فردَّ الله تعالى عليهم ذلك فقال
﴿أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ﴾ : لا يعلمون أنَّهم مُفسدون
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ﴾ هم أصحاب محمد ﷺ ﴿قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء﴾ أَيْ: لا نفعل كما فعلوا وهذا القول كانوا يقولونه فيما بينهم فأخبر الله تعالى به عنهم
﴿وإذا لقوا الذين آمنوا﴾ إذا اجتمعوا مع المؤمنين ورأوهم ﴿قالوا آمنَّا﴾ ﴿وإذا خلوا﴾ من المؤمنين وانصرفوا ﴿إلى شياطينهم﴾ : كبرائِهم وقادتهم ﴿قالوا إنَّا معكم﴾ (أَيْ: على دينكم) ﴿إنَّما نحن مستهزئون﴾ : مُظهرون غير ما نضمره
﴿الله يستهزئ بهم﴾ : يجازيهم جزاء استهزائهم ﴿ويمدُّهم﴾ : يُمهلهم ويطوِّل أعمارهم ﴿في طغيانهم﴾ : في إسرافهم ومجاوزتهم القدر في الكفر ﴿يعمهون﴾ يتردَّدون مُتحيِّرين
﴿أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى﴾ : أخذوا الضَّلالة وتركوا الهدى ﴿فما ربحت تجارتُهم﴾ فما ربحوا في تجارتهم (وإضافة الرِّبح إلى التجارة على طريق الاتساع كإضافة الإيضاء إلى النار) ﴿وما كانوا مهتدين﴾ فيما فعلوا
﴿مثلُهم كمثل الذي استوقد ناراً﴾ أَيْ: حالهم في نفاقهم وإبطانهم الكفر كحالِ مَنْ أَوقد ناراً فاستضاء بها وأضاءت النَّار ما حوله ممَّا يخاف ويحذر وأمن فبينما هو كذلك إذ طُفئت ناره فبقي مُظلماً خائفاً مُتحيِّراً فذلك قوله تعالى: ﴿ذهب الله بنورهم﴾ الآية كذلك المنافقون لمَّا أظهروا كلمة الإيمان اغترُّوا بها وأَمِنُوا فلمَّا ماتوا عادوا إلى الخوف والعذاب
﴿صمٌّ﴾ لتركهم قبول ما يسمعون ﴿بُكْمٌ﴾ لتركهم القول بالخير ﴿عُمْيٌ﴾ لتركهم ما يُبصرون من الهداية ﴿فهم لا يرجعون﴾ عن الجهل والعمى إلى الإسلام ثمَّ ذكر تمثيلاً آخر فقال
﴿أو كصيِّبٍ﴾ أو كأصحاب مطرٍ شديدٍ ﴿من السَّماء﴾ : من السَّحاب ﴿فيه﴾ : في ذلك السَّحاب ﴿ظلماتٌ ورعدٌ﴾ وهو صوت مَلَكٍ مُوكَّلٍ بالسَّحاب ﴿وبرق﴾ وهي النَّار التي تخرج منه ﴿يجعلون أصابعهم في آذانهم﴾ يعني: أهل هذا المطر ﴿من الصواعق﴾ من شدَّة صوت الرَّعد يسدُّون آذانهم بأصابعهم كيلا يموتوا بشدَّة ما يسمعون من الصَّوت فالمطر مَثَلٌ للقرآن لما فيه من حياة القلوب والظُّلماتُ مثل لما في القرآن من ذكر الكفر والشرك وبيان الفتن والأهوال والرعد مَثَلٌ لما خُوِّفوا به من الوعيد وذكر النَّار والبرقُ مثلٌ لحجج القرآن وما فيه من البيان وجعل الأصابع في الآذان حذر الموت مثَلٌ لجعل المنافقين أصابعهم في آذانهم كيلا يسمعوا القرآن مخافةَ ميل القلب إلى القرآن فيؤدِّي ذلك إلى الإيمان بمحمد ﷺ وذلك عندهم كفرٌ والكفر موتٌ ﴿واللَّهُ محيطٌ بالكافرين﴾ مُهلكهم وجامعهم في النَّار
﴿يكاد البرقُ يخطف أبصارهم﴾ هذا تمثيلٌ آخر يقول: يكاد ما في القرآن من الحجج يخطف قلوبهم من شدَّة إزعاجها إلى النَّظر في أمر دينهم ﴿كلما أضاءَ لهم مشوا فيه﴾ : كُلَّما سمعوا شيئاً ممَّا يُحبّون صدَّقوا وإذا سمعوا ما يكرهون وقفوا وذلك قوله عز وجل: ﴿وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لذهب بسمعهم وأبصارهم﴾ أَيْ: بأسماعهم الظَّاهرة وأبصارهم الظَّاهرة كما ذهب بأسماعهم وأبصارهم الباطنة حتى صاروا صُمَّاً عُمياً فليحذروا عاجل عقوبة الله سبحانه وآجلها ف ﴿إنَّ الله على كل شيء قديرٌ﴾ من ذلك
﴿يا أيها الناس﴾ يعني: أهل مكَّة ﴿اعبدوا ربَّكم﴾ : اخضعوا له بالطَّاعة ﴿الذي خلقكم﴾ : ابتدأكم ولم تكونوا شيئاً ﴿والذين من قبلكم﴾ (آبائكم) (وخاق الذين من قبلكم) أي: إنَّ عبادة الخالق أولى من عبادة المخلوق وهو الصَّنم ﴿لعلَّكم تتقون﴾ لكي تتقوا بعبادته عقوبته أن تحلَّ بكم
﴿الذي جعل لكم الأرض فراشاً﴾ بساطاً لم يجعلها حَزْنةً غليظةً لا يمكن الاستقرار عليها ﴿والسماء بناءً﴾ سقفاً ﴿وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمرات﴾ يعني: حمل الأشجار وجميع ما ينتفع به ممَّا يخرج من الأرض ﴿فلا تجعلوا لله أنداداً﴾ : أمثالاً من الأصنام التي تعبدونها ﴿وأنتم تعلمون﴾ أنَّهم لا يخلقون والله هو الخالق وهذا احتجاجٌ عليهم في إثبات التَّوحيد ثمَّ احتجَّ عليهم فِي إثبات نبوَّة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم بما قطع عذرهم به فقال:
﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا﴾ أي: وإن كنتم فِي شك من صدق هذا الكتاب الذي أنزلناه على محمد ﷺ وقلتم: لا ندري هل هو من عند الله أم لا ﴿فأتوا بسورة﴾ من مثل هذا القرآن فِي الإِعجاز وحسن النَّظم والإِخبار عمَّا كان وما يكون ﴿وادعوا شهداءكم﴾ واستعينوا بآلهتكم التي تدعونها ﴿من دون الله إن كنتم صادقين﴾ أنَّ محمداً تقوَّله من نفسه
﴿فإنْ لم تفعلوا﴾ هذا فيما مضى ﴿ولن تفعلوا﴾ هُ أيضاً فيما يُستقبل أبداً ﴿فاتقوا﴾ : فاحذروا أن تصلوا ﴿النَّار التي وقودها﴾ ما يُوقد به ﴿الناسُ والحجارة﴾ يعني حجارة الكبريت وهي أشدُّ لاتِّقادها ﴿أعدَّت﴾ (خُلقت وهُيِّئت) جزاءً ﴿للكافرين﴾ بتكذيبهم ثمَّ ذكر جزاء المؤمنين فقال:
﴿وبشر الذين آمنوا﴾ أي: أخبرهم خبراً يظهر به أثر السُّرور على بشرتهم ﴿وعملوا الصالحات﴾ أَي: الأعمال الصَّالحات يعني الطَّاعات فيما بينهم وبين ربِّهم ﴿أنَّ لهم﴾ : بأنَّ لهم ﴿جناتٍ﴾ : حدائق ذات الشِّجر ﴿تجري من تحتها﴾ من تحت أشجارها ومساكنها ﴿الأنهار﴾ ﴿كلما رزقوا﴾ : أُطعموا من تلك الجنَّات ثمرةً ﴿قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ﴾ لتشابه ما يُؤتون به وأرادوا: هذا من نوع ما رُزقنا من قبل ﴿وأتوا به متشابهاً﴾ في اللَّون والصُّورة مختلفاً في الطَّعم وذلك أبلغ في باب الإِعجاب ﴿ولهم فيها أزواجٌ﴾ : من الحور العين والآدميات ﴿مطهرةٌ﴾ عن كلِّ أذىً وقذرٍ ممَّا في نساء الدُّنيا ومن مساوئ الأخلاق وآفات الشَّيب والهرم ﴿وهم فِيها خالدون﴾ لأنَّ تمام النِّعمة بالخلود
﴿إنَّ الله لا يَسْتَحْيِ﴾ الآية لمَّا ضرب الله سبحانه المَثل للمشركين بالذُّباب والعنكبوت في كتابه ضحكت اليهود وقالوا: ما يشبه هذا كلام الله سبحانه فأنزل الله تعالى: ﴿إنَّ الله لا يَسْتَحْيِ﴾ لا يترك ولا يخشى ﴿أن يضرب مثلاً﴾ أَنْ يُبيِّنَ شبهاً ﴿ما بعوضةً﴾ ما زائدة مؤكِّدة والبعوض: صغار البق الواحدة: بعوضة ﴿فما فوقها﴾ يعني: فما هو أكبر منها والمعنى: إنَّ الله تعالى لا يترك ضرب المثل ببعوضةٍ فما فوقها إذا علم أنَّ فِيهِ عبرةُ لمن اعتبر وحجَّةً على مَنْ جحد (واستكبر) ﴿فأمَّا الذين آمنوا فيعلمون﴾ أنَّ المثل وقع في حقِّه ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بهذا مثلاً﴾ أَيْ: أَيُّ شيء أرادالله بهذا من الأمثال؟ والمعنى ئئئئانهم يقولون: أَيُّ فائدةٍ في ضرب الله المثل بهذا؟ فأجابهم الله سبحانه فقال ﴿يضلُّ به كثيراًً﴾ أَيْ: أراد الله بهذا المثل أن يضلَّ به كثيراً من الكافرين وذلك أنَّهم يُنكرونه ويُكذِّبونه ﴿ويهدي به كثيراً﴾ من المؤمنين لأنَّهم يعرفونه ويصدِّقونه ﴿وما يضلُّ به إلاَّ الفاسقين﴾ الكافرين الخارجين عن طاعته
﴿الذين ينقضون﴾ يهدمون ويفسدون ﴿عهدَ الله﴾ : وصيته وأمره في الكتب المتقدِّمة بالإِيمان بمحمد ﷺ ﴿من بعد ميثاقه﴾ من بعد توكيده عليهم بإيجابه ذلك ﴿وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ﴾ يعني: الرَّحم وذلك أنَّ قريشاً قطعوا رحم النَّبيِّ صلي الله عليه وسلم بالمعاداة معه ﴿ويفسدون فِي الأرض﴾ بالمعاصي وتعويق النَّاس عن الإيمان بمحمد ﷺ ﴿أولئك هم الخاسرون﴾ (مغبونون) بفوت المثوبة والمصيرِ إلى العقوبة
﴿كيف تكفرون بالله﴾ معنى كيف ها هنا استفهامٌ في معنى التَّعجُّب للخلقِ أَي: اعجبوا من هؤلاء كيف يكفرون بالله وحالُهم أنَّهم كانوا تراباً فأحياهم بأَنْ خلق فيهم الحياة فالخطاب للكفَّار والتَّعجب للمؤمنين وقوله تعالى: ﴿ثم يميتكم﴾ أَيْ: في الدُّنيا ﴿ثمَّ يُحييكم﴾ في الآخرة للبعث ﴿ثمَّ إليه ترجعون﴾ تردُّون فيفعل بكم ما يشاء فاستعظم المشركون أمر البعث والإعادة فاحتجَّ الله سبحانه عليهم بخلق السماوات والأرض فقال:
﴿هو الذي خلق لكم﴾ لأجلكم ﴿ما في الأرض جميعاً﴾ بعضها للانتفاع وبعضها للاعتبار ﴿ثمَّ استوى إلى السَّماء﴾ : أقبل على خلقها وقصد إليها ﴿فسوَّاهنَّ سبع سماوات﴾ فجعلهن سبع سماوات مُستوياتٍ لا شقوق فيها ولا فطور ولا تفاوت ﴿وهو بكلِّ شيءٍ عليم﴾ إذ بالعلم يصحُّ الفعل المحكم
﴿وإذ قال ربك﴾ واذكر لهم يا محمَّدُ إذ قَالَ رَبُّكَ ﴿لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خليفة﴾ يعني: آدم جعله خليفةً عن الملائكة الذين كانوا سكَّان الأرض بعد الجنِّ والمراد بذكر هذه القصَّة ذكرُ بدءِ خلق النَّاس ﴿قالوا أتجعل فِيها مَنْ يفسد فِيها﴾ كما فعل بنو الجانِّ قاسوا (الشَّاهد) على الغائب ﴿ونحن نسبح بحمدك﴾ نُبرِّئُك من كلِّ سوءٍ ونقول: سبحان الله وبحمده ﴿ونقدِّسُ لك﴾ ونُنزِّهك عمَّا لا يليق بك ﴿قال إني أعلم ما لا تعلمون﴾ من إضمار إبليس العزم على المعصية فلمَّا قال الله تعالى هذا للملائكة قالوا فيما بينهم: لن يخلق ربُّنا خلقاً هو أعلمُ منَّا ففضَّل الله تعالى عليهم آدم بالعلم وعلَّمه اسم كلِّ شيء حتى القصعة (والقصيعة) والمِغْرفة وذلك قوله تعالى:
﴿وعلَّم آدم الأسماءَ كلَّها﴾ أَيْ: خلق فِي قلبه علماً بالأسماء على سبيل الابتداء ﴿ثمَّ عرَضهم﴾ أَيْ: عرض المسمَّيات بالأسماء من الحيوان والجماد وغير ذلك ﴿على الملائكة فقال أنبئوني﴾ أخبروني ﴿بأسماء هؤلاء﴾ وهذا أمرُ تعجيزٍ أراد الله تعالى أن يُبيِّن عجزهم عن علم مايرون ويُعاينون ﴿إن كنتم صادقين﴾ أنِّي لا أخلق خلقاً أعلمَ منكم فقالت الملائكة إقراراً بالعجز واعتذاراً:
﴿سبحانك﴾ تنزيهاً لك عن الاعتراض عليك فِي حكمك ﴿لا علم لنا إلاَّ ما علمتنا﴾ اعترفوا العجز عن علم ما لم يُعلَّموه ﴿إنَّك أنت العليم﴾ العالم ﴿الحكيم﴾ الحاكم تحكم بالحق وتقضي به فلمَّا ظهر عجز الملائكة قال الله تعالى لآدم:
﴿يا آدم أنبئهم بأسمائهم﴾ أخبرهم بتسمياتهم فسمَّى كلَّ شيءٍ باسمه وألحق كلَّ شيءٍ بجنسه ﴿فلما أنبأهم بأسمائهم﴾ : أخبرهم بمسمَّياتهم ﴿قال﴾ الله تعالى للملائكة: ﴿ألم أقل لكم﴾ وهذا استفهامٌ يتضمَّن التَّوبيخ لهم على قولهم: ﴿أتجعل فيها مَنْ يفسد فيها﴾ ﴿إني أعلم غيب السماوات والأرض﴾ أَيْ: ما غاب فيهما عنكم ﴿وأعلم ما تبدون﴾ : علانيتكم ﴿وما كنتم تكتمون﴾ : سرَّكم لا يخفى عليَّ شيءٌ من أموركم
﴿وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم﴾ سجود تعظيمٍ وتسليمٍ وتحيَّةٍ وكان ذلك انحناءاً يدلُّ على التَّواضع ولم يكن وضعَ الوجه على الأرض ﴿فسجدوا إلاَّ إبليس أبى﴾ امتنع ﴿واستكبر وكان من الكافرين﴾ في سابق علم الله عز وجل
﴿وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ﴾ اتَّخذاها مأوىً ومنزلاً ﴿وكلا منها رغداً﴾ واسعاً ﴿حيث شئتما﴾ ما شئتما إذا شئتما (كيف شئتما) ﴿ولا تقربا هذه الشجرة﴾ لاتحوما حولها بالأكل منها يعني السُّنبلة ﴿فتكونا﴾ فتصيرا ﴿من الظالمين﴾ : العاصين الذين وضعوا أمر الله عز وجل غير موضعه
﴿فأزلهما الشيطان﴾ نحاهما وعدهما ﴿عنها فأخرجهما ممَّا كانا فيه﴾ من الرتبة وليس العيش ﴿وقلنا﴾ لآدم وحواء وإبليس والحيَّة: ﴿اهبطوا﴾ أي: انزلوا إلى الأرض ﴿بعضكم لبعض عدو﴾ يعني: العداوة التي بين آدم وحواء والحيَّة وبين ذرية آدم عليه السَّلام من المؤمنين وبين إبليس لعنه الله ﴿ولكم في الأرض مستقر﴾ موضع قرارٍ ﴿ومتاع إلى حين﴾ ما تتمتَّعون به ممَّا تُنبته الأرض إلى حين االموت
﴿فتلقى آدم من ربه﴾ أخذ وتلقَّن ﴿كلماتٍ﴾ وهو أنَّ الله تعالى ألهم آدم عليه السَّلام حين اعترف بذنبه وقال: ﴿ربنا ظلمنا أنفسنا﴾ الآية ﴿فتاب عليه﴾ فعاد عليه بالمغفرة حين اعترف بالذَّنب واعتذر ﴿إنَّه هو التواب﴾ يتوب على عبده بفضله إذا تاب إليه من ذنبه
﴿قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا﴾ كرَّر الأمر بالهبوط للتَّأكيد ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى﴾ أَيْ: فإنْ يأتكم مني شريعةٌ ورسولٌ وبيانٌ ودعوةٌ ﴿فَمَنْ تبع هداي﴾ أَيْ: قَبِل أمري واتَّبع ما آمره به ﴿فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾ فِي الآخرة وَلا حزن والخطاب لآدم وحوَّاء وذرِّيتهما أعلمهم الله تعالى أنَّه يبتليهم بالطَّاعة ويجازيهم بالجنَّة عليها ويعاقبهم بالنَّار على تركها وهو قوله تعالى:
﴿والذين كفروا وكذبوا بآياتنا﴾ أَيْ: بأدلتنا وكتبنا ﴿أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون﴾
﴿يا بني إسرائيل﴾ أولاد يعقوب عليه السَّلام ﴿اذكروا﴾ اشكروا وذكر النِّعمة هو شكرها ﴿نعمتي﴾ يعني: نعمي ﴿التي أنعمت عليكم﴾ يعني: فلق البحر والإِنجاء من فرعون وتظليل الغمام إلى سائر ما أنعم الله تعالى به عليهم والمراد بقوله تعالى: ﴿عليكم﴾ أَيْ: على آبائكم والنِّعمة على آبائهم نعمةٌ عليهم وشكر هذه النِّعم طاعتُه في الإيمان بمحمد ﷺ ثمَّ صرَّح بذلك فقال ﴿وأوفوا بعهدي﴾ أَيْ: في محمد ﷺ ﴿أُوف بعهدكم﴾ أدخلكم الجنَّة ﴿وإيَّاي فارهبون﴾ فخافوني في نقض العهد
﴿وآمنوا بما أنزلت﴾ يعني: القرآن ﴿مصدقاً لما معكم﴾ موافقاً للتَّوراة فِي التَّوحيد والنُّبوَّة ﴿وَلا تكونوا أوَّل كافر به﴾ أَيْ: أوَّل مَنْ يكفر به من أهل الكتاب لأنَّكم إذا كفرتم كفر أتباعكم فتكونوا أئمةً في الضَّلالة والخطابُ لعلماء اليهود ﴿ولا تشتروا﴾ ولا تستبدلوا ﴿بآياتي﴾ ببيان صفة محمد ﷺ ونعته ﴿ثمناً قليلاً﴾ عوضاً يسيراً من الدُّنيا يعني: ما كانوا يصيبونه من سفلتهم فخافوا إنْ هم بينوا صفة محمد صَلَّى الله عليه وسلم أَنْ تفوتهم تلك المآكل والرِّياسة ﴿وإيايَّ فاتقون﴾ فاخشوني في أمر محمد ﷺ لا ما يفوتكم من الرِّياسة
﴿ولا تلبسوا الحق بالباطل﴾ أَيْ: لا تخلطوا الحقَّ الذي أنزلتُ عليكم من صفة محمد عليه السلام بالباطل الذي تكتبونه بأيديكم من تغيير صفته وتبديل نعته ﴿وتكتموا الحق﴾ أَيْ: ولا تكتموا الحقَّ فهو جزمٌ عُطِفَ على النَّهي ﴿وأنتم تعلمون﴾ أنَّه نبيٌّ مرسلٌ قد أُنزل عليكم في كتابكم فجحدتم نبوَّته مع العلم به
﴿وأقيموا الصلاة﴾ المفروضة ﴿وآتوا الزكاة﴾ الواجبة في المال ﴿واركعوا مع الراكعين﴾ وصلُّوا مع المصلين محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وأصحابه في جماعةٍ
﴿أتأمرون الناس بالبرِّ﴾ كانت اليهود تقول لأقربائهم من المسلمين: اثبتوا على ما أنتم عليه ولا يؤمنون به فأنزل الله تعالى توبيخاً لهم: ﴿أتأمرون الناس بالبر﴾ بالإيمان بمحمد ﷺ ﴿وتنسون﴾ وتتركون ﴿أنفسكم﴾ فلا تأمرونها بذلك ﴿وأنتم تتلون الكتاب﴾ تقرؤون التَّوراة وفيها صفة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم ونعته ﴿أفلا تعقلون﴾ أنَّه حقٌّ فتتَّبعونه؟ ! ثمَّ أمرهم الله تعالى بالصَّوم والصَّلاة لأنَّهم إنَّما كان يمنعهم عن الإسلام الشَّره وخوف ذَهاب مأكلتهم وحب الرِّياسة فأُمروا بالصَّوم الذي يُذهب الشَّرَه وبالصًَّلاة التي تُورث الخشوع وتَنفي الكبر وأُريدَ بالصَّلاةِ الصَّلاةُ التي معها الإيمان بمحمد ﷺ فقال
﴿واستعينوا بالصبر﴾ يعني بالصَّوم ﴿والصلاة﴾ لأنَّها تنهى عن الفحشاء والمنكر ﴿وإنها لكبيرةٌ﴾ لثقيلةٌ (يعني: وإنَّ الإستعانةَ بالصبر والصلاة لثقيلةٌ) ﴿إلاَّ على الخاشعين﴾ السَّاكنين إلى الطَّاعة وقال بعضهم: رجع بهذا القول إلى خطاب المسلمين فأمرهم أَنْ يستعينوا على ما يطلبونه من رضاءِ الله تعالى ونيل جنَّتِهِ بالصَّبر على أداء فرائضه (وهو الصَّوم) والصَّلاة
﴿الذين يظنون﴾ يستيقنون ﴿أنهم ملاقوا ربِّهم﴾ أنَّهم مبعوثون وأنَّهم محاسبون وأنَّهم راجعون إلى الله تعالى أَيْ: يُصدِّقون بالبعث والحساب
﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عليكم﴾ مضى تفسيره ﴿وأني فضلتكم﴾ أعطيتكم الزِّيادة ﴿على العالمين﴾ : على عالمي زمانكم وهو ما ذكره فِي قوله تعالى: ﴿إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ﴾ والمراد بهذا التَّفضيل سلفهم ولكن تفضيل الآباء شرف الأبناء
﴿واتقوا يوماً﴾ واحذروا واجتنبوا عقاب يومٍ ﴿لا تجزي﴾ لا تقضي ولا تُغني ﴿نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شفاعة﴾ أَيْ: لا يكون شفاعةٌ فيكون لها قبول وذلك أنَّ اليهود كانوا يقولون: يشفع لنا آباؤنا الأنبياء فآيسهم الله تعالى عن ذلك ﴿ولا يؤخذ منها عدل﴾ فِداءٌ ﴿ولا هم ينصرون﴾ يُمنعون من عذاب الله تعالى
﴿وإذ نجيناكم﴾ واذكروا ذلك ﴿من آل فرعون﴾ أتباعه ومَنْ كان على دينه ﴿يسومونكم﴾ : يُكلِّفونكم ﴿سوء العذاب﴾ شديد العذاب وهو قوله تعالى: ﴿يذبحون﴾ : ويقتلون ﴿أبناءكم ويستحيون نساءكم﴾ يستبقوهن أحياءً (لقول بعض الكهنة له: إنَّ مولوداً يُولد في بني إسرائيل يكون سببا له ذهاب ملكه) ﴿وفي ذلكم﴾ الذي كانوا يفعلونه بكم ﴿بلاءٌ﴾ : ابتلاءٌ واختبارٌ وامتحانٌ ﴿من ربكم عظيم﴾ وقيل: وفي تنجيتكم من هذه المحن نعمةٌ عظيمة والبلاء: النِّعمة والبلاء: الشِّدَّة
﴿وإذ فرقنا بكم البحر﴾ فجعلناه اثنى عسر طريقاً حتى خاض فيه بنو إسرائيل ﴿فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون﴾ إلى انطباق البحر عليهم وإنجائكم منهم
﴿وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة﴾ أَي: انقضاءَها وتمامَها للتَّكلُّم معه ﴿ثمَّ اتخذتم العجل﴾ معبودا وإلاها ﴿من بعده﴾ من بعد خروجه عنكم للميقات ﴿وأنتم ظالمون﴾ واضعون العبادةَ في غير موضعها وهذا تنبيه على أنَّ كفرهم بمحمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم ليس بأعجب من كفرهم وعبادتهم العجل في زمن موسى عليه السَّلام
﴿ثمَّ عفونا﴾ محونا ذنوبكم ﴿عنكم من بعد ذلك﴾ من بعد عبادة العجل ﴿لعلكم تشكرون﴾ لكي تشكروا نعمتي بالعفو
﴿وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان﴾ (عطف تفسيري) يعني: التَّوراة الفارق بين (الحق والباطل) والحلال والحرام ﴿لعلكم تهتدون﴾ لكي تهتدوا بذلك الكتاب (من الضلال)
