بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الشعراء
( مائتان وسبع وعشرون آية ومكية عند الجمهور )
وبه قال ابن الزبير، وقال ابن عباس : سوى خمس آيات من آخرها نزلت بالمدينة وهي : والشعراء يتبعهم الغاوون إلى آخرها.
وأخرج القرطبي في تفسيره عن البراء أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :" أن الله أعطاني السبع الطوال مكان التوراة. وأعطاني المئين مكان الإنجيل. وأعطاني الطواسين مكان الزبور. وفضلني بالحواميم والمفصل. ما قرأهن نبي قبلي ".
وأخرج أيضا عن ابن عباس : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( أعطيت المفصل نافلة ) قال ابن كثير : ووقع في تفسير مالك تسميتها بسورة الجمعة.
ﰡ
(طسم) محله الرفع على الابتداء إن كان اسماً للسورة كما ذهب إليه الأكثر، أو على أنه خبر، ويجوز أن يكون في محل نصب، والتقدير: اذكر أو اقرأ، وأما إذا كان مسروداً على نمط التعديد كما تقدم مراراً فلا محل له من الإعراب، وقد قيل: إنه اسم من أسماء الله سبحانه، وقيل: إنه اسم من أسماء القرآن، وقيل: اسم السورة، وقيل: أقسم بطوله وسنائه وملكه.
وقال ابن عباس: طسم عجزت العلماء عن علم تفسيرها وهو الحق في المقام، ولذا قال المحلي: الله أعلم بمراده بذلك.
(تلك) أي: السورة أو آيات هذه السورة (آيات الكتاب) أي: القرآن.
(المبين) أي: المبين المظهر للحق من الباطل، أو المبين الظاهر إعجازه إن كان من أبان اللازم بمعنى بان وهذا المعنى أليق بالمقام: وأوفق للمرام، ولذا اقتصر عليه صاحب الكشاف.
(لعلك باخع) أي: قاتل ومهلك (نفسك) لعل هنا للإشفاق أي: أشفق عليها بتخفيف هذا الغم، والبخع في الأصل أن يبلغ بالذبح البخاع،
361
وهو عرق في القفا، وقد مضى تحقيق هذا في سورة الكهف وقرئ باخع نفسك بالإضافة، والمعنى لعلك قاتل نفسك.
(أن لا يكونوا) أي أهل مكة (مؤمنين) أي: لعدم إيمانهم بما جئت به، وفي هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأنه كان حريصاً على إيمان قومه شديد الأسف لما يراه من إعراضهم.
362
(إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية) مستأنفة مسوقة لتعليل ما سبق من التسلية، والمعنى ننزل آية تلجئهم إلى الإيمان ولكن قد سبق القضاء بأنا لا ننزل ذلك، وتقديم الظرفين على المفعول الصريح للإهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر.
(فظلت أعناقهم لها خاضعين) أي أنهم صاروا منقادين لها أي فتظل أعناقهم، قيل: وأصله فظلوا لها خاضعين، فأقحمت (الأعناق) للتقرير والتصوير، لأن الأعناق موضع الخضوع. وقيل: إنها لما وصفت الأعناق بصفات العقلاء أجريت مجراهم، ووصفت بما يوصفون به.
قال عيسى بن عمر: وخاضعين وخاضعة سواء واختاره المبرد، والمعنى أنها إذا ذلت رقابهم ذلوا، فالإخبار عن الرقاب إخبار عن أصحابها، ويسوغ في كلام العرب أن يترك الخبر عن الأول ويخبر عن الثاني.
وقال أبو عبيد والكسائي: إنّ المعنى خاضعيها هم وضعفه النحاس. وقال مجاهد: أعناقهم كبراؤهم. قال النحاس: وهذا معروف في اللغة، يقال جاءني عنق من الناس، أي: رؤساء منهم وقال أبو زيد، والأخفش: أعناقهم جماعاتهم، يقال: جاءني عنق منهم أي: جماعة، وقال ابن عباس: خاضعين ذليلين.
(وما يأتيهم من) مزيدة لتأكيد المعنى (ذكر من الرحمن) لابتداء الغاية (محدث) إنزاله، وكلما نزل شيء من القرآن بعد شيء فهو أحدث من الأول.
362
(إلاّ كانوا عنه معرضين) أي إنه لا يجدد لهم موعظة وتذكيراً إلا جددوا ما هو نقيض المقصود، وهو الإعراض والتكذيب والاستهزاء والجملة حالية، والاستثناء مفرغ من أعم العام. وقد تقدم تفسير مثل هذه الآية في سورة الأنبياء.
363
(فقد كذبوا) بالذكر الذي يأتيهم تكذيباً صريحاً، ولم يكتفوا بمجرد الإعراض. وقيل: إن الإعراض بمعنى التكذيب لأن من أعرض عن شيء ولم يقبله فقد كذبه، وعلى هذا فيكون ذكر التكذيب للدلالة على صدور ذلك منهم على وجه التصريح، والأول أولى. فالإعراض عن الشيء عدم الالتفات إليه.
ثم انتقلوا عن هذا إلا ما هو أشد منه وهو التصريح بالتكذيب، ثم انتقلوا عن التكذيب إلى ما هو أشد منه وهو الاستهزاء كما يدل عليه قوله: (فسيأتيهم أنباء) وهي ما يستحقونه من العقوبة آجلاً وعاجلاً، وسميت أنباء لكونها مما أنبأ عنه القرآن وقال:
(ما كانوا به يستهزءون) ولم يقل: ما كانوا عنه معرضين، أو: ما كانوا به يكذبون، لأن الاستهزاء أشد منهما، ومستلزم لهما، وفي هذا وعيد شديد، وقد مرّ تفسير مثل هذا في سورة الأنعام. ثم ذكر سبحانه ما يدل على كمال قدرته من الأمور الحسية، التي يحصل بها للمتأمل فيها، والناظر إليها، والمستدل بها أعظم دليل، وأوضح برهان، وبيَّن أنه أظهر لهم أدلة تحدث في الأرض وقتاً بعد وقت تدل على توحيده، ومع ذلك استمر أكثرهم على الكفر فقال:
(أولم يروا) الهمزة للتوبيخ، والواو للعطف على مقدر، كما في نظائره (إلى الأرض) أي: إلى عجائبها وبينَّ بعضها بقوله (كم أنبتنا فيها) أي: كثيراً (من كل زوج كريم) فنبه سبحانه على عظمته وقدرته، وأن هؤلاء
363
المكذبين المستهزئين لو نظروا حق النظر لعلموا أنه سبحانه الذي يستحق أن يعبد، والمراد بالزوج هنا الصنف والنوع، وقال الفراء: هو اللون. وقال الزجاج: زوج نوع، وكريم محمود. والمعنى من كل زوج نافع، لا يقدر على إنباته إلا رب العالمين، إذ ما من نبت إلا وله النفع. والكريم في الأصل الحسن الشريف، يقال: نخلة كريمة، أي: كثيرة الثمرة، ورجل كريم، شريف فاضل، وكتاب كريم؛ إذا كان مرضياً في معانيه، والنبات الكريم هو المرضي في منافعه.
قال الشعبي: الناس مثل نبات الأرض فمن صار منهم إلى الجنة فهو كريم، ومن صار منهم إلى النار فهو لئيم. وفائدة الجمع بين كلمتي الكثرة والإحاطة أن كلمة كل تدل على الإحاطة بأزواج النبات على سبيل التفصيل، و (كم) تدل على أن هذا المحيط متكاثر مفرط الكثرة، وبه نبه على كمال قدرته. قاله الزمخشري، وإليه أشار في التقرير.
364
(إن في ذلك لآية) أي: فيما ذكر من الإنبات، أو في كل واحد من تلك الأزواج لدلالة بينة وعلامة واضحة على كمال قدرة الله سبحانه، وبديع صنعته، واللام زائدة في اسم إن المؤخر. وقد ذكرت هذه الآية في هذه السورة ثمان مرات، ثم أخبر سبحانه بأن أكثر هؤلاء مستمر على ضلالته، مصمم على جحوده وتكذيبه واستهزائه فقال:
(وما كان أكثرهم مؤمنين) أي: سبق علمي فيهم أنهم سيكونون هكذا، فلذلك لا تنفعهم أمثال هذه الآيات العظام. قال سيبويه: إن (كان) هنا صلة أي: زائدة.
(وإن ربك لهو العزيز الرحيم) أي: الغالب القاهر لهؤلاء بالانتقام منهم، مع كونه كثير الرحمة، ولذلك أمهلهم ولم يعاجلهم بالعقوبة، أو المعنى أنه منتقم من أعدائه رحيم بأوليائه.
364
وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (١١) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (١٢) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (١٣) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (١٤) قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (١٥) فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٦) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (١٧) قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (١٨) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (١٩)
365
(وإذ نادى ربك موسى) مستأنفة مسوقة لتقرير ما قبلها من الإعراض والتكذيب والاستهزاء وشروع في قصص سبع:
أولها: قصة موسى.
والثانية: قصة إبراهيم.
والثالثة: قصة نوح.
والرابعة: قصة هود.
والخامسة: قصة صالح.
والسادسة: قصة لوط.
والسابعة: قصة شعيب، والتقدير: واتل إذ نادى أو اذكر يا محمد والنداء الدعاء أي: نادى حين رأى الشجرة والنار وكان النداء بكلام سمعه من كل الجهات من غير واسطة.
(أن) مفسرة أو مصدرية، أي: بأن (ائت القوم الظالمين). وليس هذا مطلع ما ورد في حيز النداء، وأنما هو ما فصل في سورة طه من قوله: إني أنا ربك - إلى قوله لنريك من آياتنا الكبرى، ووصفهم بالظلم لأنهم جمعوا بين الكفر
365
الذي ظلموا به أنفسهم، وبين المعاصي التي ظلموا بها غيرهم، كاستعباد بني إسرائيل وذبح أبنائهم، وكانوا في ذلك الوقت ستمائة ألف وثلاثين ألفاً.
366
(قوم فرعون) يعني القبط، عطف بيان. كان معنى القوم الظالمين وترجمته قوم فرعون، وكأنهما عبارتان تعتقبان على مؤدى واحد.
(ألا يتقون) أي: ألا يخافون عقاب الله سبحانه، فيصرفون عن أنفسهم عقوبته بطاعته. وقيل: المعنى قل لهم: ألا تتقون. وجاء بالتحتية لأنهم غيب وقت الخطاب. وقرئ بالفوقية أي قل لهم ذلك ومثله قل للذين كفروا ستغلبون بالتحتية والفوقية أو ائتهم زاجراً فقد آن لهم أن يتقوا، وهي كلمة حث وإغراء. وقيل: يظلمون غير متقين الله وعقابه، وعلى هذا حال من الضمير في الظالمين.
(قال) موسى، واعتذر بثلاثة أعذار كل منها مرتب على ما قبله، وليس مراده الامتناع من الرسالة، بل إظهار العجز عن هذا الأمر الثقيل، وطلب المعونة عليه من الله.
(رب إني أخاف أن يكذبون) في الرسالة، والخوف غم يلحق الإنسان لأمر سيقع.
(ويضيق صدري) بتكذيبهم إياي.
(ولا ينطلق لساني) أي بتأدية الرسالة لعقدة كانت على لسانه، قرئ يضيق وينطلق، بالرفع على العطف، أو على الاستئناف وبنصبهما. قال الفراء: كلتا القراءتين لها وجه. قال النحاس: الوجه الرفع، لأن النصف عطف على (يكذبون) وهذا بعيد.
(فأرسل) جبريل بالوحي (إلى) أخي (هارون) ليكون معي رسولاً موازراً مظاهراً معاوناً، ولم يذكر الموازرة هنا لأنها معلومة من غير هذا الموضع، كقوله في طه: (واجعل لي وزيراً من أهلي). وفي القصص: (أرسله معي ردءاً يصدقني). وكان هارون بمصر حين بعث موسى نبياً بالشام، وهذا من موسى عليه السلام من باب طلب المعاونة له، والتماس العون في تبليغ الرسالة بإرسال
366
أخيه، لا من باب الاستعفاء من الرسالة، ولا من التوقف عن المسارعة بالامتثال، وكفى بطلب العون دليلاً على التقبل لا على التقلل.
367
(ولهم عليَّ ذنب) هو قتله للقبطي، قال قتادة: وسماه ذنباً بحسب زعمهم، أو كما سمى جزاء السيئة سيئة.
(فأخاف أن يقتلون) به قصاصاً فيفوت المقصود من الرسالة: فهذا هو الخائف عليه، وليس هذا تعللاً أيضاً، بل استدفاع للبلية المتوقعة، وفيه دليل على أن الخوف قد يحصل مع الأنبياء فضلاً عن الفضلاء، ثم أجابه سبحانه بما يشتمل على نوع من الرح. وطرف من الزجر.
(قال كلا) أي لا يقتلونك كأنه قيل. ارتدع عما تظن (فاذهبا) أي أنت وأخوك (بآياتنا) وفي ضمن هذا الجواب إجابة موسى إلى ما طلبه من ضم أخيه إليه كما يدل عليه توجيه الخطاب إليهما، وفيه تغليب الحاضر على الغائب، لأنه إذ ذاك كان بمصر. والإرسال والخطاب كان في الطور.
(إنا معكم) وفي هذا تعليل للردع عن الخوف، وهو كقوله سبحانه: إنني معكما أسمع وأرى، وأراد بذلك سبحانه تقوية قلوبهما، وأنه متول لحفظهما وكلاءتهما، وأجراهما مجرى الجمع فقال: (معكم) لكون الاثنين أقل الجمع على ما يذهب إليه بعض الأئمة أو لكونه أراد موسى وهارون ومن أرسلا إليه. ويجوز أن يكون المراد هما مع بني إسرائيل، أو تعظيماً لهما، ولا يخفى ما في المعية من المجاز لأن المصاحبة من صفات الأجسام، فالمراد معية النصرة والمعونة.
(مستمعون) أي: سامعون ما تقولون وما يقال لكم، والاستماع في غير هذا، الإصغاء للسماع يقال: استُمع فلان حديثه أي: أصغي إليه، ولا يجوز حمله هاهنا على ذلك، فحمل على السماع، قاله النسفي.
(فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين) الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها. قال القرطبي: فانطلقا إلى فرعون فلم يأذن لهما سنة في الدخول عليه،
367
ووحّد الرسول هنا، ولم يثنه كما في قوله إنا رسولا ربك، لأنه مصدر بمعنى رسالة والمصدر يوحد، وأما إذا كان بمعنى المرسل فإنه يثنى مع المثنى ويجمع مع الجمع، قال أبو عبيدة رسول بمعنى رسالة، والتقدير على هذا إنا ذوو رسالة. وقال أبو عبيدة أيضاً يجوز أن يكون الرسول بمعنى الاثنين والجمع، تقول العرب هذا رسولي ووكيلي، وهذان رسولي ووكيلي، وهؤلاء رسولي ووكيلي، ومنه قوله تعالى: فإنهم عدو لي. وقيل: إن معناه أن كل واحد منا رسول.
وقيل: إنهما لما كانا متعاضدين متساعدين في الرسالة كانا بمنزلة رسول واحد، وأن في قوله
368
(أن أرسل معنا بني إسرائيل) مفسرة لتضمن الإرسال المفهوم من الرسول معنى القول، أي: خلهم، واطلقهم معنا إلى أرض فلسطين، ولا تستعبدهم، وكان قد استعبدهم أربعمائة سنة.
(قال) فرعون لموسى بعد أن أتياه وقالا له ما أمرهما الله به: (ألم نربّك فينا) أي في حجرنا ومنازلنا أراد بذلك المن عليه والاحتقار له أي: ربيناك لدينا (وليداً) أي: صغيراً قريباً من الولادة بعد فطامك، ولم نقتلك فيمن قتلنا من الأطفال.
(ولبثت فينا من عمرك سنين) فمتى كان هذا الذي تدعيه؟ قيل: لبث
فيهم ثماني عشرة سنة، وقيل: ثلاثين سنة، وقيل: أربعين سنة، ثم وبخه
بقتل القبطي فقال:
(وفعلت فعلتك التي فعلت) الفعلة بفتح الفاء المرة من الفعل، كما قيل (١) الفعلة للمرة، والفعلة للحالة، وقرأ الشعبي بكسر الفاء. والفتح أولى، لأنها للمرة الواحدة لا للنوع، والمعنى إنه عدد عليه النعم، وذكر له ذنوبه، وأراد بالفعلة قتل القبطي ثم قال: (وأنت من الكافرين) للنعمة حيث قتلت رجلاً من أصحابي، وقيل: من الكافرين بأن فرعون إله، وقيل من الكافرين بالله في زعمه لأنه كان معهم على دينهم.
_________
(١) لعله أراد. كما قيل عن الفعلة للمرة الخ " المطيعي ".
368
قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (٢٠) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢١) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (٢٢) قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (٢٣) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٢٤) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (٢٥) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٢٦) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (٢٧)
369
(قال) موسى مجيباً لفرعون (فعلتها إذاً) أي فعلت هذه الفعلة التي ذكرت وهي قتل القبطي (وأنا) إذ ذاك (من الضالين) أي: الجاهلين قاله ابن عباس فنفى عليه الصلاة والسلام عن نفسه الكفر، وأخبر أنه فعل ذلك على الجهل قبل أن يأتيه العلم الذي علمه الله، وقيل: المعنى من الجاهلين أن تلك الوكزة تبلغ القتل، وقال أبو عبيدة: من الناسين، وقيل: من المخطئين. قال ابن جرير: العرب تضع الضلال موضع الجهل والجهل موضع الضلال.
(ففررت منكم) أي خرجت من بينكم إلى مدين كما في سورة القصص (لمّا خفتكم) أن تقتلوني وذلك حين قال له مؤمن من آل فرعون: إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج، الآية.
(فوهب لي ربي) أي نبوة أو علماً وفهماً، وقال الزجاج: المراد بالحكم تيعليمه التوراة التي فيها حكم الله.
(وجعلني من المرسلين) أي من جملة رسله رد بذلك ما وبخه به فرعون قدحاً في نبوته وهو القتل بغير حق ووجه الرد أن موهبة الحكم والنبوة كانت بعد تلك الحادثة.
(وتلك نعمة تمنها عليَّ) قيل هذا الكلام من موسى على جهة الإقرار بالنعمة، كأنه قال نعم تلك التربية نعمة تمن بها عليَّ، ولكن لا يدفع ذلك رسالتي، وبهذا
369
قال الفراء وابن جرير.
وقيل: هو من موسى على جهة الإنكار أي أتمنّ عليَّ بأن ربيتني وليداً، وأنت قد استعبدت بني إسرائيل وقتلتهم، وهم قومي قال الزجاج: المفسرون أخرجوا هذا على جهة الإنكار لأن يكون ما ذكر فرعون نعمة على موسى، واللفظ لفظ خبر، وفيه تبكيت للمخاطب على معنى أنك لو كنت لا تقتل أبناء بني إسرائيل لكانت أمي مستغنية عن قذفي في البحر، فكأنك تمنّ على ما كان بلاؤك سبباً له، وذكر نحوه الأزهري بأبسط منه.
وقال المبرد: يقول. التربية كانت بالسبب الذي ذكرت من التعبّد، أي: تربيتك إياي كانت لأجل التملك والقهر لقومي. وقيلْ إن في الكلام تقدير الاستفهام، أي: أو تلك نعمة؛ قاله الأخفش وأنكره النحاس قال الفراء: ومن قال: إن الكلام إنكار قال: أو تلك نعمه؟ أي ليست هذه نعمة حتى تمنّ بها عليّ.
ومعنى (أن عبدت بني إسرائيل) أن اتخذتهم عبيداً، يقال عبّدته وأعبدته بمعنى كذا قال الفراء، ومحله الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أو بدل من نعمة، والجر بإضمار الباء، والنصب بحذفها، وعن مجاهد قال: عبدّت بني إسرائيل وقهرتهم واستعملتهم. وفيه أوجه سبعة ذكرها السمين.
370
(قال فرعون وما رب العالمين) أي لما سمع قول موسى وهارون (إنّا رسول رب العالمين) قال مستفسراً لهما عن ذلك، عازماً على الاعتراض لما قالاه، أي: أي شيء هو؟ وجاء في الاستفهام بـ (ما) التي يستفهم بها عن المجهول، ويطلب بها تعيين الجنس. وقيل: معناه وما صفته؟ تقول ما زيد؟ أي طويل أم قصير؟ فقيه أم طبيب؟ نص عليه صاحب الكشاف وغيره.
