تفسير سورة الرعد

الوجيز للواحدي
تفسير سورة سورة الرعد من كتاب الوجيز في تفسير الكتاب العزيز المعروف بـالوجيز للواحدي .
لمؤلفه الواحدي . المتوفي سنة 468 هـ

﴿المر﴾ أنا الله أعلم وأرى ﴿تلك﴾ يعني: ما ذُكر من الأحكام والأخبار قبل هذه الآية ﴿آيات الكتاب﴾ القرآن ﴿والذي أُنزل إليك من ربك الحق﴾ ليس كما يقوله المشركون أنك تأتي به من قبل نفسك باطلاً ﴿ولكنَّ أكثر الناس﴾ يعني: أهل مكة ﴿لا يؤمنون﴾
﴿الله الذي رفع السماوات بغير عمدٍ﴾ جمع عماد وهي الأساطين ﴿ترونها﴾ أنتم كذلك مرفوعة بغير عمادٍ ﴿ثم استوى على العرش﴾ بالاستيلاء والاقتدار وأصله: استواء التَّدبير كما أنَّ أصل القيام الانتصاب ثمَّ يقال: قام بالتدبير ثُمَّ يدلُّ على حدوث العرش المستولى عليه (لا على حدوث الاستيلاء بعد خلق العرش المستولى عليه) ﴿وسخر الشمس والقمر﴾ ذلَّلهما لما يراد منهم ﴿كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى﴾ إلى وقتٍ معلومٍ وهو فناء الدُّنيا ﴿يُدبِّر الأمر﴾ يُصرِّفه بحكمته ﴿يُفصِّل الآيات﴾ يبيِّن الدلائل التي تدلُّ على التَّوحيد والبعث ﴿لعلَّكم بلقاء ربِّكم توقنون﴾ لكي تُوقنوا يا أهل مكَّة بالبعث
﴿وهو الذي مدَّ الأرض﴾ بسطها ووسًّعها ﴿وجعل فيها رواسي﴾ أوتدها بالجبال ﴿وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثنين﴾ حلواً وحامضاً وباقي الآية مضى تفسيره
﴿وفي الأرض قطعٌ متجاورات﴾ قُرىً بعضُها قريبٌ من بعضٍ ﴿وجنات﴾ بساتين ﴿من أعناب﴾ وقوله: ﴿صنوان﴾ وهو أن يكون الأصل واحداً ثمَّ يتفرَّع فيصير نخيلاً يحملن وأصلهنَّ واحد ﴿وغير صنوان﴾ وهي المتفرِّقة واحدةً واحدةً ﴿تسقى﴾ هذه القطع والجنَّات والنَّخيل ﴿بماء واحدٍ ونُفضِّل بعضها على بعض﴾ يعني: اختلاف الطُّعوم ﴿في الأكل﴾ وهو الثَّمر فمن حلوٍ وحامضٍ وجيِّدٍ ورديءٍ ﴿إن في ذلك لآيات﴾ لدلالاتٍ ﴿لقوم يعقلون﴾ أهل الإِيمان الذين عقلوا عن الله تعالى
﴿وإن تعجب﴾ يا محمد من عبادتهم ما لا يضرُّ ولا ينفع وتكذيبك بعد البيان فتعجَّبْ أيضاً من إنكارهم البعث وهو معنى قوله: ﴿فعجب قولهم أإذا كنا تراباً﴾ الآية ﴿وأولئك الأغلال﴾ جمع غُلٍّ وهو طوقٌ تقيَّد به اليد إلى العنق
﴿ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة﴾ يعني: مشركي مكَّة حين سألوا رسول الله ﷺ أن يأتيهم بالعذاب استهزاءً يقول: ويستعجلونك بالعذاب الذي لم أُعاجلهم به وهو قوله: ﴿قبل الحسنة﴾ يعني: إحسانه إليهم في تأخير العقوبة عنهم إلى يوم القيامة ﴿وقد خلت من قبلهم المَثُلاتُ﴾ وقد مضت من قبلهم العقوبات في الأمم المُكذِّبة فلم يعتبروا بها ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ﴾ بالتَّوبة يعني: يتجاوز عن المشركين إذا آمنوا ﴿وإنَّ ربك لشديد العقاب﴾ يعني: لمَنْ أصرَّ على الكفر
﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ من ربِّه﴾ هلاَّ أتانا بآيةٍ كما أتى به موسى من العصا واليد ﴿إنما أنت منذر﴾ بالنَّار لمَنْ عصى وليس إليك من الآيات شيءٌ ﴿وَلِكُلِّ قَوْمٍ هاد﴾ نبيٌّ وَدَاعٍ إلى الله عز وجل يدعوهم لما يُعطَى من الآيات لا بما يريدون ويتحكَّمون
﴿الله يعلم ما تحملُ كلُّ أنثى﴾ من علقةٍ ومضغةٍ وزائدٍ وناقصٍ وذَكَرٍ وأنثى ﴿وما تَغِيضُ الأرحام﴾ تنقصه من مدَّة الحمل التي هي تسعة أشهر ﴿وما تزداد﴾ على ذلك ﴿وكلُّ شيءٍ عنده بمقدار﴾ علم كلَّ شيءٍ فقدَّره تقديراً
﴿عالم الغيب﴾ ما غاب عن جميع خلقه ﴿والشهادة﴾ وما شهده الخلق ﴿الكبير﴾ العظيم القدر ﴿المتعال﴾ عمّا يقوله المشركون
﴿سواء منكم﴾ الآية يقول: الجاهر بنطقه والمُضمر في نفسه والظَّاهر في الطُُّرقات والمستخفي في الظُّلمات علمُ الله سبحانه فيهم جميعاً سواءٌ والمستخفي معناه: المختفي والسَّارب: الظَّاهر المارُّ على وجهه
﴿له﴾ لله سبحانه ﴿معقبات﴾ مَلائِكَةٌ حَفَظَةٌ تَتَعَاقَبُ فِي النُّزُولِ إِلَى الأَرْضِ بعضهم باللَّيل وبعضهم بالنَّهار ﴿من بين يديه﴾ يدي الإِنسان ﴿ومن خلفه يحفظونه من أمر الله﴾ أَيْ: بأمره سبحانه ممَّا لم يُقدَّر فإذا جاء القدر خلَّوا بينه وبينه ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يغيروا ما بأنفسهم﴾ لا يسلب قوماً نعمةً حتى يعملوا بمعاصيه ﴿وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا﴾ عذاباً ﴿فَلا مردَّ له﴾ فلا ردَّ لَهُ ﴿وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ﴾ يلي أمرهم ويمنع العذاب عنهم
﴿هو الذي يريكم البرق خوفاً﴾ للمسافر ﴿وطمعاً﴾ للحاضر في المطر ﴿وينشئ﴾ ويخلق ﴿السحاب الثقال﴾ بالماء
﴿ويسبح الرعد﴾ وهو الملك المُوكَّل بالسَّحاب ﴿بحمده﴾ وهو ما يسمع من صوته وذلك تسبيحٌ لله تعالى ﴿والملائكة من خيفته﴾ أَيْ: وتُسبِّح الملائكة من خيفة الله تعالى وخشيته ﴿ويرسل الصواعق﴾ وهي التي تَحْرِق من برق السَّحاب وينتشر على الأرض ضوؤُه ﴿فيصيب بها من يشاء﴾ كما أصاب أربد حين جادل النبي ﷺ وهو قوله: ﴿وهم يجادلون في الله﴾ والواو للحال وكان أربد جادل النبيَّ ﷺ فقال: أخبرني عن ربِّنا أمن نحاسٍ أم حديد؟ فأحرقته الصَّاعقة ﴿وهو شديد المحال﴾ العقوبة أَي: القوَّة
﴿له دعوة الحق﴾ لله من خلقه الدعوة الحقُّ وهي كلمة التَّوحيد لا إله إلاَّ الله ﴿والذين يدعون﴾ يعني: المشركون يدعون ﴿من دونه﴾ الأصنام ﴿لا يستجيبون لهم بشيء إلاَّ كباسط﴾ إلاَّ كما يستجاب للذي يبسط كفيه يشير إلى الماء ويدعوه إلى فيه ﴿إلاَّ في ضلال﴾ هلاكٍ وبطلانٍ