﴿وإذ قال موسى لقومه﴾ الذين عبدوا العجل ﴿يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ﴾ إلاها ﴿فتوبوا إلى بارئكم﴾ يعني: خالقكم قالوا: كيف نتوب؟ قال ﴿فاقتلوا أنفسكم﴾ أَيْ: ليقتلِ البريءُ منكم المجرمَ ﴿ذلكم﴾ أَي: التَّوبة ﴿خيرٌ لكم عند بارئكم﴾ من إقامتكم على عبادة العجل ثم فعلتم ما أُمرتم به ﴿فتاب عليكم﴾ قبل توبتكم ﴿إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾
﴿وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ﴾ يعني: الذين اختارهم موسى عليه السَّلام ليعتذروا إلى الله سبحانه من عبادة العجل فلمَّا سمعوا كلام الله تعالى وفرغ موسى من مناجاة الله عز وجل قالوا له: ﴿لن نؤمن لك﴾ لن نصدِّقك ﴿حتى نرى الله جهرةً﴾ أَيْ: عِياناً لا يستره عنا شيءٌ ﴿فأخذتكم الصاعقة﴾ وهي نارٌ جاءت من السَّماء فأحرقتهم جميعاً ﴿وأنتم تنظرون﴾ إليها حين نزلت وإنَّما أخذتهم الصَّاعقة لأنَّهم امتنعوا من الإِيمان بموسى عليه السَّلام بعد ظهور معجزته حتى يُريهم ربَّهم جهرةً والإيمانُ بالأنبياء واجبٌ بعد ظهور معجزتهم ولا يجوز اقتراح المعجزات عليه فلهذا عاقبهم الله تعالى وهذه الآية توبيخٌ لهم على مخالفة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم مع قيام معجزته كما خالف أسلافهم موسى مع ما أتى به من الآيات الباهرة
﴿ثم بعثناكم﴾ نشرناكم وأَعدْناكم أَحياءً ﴿من بعد موتكم لعلكم تشكرون﴾ نعمة البعث
﴿وظللنا عليكم الغمام﴾ سترناكم عن الشَّمس في التِّيه بالسَّحاب الرَّقيق ﴿وأنزلنا عليكم المنَّ﴾ الطُّرَنْجبين كان يقع على أشجارهم بالأسحار ﴿والسَّلوى﴾ وهي طير أمثال السُّمانى وقلنا لهم: ﴿كلوا من طيبات﴾ من حلالات ﴿ما رزقناكم وما ظلمونا﴾ بإبائهم على موسى عليه السَّلام دخول قرية الجبَّارين ولكنَّهم ظلموا أنفسهم حين تركوا أمرنا فحبسناهم في التِّيه فلمَّا انقضت مدَّة حبسهم وخرجوا من التِّيه قال الله تعالى لهم:
﴿ادخلوا هذه القرية﴾ وهي أريحا ﴿وادخلوا الباب﴾ يعني: باباً من أبوابها ﴿سجداً﴾ منحنين متواضعين ﴿وقولوا حطة﴾ وذلك أنَّهم أصابوا خطيئةً بإبائهم على موسى عليه السَّلام دخول القرية فأراد الله تعالى أَنْ يغفرها لهم فقال لهم: قولوا حطَّةٌ أَيْ: مسألتنا حطَّةٌ وهو أن تحط عنا ذنوبنا ﴿وسنزيد المحسنين﴾ الذين لم يكونوا من أهل تلك الخطيئة إحساناً وثواباً
﴿فبدَّل الذين ظلموا قولاً﴾ منهم ﴿غير الذي قيل لهم﴾ أَيْ: غيَّروا تلك الكلمة التي أُمروا بها وقالوا: حنطةٌ ﴿فأنزلنا على الذين ظلموا رجزاً﴾ : ظلمةً وطاعوناً فهلك منهم فِي ساعة واحدة سبعون ألفاً جزاءً لفسقهم بتبديل ما أُمروا به من الكلمة
﴿وإذ استسقى موسى لقومه﴾ في التِّيه ﴿فقلنا اضرب بعصاك الحجر﴾ وكان حجراً خفيفاً مربَّعاً مثل رأس الرَّجل ﴿فانفجرت﴾ أيْ: فضربَ فانفجرت يعني: فانشقَّت ﴿منه اثنتا عشرة عيناً﴾ فكان يأتي كلُّ سبط عينَهم التي كانوا يشربون منها فذلك قوله تعالى: ﴿قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مشربهم﴾ وقلنا لهم: ﴿كلوا﴾ من المنِّ والسَّلوى ﴿واشربوا﴾ من الماء فهذا كلُّه ﴿من رزق الله﴾ ﴿ولا تعثوا في الأرض مفسدين﴾ أَيْ: لا تسعوا فيها بالفساد فَمَلُّوا ذلك العيش وذكروا عيشاً كان لهم بمصر فقالوا:
﴿يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ﴾ يعني: المنَّ الذي كانوا يأكلونه والسَّلوى فكانا طعاماً واحداً ﴿فادع لنا ربك﴾ سله وقل له: أَخرِجْ ﴿يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا﴾ وهو كلُّ نباتٍ لا يبقى له ساقٌ ﴿وقثائها﴾ وهو نوعٌ من الخضراوات ﴿وفومها﴾ وهو الحنطة فقال لهم موسى عليه السَّلام: ﴿أتستبدلون الذي هو أدنى﴾ أَيْ: أخسُّ وأوضع ﴿بالذي هو خيرٌ﴾ أَي: أرفع وأجلُّ؟ فدعا موسى عليه السَّلام فاستجبنا له وقلنا لهم: ﴿اهبطوا مصراً﴾ : أنزلوا بلدةً من البلدان ﴿فإنَّ لكم ما سألتم﴾ أَيْ: فإنَّ الذي سألتم لا يكون إلاَّ فِي القرى والأمصار ﴿وضُربت عليهم﴾ أَيْ: على اليهود الذين كانوا في عصر النبي ﷺ ﴿الذلَّة﴾ يعني: الجزيةَ وزيَّ اليهوديَّة ومعنى ضرب الذِّلة: إلزامهم إيَّاها إلزاماً لا يبرح ﴿والمسكنة﴾ زي الفقر وأثر البؤس ﴿وباءوا﴾ احتملوا وانصرفوا ﴿بغضب من الله ذلك﴾ أَيْ: ذلك الضَّرب والغضب ﴿بأنّهم كانوا يكفرون بآيات الله﴾ التي أنزلت على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم ﴿ويقتلون النَّبيين﴾ أَيْ: يتولَّون أولئك الذين فعلوا ذلك ﴿بغير حق﴾ أَيْ: قتلاً بغير حقٍّ يعني: بالظُّلم ﴿ذلك﴾ الكفر والقتل بشؤم ركوبهم المعاصي وتجاوزهم أمر الله تعالى
﴿إن الذين آمنوا﴾ أي: بالأنبياء الماضين ولم يؤمنوا بك ﴿والذين هادوا﴾ دخلوا في دين اليهوديَّة ﴿والنصارى والصابئين﴾ الخارجين من دين إلى دين وهم قومٌ يعبدون النُّجوم ﴿مَنْ آمن﴾ من هؤلاء ﴿بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً﴾ بالإيمان بمحمَّدٍ عليه السَّلام لأنَّ الدليل قد قام أنَّ مَنْ لم يؤمن به لا يكون عمله صَالِحًا ﴿فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عليهم ولا هم يحزنون﴾
﴿وإذ أخذنا ميثاقكم﴾ بالطَّاعة لله تعالى والإيمان بمحمَّدٍ عليه السَّلام في حال رفع الطُّور فوقكم يعني: الجبل وذلك لأنَّهم أبوا قبول شريعة التَّوراة فأمر الله سبحانه جبلاً فانقلع من اصله حتى قام على رؤوسهم فقبلوا خوفاً من أن يُرضخوا على رؤوسهم بالجبل وقلنا لكم: ﴿خذوا ما آتيناكم﴾ اعملوا بما أُمرتم به ﴿بقوَّةٍ﴾ بجدٍّ ومواظبةٍ على طاعة الله عز وجل ﴿واذكروا ما فِيهِ﴾ من الثَّواب والعقاب ﴿لعلكم تتقون﴾
﴿ثم توليتم من بعد ذلك﴾ أعرضتم عن أمر الله تعالى وطاعته من بعد أخذ الميثاق ﴿فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ﴾ بتأخير العذاب عنكم ﴿لَكُنْتُمْ مِنَ الخاسرين﴾ الهالكين في العذاب
﴿ولقد علمتم﴾ عرفتم حال ﴿الذين اعتدوا﴾ جاوزوا ما حُدَّ لهم من ترك الصَّيد في السَّبت ﴿فقلنا لهم كونوا﴾ بتكويننا إيَّاكم ﴿قردةً خاسئين﴾ مطرودين مبعدين
﴿فجعلناها﴾ أَيْ: تلك العقوبة والمسخة ﴿نكالاً﴾ عبرةً ﴿لما بين يديها﴾ للأمم التي ترى الفرقة الممسوخة ﴿وما خلفها﴾ من الأمم التي تأتي بعدها ﴿وموعظة﴾ عبرةً ﴿للمتقين﴾ للمؤمنين الذين يتقون من هذه الأمَّة
﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أن تذبحوا بقرة﴾ وذلك أنَّه وُجد قتيلٌ في بني إسرائيل ولم يدروا قاتله فسألوا موسى عليه السَّلام أن يدعو الله تعالى ليبيِّن لهم ذلك فسأل موسى ربَّه فأمرهم بذبح بقرةٍ فقال لهم موسى عليه السَّلام: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ﴿قَالُوا أتتخذنا هزوا﴾ أتستهزئ بنا حين نسألك عن القتيل فتأمرنا بذبح البقرة؟ ! ﴿قال أعوذ بالله﴾ أمتنع به أن أكون من المستهزئين بالمؤمنين فلمَّا علموا أنَّ ذلك عزمٌ من الله عز وجل سألوه الوصف فقالوا:
﴿ادع لنا ربك﴾ أَيْ: سله بدعائك إيَّأه ﴿يبين لنا ما هي﴾ ما تلك البقرة وكيف هي وكم سنُّها؟ وهذا تشديدٌ منهم على أنفسهم ﴿قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ﴾ مُسِنَّةٌ كبيرةٌ ﴿ولا بكرٌ﴾ فتيةٌ صغيرةٌ ﴿عوانٌ﴾ نَصَفٌ بين السِّنَّينِ ﴿فافعلوا ما تؤمرون﴾ (فيه تنبيهٌ على منعهم) وقوله تعالى:
﴿فاقعٌ لونها﴾ أَيْ: شديد الصُّفرة ﴿تسرُّ الناظرين﴾ تعجبهم بحسنها
﴿قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي﴾ أَسائمةٌ أم عاملةٌ؟ ﴿إنَّ البقر﴾ جنس البقر ﴿تشابه﴾ اشتبه وأشكل ﴿علينا وإنَّا إنْ شاء الله لمهتدون﴾ إلى وصفها [قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وايمُ اللَّهِ لو لم يستثنوا لما بُيِّنت لهم آخر الأبد]
﴿قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ﴾ مُذلَّلةٌ بالعمل ﴿تثير الأرض﴾ تُقلبها للزراعة أَيْ: ليستْ تقلِّب لأنَّها ليست ذلولاً ﴿ولا تسقي الحرث﴾ الأرض المهيَّأة للزِّراعة ﴿مسلَّمة﴾ من العيوب وآثار العمل ﴿لا شية فيها﴾ لا لون فيها يُفارق سائر لونها ﴿قالوا الآن جئت بالحقّ﴾ بالوصف التّام الذي تتميَّز به من أجناسها فطلبوها فوجدوها ﴿فذبحوها وما كادوا يفعلون﴾ لغلاء ثمنها
﴿وإذ قتلتم نفساً﴾ هذا أوَّل القصَّة ولكنَّه مؤخرَّ في الكلام ﴿فادَّارأتم﴾ فاختلفتم وتدافعتم ﴿والله مخرجٌ﴾ مُظهرٌ ﴿ما كنتم تكتمون﴾ من أمر القتيل
﴿فقلنا اضربوه ببعضها﴾ بلسانها فيحيى فضرب فيحيى ﴿كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى﴾ أَيْ: كما أحيا هذا القتيل ﴿ويريكم آياته﴾ آيات قدرته في خلق الحياة في الأموات (كما خلق في عاميل)
﴿ثم قست قلوبكم﴾ يا معشر اليهود أَي: اشتدَّت وصلبت ﴿من بعد ذلك﴾ من بعد هذه الآيات التي تقدَّمت من المسخ ورفع الجبل فوقهم وانبجاس الماء من الحجرِ وإحياء الميت بضرب عضوٍ وهذه الآيات ممَّا يصدِّقون بها ﴿فهي كالحجارة﴾ في القسوة وعدم المنفعة بل ﴿أشد قسوة﴾ وإنَّما عنى بهذه القسوة تركهم الإِيمان بمحمَّدٍ ﷺ بعد ما عرفوا صدقه وقدرةَ الله تعالى على عقابهم بتكذيبهم إيَّاه ثمَّ عذر الحجارة وفضَّلها على قلوبهم فقال: ﴿وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الماء وإنَّ منها لما يهبط﴾ ينزل من علوٍ إلى سفل ﴿مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ قال مجاهدٌ: كلُّ حجرٍ تفجَّر منه الماء أو تشقَّق عن ماء أو تردَّى من رأس جبلٍ فهو من خشية الله تعالى نزل به القرآن ثمَّ أوعدهم فقال: ﴿وما الله بغافلٍ عمَّا تعملون﴾ ثمَّ خاطب النبي ﷺ والمؤمنين فقطع طمعهم عن إيمانهم فقال:
﴿أفتطمعون أن يؤمنوا لكم﴾ وحالهم أنَّ طائفةً منهم كانوا ﴿يسمعون كلام الله﴾ يعني التَّوراة ﴿ثم يحرفونه﴾ يُغيِّرونه عن وجهه يعني: الذين غيَّروا أحكام التَّوراة وغيَّروا آية الرَّجم وصفة محمد ﷺ ﴿من بعد ما عقلوه﴾ أَيْ: لم يفعلوا ذلك عن نسيانٍ وخطأٍ بل فعلوه عن تعمُّدٍ ﴿وهم يعلمون﴾ أنَّ ذلك مَكْسَبةٌ للأوزار
﴿وإذا لقوا الذين آمنوا﴾ يعني: منافقي اليهود ﴿قالوا آمنا﴾ بمحمَّدٍ وهو نبيٌّ صادقٌ نجده في كتبنا ﴿وإذا خلا بعضهم إلى بعض﴾ يعني: إذا رجع هؤلاء المنافقون إلى رؤساهم لاموهم فقالوا: ﴿أتحدثونهم﴾ أتخبرون أصحاب محمد - ﷺ - ﴿بما فتح الله عليكم﴾ من صفة النَّبيِّ المُبشَّر به ﴿ليحاجُّوكم﴾ ليجادلوكم ويخاصموكم ﴿به﴾ بما قلتم لهم ﴿عند ربكم﴾ في الآخرة يقولون: كفرتم به بعد أن وقفتم على صدقة ﴿أفلا تعقلون﴾ أفليس لكم ذهن الإنسانيَّة؟ فقال الله تعالى:
﴿أو لا يعلمون أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ﴾ من التَّكذيب يعني: هؤلاء المنافقين ﴿وما يعلنون﴾ من التَّصديق
﴿ومنهم﴾ ومن اليهود ﴿أميُّون﴾ لا يكتبون ولا يقرؤون ﴿لا يعلمون الكتاب إلاَّ أمانيّ﴾ إلاَّ أكاذيب وأحاديثَ مُفتعلةً يسمعونها من كبرائهم ﴿وإن هم إلاَّ يظنون﴾ أَيْ: إلاَّ ظانِّين ظنَّاً وتوهُّماً فيجحدون نُبُوَّتَكَ بالظَّنِّ
﴿فويلٌ﴾ فشدَّةُ عذابٍ ﴿للذين يكتبون الكتاب بأيديهم﴾ أَيْ: من قِبَلِ أنفسهم من غير أن يكون قد أُنزل ﴿ثم يقولون هذا من عند الله﴾ يعني اليهود عمدوا إلى صفة محمد ﷺ وكتبوا صفته على غير ما كانت فِي التَّوراة وأخذوا عليه الأموال فذلك قوله تعالى: ﴿وويلٌ لهم ممَّا يكسبون﴾ (من حُطَام الدُّنيا) فلمَّا أوعدهم رسول الله ﷺ بالنَّار عند تكذيبهم إيَّاه قالوا:
﴿لن تمسنا النار إلا أياماً معدودةً﴾ قليلةً ويعنون الأيَّام التي عبد آباؤهم فيها العجل فكذَّبهم الله سبحانه فقال: قل لهم يا محمَّدُ: ﴿أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عهداً﴾ أخذتم بما تقولون من الله ميثاقاً؟ ﴿فلن يخلف الله عهده﴾ والله لا ينقض ميثاقه ﴿أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ﴾ الباطلَ جهلاً منكم ثمَّ ردَّ على اليهود قولهم: لن تمسَّنا النَّار فقال ﴿بلى﴾ أُعذِّب
﴿مَنْ كسب سيئة﴾ وهي الشِّرك ﴿وأحاطت به خطيئته﴾ : سدَّت عليه مسالك النَّجاة وهو أّنْ يموت على الشِّرك ﴿فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون﴾ الذين يُخلَّدون في النَّار ثمَّ أخبر عن أخذ الميثاق عليهم بتبيين نعت محمَّدٍ ﷺ فقال:
قوله تعالى ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾
﴿وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل﴾ أَيْ: في التَّوراة ﴿لا تعبدون﴾ أَيْ: بأن لا تعبدوا ﴿إلاَّ الله وبالوالدين إحساناً﴾ أَيْ: ووصَّيناهم بالوالدين إحساناً ﴿وذي القربى﴾ أَي: القرابة في الرَّحم ﴿واليتامى﴾ يعني: الذين مات أبوهم قبل البلوغ ﴿وقولوا للناس حسناً﴾ أَيْ: صدقاً وحقَّاً في شأن محمَّدٍ عليه السَّلام وهو خطابٌ لليهود ﴿ثم توليتم﴾ أعرضتم عن العهد والميثاق يعني: أوائلهم ﴿إلاَّ قليلاً منكم﴾ يعني: مَنْ كان ثابتاً على دينه ثمَّ آمن بمحمد صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم ﴿وأنتم معرضون﴾ عمَّا عُهد إليكم كأوائلكم
﴿وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم﴾ بأن لا يقتل بعضكم بعضاً ولا يُخرج بعضكم بعضاً من داره ولا يغلبه عليها ﴿ثم أقررتم﴾ أَيْ: قبلتم ذلك ﴿وأنتم﴾ اليوم ﴿تشهدون﴾ على إقرار أوائلكم ثمَّ أخبر أنَّهم نقضوا هذا الميثاق فقال:
﴿ثم أنتم هؤلاء﴾ أراد: يا هؤلاء ﴿تقتلون أنفسكم﴾ يقتل بعضكم بعضاً ﴿وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم﴾ تتعاونون على أهل ملَّتكم ﴿بالإثم والعدوان﴾ : بالمعصية والظُّلم ﴿وإن يأتوكم أسارى﴾ مأسورين يطلبون الفداء فديتموهم ﴿وهو محرَّم عليكم إخراجهم﴾ أَيْ: وإخراجهم عن ديارهم محَّرمٌ عليكم ﴿أفتؤمنون ببعض الكتاب﴾ يعني: فداء الأسير ﴿وتكفرون ببعض﴾ يعني: القتل والإخراج والمظاهرة على وجه الإباحة؟ قال السُّدِّيُّ: أحذ الله تعالى عليهم أربعة عهودٍ: تركَ القتل وترك الإِخراج وترك المظاهرة وفداء أُسرائهم فأعرضوا عن كلِّ ما أُمروا به إلاَّ الفداء ﴿فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلا خزيٌ﴾ فضيحةٌ وهوانٌ ﴿في الحياة الدنيا﴾ وقوله:
﴿فلا يخفف عنهم العذاب﴾ معناه: في الدُّنيا والآخرة وقيل: هذه الحالة مختصَّةٌ بالآخرة
﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بالرسل﴾ أَيْ: وأرسلنا رسولاً بعد رسول ﴿وآتينا عيسى ابن مريم البينات﴾ يعني: ما أُوتي من المعجزة ﴿وأيدناه﴾ وقوَّيناه ﴿بِرُوحِ القدس﴾ بجبريل عليه السَّلام وذلك أنَّه كان قرينه يسير معه حيث سار يقول: فعلنا بكم كلَّ هذا فما استقمتم لأنَّكم ﴿كلما جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ﴾ ثمَّ تعظَّمتم عن الإِيمان به ﴿ففريقاً كذَّبتم﴾ مثل عيسى ومحمَّدٍ عليهما السَّلام ﴿وفريقاً تقتلون﴾ مثل يحيى وزكريا عليهما السَّلام
﴿وقالوا قلوبنا غلفٌ﴾ هو أنَّ اليهود قالوا استهزاءً وإنكاراً لما أتى به محمد عليه السَّلام: قلوبنا غلفٌ عليها غشاوةٌ فهي لا تعي ولا تفقه ما تقول وكلُّ شيءٍ في غلافٍ فهو أغلف وجمعه: غُلْف ثمَّ أكذبهم الله تعالى فقال: ﴿بل لعنهم الله﴾ أَيْ: أبعدهم من رحمته فطردهم ﴿فقليلاً ما يؤمنون﴾ أَيْ: فبقليلٍ يؤمنون بما في أيديهم وقال قتادة: فقليلاً ما يؤمنون أَيْ: ما يؤمن منهم إلاَّ قليلٌ كعبد الله بن سلام
﴿ولما جاءهم كتاب﴾ يعني: القرآن ﴿مصدِّق﴾ موافقٌ ﴿لما معهم﴾ ﴿وكانوا﴾ يعني: اليهود ﴿من قبل﴾ نزول الكتاب ﴿يستفتحون﴾ يستنصرون ﴿على الذين كفروا﴾ بمحمد عليه السَّلام وكتابه ويقولون: اللَّهم انصرنا بالنَّبيِّ المبعوث في آخر الزَّمان ﴿فلما جاءهم ما عرفوا﴾ يعني: الكتاب وبعثة النبيّ ﴿كفروا﴾ ثمَّ ذمَّ صنيعهم فقال:
﴿بئسما اشتروا به أنفسهم﴾ أَيْ: بئس ما باعوا به حظَّ أنفسهم من الثَّواب بالكفر بالقرآن ﴿بغياً﴾ أَيْ: حسداً ﴿أن ينزل الله﴾ أَيْ: إنزال اللَّهُ ﴿مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عباده﴾ وذلك أنَّ كفر اليهود لم يكن من شك ولا اشتباهٍ وإنَّما كان حسداً حيث صارت النُّبوَّة في ولد إسماعيل عليه السَّلام ﴿فباءوا﴾ فانصرفوا واحتملوا ﴿بغضب﴾ من الله عليهم لأجل تضييعهم التَّوراة ﴿على غضب﴾ لكفرهم بالنبي محمد ﷺ والقرآن
﴿وإذا قيل﴾ لليهود ﴿آمنوا بما أنزل الله﴾ بالقرآن ﴿قالوا نؤمن بما أنزل علينا﴾ يعني: التَّوراة ﴿ويكفرون بما وراءه﴾ بما سواه ﴿وهو الحقُّ﴾ يعني: القرآن ﴿مصدِّقاً لما معهم﴾ موافقاً للتَّوراة ثمَّ كذَّبَهم الله تعالى في قولهم: نؤمن بما أنزل علينا بقوله: ﴿فلمَ تقتلون أنبياء الله﴾ أَيْ: أيُّ كتابٍ جُوِّز فِيهِ قتلُ نبيٍّ؟ ! ﴿إن كنتم مؤمنين﴾ شرطٌ وجوابه ما قبله ثمَّ ذكر أنَّهم كفروا بالله تعالى مع وضوح الآيات في زمن موسى عليه السَّلام فقال:
﴿وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ﴾ يعني: العصا واليد وفلق البحر ﴿ثمَّ اتخذتم العجل من بعده﴾ إلهاً ﴿وأنتم ظالمون﴾
﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتيناكم بقوَّة واسمعوا﴾ مضى تفسيره ومعنى: واسمعوا أَيْ: اقبلوا ما فيه من حلاله وحرامه وأطيعوا ﴿قالوا سمعنا﴾ ما فِيهِ ﴿وعصينا﴾ ما أُمرنا به ﴿وأُشربوا في قلوبهم العجل﴾ وسُقوا حبَّ العجل وخُلطوا بحبِّ العجل حتى اختلط بهم والمعنى: حُبَّب إليهم العجل ﴿بكفرهم﴾ باعتقادهم التَّشبيه لأنَّهم طلبوا ما يُتَصَوَّرُ فِي نفوسهم ﴿قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كنتم مؤمنين﴾ هذا تكذيبٌ لهم في قولهم: نؤمن بما أنزل علينا وذلك أن آبائهم ادَّعوا الإِيمان ثمَّ عبدوا العجل فقيل لهم: بئس الإيمان إيمانٌ يأمركم بالكفر والمعنى: لو كنتم مؤمنين ما عبدتم العجل يعني: آبائهم كذلك أنتم لو كنتم مؤمنين بما أُنزل عليكم ما كذَّبتم محمَّداً
﴿قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إن كنتم صادقين﴾ كانت اليهود تقول: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا فقيل لهم: إن كنتم صادقين فتمنَّوا الموت فإنَّ مَنْ كان لا يشكُّ فِي أنَّه صائر إلى الجنَّةِ فالجنَّةُ آثرُ عنده
﴿ولن يتمنوه أبداً﴾ لأنَّهم عرفوا أنَّهم كفرةٌ ولا نصيب لهم فِي الجنَّة وهو قوله تعالى: ﴿بما قدَّمت أيديهم﴾ أيْ: بما عملوا من كتمان أمر محمد ﷺ وتغيير نعته ﴿واللَّهُ عليم بالظالمين﴾ فيه معنى التَّهديد