فلما قال فرعون ذلك
(قال) موسى: (رب السماوات والأرض وما بينهما) أي بيّن الجنسين فعيّن له ما أراد بالعالمين، وترك جواب ما سأل عنه فرعون لأنه سأل عن جنس رب العالمين، ولا جنس له، فأجابه موسى بما يدل على عظيم القدرة الإلهية التي تتضح لكل سامع أنه سبحانه الربّ ولا ربّ غيره، وفيه إبطال
370
لدعواه أنه إله.
(إن كنتم موقنين) بشيء من الأشياء فهذا أولى بالإيقان، لظهوره، وإنارة دليله، وهو العلم الذي يستفاد بالاستدلال، ولذا لا يقال الله موقن.
371
(قال) فرعون (لمن حوله) من أشراف قومه وهم خمسمائة رجل عليهم الأساور وكانت للملوك خاصة (ألا تستمعون)؟ ما قاله، يعني موسى معجباً لهم من ضعف المقالة، كأنه قال: أتسمعون وتعجبون؟ يعني سألته عن حقيقته وهو يذكر أفعاله، أو يزعم أنه ربّ السماوات، وهي واجبة متحركة لذاتها كما هو مذهب الدهرية، أو غير معلوم افتقارها إلى مؤثر. والعدول عن الجواب المطابق متعين لاستحالته. فالسؤال عن الحقيقة سفه وعبث وحمق، وهذا من اللعين مغالطة لما لم يجد جواباً عن الحجة التي أوردها عليه موسى، فلما سمع موسى ما قاله فرعون أورد عليه حجة أخرى، هي مندرجة تحت الحجة الأولى، ولكنها أقرب إلى فهم السامعين.
(قال ربكم ورب آبائكم الأولين) وخص من العام المتقدم أنفسهم وآباءهم لأن أقرب المنظور فيه من العاقل نفسه ومن ولد منه. وهي أظهر دلالة على القادر فأوضح لهم أن فرعون مربوب لا رب كما يدعيه.
والمعنى أن هذا الرب الذي أدعوكم إليه هو الذي خلق آباءكم الأولين وخلقكم، فكيف تعبدون من هو واحد منكم؟ مخلوق كخلقكم، وله آباء قد فنوا كآبائكم، فلم يجبه فرعون عند ذلك بشيء يعتدّ به، بل جاء بما يشكك قومه ويخيل إليهم أن هذا الذي قاله موسى مما لا يقوله العقلاء.
(قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون) قاصداً بذلك المغالطة وإيقاعهم في الحيرة، مظهراً أنه مستخفّ بما قاله موسى مستهزئ به، لأني أسأله عن شيء ويجيبني عن آخر، وأضافه إلى مخاطبيه ترفعاً عن أن يكون مرسلاً إلى نفسه فأجابه موسى عند ذلك بما هو تكميل لجوابه الأول.
371
قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (٢٨) قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (٢٩) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (٣٠) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣١) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (٣٢) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (٣٣) قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (٣٤) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (٣٥) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (٣٦) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (٣٧) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٣٨) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (٣٩)
372
(قال رب المشرق والمغرب وما بينهما) خصهما لأنهما أوضح دلالة وأظهر، وذلك أنه أراد بالمشرق طلوع الشمس وطلوع النهار، وأراد بالمغرب غروب الشمس وزوال النهار، ومعلوم أن طلوع الشمس من أحد الخافقين، وغروبها في الآخر على تقدير مستقيم، لا يكون إلا بتقدير قادر حكيم، والمعنى ليس ملكه كملكك لأنك إنما تملك بلداً واحداً لا يجري أمرك في غيره، ويموت فيه من لا تحب أن يموت.
والذي أرسلني، يملك المشرق والمغرب وما بينهما، أي فتشاهدون في كل يوم أنه يأتي بالشمس من المشرق، ويحركها على مدار غير مدار اليوم الذي قبله، حتى يبلغها إلى المغرب على وجه نافع تنتظم به أمور الكائنات، ولم يشتغل موسى بدفع ما نسبه إليه من الجنون، بل بين لفرعون شمول ربوبية الله للمشرق والمغرب وما بينهما، وإن كان ذلك داخلاً تحت ربوبيته سبحانه للسموات والأرض وما بينهما لما تقدم، ولأن فيه تصريحاً بإسناد حركات السماوات وما فيها وتغيير أحوالها وأوضاعها، تارة بالنور، وتارة بالظلمة إلى الله، وقيل علم موسى أن قصده. في السؤال معرفة من سأل عنه
372
فأجاب بما هو الطريق إلى معرفة الرب.
(إن كنتم تعقلون) شيئاًً من الأشياء، أو إن كنتم من أهل العقول أي إن كنت يا فرعون ومن معك من العقلاء، عرفت وعرفوا أنه لا جواب لسؤالك إلا ما ذكرت لك، لاينهم أولاً، وعاملهم بالرفق، حيث قال لهم (إن كنتم موقنين) ثم لما رأى شدة شكيمتهم، خاشنهم واغلظ عليهم في الرد، وعارضهم بمثل مقالتهم بقوله: (إن كنتم تعقلون) لأنه أبلغ وأوفق بما قبله من رد نسبة الجنون إليه، ثم إن اللعين لما انقطع عن الحجة رجع إلى الاستعلاء والتغلب والتهديد، وهكذا ديدن المعاند المحجوج.
373
(قال لئن اتخذت إلهاً غيري لأجعلنّك من المسجونين) أي: من أهل السجن، واللام للعهد، أي ممن عرفت حالهم في سجوني. وكان سجن فرعون أشد من القتل، لأنه إذا سجن أحداً لم يخرجه حتى يموت، وكان يطرحه في هوة عميقة في مكان تحت الأرض وحده. ولذلك (أجعل) أبلغ من (لأسجننك) فتوعد موسى بالسجن، ولم يقل ما دليلك على أن هذا الإله أرسلك، لأن فيه الاعتراف بأن ثمة إلهاً غيره، وفي توعده بالسجن ضعف، لما يروى أنه كان يفزع من موسى فزعاً شديداً، حتى كان اللعين لا يمسك بوله فلما سمع موسى عليه الصلاة والسلام ذلك لاطفه طمعاً في إجابته، وإرخاء لعنان المناظرة معه، مريداً لقهره بالحجة المعتبرة في باب النبوة، وهي إظهار المعجزة، فعرض له على وجه يلجئه إلى طلب المعجزة.
(قال أو لو جئتك بشيء مبين) أي: اتجعلني من المسجونين؟ وتفعل ذلك؟ ولو جئتك بشيء يتبين به صدقي، وتظهر عنده صحة دعواي؟ يعني المعجزة فإنها الجامعة بين الدلالة على وجود الصانع وحكمته، وبين الدلالة على صدق دعوى من ظهرت على يده. والهمزة هنا للاستفهام، والواو للعطف على مقدر كما مر مراراً، فلما سمع فرعون ذلك طلب ما عرضه عليه موسى.
(قال فأت به إن كنت من الصادقين) في دعواك وإنما أمره بذلك لظنه أنه
373
يقدر على معارضته وهذا الشرط جوابه محذوف، لأنه قد تقدم ما يدل عليه، فعند ذلك أبرز موسى المعجزة.
374
(فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين) أي: ظاهر ثعبانيته ليس بتمويه وتخييل كما يفعل السحرة.
قيل: إنها لما صارت حية ارتفعت في السماء قدر ميل. ثم انحطت مقبلة إلى فرعون، فقال بالذي أرسلك إلا أخذتها، فأخذها موسى فعادت عصا كما كانت، وقد تقدم تفسير هذا وما بعده في سورة الأعراف واشتقاق الثعبان من ثعبت الماء في الأرض فانثعب، أي: فجرته فانفجر، وقد عبر سبحانه في موضع آخر مكان الثعبان بالحية بقوله: (فإذا هي حية تسعى) وفي موضع بالجان، فقال: (كأنها جانٌ) والجانّ هو المائل إلى الصغر، والثعبان هو المائل إلى الكبر، والحية جنس يشمل الكبير والصغير.
(ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين) خلاف ما كانت عليه من الأدمة (١) فيه دليل على أن بياضها كان شيئاًً يجتمع النظارة على النظر إليه لخروجه عن العادة، وكان بياضها نورياً، قال ابن عباس يقول: وأخرج موسى يده من جيبه، فإذا هي بيضاء تلمع للناظرين لمن ينظر إليها ويراها من غير برص، لها شعاع كشعاع الشمس يكاد يغشي الأبصار، ويسد الأفق.
_________
(١) السمرة.
(قال للملأ) مستقرين (حوله إن هذا لساحر عليم) فائق في علم السحر، وكان زمان السحر فلهذا روج فرعون هذا القول على قوله، ثم قال على سبيل التنفير:
(يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره) لئلا يقبلوا قول موسى عليه الصلاة والسلام.
(فماذا تأمرون) أي ما رأيكم فيه؟ وما مشورتكم في مثله؟ فأظهر لهم الميل إلى ما يقولونه تألّفاً لهم، واستجلاباً لمودتهم، لأنه قد أشرف ما كان فيه من دعوى الربوبية على الزوال، وقارب ما كان يعزز به عليهم الاضمحلال، وإلا
374
فهو أكبر تيهاً، وأعظم كبراً من أن يخاطبهم مثل هذه المخاطبة، المشعرة بأنه فرد من أفرادهم، وواحد منهم، مع كونه قبل هذا الوقت يدعي أنه إلههم، ويذعنون له بذلك ويصدقونه في دعواه.
قال أبو السعود: بهره سلطان المعجزة، وحيره حتى حطه عن ذروة ادعاء الربوبية إلى حضيض الخضوع لعبيده في زعمه، والامتثال بأمرهم، أو إلى مقام مؤامرتهم ومشاورتهم، بعد ما كان مستقلاًّ بالرأي والتدبير، وأظهر استشعار الخوف من استيلائه على ملكه، ونسبة الإخراج والأرض إليهم لتنفيرهم عن موسى عليه السلام.
375
(قالوا أرجه وأخاه) أخرّ أمرهما، من أرجيته إذا أخرته. وقيل المعنى احبسهما (وابعث في المدائن حاشرين) للسحرة، وهم الشَرِط الذين يحشرون الناس، أي يجمعونهم
(يأتوك بكل سحار عليم) هذا ما أشاروا به عليه، وجاءوا بكلمة الإحاطة وصيغة المبالغة ليسكنوا بعض قلقه. والمراد بالسحار العليم الفائق في معرفة السحر وصنعته، أي: يفضل موسى ويفوق ويزيد عليه في علم السحر.
(فجمع السحرة لميقات يوم معلوم) هو يوم الزينة كما في قوله: (قال موعدكم يوم الزينة. وكان يوم عيد لهم أو يوم سوق، وميقاته وقت الضحى لأنه الوقت الذي وقته لهم موسى من يوم الزينة حيث قال: (وأن يحشر الناس ضحى) والميقات ما وقت، أي حد من زمان، أو مكان. ومنه مواقيت الإحرام والصلاة.
(وقيل للناس هل أنتم مجتمعون)؟ حثّاً لهم على الاجتماع ليشاهدوا ما يكون من موسى والسحرة، ولمن تكون الغلبة، وكان ذلك ثقة من فرعون بالظهور؛ وطلباً أن يكون بمجمع من الناس حتى لا يؤمن بموسى أحد منهم، فوقع ذلك من موسى الموقع الذي يريده، لأنه يعلم أنّ حجة الله هي الغالبة وحجة الكافرين هي الداحضة، وفي ظهور حجة الله بمجمع من الناس زيادة في الاستظهار للمحقين، والانقهار للمبطلين.
375
لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (٤٠) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (٤١) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٢) قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٤٣) فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (٤٤) فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (٤٥) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (٤٦) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (٤٧)
376
(لعلنا نتبع السحرة) في دينهم (إن كانوا هم الغالبين) لا موسى عليه السلام؛ وليس مرادهم بذلك أن يتبعوا دينهم حقيقة؛ وإنما هو أن لا يتبعوا موسى عليه السلام، لكنهم ساقوا كلامهم مساق الكناية حملاً لهم على الاهتمام والجد في المبالغة. قاله أبو السعود. وقيل أراد بالسحرة موسى وهارون على طريقة الاستهزاء.
(فلما جاء السحرة) أي فعند ذلك طلب السحرة من فرعون الجزاء على ما سيفعلونه (وقالوا لفرعون أئن لنا لأجراً)؟ أي: لجزاء تجزينا به من مال أو جاه وقيل: أرادوا أن لنا ثواباً عظيماً، ثم قيدوا ذلك بظهور غلبتهم لموسى فقالوا (إن كنا نحن الغالبين) فوافقهم فرعون على ذلك.
(قال نعم وإنكم إذاً لمن المقربين) أي نعم، لكم ذلك الأجر والجعل عندي، على عملكم السحر مع زيادة عليه، وهي كونكم من المقربين لديّ.
(قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون) من السحر، فسوف ترون عاقبته. وفي آية أخرى (قالوا إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين)، فيحمل ما هاهنا على أنه قال لهم ألقوا بعد أن قالوا هذا القول، ولم يكن ذلك من موسى عليه السلام أمراً لهم بفعل السحر والتمويه، بل أراد أن يقهرهم
376
بالحجة، توسلاً إلى إظهار الحق، ويظهر لهم أن الذي جاء به ليس هو من الجنس الذي أرادوا معارضته به.
377
(فألقوا حبالهم وعصيهم) سبعين ألف حبل وسبعين ألف عصا وقيل كانت الحبال اثنين وسبعين ألفاً وكذا العصي، فيخيلون أنها حيات تسعى (وقالوا) عند الإلقاء (بعزة فرعون) أقسموا بعزته وقوته. وهو من أيمان الجاهلية. وقولهم هذا يحتمل وجهين؛ الأول: أنه قسم، وجوابه ما بعده والثاني: إن يتعلق بمحذوف والباء للسببية والمراد بالعزة العظمة (إنا لنحن الغالبون) أي: نغلب بسبب عزته لفرط اعتقادهم في أنفسهم بالغلبة؛ وإتيانهم بأقصى ما يمكن أن يؤتى به من السحر.
(فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون) قد تقدم تفسير هذا مستوفى؛ والمعنى أنها تبتلع وتلقف ما صدر منهم من الإفك؛ بإخراج الشيء عن صورته الحقيقية. قيل أن عصا موسى صارت حية وابتلعت كل ما رموه من حبالهم وعصيهم ثم أخذها موسى فإذا هي كما كانت أول مرة.
(فألقي السحرة) أي فخروا وسقطوا (ساجدين) أي لما شاهدوا ذلك علموا أنه صنيع صانع حكيم. ليس من صنيع البشر؛ ولا من تمويه السحرة فآمنوا بالله وسجدوا له. وأجابوا دعوة موسى وقبلوا نبوّته. وعبّر عن الخرور بالإلقاء بطريق المشاكلة لأنه ذكر مع الإلقاءات؛ ولأنهم لسرعة ما سجدوا صاروا كأنهم ألقوا وأخذوا فطرحوا على وجوههم، وأنه تعالى ألقاهم بما خولهم من التوفيق. وقد تقدم بيان معنى ألقى ومن فاعله، لوقوع التصريح به.
قال الشهاب ففي (فألقي) استعارة تبعية حسنها المشاكلة، وليس مجازاً مرسلاً وإن احتمله النظم، ووجه الشبه عدم التمالك.
(قالوا) عند سجودهم، بدل اشتمال من (ألقى) أو حال بإضمار قد: (آمنا برب العالمين) قال عكرمة أمسوا سحرة وأصبحوا شهداء.
377
رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (٤٨) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (٤٩) قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (٥٠) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (٥١) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٥٢) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (٥٣) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (٥٤) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (٥٥) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (٥٦) فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٧) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (٥٨)
378
(رب موسى وهارون) بدل للتوضيح والإشعار بأن سبب إيمانهم ما أجراه الله تعالى على يدهما، لعلمهم بأن ما شاهدوه من العصا لا يتأتى بالسحر، وأضافوه سبحانه إليهما لأنهما القائمان بالدعوة في تلك الحالة. وفيه تبكيت لفرعون، فإنه ليس برب وإن الرب في الحقيقة هو هذا. فلما سمع فرعون ذلك منهم ورأى سجودهم لله.
(قال آمنتم له قبل أن آذن لكم)؟ أي بغير إذن مني، قال ذلك لما خاف على قومه أن يتبعوا السحرة، ثم قال مغالطاً للسحرة الذين آمنوا وموهماً للناس أن فعل موسى سحر من جنس ذلك السحر.
(إنه لكبيركم الذي علمكم السحر) وإنما اعترف له بكونه كبيرهم، مع كونه لا يحب الاعتراف بشيء يرتفع به شأن موسى، لأنه قد علم كل من حضر أن ما جاء به موسى أبهر مما جاء به السحرة، فأراد أن يشكك على الناس بأن هذا الذي شاهدتم، وإن كان قد فاق على ما فعله هؤلاء السحرة فهو فعل كبيرهم، وهو من أستاذهم الذي أخذوا عنه هذه الصناعة، فلا
378
تظنوا أنه فعل لا يقدر عليه البشر، وأنه من فعل الرب الذي يدعو إليه موسى، ولا تعتقدوا أنّ السحرة آمنوا على بصيرة، وظهور حق، يعني أن غلبته عليكم لم تكن بالعجز الإلهي، بل بما لم يعلمكم من السحر، وأنتم لضعف عقولكم حسبتم أنه غلبكم بغير جنس السحر، فآمنتم.
ثم توعد أولئك السحرة الذين آمنوا بالله لما قهرتهم حجة الله فقال: (فلسوف تعلمون) وبال ما فعلتم وما ينالكم مني. أجمل التهديد أولا للتهويل، ثم فصله فقال:
(لأقطعنّ أيديكم وأرجلكم من خلاف) أي من أجل خلافٍ ظهر منكم. وقيل: أي يد كل واحد اليمنى ورجله اليسرى (ولأصلبنّكم أجمعين) كأنه أراد به ترهيب العامة لئلا يتبعونهم في الإيمان. قيل: إنه فعل بهم ما توعدهم به من التقطيع والتصليب وقيل: لم يفعله بهم ولم يرد في القرآن ما يدل على أنه فعل بهم ذلك، فلما سمعوا ذلك من قوله
379
(قالوا لا ضير) أي لا ضرر علينا فيما يلحقنا من عقاب الدنيا، فإن ذلك يزول، ولا بد من الانقلاب بعده إلى ربنا، فيعطينا من النعيم الدائم ما لا يُحَدُّ ولا يوصف. قال الهروي: لا ضير ولا ضرر ولا ضر، بمعنى واحد، قال الجوهري: ضاره يضوره ويضيره ضيراً وضوراً أي ضره، قال الكسائي سمعت بعضهم يقول لا ينفعني ذلك ولا يضورني، قال أبو زيد: لا يضيرنا الذي تقول وإن صنعت بنا وصلبتنا.
(إنا إلى ربنا منقلبون) أي راجعون، وهو مجازينا لصبرنا على عقوبتك إيانا، وثباتنا على توحيده، والبراءة من الكفر قاله أبو زيد، تعليل لعدم الضير أي لا ضير في ذلك، بل لنا فيه نفع عظيم، لما يحصل لنا في الصبر عليه لوجه الله تعالى من تكفير الخطايا والثواب العظيم، أو لا ضير علينا فيما
379
تتوعدنا به من القتل؛ إذ لا بد لنا من الانقلاب إلى ربنا بسبب من أسباب الموت، والقتل أهونها وأرجاها.
380
(إنّا نطمع) أي نرجو (أن يغفر لنا ربنا خطايانا) أي الكفر والسحر، ثم علّلوا هذا بقولهم: (أن كنا) أي بسبب أن كنا (أول المؤمنين) أي: أنهم أول من آمن من قوم فرعون بعد ظهور الآية أو من أهل المشهد.
وقال الفرّاء أول مؤمني زمانهم، وأنكره الزجاج، وقال: قد روي أنه أمن معهم ستمائة ألف وسبعون ألفاً، وهم الذين عناهم فرعون بقوله: إن هؤلاء لشرذمة قليلون قاك أبو زيد: كانوا كذلك يومئذ أول من آمن بآياته حين رأوها.
(وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي) أمر الله سبحانه موسى أن يخرج ببني إسرائيل ليلاً إلى البحر، أي لا إلى جهة الشام بالبر، وهذا بعد سنين من إيمان السحرة، وسمّاهم عباده لأنهم آمنوا بموسى وبما جاء به. وقد تقدم تفسير مثل هذا في سورة الأعراف.