﴿ولله يسجد مَنْ في السماوات والأرض طوعاً﴾ يعني: الملائكة والمؤمنين ﴿وكرهاً﴾ وهم مَنْ أُكرهوا على السُّجود فسجدوا لله سبحانه من خوف السَّيف واللَّفظ عامٌّ والمراد به الخصوص ﴿وظلالهم بالغدو والآصال﴾ كلُّ شخصٍ مؤمنٍ أو كافرٍ فإنَّ ظلَّه يسجد لله ونحن لا نقف على كيفية ذلك
﴿قل﴾ يا محمد للمشركين: ﴿من رب السماوات والأرض﴾ ؟ ثمَّ أخبرهم فقل: ﴿الله﴾ لأنَّهم لا ينكرون ذلك ثمَّ ألزمْهم الحجَّة فقلْ: ﴿أفاتخذتم من دونه أولياء﴾ تولَّيتم غير ربِّ السَّماء والأرض أصناماً ﴿لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضرَّاً﴾ ثمَّ ضرب مثلاً للذين يعبدها والذي يعبد الله سبحانه فقال: ﴿قل هل يستوي الأعمى﴾ المشرك ﴿والبصير﴾ المؤمن ﴿أم هل تستوي الظلمات﴾ الشِّرك ﴿والنور﴾ الإِيمان ﴿أم جعلوا لله شركاء﴾ الآية يعني: أجعلوا لله شركاء خلقوا مثل ما خلق الله فتشابه خلق الشُّركاء بخلق الله عندهم؟ وهذه استفهامُ إنكارٍ أَيْ: ليس الأمرُ على هذا حتى يشتبه الأمر بل الله سبحانه هو المتفرِّد بالخلق وهو قوله: ﴿قل الله خالق كلِّ شيء﴾
﴿أنزل من السماء ماء﴾ يعني: المطر ﴿فسالت أودية﴾ جمع وادٍ ﴿بقدرها﴾ بقدر ما يملأها أراد بالماء القرآن وبالأودية القلوب والمعنى: أنزل قرآناً فقبلته القلوب بأقدارها منها ما رُزق الكثير ومنها ما رُزق القليل ومنها ما لم يُرزق شيئاً ﴿فاحتمل السيل زبداً﴾ وهو ما يعلو الماء ﴿رابياً﴾ عالياً فوقه والزَّبَد مَثلُ الكفر يريد: إنَّ الباطل ـ وإنْ ظهر الحقِّ في بعض الأحوال ـ فإنَّ الله سيمحقه ويُبطله ويجعل العاقبة للحقِّ وأهله وهو معنى قوله: ﴿فأمَّا الزبد فيذهب جفاء﴾ وهو ما رمى به الوادي ﴿وأمَّا ما ينفع الناس﴾ ممَّا ينبت المرعى ﴿فيمكث﴾ يبقى ﴿في الأرض﴾ ثمَّ ضرب مثلاً آخر وهو قوله: ﴿وممَّا يوقدون عليه في النَّار﴾ يعني: جواهر الأرض من الذَّهب والفضَّة والنُّحاس وغيرها ممَّا يدخل النَّار فتوقد عليها وتتخذ منها الحُلِيُّ وهو الذَّهب والفضَّة والأمتعة وهي للأواني يعني: النُّحاس والرَّصاص وغيرهما وهذا معنى قوله: ﴿ابتغاء حلية أو متاعٍ زبدٌ مثله﴾ أَيْ: مثل زبد الماء يريد: إنَّ من هذه الجواهر بعضها خبث ينفيه الكير ﴿كَذَلِكَ﴾ كما ذُكر من هذه الأشياء ﴿يضرب الله﴾ مثل الحقِّ والباطل وهذه الآية فيها تقديمٌ وتأخير في اللَّفظ والمعنى ما أخبرتك به
﴿للذين استجابوا لربهم﴾ أجابوه إلى ما دعاهم إليه ﴿الحسنى﴾ الجنَّة ﴿والذين لم يستجيبوا له﴾ وهم الكفَّار ﴿لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ومثله معه لافتدوا به﴾ جعلوه فداء أنفسهم من العذاب ﴿أولئك لهم سوء الحساب﴾ وهو أن لا تُقبل منهم حسنة ولا يتجاوز عن سيئة
﴿أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الحق كمن هو أعمى﴾ نزلت في أبي جهل لعنه الله وحمزة رضي الله عنه ﴿إنما يتذكر﴾ يتَّعظ ويرتدع عن المعاصي ﴿أولو الألباب﴾ يعني: المهاجرين والأنصار