﴿ولتجدنهم﴾ يا محمَّدُ يعني: علماءَ اليهود ﴿أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ﴾ لأنَّهم علموا أنَّهم صائرون إلى النَّار إذا ماتوا لما أتوا به في أمر محمَّدٍ ﷺ ﴿ومن الذين أشركوا﴾ أَيْ: وأحرص من منكري البعث ومَنْ أنكر البعث أحبَّ طول العمر لأنَّه لا يرجو بعثاً فاليهود أحرص منهم لأنَّهم علموا ما جنوا فهم يخافون النَّار ﴿يود أحدكم﴾ أَيْ: أحد اليهود ﴿لو يعمَّرُ ألف سنة﴾ لأنَّه يعلم أنَّ آخرته قد فَسَدَتْ عليه ﴿وما هو﴾ أَيْ: وما أحدهم ﴿بِمُزَحْزِحِهِ﴾ بِمُبْعِدِهِ من ﴿العذاب أن يعمَّر﴾ تعميره
﴿قل من كان عدوا لجبريل﴾ سألت اليهود نبيَّ الله ﷺ عن مَنْ يأتيه من الملائكة؟ فقال: جبريل فقالوا: هو عدوُّنا ولو أتاك ميكائيل آمنَّا بك فأنزل الله هذه الآية والمعنى: قل من كان عدوا لجبريل فليمت غيظاً ﴿فإنه نزله﴾ أَيْ: نزَّل القرآن ﴿على قلبك بإذن الله﴾ بأمر الله ﴿مصدقاً﴾ موافقاً لما قبله من الكتب ﴿وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ ردٌّ على اليهود حين قالوا: إنَّ جبريل ينزل بالحرب والشِّدَّة فقيل إنَّه - وإنْ كان ينزل بالحرب والشدَّة على الكفرين - فإنه ينزل بالهدى والبشرى للمؤمنين
﴿مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وميكال فإن الله عدو للكافرين﴾ أَيْ: مَنْ كان عدوّاً لأحد هؤلاء فإن اللَّهَ عدوٌّ له لأن عدوَّ الواحدِ عدوُّ الجميع وعدوُّ محمَّدٍ عدوُّ الله والواو ها هنا بمعنى أو كقوله: ﴿ومَن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله﴾ لأنَّ الكافر بالواحد كافرٌ بالكلِّ وقوله: ﴿فإنَّ الله عدوٌ للكافرين﴾ أَيْ: إنَّه تولَّى تلك العداوة بنفسه وكفى ملائكته ورسله أمر مَنْ عاداهم
﴿ولقد أنزلنا إليك آيات بيّنات﴾ دلالاتٍ واضحاتٍ وهذا جوابٌ لابن صوريا حين قال: يا محمد ما أُنزل عليك من آيةٍ بيِّنةٍ فَنَتَّبعكَ بها ﴿وما يكفر بها إلاَّ الفاسقون﴾ الخارجون عن أديانهم واليهود خرجت بالكفر بمحمد ﷺ عن شريعة موسى عليه السَّلام ولمَّا ذكر محمدٌ ﷺ لهم ما أخذ الله تعالى عليهم من العهد فيه قال مالك بن الصَّيف: والله ما عُهد إلينا في محمدٍ عهدٌ ولا ميثاق فأنزل الله تعالى:
﴿أو كلما عاهدوا عهداً﴾ الآية وقوله ﴿نبذة فريق منهم﴾ يعني: الذين نقضوه من علمائهم ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ﴾ لأنهم من بين ناقضٍ للعهد وجاحدٍ لنبوَّته معاندٍ له وقوله:
﴿نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب﴾ يعني: علماء اليهود ﴿كتاب الله﴾ يعني التَّوراة ﴿وراء ظهورهم﴾ أَيْ: تركوا العمل به حين كفروا بمحمد ﷺ والقرآن ﴿كأنهم لا يعلمون﴾ أنَّه حقٌّ وأنَّ ما أتى به صدقٌ وهذا إخبارٌ عن عنادهم ثمَّ أخبر أنَّهم رفضوا كتابة واتَّبعوا السِّحر فقال: ﴿واتبعوا﴾ يعني: علماء اليهود
﴿ما تتلوا الشياطين﴾ أَيْ: ما كانت الشَّياطين تُحدِّث وتقصُّ من السِّحر ﴿على ملك سليمان﴾ في عهده وزمان مُلْكه وذلك أنَّ سليمان عليه السلام لما نُزع ملكه دفنت الشَّياطين في خزانته سحراً ونيرنجات فلمَّأ مات سليمان دلَّت الشياطين عليها النَّاس حتى استخرجوها وقالوا للنَّاس: إنَّما مَلَكَكُم سليمان بهذا فتعلَّموه فأقبل بنو إسرائيل على تعلُّمها ورفضوا كتب أنبيائهم فبرَّأ الله سليمان عليه السَّلام فقال: ﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ﴾ أَيْ: لم يكن كافراً ساحراً يسحر ﴿ولكنَّ الشياطين كفروا﴾ بالله ﴿يعلمون الناس السحر﴾ يريد: ما كتب لهم الشَّياطين من كُتب السِّحر ﴿وما أنزل على الملكين﴾ أَيْ: ويُعلِّمونهم ما أُنزل عليهما أَيْ: ما علِّما وأُلْهِمَا وقُذِف فِي قلوبهما من علم التَّفرقة وهو رقيةٌ وليس بسحرٍ وقوله: ﴿وما يعلِّمان﴾ يعني: المَلَكَيْن السِّحر ﴿من أحدٍ﴾ أحداً ﴿حتى يقولا إنما نحن فتنة﴾ ابتلاءٌ واختبارٌ ﴿فلا تكفر﴾ وذلك أن الله عز وجل امتحن النَّاس بالملكين فِي ذلك الوقت وجعل المحنة في الكفر والإيمان أن يقبل القابلُ تعلُّم السِّحر فيكفر بتعلُّمه ويؤمن بتركه ولله تعالى أن يمتحن عباده بما شاء وهذا معنى قوله: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ﴾ أَيْ: محنة من الله نحبرك أنَّ عمل السِّحر كفرٌ بالله وننهاك عنه فإنْ أطعتنا نجوت وإن عصيتنا هلكت وقوله تعالى ﴿فيتعلمون﴾ أَيْ: فيأتون فيتعلَّمون من الملكين ﴿مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ﴾ وهو أن يؤخذ كلُّ واحدٍ منهما عن صاحبه ويُبغَّض كلُّ واحدٍ منهما إلى الآخر ﴿وما هم﴾ أَيْ: السَّحَرة الذين يتعلَّمون السِّحر ﴿بضارين به﴾ بالسِّحر ﴿من أحدٍ﴾ أحداً ﴿إلاَّ بإذن الله﴾ بإرادته كون ذلك أَيْ: لا يضرُّون بالسِّحر إلاَّ مَنْ أراد الله أن يلحقه ذلك الضَّرر ﴿ويتعلمون ما يضرُّهم﴾ في الآخرة ﴿ولا ينفعهم﴾ (في الدُّنيا) ﴿ولقد علموا﴾ يعني: اليهود ﴿لمن اشتراه﴾ من اختار السِّحر ﴿مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ﴾ من نصيب في الجنة ثمَّ ذمَّ صنيعهم فقال: ﴿وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ﴾ أَيْ: بئس شيءٌ باعوا به حظَّ أنفسهم حيث اختاروا السِّحر ونبذوا كتاب الله ﴿لو كانوا يعلمون﴾ كُنه ما يصير إليه مَنْ يخسر الآخرة من العقاب
﴿ولو أنَّهم آمنوا﴾ بمحمَّدٍ عليه السَّلام والقرآن ﴿واتقوا﴾ اليهوديَّة والسِّحر لأثيبوا ما هو خيرٌ لهم من الكسب بالسِّحر وهو قوله تعالى: ﴿لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يعلمون﴾
﴿يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا﴾ كان المسلمون يقولون للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: راعنا سمعك وكان هذا بلسان اليهوديَّة سبَّاً قبيحاً فلمَّا سمعوا هذه الكلمة يقولونها لرسول الله ﷺ أعجبتهم فكانوا يأتونه ويقولون ذلك ويضحكون فيما بينهم فنهى الله تعالى المؤمنين عن ذلك وأنزل هذه الآية وأمرهم أن يقولوا بدل راعنا ﴿انظرنا﴾ أَيْ: انظر إلينا حتى نُفهمك ما نقول ﴿واسمعوا﴾ أيْ: أطيعوا واتركوا هذه الكلمة لأنَّ الطَّاعة تجب بالسَّمع ﴿مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ من ربكم﴾ أَيْ: خيرٌ من عند ربكم
﴿والله يختص برحمته﴾ يخصُّ بنبوَّته ﴿مَنْ يشاء والله ذو الفضل العظيم﴾
﴿ما نَنْسَخْ من آية أو ننسها﴾ أي: مانرفع آيةً من جهة النَّسخ بأن نُبطل حكمها أو بالإِنساءِ لها بأنْ نمحوها عن القلوب ﴿نأت بخير منها﴾ أَيْ: أصلح لمن تُعبِّد بها وأنفع لهم وأسهل عليهم وأكثر لأجرهم ﴿أو مثلها﴾ في المنفعة والمثوبة ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ﴾ من النِّسخِ والتَّبديل وغيرهما ﴿قدير﴾ نزلت هذه الآية حين قال المشركون: إنَّ محمداً يأمر أصحابه بأمرٍ ثمَّ ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه ويقول اليوم قولاً ويرجع عنه غداً ما هذا القرآن إلاَّ كلام محمد فأنزل الله تعالى هذه الآية وقولَهُ: ﴿وإذا بدَّلنا آية مكان آيةٍ﴾ الآية
﴿ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض﴾ يعمل فيهما ما يشاء وهو أعلم بوجه الصَّلاح فيما يتعبَّدهم به من ناسخ ومنسوخ ﴿وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ﴾ أَيْ: والٍ يلي أمركم ويقوم به ﴿ولا نصير﴾ ينصركم وفي هذا تحذيرٌ من عذابه إذ لا مانع منه
﴿أم تريدون﴾ أَيْ: بل أتريدون ﴿أن تسألوا رسولكم﴾ محمدا ﷺ ﴿كما سئل موسى من قبل﴾ وذلك أنَّ قريشاً قالوا: يا محمَّدُ اجعل لنا الصَّفا ذهباً ووسِّعْ لنا أرض مكَّة فَنُهوا أن يقترحوا عليه الآيات كما اقترح قوم موسى عليه السَّلام حين قالوا: ﴿أرنا الله جهرة﴾ وذلك أنَّ السُّؤال بعد قيام البراهين كفرٌ ولذلك قال: ﴿وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سواء السبيل﴾ قصده ووسطه
﴿ودَّ كثيرٌ من أهل الكتاب﴾ نزلت حين قالت اليهود للمسلمين بعد وقعة أُحدٍ: ألم تروا إلى ما أصابكم ولو كنتم على الحق ما هزمتم فارجعوا إلى ديننا فذلك قوله تعالى: ﴿لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا من عند أنفسهم﴾ أَيْ: فِي حكمهم وتديّنهم ما لم يؤمروا به ﴿مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لهم الحق﴾ فِي التَّوراة أنَّ قول محمَّدٍ صدقٌ ودينه حقٌّ ﴿فاعفوا واصفحوا﴾ وأعرضوا عن مساوئ أخلقهم وكلامهم وغلِّ قلوبهم ﴿حتى يأتي الله بأمره﴾ بالقتال
قال تعالى ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بما تعملون بصير﴾
﴿وقالوا لن يدخل الجنة﴾ أَيْ: قالت اليهود: لن يدخل الجنَّة ﴿إلاَّ مَنْ كان هوداً﴾ وقالت النَّصارى: لن يدخلها إلاَّ النَّصارى ﴿تلك أمانيهم﴾ التي تمنَّوها على الله سبحانه باطلاً ﴿قل هاتوا برهانكم﴾ قرِّبوا حجَّتكم على ما تقولون ثمَّ بيَّن مَنْ يدخلها فقال:
﴿بلى﴾ يدخلها ﴿مَنْ أسلم وجهه لله﴾ انقاد لأمره وبذل له وجهه في السُّجود ﴿وهو محسن﴾ مؤمنٌ مصدقٌ بالقرآن
﴿وقالت اليهود ليست النصارى على شيء﴾ لمَّا قدم وفد نجران فتنازعوا مع اليهود وكفَّر كلُّ واحدٍ من الفريقين الآخر وقوله تعالى: ﴿وهم يتلون الكتاب﴾ يعني: إنَّ الفريقين يتلون التَّوراة وقد وقع بينهما هذا الاختلاف وكتابهم واحد فدلَّ بهذا على ضلالتهم ﴿كذلك قال الذين لا يعلمون﴾ يعني: كفَّار الأمم الماضية وكفَّار هذه الأمَّة ﴿مثل قولهم﴾ في تكذيب الأنبياء والاختلاف عليهم فسبيل هؤلاء الذين يتلون الكتاب كسبيل مَنْ لا يعلم الكتاب من المشركين في الإنكار لدين الله سبحانه ﴿فالله يحكم بينهم﴾ أَيْ يُريهم عياناً مَنْ يدخل الجنَّة ومَنْ يدخل النَّار
﴿ومن أظلم ممن منع مساجد الله﴾ يعني: بيت المقدس ومحاربيه نزلت في أهل الرُّوم حين خرَّبوا بيت المقدس ﴿أولئك﴾ يعني: أهل الرُّوم ﴿مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلا خَائِفِينَ﴾ لم يدخل بيت المقدس بعد أن عمره المسلمون روميٌّ إلاَّ خائفاً لو عُلم به قُتل ﴿لهم في الدنيا خزي﴾ يعني: القتل للحربيِّ والجزية للذميِّ
﴿ولله المشرقُ والمغرب﴾ أَيْ: إنَّه خالقهما نزلت في قوم من الصَّحابة سافروا فأصابهم الضَّباب فتحرَّوا القِبلة وصلَّوا إلى أنحاءٍ مختلفةٍ فلمَّا ذهب الضَّباب استبان أنَّهم لم يصيبوا فلمَّا قدموا سألوا رسول الله ﷺ عن ذلك وقوله تعالى: ﴿فأينما تولوا﴾ أَيْ: تصرفوا وجوهكم ﴿فثمَّ وجه الله﴾ أَيْ: فهناك قِبلة الله وجهته التي تعبَّدكم الله بالتوجُّه إليها ﴿إنَّ الله واسعٌ عليم﴾ أَيْ: واسع الشَّريعة يُوسِّع على عباده في دينهم (اختلف العلماء في حكم هذه الآية فمنهم مَنْ قال: هي منسوخة الحكم بقوله: ﴿فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام﴾ ومنهم مَنْ قال: حكمها ثابت غير أنها مخصوصة بالنَّوافل في السفر وقيل: إنها نزلت في شأن النجاشي حين صلَّى عليه النبي ﷺ مع أصحابه وقولهم له: كيف تُصلِّي على رجل صلَّى إلى غير قبلتنا فأنزل الله تعالى هذه الآية وبيَّن أنَّ النجاشي وإنْ صلَّى إلى المشرق أو المغرب فإنَّما قصد بذلك وجه الله وعبادته ومعنى ﴿فثمَّ وجه الله﴾ أَيْ: فَثَمَّ رضا الله وأمره كما قال: ﴿إنَّما نُطعمكم لوجه الله﴾ والوجهُ والجِهةُ والوِجهةُ: القِبلةُ)
﴿وقالوا اتخذ الله ولداً﴾ يعني: اليهود في قولهم: ﴿عزير ابنُ الله﴾ والنصارى في قولهم: ﴿المسيح ابنُ الله﴾ والمشركين في قولهم: الملائكة بنات الله ثمَّ نزَّه نفسه عن الولد فقال ﴿سبحانه بل﴾ ليس الأمر كذلك ﴿له ما في السماوات والأرض﴾ عبيداً وملكاً ﴿كلٌّ له قانتون﴾ مطيعون: يعني: أهل طاعته دون النَّاس أجمعين
﴿بديع السماوات والأرض﴾ خالقهما وموجدهما لا على مثالٍ سبق ﴿وإذا قضى أمراً﴾ قدَّره وأراد خلقه ﴿فإنما يقول له كن فيكون﴾ أَيْ: إنما يُكوِّنه فيكون وشرطه أن يتعلَّق به أمره (وقال الأستاذ أبو الحسن: يُكوِّنه بقدرته فيكون على ما أراد)
﴿وقال الذين لا يعلمون﴾ يعني: مشركي العرب قالوا لمحمَّدٍ: لن نؤمن لك حتى ﴿يكلّمنا الله﴾ أنَّك رسوله ﴿أو تأتينا آية﴾ يعني: ما سألوا من الآيات الأربع في قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا﴾ ومعنى ﴿لولا يكلِّمنا الله﴾ أَيْ: هلاَّ يُكلِّمنا الله أنَّك رسوله ﴿كذلك قال الذين من قبلهم﴾ يعني: كفَّار الأمم الماضية كفروا بالتَّعنُّتِ بطلب الآيات كهؤلاء ﴿تشابهت قلوبهم﴾ أشبه بعضها بعضاً فِي الكفر والقسوة ومسألة المحال ﴿قد بيَّنا الآيات لقوم يوقنون﴾ أَيْ: مَنْ أيقن وطلب الحقَّ فقد أتته الآيات لأنَّ القرآن برهانٌ شافٍ
﴿إنا أرسلناك بالحق﴾ بالقرآن والإسلام أَيْ: مع الحقِّ ﴿بشيراً﴾ مُبشِّراً للمؤمنين ﴿ونذيراً﴾ مُخوِّفاً ومُحذِّراً للكافرين ﴿ولا تُسأل عن أصحاب الجحيم﴾ أَيْ: لست بمسؤولٍ عنهم وذلك أن النبي ﷺ قال: لو أنَّ الله عز وجل أنزل بأسه باليهود لآمنوا فأنزل الله تعالى هذه الآية أَيْ: ليس عليك من شأنهم عُهدةٌ ولا تبعة
﴿ولن ترضى عنك اليهود﴾ الآية نزلت في تحويل القبلة وذلك أنَّ اليهود والنَّصارى كانوا يرجون أنَّ محمدا ﷺ يرجع إلى دينهم فلمَّا صرف الله تعالى القِبلة إلى الكعبة شقَّ عليهم وأيسوا منه أن يوافقهم على دينهم فأنزل الله تعالى: ﴿وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تتبع ملتهم﴾ يعني: دينهم وتصلِّي إلى قبلتهم ﴿قل إنَّ هدى الله هو الهدى﴾ أَي: الصِّراط الذي دعا إليه وهدى إليه هو طريق الحقِّ ﴿ولَئِنِ اتبعت أهواءهم﴾ يعني: ما كانوا يدعونه إليه من المهادنة والإِمهال ﴿بعد الذي جاءك من العلم﴾ أَي: البيان بأنَّ دين الله عز وجل هو الإسلام وأنَّهم على الضلالة ﴿مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نصير﴾
﴿الذين آتيناهم الكتاب﴾ يعني: مؤمني اليهود ﴿يتلونه حق تلاوته﴾ يقرؤونه كما أُنزل ولا يُحرِّفونه ويتَّبعونه حقَّ اتباعه
قال تعالى ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين﴾
قال تعالى ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُهَا شفاعة ولا هم ينصرون﴾
﴿وإذ ابتلى إبراهيم ربُّه﴾ اختبره أَيْ: عامله معاملة المُختبِر ﴿بكلماتٍ﴾ هي عشر خصالٍ: خمسٌ في الرأس وهي الفرق والمضمضة والاستنشاق والسِّواك وقصُّ الشَّارب وخمسٌ في الجسد وهي: تقليم الأظفار وحلق العانة والختان والاستنجاء ونتف الرفغنين ﴿فأتمهنَّ﴾ أدَّاهنَّ تامَّاتٍ غير ناقصات ﴿قال﴾ الله تعالى: ﴿إني جاعلك للناس إماماً﴾ يقتدي بك الصَّالحون فقال إبراهيم: ﴿ومِنْ ذريتي﴾ أَيْ: ومن أولادي أيضاً فاجعل أئمةً يُقتدى بهم فقال الله عز وجل ﴿لا ينال عهدي الظالمين﴾ يريد: مَنْ كان من ولدك ظالماً لا يكون إماماً ومعنى: ﴿عهدي﴾ أَيْ: نُبوَّتي
﴿وإذ جعلنا البيت﴾ يعني: الكعبة ﴿مثابةً للناس﴾ معاداً يعودون إليه لا يقضون منه وطراً كلَّما انصرفوا اشتاقوا إليه ﴿وأَمْناً﴾ أَيْ ك مؤمناً وكانت العرب يرى الرَّجل منهم قاتل أبيه فِي الحرم فلا يتعرَّض له وأمَّا اليوم فلا يُهاج الجاني إذا التجأ إليه عند أهل العراق وعند الشافعيِّ: الأولى أن لا يُهاج فإنْ أُخيف بإقامة الحدِّ عليه جاز وقد قال كثيرٌ من المفسرين: مَنْ شاء آمن ومَنْ شاء لم يُؤمن كما أنَّه لمَّا جعله مثابةً مَنْ شاء ثاب ومَنْ شاء لم يثب ﴿واتَّخذوا﴾ أَيْ: النَّاس ﴿من مقام إبراهيم﴾ وهو الحجر الذي يُعرف بمقام إبراهيم وهو موضع قدميه ﴿مصلَّى﴾ وهو أنَّه تُسنُّ الصَّلاة خلف المقام قرئ على هذا الوجه على الخبر وقرئ بالكسر على الأمر ﴿وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل﴾ أمرناهما وأوصينا إليهما ﴿أنْ طهِّرا بيتي﴾ من الأوثان والرِّيَب ( ﴿للطائفين﴾ حوله وهم النزائع إليه من آفاق الأرض ﴿والعاكفين﴾ أي: المقيمين فيه وهم سكان الحرم ﴿والركع﴾ جمع راكع و ﴿السجود﴾ جمع ساجد مثله: قاعد وقعود)
﴿وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا﴾ أَيْ: هذا المكان وهذا الموضع ﴿بلداً﴾ مسكناً ﴿آمناً﴾ أَيْ: ذا أمنٍ لا يُصاد طيره ولا يُقطع شجره ولا يُقتل فيه أهله ﴿وارزق أهله من الثمرات﴾ أنواع حمل الشَّجر ﴿مَنْ آمن منهم بالله واليوم الآخر﴾ خَصَّ إبراهيم عليه السلام بطلب الرزق المؤمنين قال تعالى: ﴿وَمَنْ كفر فأمتعه قليلا﴾ فسأرزفه إلى منهى أجله ﴿ثمَّ أضطره﴾ أُلجئه فِي الآخرة ﴿إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ المصير﴾ هي
﴿وإذ يرفع إبراهيم القواعد﴾ أصول الأساس ﴿من البيت وإسماعيل﴾ ويقولان: ﴿ربنا تقبلْ منَّا﴾ تقرُّبنا إليك ببناء هذا البيت ﴿إنك أنت السميع﴾ لدعائنا ﴿العليمُ﴾ بما في قلوبنا
﴿ربنا واجعلنا مسلمين لك﴾ مطيعي مُنقادين لحكمك ﴿ومن ذريتنا أمة﴾ جماعةً ﴿مسلمة لك﴾ وهم المهاجرون والأنصار والتَّابعون بإحسان ﴿وأرنا مناسكنا﴾ عرّفنا مُتَعبَّداتنا
﴿ربنا وابعث فيهم﴾ في الأمَّة المسلمة ﴿رسولاً منهم﴾ يريد: محمدا ﷺ ﴿يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة﴾ أَي: القرآن ﴿ويزكيهم﴾ ويُطهِّرهم من الشِّرك ﴿إنك أنت العزيز﴾ الغالب القويُّ الذي لا يعجزه شيءٌ ومضى تفسير الحكيم
﴿ومَنْ يرغب عن ملة إبراهيم﴾ أَيْ: وما يرغب عنها ولا يتركها ﴿إلاَّ مَنْ سفه نفسه﴾ أَيْ: جهلها بأَنْ لم يعلم أنَّها مخلوقةٌ لله تعالى يجب عليها عبادة خالقها ﴿ولقد اصطفيناه في الدُّنيا﴾ اخترناه للرِّسالة ﴿وإنه في الآخرة لمن الصالحين﴾ أَيْ: من الأنبياء
﴿إذ قال له ربه أسلم﴾ أخلص دينك لله سبحانه بالتَّوحيد وقيل: أسلم نفسك إلى الله ﴿قال أسلمت﴾ بقلبي ولساني وجوارحي ﴿لرب العالمين﴾
﴿ووصَّى بها﴾ أَيْ: أمر بالملَّة وقيل: بكلمة الإِخلاص ﴿إبراهيم بنيه ويعقوب يا بنيَّ﴾ أراد: أَنْ يَا بَنِيَّ ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ﴾ أَي: الإِسلام دين الحَنيِفيَّة ﴿فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون﴾ أي: الزموا الإِسلام حتى إذا أدرككم الموت صادفكم عليه
﴿أم كنتم شهداء﴾ ترك الكلام الأوَّل وعاد إلى مُخاطبة اليهود المعنى: بل أكنتم شهداء أَيْ: حضوراً ﴿إذ حضر يعقوب الموت﴾ وذلك أنَّ اليهود قالت النبي صلى الله عليه وسلم: ألستَ تعلم أنَّ يعقوب يوم مات أوصى بنيه باليهوديَّة؟ فأكذبهم الله تعالى وقال: أكنتم حاضرين وصيته ﴿إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي﴾