(إنكم مُتبعون) تعليل للأمر المتقدم، أي: يتبعكم فرعون وقومه ليردوكم أي: أسر بهم حتى إذا اتبعوكم مصبحين، كان لكم تقدم عليهم بحيث لا يدركونكم قبل وصولكم إلى البحر، بل يكونون على أثركم حيث تلجون البحر، فيدخلون مداخلكم فأطبقه عليهم وأغرقهم.
(فأرسل فرعون في المدائن حاشرين) وذلك حين بلغه خروجهم، والمراد بالحاشرين الجامعون للجيش من الأمكنة التي فيها أتباع فرعون، ثم قال فرعون لقومه بعد اجتماعهم لديه:
(إن هؤلاء لشرذمة قليلون) يريد بني إسرائيل والشرذمة الجمع الحقير
380
القليل والجمع شراذم. قال الجوهري: الشرذمة الطائفة القليلة من الناس والقطعة من الشيء وثوب شراذم أي قطع، قال الفراء يقال عصبة قليلة وقليلون وكثيرة وكثيرون. قال المبرد: الشرذمة القطعة من الناس غير الكثير، وجمعها الشراذم.
قال الواحدي: قال المفسرون وكان الشرذمة الذين قللهم فرعون ستمائة ألف، وبه قال ابن عباس ولا يحصى عدد أصحاب فرعون وقال ابن مسعود ستمائة ألف وسبعون ألفاً، ومقدمة جيشه سبعمائة ألف، فقللهم بالنظر إلى كثرة جيشه، وجملة جيشه ألف ألف وستمائة ألف.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان أصحاب موسى الذين جازوا البحر اثني عشر سبطاً فكان في كل طريق اثنا عشر ألفاً كلهم ولد يعقوب.
وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً بسند، قال السيوطي واه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " كان فرعون عدو الله حيث أغرقه الله سبحانه هو وأصحابه في سبعين قائداً، مع كل قائد سبعون ألفاً، وكان موسى مع سبعين ألفاً حيث عبروا البحر ".
وعنه قال: كان طلائع قوم فرعون الذين بعثهم في أثرهم ستمائة ألف ليس فيها أحد إلا على بهيم. وأقول هذه الأقوال والروايات المضطربة قد روي عن كثير من السلف ما يماثلها في الاضطراب والاختلاف، ولا يصح منها شيء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
381
(وإنّهم لنا لغائظون) يقال غاظني كذا، والغيظ الغضب، ومنه التغيظ والاغتياظ، أي غاظونا بخروجهم من غير إذن مني.
(وإنا لجميع حاذرون) أي خائفون من شرّهم، وقرئ (حذرون) قال الفراء الحاذر الذي يحذرك الآن، والحذر المخلوق كذلك، أي مجبولاً على الحذر لا تلقاه إلا حذراً وقال الزجاج الحاذر المستعد، والحذر المتيقظ، وبه قال الكسائي، والمبرد، وذهب أبو عبيدة إلى أن معنى (حاذرون) و (حذرون) واحد. وهو قول سيبويه أي وإنا لجمع من عادتنا الحذر، واستعمال الحزم في الأمور. أشار أولاً إلى عدم ما يمنع اتباعهم من شوكتهم، ثم إلى تحقق ما يدعو إليه من فرط عدوانهم ووجوب التيقظ في شأنهم، حثّاً عليه. أو اعتذر بذلك إلى أهل المدائن كيلا يظن به ما يكسر سلطانه قاله البيضاوي.
(فأخرجناهم) أي فرعون وقومه أي خلقنا فيهم داعية الخروج فخرجوا (من جنات وعيون وكنوز) أخرجهم الله من أرض مصر ليلحقوا موسى وقومه. وفيها الجنات والبساتين على جانبي النيل من أسوان إلى رشيد وهي جمع جَنة، وعين، وكنز، والمراد بالكنوز الخزائن، وقيل الدفائن وقيل الأنهار، وفيه نظر؛ لأن العيون المراد بها عند جمهور المفسرين عيون الماء، فتدخل تحتها الأنهار.
والمراد بالكنوز الأموال الظاهرة من الذهب والفضة، وسميت كنوزاً لأنه لم يعط حق الله منها، وفي الشهاب المراد بها إما الأموال التي تحت الأرض، وخصها لأن ما فوقها انطمس، أو مطلق المال الذي لم يؤد منه حق الله لأنه يقال له كنز، والأول أوفق باللغة، والثاني مروي عن السلف فلا وجه للتحكم هنا.
(ومقام كريم) أي بهي بهيج واختلف فيه، فقيل المنازل الحسان، وقيل المنابر، قاله ابن عباس، وقيل مجالس الرؤساء والأمراء والوزراء، حكاه ابن عيسى وقيل مرابط الخيل، الأول أظهر، وقال سعيد بن جبير سمعت أن المقام الكريم الفيوم.
382
كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (٥٩) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (٦٠) فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (٦١) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (٦٢) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (٦٣) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (٦٤) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (٦٥) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٦٦) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٦٧) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦٨) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (٦٩) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (٧٠) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (٧١) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (٧٢)
383
(كذلك) أي أخرجناهم مثل ذلك الإخراج الذي وصفنا أو مقام كريم مثل ذلك المقام الذي كان لهم أو الأمر كذلك (وأورثناها بني إسرائيل) أي جعلناها ملكاً لهم بعد إغراق فرعون وقومه.
قال الحسن: لما عبروا النهر رجعوا وأخذوا ديارهم وجناتهم وأموالهم وعيونهم وقيل أراد بالوراثة هنا ما استعاروا من حلي آل فرعون بأمر الله تعالى وقيل مساكنهم الحسنة والكنوز (قلت) وكلا الأمرين جعل لهم والحمد لله.
(فأتبعوهم) بقطع الهمزة وقرئ بوصلها وتشديد التاء أي فلحقوهم حال كونهم (مشرقين) أي داخلين في وقت الشروق، يقال شرقت الشمس شروقاً أذا طلعت كأصبح وأمسى، أي: دخل في هذين الوقتين وقيل داخلين نحو المشرق كأنجد، واتّهم. وقيل: مضيئين قال الزجاج: يقال شرقت الشمس إذا طلعت، وأشرقت إذا أضاءت.
(فلما تراءى الجمعان) أي: تقابلا بحيث يرى كل فريق صاحبه، وهو تفاعل من الرؤية. وقرئ (تراءت الفئتان) والمراد بنو إسرائيل والقبط.
383
(قال أصحاب موسى إنا لمدكرون) أي سيدركنا جمع فرعون. ولا طاقة لنا بهم، وهذه قراءة الجمهور. يعني اسم مفعول من أدرك، ومنه (حتى إذا أدركه الغرق) وقرئ بفتح الدال المشددة وكسر الراء، قال الفراء هما بمعنى واحد. قال النحاس ليس كذلك يقول النحويون الحذاق إنما يقولون مدركون بالتخفيف ملحقون وبالتشديد مجتهدون في لحاقهم. قال: وهذا معنى قول سيبويه.
وقال الزمخشري: إن معنى هذه القراءة إنا لمتتابعون في الهلاك على أيديهم حتى لا يبقى منا أحد. قال موسى زجراً لهم وردعاً
384
(كلا) يعني أنهم لا يدركونكم، وذكرهم وعد الله بالهداية والخلاص، والظفر بقوله:
(إنّ معى ربي) بالنصر (سيهدين) أي سيدلّني على طريق النجاة. عن أبي موسى، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال إنّ موسى لما أراد أن يسير ببني إسرائيل أضلّ الطريق فقال لبني إسرائيل ما هذا؟ فقال له علماء بني إسرائيل: إن يوسف لما حضره الموت أخذ علينا موثقاً أن لا نخرج من مصر حتى ننقل تابوته معنا، فقال لهم موسى أيكم يدري أين قبره؟ فقالوا ما يعلم أحد مكان قبره إلا عجوز لبني إسرائيل، فأرسل إليها موسى فقال: دلينا على قبر يوسف، فقالت لا والله، حتى تعطيني حكمي، قال: وما حكمك؟ قالت: إن أكون معك في الجنة فكأنه ثقل عليه ذلك فقيل له: أعطها حكمها فأعطاها حكمها، فانطلقت بهم إلى بحيرة مستنقعة ماء فقالت لهم؛ انضبوا عنها الماء ففعلوا قالت: احفروا، فحفروا فاستخرجوا قبر يوسف فلما احتملوه إذا الطريق مثل ضوء النهار، فلما عظم البلاء على بني إسرائيل ورأوا من الجيوش ما لا طاقة لهم به، أمر الله سبحانه موسى أن يضرب البحر بعصاه وذلك قوله:
(فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر) وذلك أن الله عز وجل أراد أن تكون الآية متصلة بموسى، ومتعلقة بفعل يفعله، وإلا فضرب العصا ليس بفارق البحر، ولا معيناً على ذلك بذاته إلا بما اقترن به من قدرة الله
384
تعالى واختراعه، وبه نجا موسى وبنو إسرائيل وهلك عدوهم (فانفلق) الفاء فصيحة، أي: فضرب فصار وانشق اثني عشر فلقاً، بعدد الأسباط، وقام الماء عن يمين الطريق وعن يساره كالجبل العظيم، وهو معنى قوله:
(فكان كل فرق) هو القطعة من البحر، وقرئ (فلق) باللام بدل الراء (كالطود) كالجبل أو عظيمه والجمع أطواد، يقال طاد يطود إذا ثبت (العظيم) أي الضخم بينها مسالك سلكوها، لم يبتل منها سرج الراكب ولا لبده قاله ابن عباس، وابن مسعود.
385
(وأزلفنا ثَمَّ الآخرين) أي قربناهم إلى البحر قاله ابن عباس، قال أبو عبيدة أزلفنا جمعنا، ومنه قيل لليلة المزدلفة ليلة جمع، وثَمَّ ظرف مكان للبعيد، وقيل: قربنا من النجاة وقرئ (زلفنا) ثلاثياً، وقرئ (أزلقنا) أي أزللنا وأهلكنا، من قولهم، أزلقت الفرس إذا ألقت ولدها، ويعني بالآخرين فرعون وقومه وقيل، المراد بهم موسى وأصحابه والأول أولى.
قيل: كان جبريل بين بني إسرائيل وبين قوم فرعون. يقول لبني إسرائيل ليلحق آخركم أولكم، ويقول للقبط رويداً ليلحق آخركم أولكم فكان بنو إسرائيل يقولون ما رأينا أحسن سياسة من هذا الرجل، وكان القبط يقولون ما رأينا أحسن داع من هذا!.
(وأنجينا موسى ومن معه أجمعين) بمرورهم في البحر بعد أن جعله الله طرقاً يمشون فيها
(ثم أغرقنا الآخرين) يعني فرعون وقومه، أغرقهم الله بإطباق البحر عليهم، بعد أن دخلوا فيه متبعين موسى وقومه، وخرج بنو إسرائيل منه، وفيه إبطال القول بتأثير الكواكب في الآجال وغيرها من الحوادث، فإنهم اجتمعوا في الهلاك مع اختلاف طوالعهم.
(إن في ذلك) أي فيما صدر بين موسى وفرعون إلى هذه الغاية (لآية) عبرة عظيمة وقدرة باهرة من أدل العلامات على قدرة الله سبحانه وعظيم سلطانه لمن بعدهم.
385
(وما كان أكثرهم) أي أكثر هؤلاء الذين مع فرعون (مؤمنين) بالله فإنه لم يؤمن منهم فيما بعد إلا القليل كحزقيل وابنته، وآسية امرأة فرعون، والعجوز التي دلت على قبر يوسف وليس المراد أكثر من كان مع فرعون عند لحاقه بوسى، فإنهم هلكوا جميعاً في البحر، بل المراد من كان معه من الأصل، ومن كان متابعاً له، ومنتسباً إليه، هذا غاية ما يمكن أن يقال.
وقال سيبويه وغيره: إنّ (كان) زائدة، وأنّ المراد الإخبار عن المشركين بعد ما سمعوا الموعظة.
386
(وإنّ ربك لهو العزيز) أي المنتقم من أعدائه بإغراقهم (الرحيم) بأوليائه بإنجائهم.
(واتل) أي: أقصص يا محمد (عليهم) أي على كفار مكة (نبأ) خبر (إبراهيم) وحديثه
(إذ قال) أي وقت قوله (لأبيه وقومه ما) أي أيُّ شيء (تعبدون) وهو يعلم أنهم يعبدون الأصنام، ولكنه أراد إلزام الحجة وليريهم أنّ ما يعبدونه ليس بمستحق للعبادة، بل بمعزل عنها بالكلية.
(قالوا نعبد أصناماً) افتخاراً ومباهاة بعبادتها (فنظل لها عاكفين) أي فنقيم وندوم على عبادتها، مستمرين طوال النهار، لا في وقت معين. يقال ظل يفعل كذا إذا فعله نهاراً، وبات يفعل كذا إذا فعله ليلاً، فظاهره أنهم يستمرون على عبادتهم نهاراً لا ليلاً والمراد من العكوف لها الإقامة على عبادتها وإنما قال (لها) لإفادة أن ذلك العكوف لأجلها.
فلما قالوا هذه المقالة
(قال) إبراهيم منبهاً على فساد مذهبهم (هل يسمعونكم إذ تدعون)؟ قال الأخفش المعنى هل يسمعون منكم؟ أو هل يسمعون دعاءكم؟ وقرأ قتادة هل يُسمعونكم؟ بضم الياء أي هل يسمعونكم أصواتهم وقت دعائكم لهم؟ قال الزمخشري إنه على حكاية الحال الماضية، ومعناه استحضروا الأحوال التي كنتم تدعونها فيها، هل سمعوكم إذا دعوتم؟ وهو أبلغ في التبكيت.
386
أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (٧٣) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (٧٤) قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٧٥) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (٧٦) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (٧٧) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (٧٨) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (٧٩) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (٨٠)
387
(أو ينفعونكم)؟ بوجه من وجوه النفع إن عبدتموها (أو يضرون) أي يضرونكم إذا تركتم عبادتها؟ وهذا الاستفهام للتقرير، فإنها إذا كانت لا تسمع ولا تنفع ولا تضر، فلا وجه لعبادتها، فإذا قالوا نعم هي كذلك أقروا بأن عبادتهم لها من باب اللعب والعبث والسفه، وعند ذلك تقوم الحجة عليهم، فلما أورد عليهم الخليل هذه الحجة الباهرة، لم يجدوا لها جواباً إلا رجوعهم إلى التقليد البحت وهو أنهم.
(قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون) هذه العبادة لهذه الأصنام، فقلدناهم مع كونها بهذه الصفة التي هي سلب السمع والنفع والضر عنها، وفي أبي السعود هذا الجواب منهم اعتراف بإنها بمعزل عما ذكر من السمع والمنفعة والمضرة بالمرة، واضطروا إلى إظهار أن لا مستند لهم سوى التقليد أي ما علمنا ولا رأينا منهم ما ذكر من الأمور، بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون، فاقتدينا بهم. انتهى.
قال الخازن: وفي الآية دليل على إبطال التقليد في الدين وذمّهِ، ومدح الأخذ بالاستدلال انتهى. وهذا الجواب هو العصا التي يتوكأ عليها كل عاجز ويمشي بها كل أعرج، ويغتر بها كل مغرور، وينخدع لها كل مخدوع؛ فإنك لو سألت الآن هذه المقلدة للرجال التي طبقت الأرض، بطولها والعرض؛ وقلت لهم: ما الحجة لكم على تقليد فرد من أفراد العلماء؟ والأخذ بكل ما يقوله في الدين ويبتدعه من الرأي المخالف للدليل؟ لم يجدوا غير هذا الجواب ولا فاهوا بسواه، وأخذوا يعدون عليك من سبقهم إلى تقليد هذا من سلفهم، واقتدى بقوله وفعله، وهم قد ملأوا صدورهم هيبة، وضاقت آذانهم عن تصورهم وظنوا أنهم خير أهل الأرض، وأعلمهم وأورعهم فلم
387
يسمعوا لناصح نصحاً ولا لداع إلى الحق دعاء، ولو فطنوا لرأوا أنفسهم في غرور عظيم، وجهل ثشيع وأنهم كالبهيمة (١) العمياء وأولئك الأسلاف كالعمي الذين يقودون البهائم العمي كما قال الشاعر:
كبهيمة عمياء قاد زمامها | أعمى على عوج الطريق الحائر |
فعليك أيها العامل بالكتاب والسنة المبرأ من التعصب والتعسف؛ أن تورد عليهم حجج الله، وتقيم عليهم براهينه، فإنه ربما انقاد لك منهم من لم يستحكم داء التقليد في قلبه، وأما من قد استحكم في قلبه هذا الداء العضال فلو أوردت عليه كل حجة، وأقمت عليه كل برهان، لما أعارك إلا أذناً صماء وعيناً عمياء، ولكنك قد قمت بواجب البيان الذي أوجبه عليك القرآن، والهداية بيد الخلاق العليم، إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء.
ولما قال هؤلاء المقلدة هذه المقالة
_________
(١) هذا كلام لا يليق.
388
(قال) الخليل عليه السلام: (أفرأيتم ما كنت تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون) أي فهل أبصرتم؟ أو تفكرتم وتأملتم فعلمتم ما كنتم تعبدون من هذه الأصنام التي لا تسمع ولا تنفع ولا تضر حتى تعلموا أنكم على ضلالة وجهالة والرؤية هنا مستعملة في معناها الأصلي، وإليه نحا أبو السعود، وصنيع الكازروني يقتضي أنها بمعنى أخبروني، أي أخبروني عن حال ما كنتم تعبدون، هل هو حقيق بالعبادة أولاً؟ وهذا استهزاء بعبدة الأصنام، والفاء فاء السببية تفيد أن ما بعدها وهو العداوة سبب لطلب الإخبار عن حالهم؛ فهي بمعنى اللام، أي: أخبروني عن حالها لأنها عدو لي كما صرح به الرضى في قوله أخرج منها فإنك رجيم ثم أخبرهم بالبراءة من هذه الأصنام التي يعبدونها فقال:
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٧٥:ولما قال هؤلاء المقلدة هذه المقالة ﴿ قَالَ ﴾ الخليل عليه السلام :﴿ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ ﴾ أي فهل أبصرتم ؟ أو تفكرتم وتأملتم فعلمتم ما كنتم تعبدون من هذه الأصنام التي لا تسمع ولا تنفع ولا تضر حتى تعلموا أنكم على ضلالة وجهالة والرؤية هنا مستعملة في معناها الأصلي، وإليه نحا أبو السعود، وصنيع الكازروني يقتضي أنها بمعنى أخبروني، أي أخبروني عن حال ما كنتم تعبدون، هل هو حقيق بالعبادة أولا ؟ وهذا استهزاء بعبدة الأصنام، والفاء فاء السببية تفيد ان ما بعدها وهو العداوة سبب لطلب الإخبار عن حالهم، فهي بمعنى اللام، أي : أخبروني عن حالها لأنها عدو لي كما صرح به الرضى في قوله أخرج منها فإنك رجيم
(فإنهم عدو لي) ومعنى كونهم عدواً له مع كونهم جماداً أنه إن عبدهم كانوا له عدواً يوم القيامة، قال الفراء: هذا من المقلوب، أي فإني عدو لهم، لأن من عاديته عاداك. وأسند العداوة إلى نفسه تعريضاً بهم، وهو أنفع في النصيحة من التصريح بأن يقول فإنهم عدو لكم.
388
والعدو كالصديق يطلق على الواحد، والمثنى، والجماعة، والمذكر والمؤنث كذا قال الفراء قال علي بن سليمان من قال عدوة الله فأثبت الهاء قال هي بمعنى المعادية. ومن قال عدو للمؤنث، والجمع، جعله بمعنى النسب وقيل المراد بقوله (فإنهم عدو لي) آباؤهم الأقدمون لأجل عبادتهم للأصنام. ورد بأن الكلام مسوق فيما عبدوه في العابدين.
(إلا) أي لكن (رب العالمين) ليس كذلك، بل هو وليي في الدنيا والآخرة، لا يزال متفضلاً عليّ فيهما قال الزجاج قال النحويون هو استثناء ليس من الأول، وأجاز الزجاج أيضاً أن يكون من الأول على أنهم كانوا يعبدون الله عز وجل ويعبدون معه الأصنام فأعلمهم أنه تبرأ مما يعبدون إلا الله، فإني أعبده.