﴿الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ﴾ يعني: العهد الذي عاهدهم عليه وهم في صلب آدم
﴿وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يوصل﴾ وهو الإِيمان بجميع الرُّسل
﴿والذين صبروا﴾ على دينهم وما أُمروا به ﴿ابتغاء وجه ربِّهم﴾ طلب تعظيم الله تعالى ﴿ويدرؤون﴾ يدفعون ﴿بالحسنة﴾ بالتَّوبة ﴿السيئة﴾ المعصية وهو أنَّهم كلَّما أذنبوا تابوا ﴿أولئك لهم عقبى الدار﴾ يريد: عقابهم الجنَّة
﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ﴾ ومَنْ صدَّق بما صدَّقوا به ـ وإن لم يعملْ مثل أعمالهم ـ يلحق بهم كرامةً لهم ﴿والملائكة يدخلون عليهم من كلِّ باب﴾ بالتَّحيَّة من الله سبحانه والهدايا
﴿سلامٌ عليكم﴾ يقولون: سلامٌ عليكم والمعنى: سلَّمكم الله من العذاب ﴿بما صبرتم﴾ بصبركم في دار الدُّنيا عمَّا لا يحلُّ ﴿فنعم عقبى الدار﴾ فنعم العقبى عقبى داركم التي عملتم فيها ما أعقبكم الذي أنتم فيه
﴿والذين ينقضون﴾ الآية مُفسَّرة في سورة البقرة
﴿الله يبسط الرزق﴾ يُوسِّعه ﴿لمن يشاء ويقدر﴾ ويضيِّق ﴿وفرحوا﴾ يعني: مشركي مكة بما نالوا من الدُّنيا وبطروا ﴿وما الحياة الدنيا في الآخرة﴾ في حياة الآخرة أَيْ: بالقياس إليها ﴿إلاَّ متاع﴾ قليلٌ ذاهبٌ يُتمتَّع به ثمَّ يفنى
﴿ويقول الذين كفروا لولا﴾ هلا ﴿أنزل عليه آية من ربه﴾ نزلت في مشركي مكَّة حين طالبوا رسول الله ﷺ بالآيات ﴿قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ﴾ عن دينه كما أضلَّكم بعدما أنزل من الآيات وحرمكم الاستدلال بها ﴿ويهدي إليه﴾ يرشد إلى دينه ﴿مَنْ أناب﴾ رجع إلى الحقِّ
﴿الذين آمنوا﴾ بدلٌ من قوله: ﴿مَنْ أناب﴾ ﴿وتطمئن قلوبهم بذكر الله﴾ إذا سمعوا ذكر الله سبحانه وتعالى أحبُّوه واستأنسوا به ﴿ألا بذكر الله تطمئن القلوب﴾ يريد: قلوب المؤمنين
﴿الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم﴾ وهي شجرةٌ غرسها الله سبحانه بيده وقيل: فرحٌ لهم وقُرَّة أعينٍ
﴿كذلك﴾ كما أرسلنا الأنبياء قبلك ﴿أرسلناك في أمة﴾ في قرنٍ ﴿قد خلت﴾ قد مضت ﴿من قبلها أمم﴾ قرونٌ ﴿لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾ يعني: القرآن ﴿وهم يكفرون بالرحمن﴾ وذلك أنَّهم قالوا: ما نعرف الرحمان إلاَّ صاحب اليمامة ﴿قل هو ربي﴾ أَي: الرَّحمن الذي أنكرتم معرفته هو إلهي وسيِّدي ﴿لا إله إلاَّ هو﴾
﴿ولو أنَّ قرآناً﴾ الآية نزلت حين قالوا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: إنْ كنت نبيَّاً كما تقول فسيِّر عنا جبال مكة فإنَّها ضيِّقةٌ واجعل لنا فيها عيوناً وأنهاراً حتى نزرع ونغرس وابعث لنا آباءنا من الموتى يكلِّمونا أنَّك نبيٌّ فقال الله سبحانه: ﴿ولو أنَّ قرآناً سيرت به الجبال﴾ يريد: لو قضيت على أن لا يقرأ القرآن على الجبال إلاَّ سارت