﴿تِلْكَ أُمَّةٌ﴾ يعني: إبراهيم وبنيه ويعقوب وبنيه ﴿قد خلت﴾ قد مضت ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ﴾ من العمل ﴿ولكم﴾ يا معشر اليهود ﴿ما كسبتم﴾ أَيْ: حسابهم عليهم وإنَّما تُسألون عن أعمالكم
﴿وقالوا كونوا هوداً أو نصارى﴾ نزلت فِي يهود المدينة ونصارى نجران قال كلُّ واحدٍ من الفريقين للمؤمنين: كونوا على ديننا فلا دين إلاَّ ذلك فقال الله تعالى: ﴿قل بل ملَّة إبراهيم حنيفاً﴾ يعني: بل نتبع ملَّة إبراهيم حنيفاً مائلاً عن الأديان كلِّها إلى دين الإسلام ثمَّ أمر المؤمنين أن يقولوا:
﴿آمنا بالله وما أنزل إلينا﴾ يعني: القرآن ﴿وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ والأسباط﴾ وهم أولاد يعقوب وكان فيهم أنبياء لذلك قال: وما أنزل إليهم وقوله تعالى: ﴿لا نفرق بين أحد منهم﴾ أَيْ: لا نكفر ببعضٍ ونؤمن ببعضٍ كما فعلت اليهود والنَّصارى
﴿فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به﴾ أَيْ: إِنْ أتوا بتصديقٍ مثلِ تصديقكم وكان إيمانُهم كإيمانكم ﴿فقد اهتدوا﴾ فقد صاروا مسلمين ﴿وإن تولوا﴾ أعرضوا ﴿فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ﴾ فِي خلافٍ وعداوةٍ ﴿فَسَيَكْفِيْكَهُمُ الله﴾ ثمَّ فعل ذلك فكفاه أمر اليهود بالقتل والسَّبي فِي قريظة والجلاء والنَّفي فِي بني النضير والجزية والذَّلَّة فِي نصارى نجران
﴿صبغة الله﴾ أَي: الزموا دين الله ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً﴾ أي: ومن أحسن من الله ديناُ؟
﴿قل﴾ يا محمَّدُ لليهود والنَّصارى: ﴿أتحاجوننا في الله﴾ أَتُخاصموننا في دين الله؟ وذلك أنهم قالوا: إن ديننا هو الأقدم وكتابنا هو الأسبق ولو كنتَ نبيّاً لكنتَ منَّا ﴿ولنا أعمالنا﴾ نُجازى بحسنها وسيِّئها وأنتم في أعمالكم على مثل سبيلنا ﴿ونحن له مخلصون﴾ مُوحِّدون
﴿أم تقولون﴾ إنَّ الأنبياء من قبل أن تنزل التَّوراة والإِنجيل ﴿كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾ ﴿قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أم الله﴾ أَيْ: قد أخبرنا الله سبحانه أنَّ الأنبياء كان دينهم الإِسلام ولا أحدٌ أعلم منه ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ الله﴾ هذا توبيخٌ لهم وهو أنَّ الله تعالى أشهدهم فِي التِّوراة والإِنجيل أنَّه باعثٌ فيهم محمداً ﷺ من ذريَّة إبراهيم عليه السَّلام وأخذ مواثيقهم أَنْ يُبيِّنوه ولا يكتموه ثمَّ ذكر قصَّة تحويل القبلة فقال:
﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يعملون﴾
﴿سيقول السفهاء من الناس﴾ يعني: مشركي مكَّة ويهود المدينة ﴿ما ولاَّهم﴾ ما صرفهم؟ يعنون النبي ﷺ والمؤمنين ﴿عن قبلتهم التي كانوا عليها﴾ وهي الصَّخرة ﴿قل لله المشرق والمغرب﴾ يأمر بالتَّوجُّه إلى أيٍّ جهةٍ شاء ﴿يَهْدِي من يشاء إلى صراط مستقيم﴾ دينٍ مستقيمٍ يريد: إنِّي رضيتُ هذه القِبلة لمحمَّدٍ ﷺ ثمَّ مدح أمَّته فقال:
﴿وكذلك﴾ أي: وكما هديناكم صراطاً مستقيماً ﴿جعلناكم أمة وسطاً﴾ عدولاً خياراً ﴿لتكونوا شهداء على الناس﴾ لتشهدوا على الأمم بتبليغ الأنبياء ﴿ويكون الرسول عليكم﴾ على صدقكم ﴿شهيداً﴾ وذلك أنَّ الله تعالى يسأل الأمم يوم القيامة فيقول: هل بلَّغكم الرُّسل الرِّسالة؟ فيقولون: ما بلَّغنا أحدٌ عنك شيئاً فيسأل الرُّسل فيقولون: بلَّغناهم رسالتك فعصوا فيقول: هل لكم شهيدٌ؟ فيقولون: نعم أمة محمد ﷺ فيشهدون لهم بالتِّبليغ وتكذيب قومهم إيَّاهم فتقول الأمم: يارب بمَ عرفوا ذلك وكانوا بعدنا؟ فيقولون: أخبرنا بذلك نبيُّنا في كتابه ثمَّ يزكيهم محمد ﷺ ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا﴾ أَي: التي أنتَ عليها اليوم وهي الكعبةُ قِبلةً ﴿إلاَّ لنعلم﴾ لنرى وقيل: معناه: لنميّز ﴿مَنْ يتبع الرسول﴾ في تصديقه بنسخ القِبلة ﴿ممن ينقلب على عقبيه﴾ يرتدُّ ويرجع إلى الكفر وذلك أنَّ الله تعالى جعل نسخ القبلة عن الصَّخرة إلى الكعبة ابتلاءً لعباده المؤمنين فمَنْ عصمه صدَّق الرَّسول في ذلك ومَنْ لم يعصمه شكَّ في دينه وتردَّد عليه أمره وظنَّ أنَّ محمداً ﷺ في حيرةٍ من أمره فارتدَّ عن الإِسلام وهذا معنى قوله: ﴿وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً﴾ أَيْ: وقد كانت التَّولية إلى الكعبة لثقيلةً إِلا ﴿عَلَى الَّذِينَ هَدَى الله﴾ عصمهم الله بالهداية فلمَّا حوِّلت القبلة قالت اليهود: فكيف بمَنْ مات منكم وهو يصلِّي على القبلة الأولى؟ لقد مات على الضَّلالة فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إيمانكم﴾ أَيْ: صلاتكم التي صليتم وتصديقكم بالقِبلة الأولى ﴿إنَّ الله بالناس﴾ يعني: بالمؤمنين ﴿لرؤوف رحيم﴾ والرَّأفة أشدُّ الرَّحمة
﴿قد نرى تقلب وجهك﴾ كانت الكعبة أحبَّ القبلتين إلى رسول الله ورأى أنَّ الصَّلاة إليها أدعى لقومه إلى الإسلام فقال لجبريل عليه السَّلام: وددتُ أنَّ الله صرفني عن قِبلة اليهود إلى غيرها فقال جبريل عليه السَّلام: إنَّما أنا عبدٌ مثلك وأنت كريم على ربِّك فسله ثمَّ ارتفع جبريل عليه السَّلام وجعل رسول الله ﷺ يُديم النَّظر إلى السَّماء رجاء أَنْ يأتيه جبريل عليه السَّلام بالذي سأل فأنزل الله تعالى: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ﴾ أَيْ: فِي النَّظر إلى السَّماء ﴿فَلَنُوَلِّيَنَّكَ﴾ فلنُصَيِّرَنَّك تستقبل ﴿قبلة ترضاها﴾ تحبُّها وتواها ﴿فَوَلِّ وجهك﴾ أَيْ: أَقبل بوجهك ﴿شطر المسجد الحرام﴾ نحوه وتلقاءه ﴿وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ﴾ فِي برٍّ أو بحرٍ وأردتم الصَّلاة ﴿فولوا وجوهكم شطره﴾ فلمَّا تحوَّلت القِبلة إِلى الكعبة قالت اليهود: يا محمد ما أُمرتَ بهذا وإنَّما هو شيءٌ تبتدعه من تلقاء نفسك فأنزل الله تعالى: ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ أنَّ المسجد الحرام قِبلة إبراهيم وأنَّه لحقٌّ ﴿وما اللَّهُ بغافل عما تعملون﴾ يا معشر المؤمنين مِنْ طلب مرضاتي
﴿ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب﴾ يعني: اليهود والنَّصارى ﴿بكلِّ آية﴾ (دلالةٍ ومعجزةٍ) ﴿ما تبعوا قبلتك﴾ لأنَّهم مُعاندون جاحدون نبوَّتك مع العلم بها ﴿وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ﴾ حسمَ بهذا أطماع اليهود في رجوع النبي ﷺ إلى قبلتهم لأنَّهم كانوا يطمعون في ذلك ﴿وما بعضهم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ﴾ أخبر أنَّهم - وإنِ اتَّفقوا في التَّظاهر على النَّبيِّ ﷺ - مُختلفون فيما بينهم فلا اليهود تتبع قِبلة النَّصارى ولا النَّصارى تتبع قِبلة اليهود ﴿وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ﴾ أَيْ: صلَّيت إلى قِبلتهم ﴿بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ﴾ أنَّ قِبلة الله الكعبة ﴿إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ﴾ أيْ: إِنَّك إذاً مثلهم والخطاب للنبي ﷺ فِي الظَّاهر وهو فِي المعنى لأُمَّته
﴿الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه﴾ يعرفون محمدا ﷺ بنعته وصفته ﴿كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الحق﴾ من صفته في التَّوراة ﴿وهم يعلمون﴾ لأنَّ الله بيَّن ذلك في كتابهم
﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ﴾ أي: هذا الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ﴿فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ الشَّاكِّين في الجملة التي أخبرتك بها من أمر القِبلة وعناد اليهود وامتناعهم عن الإِيمان بك
﴿ولكلٍّ﴾ أَيْ: ولكلِّ أهل دينٍ ﴿وجهةٌ﴾ قِبلةٌ ومُتوجَّةٌ إليها في الصَّلاة ﴿هو مُوَلِّيْها﴾ وجهَه أَيْ: مستقبلها ﴿فاستبقوا الخيرات﴾ فبادروا إلى القبول من الله عزَّ وجل ووَلُّوا وجوهكم حيث أمركم الله تعالى ﴿أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا﴾ يجمعكم الله تعالى للحساب فيجزيكم بأعمالكم ثم أَكَّد استقبال القبلة أينما كان بآيتين وهما قوله تعالى:
﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بغافل عما تعملون﴾
﴿ومن حيث خرجت﴾ الآية وقوله: ﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لئلا يكون للناس عليكم حجَّةٌ﴾ يعني: اليهود وذلك أنَّ اليهود كانوا يقولون: ما درى محمَّدٌ أين قِبلته حتى هديناه ويقولون: يخالفنا محمَّدٌ فِي ديننا ويتَّبِع قِبلتنا فهذا كان حجِّتهم التي كانوا يحتجُّون بها تمويهاً على الجُهَّال فلمَّا صُرفت القِبلة إلى الكعبة بطلت هذه الحجَّة ثمَّ قال تعالى: ﴿إلاَّ الذين ظلموا منهم﴾ من النَّاس وهم المشركون فإنَّهم قالوا: توجَّه محمدٌ إلى قِبلتنا وعلم أنَّا أهدى سبيلاً منه فهؤلاء يحتجُّون بالباطلِ ثمَّ قال: ﴿فلا تخشوهم﴾ يعني: المشركين في تظاهرهم عليكم فِي المُحاجَّة والمحاربة ﴿واخشوني﴾ فِي ترك القِبلة ومخالفتها ﴿ولأُتمَّ نعمتي عليكم﴾ أَيْ: ولكي أَتمَّ - عطفٌ على ﴿لئلا يكون﴾ - نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ بهدايتي إيّاكم إلى قِبلة إبراهيم فَتَتِمُّ لكم الملَّة الحنيفيَّة ﴿ولعلكم تهتدون﴾ ولكي تهتدوا إلى قِبلة إبراهيم
﴿كما أرسلنا فيكم﴾ المعنى: ولأتمَّ نعمتي عليكم كإرسالي إليكم رسولاً أَيْ: أتمُّ هذه كما أتممت تلك بإرسالي ﴿رسولاً منكم﴾ تعرفون صدقه ونسبه ﴿يتلو عليكم آياتنا﴾ يعني: القرآن وهذا احتجاجٌ عليهم لأنَّهم عرفوا أنَّه أميٌّ لا يقرأ ولا يكتب فلمَّا قرأ عليهم تبيَّن لهم صدقه في النُّبوَّة ﴿ويزكيكم﴾ أَيْ: يُعرِّضكم لما تكونوا به أزكياء من الأمر بطاعة الله تعالى
﴿فاذكروني﴾ بالطَّاعة ﴿أذكركم﴾ بالمغفرة ﴿واشكروا لي﴾ نعمتي ﴿ولا تكفرون﴾ أَيْ: لا تكفروا نعمتي
﴿يا أيها الذين آمنوا استعينوا﴾ على طلب الآخرة ﴿بالصبر﴾ على الفرائض ﴿والصلاة﴾ وبالصَّلوات الخمس على تمحيص الذُّنوب ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ أَيْ: إنِّي معكم أنصركم ولا أخذلكم
﴿وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أموات﴾ نزلت في قتلى بدر من المسلمين وذلك أنَّهم كانوا يقولون لمَنْ يُقتل فِي سبيل الله: مات فلانٌ وذهب عنه نعيم الدُّنيا فقال الله تعالى: ولا تقولوا للمقتولين في سبيلي هم أمواتٌ ﴿بل﴾ هم ﴿أحياء﴾ لأنَّ أرواح الشُّهداء فِي أجواف طيرٍ خضرٍ تسرح في الجنَّة ﴿ولكن لا تشعرون﴾ بما هم فيه من النَّعيم والكرامة
﴿ولنبلونكم﴾ ولنعاملنَّكم مُعاملة المبتلي ﴿بشيء من الخوف﴾ يعني: خوف العدوِّ ﴿والجوع﴾ يعني: القحط ﴿وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ﴾ يعني: الخسران والنُّقصان فِي المال وهلاك المواشي ﴿والأنفس﴾ يعني: الموت والقتل في الجهاد والمرض والشَّيب ﴿والثمرات﴾ يعني: الجوائح وموت الأولاد فمَنْ صبر على هذه الأشياء استحقَّ الثَّواب ومَنْ لم يصبر لم يستحق يدلُّ على هذا قوله تعالى: ﴿وبشر الصابرين﴾
﴿الذين إذا أصابتهم مصيبة﴾ ممَّا ذُكر ﴿قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون﴾ أَيْ: أموالنا لله ونحن عبيدة يصنع بنا ما يشاء ثمَّ وعدهم على هذا القول المغفرة
﴿أولئك عليهم صلوات من ربهم﴾ أَيْ: مغفرةٌ ﴿ورحمة﴾ ونعمةٌ ﴿وأولئك هم المهتدون﴾ إلى الجنَّة والثَّواب والحقِّ والصَّواب وقيل: زيادة الهدى وقيل: هم المنتفعون بالهداية
﴿إنَّ الصفا والمروة﴾ وهما جبلان معروفان بمكَّة ﴿من شعائر الله﴾ أَيْ: مُتعبَّداته ﴿فمن حجَّ البيت﴾ زاره معظِّماً له ﴿أو اعتمر﴾ قصد البيت للزِّيارة ﴿فلا جناح عليه﴾ فلا إثم عليه ﴿إن يطوَّف بهما﴾ بالجبلين وذلك أنَّ أهل الجاهليَّة كانوا يطوفون بينهما وعليهما صنمان يمسحونهما فكره المسلمون الطَّواف بينهما فأنزل الله تعالى هذه الآية ﴿ومن تطوَّع خيراً﴾ فعل غير المفترض عليه من طوافٍ وصلاةٍ وزكاةٍ وطاعةٍ ﴿فإنَّ الله شاكر﴾ مجازٍ له بعمله ﴿عليم﴾ بنيَّته
﴿إنَّ الذين يكتمون ما أنزلنا﴾ يعني: علماء اليهود ﴿من البينات﴾ من الرَّجم والحدود والأحكام ﴿والهدى﴾ أمر محمد ﷺ ونعته ﴿من بعد ما بيناه للناس﴾ لبني إسرائيل ﴿فِي الكتاب﴾ فِي التَّوراة ﴿أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون﴾ كلُّ شيءٍ إلاَّ الجنَّ والإِنس
﴿إلاَّ الذين تابوا﴾ رجعوا من بعد الكتمان ﴿وأصلحوا﴾ السَّريرة ﴿وبيَّنوا﴾ صفة محمَّدٍ ﷺ ﴿فأولئك أتوب عليهم﴾ أعود عليهم بالمغفرة
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين﴾ يعني: المؤمنين
﴿خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هم ينظرون﴾ أَيْ: ولا هم يُمهلون للرَّجعة والتَّوبة والمعذرة إذ قد زال التَّكليف
﴿وإلهكم إله واحدٌ﴾ كان للمشركين ثلاثمائة وستون صنما يعبدونها من دون الله سبحانه وتعالى فبيَّن الله سبحانه أنَّه إِلههم وأّنَّه واحدٌ فقال: ﴿وإلهكم إله واحدٌ﴾ أَيْ: ليس له في الإِلهيَّة شريكٌ ولا له في ذاته نظيرٌ ﴿لا إله إلا هو الرحمن الرحيم﴾ كذَّبهم الله عز وجل في إشراكهم معه آلهةً فعجب المشركون من ذلك وقالوا: إنَّ محمداً يقول: ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ فلأتنا بآيةٍ إن كان من الصَّادقين فأنزل الله تعالى:
﴿إن في خلق السماوات والأرض﴾ مع عظمهما وكثرة أجزائهما ﴿واختلاف الليل والنهار﴾ ذهابهما ومجيئهما ﴿والفلك﴾ السُّفن ﴿الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ﴾ من التِّجارات ﴿وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ﴾ من مطرٍ ﴿فأحيا به الأرض﴾ أخصبها بعد جدوبتها ﴿وبثَّ﴾ وفرَّق ﴿فيها من كلِّ دابة وتصريف الرياح﴾ تقليبها مرَّة جنوباً ومرَّة شمالاً وباردةً وحارَّة ﴿والسحاب المسخَّر﴾ المُذلَّل لأمر الله ﴿بين السماء والأرض لآياتٍ﴾ لدلالاتٍ على وحدانية الله ﴿لقوم يعقلون﴾ فعلمهم الله عز وجل بهذه الآية كيفية الاستدلال على الصَّانع وعلى توحيده وردَّهم إلى التًّفكُّر فِي آياته والنَّظر فِي مصنوعاته ثمَّ أعلم أنَّ قوماً بعد هذه الآيات والبيِّنات يتَّخذون الأنداد مع علمهم أنَّهم لا يأتون بشيءٍ مما ذكر فقال:
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أنداداً﴾ يعني: الأصنام التي هي أندادٌ بعضها لبعضٍ أَيْ: امثال ﴿يحبونهم كحب الله﴾ أي: كحبِّ المؤمنين الله ﴿والذين آمنوا أشد حباً لله﴾ لأنَّ الكافر يُعرِضُ عن معبوده في وقت البلاء والمؤمن لا يُعرض عن الله في السِّراء والضَّراء والشِّدَّة والرَّخاء ﴿ولو يرى الذين ظلموا﴾ كفروا ﴿إذ يرون العذاب﴾ شدَّة عذاب الله تعالى وقوّته لعلموا مضرَّة اتِّخاذ الأنداد وجواب (لو) محذوفٌ وهو ما ذكرنا
﴿إذ تبرَّأ الذين اتُّبعوا﴾ هذه الآية تتصل بما قبلها لأنَّ المعنى: وإنَّ الله شديد العذاب حين تبرَّأ المُتَّبَعُون في الشِّرك من أتباعهم عند رؤية العذاب يقولون: لم ندعُكم إلى الضَّلالة وإلى ما كنتم ﴿وتقطعت بهم﴾ عنهم ﴿الأسباب﴾ الوصلات التي كانت بينهم في الدُّنيا من الأرحام والموَّدة وصارت مُخالَّتهم عداوةً
﴿وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا﴾ وهم الأتباع ﴿لَوْ أَنَّ لنا كرة﴾ وجعة إلى الدُّنيا تبرَّأنا منهم ﴿كما تبرَّؤوا منا كذلك﴾ أي: كتبرئ بعضهم من بعضٍ ﴿يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عليهم﴾ يعني: عبادتهم الأوثان رجاءَ أن تُقرِّبهم إلى الله تعالى فلمَّا عُذِّبوا على ما كانوا يرجون ثوابه تحسَّروا
﴿يا أيها النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالا طَيِّبًا﴾ نزلت هذه الآية فِي الذين حرَّموا على أنفسهم السَّوائب والوصائل والبحائر فأَعلمَ الله سبحانه أنَّها يَحلُّ أكْلُها وأنَّ تحريمها من عمل الشَّيطان فقال: ﴿ولا تتبعوا خطوات الشيطان﴾ أَيْ: سُبله وطرقه ثمَّ بيَّن عداوة الشَّيطان فقال:
﴿إنما يأمركم بالسوء﴾ بالمعاصي ﴿والفحشاء﴾ البخل وقيل: كلُّ ذنبٍ فيه حدٌّ ﴿وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾ من تحريم الأنعام والحرث
﴿وإذا قيل لهم﴾ أي: لهؤلاء الذين حرَّموا من الحرث والأنعام أشياء: ﴿اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما ألفينا﴾ ما وجدنا ﴿عليه آباءنا﴾ فقال الله تعالى مُنكراً عليهم: ﴿أو لو كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ﴾ يتَّبعونهم؟ والمعنى: أيتبعون آباءهم وإنْ كانوا جهَّالاً؟ ! ثمَّ ضرب للكفَّار مثلاً فقال:
﴿ومثل الذين كفروا﴾ فِي وعظهم ودعائهم إلى الله عز وجل ﴿كمثل﴾ الرَّاعي ﴿الذي ينعق﴾ يصيح بالغنم وهي لا تعقل شيئاً ومعنى يَنْعِق: يصيح وأراد ﴿بما لا يسمع إلاَّ دعاءً ونداءً﴾ البهائم التي لا تعقل ولا تفهم ما يقول الرَّاعي إنَّما تسمع صوتاً لا تدري ما تحته كذلك الذين كفروا يسمعون كلام النبي ﷺ وهم كالغنم إذ كانوا لا يستعملون ما أمره به ومضى تفسير قوله: ﴿صم بكم عمي﴾ ثمَّ ذكر أنَّ ما حرَّمه المشركون حلال فقال:
﴿يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ أَيْ: حلالات ما رزقناكم من الحرث والنَّعم وما حرَّمه المشركون على أنفسهم منهما ﴿واشكروا لله إنْ كنتم إياه تعبدون﴾ أَيْ: إنْ كانت العبادة لله واجبةً عليكم بأنَّه إلهكم فالشُّكر له واجبٌ بأنه منعمٌ عليكم ثمَّ بيَّن المُحرَّم ما هو فقال:
﴿إنما حرَّم عليكم الميتة﴾ وهي كلُّ ما فارقه الرُّوح من غير ذكاةٍ ممَّا يذبح ﴿والدم﴾ يعني: الدَّم السَّائل لقوله في كوضع آخر: ﴿أو دماً مسفوحاً﴾ وقد دخل هذين الجنسين الخصوصُ بالسُّنَّةِ وهو [قوله صلى الله عليه وسلم: أُحلَّت لنا ميتتان ودمان] وقوله تعالى: ﴿ولحم الخنزير﴾ يعني: الخنزير بجميع أجزائه وخصَّ اللَّحم لأنَّه المقصود بالأكل ﴿وما أُهِلَّ به لغير الله﴾ يعني: ما ذُبح للأصنام فذكر عليه غير اسم الله تعالى ﴿فمن اضطر﴾ أَيْ: أُحوج وألجئ في حال الضَّرورة وقيل: مَنْ أكره على تناوله وأُجبر على تناوله كما يُجبر على التَّلفُّظ بالباطل ﴿غير باغٍ﴾ أَيْ: غير قاطعٍ للطَّريق مفارقٍ للأئمة مُشاقًّ للأمَّة ﴿ولا عادٍ﴾ ولا ظالم متعدٍّ فأكلَ ﴿فلا إثم عليه﴾ وهذا يدلُّ على أنَّ العاصي بسفره لا يستبيح أكل الميتة عند الضَّرورة ﴿إنَّ الله غفور﴾ للمعصية فلا يأخذ بما جعل فِيهِ الرُّخصة ﴿رحيمٌ﴾ حيث رخَّص للمضطر
﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ من الكتاب﴾ يعني: رؤساء اليهود ﴿ويشترون به﴾ بما أنزل الله من نعت محمد ﷺ في كتابهم ﴿ثمناً قليلاً﴾ يعني: ما يأخذون من الرُّشى على كتمان نعته ﴿أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلا النَّارَ﴾ إلاَّ ما هو عاقبته النَّار ﴿ولا يكلمهم الله يوم القيامة﴾ أَيْ: كلاماً يسرُّهم ﴿ولا يزكيهم﴾ ولا يُطهِّرهم من دنس ذنوبهم
﴿أولئك الذين اشتروا الضلالة﴾ استبدلوها ﴿بالهدى والعذاب بالمغفرة﴾ حين جحدوا أمر محمَّدٍ ﷺ وكتموا نعته ﴿فما أصبرهم﴾ أَيْ: فأيُّ شيءٍ صبَّرهم على النَّار ودعاهم إليها حين تركوا الحقَّ واتبعوا الباطل؟ ! وهذا استفهامٌ معناه التَّوبيخ لهم (وقيل: ما أجرأهم على النار)
﴿ذلك﴾ أَيْ: ذلك العذاب لهم ﴿بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الكتاب بالحق﴾ يعني: القرآن فاختلفوا فيه ﴿وإنَّ الذين اختلفوا في الكتاب﴾ فقالوا: إنَّه رَجَزٌ وشِعرٌ وكهانةٌ وسحرٌ ﴿لفي شقاق بعيد﴾ لفي خلافٍ للحقِّ طويلٍ
﴿ليس البر﴾ كان الرَّجل فِي ابتداء الإِسلام إذا شهد الشَّهادتين وصلَّى إلى أَيٍّ ناحيةٍ كانت ثمَّ مات على ذلك وجبت له الجنَّة فلمَّا هاجر رسول الله ﷺ ونزلت الفرائض وصُرفت القِبلة إلى الكعبة أنزل الله تعالى هذه الآية فقال: ﴿ليس البر﴾ كلَّه أن تُصلُّوا ولا تعملوا غير ذلك ﴿ولكنَّ البرَّ﴾ أَيْ: ذا الْبِرَّ ﴿مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ والكتاب والنَّبيين وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ﴾ أَيْ: على حبِّ المال (وقيل: الضميرُ راجعٌ إلى الإِيتاء) ﴿ذوي القربى﴾ قيل: عنى به قرابة النبي ﷺ (وقيل: أراد به قرابة الميت) ﴿وابن السبيل﴾ هو المنقطع يمرُّ بك والضَّيف ينزل بك ﴿وفي الرِّقاب﴾ أَيْ: وفي ثمنها يعني: المكاتبين ﴿والموفون بعهدهم إذا عاهدوا﴾ اللَّهَ أو النَّاسَ ﴿والصابرين في البأساء﴾ الفقر ﴿والضراء﴾ المرض ﴿وحين البأس﴾ وقت القتال في سبيل الله ﴿أولئك﴾ أهل هذه الصفة هم ﴿الذين صدقوا﴾ في إيمانهم
﴿يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى﴾ نزلت في حَيَّينِ من العرب أحدهما أشرف من الآخر فقتل الأوضع من الأشرف قتلى فقال الأشرف: لنقتلنَّ الحرَّ بالعبد والذَّكر بالأنثى ولَنُضاعِفَنَّ الجراح فأنزل الله تعالى هذه الآية وقوله: ﴿كُتب﴾ : أُوجب وفُرض ﴿عليكم القصاص﴾ اعتبار المماثلة والتَّساوي بين القتلى حتى لا يجوز أن يقتل حرٌّ بعبدٍ أو مسلمٌ بكافرٍ فاعتبارُ المماثلةِ واجبٌ وهو قوله: ﴿الحرُّ بالحرِّ والعبدُ بالعبدِ والأنثى بالأنثى﴾ ودلَّ قوله في سورة المائدة: ﴿أنَّ النَّفس بالنَّفس﴾ على أنَّ الذَّكر يُقتل بالأنثى فيقتل الحرُّ بالحرَّة ﴿فمن عفي له﴾ أَيْ: تُرك له ﴿من﴾ دم ﴿أخيه﴾ المقتول ﴿شيءٌ﴾ وهو أن يعفو بعض الأولياء فيسقط القود ﴿فاتباع بالمعروف﴾ أَيْ: فعلى العافي الذي هو ولي الدَّم أن يتبع القاتل بالمعروف وهو أن يطالبه بالمال من غير تشدُّد وأذىً وعلى المطلوب منه المال ﴿أداءٌ﴾ تأدية المال إلى العافي ﴿بإحسانٍ﴾ وهو ترك المطل والتَّسويف ﴿ذلك تخفيفٌ من ربكم ورحمة﴾ هو أنَّ الله تعالى خَيَّرَ هذه الأمَّة بين القصاص والدية والعفو ولم يكن ذلك إلاَّ لهذه الأُمَّة ﴿فمن اعتدى﴾ أَيْ: ظلم بقتل القاتل بعد أخذ الدية ﴿فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾
﴿ولكم في القصاص حياة﴾ أَيْ: في إثباته حياةٌ وذلك أنَّ القاتل إذا قُتل ارتدع عن القتل كلُّ مَنْ يهمُّ بالقتل فكان القصاص سبباً لحياة الذي يُهَمُّ بقتله ولحياة الهامِّ أيضاً لأنه إنْ قَتلَ قُتل ﴿يا أولي الألباب﴾ يا ذوي العقول ﴿لعلكم تتقون﴾ إراقة الدِّماء مخافة القصاص
﴿كتب عليكم﴾ كان أهل الجاهليَّة يُوصون بمالهم للبعداء رياءً وسُمعةً ويتركون أقاربهم فقراء فأنزل الله تعالى هذه الآية ﴿كتب عليكم﴾ فُرض عليكم وأُوجب ﴿إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ﴾ أَيْ: أسبابه ومُقدِّماته ﴿إنْ ترك خيراً﴾ مالاً ﴿الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف﴾ يعني: لا يزيد على الثلث ﴿حقاً﴾ أي: حقَّ ذلك حقَّاً ﴿على المتقين﴾ الذين يتَّقون الشِّرك وهذه الآية منسوخة بآية المواريث ولا تجب الوصية على أحدٍ (ولا تجوز الوصية للوارث)
﴿فَمَنْ بدَّله بعد ما سمعه﴾ أَيْ: بدَّل الإِيصاء وغيَّره من وصيٍّ ووليٍّ وشاهدٍ بعد ما سمعه عن الميت ﴿فإنما إثمه﴾ إثم التَّبديل ﴿عَلَى الَّذِينَ يبدلونه﴾ وبرئ الميِّت ﴿إن الله سميع﴾ سمع ما قاله المُوصي ﴿عليم﴾ بنيَّته وما أراد فكانت الأولياء والأوصياء يمضون وصيه الميت بعد نزول هذه الآية وإن استغرقت المال فأنزل الله تعالى:
﴿فمن خاف﴾ أَيْ: علم ﴿من موصٍ جنفاً﴾ خطأً في التوصية من غير عمدٍ وهو أن يُوصي لبعض ورثته أو يوصي بماله كلِّه خطأً ﴿أو إثماً﴾ أَيْ: قصدا للميل فخاف من الوصية وفعل ما لا يجوز مُتعمِّداً ﴿فأصلح﴾ بعد موته بين ورثته وبين المُوصى لهم ﴿فلا إثم عليه﴾ أَيْ: إِنَّه ليس بمبدلٍ يأثم بل هو متوسطٌ للإِصلاح وليس عليه إثمٌ
﴿يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام﴾ يعني صيام شهر رمضان ﴿كما كتب﴾ يعني: كما أُوجب ﴿على الذين من قبلكم﴾ أَيْ: أنتم مُتَعَبِّدون بالصَّيام كما تُعبِّد مَنْ قبلكم ﴿لعلكم تتقون﴾ لكي تتقوا الأكل والشُّرب والجماع في وقت وجوب الصَّوم
﴿أياماً معدودات﴾ يعني: شهر رمضان ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ﴾ فأفطر ﴿فعدَّةٌ﴾ أَيْ: فعليه عدَّةٌ أَيْ: صوم عدَّةٍ يعني: بعدد ما أفطر ﴿مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ سوى أيَّام مرضه وسفره ﴿وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين﴾ هذا كان في ابتداء الإسلام مَنْ أطاق الصوم جاز له أن يُفطر ويُطعم لكلِّ يومٍ مسكيناً مُدَّاً من طعام فَنُسِخ بقوله: ﴿فمن شهد منكم الشهر فليصمه﴾ ﴿فمن تطوع خيراً﴾ زاد في الفدية على مُدٍّ واحدٍ ﴿فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ﴾ أيْ: والصَّوم خيرٌ لكم من الإِفطار والفدية وهذا (إنَّما) كان قبل النَّسخ
﴿شهر رمضان﴾ أَيْ: هي شهر رمضان يعني: تلك الأيام المعدودات شهر رمضان ﴿الذي أُنزل فيه القرآن﴾ أنزل جُملةً واحدةً من اللَّوح المحفوظ في ليلة القدر من شهر رمضان فوضع في بيت العزَّة في سماء الدُّنيا ثمَّ نزل به جبريل عليه السَّلام على محمد ﷺ نجوماً نجوماً عشرين سنةً ﴿هدىً للناس﴾ هادياً للنَّاس ﴿وبينات من الهدى﴾ وآياتٍ واضحاتٍ من الحلال والحرام والحدود والأحكام ﴿والفرقان﴾ الفرق بين الحقِّ والباطل ﴿فمن شهد منكم الشهر﴾ فمَنْ حضر منكم بلده في الشَّهْرَ ﴿فَلْيَصُمْهُ﴾ ﴿وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سفرٍ فعدَّةٌ من أيام أخر﴾ أعاد هاهنا تخيير المريض والمسافر لأنَّ الآية الأولى وردت في التَّخيير للمريض والمسافر والمقيم وفي هذه الآية نُسخ تخيير المقيم فأُعيد ذكر تخيير المريض والمسافر ليعلم أنَّه باقٍ على ما كان ﴿يريد الله بكم اليسر﴾ بالرُّخصة للمسافر والمريض ﴿وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ لأنَّه لم يشدِّد ولم يُضيِّق عليكم ﴿ولتكملوا﴾ (عطف على محذوف) والمعنى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ العسر لِيَسْهُلَ عليكم ﴿ولتكملوا العدَّة﴾ أَيْ: ولتكملوا عدَّة ما أفطرتم بالقضاء إذا أقمتم وبرأتم ﴿ولتكبروا الله﴾ يعني التَّكبير ليلة الفطر إذا رُئي هلال شوال ﴿على ما هداكم﴾ أرشدكم من شرائع الدِّين
﴿وإذا سألك عبادي عني﴾ الآية سأل بعض الصَّحابة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: أقريبٌ ربُّنا فنناجيَه أم بعيدٌ فنناديَه؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية وقوله تعالى ﴿فإني قريبٌ﴾ يعني: قربه بالعلم ﴿أجيب﴾ أسمع ﴿دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي﴾ أَيْ: فليجيبوني بالطَّاعة وتصديق الرُّسل ﴿وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون﴾ ليكونوا على رجاءٍ من إصابة الرُّشد
﴿أحلَّ لكم ليلة الصيام﴾ الآية كان في ابتداء الإسلام لا تحلُّ المجامعة في ليالي الصَّوم ولا الأكل ولا الشُّرب بعد العشاء الآخرة فأحلَّ الله تعالى ذلك كلَّه إلى طلوع الفجر وقوله: ﴿الرفث إلى نسائكم﴾ يعني: الإِفضاء إليهنَّ بالجماع ﴿هنَّ لباسٌ لكم﴾ أَيْ: فراشٌ ﴿وأنتم لباس﴾ لحافٌ ﴿لهنَّ﴾ عند الجماع ﴿علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم﴾ تخونون أنفسكم بالجماع ليالي رمضان وذلك أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وغيره فعلوا ذلك ثمَّ أتوا رسول الله ﷺ يسألونه فنزلت الرُّخصة ﴿فتاب عليكم﴾ فعاد عليكم بالترخيص ﴿وعفا عنكم﴾ ما فعلتم قبل الرُّخصة ﴿فالآن باشروهنَّ﴾ جامعوهنَّ ﴿وابتغوا﴾ واطلبوا ﴿ما كتب الله لكم﴾ ما قضى الله سبحانه لكم من الولد ﴿وكلوا واشربوا﴾ اللَّيل كلَّه ﴿حتى يتبين لكم الخيط الأبيض﴾ يعني: بياض الصُّبح ﴿من الخيط الأسود﴾ من سواد اللَّيل ﴿من الفجر﴾ بيانُ أنَّ هذا الخيط الأبيض من الفجر لا من غيره ﴿ثمَّ أتموا الصيام إلى الليل﴾ بالامتناع من هذه الأشياء ﴿ولا تباشروهنَّ وأنتم عاكفون في المساجد﴾ نهيٌ للمعتكف عن الجماع لأنه يُفسده ﴿تلك﴾ أَيْ: هذه الأحكام التي ذكرها ﴿حدود الله﴾ ممنوعاته ﴿فلا تقربوها﴾ فلا تأتوها ﴿كذلك﴾ أَيْ: مثل هذا البيان ﴿يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون﴾ المحارم
﴿وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾ أَيْ: لا يأكل بعضكم مال بعضٍ بما لا يحلُّ في الشَّرع من الخيانة والغضب والسَّرقة والقمار وغير ذلك ﴿وتُدْلُوا بها إلى الحكام﴾ ولا تصانعوا (أي: لاترشوا) بأموالكم الحكَّام لِتقتطعوا حقَّاً لغيركم ﴿لتأكلوا فريقاً﴾ طائفةً ﴿من أموال الناس بالإِثم﴾ بأن ترشوا الحاكم ليقضي لكم ﴿وأنتم تعلمون﴾ أنَّكم مُبطلون وأنَّه لا يحلُّ لكم والأصل في الإِدلاء: الإِرسال من قولهم: أدليتُ الدَّلو
﴿يسألونك عن الأهلة﴾ سأل معاذ بن جبلٍ رسولَ الله ﷺ عن زيادة القمر ونقصانه فأنزل الله تعالى: ﴿يسألونك عن الأهلة﴾ وهي جمع هلال ﴿قل هي مواقيت للناس والحج﴾ أخبر الله عنه أنَّ الحكمة في زيادته ونقصانه زوال الالتباس عن أوقات النَّاس فِي حجِّهم ومَحِلِّ دُيونِهم وعِدَدِ نسائهم وأجور أُجرائهم ومُدَد حواملهم وغير ذلك ﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا﴾ كان الرَّجل في الجاهلية إذا إذا أحرم نقب من بيته نقباً من مؤخره يدخل فيه ويخرج فأمرهم الله بتر ك سنَّة الجاهليَّة وأعلمهم أنَّ ذلك ليس ببرٍّ ﴿ولكن البرَّ﴾ برُّ ﴿من اتقى﴾ مخالفةَ الله ﴿وأتوا البيوت من أبوابها﴾ الآية
﴿وقاتلوا في سبيل الله﴾ الآية نزلت هذه الآية في صلح الحديبية وذلك أن رسول الله ﷺ لمَّا انصرف من الحديبية إلى المدينة المنورة حين صدَّه المشركون عن البيت صالحهم على أن يرجع عامة القابل ويُخَلُّوا له مكَّة ثلاثة أيَّام فلمَّا كان العام القابل تجهزَّ رسول الله ﷺ وأصحابه لعمرة القضاء وخافوا أن لا تفي لهم قريشٌ وأن يصدُّوهم عن البيت ويقاتلوهم وكره أصحاب رسول الله ﷺ قتالهم في الشَّهر الحرام في الحرم فأنزل الله تعالى: ﴿وقاتلوا في سبيل الله﴾ أَيْ: في دين الله وطاعته ﴿الذين يقاتلونكم﴾ يعني: قريشاً ﴿ولا تعتدوا﴾ ولا تظلموا فتبدؤوا في الحرم بالقتال
﴿واقتلوهم حيث ثقفتموهم﴾ وجدتموه وأخذتموهم ﴿وأخرجوهم من حيث أخرجوكم﴾ يعني: من مكَّة ﴿والفتنة أشدّ من القتل﴾ يعني: وشركُهم بالله تعالى أعظمُ من قتلكم إيَّاهم في الحرم ﴿وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فيه﴾ نُهوا عن ابتدائهم بقتلٍ أو قتالٍ حتى يبتدىء المشركون ﴿فإن قاتلوكم فاقتلوهم﴾ أَيْ: إن ابتدؤوا بقتالكم عند المسجد الحرام فلكم القتال على سبيل المكافأة ثم بيَّن أنهم إن انتهوا أَيْ: كفُّوا عن الشِّرك والكفر والقتال وأسلموا ﴿فإنَّ الله غفور رحيم﴾ أَيْ: يغفر لهم كفرهم وقتالهم من قبل وهو منعمٌ عليهم بقبول توبتهم وإيمانهم بعد كفرهم وقتالهم
قال تعالى ﴿فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾
﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ أَيْ: شركٌ يعني: قاتلوهم حتى يُسلموا وليس يُقبل من المشرك الوثنيِّ جزيةٌ ﴿ويكون الدين﴾ أَيْ: الطَّاعة والعبادة ﴿لله﴾ وحده فلا يُعبد دونه شيءٌ ﴿فإن انتهوا﴾ عن الكفر ﴿فلا عدوان﴾ أَيْ: فلا قتل ولا نهب ﴿إلاَّ على الظالمين﴾ والكافرين
﴿الشهر الحرام بالشهر الحرام﴾ أَيْ: إن قاتلوكم في الشَّهر الحرام فقاتلوهم في مثله ﴿والحرمات قصاص﴾ أَي: إن انتهكوا لكم حرمةً فانتهكوا منهم مثل ذلك أَعلمَ الله سبحانه أنَّه لا يكون للمسلمين أنْ ينتهكوها على سبيل الابتداء ولكن على سبيل القصاص وهو معنى قوله: ﴿فمن اعتدى عليكم﴾ الآية
﴿وأنفقوا في سبيل الله﴾ في طاعة الله تعالى من الجهاد وغيره ﴿ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة﴾ ولا تُمسكوا عن الإِنفاق في الجهاد ﴿وأحسنوا﴾ أَيْ: الظنَّ بالله تعالى في الثَّواب والإِخلاف عليكم
﴿وأتموا الحج والعمرة لله﴾ بمناسكها وحدودها وسننها وتأدية كلِّ ما فيهما ﴿فإن أحصرتم﴾ حُبستم ومُنعتم دون تمامهما ﴿فما استيسر﴾ فواجبٌ عليكم ما تيسَّر ﴿من الهدي﴾ وهو ما يُهدى إلى بيت الله سبحانه أعلاه بدنةٌ وأوسطه بقرة وأدناه شاةٌ فعليه ما تيسَّر من هذه الأجناس ﴿ولا تحلقوا رؤوسكم﴾ أَيْ: لا تَحِلُّوا من إحرامكم ﴿حتى يبلغ الهدي محلَّه﴾ حتى يُنحر الهدي بمكَّة في بعض الأقوال وهو مذهب أهل العراق وفي قول غيرهم: مَحِلُّه حيث يَحِلُّ ذبحه ونحره وهو حيث أُحصر وهو مذهب الشَّافعي ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى من رأسه﴾ يعني الهوام تقع في الشَّعر وتكثر فحلق ﴿فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ﴾ وهو صيام ثلاثة أيَّام ﴿أو صدقة﴾ وهي إطعام ستة مساكين لكلِّ مسكينٍ مُدَّان ﴿أو نسك﴾ ذبيحةٍ ﴿فإذا أمنتم﴾ أَيْ: من العدوِّ أو كان حجٌّ ليس فيه خوفٌ من عدوٍّ ﴿فمن تمتع بالعمرة إلى الحج﴾ أيْ: قدم مكَّة مُحرماً واعتمر في أشهر الحجِّ وأقام حلالا بمكة حتى ينشئ منها الحجَّ عامَه ذلك واستمتع بمحظورات الإحرام لأنَّه حلَّ بالعمرة فمن فعل هذا ﴿ف﴾ عليه ﴿ما استيسر من الهدي فمن لم يجد﴾ ثمن الهدي ﴿فصيام ثلاثة أيام في﴾ أشهر ﴿الحج وسبعة إذا رجعتم﴾ أَيْ: بعد الفراغ من الحجِّ ﴿تلك عشرة كاملة ذَلِكَ﴾ أَيْ: ذلك الفرض الذي أُمرنا به من الهدي أو الصِّيام ﴿لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ أَيْ: لمَنْ لم يكن من أهل مكَّة
﴿الحج أشهر﴾ أًيْ: أشهرُ الحجِّ أشهرٌ ﴿معلوماتٌ﴾ مُوقَّتةٌ معيَّنةٌ وهي شوال وذو القعدة وتسعُ من ذي الحجَّة ﴿فمن فرض﴾ أوجب على نفسه ﴿فيهنَّ الحجَّ﴾ بالإحرام والتَّلبية ﴿فلا رفث﴾ فلا جِماعَ ﴿ولا فسوق﴾ ولا معاصي ﴿ولا جدال﴾ وهو أَنْ يُجادلَ صاحبه حتى يُغضبه والمعنى: لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا ﴿فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ الله﴾ أَيْ: يُجازيكم به الله العالم ﴿وتزوَّدوا﴾ نزلت في قومٍ كانوا يحجُّون بلا زادٍ ويقولون: نحن متوكِّلون ثمَّ كانوا يسألون النَّاس وربَّما ظلموهم وغصبوهم فأمرهم الله أَنْ يتزوَّدوا فقال ﴿وتزوَّدوا﴾ ما تتبلَّغون به ﴿فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾ يعني: ما تكفُّون به وجوهكم عن السُّؤال وأنفسكم عن الظلم
﴿وليس عليكم جناح﴾ كان قومٌ يزعمون أنَّه لا حَجَّ لتاجرٍ ولا جَمَّالٍ فأعلمَ اللَّهُ تعالى أنه لا حرج في ابتغاء الرِّزق بقوله: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ ربكم﴾ أَيْ: رزقاً بالتجِّارة في الحجِّ ﴿فإذا أفضتم﴾ أَيْ: دفعتم وانصرفتم من ﴿من عرفات فَاذْكُرُوا اللَّهَ﴾ بالدُّعاء والتَّلبية ﴿عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ واذكروه كما هداكم﴾ أَيْ: ذكراً مثلَ هدايته إيَّاكم أَيْ: يكون جزاءً لهدايته إيَّاكم ﴿وإن كنتم من قبله﴾ أَيْ: وما كنتم من قبل هُدَاه إلاَّ ضالِّين
﴿ثمَّ أفيضوا من حيث أفاض الناس﴾ يعني: العرب وعامِّة النَّاس إلاَّ قريشاً وذلك أنَّهم كانوا لا يقفون بعرفات وإنَّما يقفون بالمزدلفة ويقولون نحن أهل حرم الله فلا نخرج منه فأمرهم الله أن يقفوا بعرفاتٍ كما يقف سائر النَّاس حتى تكون الإفاضة معهم منها ﴿فإذا قضيتم مناسككم﴾ أَيْ: فرغتم من عبادتكم التي أمرتم بها في الحجِّ ﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ كذكركم آباءَكم﴾ كانت العرب إذا فرغوا من حجِّهم ذكروا مفاخر آبائهم فأمرهم الله عز وجل بذكره ﴿أو أشدَّ ذكراً﴾ يعني: وأشدَّ ذكراً ﴿فمن الناس﴾ وهم المشركون كانوا يسألون المال والإبل والغنم ولا يسألون حظَّاً في الآخرة لأَنهم لم يكونوا مؤمنين بها والمسلمون يسألون الحظَّ في الدُّنيا والآخرة وهو قوله:
قال تعالى ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ﴾
﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حسنة﴾ ومعنى ﴿في الدنيا حسنة﴾ : العمل بما يرضي الله ﴿وفي الآخرة حسنة﴾ : الجنة
﴿أولئك لهم نصيبٌ مما كسبوا﴾ أَيْ: ثوابُ ما عملوا ﴿والله سريعُ الحساب﴾ مع هؤلاء لأنَّه يغفر سيئاتهم ويضاعف حسناتهم
﴿واذكروا الله في أيام معدودات﴾ يعني: التَّكبير أدبار الصَّلوات في أيام التَّشريق ﴿فمن تعجَّل في يومين﴾ من أيام التَّشريق فنفر في اليوم الثّاني من مِنىً ﴿فلا إثم عليه﴾ في تعجُّله ﴿ومن تأخر﴾ عن النَّفر إلى اليوم الثالث ﴿فلا إثم عليه﴾ في تأخُّره ﴿لمن اتقى﴾ أَيْ: طرحُ المأثم يكون لمن اتَّقى في حجِّه تضييعَ شيءٍ ممَّا حدَّه الله تعالى