قال الجرجاني تقديره أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون؟ إلا رب العالمين، فإنهم عدو لي. فجعله من باب التقديم والتأخير، وجعل (إلا) بمعنى دون وسوى، كقوله (لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى) أي دون الموتة الأولى، وقال الحسن بن الفضل: إن المعنى إلا من عبد رب العالمين، ثم وصف رب العالمين بقوله:
389
(الذي خلقني فهو يهدين) أي يرشدني إلى مصالح الدين والدنيا، وطريق النجاة، وقد وصف الخليل ربه بما يستحق العبادة لأجله، فإن الخلق والهداية والرزق الذي يدل عليه قوله:
(والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين) ودفع المرض وجلب نفع الشفاء، والإماتة والإحياء والمغفرة للذنب، كلها نعم يجب على النعم عليه ببعضها فضلاً عن كلها، أن يشكر النعم بجميع أنواع الشكر التي أعلاها وأولاها العبادة، ودخول هذه الضمائر في صدور هذه الجمل للدلالة على أنه الفاعل لذلك دون غيره، وأسند المرض إلى نفسه دون غيره من هذه الأفعال المذكورة رعاية واستعمالاً للأدب مع الرب كما قال الخضر. (فأردت أن أعيبها). وقال: (فأراد ربك أن يبلغا أشدهما) وإلا فالمرض والشفاء من الله سبحانه.
389
وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (٨١) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (٨٢) رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (٨٣) وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (٨٤) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (٨٥) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (٨٦) وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (٨٧) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (٨٨) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٩) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (٩٠) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (٩١)
390
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٧٨:ثم وصف رب العالمين بقوله :
﴿ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ﴾ أي يرشدني إلى مصالح الدين والدنيا، وطريق النجاة، وقد وصف الخليل ربه بما يستحق العبادة لأجله، فإن الخلق والهداية والرزق الذي يدل عليه قوله :
﴿ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ﴾ ودفع المرض وجلب نفع الشفاء، والإماتة والإحياء والمغفرة للذنب، كلها نعم يجب على المنعم عليه ببعضها فضلا عن كلها، أن يشكر المنعم بجميع أنواع الشكر التي أعلاها وأولاها العبادة، ودخول هذه الضمائر في صدور هذه الجمل للدلالة على أنه الفاعل لذلك دون غيره، وأسند المرض إلى نفسه دون غيره من هذه الأفعال المذكورة رعاية واستعمالا للأدب مع الرب كما قال الخضر. ﴿ فأردت أن أعيبها ﴾. وقال :﴿ فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ﴾ وإلا فالمرض والشفاء من الله سبحانه.
(والذي يميتني ثم يحيين) المراد بالإحياء البعث، ولهذا عطف هنا بثم خلاف ما قبله لاتساع الأمر بين الإماتة والإحياء، لأن المراد به الإحياء في الآخرة. وحذف الياء من هذه الأفعال لكونها رؤوس الآي. وقرئ كلها بإثبات الياء، وأنما قال عليه السلام.
(والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي) هضماً لنفسه، وتعليماً للأمة أن يجتنبوا المعاصي ويكونوا على حذر. وطلب أن يغفر لهم ما يفرط منهم، وتكرير الموصول في المواضع الثلاثة المعطوفة للإيذان بأن كل واحد من تلك الصلات نعت جليل مستقل في إيجاب الحكم. قيل: إن الطمع هنا بمعنى اليقين في حقه، وبمعنى الرجاء في حق سواه.
وقرئ (خطاياي) لأنها ليست خطيئة واحدة. قال النحاس خطيئة بمعنى خطايا في كلام العرب، قال مجاهد يعني بخطيئته قوله: (بل فعله كبيرهم هذا)، وقوله: (إني سقيم)، وقوله إن سارة أخته زاد الحسن وقوله للكوكب: هذا ربي. وحكى الواحدي عن المفسرين أنهم فسروا الخطايا بما فسر بها مجاهد.
قال الزجاج: الأنبياء بشر ويجوز أن تقع عليهم الخطيئة إلا أنهم لا
390
تكون منهم الكبيرة لأنهم معصومون (يوم الدين) أي يوم الجزاء للعباد بأعمالهم، ولا يخفى أن تفسير الخطايا بما ذكره مجاهد ومن معه ضعيف، فإن تلك معاريض، وهي أيضاً إنما صدرت عنه بعد هذه المقاولة الجارية بينه وبين قومه.
وعن عائشة قالت: قلت يا رسول الله ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم المساكين أكان ذلك نافعاً له؟ قال لا ينفعه، إنه لم يقل يوماً رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين. وهذا كله احتجاج من إبراهيم على قوله إنه لا يصلح للإلهية إلا من يفعل هذه الأفعال ثم لما فرغ الخليل من الثناء على ربه، والاعتراف بنعمه، وفنون ألطافه، الفائضة عليه من حضرة الحق، من مبدأ خلقه إلى يوم بعثه، حمله ذلك على مناجاته تعالى؛ فعقبه بالدعاء ليقتدي به غيره في ذلك فقال:
391
(رب هب لي حكماً) المراد بالحكم الكمال في العلم والفهم والعمل يستعد به لخلافة الحق ورياسة الخلق. وقيل النبوة والرسالة. وقيل المعرفة بحدود الله وأحكامه.
(وألحقني بالصالحين) يعني بالنبيين قبلي في العمل الصالح. وقيل بأهل الجنة، أي في درجاتهم. قاله ابن عباس: والأول أولى. ولقد أجابه تعالى حيث قال: وإنه في الآخرة لمن الصالحين.
(واجعل لي لسان صدق في الآخرين) أي اجعل لي ثناء حسناً وذكراً جميلاً وجاهاً وصيتاً وقبولاً عاماً في الأمم الآخرين، الذين يأتون بعدي في الدنيا يبقى أثره إلى يوم القيامة. قال القتيبي: وضع اللسان موضع القول على الاستعارة، لأن القول يكون بها، وقد تكنى العرب بها عن الكلمة، وقد أعطى الله سبحانه إبراهيم ذلك بقوله: وتركنا عليه في الآخرين، وأجاب دعاءه، فإن كل أمة تتمسك به وتعظمه.
وكل أهل الأديان يتولونه ويثنون عليه، خصوصاً هذه الأمة وخصوصاً
391
في كل تشهد من تشهدات الصلوات. وقال مكي: قيل معنى سؤاله أن يكون من ذريته في آخر الزمان من يقوم بالحق فأجيبت دعوته في محمد - ﷺ -، فتكون الآية على تقدير مضاف، أي صاحب لسان صدق، أو هو مجاز من إطلاق الجزء على الكل، لأن الدعوة باللسان ولا وجه لهذا التخصيص والتكلف.
وقال القشيري: أراد الدعاء الحسن إلى قيام الساعة ولا وجه لهذا أيضاً. فإنّ لسان الصدق أعم من ذلك. وعن ابن عباس في الآية قال اجتماع أهل الملل على إبراهيم فما من أمة إلا وهي تحبه وتثني عليه.
392
(واجعلني) وارثاً (من ورثة جنة النعيم) أي مندرجاً فيهم ومن جملتهم؛ أي ممن يعطاها بلا تعب ومشقة كالإرث الحاصل للإنسان من غير تعب، وإضافة الجنة إلى النعيم من إضافة المحل للحال فيه.
ولما طلب عليه السلام بالدعوة الأولى سعادة الدنيا؛ طلب بهذه الدعوة سعادة الآخرة وهي جنة النعيم، قيل: وجعلها مما يورث تشبيهاً لغنيمة الآخرة بغنيمة الدنيا. وقد تقدم تفسير معنى الوراثة في سورة مريم.
(واغفر لأبي) كان أبوه قد وعده أنه يؤمن به فاستغفر له فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه، وقد تقدم تفسير هذا مستوفى في سورة التوبة. وسورة مريم، وعن ابن عباس قال: أمنن عليه بتوبة يستحق بها مغفرتك (إنه كان من الضالين) أي: من المشركين الضالين عن طريق الهداية وكان زائدة على مذهب سيبويه كما تقدم في غير موضع.
(ولا تخزني يوم يبعثون) أي لا تفضحني على رؤوس الأشهاد بمعاتبتي أو بمعاقبتي على ما فرطت، أو لا تعذبني يوم القيامة، وقال ذلك لخفاء العاقبة وجواز التعذيب عقلاً. أو المعنى. لا تخزني بتعذيب أبي أو ببعثه في جملة الضالين أو بنقص رتبتي عن رتبة بعض الوراث. والإخزاء يطلق على الخزي وهو الهوان وعلى الخزاية وهي الحياء، أي الاستحياء.
392
أخرج البخاري وغيره من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قترة وغبرة فيقول له إبراهيم: ألم أقل لك لا تعصني؟ فيقول أبوه: فاليوم لا أعصيك. فيقول إبراهيم: رب إنك وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون، فأي خزي أخزى من أبي (الأبعد) فيقول الله إني حرمت الجنة على الكافرين. ثم يقول: ما تحت رجليك يا إبراهيم فإذا بذيخ متلطخ فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار، والذيخ هو الذكر من الضباع فكأنه حوّل آزر إلى صورة ذيخ " وقد أخرجه النسائي بأطول من هذا.
393
(يوم لا ينفع) فيه (مال ولا بنون) أحداً من الناس. والابن هو اخص القرابة وأولاهم بالحماية، والدفع والنفع، فإذا لم ينفع فغيره من القرابة والأعوان بالأولى. وقال ابن عطية إن هذا وما بعده من كلام الله، وهو ضعيف، والأظهر أنه من كلام إبراهيم
(إلا من أتى الله بقلب سليم) قيل هو استثناء منقطع أي لكن من أتى الله. قال في الكشاف: إلا مال من أتى الله فقدر مضافاً محذوفاً قال أبو حيان: ولا ضرورة تدعو إلى ذلك. وقيل: إن هذا الاستثناء بدل من المفعول المحذوف، أو مستثنى منه إذ التقدير لا ينفع مال ولا بنون أحداً من الناس إلا من كانت هذه صفته. ويحتمل أن يكون بدلاً من فاعل ينفع، فيكون مرفوعاً. قال أبو البقاء: فيكون التقدير إلا مال من، أو بنو من، فإنه ينفع وهذا الماضي بمعنى المضارع، وكذا يقال في قوله: وأزلفت وبرزت، وقيل وكبكبوا وقالوا.
واختلف في معنى القلب السليم فقيل؛ السليم من الشرك، فأما الذنوب فليس يسلم منها أحد، قاله أكثر المفسرين. وقال سعيد بن المسيب: السليم الصحيح؛ وهو قلب المؤمن؛ لأن قلب الكافر والمنافق مريض، قال تعالى في قلوبهم مرض. وقيل هو القلب الخالي عن البدعة المطمئن إلى السنة
393
وقيل سالم من آفة المال والبنين. وقال الضحاك السليم الخالص. وقال الجنيد رحمه الله السليم في اللغة اللديغ، فمعناه أنه قلب كاللديغ من خوف الله ئعالى. وهذا تحريف وتعكيس لمعنى القرآن.
قال الرازي أصح الأقوال أن المراد منه سلامة النفس عن الجهل والأخلاف الرذيلة. وقال ابن عباس بشهادة أن لا إله إلا الله. وقد صوب الجليل استثناء الخليل إكراماً له؛ ثم جعله صفة له في قوله: (وإنّ من شيعته لإبراهيم إذ جاء ربه بقلب سليم).
قال النسفي: وما أحسن ما رتب عليه السلام من كلامه مع المشركين حيث سألهم أولاً عما يعبدون، سؤال مقرر لا مستفهم، ثم أقبل على آلهتهم فأبطل أمرها بأنها لا تضر ولا تنفع ولا تسمع، وعلى تقليدهم آباءهم الأقدمين فأخرجه من أن يكون شبهة، فضلاً عن أن يكون حجة؛ ثم صور المسألة في نفسه دونهم حتى تخلص منها إلى ذكر الله تعالى فعظم شأنه. وعدد نعمه من حين إنشائه إلى وقت وفاته مع ما يرجى في الآخرة من رحمته، ثم أتبع ذلك أن دعا بدعوات المخلصين، وابتهل إليه ابتهال الأدب، ثم وصله بذكر يوم القيامة وثواب الله وعقابه وما يدفع إليه المشركون يومئذ من الندم والحسرة على ما كانوا فيه من الضلال، وتمنى الكرة إلى الدنيا ليؤمنوا ويطيعوا انتهى.
394
(وأزلفت الجنة للمتقين) أي قربت وأدنيت لهم ليدخلوها أو بحيث يشاهدونها من الموقف ويقفون على ما فيها من فنون المحاسن فيبتهجون بأنهم المحشورون إليها. وقال الزجاج: قرب دخولهم إياها ونظرهم إليها.
(وبرزت الجحيم للغاوين) أي جعلت بارزة لهم والمراد بهم الكافرون الضالون عن طريق الحق الذي هو الإيمان والتقوى. والمعنى أنها أظهرت بحيث يرونها مع ما فيها من أنواع الأحوال الهائلة ويوقنون بأنهم مواقعوها ولا يجدون عنها مصرفاً. وقيل: أظهرت قبل أن يدخلوها ليشتد حزن الكافرين ويكثر سرور المؤمنين وقرئ (برزت) على البناءين.
394
وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٩٢) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (٩٣) فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (٩٤) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (٩٥) قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (٩٦) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٩٧) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (٩٨) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (٩٩) فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (١٠٠) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (١٠١) فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٢) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٠٤)
395
(وقيل لهم) على سبيل التوبيخ (أينما) أيْ في أيِّ مكان (كنتم تعبدون
من دون الله) من الأصنام والأنداد وهذا سؤال تبكيت لا يتوقع له جواب. (هل ينصرونكم)؟ فيدفعون عنكم العذاب (أو ينتصرون)؟ بدفعه عن أنفسهم، وهذا كله توبيخ وتقريع لهم.
(فكبكبوا فيها) أي ألقوا في جهنم على رؤوسهم. وقيل قلبوا على رؤوسهم. قيل ألقى بعضهم على بعض. وقيل جمعوا. قاله ابن عباس مأخوذ من الكبكبة وهي الجماعة قاله الهروي، وقال النحاس هو مشتق من كوكب الشيء، وهو معظمه، والجماعة من الخيل كوكب وكبكبة، وقيل دهدهوا.
وهذه المعاني متقاربة والكبكبة تكرير الكب، وهو الإلقاء على الوجه، جعل التكرير في اللفظ دليلاً على التكرير في المعنى، كأنه إذا ألقي في جهنم ينكب مرة إثر مرة، حتى يستقر في قعرها. نعوذ بالله منها وأصله كببوا بباءين الأولى مشددة من حرفين فأبدل من الباء الوسطى الكاف، وقد رجح الزجاج أن المعنى طرح بعضهم على بعض، ورجح ابن قتيبة أن المعنى ألقوا على رؤوسهم. وقيل انكسوا وقيل الضمير في كبكبوا لقريش.
(هم) أي الآلهة المعبودون والأصنام (والغاوون) أي العابدون لهم.
395
وقيل الجن والكافرون. وقال ابن عباس مشركو العرب والآلهة
396
(وجنود إبليس) أي شياطينه الذين يغوون العباد من الإنس والجن. وقيل ذريته وأتباعه. وقيل كل من يدعو إلى عبادة الأصنام (أجمعون) تأكيد للضمير في كبكبوا وما عطف عليه.
(قالوا) أي الغاوون (وهم) أي حال كونهم (فيها يختصمون) مع معبوديهم مستأنفة، كأنه قيل ماذا قالوا حين فعل بهم ما فعل؟ ومقول القول:
(تالله إن كنا) أي إن الشأن كوننا (لفي ضلال مبين) واضح ظاهر، والمراد بالضلال هنا الخسار والتبار، والحيرة عن الحق ويجوز أن ينطق الله الأصنام حتى يصح التقاول والتخاصم أو يجري ذلك بين العصاة والشياطين.
(إذ نسوّيكم) العامل في الظرف هو كونهم في الضلال. وقيل العامل هو الضلال وفيه ضعف. وقيل ظرف لِـ (مبين) وقيل: ما يدل عليه الكلام كأنه قيل: ضللنا وقت تسويتنا لكم في العبادة (برب العالمين) الذي أنتم أدنى مخلوقاته، وأذلهم وأعجزهم. وقال الكوفيون أن (إن) في (إن كنا) نافية واللام بمعنى إلا أي ما كنا إلا في ضلال مبين، والأول أولى، وهو مذهب البصريين، وصيغة المضارع لاستحضار الصورة الماضية.
(وما أضلنا) عن الهدى (إلا المجرمون) يعني من دعاهم إلى عبادة الأصنام من الجن والإنس والشياطين، وقيل رؤساؤهم الذين أضلوهم. وقيل إبليس وجنوده. وابن آدم الأول وهو قابيل، وهو أول من سن القتل وأنواع المعاصي. وقيل من سن الشرك وقيل الأولون الذين اقتدينا بهم.
(فما لنا من شافعين) يشفعون لنا من العذاب، كما للمؤمنين من الملائكة والنبيين والمؤمنين
(ولا صديق حميم) أي ذي قرابة، والحميم القريب الذي تودّه ويودّك، وجمع الشفعاء، ووحّد الصديق، لما تقدم غير مرة، أنه يطلق على الواحد، والاثنين، والجماعة والمذكر، والمؤنث أو لكثرة الشفعاء في العادة وقلة الصديق، لأن الصديق الصادق في ودادك الذي يهمه
396
ما أهمك قليل. وسئل حكيم عن الصديق فقال: اسم لا معنى له. وقيل اسم بلا مسمى. والنفي هاهنا يحتمل نفي الصديق من أصله، أو نفي صفته فقط، أو لأن الصديق الواحد يسعى أكثر مما يسعى الشفعاء، والحميم مأخوذ من حامّة الرجل أي خاصته وأقربائه. ويقال حم الشيء وأحم إذا قرب ومنه الحمى، لأنه يقرب من الأجل.
وقال علي بن عيسى: إنما سمي القريب حميماً لأنه يحمى لغضب صاحبه فجعله مأخوذاً من الحمية وقيل من الاحتمام بمعنى الاهتمام الذي يهمه ما يهمك قاله الزمخشري.
397
(فلو أن لنا كرة) هذا منهم على طريق التمني الدال على كمال التحسر، كأنهم قالوا فليت لنا كرة أي رجعة إلى الدنيا وجواب التمني (فنكون من المؤمنين) أي نصير من جملتهم، حتى تحل لنا الشفاعة كما حلت لهؤلاء.
(إن في ذلك) أي ما تقدم ذكره من نبأ إبراهيم وقصة قومه (لآية) أي عبرة وعلامة وحجة وعظة لمن أراد أن يستبصر بها ويعتبر، فإنها جاءت على أنظم ترتيب؛ وأحسن تقرير، يتفطن المتأمل فيها لغزارة علمه، لما فيها من الإشارة إلى أصول العلوم الدينية والتنبيه على دلالتها، وحسن دعوته للقوم، وحسن مخالفته معهم، وكمال إشفاقه عليهم، وتصوير الأمر في نفسه، وإطلاق الوعد والوعيد على سبيل الحكاية تعريضاً بهم، وإيقاظاً لهم؛ ليكون أدعى إلى الاستماع والقبول، والتنوين في (آية) يدل على التعظيم والتفخيم.
(وما كان أكثرهم مؤمنين) أي أكثر هؤلاء الذين يتلو عليهم رسول الله - ﷺ - نبأ إبراهيم وهم قريش. ومن دان بدينهم. وقيل: وما كان أكثر قوم إبراهيم بمؤمنين. وهو ضعيف لأنهم كلهم غير مؤمنين
(وإنّ ربك لهو العزيز) القاهر لأعدائه (الرحيم) بأوليائه أو الرحيم للأعداء بتأخير عقوبتهم وترك معاجلتهم.
397
كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (١٠٥) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (١٠٦) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٠٧) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٠٨) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٠٩) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١١٠) قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (١١١) قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١١٢) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (١١٣) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٤) إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (١١٥) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (١١٦) قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (١١٧)
398
(كذّبت قوم نوح المرسلين) أنث الفعل لكونه مسنداً إلى (قوم) وهو في معنى الجماعة أو الأمة أو القبيلة، وفي المصباح: القوم يذكر ويؤنث وكذا كل اسم جمع، لا واحد له من لفظه؛ نحو: رهط، ونفر، وأوقع التكذيب على المرسلين، وهم لم يكذبوا إلا الرسول المرسل إليهم، لأن من كذب رسولاً فقد كذب الرسل. لأن كل رسول يأمر بتصديق غيره من الرسل، وقيل: كذبوا نوحاً في الرسالة وكذبوه فيما أخبرهم به من نبأ المرسلين بعده؛ أو لأنه لطول لبثه فيهم كأنه رسل.