ولا على الأرض إلاَّ تخرَّقت بالعيون والأنهار وعلى الموتى أن لا يُكلَّموا ما آمنوا لما سبق عليهم في علمي وهذا جواب لو وهو محذوف ﴿بل﴾ دع ذلك الذي قالوا من تسيير الجبال وغيره فالأمر لله جميعاً لو شاء أن يؤمنوا لآمنوا وإذا لم يشأ لم ينفع ما اقترحوا من الآيات وكان المسلمون قد أرادوا أن يُظهر رسول الله ﷺ لهم آيةً ليجتمعوا على الإِيمان فقال الله: ﴿أفلم ييأس الذين آمنوا﴾ يعلم الذين آمنوا ﴿أن لو يشاء الله﴾ لهداهم من غير ظهور الآيات ﴿وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا﴾ من كفرهم وأعمالهم الخبيثة ﴿قارعة﴾ داهيةٌ تقرعهم من القتل والأسر والحرب والجدب ﴿أو تحلُّ﴾ يا محمد أنت ﴿قريباً من دارهم حتى يأتي وعد الله﴾ يعني: القيامة وقيل: فتح مكة
﴿ولقد استهزئ برسل من قبلك﴾ أُوذي وكُذِّب ﴿فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ أطلتُ لهم المدَّة بتأخير العقوبة ليتمادوا في المعصية ﴿ثمَّ أخذتهم﴾ بالعقوبة ﴿فكيف كان عقاب﴾ كيف رأيت ما صنعتُ بمن استهزأ برسلي كذلك أصنع بمشركي قومك
﴿أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت﴾ أَيْ: بجرائه يعني: متولٍّ لذلك كما يقال: قام فلان بأمر كذا: إذا كفاه وتولاَّه والقائم على كلِّ نفس هو الله تعالى والمعنى: أفمن هو بهذه الصِّفة كمَنْ ليس بهذه الصِّفة من الأصنام التي لا تضرُّ ولا تنفع؟ وجواب هذا الاستفهام في قوله: ﴿وجعلوا لله شركاء قل سموهم﴾ بإضافة أفعالهم إليهم إن كانوا شركاء لله تعالى كما يضاف إلى الله أفعاله بأسمائه الحسنى نحو: الخالق والرَّازق فإن سمَّوهم قل أتنبئونه ﴿أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي الأَرْضِ﴾ أَيْ: أتخبرون الله بشريكٍ له في الأرض وهو لا يعلمه بمعنى: أنَّه ليس له شريك ﴿أم بظاهرٍ من القول﴾ يعني: أم تقولون مجازاً من القول وباطلاً لا حقيقة له وهو كلامٌ في الظَّاهر ولا حقيقة له في الباطن ثمَّ قال: ﴿بل﴾ أَيْ: دع ذكر ما كنَّا فيه ﴿زُيِّنَ لِلَّذِينَ كفروا مكرهم﴾ زيَّن الشَّيطان لهم الكفر ﴿وصدوا عن السبيل﴾ وصدَّهم الله سبحانه عن سبيل الهدى ﴿لهم عذاب في الحياة الدنيا﴾ بالقتل والأسر ﴿وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ﴾ أشدُّ وأغلظ ﴿وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ﴾ من عذاب الله ﴿من واق﴾ حاجز ومانع
﴿لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ﴾
﴿مثل الجنة﴾ صفة الجنَّة ﴿التي وعد المتقون﴾ وقوله: ﴿أكلها دائم﴾ يريد: إنَّ ثمارها لا تنقطع كثمار الدُّنيا ﴿وظلها﴾ لا يزول ولا تنسخه الشَّمس