﴿ومن الناس مَن يعجبك قوله﴾ يعني: الأخنس بن شريق وكان منافقاً حلو الكلام حسن العلانية سيئ السَّريرة وقوله ﴿في الحياة الدنيا﴾ لأنَّ قوله إنَّما يعجب النَّاس في الحياة الدُّنيا ولا ثواب له عليه في الآخرة ﴿ويشهد الله على ما في قلبه﴾ لأنَّه كان يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: واللَّهِ إنِّي بك لمؤمنٌ ولك محبٌّ ﴿وهو ألدُّ الخصام﴾ أَيْ: شديد الخصومة وكان جَدِلاً بالباطل
﴿وإذا تولى سعى في الأرض﴾ الآية وذلك أنَّه رجع إلى مكَّة فمرَّ بزرعٍ وحُمُرٍ للمسلمين فأحرق الزَّرع وعقر الحُمُر فهو قوله: ﴿ويهلك الحرث والنسل﴾ أَيْ: نسل الدَّوابِّ
﴿وإذا قيل له اتق الله﴾ وإذا قيل له: مهلاً مهلاً ﴿أخذته العزَّةُ بالإِثم﴾ حملته الأنفة وحميَّة الجاهليَّة على الفعل بالإِثم ﴿فحسبه جهنم﴾ كافيه الجحيم جزاءً له ﴿ولبئس المهاد﴾ ولبئس المقرُّ جهنَّم
﴿ومن الناس مَنْ يشري﴾ أَيْ: يبيع ﴿نفسه﴾ يعني: يبذلها لأوامر الله تعالى ﴿ابتغاء مرضاة الله﴾ لطلب رضا الله نزلت في صهيب الرُّوميِّ
﴿يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السِّلْمِ﴾ أَيْ: في الإسلام ﴿كافة﴾ أيْ: جميعاً أيْ: في جميع شرائعه نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه وذلك أنَّهم بعدما دخلوا في الإِسلام عظَّموا السَّبت وكرهوا لُحمان الإِبل فأُمروا بترك ذلك وإنَّه ليس من شرائع الإِسلام تحريم السَّبت وكراهة لحوم الإبل ﴿ولا تتبعوا خطوات الشيطان﴾ أيْ: آثاره ونزغاته ﴿إنه لكم عدوٌّ مبين﴾
﴿فإن زللتم﴾ تنحَّيتم عن القصد بتحريم السَّبْت ولحوم الإِبل ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ البينات﴾ أَيْ: القرآن ﴿فاعلموا أنَّ الله عزيز﴾ في نقمته لاتعجزونه ولا يُعجزه شيءٌ ﴿حكيم﴾ فيما شرع لكم من دينه
﴿هل ينظرون﴾ أَيْ: هل ينتظرون يعني: التَّاركين الدُّخول في الإِسلام و (هل) استفهامٌ معناه النَّفي أيْ: ما ينتظر هؤلاء في الآخرة ﴿إلاَّ أن يأتيهم﴾ عذاب ﴿اللَّهُ في ظلل من الغمام﴾ والظُّلَل جمع: ظُلَّة وهي كلُّ ما أظلَّك والمعنى: إنَّ العذاب يأتي فيها ويكون أهول ﴿والملائكة﴾ أَيْ: الملائكةُ الذين وُكِّلوا بتعذيبهم ﴿وقضي الأمر﴾ فُرغ لهم ممَّا يوعدون بأنْ قُدِّر ذلك عليهم ﴿وإلى الله ترجع الأمور﴾ يعني: في الجزاء من الثَّواب والعقاب
﴿سل بني إسرائيل﴾ سؤال توبيخ وتبكيتٍ وتقريعٍ (كما يُقال: سله كم وعظته فلم يقبل) ﴿كم آتيناهم من آية بينةً﴾ من فلق البحر وإنجائهم من عدوِّهم وإنزال المنِّ والسًّلوى وغير ذلك ﴿وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جاءته﴾ يعني: ما أنعم الله به عليهم من العلم بشأن محمِّدٍ عليه السَّلام فبدَّلوه وغيَّروه
﴿زين للذين كفروا﴾ أَيْ: رؤساء اليهود ﴿الحياة الدُّنيا﴾ فهي هِمَّتهم وطِلبتهم فهم لا يريدون غيرها ﴿ويسخرون من الذين آمنوا﴾ أَيْ: فقراء المهاجرين ﴿وَالَّذِينَ اتَّقَوْا﴾ الشِّرك وهم هؤلاء الفقراء ﴿فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ لأنَّهم في الجنَّة وهي عاليةٌ والكافرين في النَّار وهي هاويةٌ ﴿وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يشاء بغير حساب﴾ يريد: إِنَّ أموال قريظة والنَّضير تصيرُ إليهم بلا حسابٍ ولا قتالٍ بل بأسهل شيءٍ وأيسره
﴿كان الناس﴾ على عهد إبراهيم عليه السَّلام ﴿أمة واحدة﴾ كفاراً كلَّهم ﴿فبعث الله النبيين﴾ إبراهيم وغيره ﴿وأنزل معهم الكتاب﴾ والكتابُ اسم الجنس ﴿بالحق﴾ بالعدل والصِّدق ﴿ليحكم بين الناس﴾ أَيْ: الكتابُ ﴿فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بغياً﴾ أَيْ: وما اختلفَ في أمر محمَّدٍ بعد وضوح الدّلالات لهم بغياً وحسداً إلاَّ اليهودُ الذين أوتوا الكتاب لأنَّ المشركين - وإن اختلفوا في أمر محمَّد عليه السَّلام - فإنَّهم لم يفعلوا ذلك للبغي والحسد ولم تأتهم البيِّنات في شأن محمد عليه السَّلام كما أتت اليهود فاليهود مخصوصون من هذا الوجه ﴿فهدى الله الذين آمنوا﴾ ﴿ل﴾ معرفة ﴿ما اختلفوا فيه من الحق بإذنه﴾ بعلمه وإرادته فيهم
﴿أم حسبتم أن تدخلوا الجنة﴾ نزلت في فقراء المهاجرين حين اشتدَّ الضُّرُّ عليهم لأنَّهم خرجوا بلا مالٍ فقال الله لهم - أَيْ لهؤلاء المهاجرين -: أم حسبتم أن تدخلوا الجنَّة من غير بلاءٍ ولا مكروهٍ ﴿ولما يأتكم﴾ أَيْ: ولم يأتكم ﴿مثل الذين خلوا﴾ أَيْ: مثل محنة الذين مضوا ﴿من قبلكم﴾ أَيْ: ولم يُصبكم مثل الذي أصابهم فتصبروا كما صبروا ﴿مَسَّتْهُم البأساء﴾ الشدَّة ﴿والضرَّاء﴾ المرض والجوع ﴿وزلزلوا﴾ أَيْ: حُرِّكوا بأنواع البلاء ﴿حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نصر الله﴾ أَيْ: حين استبطؤوا النَّصر فقال الله: ﴿أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ أَيْ: أنا ناصر أوليائي لا محالة
﴿يسألونك ماذا ينفقون﴾ نزلت في عمرو بن الجموح وكان شيخاً كبيراً وعنده مالٌ عظيمٌ فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ماذا ننفق من أموالنا؟ وأين نضعُها؟ فنزلت هذه الآية قال كثيرٌ من المفسرين: هذا كان قبل فرض الزكاة فلمَّا فُرضت الزَّكاة نسخت الزَّكاة هذه الآية
﴿كتب عليكم القتال﴾ فُرض وأوجب عليكم الجهاد ﴿وهو كرهٌ لكم﴾ أَيْ: مشقَّةٌ عليكم لما يدخل منه على النَّفس والمال ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ لأنَّ في الغزو إحدى الحسنيين إمَّا الظفر والغنيمة وإمَّا الشَّهادة والجنَّة ﴿وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شيئاً﴾ أَيْ: القعود عن الغزو ﴿وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ﴾ لما فيه من الذُّل والفقر وحرمان الغنيمة والأجر ﴿والله يعلم﴾ ما فيه مصالحكم فبادروا إلى ما يأمركم به وإنْ شقَّ عليكم
﴿يسألونك عن الشهر الحرام﴾ نزلت في سريةٍ بعثها رسول الله ﷺ فقاتلوا المشركين وقد أهلَّ رجب وهم لا يعلمون ذلك فاستعظم المشركون سفك الدِّماء في رجب فأنزل الله تعالى: ﴿يسألونك﴾ يعني: المشركين وقيل: هم المسلمون ﴿عن الشهر الحرام قتالٍ فيه﴾ أَيْ: وعن قتالٍ فيه ﴿قل قتالٌ فيه كبير﴾ ثمَّ ابتدأ فقال: ﴿وصد﴾ ومنعٌ ﴿عن سبيل الله﴾ أَيْ: طاعته يعني: صدَّ المشركين رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم وأصحابه عن البيت الحرام عام الحديبية ﴿وكفر به﴾ بالله ﴿والمسجد الحرام﴾ أَيْ: وصدٌّ عن المسجد الحرام ﴿وإخراج أهله﴾ أَيْ: أهل المسجد يعني: رسول الله ﷺ وأصحابه حين أُخرجوا من مكَّة ﴿منه أكبرُ﴾ وأعظم وِزْراً ﴿عند الله والفتنة﴾ أَيْ: والشِّرك ﴿أكبر من القتل﴾ يعني: قتل السِّرية المشركين في رجب ﴿ولا يزالون﴾ يعني: المشركين ﴿يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم﴾ إلى الكفر ﴿إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ﴾ الإِسلام أَيْ: يرجع فيموت على الكفر ﴿فأولئك حبطت أعمالهم﴾ (بطلت أعمالهم) فقال هؤلاء السَّرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أصبنا القوم في رجب أنرجو أن يكون لنا أجر المجاهدين في سبيل الله؟ فأنزل الله تعالى:
﴿إنَّ الذين آمنوا والذين هاجروا﴾ فارقوا عشائرهم وأوطانهم ﴿وجاهدوا﴾ المشركين ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ في نصرة دين الله ﴿أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم﴾ غفر لهؤلاء السِّرية ما لم يعلموا ورحمهم والإِجماعُ اليوم منعقدٌ على أنَّ قتال المشركين يجوز في جميع الأشهر حلالها وحرامها
﴿يسألونك عن الخمر والميسر﴾ نزلت في عُمَر ومعاذٍ وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم أتوا رسول الله ﷺ فقالوا: أفتنا في الخمر والميسر فإنَّهما مَذْهَبةٌ للعقل مسلبة للمال فنزل قوله عز وجل ﴿يسألونك عن الخمر﴾ وهو كلُّ مسكرٍ مخالطٍ للعقل مُغطٍّ عليه ﴿والميسر﴾ : القمار ﴿قل فيهما إثم كبير﴾ يعني: الإِثم بسببهما لما فيهما من المخاصمة والمشاتمة وقول الفحش والزُّور وغير ذلك ﴿ومنافع للناس﴾ ما كانوا يصيبونه من المال في بيع الخمر والتِّجارة فيها واللَّذَّة عند شربها ومنفعةُ الميسر ما يُصاب من القمار ويرتفق به الفقراء ثمَّ بيَّن أنَّ ما يحصل بسببهما من الإِثم أكبر من نفعهما فقال ﴿وإثمهما أكبر من نفعهما﴾ وليست هذه الآيةُ المُحرِّمةَ للخمر والميسر إنَّما المُحرِّمةُ التي في سورة المائدة وهذه الآية نزلت قبل تحريمها ﴿ويسألونك ماذا ينفقون﴾ نزلت في سؤال عمرو بن الجموح لمَّا نزل قوله: ﴿فللوالدين والأقربين﴾ في سؤاله أعاد السّؤال وسأل عن مقدار ما ينفق؟ فنزل قوله: ﴿قل العفو﴾ أَيْ: ما فضل من المال عن العيال وكان الرَّجل بعد نزول هذه الآية يأخذ من كسبه ما يكفيه وينفق باقيه إلى أن فُرضت الزَّكاة فنسخت آية الزَّكاة التي في براءة هذه الآية وكلَّ صدقةٍ أُمروا بها قبل الزَّكاة ﴿كذلك﴾ أَيْ: كبيانه في الخمر والميسر أو في الإِنفاق ﴿يبين الله لكم الآيات﴾ لتتفكَّروا في أمر الدُّنيا والآخرة فتعرفوا فضل الآخرة على الدُّنيا
﴿ويسألونك عن اليتامى﴾ كانت العرب في الجاهليَّة يُشدِّدون في أمر اليتيم ولا يُؤاكلونه وكانوا يتشاءمون بملابسة أموالهم فلمَّا جاء الإِسلام سألوا رسول الله ﷺ عن ذلك؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية وقوله: ﴿قل إصلاح لهم خير﴾ يعني: الإِصلاح لأموالهم من غير أجرةٍ خيرٌ وأعظم أجراً ﴿وإن تخالطوهم﴾ تشاركوهم في أموالهم وتخلطوها بأموالكم فتصيبوا من أموالهم عوضاً عن قيامكم بأمورهم ﴿فإخوانكم﴾ أَيْ: فهم إخوانكم والإِخوانُ يُعين بعضهم بعضاً ويُصيب بعضهم من مال بعضٍ ﴿والله يعلم المفسد﴾ لأموالهم ﴿من المصلح﴾ لها فاتقَّوا الله في مال اليتيم ولا تجعلوا مخالطتكم إيَّاهم ذريعةً إلى إفساد أموالهم وأكلها بغير حقٍّ ﴿ولو شاء الله لأعنتكم﴾ لضيَّق عليكم وآثمكم في مخالطتكم ومعناه: التَّذكير بالنِّعمة في التَّوسعة ﴿إِنَّ اللَّهَ عزيزٌ﴾ في ملكه ﴿حكيم﴾ فيما أمر به
﴿وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ﴾ نزلت في أبي مرثد الغنويِّ كانت له خليلةٌ مشركةٌ فلمَّا أسلم سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيحلُّ له أن يتزوَّج بها؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية والمشركات ها هنا عامَّة في كلِّ من كفرت بالنبي ﷺ حرَّم الله تعالى بهذه الآية نكاحهنَّ ثمَّ استثنى الحرائر الكتابيات بالآية التي في المائدة فبقي نكاح الأَمَة الكتابية على التَّحريم ﴿ولأَمةٌ مؤمنةٌ﴾ نزلت في عبد الله بن رواحة كانت له أَمَةٌ مؤمنةٌ فأعتقها وتزوَّجها فطعن عليه ناسٌ وعرضوا عليه حُرَّةً مشركةً فنزلت هذه الآية وقوله: ﴿ولو أعجبتكم﴾ المشركة بمالها وجمالها ﴿وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا﴾ لا يجوز تزويج المسلمة من المشرك بحالٍ ﴿أولئك﴾ أَي: المشركون ﴿يدعون إلى النَّار﴾ أَي: الأعمال الموجبة للنَّار ﴿وَاللَّهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ والمغفرة﴾ أَيْ: العمل الموجب للجنَّة والمغفرة ﴿بإذنه﴾ بأمره يعني: إنَّه بأوامره يدعوكم
﴿ويسألونك عن المحيض﴾ (ذكر المفسرون أنَّ العرب كانت إذا حاضت المرأة لم يؤاكلوها ولم يشاربوها ولم يَسَّاكَنُوا معها في بيت كفعل المجوس) فسأل أبو الدحداح رسول الله ﷺ فقال يا رسول الله كيف نصنع بالنِّساء إذا حضن؟ فنزلت هذه الآية والمحيض: الحيض ﴿قل هو أذىً﴾ أَيْ: قذرٌ ودمٌ ﴿فاعتزلوا النساء في المحيض﴾ أَيْ: مجامعتهنَّ إذا حضن ﴿ولا تقربوهنَّ﴾ أَيْ: ولا تجامعوهنَّ ﴿حتى يَطَّهَّرْنَ﴾ أي: يغتسلن ومَنْ قرأ ﴿يَطْهُرْنَ﴾ بالتَّخفيف أَيْ: ينقطع عنهنَّ الدم أي: توجد طهارة وهي الغسل ﴿فإذا تطهَّرن﴾ اغتسلن ﴿فأتوهنَّ﴾ أَيْ: جامعوهنَّ ﴿مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ﴾ بتجنُّبه في الحيض - وهو الفرج - ﴿إنَّ الله يحب التوابين﴾ من الذُّنوب و ﴿المتطهرين﴾ بالماء من الأحداث والجنابات
﴿نساؤكم حرثٌ لكم﴾ أَيْ: مزرع ومنب للولد ﴿فأتوا حرثكم أنى شئتم﴾ أَيْ: كيف شئتم ومن أين شئتم بعد أن يكون في صِمام واحدٍ فنزلت هذه الآية تكذيباً لليهود وذلك أنَّ المسلمين قالوا: إِنَّا نأتي النِّساء باركاتٍ وقائماتٍ ومستلقياتٍ ومن بين أيديهم ومن خلفهنَّ بعد أن يكون المأتي واحداً فقالت اليهود: ما أنتم إلاَّ أمثال البهائم لكنَّا نأتيهنَّ على هيئةٍ واحدةٍ وإنَّا لنجد في التَّوراة أنَّ كلَّ إِتيانٍ يؤتى النِّساء غير الاستلقاء دنسٌ عند الله فأكذب الله تعالى اليهود ﴿وقدموا لأنفسكم﴾ أَي: العمل لله بما يحبُّ ويرضى ﴿واتقوا الله﴾ فيما حدَّ لكم من الجماع وأمرِ الحائض ﴿واعلموا أنكم ملاقوه﴾ أَيْ: راجعون إليه ﴿وبشر المؤمنين﴾ الذين خافوه وحذروا معصيته
﴿ولا تجعلوا الله عرضةٌ لأيمانكم﴾ أَيْ: لا تجعلوا اليمين بالله سبحانه علَّةً مانعةً من البرِّ والتَّقوى من حيث تتعمَّدون اليمين لتعتلُّوا بها نزلت في عبد الله بن رواحة حلف أن لا يُكلِّم ختنه ولا يدخل بينه وبين خصم له وجعل يقول: قد حلفتُ أَنْ لا أفعل فلا يحلُّ لي وقوله ﴿أن تبروا﴾ أَي: في أَنْ لا تبرُّوا أو لدفع أن تبرُّوا ويجوز أن يكون قوله: ﴿أن تبروا﴾ ابتداءً وخبره محذوف على تقدير: أن تبرُّوا وتتقوا وتصلحوا بين النَّاس أولى أَي: البرُّ والتُّقى أولى ﴿والله سميع عليمٌ﴾ يسمع أيمانكم ويعلم ما تقصدون بها
﴿لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم﴾ أَيْ: ما يسبق به اللِّسان من غير عقدٍ ولا قصدٍ ويكون كالصِّلة للكلام وهو مِثلُ قول القائل: لا والله وبلى واللَّهِ وقيل: لغو اليمين: اليمينُ المكفَّرة سمِّيت لغواً لأنَّ الكفَّارة تُسقط الإِثم منه ﴿وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ أَيْ: عزمتم وقصدتم وعلى القول الثاني في لغو اليمين معناه: ولكن يؤاخذكم بعزمكم على ألا تبرُّوا وتعتلُّوا في ذلك بأيمانكم بأنَّكم حلفتم ﴿والله غفورٌ حليم﴾ يؤخِّر العقوبة عن الكفَّار والعُصاة
﴿للذين يؤلون من نسائهم﴾ أَيْ: يحلفون أن لا يطؤوهنَّ ﴿تربص أربعة أشهر﴾ جعل الله تعالى الأجل في ذلك أربعة أشهر فإذا مضت هذه المدَّة فإمَّا أن يُطلِّق أو يطأ فإن أباهما جميعاً طلَّق عليه الحاكم ﴿فإن فاؤوا﴾ رجعوا عمَّا حلفوا عليه أَيْ: بالجماع ﴿فإنَّ الله غفورٌ رحيم﴾ يغفر له ما قد فعل (ولزمته كفَّارة اليمين)
﴿وإن عزموا الطلاق﴾ أَيْ: طلَّقوا ولم يفيؤوا بالوطء ﴿فإنَّ الله سميع﴾ لما يقوله ﴿عليمٌ﴾ بما يفعله
﴿والمطلقات﴾ أَيْ: المُخلَّيات من حبال الأزواج يعني: البالغات المدخول بهنَّ غير الحوامل لأنَّ في الآية بيان عدتهنَّ ﴿يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء﴾ أَيْ: ثلاثة أطهار يعني: ينتظرون انقضاء مدة ثلاثة أطهارٍ حتى تمرَّ عليهن ثلاثة أطهارٍ وقيل: ثلاث حيضٍ ﴿وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ الله في أرحامهنَّ﴾ يعني: الولد ليبطلن حقَّ الزوج من الرَّجعة ﴿إن كنَّ يؤمنَّ بالله واليوم الآخر﴾ وهذا تغليظٌ عليهنَّ في إِظهار ذلك ﴿وبعولتهن﴾ أَيْ: أزواجهنَّ ﴿أحقُّ بردهنَّ﴾ بمراجعتهنَّ ﴿في ذلك﴾ في الأجل الذي أُمرْنَ أن يتربصن فيه ﴿إن أرادوا إصلاحاً﴾ لا إضراراً ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ أَيْ: للنِّساء على الرَّجال مثلُ الذي للرِّجال عليهنَّ من الحقِّ بالمعروف أَيْ: بما أمر الله من حقِّ الرَّجل على المرأة ﴿وللرجال عليهن درجة﴾ يعني: بما ساقوا من المهر وأنفقوا من المال ﴿والله عزيز حكيم﴾ يأمر كما أراد ويمتحن كما أحبَّ
﴿الطلاق مرتان﴾ كان طلاقُ الجاهلية غير محصورٍ بعددٍ فحصر الله الطلاق بثلاثٍ فذكر في هذه الآية طلقتين وذكر الثَّالثة في الآية الأخرى وهي قوله:
﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فلا تحلُّ له من بعد﴾ الآية وقيل: المعنى في الآية: الطَّلاق الذي يُملك فيه الرَّجعة مرَّتان
﴿فإمساك بمعروف﴾ يعني: إذا راجعها بعد الطَّلقتين فعليه إمساكٌ بما أمر الله تعالى ﴿أو تسريحٌ بإحسان﴾ وهو أَنْ يتركها حتى تَبِينَ بانقضاء العِدَّة ولا يراجعها ضراراً ﴿وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا﴾ لا يجوز للزَّوج أن يأخذ من امرأته شيئاً ممَّا أعطاها من المهر ليطلِّقها إلاَّ في الخُلع وهو قوله ﴿إِلا أَنْ يخافا﴾ أي: يعلما ﴿أن لا يُقيما حدود الله﴾ والمعنى: إنَّ المرأة إذا خافت أن تعصي الله في أمر زوجها بُغضاً له وخاف الزَّوج إذا لم تطعه امرأته أن يعتدي عليها حلَّ له أن يأخذ الفدية منها إذا دعت إلى ذلك ﴿فإنْ خفتم﴾ أيُّها الولاة والحكَّام ﴿أن لا يقيما حدود الله﴾ يعني: الزَّوجين ﴿فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾ المرأة لا جُناح عليها فيما أعطته ولا على الرَّجل فيما أخذ ﴿تلك حدود الله﴾ يعني: ما حدَّه من شرائع الدِّين
﴿فإن طلقها﴾ يعني: الزوج المُطلِّق اثنتين ﴿فلا تحلُّ له﴾ المطلَّقة ثلاثاً ﴿من بعد﴾ أَيْ: من بعد التَّطليقة الثَّالثة ﴿حتى تنكح زوجاً غيره﴾ غير المُطلِّق (ويجامعها) ﴿فإن طلقها﴾ أَيْ: الزَّوج الثَّاني ﴿فلا جناح عليهما أن يتراجعا﴾ بنكاحٍ جديدٍ ﴿إن ظنا﴾ أَيْ: علما وأيقنا ﴿أَنْ يقيما حدود الله﴾ ما بيَّن الله من حقِّ أحدهما على الآخر
﴿وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهنَّ﴾ أَيْ: قاربن انقضاء عدتهنَّ ﴿فأمسكوهنَّ بمعروف﴾ أَيْ: راجعوهنّ بإشهادٍ على الرَّجعة وعقد لها لا بالوَطْء كما يقول أبو حنيفة ﴿أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ أَي: اتركوهنَّ حتى تنقضي عدتهنَّ ويكنَّ أملك بأنفسهنَّ ﴿وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضراراً﴾ أَيْ: لا تُراجعوهنَّ مضارَّةً وأنتم لا حاجة بكم إليهنَّ ﴿لتعتدوا﴾ عليهنَّ بتطويل العِدَّة ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ﴾ الاعتداء ﴿فقد ظلم نفسه﴾ ضرَّها وأثم بينه وبين الله عزَّ وجل ﴿ولا تتخذوا آيات الله هزواً﴾ كان الرَّجل يُطلِّق في الجاهليَّة ويقول: إنَّما طلَّقت وأنا لاعبٌ فيرجع فيها فأنزل الله تعالى هذه الآية ﴿واذكروا نعمة الله عليكم﴾ بالإِسلام ﴿وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ﴾ يعني: القرآن ﴿والحكمة﴾ مواعظ القرآن