(إذ قال لهم أخوهم نوح) أي أخوهم من أبيهم، لا أخوهم في الدين. وقيل: المراد إخوة المجالسة، وقيل؛ هو من قول العرب يا أخا بني تميم؛ يريدون واحداً منهم؛ (ألا تتقون) الله بترك عبادة الأصنام؟ وتجيبون رسوله الذي أرسله إليكم؟
(إني لكم رسول أمين) فيما أبلغكم عن الله وقيل: أمين فيما بينكم، فإنهم كانوا قد عرفوا أمانته وصدقه.
(فاتقوا الله) أي اجعلوا طاعة الله وقاية لكم من عذابه (وأطيعون) فيما آمركم به عن الله من الإيمان به، وترك الشرك، والقيام بفرائض الدين تصدير القصص الخمس بالحث على التقوى، يدل على أن البعثة مقصورة على
398
الدعاء إلى معرفة الحق، والطاعة فيما يقرب المدعو إلى ثوابه، ويبعده عن عقابه وكان الأنبياء متفقين على ذلك وإن اختلفوا في بعض التفاريع، مبرئين عن المطامع الدنية والأغراض الدنيوية.
399
(وما أسألكم عليه من أجر) أي ما أطلب منكم أجراً على تبليغ الرسالة ولا أطمع في ذلك منكم و (من) زائدة في المفعول (إن أجري) أي: ما ثوابي الذي أطلبه وأريده (إلا على رب العالمين) لا على غيره وكرر قوله:
(فاتقوا الله وأطيعون) للتأكيد، والتقرير في النفوس، مع كونه علق كل واحد منهما بسبب؛ وهو الأمانة في الأول وقطع الطمع في الثاني. ونظيره قولك ألا تتقي الله في عنوقي وقد ربيتك صغيراً؟ ألا تتقي الله في عقوقي وقد علمتك كبيراً؟ وقدّم الأمر بتقوى الله على الأمر بطاعته لأن تقوى الله علة لطاعته.
(قالوا أنؤمن لك) الاستفهام للإنكار، أي كيف نتبعك ونصدق لك ونؤمن بك؟ (و) الحال أن قد (اتبعك الأرذلون) جمع أرذل وجمع التكسير أرذال، والأنثى رذلاء وهم الأقلّون جاهاً ومالاً، والرذالة الخسة والذلة، استرذلوهم لقلة أموالهم وجاههم، أو لا تّضاع أنسابهم.
قال مجاهد: الأرذلون الحواكون. وقال قتادة سفلة الناس وأراذلهم وقال ابن عباس: يعني القافة، وقيل هم الحاكة والاساكفة؛ وقيل: كانوا من أهل الصناعات الدنية، والصناعة لا تزرى بالديانة فالغنى غنى الدين؛ والنسب نسب التقوى.
ولا يجوز أن يسمى المؤمن رذلا. وإن كان أفقر الناس؛ وأوضعهم نسباً وما زالت اتباع الأنبياء كذلك. وإنما بادروا للاتباع قبل الأغنياء لاستيلاء الرياسة على الأغنياء، وصعوبة الانفكاك منها، والأنفة عن الانقياد للغير. والفقير خلى من تلك الموانع فهو سريع الإجابة والانقياد، وهذا غالب أحوال أهل الدنيا، وهذا من سخافة عقولهم، وقصر رأيهم على حطام الدنيا حتى جعلوا اتباع المقلّين من الدنيا مانعاً من اتباعهم، وجعلوا إيمانهم بما يدعوهم إليه دليلاً على بطلانه.
399
وقرئ (أتباعك الأرذلون) قال النحاس: وهي قراءة حسنة لأن هذه الواو تتبعها الأسماء كثيراً وأتباع جمع تابع.
400
(قال وما علمي بما كانوا يعملون)؟ كان زائدة والمعنى: وما علمي بعملهم؟ أي: لم أكلف العلم بأعمالهم، إنما كلفت أن ادعوهم إلى الإيمان والاعتبار به لا بالحرف والصنائع، والفقر والغنى، وكأنهم أشاروا بقولهم (واتبعك الأرذلون) إلى أن إيمانهم لم يكن عن نظر صحيح، وإنما لتوقع مال ورفعة، فأجابهم بهذا أي أني لم أقف على باطن أمرهم، وإنما وقفت على ظواهرهم. وقيل المعنى إني لم أعلم أن الله سيهديهم ويضلكم ويوفقهم ويخذلكم ويرشدهم ويغويكم.
(إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون) أي ما حسابهم والتفتيش عن ضمائرهم وأعمالهم إلا على الله، لو كنتم من أهل الشعور والفهم ما عيرتموهم بصنائعهم. وقرئ (يشعرون) بالتحتية كأنه ترك الخطاب للكفار والتفت إلى الأخبار عنهم. قال الزجاج والصناعات لا تضر في باب الديانات، وما أحسن ما قال:
(وما أنا بطارد المؤمنين) هذا جواب من نوح على ما ظهر من كلامهم من طلب الطرد لهم
(إن أنا إلا نذير مبين) أي ما أنا إلا نذير موضح لما أمرني الله سبحانه بإبلاغه إليكم وهذه الجملة كالعلة لما قبلها.
(قالوا لئن لم تنته يا نوح) أي إن لم تترك عيب ديننا وسب آلهتنا (لتكونن من المرجومين) بالحجارة، وقيل من المشتومين. وقيل من المقتولين، فعدلوا بعد تلك المحاورة بينهم وبين نوح إلى التجبر والتوعد. فلما سمع نوح قولهم هذا
(قال رب إنّ قومي كذبون) أي أصروا وصمموا على تكذيبي بعد ما دعوتهم هذه الأزمنة المتطاولة ولم يسمعوا قولي ولا أجابوا دعائي وإنما قال هذا إظهاراً لما يدعو عليهم لأجله وهو تكذيب الحق، لا تخويفهم له واستخفافهم به.
400
فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١١٨) فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١١٩) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (١٢٠) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٢١) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٢٢) كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (١٢٤) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٢٥) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٢٦) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٢٧) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (١٢٨) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (١٢٩) وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (١٣٠) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٣١)
401
(فافتح بيني وبينهم فتحاً) الفتح الحكم أي احكم بيننا حكماً يستحقه كل واحد منا. أي أنزل العقوبة والهلاك، وهذه حكاية إجمالية لدعائه المفصل في سورة نوح.
(ونجنّي ومن معي من المؤمنين) وكانوا ثمانين، أربعون من الرجال وأربعون من النساء.
(فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون) أي السفينة المملوءة من الناس، والحيوان، والطير. والشحن ملء السفينة بالناس والدواب والمتاع. قال ابن عباس: المشحون الممتلئ، وعنه قال أتدرون ما المشحون؟ قلنا لا. قال: هو الموقر. وعنه أيضاً قال: هو المثقل.
(ثم أغرقنا بعد) أي بعد إنجائهم (الباقين) من قومه.
(إن في ذلك لآية) أي علامة وعبرة عظيمة.
(وما كان أكثرهم مؤمنين) أفهم أنه لو كان نصفهم مؤمنين لما أخذوا
(وإنّ ربك لهو العزيز) أي القاهر لأعدائه والمنتقم بإهابة من جحد وأصر (الرحيم) بأوليائه والمنعم بإعانة من وحّد وأقرّ.
(كذبت عاد المرسلين) أنث الفعل باعتبار إسناده إلى القبيلة، لأن عاداً اسم أبيهم الأعلى، وكان من نسل سام بن نوح، ومعنى تكذيبهم المرسلين مع كونهم لم يكذبوا إلا رسولاً واحداً قد تقدم وجهه في قصة نوح قريباً.
(إذ قال لهم أخوهم) نسباً (هود) وكان تاجراً جميل الصورة يشبه آدم، وعاش من العمر أربعمائة وأربعاً وستين سنة (ألا تتقون)؟ والكلام فيه كالكلام في قول نوح المتقدم قريباً وكذا في قوله:
(إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً)؟ الريع المكان المرتفع من الأرض جمع ريعة. يقال: كم ريع أرضك؟ أي كم ارتفاعها؟ قال أبو عبيدة: الريع الارتفاع جمع ريعة. وقال قتادة والضحاك والكلبي الريع: الطريق، وبه قال مقاتل والسدي وابن عباس، وإطلاق الريع على ما ارتفع من الأرض معروف عند أهل اللغة. وقيل: الريع الجبل، واحده ريعة، والجمع أرياع، وقال مجاهد هو الفج بين الجبلين. وروي عنه أنه الثنية الصغيرة، وروي عنه أيضاً أنه المنظرة وقيل بروج الحمام. وقال ابن الأعرابي الريع الصومعة، والريع البرج يكون في الصحراء، والريع التل العالي وفي الريع لغتان كسر الراء وفتحها، والاستفهام للتقريع والتوبيخ ومعنى الآية انكم أتبنون بكل مكان مرتفع بناء.
(تعبثون) ببنائه وتلعبون بالمارة وتسخرون منهم لأنكم تشرفون من ذلك البناء المرتفع على الطريق فتؤذون من يمر بكم وتسخرون منهم، وقال الكلبي إنه عبث العشارين بأموال من يمر بهم، حكاه الماوردي.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٢٤:﴿ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ ﴾ نسبا ﴿ هُودٌ ﴾ وكان تاجرا جميل الصورة يشبه آدم، وعاش من العمر أربعمائة وأربعا وستين سنة ﴿ أَلَا تَتَّقُونَ ؟ ﴾ والكلام فيه كالكلام في قول نوح المتقدم قريبا وكذا في قوله :
{ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٢٤:﴿ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ ﴾ نسبا ﴿ هُودٌ ﴾ وكان تاجرا جميل الصورة يشبه آدم، وعاش من العمر أربعمائة وأربعا وستين سنة ﴿ أَلَا تَتَّقُونَ ؟ ﴾ والكلام فيه كالكلام في قول نوح المتقدم قريبا وكذا في قوله :
{ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ.
﴿ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً ؟ ﴾ الريع المكان المرتفع من الأرض جمع ريعة. يقال : كم ريع أرضك ؟ أي كم ارتفاعها ؟ قال أبو عبيدة : الريع الارتفاع جمع ريعة. وقال قتادة والضحاك والكلبي الريع : الطريق، وبه قال مقاتل والسدي وابن عباس، وإطلاق الريع على ما ارتفع من الأرض معروف عند أهل اللغة. وقيل : الريع الجبل، واحده ريعة، والجمع أرياع، وقال مجاهد هو الفج بين الجبلين. وروي عنه انه الثنية الصغيرة، وروي عنه أيضا أنه المنظرة وقيل بروج الحمام. وقال ابن الأعرابي الريع الصومعة، والريع البرج يكون في الصحراء، والريع التل العالي وفي الريع لغتان كسر الراء وفتحها، والاستفهام للتقريع والتوبيخ ومعنى الآية أنكم تبنون بكل مكان مرتفع بناء، ﴿ تَعْبَثُونَ ﴾ ببنائه وتلعبون بالمارة وتسخرون منهم لأنكم تشرفون من ذلك البناء المرتفع على الطريق فتؤذون من يمر بكم وتسخرون منهم، وقال الكلبي إنه عبث العشارين بأموال من يمر بهم، حكاه الماوردي.
(وتتخذون مصانع) هي الأبنية التي يتخذها الناس منازل، قال أبو عبيدة كل بناء مصنعه وبه قال الكلبي وغيره. وقيل هي الحصون المشيدة قاله
402
مجاهد وغيره، وقال الزجاج أنها مصانع الماء التي تجعل تحت الأرض واحدتها مصنعة، ومصنع أي حياضاً وبركاً تجمعون فيها الماء فهي من قبيل الصهاريج. قال الجوهري المصنعة بضم النون الحوض يجمع فيه ماء المطر والمصانع الحصون، وقال عبد الرزاق المصانع عندنا بلغة اليمن القصور العالية.
(لعلكم تخلدون) أي راجين أن تخلدوا في الدنيا لإنكاركم البعث، والتوبيخ حينئذ ظاهر، أو عاملين عمل من يرجو ذلك، فلذلك تحكمون بنيانها. وقيل إن (لعل) هنا للاستفهام التوبيخي، قاله زيد بن علي، وبه قال الكوفيون، أي هل تخلدون؟ كقولهم لعلك تشتمني؟ أي هل تشتمني وقال الفراء: كي تخلدون، وبه قرأ عبد الله، أي لا تتفكرون في الموت. وقيل المعنى كأنكم باقون مخلدون. فـ (لعل) معناها التشبيه، ولم أر من نص على أنها تكون للتشبيه. وقرئ (تخلدون) مخففاً ومشدداً وحكى النحاس أن في بعض القراءات (كأنكم مخلدون) وبه قال ابن عباس.
403
(وإذا بطشتم) بضرب أو قتل (بطشتم جبارين) من غير رأفة، والبطش السطوة والأخذ بالعنف، قال مجاهد وغيره إذا أردتم البطش لئلا يتحد الشرط والجزاء. قال الزجاج إنما أنكر عليهم ذلك لأنه ظلم، وأما في الحق فالبطش بالسوط والسيف جائز.
قال الكرخي: اعلم أن اتخاذ الأبنية العالية تدل على حب الدنيا، واتخاذ المصانع يدل على حب البقاء، والجبارية تدل على حب التفرد بالعلو، وهذه صفات الإلهية وهي ممتنعة الحصول للعبد انتهى. ثم لما وصفهم بهذه الأوصاف القبيحة الدالة على الظلم، والعتو، والتمرد، والتجبر، أمرهم بالتقوى فقال:
(فاتقوا الله) في ذلك (وأطيعون) فيما أمرتكم به أجمل التقوى، ثم فصله بقوله:
403
وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (١٣٢) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (١٣٣) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٣٤) إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣٥) قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (١٣٦) إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (١٣٧) وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (١٣٨) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٤٠) كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (١٤١) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (١٤٢) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٤٣) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٤٤) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٤٥) أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (١٤٦) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٤٧) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (١٤٨) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (١٤٩) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٥٠) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (١٥١) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (١٥٢)
404
(واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون) من أنواع النعم والخير الحاصلة لكم، ثم فصل هذا الإجمال بقوله:
(أمدّكم بأنعام وبنين) الخ بإعادة الفعل لزيادة التقرير والتأكيد، لأن التفصيل بعد الإجمال. والتفسير بعد الإبهام أدخل في ذلك
(وجنّات وعيون) أي بساتين وأنهار وآبار، ثم وعظهم وحذرهم فقال:
(إني أخاف عليكم) إن كفرتم وأصررتم على ما أنتم فيه، ولم تشكروا هذه النعم (عذاب يوم عظيم) أي العذاب الدنيوي والأخروي، فإن كفران النعمة مستتبع للعقاب، كما أن شكرها مستتبع لزيادتها.
(قالوا سواء علينا) أي مستو عندنا (أوعظت أم لم تكن من الواعظين) أصلاً أي وعظك وعدمه سواء عندنا، لا نبالي بشيء منه، ولا نلتفت إلى ما تقوله، ولا نرعوي له والحاصل أنهم أظهروا قلة اكتراثهم بكلامه
404
واستخفافهم بما أورده من المواعظ، والوعظ كلام يلين القلب بذكر الوعد والوعيد ولم يقل أم لم تعظ لرؤوس الآي وتواخي القوافي.
وأبدى له الزمخشري معنى فقال: هو أبلغ في قلة اعتدادهم بوعظه من قولك أم لم تعظ. وعن الكسائي: أوعظت بإدغام الظاء في التاء وهو بعيد، لأن حرف الظاء حرف إطباق إنما يدغم فيما قرب منه جداً وقرأ الباقون بإظهار الظاء.
405
(إن هذا) تعليل لما قبله أي ما هذا الذي جئتنا به ودعوتنا إليه من الدين وقيل: المعنى ما هذا الذي نحن عليه (إلا خلق الأولين) أي طبيعتهم وعادتهم التي كانوا عليها، وهذا بناء على ما قال الفراء وغيره: إن معنى الخلق العادة. قال النحاس: الخلق عند الفراء العادة.
وعن محمد بن يزيد: خلقهم مذهبهم وما جرى عليه أمرهم. والقولان متقاربان، وقال مقاتل: قالوا: ما هذا الذي تدعونا إليه إلا كذب الأولين. قال الواحدي: هو قول ابن مسعود ومجاهد، قال والخلق والاختلاق الكذب، ومنه قوله ويحلقون إفكاً. وقرئ خلق بفتح الخاء وسكون اللام وبضمهما. قال الهروي: معناه على الأولى اختلاقهم وكذبهم، وعلى الثانية عادتهم، وهذا التفصيل لا بدّ منه. قال ابن الأعرابي: الخلق الدين والطبع والمروءة وقرأ أبو قلابة بضم الخاء وسكون اللام، وهي تخفيف لقراءة الضم لهما. والظاهر أن المراد بالآية هو قول من قال ما هذا الذي نحن عليه إلا عادة الأولين وفعلهم، ويؤيده قولهم:
(وما نحن بمعذبين) على ما نفعل من البطش ونحوه. مما نحن عليه الآن في الدنيا من الأعمال ولا بعث ولا حساب
(فكذبوه) أي هوداً أي أصرّوا على تكذيبه (فأهلكناهم) في الدنيا بالريح، كما صرح به القرآن في غير هذا الموضع، وهي ريح باردة شديدة الصوت لا ماء فيها، وسلطت عليهم سبع ليال وثمانية أيام، أولها من صبح يوم الأربعاء لثمان بقين من شوال
405
وكانت في عجز الشتاء.
(إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ *
406
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) تقدم تفسير هذا قريباً في هذه السورة، ثم لما فرغ سبحانه من ذكر قصة هود وقومه، ذكر قصة صالح وقومه وكانوا يسكنون الحِجر فقال:
(كذبت ثمود الرسلين) المراد بهم صالح ففي التعبير عنه بالجمع ما تقدم، وثمود اسم قبيلة سميت باسم أبيها، وهو ثمود جد صالح، ولذا قال:
(إذ قال لهم أخوهم) نسباً (صالح) لاجتماعه معهم في الأب الأعلى وعاش صالح من العمر مائتين وثمانين سنة، وبينه وبين هود مائة سنة: (أَلَا تَتَّقُونَ *)
(إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ) قد تقدم تفسيره في قصة هود المذكورة قبل هذه القصة.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٤٢:﴿ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ ﴾ نسبا ﴿ صَالِحٌ ﴾ لاجتماعه معهم في الأب الأعلى وعاش صالح من العمر مائتين وثمانين سنة، وبينه وبين هود مائة سنة :﴿ أَلَا تَتَّقُونَ ؟ ﴾ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ، إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ } قد تقدم تفسيره في قصة هود المذكورة قبل هذه القصة.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٤٢:﴿ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ ﴾ نسبا ﴿ صَالِحٌ ﴾ لاجتماعه معهم في الأب الأعلى وعاش صالح من العمر مائتين وثمانين سنة، وبينه وبين هود مائة سنة :﴿ أَلَا تَتَّقُونَ ؟ ﴾ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ، إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ } قد تقدم تفسيره في قصة هود المذكورة قبل هذه القصة.
(أتتركون فيما هاهنا آمنين) الاستفهام للإنكار التوبيخي، أي لا تظنوا ولا ينبغي لكم أن تعتقدوا أنكم تتركون في الدنيا متقلبين في هذه النعم، التي أعطاكم الله، آمنين من الموت أو العذاب، باقين في الدنيا. ولما أبهم النعم في هذا فسرها بقوله:
(فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ) ذكر النخل مع دخوله تحت الجنات لفضله على سائر الأشجار، أو لأن المراد بها غيره من الأشجار، وكثيراً ما يذكرون الشيء الواحد بلفظ يعمه وغيره كما يذكرون النعم ولا يقصدون إلا الإبل، وهكذا يذكرون الجنة ولا يريدون إلا النخل. وهو اسم جمع، الواحدة نخلة، وكل اسم جمع كذلك يؤنث ويذكر، وأما النخيل بالياء فمؤنثه اتفاقاً.
(طلعها هضيم) أول ما يطلع من الثمر، وبعده يسمى خلالاً، ثم
406
بلحاً، ثم بسراً ثم رطباً ثم تمراً، وفي البيضاوي: هو ما يطلع منها كنصل السيف، في جوفه شماريخ القنو. انتهى.