﴿والذين آتيناهم الكتاب﴾ يعني: مؤمني أهل الكتاب ﴿يفرحون بما أنزل إليك﴾ وذلك أنَّهم ساءهم قلَّة ذكر الرحمن في القرآن مع كثرة ذكره في التَّوراة فلما أنزل الله تعالى: ﴿قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرحمن﴾ فرح بذلك مؤمنو أهل الكتاب وكفر المشركون بالرَّحمن وقالوا: ما نعرف الرَّحمن إلاَّ رحمان اليمامة وذلك قوله: ﴿ومن الأحزاب﴾ يعني: الكفَّار الذين تحزَّبوا على رسول الله ﷺ ﴿مَنْ ينكر بعضه﴾ يعني: ذكر الرَّحمن
﴿وكذلك﴾ وكما أنزلنا الكتاب على الأنبياء بلسانهم ﴿أنزلناه حُكْماً عربياً﴾ يعني: القرآن لأنَّه به يحكم ويفصل بين الحقِّ والباطل وهو بلغة العرب ﴿ولئن اتبعت أهواءهم﴾ وذلك أنَّ المشركين دعوه إلى ملَّة آبائه فتوعَّده الله سبحانه على ذلك بقوله: ﴿مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واق﴾
﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أزواجاً﴾ ينكحونهنَّ ﴿وذرية﴾ وأولاداً أنسلوهم وذلك أنَّ اليهود عيَّرت رسول الله ﷺ بكثرة النِّساء وقالوا: ما له همَّةٌ إلاَّ النِّساء والنِّكاح ﴿وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بإذن الله﴾ أَيْ: بإطلاقه له الآية وهذا جوابٌ للذين سألوه أن يوسِّع لهم مكَّة ﴿لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ﴾ لكلِّ أجلٍ قدَّره الله ولكلِّ أمرٍ قضاه كتابٌ أثبت فيه فلا تكون آيةٌ إلاَّ بأجلٍ قد قضاه الله تعالى في كتابٍ
﴿يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الكتاب﴾ اللَّوح المحفوظ يمحو منه ما يشاء ويثبت ما يشاء وظاهر هذه الآية على العموم وقال قوم: إلاَّ السَّعادة والشَّقاوة والموت والرزق والخلق والخلق
﴿وإنما نرينك بعض الذي نعدهم﴾ من العذاب ﴿أو نتوفينك﴾ قبل ذلك ﴿فإنما عليك البلاغ﴾ يريد: قد بلَّغت ﴿وعلينا الحساب﴾ إليَّ مصيرهم فأجازيهم أَيْ: ليس عليك إلاَّ البلاغ كيف ما صارت حالهم
﴿أَوَلَمْ يروا﴾ يعني: مشركي مكَّة ﴿أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ﴾ نقصد أرض مكَّة ﴿ننقصها من أطرافها﴾ بالفتوح على المسلمين يقول: أولم ير أهل مكَّة أنَّا نفتح لمحمد ﷺ ما حولها من القرى أفلا يخافون أن تنالهم يا محمد ﴿والله يحكم﴾ بما يشاء ﴿لا معقب لحكمه﴾ لا أحدٌ يتتبع ما حكم به فيغيِّره والمعنى: لا ناقص لحكمه ولا رادَّ له ﴿وهو سريع الحساب﴾ أَي: المجازاة
﴿وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ يعني: كفَّار الأمم الخالية مكروا بأنبيائهم ﴿فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا﴾ يعني: إنَّ مكر الماكرين له أَيْ: هو من خلقه فالمكر جميعاً مخلوق له ليس يضرُّ منه شيءٌ إلاَّ بإذنه ﴿يعلم ما تكسب كلُّ نفس﴾ جميع الأكساب معلوم له ﴿وسيعلم الكفار﴾ وهو اسم الجنس ﴿لمن﴾ العاقبة بالحنة وقوله تعالى:
﴿ومن عنده علم الكتاب﴾ هم مؤمنو أهل الكتابين وكانت شهادتهم قاطعةً لقول أهل الخصوم
Icon