﴿وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن﴾ انقضت عدتهن ﴿فلا تعضلوهنَّ﴾ لا تمنعوهنَّ ﴿أن ينكحن أزواجهنَّ﴾ بنكاحٍ جديدٍ أَي: الذين كانوا أزواجاً لهنَّ نزلت في أخت معقل بن يسار طلَّقها زوجها فلمَّا انقضت عدَّتها جاء يخاطبها فأبى معقلٌ أن يُزوِّجها ومنعها بحقِّ الولاية ﴿إذا تراضوا بينهم بالمعروف﴾ بعقدٍ حلالٍ ومهرٍ جائزٍ ﴿ذلك﴾ أَيْ: أَمْرُ اللَّهِ بتَرْكِ العضل ﴿يوعظ به مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر ذلكم أزكى﴾ أَيْ: ترك العضل خير ﴿لكم﴾ وأفضلُ ﴿وأطهر﴾ لقلوبكم من الرِّيبة وذلك أنَّهما إذا كان في قلب كلِّ واحدٍ منهما علاقةُ حبِّ لم يُؤمن عليهما ﴿والله يعلم﴾ ما لكم فيه من الصَّلاح
﴿والوالداتُ يرضعن أولادهن﴾ لفظه لفظ الخبر ومعناه الأمر وهو أمر استحبابٍ لا أمر إيجابٍ يريد: إنهنَّ أحقُّ بالإِرضاع من غيرهنَّ إذا أردن ذلك ﴿حولين﴾ سنتين ﴿كاملين﴾ تامين وهذا تحديدٌ لقطع التَّنازع بين الزَّوجين إذا اشتجرا في مدَّة الرَّضاع يدلُّ على هذا قوله ﴿لمن أراد﴾ أي: هذا التقرير والبيان ﴿لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ﴾ ﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ له﴾ أَي: الأب ﴿رزقهن وكسوتهنَّ﴾ رزق الوالدات ولباسهنَّ قال المفسرون: وعلى الزَّوج رزق المرأة المُطلَّقة وكسوتها إذا أرضعت الولد ﴿بالمعروف﴾ بما يعرفون أنَّه عدلٌ على قدر الإِمكان وهو معنى قوله: ﴿لا تكلف نفس إلاَّ وسعها﴾ لا تلزم نفسٌ إلاَّ ما يسعها ﴿لا تضار والدة بولدها﴾ لا ينزع الولد منها إلى غيرها بعد أَنْ رضيت بإرضاعه وألفها الصَّبيُّ ولا تُلقيه هي إلى أبيه بعدما عرفها تُضَارُّه بذلك وهو قوله: ﴿وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ﴾ ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذلك﴾ هذا نسقٌ على قوله: ﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ﴾ بمعنى: على وارث الصبيِّ - الذي لو مات الصبيُّ وله مالٌ ورثه - مثل الذي كان على أبيه في حياته وأراد بالوارث مَنْ كان من عصبته كائناً من كان من الرِّجال ﴿فإن أرادا﴾ يعني: الأبوين ﴿فصالاً﴾ فطاماً للولد ﴿عن تراضٍ منهما﴾ قبل الحولين ﴿وتشاور﴾ بينهما ﴿فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أولادكم﴾ مراضع غير الوالدة ﴿فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ فلا إثم عليكم ﴿إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ أَيْ: إذا سلَّمتم إلى الأُمِّ أجرتها بمقدار ما أرضعت
﴿والذين يتوفون منكم﴾ أَيْ: يموتون ﴿ويذرون﴾ ويتركون (ويُخَلِّفُون) ﴿أزواجاً﴾ نساءً ﴿يتربصن بأنفسهنَّ﴾ خبرٌ في معنى الأمر ﴿أربعة أشهر وعشرا﴾ هذه المدَّة عدَّة المُتوفَّى عنها زوجها إلاَّ أن تكون حاملاً ﴿فإذا بلغن أجلهنَّ﴾ انقضت عدَّتهنَّ ﴿فلا جناح عليكم﴾ أيُّها الأولياء ﴿فيما فعلن في أنفسهنَّ بالمعروف﴾ أَيْ: مِنْ تزوُّج الأكفاء بإذن الأولياء هذا تفسير المعروف ها هنا لأنَّ التي تُزَوِّج نفسها سمَّاها النبي صَلَّى الله عليه وسلم زانية وهذه الآية ناسخةٌ لقوله تعالى: ﴿مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾ الآية
﴿ولا جناح عليكم فيما عرَّضتم به﴾ أَيْ: تكلَّمتم به من غير تصريح وهو أن يُضمِّن الكلام دلالةً على ما يريد ﴿من خطبة النساء﴾ أَي: التماس نكاحهنَّ في العدَّة يعني: المتوفَّى عنها الزَّوج يجوز التعريض بخطبتها في العدَّة وهو أن يقول لها وهي في العدَّة: إنَّك لجميلةٌ وإنَّك لنافقةٌ وإنَّك لصالحةٌ وإنَّ من عزمي أَنْ أتزوَّج وما اشبه ذلك ﴿أو أَكْنَنْتُمْ﴾ أسررتم وأضمرتم ﴿في أنفسكم﴾ من خطبتهنَّ ونكاحهنَّ ﴿عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ﴾ يعني: الخطبة ﴿وَلَكِنْ لا تواعدوهن سراً﴾ أَيْ: لا تأخذوا ميثاقهنَّ أن لا ينكحن غيركم ﴿إلاَّ أن تقولوا قولا معروفا﴾ أي: التعريض بالخطبة كما ذكرنا ﴿وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ﴾ أيْ: لا تصححوا عقدة النِّكاح ﴿حتى يبلغ الكتاب أجله﴾ حتى تنقضي العدَّة المفروضة ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ﴾ أَيْ: مُطَّلعٌ على ما في ضمائركم ﴿فاحذروه﴾ فخافوه
﴿لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لم تمسوهنَّ﴾ نزلت في رجلٍ من الأنصار تزوَّج امرأة ولم يسمِّ لها مهراً ثمَّ طلَّقها قبل أن يمسَّها فأعلم الله تعالى أنَّ عقد التَّزويج بغير مهرٍ جائز ومعناه: لا سبيل للنِّساء عليكم إنْ طلقتموهنَّ من قبل المسيس والفرض بصداقٍ ولا نفقة وقوله: ﴿أو تفرضوا لهنَّ فريضة﴾ أَيْ: تُوجبوا لهنَّ صداقاً ﴿ومتعوهنَّ﴾ أَيْ: زوِّدوهنَّ وأعطوهنَّ من ما لكم ما يتمتَّعْنَ به فالمرأة إذا طُلِّقت قبل تسمية المهر وقبل المسيس فإنَّها تستحق المتعة بإجماع العلماء ولا مهرَ لها و ﴿على الموسع﴾ أَي: الغنيِّ الذي يكون في سعةٍ من غناه ﴿قدره﴾ أَيْ: قدر إمكانه ﴿وعلى المقتر﴾ الذي في ضيق من فقره قدر إمكانه أعلاها خادم وأوسطها ثوب وأقلُّها أقلُّ ماله ثمن قال الشافعيُّ: وحسنٌ ثلاثون درهماً ﴿متاعاً﴾ أَيْ: متعوهنَّ متاعاً ﴿بالمعروف﴾ بما تعرفون أنَّه القصد وقدر الإِمكان ﴿حقاً﴾ واجباً ﴿على المحسنين﴾
﴿وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهنَّ﴾ هذا في المُطلَّقة بعد التَّسمية وقبل الدُّخول حكم الله تعالى بنصف المهر وهو قوله: ﴿فنصف ما فرضتم﴾ أَيْ: فالواجبُ نصف ما فرضتم ﴿إلاَّ أن يعفون﴾ أَي: النِّساء أَيْ: إلاَّ أَنْ يتركن ذلك النِّصف فلا يُطالبن الأزواج به ﴿أو يعفو الذي بيده عقده النكاح﴾ أَي: الزَّوج لا يرجع في شيءٍ من المهر فيدع لها المهر الذي وفَّاه عملاً ﴿وأن تعفو﴾ خطابٌ للرِّجال والنِّساء ﴿أقرب للتقوى﴾ أَيْ: أدعى إلى اتِّقاء معاصي الله لأنَّ هذا العفو ندبٌ فإذا انتدب المرء له عُلم إنَّه - لما كان فرضاً - أشدُّ استعمالاً ﴿ولا تنسوا الفضل بينكم﴾ لا تتركوا أن يتفضَّل بعضكم على بعض هذا أمرٌ للزَّوج والمرأة بالفضل والإِحسان
﴿حافظوا على الصلوات﴾ بأدائها في أوقاتها ﴿والصلاة الوسطى﴾ أَيْ: صلاة الفجر لأنَّها بين صلاتي ليلٍ وصلاتي نهارٍ أفردها بالذِّكر تخصيصاً ﴿وقوموا لله قانتين﴾ مُطيعين
﴿فإن خفتم فرجالاً﴾ أَيْ: إن لم يمكنكم أن تصلُّوا موفِّين للصَّلاة حقًَّها فصلُّوا مُشاةً على أرجلكم ﴿أو ركباناً﴾ على ظهور دوابِّكم وهذا في المطاردة والمسايفة ﴿فإذا أمنتم فاذكروا الله﴾ أَيْ: فصلُّوا الصَّلوات الخمس تامَّةً بحقوقها ﴿كَمَا عَلَّمَكُمْ ما لم تكونوا تعلمون﴾ كما افترض عليكم في مواقيتها
﴿والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً وصية﴾ فعليهم وصيةٌ ﴿لأزواجهم﴾ لنسائهم وهذا كان في ابتداء الإِسلام لم يكن للمرأة ميراثٌ من زوجها وكان على الزَّوج أن يُوصي لها بنفقة حولٍ فكان الورثة ينفقون عليها حولاً وكان الحول عزيمةً عليها في الصَّبر عن التَّزوُّج وكانت مُخيَّرة في أن تعتدَّ إن شاءت في بيت الزَّوج وإن شاءت خرجت قبل الحول وتسقط نفقتها فذلك قوله: ﴿متاعاً إلى الحول﴾ أَيْ: متعوهنَّ متاعاً يعني: النَّفقة ﴿غير إخراجٍ﴾ أَيْ: من غير إخراج الورثة إيَّاها ﴿فإن خرجن فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ يا أولياء الميِّت فِي قطع النَّفقة عنهنَّ وترك منعها عن التَّشوف للنَّكاح والتَّصنُّع للأزواج وذلك قوله: ﴿فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ﴾ وهذا كلُّه منسوخٌ بآية المواريث وعدَّةِ المتوفى عنها زوجها
﴿وللمطلقات متاعٌ بالمعروف حقاً على المتقين﴾ لمَّا ذكر الله تعالى متعة المُطلَّقة في قوله: ﴿حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ﴾ قال رجلٌ من المسلمين: إنْ أحسنتُ فعلتُ وإن لم أُرد ذلك لم أفعل فأوجبها الله تعالى على المتقين الذين يتَّقون الشِّرك
﴿كذلك يبين الله لكم آياته﴾ شبّه اللَّهُ البيانَ الذي يأتي بالبيان الذي مضى في الأحكام التي ذكرها
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ ديارهم﴾ ألم تعلم ألم ينته علمك إلى هؤلاء وهم قومٌ من بني إسرائيل خرجوا من بلدتهم هاربين من الطاعون حتى نزلوا واديا فأماتهم الله جميعاً فذلك قوله: ﴿حذر الموت﴾ أَيْ: لحذر الْمَوْتِ ﴿فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ﴾ مقتهم الله على فرارهم من الموت فأماتهم عقوبةً لهم ثمَّ بعثهم ليستوفوا بقيَّة آجالهم ﴿إنَّ الله لذو فضل على الناس﴾ أَيْ: تفضُّلٍ عليهم بأَنْ أحياهم بعد موتهم
﴿وقاتلوا في سبيل الله﴾ يحرِّض المؤمنين على القتال ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ﴾ لما يقوله المُتعلِّل ﴿عليمٌ﴾ بما يضمره فإيَّاكم والتَّعلُّلَ
﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ أَيْ: مَنْ ذا الذي يعمل عمل المُقرض بأن يقدِّم من ماله فيأخذ أضعاف ما قدَّم وهذا استدعاءٌ من الله تعالى إلى أعمال البرِّ ﴿والله يقبض﴾ أَيْ: يُمسك الرِّزق على مَنْ يشاء ﴿ويبسط﴾ أي: ويوسِّع على من يشاء
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ أَي: إلى الجماعة ﴿إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا﴾ سألوا نبيَّهم أشمويل عليه السَّلام ملكاً تنتظم به كلمتهم ويستقيم حالهم في جهاد عدوِّهم وهو قوله: ﴿نقاتل في سبيل الله﴾ ﴿فقال﴾ لهم ذلك النَّبيُّ: ﴿هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كتب عليكم القتال أن لا تقاتلوا﴾ أَيْ: لعلَّكم أَنْ تجبنوا عن القتال ﴿قالوا وما لنا أن لا نقاتل في سبيل الله﴾ أَيْ: وما يمنعنا عن ذلك؟ ﴿وقد أخرجنا من ديارنا﴾ ﴿و﴾ أُفردنا من ﴿أبنائنا﴾ بالسبي والقتل إذا بلغ الأمر منَّا هذا فلا بدَّ من الجهاد قال الله تعالى: ﴿فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلا قَلِيلا منهم﴾ وهم الذين عبروا النَّهر ويأتي ذكرهم
﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لكم طالوت ملكاً﴾ أَيْ: قد أجابكم إلى ما سألتم من بعث الملك ﴿قالوا﴾ : كيف يملك علينا؟ وكان من أدنى بيوت بني إسرائيل ولم يكن من سبط المملكة فأنكروا ملكه وقالوا: ﴿وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً من المال﴾ أَيْ: لم يُؤت ما يتملَّك به الملوك ﴿قال﴾ النبيُّ: ﴿إنَّ الله اصطفاه عليكم﴾ (اختاره) بالملك ﴿وزاده بسطة في العلم والجسم﴾ كان طالوت يومئذٍ أعلم رجلٍ في بني إسرائيل وأجمله وأتمَّه والبسطة: الزِّيادة في كلِّ شيء ﴿والله يؤتي ملكه من يشاء﴾ ليس بالوراثة ﴿والله واسع﴾ أَيْ: واسع الفضل والرِّزق والرَّحمة فسألوا نبيَّهم على تمليك طالوت آية فـ
﴿وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يأتيكم التابوت﴾ وكان تابوتاً أنزله الله تعالى على آدم عليه السَّلام فيه صور الأنبياء عليهم السَّلام كانت بنو إسرائيل يستفتحون به على عدوِّهم فغلبتهم العمالقة على التَّابوت فلمَّا سألوا نبيَّهم البيِّنة على ملك طالوت قال: إنَّ آية ملكه أن يردَّ الله تعالى التَّابوت عليكم فحملت الملائكة التَّابوت حتى وضعته في دار طالوت وقوله: ﴿فيه سكينة من ربكم﴾ أَيْ: طمأنينةٌ كانت قلوبهم تطمئنُّ بذلك ففي أيِّ مكانٍ كان التَّابوت سكنوا هناك وكان ذلك من أمر الله تعالى ﴿وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ﴾ أَيْ: تركاه هما وكانت البقيَّة نعلي موسى وعصاه وعمامة هارون وقفيزاً من المنِّ الذي كان ينزل عليهم ﴿تحمله الملائكة﴾ أَي: التَّابوت ﴿إنَّ في ذلك لآية﴾ أَيْ: في رجوع التَّابوت إليكم علامة أنَّ الله قد ملَّك طالوت عليكم ﴿إِنْ كُنْتُمْ مؤمنين﴾ أَيْ: مصدِّقين
﴿فلما فصل طالوت بالجنود﴾ أَيْ: خرج بهم من الموضع الذي كانوا فيه إلى جهاد العدوِّ ﴿قال﴾ لهم طالوت: ﴿إنَّ الله مبتليكم﴾ أَيْ: مُختبركم ومُعاملكم مُعاملة المختبر ﴿بنهرٍ﴾ أَيْ: بنهر فلسطين ليتميِّز المحقِّق ومَنْ له نيَّةٌ في الجهاد من المُعذِّر ﴿فمن شرب منه﴾ أَيْ: من مائه ﴿فليس مني﴾ أَيْ: من أهل ديني ﴿ومن لم يطعمه﴾ لم يذقه ﴿فَإِنَّهُ مِنِّي إِلا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ﴾ أَيْ: مرَّةً واحدةً أَيْ: أخذ منه بجرَّةٍ أو قِربةٍ وما أشبه ذلك مرَّةً واحدةً قال لهم طالوت: مَنْ شرب من النَّهر وأكثر فقد عصى الله ومن اغترف غرفة بيده أقنعته فهجموا على النَّهر بعد عطش شديد فوقع أكثرهم في النَّهر وأكثروا الشُّرب فهؤلاء جَبُنوا عن لقاء العدو وأطاع قومٌ قليلٌ عددهم فلم يزيدوا على الاغتراف فقويت قلوبهم وعبروا النَّهر فذلك قوله: ﴿فشربوا منه إلاَّ قليلاً منه﴾ وكانوا ثلثمائة وبضعة عشر رجلاً ﴿فلما جاوزه﴾ أَي: النَّهر ﴿هو والذين آمنوا معه قالوا﴾ يعني: الذين شربوا وخالفوا أمر الله تعالى: ﴿لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده قال﴾ يعني: القليل الذين اغترفوا وهم ﴿الذين يظنون﴾ أَيْ: يعلمون ﴿أنهم ملاقوا الله﴾ أَيْ: راجعون إليه: ﴿كم مِنْ فئة قليلة﴾ أَيْ: جماعةٍ قَلِيلَةٍ ﴿غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مع الصابرين﴾ بالمعونة والنَّصر
﴿ولما برزوا﴾ أَيْ: خرجوا ﴿لجالوت وجنوده﴾ أَيْ: لقتالهم ﴿قالوا ربنا أفرغ﴾ أصببْ ﴿علينا صبراً وثبت أقدامنا﴾ بتقوية قلوبنا
﴿فهزموهم﴾ فردُّوهم وكسروهم ﴿بإذن الله﴾ بقضائه وقدره ﴿وقتل داود﴾ النَّبيُّ وكان في عسكر بني إسرائيل ﴿جالوت﴾ الكافر ﴿وآتاه الله الملك﴾ (أعطى الله داود ملك بني إسرائيل) ﴿والحكمة﴾ أَيْ: جمع له الملك والنُّبوَّة ﴿وعلَّمه مما يشاء﴾ صنعة الدروع ومنطق الطيور ﴿ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض﴾ لولا دفع الله بجنود المسلين لغلب المشركون على الأرض فقتلوا المؤمنين وخرَّبوا البلاد والمساجد
﴿تلك آيات الله﴾ أي: هذه الآيات التي أخبرتك بها آيات الله أَيْ: علامات توحيده ﴿وإنك لمن المرسلين﴾ أَيْ: أنت من هؤلاء الذين قصصتُ عليك آياتهم
````` ﴿تلك الرسل﴾ أَيْ: جماعة الرُّسل ﴿فضلنا بعضهم على بعض﴾ أَيْ: لم نجعلهم سواءً في الفضيلة وإن استووا في القيام بالرِّسالة ﴿منهم مَنْ كلَّم الله﴾ وهو موسى عليه السَّلام ﴿ورفع بعضهم درجات﴾ يعني محمدا ﷺ أُرسل إلى النَّاس كافَّةً ﴿وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القدس﴾ مضى تفسيره ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بعدهم﴾ أَيْ: من بعد الرُّسل ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البينات﴾ من بعد ما وضحت لهم البراهين ﴿وَلَكِنِ اختلفوا فمنهم مَنْ آمن﴾ ثبت على إيمانه ﴿ومنهم مَنْ كفر﴾ كالنَّصارى بعد المسيح اختلفوا فصاروا فِرقاً ثمَّ تحاربوا ﴿ولو شاء الله ما اقتتلوا﴾ كرَّر ذكر المشيئة باقتتالهم تكذيباً لمن زعم أنَّهم فعلوا ذلك من عند أنفسهم لم يجري به قضاءٌ من الله ﴿ولكنَّ الله يفعل ما يريد﴾ فيوفِّقُ مَنْ يشاء فضلاً ويخذل من يشاء عدلاً
﴿يا أيها الذين آمنوا أنفقوا ممَّا رزقناكم﴾ أَي: الزَّكاة المفروضة وقيل: أراد النَّفقة في الجهاد ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فيه﴾ يعني: يوم القيامة يعني: لا يؤخذ في ذلك اليوم بدَلٌ ولا فداءٌ ﴿ولا خلة﴾ ولا صداقةٌ ﴿ولا شفاعة﴾ عمَّ نفي الشَّفاعة لأنَّه عنى الكافرين بأنَّ هذه الأشياء لا تنفعهم ألا ترى أنَّه قال: ﴿والكافرون هم الظالمون﴾ أَيْ: هم الذين وضعوا أمر الله فِي غير موضعه
﴿الله لا إله إلاَّ هو الحي﴾ الدَّائم البقاء ﴿القيوم﴾ القائم بتدبير أمر الخلق في إنشائهم وأرزاقهم ﴿لا تأخذه سنة﴾ وهي أوَّل النُّعاس ﴿ولا نوم﴾ وهو الغشية الثَّقيلة ﴿له ما في السماوات وما في الأرض﴾ ملكا وخلقاً ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ﴾ أَيْ: لا يشفع عنده أحدٌ إلاَّ بأمره إبطالاً لزعم الكفَّار أنَّ الأصنام تشفع لهم ﴿يعلم ما بين أيديهم﴾ من أمر الدُّنيا ﴿وما خلفهم﴾ من أمر الآخرة ﴿ولا يحيطون بشيء من علمه﴾ أَيْ: لا يعلمون شيئاً من معلوم الله تعالى: ﴿إلاَّ بما شاء﴾ إلاَّ بما أنبأ الله به الأنبياء وأطلعهم عليه ﴿وسع كرسيه السماوات والأرض﴾ أي: احتملهما وأطاقهما يعني: ملكه وسلطانه وقيل: هو الكرسيُّ بعينه وهو مشتمل بعظمته على السماوات والأرض وروي عن ابن عباس أن الكرسي علمه ﴿ولا يَؤُوْدُهُ﴾ أَيْ: لا يُجهده ولا يُثقله ﴿حفظهما﴾ أي: حفظ السماوات والأرض ﴿وهو العليُّ﴾ بالقدرة ونفوذ السُّلطان عن الأشباه والأمثال ﴿العظيم﴾ عظيم الشَّأن
﴿لا إكراه في الدِّين﴾ بعد إسلام العرب لأنهم أُكرهوا على الإِسلام فلم يُقبل منهم الجزية لأنَّهم كانوا مشركين فلمَّا أسلموا أنزل الله تعالى هذه الآية
﴿قد تبين الرشد من الغي﴾ ظهر الإِيمان من الكفر والهدى من الضَّلالة بكثرة الحجج ﴿فمن يكفر بالطاغوت﴾ بالشَّيطان والأصنام ﴿ويؤمن بالله﴾ واليوم الآخر ﴿فقد استمسك﴾ أَيْ: تمسَّك ﴿بالعروة الوثقى﴾ عقد لنفسه عقداً وثيقاً وهو الإِيمان وكلمة الشَّهادتين ﴿لا انفصام لها﴾ أي: لا انقطاع لها ﴿والله سميع﴾ لدعائك يا محمَّدُ أيَّايَ بإسلام أهل الكتاب وكان رسول الله ﷺ يحبُّ إسلام أهل الكتاب الذين حول المدينة ويسأل الله ذلك ﴿عليم﴾ بحرصك واجتهادك
﴿الله وليُّ الذين آمنوا﴾ أَيْ: ناصرهم ومتولي أمرهم ﴿يخرجهم من الظلمات﴾ من الكفر والضَّلالة إلى الإِيمان والهداية ﴿والذين كفروا﴾ أي: اليهود ﴿أولياؤهم الطاغوت﴾ يعني: رؤساءهم كعب بن الأشرف وحُيي بن أخطب ﴿يُخْرِجُونَهُمْ من النور﴾ يعني: ممَّا كانوا عليه من الإِيمان بمحمد عليه السلام قبل بعثه ﴿إلى الظلمات﴾ إلى الكفر به بعد بعثه
﴿ألم تر إلى الذي حاجَّ﴾ جادل وخاصم ﴿إبراهيم في ربه﴾ حين قال له: مَنْ ربُّك؟ ﴿أن آتاه الله الملك﴾ أي: الملك الذي آتاه الله يريد: بطرُ الملك حمله على ذلك وهو نمروذ بن كنعان ﴿إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ فقال عدو الله: ﴿أنا أحيي وأميت﴾ فعارضه بالاشتراك في العبارة من غير فعل حياةٍ ولا موتٍ فلما لبَّس في الحجَّة بأنْ قال: أنا أفعل ذلك احتجَّ إبراهيم عليه بحجَّةٍ لا يمكنه فيها أن يقول: أنا أفعل ذلك وهو قوله: ﴿قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كفر﴾ أي: انقطع وسكت