وهذا التشبيه من حيث الهيئة والشكل والهضيم هو النضيج، الرخص اللين اللطيف، أو متدل متكسر من كثرة الحمل وقيل ما لم يخرج من كفراه لدخول بعضه في بعض. وحكى الماوردي في معنى هضيم اثني عشر قولاً أحسنها وأوفقها باللغة ما ذكرناه، وعن ابن عباس قال هضيم معشب، وعنه قال أينع وبلغ، وعنه قال أرطب واسترخى.
407
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٤٦:﴿ أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ ﴾ الاستفهام للإنكار التوبيخي، أي لا تظنوا ولا ينبغي لكم أن تعتقدوا أنكم تتركون في الدنيا متقلبين في هذه النعم، التي أعطاكم الله، آمنين من الموت أو العذاب، باقين في الدنيا. ولما أبهم النعم في هذا فسرها بقوله :
﴿ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ ﴾ ذكر النخل مع دخوله تحت الجنات لفضله على سائر الأشجار، أو لأن المراد بها غيره من الأشجار، وكثيرا ما يذكرون الشيء الواحد بلفظ يعمه وغيره كما يذكرون النعم ولا يقصدون إلا الإبل، وهكذا يذكرون الجنة ولا يريدون إلا النخل. وهو اسم جمع، الواحدة نخلة، وكل اسم جمع كذلك يؤنث ويذكر، وأما النخيل بالياء فمؤنثه اتفاقا.
﴿ طَلْعُهَا هَضِيمٌ ﴾ أول ما يطلع من الثمر، وبعده يسمى خلالا، ثم بلحا، ثم بسرا ثم رطبا ثم ثمرا، وفي البيضاوي : هو ما يطلع منها كنصل السيف، في جوفه شماريخ القنو. انتهى.
وهذا التشبيه من حيث الهيئة والشكل، و الهضيم هو النضيج، الرخص اللين اللطيف، أو متدل متكسر من كثرة الحمل وقيل ما لم يخرج من كفراه لدخول بعضه في بعض. وحكى الماوردي في معنى هضيم اثني عشر قولا أحسنها وأوفقها باللغة ما ذكرناه، وعن ابن عباس قال هضيم معشب، وعنه قال أينع وبلغ، وعنه قال أرطب واسترخى.
﴿ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ ﴾ ذكر النخل مع دخوله تحت الجنات لفضله على سائر الأشجار، أو لأن المراد بها غيره من الأشجار، وكثيرا ما يذكرون الشيء الواحد بلفظ يعمه وغيره كما يذكرون النعم ولا يقصدون إلا الإبل، وهكذا يذكرون الجنة ولا يريدون إلا النخل. وهو اسم جمع، الواحدة نخلة، وكل اسم جمع كذلك يؤنث ويذكر، وأما النخيل بالياء فمؤنثه اتفاقا.
﴿ طَلْعُهَا هَضِيمٌ ﴾ أول ما يطلع من الثمر، وبعده يسمى خلالا، ثم بلحا، ثم بسرا ثم رطبا ثم ثمرا، وفي البيضاوي : هو ما يطلع منها كنصل السيف، في جوفه شماريخ القنو. انتهى.
وهذا التشبيه من حيث الهيئة والشكل، و الهضيم هو النضيج، الرخص اللين اللطيف، أو متدل متكسر من كثرة الحمل وقيل ما لم يخرج من كفراه لدخول بعضه في بعض. وحكى الماوردي في معنى هضيم اثني عشر قولا أحسنها وأوفقها باللغة ما ذكرناه، وعن ابن عباس قال هضيم معشب، وعنه قال أينع وبلغ، وعنه قال أرطب واسترخى.
(وتنحتون في الجبال بيوتاً فارهين) النحت النجر والبري؛ نحته ينحِته بالكسر، براه والنحاته البراية، والمنحت ما ينحت به؛ وكانوا ينحتون بيوتهم من الجبال، لما طالت أعمارهم وتهدم بناؤهم من المدر، فإن السقوف والأبنية كانت تبلى قبل فناء أعمارهم، وفي الخطيب، وكان الواحد منهم يعيش ثلثمائة سنة إلى ألف سنة، وكذا كان قوم هود.
وقرئ (فرهين) قال أبو عبيد وغيره وهما بمعنى واحد، والفره النشاط وشدة الفرح، وفرق بينهما أبو عبيد وغيره فقالوا فارهين حاذقين بنحتها، قاله ابن عباس، وقيل: متجبرين، وفرهين بطرين أشرين؛ وبه قال مجاهد وابن عباس وغيره، وقيل: شرهين. وقال الضحاك: كيسين. وقال قتادة: معجبين ناعمين آمنين، وبه قال الحسن. وقيل: فرحين، قاله الأخفش. وقال ابن زيد: أقوياء
407
قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٥٣) مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٥٤) قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (١٥٥) وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥٦) فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (١٥٧) فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٥٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٥٩)
408
﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ﴾ فيما أمرتكم به
﴿ وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ ﴾ أي المشركين، وقيل : التسعة الذين عقروا الناقة جعل الأمر مطاعا على المجاز الحكمي في النسبة الإيقاعية، والمراد الآمر.
ثم وصف هؤلاء المسرفين بقوله ﴿ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ ﴾ أي ذلك دأبهم يفعلون الفساد في الأرض ولا يصدر منهم الصلاح بطاعة الله البتة.
(قالوا إنما أنت من المسحّرين) أي: الذين أصيبوا بالسحر قاله مجاهد وقتادة، وقيل: المسحر هو المعلل بالطعام والشراب، قاله الكلبي وغيره، فيكون المسحر الذي له سحر وهو الرئة، فكأنهم قالوا: إنما أنت بشر مثلنا تأكل وتشرب. قال الفراء أي أنك تأكل الطعام والشراب، وتسحر به. قال المؤرج المسحر المخلوق بلغة ربيعة، قال ابن عباس مسحرين مخلوقين.
(ما أنت إلا بشر مثلنا) تدعي أنك رسول إلينا؟ (فأت بآية إن كنت من الصادقين) في قولك ودعواك.
(قال) صالح: (هذه ناقة) أشار إليها بعد ما أخرجها الله من الصخرة بدعائه كما اقترحوها قال أبو موسى الأشعري: رأيت مبركها فإذا هو ستون ذراعاً في ستين ذراعاً ثم وصاهم صالح بأمرين:
الأول: (لها شرب ولكم شرب يوم معلوم) أي لها نصيب من الماء، ولكم نصيب منه معلوم. ليس لكم أن تشربوا في اليوم الذي هو نصيبها، ولا هي تشرب في اليوم الذي هو نصيبكم، وهذا دليل على جواز المهايأة، قال الفراء الشرب الحظ من الماء قال النحاس فأما المصدر فيقال فيه شرب شرباً وشرباً، وأكثرها المضموم؛ والشرب بفتح الشين جمع شارب، والمراد هنا
408
الشرب بالكسر، وبه قرأ الجمهور فيهما، وقرئ بالضم فيهما.
والأمر الثاني:
409
(ولا تمسوها بسوء) أي بعقر أو ضرب أو شيء مما يسوءها وجواب النهي (فيأخذكم عذاب يوم عظيم) لحلول العذاب فيه، ووصف اليوم به أبلغ من وصف العذاب، لأن الوقت إذا عظم بسببه كان موقعه من العظم أشد.
(فعقروها) يوم الثلاثاء أي عقرها قدار، وضرب بالسيف في ساقيها وكان ابن زنا قصيراً دميماً ولكنهم راضون به فأضيف إليهم.
(فأصبحوا نادمين) على عقرها لما عرفوا أن العذاب نازل وذلك أنه أنظرهم ثلاثاً فظهرت عليهم العلامة في كل يوم، وندموا حيث لا ينفع الندم، لأن ذلك لا يجدي عند معاينة العذاب، وظهور آثاره، ولأن مجرد الندم ليس توبة.
(فأخذهم العذاب) الذي وعدهم به يوم السبت وهو أنهم في اليوم الأول أي الأربعاء قد اصفرت وجوههم، ثم احمرت في الخميس، ثم اسودت في الجمعة وفي قول مقاتل أنه خرج في أبدانهم خراج مثل الحمص؛ فكان في اليوم الأول أحمر ثم صار من الغد أصفر، ثم صار في الثالث أسود، وكان عقر الناقة يوم الأربعاء وهلاكهم يوم الأحد، انفقعت فيه تلك الخراجات وصاح عليهم جبريل صيحة فماتوا بالأمرين وكان ذلك ضحوة. وقد تقدم تفسير قوله:
(إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين) وفيه إيماء بأنه لو آمن أكثرهم أو شطرهم لما أخذوا بالعذاب، وأن قريشاً إنما عصموا من مثله ببركة من آمن منهم
(وإن ربك لهو العزيز الرحيم) تقدم تفسيرها أيضاً في هذه السورة.
409
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (١٦٠) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (١٦١) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٦٢) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٦٣) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٦٤) أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (١٦٥) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (١٦٦) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (١٦٧) قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (١٦٨) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (١٦٩) فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٧٠) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (١٧١) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٧٢)
410
(كذبت قوم لوط المرسلين) ذكر سبحانه القصة السادسة من قصص الأنبياء مع قومهم وهي قصة لوط، وقد تقدم تفسير قوله
(إذ قال لهم أخوهم لوط) أي في البلد والسكنى والتجاور في القرية، لا في الدين، ولا في النسب، لأنه ابن أخي إبراهيم، وهما من بلاد المشرق من أرض بابل. (أَلَا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ).
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٦١:وقد تقدم تفسير قوله ﴿ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ ﴾ أي في البلد والسكنى والتجاور في القرية، لا في الدين، ولا في النسب، لأنه ابن أخي إبراهيم، وهما من بلاد المشرق من أرض بابل.
﴿ أَلَا تَتَّقُونَ ؟ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ، وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٦١:وقد تقدم تفسير قوله ﴿ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ ﴾ أي في البلد والسكنى والتجاور في القرية، لا في الدين، ولا في النسب، لأنه ابن أخي إبراهيم، وهما من بلاد المشرق من أرض بابل.
﴿ أَلَا تَتَّقُونَ ؟ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ، وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٦١:وقد تقدم تفسير قوله ﴿ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ ﴾ أي في البلد والسكنى والتجاور في القرية، لا في الدين، ولا في النسب، لأنه ابن أخي إبراهيم، وهما من بلاد المشرق من أرض بابل.
﴿ أَلَا تَتَّقُونَ ؟ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ، وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾.
(أتأتون) أي أتنكحون (الذكران) جمع الذكر ضد الأنثى وهم بنو آدم أو كل حيوان (من العالمين) أي من الناس وقد كانوا يفعلون ذلك بالغرباء على ما تقدم في الأعراف.
(وتذرون) تتركون (ما خلق) أي أصلح وأحل وأباح (لكم ربكم) لأجل استمتاعكم به (من أزواجكم) المراد بهن جنس الإناث وقال مجاهد تركتم أقبال النساء إلى أدبار الرجال، وأدبار النساء وعن عكرمة نحوه، وفيه دليل على تحريم أدبار الزوجات والمملوكات. قال النسفي ومن أجازه فقد
410
أخطأ خطأً عظيماً (بل أنتم قوم عادون) أي مجاوزون للحد في جميع المعاصي ومن جملتها هذه المعصية التي ترتكبونها من الذكران.
411
(قالوا لئن لم تنته يا لوط) عن الإنكار علينا وتقبيح أمرنا (لتكونن من المخرجين) من بلدنا المنفيين عنها، ولعلهم كانوا يخرجون من أخرجوه على أسوأ حال.
(قال إني لعملكم) وهو ما أنتم فيه من إتيان الذكران (من القالين) أي من المبغضين له، والقلي: البغض الشديد، كأنه يقلي الفؤاد، يقال: قليته قلي وقلاء، وفيه دليل على عظم المعصية لأن قلاه من حيث الدين، ثم رغب عليه السلام عن مجاورتهم وطلب من الله عز وجل أن ينجيه فقال:
(رب نجني وأهلي مما يعملون) أي من عملهم الخبيث، أو من عقوبته التي ستصيبهم، فأجاب الله سبحانه دعاءه فقال
(فنجيناه وأهله) أي أهل بيته ومن تابعه على دينه (أجمعين).
(إلا عجوزاً) هي امرأة لوط، وكانت راضية بذلك؛ والراضي بالمعصية في حكم العاصي، واستثناء الكافرة من الأهل وهم مؤمنون للإشتراك في هذا الاسم، وإن لم تشاركهم في الإيمان (في الغابرين) أي من الباقين في العذاب، وقال أبو عبيدة من الباقين في الهرم، أي بقيت حتى هرمت. قال النحاس يقال للذاهب عابر وللباقي غابر، والأغبار بقية الألبان: وتقول العرب ما مضى وما غبر، أي ما بقي. قال قتادة هي امرأة لوط غبرت في عذاب الله.
(ثم دمرنا الآخرين) أي أهلكناهم بالخسف والحصب وبقلب قراهم عليهم، وجعل عاليها سافلها.
411
وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٣) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٤) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٧٥) كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (١٧٦) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (١٧٧) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٧٨) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٧٩) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٨٠) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (١٨١) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (١٨٢) وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (١٨٣) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (١٨٤)
412
(وأمطرنا عليهم) أي على من كان منهم ذلك الوقت خارج المقرى لسفر أو غيره (مطراً) يعني الحجارة، وقيل الكبريت والنار.
(فساء مطر المنذَرين) المخصوص بالذم محذوف والتقدير مطرهم، ولم يرد بهم قوماً بأعيانهم، بل جنس الكافرين،
وقد تقدم تفسير قوله (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) في هذه السورة.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٧٤:وقد تقدم تفسير قوله ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ﴾ في هذه السورة.
(كذب أصحاب الأيكة الرسلين) الأيكة الشجر الملتف، وهي الغيضة وقرئ (ليكة) بلام واحدة وفتح التاء، وجعلوه اسماً غير معرف بأل مضافاً إليه (أصحاب) و (ليكة) اسم المقرية وأنكره الزمخشري، وهو غير جهد.
وقيل هما بمعنى واحد اسم للغيضة. قال القرطبي فأما ما حكاه أبو عبيدة من أن ليكة اسم القرية التي كانوا فيها، وأن الأيكة اسم البلد كله، فشيء لم يثبت ولم يعرف من قاله ولو عرف لكان فيه نظر، لأن أهل العلم جميعاً على خلافه.
412
قال أبو علي الفارسي الأيكة تعريف أيكة، فإذا حذفت تخفيفاً ألقيت حركتها على اللام. قال الخليل الأيكة الغيضة تنبت السدر والأراك ونحوهما من ناعم الشجر. قال مجاهد ليكة هي الأيكة، وقد وقع لفظ الأيكة في القرآن أربع مرات، في الحجر، وفي ق، وما هنا، وفي ص، والأولان بأل والجر والآخران يقرآن بأل وبالجر وبحذف الهمزة، وإلقاء حركتها على اللام وفتح الهاء مع أن الكل مجرورات بإضافة لفظ أصحاب إليها وقال ابن عباس كانوا أصحاب غيضة من ساحل البحر إلى مدين.
413
(إذ قال لهم شعيب ألا تتقون)؟ ولم يقل أخوهم كما قال في الأنبياء قبله، لأنه لم يكن من أصحاب الأيكة في النسب؛ فلما ذكر مدين قال أخاهم شعيباً لأنه كان منهم، وقد مضى تحقيق نسبه في الأعراف، وبعث الله شعيباً إلى أمتين، أصحاب الأيكة وأهل مدين، فأهلك الله أصحاب الأيكة بالظلة؛ وأما أهل مدين فصاح بهم جبريل صيحة فهلكوا أجمعين.
(إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ) وإنما كانت دعوة هؤلاء الأنبياء فيما حكى الله عنهم على صيغة واحدة لاتفاقهم على تقوى الله وطاعته والإخلاص في العبادة والامتناع من أخذ الأجر على تبليغ الرسالة.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٧٨:﴿ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ، وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ وإنما كانت دعوة هؤلاء الأنبياء فيما حكى الله عنهم على صيغة واحدة لاتفاقهم على تقوى الله وطاعته والإخلاص في العبادة والامتناع من اخذ الأجر على تبليغ الرسالة.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٧٨:﴿ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ، وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ وإنما كانت دعوة هؤلاء الأنبياء فيما حكى الله عنهم على صيغة واحدة لاتفاقهم على تقوى الله وطاعته والإخلاص في العبادة والامتناع من اخذ الأجر على تبليغ الرسالة.
(أوفوا الكيل) أي أتمّوه لمن أراده وعامل به (ولا تكونوا من المخسرين) أي الناقصين للكيل والوزن يقال أخسرت الكيل والوزن أي نقصته، ومنه قوله تعالى (وإذ كالوهم أو وزنوهم يخسرون) قال النسفي الكيل واف وهو مأمور به، وطفيف وهو منهي عنه، وزائد وهو مسكوت عنه، فتركه دليل على أنه إن فعله فقد أحسن، وإن لم يفعل فلا شيء عليه ثم زاد سبحانه في البيان فقال:
(وزنوا بالقسطاس المستقيم) أي أعطوا الحق بالميزان السوي وقد مر بيان تفسير هذا في سورة سبحان، وقرئ (القسطاس) مضموم القاف ومكسورها، وهي الميزان أو القبان، فإن كان من القسط وهو العدل، وجعلت العين مكررة، فوزنه فعلان وإلا فهو رباعي.
(ولا تبخسوا الناس أشياءهم) البخس النقص يقال: بخسه حقه إذا نقصه، أي: لا تنقصوا حقوقهم التي لهم وهذا تعميم بعد التخصيص. وقيل: دراهمهم ودنانيرهم بقطع أطرافها. وقد تقدم تفسيره في سورة هود.
وتقدم أيضاً تفسير: (ولا تعثوا في الأرض مفسدين) فيها وفي غيرها أي لا تبالغوا فيها بالفساد نحو قطع الطريق، والغارة وإهلاك الزرع، وكانوا يفعلون ذلك فنهوا عنه، يقال: عثا في الأرض إذا أفسد، وبابه سما، وعثى بالكسر، وعثى بفتحتين بوزن فتى قال الأزهري: القراء كلهم متفقون على فتح الثاء وقد دل على أن القرآن نزل باللغة الثانية، وفي القاموس: عثى كسعى ورمى ورضى.
(واتقوا) الله (الذي خلقكم) أي من نطفة، وإعدامكم أهون شيء عليه، وأشار إلى ضعفهم وقوة من كان قبلهم بقوله (والجبلّة الأولين) الذين أهلكوا بالمعاصي، كقوم لوط كانوا على خلقة وطبيعة عظيمة قرئ الجبلة بكسر الجيم والباء وتشديد اللام وقرئ بضمهما وتشديد اللام، وقرئ بفتح الجيم مع سكون الباء والجبلة الخليقة قاله مجاهد وغيره، يعني الأمم المتقدمة يقال: جبل فلان على كذا أي خلق.
قال النحاس: الخلق يقال له جبلة بكسر الحرفين الأولين وبضمهما مع تشديد اللام فيهما، وبضم الجيم وسكون الباء وضمه وفتحها قال الهروي الجبلة والجبلة والجبل والجبل لغات وهو الجمع والعدد الكثير من الناس. ومنه قوله تعالى (جِبِلًّا كَثِيرًا) أي خلقاً كثيراً.
414
قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٨٥) وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (١٨٦) فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٨٧) قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (١٨٨) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٨٩) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٩٠) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٩١) وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٩٢) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (١٩٥)
415
(قالوا إنما أنت من المسحرين) أي من المخلوقين
(وما أنت إلا بشر مثلنا) إدخال الواو هنا يفيد معنيين كلاهما مناف للرسالة عندهم، التسحير والبشرية، يعني أن كُلاًّ منهما كاف فكيف إذا اجتمعا، وترك الواو في قصة ثمود ليفيد معنى واحداًً، وهو كونه مسحراً، وقد تقدم تفسيره في هذه السورة.
(وإن نظنك لمن الكاذبين) فيما تدعيه علينا من الرسالة وقيل ما نظنك إلا من الكاذبين، والأول أولى.
(فأسقط علينا كسفاً) كان شعيب عليه السلام يتوعدهم بالعذاب إن لم يؤمنوا فقالوا له هذا القول تعنتاً واستبعاداً وتعجيزاً، قال أبو عبيد الكسف جمع كسفة مثل سدر وسدرة، قال الجوهري الكسفة القطعة من الشيء يقال اعطني كسفة من ثوبك. والجمع كسف وكسف، وقد مضى تحقيق هذا في سورة سبحان (من السماء) أي السحاب أو الظلة (إن كنت من الصادقين) في دعواك.