﴿أو كالذي مرَّ على قرية﴾ عطفٌ على المعنى لا على اللفظ كأنه قال: أرأيت الذي حاجَّ أو كالذي مرَّ وهو عزيز ﴿على قرية﴾ وهي إيليا ﴿وهي خاوية﴾ ساقطةٌ مُتهدِّمةٌ ﴿على عروشها﴾ أي: سقوفها ﴿قال: أنى يحيي هذه الله﴾ أَيْ: من أين يُحيي هذه الله ﴿بعد موتها﴾ يعمرها بعد خرابها؟ ! استعبد أَنْ يفعل الله ذلك فأحبَّ الله أن يُريه آيةً في نفسه في إحياء القرية ﴿فأماته الله مائة عام﴾ وذلك أنه مرَّ بهذه القرية على حمارٍ ومعه ركوة عصيرٍ وسلةُ تينٍ فربط حماره وألقى الله عز وجل عليه النَّوم فلمَّا نام نزع الله عز وجل روحه مائة سنةٍ فلمَّا مضت مائة سنةٍ أحياه الله تعالى وذلك قوله: ﴿ثمَّ بعثه﴾ ﴿قال كم لبثت﴾ كم أقمت ومكثت ها هنا؟ ﴿قَالَ: لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ﴾ أَي: التِّين ﴿و﴾ إلى ﴿شرابك﴾ أي: العصير ﴿لم يتسنَّه﴾ أَيْ: لم يتغيَّر ولم ينتن بعد مائة سنةٍ وأراه علامة مكثه مائة سنةٍ ببلى عظام حماره فقال: ﴿وانظر إلى حمارك﴾ فرأى حماره ميتاً عظامه بيضٌ تلوح ﴿ولنجعلك آية للناس﴾ الواو زائدة والمعنى: لبثتَ مائة عامٍ لنجعلك آيةً للنَّاس وكونه آيةً أَنْ بعثه شابّاً أسود الرَّأس واللِّحية وبنو بنيه شِيبٌ ﴿وانظر إلى العظام﴾ أَيْ: عظام حماره ﴿كيف نُنْشِزُها﴾ أَيْ: نحييها يقال: أَنشرَ اللَّهُ الموتى وقرىء: ﴿ننشزها﴾ أَيْ: نرفعها من الأرض ونشوز كلِّ شيءٍ: ارتفاعه ﴿ثم نكسوها لحماً فلما تبيَّن له﴾ شاهدَ ذلك ﴿قَالَ: أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قدير﴾ أَيْ: أعلم العلم الذي لا يعترض عليه الإِشكال وتأويله: إنِّي قد علمت مُشاهدةً ما كنت أعلمه غيباً
﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى﴾ وذلك أنَّه رأى جيفةً بساحل البحر يتناولها سباع الطير والوحش ودوابُّ البحر ففكَّر كيف يجتمع ما قد تفرَّق منها وأحبَّ أن يرى ذلك فسأل الله تعالى أن يُريه إحياء الموتى فقال الله تعالى: ﴿أولم تؤمن﴾ ألست آمنت بذلك؟ ﴿قال بلى ولكن ليطمئن قلبي﴾ بالمُعاينة بعد الإِيمان بالغيب ﴿قال: فخذ أربعة من الطير﴾ طاوُساً ونسراً وغراباً وديكاً ﴿فصرهنَّ إليك﴾ أَيْ: قطِّعهنَّ كأنَّه قال: خذ إليك أربعة من الطَّير فقطعهنَّ ﴿ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا﴾ ثمَّ أُمر أن يخلط ريشها ولحومها ثمَّ يفرِّق أجزاءها بأن يجعلها على أربعة أجبلٍ ففعل ذلك إبراهيم وأمسك رؤوسهنَّ عنده ثمَّ دعاهنَّ فقال: تعالين بإذن الله فجعلت أجزاء الطُّيور يطير بعضها إلى بعض حتى تكاملت أجزاؤها ثمَّ أقبلن على رؤوسهنّ فذلك قوله: ﴿ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ﴾ لا يمتنع عليه ما يريد ﴿حكيم﴾ فيما يدبِّر فلمَّا ذكر الدَّلالة على توحيده بما أتى الرُّسل من البيِّنات حثٍّ على الجهاد والإنفاق فيه فقال:
﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ أَيْ: مَثلُ صدقاتهم وإنفاقهم ﴿كمثل حبَّةٍ أنبتت سبع سنابل﴾ يريد أنَّه يضاعف الواحد بسبع مائةٍ وجعله كالحبَّة تنبت سبع مائة حبَّةٍ ولا يشترط وجود هذا على ضرب المثل
﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يتبعون ما أنفقوا منَّاً﴾ الآية وهو أن يقول: أحسنتُ إلى فلانٍ ونعشته وجبرت خلله يمنُّ بما فعل ﴿ولا أذىً﴾ وهو أن يذكر إحسانه لمن لا يحبُّ الذي أُحسن إليه وقوفه عليه
﴿قول معروفٌ﴾ كلامٌ حسنٌ وردٌّ على السَّائل جميل ﴿ومغفرة﴾ أَيْ: تجاوزٌ عن السَّائل إذا استطال عليه عند ردِّه ﴿خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى﴾ أَيْ: مَنٌّ وتعييرٌ للسَّائل بالسُّؤال ﴿والله غنيٌّ﴾ عن صدقة العباد ﴿حليم﴾ إذ لم يعجِّل بالعقوبة على مَنْ يمنُّ
﴿يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم﴾ أَيْ: ثوابها ﴿بالمنِّ﴾ وهو أنْ يمنَّ بما أعطى ﴿والأذى﴾ وهو أن يوبِّخ المُعطي المُعطى له ﴿كالذي ينفق﴾ أَيْ: كإبطاله رياء النَّاس وهو المُنافق يعطي ليوهم أنَّه مؤمنٌ ﴿فمثله﴾ أَيْ: مَثلُ هذا المنافق ﴿كَمَثَلِ صَفْوَانٍ﴾ وهو الحجر الأملس ﴿عَلَيْهِ تُرَابٌ فأصابه وابل﴾ مطرٌ شديدٌ ﴿فتركه صلداً﴾ برَّاقاً أملس وهذا مَثلٌ ضربه الله تعالى للمانِّ والمنافق يعني: إنَّ النَّاس يرون في الظَّاهر أنَّ لهؤلاء أعمالاً كما يُرى التُّراب على هذا الحجر فإذا كان يوم القيامة اضمحلَّ كلُّه وبطل كما أذهب الوابل ما كان على الصفوان فلا يقدر أحدٌ من الخلق على ذلك التُّراب كذلك هؤلاء إذا قدموا على ربِّهم لم يجدوا شيئاً وهو قوله جلَّ وعزَّ ﴿: لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ﴾ أَيْ: على ثواب شَيْءٍ ﴿مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الكافرين﴾ لا يجعل جزاءهم على كفرهم أن يهديهم (ثمَّ ضرب مثلاً لمن ينفق يريد ما عند الله ولا يمنُّ ولا يؤذي فقال) :
﴿ومَثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتاً﴾ أَيْ: يقيناً وتصديقاً ﴿من أنفسهم﴾ بالثَّواب لا كالمنافق الذي لا يؤمن بالثَّواب ﴿كمثل جنة بربوةٍ﴾ وهي ما ارتفع من الأرض وهي أكثر ريعاً من المستفل ﴿أصابها وابلٌ﴾ وهو أشدُّ المطر ﴿فآتت﴾ أعطت ﴿أكلها﴾ ما يؤكل منها ﴿ضِعْفَيْن﴾ أَيْ: حملت في سنة من الرَّيع ما يحمل غيرها في سنتين ﴿فإن لم يصبها وابلٌ﴾ وهو أشدُّ المطر وأصابها طلٌّ وهو المطر الضعيف فتلك حالها في البركة يقول: كما أنَّ هذه الجنَّة تُثمر في كلِّ حالٍ ولا يخيب صاحبها قلَّ المطر أو كَثُر كذلك يضعف الله ثواب صدقة المؤمن قلَّت نفقته أم كثرت ثمَّ قرَّر مَثَل المُرائي في النَّفقة والمُفرِّط في الطَّاعة إلى أَنْ يموت بقوله:
﴿أيود أحدكم﴾ يقول: مثلُهم كمثل رجلٍ كانت له جنَّةٌ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ ﴿وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ﴾ فضعف عن الكسب وله أطفال لا يجدون عليه ولا ينفعونه ﴿فأصابها إعصار﴾ وهي ريحٌ شديدةٌ ﴿فيه نارٌ فاحترقت﴾ ففقدها أحوج ما كان إليها عند كبر السِّنِّ وكثرة العيال وطفولة الولد فبقي هو وأولاده عجزةً مُتحيِّرين ﴿لا يقدرون على﴾ حيلةٍ كذلك يُبطل الله عمل المنافق والمرائي حتى لا توبة لهما ولا إقالة من ذنوبهما ﴿كذلك يبين الله﴾ كمثل بيان هذه الأقاصيص ﴿يبين الله لكم الآيات﴾ في أمر توحيده
﴿يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ﴾ نزلت في قومٍ كانوا يتصدَّقون بشرار ثمارهم ورذالة أموالهم والمراد بالطَّيِّبات هاهنا الجياد الخيار ممَّا كسبتم أَيْ: التِّجارة ﴿وممَّا أخرجنا لكم من الأرض﴾ يعني: الحبوب التي يجب فيها الزَّكاة ﴿ولا تيمموا﴾ أَيْ: لاتقصدوا ﴿الخبيث منه تنفقون﴾ أَيْ: تنفقونه ﴿ولستم بآخذيه إلاَّ أن تغمضوا﴾ أَيْ: بآخذي ذلك الخبيث لو أُعطيتم في حقٍّ لكم إلاَّ بالإِغماض والتَّساهل وفي هذا بيانُ أنَّ الفقراء شركاء ربِّ المال والشَّريك لا يأخذ الرَّديء من الجيِّد إلاَّ بالتَّساهل
﴿الشيطانُ يعدكم الفقر﴾ أَيْ: يُخوِّفكم به يقول: أَمسك مالك فإنَّك إنْ تصدَّقت افتقرت ﴿ويأمركم بالفحشاء﴾ بالبخل ومنع الزَّكاة ﴿والله يعدكم﴾ أَنْ يجازيكم على صدقتكم ﴿مغفرة﴾ لذنوبكم وأَنْ يُخلف عليكم
﴿يؤتي الحكمة﴾ علم القرآن والفهم فيه وقيل: هي النُّبوَّة ﴿من يشاء﴾ ﴿وما يذكر إلا أولو الألباب﴾ أَيْ: وما يتَّعظ إلاَّ ذوو العقول
﴿وما أنفقتم من نفقة﴾ أدَّيتم من زكاة ﴿أو نذرتم من نذر﴾ في صدقة التَّطوُّع أَيْ: نويتم أن تصَّدَّقوا بصدقة ﴿فإن الله يعلمه﴾ يجازي عليه ﴿وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾ وعيدٌ لمَنْ أنفق في غير الوجه الذي يجوز له من رياءٍ أو معصيةٍ أو من مال مغصوبٍ
﴿إن تبدوا الصدقات﴾ سألوا رسول الله ﷺ فقالوا: صدقة السرِّ أفضلُ أم صدقة العلانيَة؟ فنزلت هذه الآية والمفسرون على أنَّ هذه الآية في التَّطوُّع لا في الفرض فإِنَّ الفرضَ إظهاره أفضل وعند بعضهم الآية عامَّةٌ في كلِّ صدقةٍ وقوله: ﴿ويكفر عنكم من سيئاتكم﴾ أي يغفرها لكم ومن للصلة والتأكيد
﴿ليس عليك هداهم﴾ نزلت حين سألت قُتيلة أمُّ أسماء بنت أبي بكر ابنتها أن تعطيها شيئاً وهي مشركةٌ فأبت وقالت: حتى أستأمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فمزلت هذه الآية والمعنى: ليس عليك هُدى مَن خالفك فمنعهم الصَّدقة ليدخلوا في الإسلام ﴿وما تنفقوا من خيرٍ﴾ أَيْ: مالٍ ﴿فلأنفسكم﴾ ثوابه ﴿وما تنفقون إلاَّ ابتغاء وجه الله﴾ خبرٌ والمراد به الأمر وقيل: هو خاصٌّ في المؤمنين أَي: قد علم الله ذلك منكم ﴿وما تنفقوا من خيرٍ﴾ من مالٍ على فقراء أصحاب الصُّفَّة ﴿يوف إليكم﴾ أًيْ: يوفَّر لكم جزاؤه ﴿وأنتم لا تظلمون﴾ أَيْ: لا تنقصون من ثواب أعمالكم شيئاً
﴿للفقراء﴾ أَيْ: هذه الصَّدقات والإِنفاق التي تقدَّم ذكرها ﴿للفقراء الذين أحصروا﴾ أَيْ: حُبسوا أَيْ: هم فعلوا ذلك حبسوا أنفسهم ﴿في سبيل الله﴾ في الجهاد يعني: فقراء المهاجرين ﴿لا يستطيعون ضرباً﴾ أَيْ: سيراً ﴿في الأرض﴾ لا يتفرَّغُون إلى طلب المعاش لأنهم قد ألزموا أنفسهم أمر الجهاد فمنعهم ذلك من التَّصرُّف حثَّ الله تعالى المؤمنين على الإِنفاق عليهم ﴿يحسبهم الجاهل﴾ يخالهم ﴿أغنياء من التعفف﴾ عن السُّؤال ﴿تعرفهم بسيماهم﴾ بعلامتهم التَّخشُّع والتَّواضع وأثر الجهد ﴿لا يسألون الناس إلحافاً﴾ أَيْ: إلحاحاًً إذا كان عندهم غداءٌ لم يسألوا عشاءً وإذا كان عندهم عَشاءٌ لم يسألوا غداءً
﴿الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار﴾ نَزَلَتْ فِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ الله عنه كان عنده أربعة دراهم لا يملك غيرها فَتَصدَّق بدرهمٍ سرَّاً ودرهمٍ علانيةً ودرهمٍ ليلاً ودرهمٍ نهاراً
﴿الذين يأكلون الربا﴾ أيْ: يُعاملون به فَنَبَّه بالأكل على غيره ﴿لا يقومون﴾ من قبورهم يوم القيامة ﴿إلاَّ كما يقوم الذي يتخبَّطه الشيطان﴾ يصيبه بجنونٍ ﴿من المس﴾ من الجنون وذلك أنَّ آكل الرِّبا يُبعث يوم القيامة مجنوناً ﴿ذلك﴾ أَيْ: ذلك الذي نزل بهم ﴿بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا﴾ وهو أنَّ المشركين قالوا: الزِّيادة على رأس المال بعد مَحِلِّ الدَّين كالزِّيادة بالرِّبح في أوَّل البيع فكذَّبهم الله تعالى فقال: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جاءه موعظة من ربه﴾ أَيْ: وُعظ ﴿فانتهى﴾ عن أكل الرِّبا ﴿فَلَهُ مَا سَلَفَ﴾ أَّيْ: ما أكل من الرِّبا ليس عليه ردُّ ما أخذ قبل النَّهي ﴿وأمره إلى الله﴾ والله وليُّ أمره ﴿ومَنْ عاد﴾ إلى استحلال الرِّبا ﴿فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾
﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا﴾ أَيْ: ينقصه ويذهب بركته وإن كان كثيراً كما يمحق القمر ﴿ويربي الصدقات﴾ يربيها لصاحبها كما يُربي أحدكم فصيله ﴿والله لا يحبُّ كل كفار﴾ بتحريم الرِّبا مستحلٍّ له ﴿أثيم﴾ فاجر بأكله (مصر عليه)
قال تعالى ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون﴾
﴿يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ من الربا﴾ نزلت في العباس وعثمان رضي الله عنهما طلباً رباً لهما كانا قد أسلفنا قبل نزول التَّحريم فلمَّا نزلت هذه الآية سمعها وأطاعا وأخذا رؤوس أموالهما ومعنى الآية: تحريم ما بقي ديناً من الرِّبا وإيجاب أخذ رأس المال دون الزِّيادة على جهة الرِّبا وقوله: ﴿إن كنتم مؤمنين﴾ أَيْ: إنَّ مَنْ كان مؤمناً فهذا حكمه
﴿فإن لم تفعلوا﴾ فإن لم تذروا ما بقي من الرِّبا ﴿فأذنوا﴾ فاعلموا ﴿بحرب من الله ورسوله﴾ أَيْ: فأيقنوا أنَّكم في امتناعكم من وضع ذلك حربٌ لله ورسوله ﴿وإن تبتم﴾ عن الرِّبا ﴿فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون﴾ بطلب الزِّيادة ﴿ولا تُظلمون﴾ بالنُّقصان عن رأس المال
﴿وإنْ كان ذو عسرة﴾ أَيْ: وإن وقع غريم ذو عسرة ﴿فنظرةٌ﴾ أَيْ: فعليكم نظرةٌ أَيْ: تأخيرٌ ﴿إلى ميسرة﴾ إلى غنىً ووجود المال ﴿وأن تصدقوا﴾ على المعسرين برأس المال ﴿خيرٌ لكم﴾
﴿واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله﴾ يعني: يوم القيامة تُرَدُّون فِيهِ إِلَى اللَّهِ ﴿ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كسبت﴾ أي: جزاء ما كسبت من الأعمال ﴿وهم لا يظلمون﴾ لا ينقصون شيئاً فلمَّا حرَّم الله تعالى الرِّبا أباح السِّلَم فقال:
﴿يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مسمى﴾ أي: تباعيتم بدين ﴿فاكتبوه﴾ أمرَ الله تعالى في الحقوق المؤجَّلة بالكتابة والإِشهاد في قوله: ﴿واشهدوا إذا تبايعتم﴾ حفظاً منه للأموال ثمَّ نسخ ذلك بقوله: ﴿فإن أمن بعضكم بعضاً﴾ الآية ﴿وليكتب بينكم﴾ بين المُستدين والمدين ﴿كاتب بالعدل﴾ بالحقِّ والإِنصاف ولا يزيد في المال والأجل ولا ينقص منهما: ﴿وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ﴾ أي: لا يمتنع من ذلك إذا أُمر وكانت هذه عزيمةً من الله واجبة على الكاتب والشَّاهد فنسخها قوله: ﴿وَلا يضار كاتب ولا شهيد﴾ ثمَّ قال ﴿كما علَّمه الله فليكتب﴾ أَيْ: كما فضَّله الله بالكتابة ﴿وليملل الذي عليه الحق﴾ أي: الذي عليه الدِّين يملي لأنَّه المشهود عليه فيقرُّ على نفسه بلسانه ليعلم ما عليه ﴿ولا يَبْخَسْ منه شيئاً﴾ أُمِرَ أَنْ يُقِرَّ بمبلغ المال من غير نقصان ﴿فإن كان الذي عليه الحق﴾ (أي: الدَّين) ﴿سفيهاً﴾ طفلاً ﴿أو ضعيفاً﴾ عاجزاً أحمق ﴿أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هو﴾ لخرسٍ أو لعيٍّ ﴿فليملل وليه﴾ وارثه أو مَنْ يقوم مقامه ﴿بالعدل﴾ بالصدق والحقِّ ﴿واستشهدوا﴾ وأشهدوا ﴿شهيدين من رجالكم﴾ أَيْ: من أهل ملَّتكم من الأحرار البالغين وقوله: ﴿ممن ترضون من الشهداء﴾ أَيْ: من أهل الفضل والدِّين ﴿أن تضلّ أحداهما﴾ تنسى إحداهما ﴿فتذكر إحداهما الأخرى﴾ الشَّهادة ﴿ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا﴾ لتحمُّل الشَّهادة وأدائها ﴿ولا تسأموا أن تكتبوه﴾ لا يمنعكم الضَّجر والملالة أن تكتبوا ما أشهدتم عليه من الحقِّ ﴿صغيراً أو كبيراً إلى أجله﴾ إلى أجل الحقِّ ﴿ذلكم﴾ أَيْ: الكتابة ﴿أقسط﴾ أعدل ﴿عند الله﴾ في حكمه ﴿وأقوم﴾ أبلغ في الاستقامة ﴿للشهادة﴾ لأنَّ الكتاب يُذكِّر الشُّهود فتكون شهادتهم أقوم ﴿وأدنى أن لا تَرْتَابُوا﴾ أيْ: أقرب إلى أن لا تشكُّوا في مبلغ الحقِّ والأجل ﴿إلاَّ أن تكون﴾ تقع ﴿تجارة حاضرة﴾ أَيْ: متجرٌ فيه حاضر من العروض وغيرها ممَّا يتقابض وهو معنى قوله: ﴿تديرونها بينكم﴾ وذلك أنَّ ما يُخاف في النَّساء والتأجيل يؤمن في البيع يداً بيدٍ وذلك قوله: ﴿فليس عليكم جناحٌ أن لا تكتبوها وأَشْهِدوا إذا تبايعتم﴾ قد ذكرنا أنَّ هذا منسوخ الحكم فلا يجب ذلك ﴿وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ﴾ نهى الله تعالى الكاتب والشَّاهد عن الضِّرار وهو أن يزيد الكاتب أو ينقص أو يحرِّف وأن يشهد الشَّاهد بما لم يُستشهد عليه أو يمتنع من إقامة الشَّهادة ﴿وإنْ تفعلوا﴾ شيئاً من هذا ﴿فإنه فسوق بكم﴾
﴿وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا﴾ الآية أمر الله تعالى عند عدم الكاتب بأخذ الرَّهن ليكون وثيقةً بالأموال وذلك قوله: ﴿فَرِهَانٌ مقبوضة﴾ أَيْ: فالوثيقةُ رهنٌ مقبوضةٌ ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾ أَيْ: لم يخف خيانته وجحوده الحقَّ ﴿فليؤدّ الذي اؤتمن﴾ أَيْ: أُمن عليه ﴿أمانته وليتق الله ربه﴾ بأداء الأمانة ﴿ولا تكتموا الشهادة﴾ إذا دُعيتم لإِقامتها ﴿ومن يكتمها فإنه آثمٌ﴾ فاجرٌ ﴿قلبه﴾
﴿لله ما في السماوات وما في الأرض﴾ ملكا فهو مالك أعيانه ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يحاسبكم به الله﴾ لمَّا نزل هذا جاء ناس من الصَّحابة إلى النبي ﷺ فقالوا: كُلِّفنا من العمل ما لا نطيق إن أحدنا ليحدِّث نفسه بما لا يحبُّ أن يثبت في قلبه فنحن نحاسب بذلك؟ فقال النبيُّ: فلعلَّكم تقولون كما قالت بنو إسرائيل: سمعنا وعصينا وقولوا: سمعنا وأطعنا فقالوا: سمعنا وأطعنا فأنزل الله تعالى الفرج بقوله: ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا﴾ فنسخت هذه الآية ما قبلها وقيل: إنَّ هذا في كتمان الشَّهادة وإقامتها ومعنى قوله: ﴿يحاسبكم به الله﴾ يخبركم به ويُعرِّفكم إيَّاه
﴿آمن الرسول﴾ الآية لمَّا ذكر الله تعالى في هذه السُّورة الأحكام والحدود وقصص الأنبياء وآيات قدرته ختم السورة بذكر تصديق نبيه عليه السلام والمؤمنين بجميع ذلك ﴿لا نفرق بين أحد﴾ أَيْ: يقولون: لا نفرق بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رسله كما فعل أهل الكتاب آمنوا ببعض الرُّسل وكفروا ببعض بل نجمع بينهم في الإِيمان بهم ﴿وقالوا سمعنا﴾ قوله ﴿وأطعنا﴾ أمره ﴿غفرانك﴾ أَيْ: اغفر غفرانك
﴿لا يكلف الله نفسا إلاَّ وسعها﴾ ذكرنا أنَّ هذه الآية نسخت ما شكاه المؤمنين من المحاسبة بالوسوسة وحديث النَّفس ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ﴾ (من العمل بالطاعة) ﴿وَعَلَيْهَا ما اكتسبت﴾ (من العمل بالإثم) أَيْ: لا يُؤَاخَذ أحدٌ بذنب غيره ﴿ربنا لا تؤاخذنا﴾ أَيْ: قولوا ذلك على التَّعليم للدُّعاء ومعناه: لا تعاقبنا إن نسينا كانت بنو إسرائيل إذا نسوا شيئاً ممَّا شرع لهم عُجِّلت لهم العقوبة بذلك فأمر الله نبيَّه والمؤمنين أن يسألوه ترك مؤاخذتهم بذلك ﴿أو أَخْطأْنا﴾ تركنا الصَّواب: ﴿ربنا ولا تحمل علينا إصراً﴾ أَيْ: ثقلاً والمعنى: لا تحمل علينا أمراً يثقل ﴿كما حملته على الذين من قبلنا﴾ نحو ما أُمر به بنو إسرائيل من الأثقال التي كانت عليهم ﴿رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا به﴾ أَيْ: لا تعذِّبنا بالنَّار ﴿أنت مولانا﴾ ناصرنا والذي تلي علينا أمورنا ﴿فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ في إقامة حجَّتنا وغلبتنا إيَّاهم في حربه وسائر أمورهم حتى يظهر ديننا على الدِّين كلِّه كما وعدتنا
Icon