(قال ربي أعلم بما تفعلون) من الشرك والمعاصي فهو مجازيكم على ذلك إن شاء، وفي هذا تهديد شديد
(فكذبوه) فاستمروا على تكذيبه وأصروا على ذلك.
415
(فأخذهم عذاب يوم الظلة) هي السحاب أقامها الله فوق رؤوسهم، فأمطرت عليهم ناراً فهلكوا، وقد أصابهم الله بما اقترحوه لأنهم إن أرادوا بالكسف القطعة من السحاب فظاهر، وإن أرادوا بها القطعة من السماء فقد نزل عليهم العذاب من جهتها. قال ابن عباس أرسل الله إليهم سموماً من جهنم فأطاف بهم سبعة أيام حتى أنضجهم الحر فحميت بيوتهم، وغلت مياههم في الآبار والعيون، فخرجوا من منازلهم ومحلتهم هاربين، والسموم معهم، فسلط الله عليهم الشمس من فوق رؤوسهم فغشيتهم حتى تقلقلت فيها جماجمهم، وسلط الله عليهم الرمضاء من تحت أرجلهم حتى تساقطت لحوم أرجلهم، ثم نشأت لهم ظلة كالسحابة السوداء فلما رأوها ابتدروها يستغيثون بظلها حتى إذا كانوا جميعاً أطبقت عليهم فهلكوا، ونجى الله شعيباً والذين آمنوا معه.
وعنه أيضاً أنه سئل عن قوله فأخذهم عذاب إلى آخره فقال فخرجوا من البيوت هرباً إلى البرية، فبعث الله عليهم سحابة فأظلتهم من الشمس، فوجدوا لها برداً ولذة فنادى بعضهم بعضاً حتى إذا اجتمعوا تحتها أسقط الله عليهم ناراً، فذلك عذاب يوم الظلة، وعنه قال: من حدثك من العلماء عذاب يوم الظلة فكذبه، (أقول) فما نقول له رضي الله عنه فيما حدثنا به من ذلك مما نقلناه عنه هاهنا. وقد رواه عنه عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وغيرهم. ويمكن أن يقال: أنه لما كان هو البحر الذي علمه الله تأويل كتابه بدعوة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم: كان مختصاً بمعرفة هذا الحديث دون غيره من أهل العلم، فمن حدث بحديث عذاب يوم الظلة على وجه غير هذا الوجه الذي حدثنا به فقد وصانا بتكذيبه، لأنه قد علمه ولم يعلمه غيره، والله أعلم. وأضاف العذاب إلى يوم الظلة، لا إلى الظلة تنبيهاً على أن لهم في ذلك اليوم عذاباً غير عذاب يوم الظلة (١) كذا قيل، ثم وصف
_________
(١) قوله غير عذاب يوم الظلة كذا بالأصل الذي بأيدينا وانظره أهـ مصححه.
416
سبحانه هذا العذاب الذي أصابهم بقوله:
(إنه كان عذاب يوم عظيم) لما فيه من الشدة عليهم التي لا يقادر قدرها
417
وقد تقدم تفسير قوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) في هذه السورة مستوفى فلا نعيده، وقد تقدم الكلام على هذه القصص في سورتي الأعراف وهود، فأغنى عن الإعادة هنا، وفي هذا التكرير لهذه الكلمات في آخر هذه القصص السبع من التهديد والزجر، والتقرير والتأكيد، ما لا يخفى على من يفهم مواقع الكلام، ويعرف أساليبه.
وقال النسفي: قد كرر في هذه السورة في أول كل قصة وآخرها ما كرر تقريراً لمعانيها في الصدور، وليكون أبلغ في الوعظ والزجر، ولأن كل قصة منها كتنزيل برأسه، وفيها من الاعتبار مثل ما في غيرها فكانت جديرة بأن تفتح بما افتتحت به صاحبتها، وأن تختم بما اختتمت به.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٩٠:وقد تقدم تفسير قوله :﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ﴾ في هذه السورة مستوفى فلا نعيده، وقد تقدم الكلام على هذه القصص في سورتي الأعراف وهود، فأغنى عن الإعادة هنا، وفي هذا التكرير لهذه الكلمات في آخر هذه القصص السبع من التهديد والزجر، والتقرير والتأكيد، ما لا يخفى على من يفهم مواقع الكلام، ويعرف أساليبه.
وقال النسفي : قد كرر في هذه السورة في أول كل قصة وآخرها ما كرر تقريرا لمعانيها في الصدور، وليكون أبلغ في الوعظ والزجر، ولأن كل قصة منها كتنزيل برأسه، وفيها من الاعتبار مثل ما في غيرها فكانت جديرة بأن تفتح بما افتتحت به صاحبتها، وأن تختم به اختتمت به.
(وإنّه) الضمير يرجع إلى ما نزله عليه من الأخبار، أي وإن هذه الأخبار أو وإن القرآن وإن لم يجر له ذكر للعلم به، وبه قال قتادة (لتنزيل رب العالمين) أي: فليس بشعر ولا سحر، ولا أساطير، ولا غير ذلك مما قالوه فيه.
(نزل) قرئ مخففاً ومشدداً (به الروح الأمين) هو جبريل، كما في قوله قل من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك وبه قال قتادة وابن عباس؛ وعنه مرفوعاً قال: الروح الأمين جبريل، رأيت له ستمائة جناح من لؤلؤ قد نشرها فيها مثل ريش الطواويس!! أخرجه أبو الشيخ، وسماه روحاً لأنه خلق من الروح، وسماه أميناً لأنه مؤتمن على وحيه لأنبيائه.
(على قلبك) أي: أنه تلاه على قلبك حتى تعيه وتفهمه ولا تنساه، ووجه تخصيص القلب أنه أول مدرك من الحواس الباطنة، قال الكرخي خصه
417
بالذكر ليؤكد أن ذلك المنزل محفوظ، والرسول متمكن من قلبه لا يجوز عليه التغير، ولأن القلب هو المخاطب في الحقيقة، لأنه موضع التمييز والعقل والاختبار، وسائر الأعضاء مسخرة له.
ويدل عليه القرآن والحديث والمعقول أما القرآن فقوله تعالى: (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب) والحديث قوله - ﷺ - ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب أخرجاه في الصحيحين. وأما المعقول فإن القلب إذا غشى عليه، وقطع سائر الأعضاء لم يحصل له شعور، وأذا أفاق القلب شعر بجميع ما ينزل بالأعضاء من الآفات، وعبارة الخازن، ومن المعقول أن موضع الفرح والسرور، والغم والحزن، هو القلب، فإذا فرح القلب أو حزن يتغير حال سائر الأعضاء، فكان القلب كالرئيس لها، ومنه: إن موضع العقل هو القلب على الصحيح من القولين، فإذا ثبت ذلك كان القلب هو الأمير المطلق، وهو المكلف لأن التكليف مشروط بالعقل والفهم انتهى.
(لتكون من المنذرين) علة للإنزال أي: أنزله عليك لتنذرهم بما تضمنه من التحذيرات والإنذارات والعقوبات
418
(بلسان عربي مبين) أي: لتكون من المنذرين الذين أنذروا بهذا اللسان، وهم هود وشعيب وصالح وإسماعيل عليهم الصلاة والسلام، أو متعلق بـ (نزل) أي أنزله بلسان عربي لتنذر به.
وقال أبو البقاء: بلسان عربي، أي برسالة أو لغة. وقال أبو السعود باللغة العربية، وإنما جعل الله سبحانه القرآن عربياً بلسان الرسول العربي، لئلا يقول مشركو العرب: لو نزل بالأعجمي لسنا نفهم ما تقوله بغير لساننا فقطع بذلك حجتهم، وأزاح علتهم ودفع معذرتهم. قال ابن عباس: أي بلسان قريش، ولو كان غير عربي ما فهموه، وعن بريدة قال بلسان جُرْهُم.
418
وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (١٩٦) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (١٩٧) وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (١٩٨) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (١٩٩) كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (٢٠٠) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (٢٠١) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (٢٠٢) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (٢٠٣) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (٢٠٤) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (٢٠٥) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (٢٠٦)
419
(وإنه) أي: إن هذا القرآن باعتبار أحكامه التي أجمعت عليها الشرائع، أو ذكره، وقيل: الضمير لرسول الله - ﷺ - (لفي زبر الأولين) من الأنبياء كالتوراة والإنجيل، والزبر الكتب، الواحد زبور، وقد تقدم الكلام على تفسير مثل هذا، وقيل المراد بكون القرآن فيها أنه مذكور فيها هو نفسه لا ما اشتمل عليه من الأحكام، وفيه دليل على أن القرآن قرآن إذا ترجم بغير العربية كالفارسية وغيرها، والأول أولى، وقد قيل أن الصحيح من مذهب أبي حنيفة أن القرآن هو النظم والمعنى معاً قاله الشهاب.
(أولم يكن لهم آية)؟ الهمزة للإنكار. والواو للعطف على مقدر، كما تقدم مراراً، والآية العلامة والدلالة أي. ألم تكن لهؤلاء أي لكفار مكة علامة دالة على أن القرآن حق، وأنه تنزيل رب العالمين وأنه في زبر الأولين (أن يعلمه علماء بني إسرائيل) على العموم، أو من آمن منهم كعبد الله بن سلام، وأسد، وأسيد، وثعلبة، وابن يامين فهؤلاء الخمسة من علماء اليهود وقد حسن إسلامهم فإنهم يخبرون بذلك، وإنما صارت شهادة أهل الكتاب حجة على المشركين لأنهم كانوا يرجعون إليهم ويصدقونهم. قال الزجاج المعنى أولم يكن لهم علم علماء بني إسرائيل أن محمداً - ﷺ - نبي حق، علامة ودلالة على نبوته، لأن العلماء الذين آمنوا من بني إسرائيل كانوا يخبرون بوجود ذكره في كتبهم.
419
وكذا قال الفراء عن ابن عباس قال كان عبد الله بن سلام من علماء بني إسرائيل، وكان من خيارهم، فآمن بكتاب محمد فقال لهم الله أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل.
420
(ولو نزلناه) أي هذا القرآن على الصفة التي هو عليها (على بعض) رجل من (الأعجمين) جمع أعجمي، قاله صاحب التحرير، أو جمع أعجم قاله ابن عطية، يقال رجل أعجم وأعجمي إذا كان غير فصيح اللسان، وإن كان عربياً، ورجل عجمي إذا كان أصله من العجم، وإن كان فصيحاً، إلا أنّ الفراء أجاز أن يقال رجل عجمي، بمعنى أعجمي وقرئ (على بعض الأعجميين) على الأصل، وقال الزمخشري الأعجم الذي لا يفصح، وفي لسانه عجمة أو استعجام، والأعجمي مثله إلا أن فيه زيادة ياء النسب توكيداً.
(فقرأه عليهم) قراءة صحيحة (ما كانوا به مؤمنين) أنفة من اتباعه، مع انضمام إعجاز القراءة من الرجل الأعجمي للكلام العربي، أي القرآن أو المعنى أن الأعجمي لا يتهم باكتسابه أصلاً، ولا باختراعه، لفقد الفصاحة فيه، ولكونه ليس لغته. وقيل المعنى ولو نزلناه على بعض الأعجمين بلغة العجم، فقرأه عليهم بلغته لم يؤمنوا به، وقالوا ما نفقه هذا ولا نفهمه، ومثل هذا قوله تعالى (ولو جعلناه قرآنا أعجمياً لقالوا لولا فصّلت آياته) وهذه الشرطية لا تستلزم الوقوع.
(كذلك) أي مثل ذلك السلك (سلكناه) أي أدخلنا القرآن (في قلوب المجرمين) أي كفار مكة بقراءة النبي - ﷺ - حتى فهموا معانيه وعرفوا فصاحته، وأنه معجز. وقال الحسن وغيره سلكنا الشرك والتكذيب في قلوب المجرمين، وقال عكرمة سلكنا القسوة، والأول أولى، لأن السياق في القرآن، وفيه حجة على المعتزلة، في خلق أفعال العباد خيرها وشرها.
(لا يؤمنون به) أي بالقرآن (حتى يروا العذاب الأليم) أي إلى هذه
420
الغاية، وهي مشاهدتهم للعذاب الأليم والمراد معاينة الموت عند الموت، ويكون ذلك إيمان يأس فلا ينفعهم، والجملة مستأنفة أو حالية.
421
(فيأتيهم) أي العذاب (بغتة) أي فجاة والفاء للترتيب الرتبي دون الزماني كما في الكشاف والمعنى حتى يروا العذاب فما هو أشد من رؤيته، وهو لحوقه بهم مفاجأة، فما هو أشد منه وهو سؤالهم الإنظار مع القطع بامتناعه كما يأتي (وهم) أي والحال أنهم (لا يشعرون) بإتيانه وقرأ الحسن فتأتيهم بالفوقية أي الساعة، وإن لم يتقدم لها ذكر لكنه قد دل العذاب عليها فيرونه.
(فيقولوا هل نحن منظرون)؟ أي مؤخرون وممهلون عن الهلاك ولو طرفة عين لنؤمن، قالوا هذا تحسر على ما فات من الإيمان، وطمعاً في المحال وهو إمهالهم بعد مجيء العذاب، وتمنياً للرجعة إلى الدنيا لإستدراك ما فرط منهم، فيقال لهم لا تأخير ولا إمهال، وقيل المراد بقولهم هذا الاستعجال للعذاب على طريقة الاستهزاء لقوله:
(أفبعذابنا يستعجلون)؟ ولا يخفى ما في هذا من البعد والمخالفة للمعنى الظاهر فإن معنى (هل نحن منظرون) طلب النظرة والإمهال، وأما قوله (أفبعذابنا) الخ فالمراد به الرد عليهم، والإنكار لما وقع منهم من قولهم (فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) وقولهم: (فائتنا بما تعدنا) حيث استعجلوا ما فيه ضررهم، وحتف أنفسهم، والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام، أي أيكون حالهم كما ذكر عند نزول العذاب؟ فيستعجلون به وبينهما من التنافي ما لا يخفى على أحد، أو أيغفلون عن ذلك مع تحققه وتقرره فيستعجلون، وتقديم الظرف لرعاية الفواصل.
(أفرأيت) الاستفهام للإنكار، والفاء للعطف على مقدر يناسب المقام ومعنى رأيت أخبرني والخطاب لكل من يصلح له (إن متعناهم سنين) في الدنيا متطاولة، وطولنا لهم الأعمار
(ثم جاءهم ما كانوا يوعدون) من العذاب والهلاك.
421
مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (٢٠٧) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (٢٠٨) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (٢٠٩) وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (٢١٠) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (٢١١) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (٢١٢) فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (٢١٣) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (٢١٤) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢١٥) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢١٦) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٢١٧) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (٢١٨)
422
(ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون) أي أيُّ شيء أو أيُّ إغناء أغنى عنهم كونهم ممتعين ذلك التمتع الطويل المديد، والاستفهام للإنكار التقريري و (ما) في (ما كانوا) مصدرية أو موصولة، وقيل (ما) الأولى نافية والثانية مصدرية أي لم يغن عنهم تمتعهم المتطاول في دفع العذاب، وتخفيفه وقرئ يمتعون من أمتع الله زيداً بكذا.
وعن ميمون بن مهران أنه لقي الحسن في الطواف وكان يتمنى لقاءه فقال له عظني فلم يزده على تلاوة هذه الآية، فقال ميمون قد وعظت فأبلغت وعن عمر بن عبد العزيز أنه كان يقرأها عند جلوسه للحكم.
(وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون) من مزيدة للتأكيد، أي وما أهلكنا قرية من القرى إلا بعد الإنذار والإعذار بإرسال الرسل إليهم وإنزال الكتب
(ذكرى) بمعنى تذكرة أي يذكرون ذكرى، قال النحاس وهذا قول صحيح لأن معنى إلا لها منذرون إلا لها مذكرون، أو التقدير إنذارنا ذكرى، أو ذلك ذكرى قال ابن الأنباري هي ذكرى، أو نذكرهم ذكرى وقيل ينذرونهم ذوي تذكرة أو لأجل التذكرة، وبه صرح أبو البقاء أي تنذرهم لأجل تذكيرهم بالعواقب، وقد رجح الأخفش أنها خبر مبتدأ محذوف والجملة اعتراضية.
422
(وما كنا ظالمين) في تعذيبهم وليس من شأننا الظلم وقد قدمنا الحجة إليهم وأنذرناهم وأعذرنا إليهم.
423
(وما تنزلت به) أي بالقرآن (الشياطين) وقرئ بالواو والنون إجراء له مجرى جمع السلامة. قال النحاس: وهذا غلط عند جميع النحويين، قال المبرد وهذا غلط من العلماء، وبه قال الفراء، وقال المؤرج: إن كان الشيطان من شاط يشيط كان لهذه القراءة وجه، وقال يونس بن حبيب سمعت أعرابياً يقول: دخلنا بساتين من ورائها بساتون، وهذا رد لما زعمه الكفرة في القرآن أنه من قبيل ما تلقيه الشياطين على الكهنة بعد تحقيق الحق ببيان أنه نزل به الروح الأمين، فلا يكون سحراً أو كهانة أو شعراً أو أضغاث أحلام كما يقولون.
(وما ينبغي لهم) ذلك وما يصح منهم ولا يصلح أن ينزلوا به (وما يستطيعون) في ما نسبه الكفار إليهم أصلاً ولا يمكنهم
(إنهم عن السمع) للقرآن أو لكلام الملائكة (لمعزولون) أي لمحجوبون مرجومون بالشهب، ثم لما قرر الله سبحانه حقية القرآن، وأنه منزل من عنده أمر نبيه - ﷺ - بدعاء الله وحده فقال:
(فلا تدع مع الله إلهاً آخر فتكون من المعذبين) إن فعلت ذلك الذي دعوك إليه، وخطاب النبي - ﷺ - بهذا مع كونه منزهاً عنه معصوماً منه، لحث العباد على التوحيد، ونهيهم عن شوائب الشرك، وكأنه قال: أنت أكرم الخلق عليّ وأعزهم عندي، ولو اتخذت معي إلهاً لعذبتك، فكيف بغيرك من العباد؟ قال في حاشية الجمل: الخطاب له والمقصود غيره.
(وأنذر عشيرتك الأقربين) خصهم لأن الاهتمام بشأنهم أولى وهدايتهم إلى الحق أقدم، قيل هم قريش، وقيل: بنو عبد مناف، وقيل: بنو هاشم وقد ثبت في البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة قال: لما نزلت هذه الآية
423
دعا رسول الله - ﷺ - قريشاً وعم وخص، فقال: " يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار، فإني لا أملك لكم ضراً ولا نفعاً، يا معشر بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضراً ولا نفعاً، يا معشر بني قصي أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضراً ولا نفعاً، يا معشر بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملكم لكم ضراً ولا نفعاً، يا معشر بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضراً ولا نفعاً، يا فاطمة بنت محمد أنقدي نفسك من النار فإني لا أملك لك ضراً ولا نفعاً، ألا إن لكم رحماً وسأبلها ببلالها "، وفي الباب أحاديث من طريق جماعة من الصحابة فذلك منه - ﷺ - بيان لعشيرة الأقربين وإنذاره لهم جهاراً.
424
(واخفض جناحك) أي جانبك، يقال: خفض جناحه إذا ألانه، وفيه استعارة حسنة، والمعنى ألن جناحك وتواضع (لمن اتبعك من المؤمنين) الموحدين من عشيرتك وغيرهم، وأظهر لهم المحبة والكرامة، وتجاوز عنهم.
(فإن عصوك) أي خالفوا أمرك ولم يتبعوك (فقل) لهم (إني بريء مما تعملون) أي من عملكم أو من الذي تعملونه من عبادة غير الله، وهذا يدل على أنّ المراد بالمؤمنين الشارفون للإيمان المصدقون باللسان، لأن المؤمنين الخلص لا يعصونه ولا يخالفونه، ثم بين له ما يعتمد عليه عند عصيانهم له فقال:
(وتوكل على العزيز الرحيم) أي فوِّض جميع أمورك إليه فإنه القادر على قهر الأعداء وهو الرحيم للأولياء، قرئ فتوكل بالفاء والواو وهما قراءتان سبعيتان فعلى الأولى يكون ما بعدها كالجزاء مما قبلها مترتباً عليه، وعلى الثانية يكون ما بعد الواو معطوفاً على ما قبلها عطف جملة على جملة من غير ترتيب
(الذي يراك حين تقوم) إلى الصلاة وحدك منفرداً في قول أكثر المفسرين وقال مجاهد حين تقوم حيثما كنت.
424
وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (٢١٩) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٢٢٠) هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (٢٢١) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٢٢٢) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (٢٢٣) وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (٢٢٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (٢٢٥) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (٢٢٦) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (٢٢٧)
425
(وتقلبك في الساجدين) المصلين، أي ويراك إن صليت في الجماعة راكعاً وقائماً وساجداً، كذا قال أكثر المفسرين وعن مقاتل أنه سأل أبا حنيفة رحمهما الله هل تجد الصلاة بالجماعة في القرآن قال لا يحضرني فتلا له هذه الآية، وقيل: يراك في أصلاب الرجال الموحدين من نبي إلى نبي من لدن آدم وحواء إلى عبد الله وآمنة، حتى أخرجك في هذه الأمة؛ فجميع أصوله رجالاً ونساء مؤمنون.
وأورد على هذا آزر أبو إبراهيم فإنه كافر بمقتضى الآيات وأجاب بعضهم بأنه كان عم إبراهيم لا أباه، وفيه ضعف بين. وأجاب بعضهم أن قولهم أصول محمد - ﷺ - لم يدخلهم الشرك، محله ما دام النور المحمدي في الذكر وفي الأنثى، فإذا انتقل منه لمن بعده أمكن أن يعبد غير الله، وآزر ما عبد الأصنام إلا بعد انتقال النور منه لإبراهيم، وأما قبل انتقاله فلم يعبد غير الله، قاله الحفناوي.
وقيل، المراد بـ (تقوم) قيامه إلى التهجد، وبالتقلب تردده في تفحص أحوال المجتهدين في العبادة وتقلب بصره فيهم؛ كذا قال مجاهد.
قال ابن عباس: تقلبك أي قيامك وركوعك وسجودك، وعنه قال يراك وأنت مع الساجدين تقوم وتقعد معهم، وعنه قال: كان النبي - ﷺ - إذا قام
425
إلى الصلاة يرى من خلفه كما يرى من بين يديه، ومنه الحديث في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - ﷺ -: هل ترون قبلتي هاهنا فوالله ما يخفى على خشوعكم ولا ركوعكم، وإني لأراكم من وراء ظهري.
426
(إنه هو السميع) لما تقوله (العليم) به، ثم أكد سبحانه معنى قوله (وما تنزلت به الشياطين) وبينه فقال:
(هل أنبئكم) يا كفار مكة (على من تنزل الشياطين)؟ أي تتنزل فحذف إحدى التاءين، وفيه بيان استحالة تنزل الشياطين على رسول الله - ﷺ -
(تنزل على كل أفاك أثيم) الأفاك الكثير الإفك، والأثيم كثير الإثم، والمراد به كل من كان كاهناً، فإن الشياطين كانت تسترق السمع، ثم يأتون إليهم فيلقونه إليهم مثل مسيلمة من المتنبئة، وكسطيح من الكهنة، وهو معنى قوله:
(يلقون السمع) أي: ما يسمعونه مما يسترقونه، فالمعنى حال كون الشياطين ملقين السمع، أي: ما يسمعونه من الملأ الأعلى إلى الكهان، ويجوز أن يكون المعنى أن الشياطين يلقون السمع، أي: يصغون إلى الملأ الأعلى ليسترقوا منهم شيئاًً ويكون المراد بالسمع على الوجه الأول المسموع، وعلى الوجه الثاني نفس حاسة السمع.
ويجوز أن تكون جملة يلقون السمع راجعة إلى كل أفاك أثيم، على أنها صفة أو مستأنفة، ومعنى الإلقاء أنهم يسمعون ما تلقيه إليهم الشياطين من الكلمات التي تصدق الواحدة منها، وتكذب المائة الكلمة، ويلقونها إلى عوام الخلق.
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة قالت: سأل أناس النبي - ﷺ - عن الكهان فقال: إنهم ليسوا بشيء، قالوا يا رسول الله إنهم يحدثون أحياناً بشيء يكون حقاً قال: تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني فيقذفها في أذن وليه، فيخلطون فيها أكثر من مائة كذبة. وفي لفظ البخاري فيزيدون معها
426
مائة كذبة.
(و) جملة (أكثرهم كاذبون) راجعة إلى كل أفاك أثيم، أي وأكثر هؤلاء الكهنة كاذبون فيما يتلقونه من الشياطين، لأنهم يضمون إلى ما يسمعونه كثيراً من أكاذيبهم المختلقة أو أكثرهم كاذبون فيما يلقونه من السمع أي المسموع من الشياطين، إلى الناس، أو هذه الجملة راجعة إلى الشياطين أي أكثر الشياطين كاذبون فيما يلقونه إلى الكهنة مما يسمعونه، فإنهم يضمون إلى ذلك من عند أنفسهم كثيراً من الكذب، وكان هذا قبل أن حجبت الشياطين عن السماء.
وقد قيل: كيف يصح على الوجه الأول وصف الأفاكين بأن أكثرهم كاذبون، بعد ما وصفوا جميعاً بالإفك؛ وأجيب بأن المراد بالأفاك الذي يكثر الكذب، لا الذي لا ينطق إلا بالكذب، فالمراد بقوله: (وأكثرهم كاذبون) أنه قل من يصدق منهم فيما يحكى عن الشياطين، والغرض الذي سيق لأجله هذا الكلام رد ما كان يزعمه المشركون من كون النبي - ﷺ - من جملة من يلقي إليه الشيطان السمع من الكهنة؛ ببيان أن الأغلب على الكهنة الكذب، ولم يظهر من أحوال محمد - ﷺ - إلا الصدق. فكيف يكون كما زعموا؟ ثم إن هؤلاء الكهنة يعظمون الشياطين، وهذا النبي المرسل من عند الله برسالته إلى الناس يذمهم ويلعنهم، ويأمر بالتعوذ منهم.
ثم لما كان قد قال قائل من المشركين: إن النبي - ﷺ - شاعر، بيَّن سبحانه حال الشعراء ومنافاة ما هم عليه لما عليه النبي - ﷺ - فقال:
427
(والشعراء يتبعهم) مشدداً ومخففاً أي: يجاريهم وشملك مسلكهم ويكون من جملتهم (الغاوون) أي الضالون عن الحق، والشعراء جمع شاعر والغاوون جمع غاو، وهم ضلال الجن والإنس، قاله ابن عباس. وقيل الزائلون عن الحق، وقيل: المشركون، وقيل: الشياطين، وقيل: الذين يروون الشعر المشتمل على الهجاء وما لا يجوز.
427
وقيل: المراد شعراء الكفار خاصة منهم عبد الله بن الزبعرى السهمي، وهبيرة بن أبي وهب المخزومي، ومسافع بن عبد مناف، وأبو عزة الجمحي، وأمية بن أبي الصلت الثقفي، تكلموا بالكذب والباطل، وقالوا نحن نقول مثل ما يقول محمد، وقالوا الشعر واجتمع إليهم غواة قومهم يسمعون أشعارهم حين يهجون النبي - ﷺ - وأصحابه ويروون عنهم قولهم. فذلك قوله تعالى هذا.
قال الزجاج: إذا مدح أو هجا شاعر بما لا يكون، وأحب ذلك قوم وتابعوه فهم الغاوون، والمعنى لا يتبعهم على كذبهم وباطلهم وتمزيق الأعراض والقدح في الأنساب والطعن في الأحساب، ومدح من لا يستحق المدح وذم من لا يستحق الذم. ولا يستحسن ذلك منهم إلا الغاوون. عن ابن عباس قال: تهاجى رجلان على عهد رسول الله - ﷺ - أحدهما من الأنصار، والآخر من قوم آخرين، وكان مع كل واحد منهما غواة من قومه وهم السفهاء، فأنزل الله هذه الآية ثم بين سبحانه قبائح شعراء الباطل فقال:
428
(ألم تر أنهم في كل واد يهيمون)؟ تقرير لما قبله والخطاب لكل من تتأتى منه الرؤية، يقال: هام يهيم هيماً وهيماناً. إذا ذهب على وجهه، والهيام أن يذهب على وجهه من عشق وغيره، وهو تمثيل كما في الكشاف، والمعنى ألم تر أنهم في كل فن من فنون الكذب يخوضون؛ وفي كل شعب من شعاب الزور يتكلمون، فتارة يمزقون الأعراض بالهجاء، وتارة يأتون من المجون بكل ما يمجه السمع ويستقبحه العقل، وتارة يخوضون في بحر السفاهة والوقاحة، ويذمون الحق ويمدحون الباطل، ويرغبون في فعل المحرمات ويدعون الناس إلى فعل المنكرات، كما تسمعه في أشعارهم من مدح الخمر والزنا واللواط ونحو هذه الرذائل الملعونة.
كيف وأكثر مقدماتهم خيالات لا حقيقة لها، وأغلب كلماتهم في التشبيب بالحرام والغزل والابتهار، والقدح في الأنساب والطعن في الأحساب والوعد الكاذب، والإفتخار الباطل، ومدح من لا يستحقه؛ والإطراء فيه،
428
قاله البيضاوي، وغيره، وهذا من باب الاستعارة البليغة والتمثيل الرائع شبه جولانهم في أفانين القول بطريق المدح والذم والتشبيب وأنواع الشعر بهيام الهائم في كل وجه وطريق، والهائم هو الذي يخبط في طريقه ولا يقصد موضعاً معيناً.
والهائم العاشق، والهيمان العطشان؛ والهيام داء يأخذ الإبل من العطش، وجمل أهيم، وناقة هيماء والجمع فيهما هيم قال تعالى فشاربون شرب الهيم.
قال ابن عباس في الآية: في كل لغو يخوضون، وقيل: يمدحون بالباطل ويهجون بالباطل، وقيل: إنهم يمدحون الشيء ثم يذمونه لا يطلبون الحق والصدق؛ فالوادي مثل لفنون الكلام وطرقه، والغوص في المعاني والقوافي ثم قال سبحانه:
429
(وإنهم يقولون ما لا يفعلون) أي يقولون فعلنا وفعلنا، وهم كذبة في ذلك ألجأهم إليه الفن الذي سلكوه، فقد يحثون بكلامهم على الكرم والخير، ولا يفعلونه وقد ينسبون إلى أنفسهم من أفعال الشر ما لا يقدرون على فعله، كما تجده في كثير من أشعارهم من الدعاوى الكاذبة، والزور الخالص المتضمن لقذف المحصنات، وأنهم فعلوا بهن كذا وكذا وذلك كذب محض وافتراء بحت ثم استثنى سبحانه الشعراء المؤمنين الصالحين الذين أغلب أحوالهم تحرّي الحق والصدق، وكانوا يجيبون شعراء الكفار ويهجون وينافحون عن النبي - ﷺ - وأصحابه فقال:
(إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات) أي دخلوا في حزب المؤمنين، وعملوا بأعمالهم الصالحات (وذكروا الله كثيراً) في أشعارهم ولم يشغلهم الشعر عن ذكر الله كابن رواحة، وحسان بن ثابت، وكعب بن مالك وكعب ابن زهير رضي الله تعالى عنهم. وعن عروة، قال: لما نزلت والشعراء إلى قوله ما لا يفعلون، قال عبد الله بن رواحة يا رسول الله قد علم الله أني منهم
429
فأنزل الله إلا الذين آمنوا إلى قوله ينقلبون وروي نحو هذا من طرق.
(وانتصروا من بعد ما ظلموا) كمن يهجو منهم من هجاه أو ينتصر لعالم أو فاضل، كما كان يقع من شعراء النبي - ﷺ - فإنهم كانوا يهجون من يهجوه، ويحمون عنه ويذبون عن عرضه، ويكافحون شعراء المشركين وينافحونهم.
ويدخل في هذا من انتصر بشعره لأهل السنة، وكافح أهل البدعة وزيف ما يقول شعراؤهم من مدح بدعتهم، وهجو السنة المطهرة كما يقع ذلك كثيراً من شعراء الرافضة ونحوهم، فإن الانتصار للحق بالشعر وتزييف الباطل به من أعظم المجاهدة، وفاعله من المجاهدين في سبيل الله المنتصرين لدين الله القائمين بما أمر الله بالقيام به.
واعلم أن الشعر في نفسه ينقسم إلى أقسام فقد يبلغ ما لا خير فيه منه إلى قسم الحرام. وقد يبلغ ما فيه خير منه إلى قسم الواجب، وقد وردت أحاديث في ذمه وذم الاستكثار منه، ووردت أحاديث أخر في إباحته وتجويزه، والكلام في تحقيق ذلك يطول.
وأخرج أحمد والبخاري في تاريخه، وأبو يعلى وابن مردويه عن كعب بن مالك أنه قال للنبي - ﷺ -: " إن الله قد أنزل في الشعراء ما أنزل فكيف ترى فيه؟ فقال: إن المؤمن يجاهد نفسه بسيفه ولسانه، والذي نفسي بيده لكأن ما ترموهم به نضح النبل ".
وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد عن أبي سعيد قال: بينما نحن نسير مع رسول الله - ﷺ - إذ عرض شاعر ينشد فقال النبي - ﷺ -: " لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً خير له من أن يمتلئ شعراً ".
وأخرج الديلمي مرفوعاً عن ابن مسعود: الشعراء الذين يموتون في الإسلام يأمرهم الله أن يقولوا شعراً يتغنى به الحور العين لأزواجهن في الجنة، والذين ماتوا في الشرك يدعون بالويل والثبور في النار.
430
وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - ﷺ -: " إن من الشعر لحكمة ".
قال: وأتاه قريظة بن كعب وعبد الله بن رواحة وحسان بن ثابت، فقالوا: إنا نقول الشعر وقد نزلت هذه الآية فقال رسول الله - ﷺ -: " اقرأوا " فقرأوا والشعراء إلى قوله: (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات) فقال: أنتم هم وذكروا الله كثيراً، فقال " أنتم هم "، وانتصروا من بعد ما ظلموا فقال: " أنتم هم ".
وأخرج ابن سعد، وابن أبي شيبة عن البراء بن عازب قال: قال رسول الله - ﷺ - لحسان بن ثابت: أهج المشركين فإن جبريل معك.
وأخرج أحمد وابن سعد عن أبي هريرة قال: مر عمر بحسان وهو ينشد في المسجد فلحظ إليه فنظر إليه فقال قد كنت أنشد فيه وفيه من هو خير منك فسكت ثم التفت حسان إلى أبي هريرة فقال: أنشدك بالله هل سمعت رسول الله - ﷺ - يقول أجب عني اللهم أيده بروح القدس؟ قال: نعم.
وأخرج ابن أبي شيبة عن بريدة قال: قال رسول الله - ﷺ -: " إن من الشعر حكماً ".
وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن مسعود عن النبي - ﷺ -: " لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً يريه خير من أن يمتلئ شعراً ".
وأخرج مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - ﷺ -: " لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً يريه خير من أن يمتلئ شعراً ".
وفي الحديث الصحيح عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً: " لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً خير له من أن يمتلئ شعراً ".
قال في الصحاح ورى القيح جوفه يريه ورياً إذا أكله.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - ﷺ -: " حسن الشعر كحسن الكلام وقبيح الشعر كقبيح الكلام ". قال القرطبي: رواه إسماعيل عن
431
عبد الله بن عوف الشامي؛ وحديثه عن أهل الشام صحيح فيما قال يحيى بن معين وغيره.
وأخرج مسلم من حديث عمرو بن الشريد عن أبيه قال: ردفت رسول الله - ﷺ - فقال: " هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت؟ " قلت نعم، قال: " هيه "، فأنشدته بيتاً فقال: " هيه ". ثم أنشدته بيتاً، فقال: " هيه "، حتى أنشدته مائة بيت.
وقال الشعبي: كان أبو بكر يقول الشعر، وكان عمر يقول الشعر، وكان عثمان يقول الشعر، وكان عليّ أشعر من الثلاثة. وعن ابن عباس أنه كان ينشد الشعر ويستنشده في المسجد فروى أنه دعا عمر بن أبي ربيعة المخزومي فاستنشده قصيدة فأنشده إياها؛ وهي قريب من تسعين بيتاً، ثم إن ابن عباس أعاد القصيدة جميعها وكان حفظها من مرة واحدة.
وروى البخاري عن أُبي بن كعب أن رسول الله - ﷺ - قال: " إن من الشعر حكمة " وقالت عائشة: الشعر كلام فمنه حسن ومنه قبيح، فخذ الحسن ودع القبيح ولآزاد البلجرامي رحمه الله في بيان حكم الشعر كلام لطيف في كتابه تسلية الفؤاد، إن شئت فارجع إليه، ثم ختم سبحانه هذه السورة بآية جامعة للوعيد كله فقال:
(وسيعلم) وفيه تهديد شديد؛ وتهويل عظيم؛ وكذا في إطلاق (الذين ظلموا) وإبهام (أي منقلب ينقلبون)؟ بعد الموت، وخص بعضهم هذه الآية بالشعراء؛ ولا وجه لذلك، فإن الاعتبار بعموم اللفظ، وقد تلاها أبو بكر لعمر حين عهد إليه، وكان السلف يتواعظون بها. قال ابن عطاء سيعلم المعرض عنا ما الذي فاته منا. والمعنى ينقلبون منقلباً أي منقلب، والمراد جهنم. وقدم (أي) لتضمنه معنى الاستفهام.
قال أبو البقاء: ولا يعمل فيه (سيعلم) لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله، بل هو معلق عن العمل فيه وهذا الذي قاله مردود بأن أيا الواقعة صفة لا
432
تكون استفهامية، وكذلك الاستفهامية لا تكون صفة، بل هما قسمان كل منهما قسم برأسه و (أي) تنقسم إلى أقسام كثيرة. قال النحاس وحقيقة القول في ذلك الاستفهام معنى، وما قبله معنى آخر، فلو عمل فيه ما قبلها لدخل بعض المعاني في بعض، والله أعلم.
وقال القرطبي: معناه أي مصير يصيرون؟ وأي مرجع يرجعون؟ لأن مصيرهم إلى النار وهو أقبح مصير، ومرجعهم إلى العذاب، وهو شر مرجع. والفرق بين المنقلب والمرجع أن المنقلب الانتقال إلى ضد ما هو فيه؛ والمرجع العود من حال هو فيها إلى حال كان عليها، فصار كل مرجع منقلباً، وليس كل منقلب مرجعاً ذكره الماوردي.
والمعنى عند الحسن وابن عباس أنّ الظالمين يطمعون في الانقلاب من عذاب الله، والانفكاك منه، ولا يقدرون على ذلك. وعن فضالة بن عبيد في الآية قال هؤلاء الذين يخربون البيت. والْحَمدُ لله رَب العَالَمِينَ
433
خاتمة الجزء التاسع
تم بعون الله الجزء التاسع من فتح البيان في مقاصد القرآن ويليه الجزء العاشر وأوله تفسير سورة النمل.
435
فتحُ البيان في مقاصد القرآن
تفسِير سَلفي أثري خالٍ منَ الإِسرَائيليّاتِ والجَدليَّاتِ المذهبية والكلامية يغني عَن جميع التفاسِير وَلا تغني جميعُهَا عَنه
تأليف: السيد الإمام العلامة الملك المؤيد من الله الباري آبي الطيب صديق بن حسن بن علي الحسين القنوجي النجاري ١٢٤٨ - ١٣٠٧ هـ
عني بطبعهِ وقدّم له وراجعه: خادم العلم عَبد الله بن إبراهيم الأنصَاري
الجزء العاشر
المَكتبة العصريَّة
صَيدَا - بَيروت
1
جَمِيع الحُقُوق محفُوظَة
١٤١٢ هـ - ١٩٩٢ م
شركة أبناء شريف الأنصاري للطباعة والنشر والتوزيع
المَكتبة العصريَّة للطبَاعة والنّشْر
الدار النموذجية ــ المكتبة العصرية
بَيروت - صَ. ب ٨٣٥٥ - تلكس LE ٢٠٤٣٧ SCS
صَيدَا - صَ. ب ٢٢١ - تلكس LE ٢٩١٩٨
2
فتح البيان في مقاصد القرآن
3
الجزء العاشر
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
ويشتمل على:
- سورة النمل
- سورة القصص
- سورة العنكبوت
- سورة الروم
- سورة لقمان
5
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سورة النمل
(هي ثلاث أو أربع أو خمس وتسعون آية)
قال القرطبي: وهي مكية كلها في قول الجميع، وبه قال ابن عباس، وعن ابن الزبير مثله.
7
بسم الله الرحمن الرحيم
طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (١) هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٣) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (٤) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٥) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (٦)
9