تفسير سورة الشورى

الوجيز للواحدي
تفسير سورة سورة الشورى من كتاب الوجيز في تفسير الكتاب العزيز المعروف بـالوجيز للواحدي .
لمؤلفه الواحدي . المتوفي سنة 468 هـ
مكية وهي خمسون وثلاث آيات

﴿حم﴾ ح: حكم الله م: مجده
﴿عسق﴾ ع: علمه س: سناؤه ق: قدرته أقسم الله تعالى بها
﴿كذلك يوحي إليك﴾ ما من نبيٍّ صاحب كتابٍ إلاَّ وقد أوحى الله إليه: حم عسق فهو معنى قوله: ﴿كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك﴾
﴿له ما في السماوات وما في الأرض وهو العلي العظيم﴾
﴿تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن﴾ تكاد كلُّ واحدة منها تتفطَّر فوق التي تليها من قول المشركين: اتَّخذ الله ولداً ﴿والملائكة يسبحون بحمد ربهم﴾ يُنزِّهون الله تعالى عن السُّوء ﴿ويستغفرون﴾ اللَّهَ ﴿لمن في الأرض﴾ من المؤمنين
﴿والذين اتخذوا من دونه أولياء﴾ أَيْ: آلهةً ﴿الله حفيظ عليهم﴾ يحفظ أعمالهم ليجازيهم بها ﴿وما أنت عليهم بوكيل﴾ لم تُوكَّل عليهم وما عليك إلاَّ البلاغ
﴿وكذلك﴾ وهكذا ﴿أوحينا إليك قرآناً عربياً﴾ بلفظ العرب ﴿لتنذر أمَّ القرى﴾ أهل مكَّة ﴿ومَنْ حولها﴾ سائر النَّاس ﴿وتنذر يوم الجمع﴾ تخوِّفهم بيوم القيامة الذي يجمع فيه الخلق ﴿لا ريب فيه﴾ كما يرتاب الكافرون ﴿فريق في الجنة وفريق في السعير﴾ إخبارٌ عن اختلاف حال النَّاس في ذلك اليوم
﴿ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة﴾ لجعل الفريقين فريقاً واحداً ﴿ولكن يدخل من يشاء في رحمته﴾ بيَّن أنَّه إنَّما يُدخل الجنة مَنْ يشاء فهو فضلٌ منه ﴿والظالمون﴾ والكافرون ﴿ما لهم من وليٍّ ولا نصير﴾ ناصرٍ يمنعهم من العذاب
﴿أم اتخذوا﴾ بل اتَّخذوا ﴿من دونه أولياء فاللَّهُ هو الوليُّ﴾ لا ما اتَّخذوه من دونه
﴿وما اختلفتم فيه من شيء﴾ من أمر الدِّين ﴿فحكمه إلى الله﴾ لا إليكم وقد حكم أنَّ الدِّين هو الإِسلام لا غيره وقوله:
﴿جعل لكم من أنفسكم أزواجاً﴾ حلائل ﴿ومن الأنعام أزواجاً﴾ أَيْ: خلق الذَّكر والأنثى ﴿يذرؤكم فيه﴾ أيْ: يكثركم بجعله لم حلائل لأنهنَّ سبب النَّسل وفيه بمعنى: به ﴿ليس كمثله شيء﴾ الكافُ زائدةٌ أَيْ: ليس مثله شيء
﴿له مقاليد السماوات والأرض يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه بكل شيء عليم﴾
﴿شرع لكم﴾ بيَّن وأظهر لكم ﴿من الدين ما وصى به﴾ أمر ﴿زوجا﴾ ثمَّ بيَّن ذلك فقال: ﴿أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه﴾ والله يبعث الأنبياء كلَّهم بإقامة الدِّين وترك الفرقة ﴿كبر﴾ عَظُمَ وشقَّ ﴿على المشركين ما تدعوهم إليه﴾ من التَّوحيد وترك الأوثان ﴿الله يجتبي إليه مَنْ يشاء﴾ يصطفي مَنْ يشاء لدينه فيهديه إليه
﴿وما تفرَّقوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بينهم﴾ ما تفرَّق أهل الكتاب إلاَّ عن علمٍ بأنَّ الفرقة ضلالةٌ ولكنَّهم فعلوا ذلك للبغي ﴿ولولا كلمة سبقت من ربك﴾ في تأخيرهم إلى السَّاعة ﴿لقضي بينهم﴾ لجوزوا بأعمالهم ﴿وإنَّ الذين أورثوا الكتاب من بعدهم﴾ يعني: هذه الأمَّة أعطوا الكتاب من بعد اليهود والنَّصارى ﴿لفي شك منه مريب﴾ يعني: كفَّار هذه الأمَّة ومشركيها
﴿فلذلك فادع﴾ أَيْ: إلى ذلك يعني: إلى إقامة الدِّين فادع النَّاس ﴿واستقم كما أمرت﴾ اثبت على الدِّين الذي أُمرتَ به ﴿وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب﴾ أَيْ: بجميع كتب الله المنزلة ﴿وأمرت لأعدل بينكم﴾ لأسوِّي بينكم في الإيمان بكتبكم وقيل: لأعدل بينكم في القضية وقوله: ﴿لا حجة﴾ أَيْ: لا خصومة ﴿بيننا وبينكم﴾ وهذا منسوخٌ بآية القتال
﴿والذين يحاجون في الله﴾ يُخاصمون في دين الله نبيه عليه السلام ﴿من بعد ما استجيب له﴾ أجيب النبي ﷺ إلى الدِّين فأسلموا ودخلوا في دينه ﴿حجتهم داحضةٌ عند ربهم﴾ أَيْ: باطلةٌ زائلةٌ لأنَّهم يخاصمون صادقاً في خبره قد ظهرت معجزته
﴿الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان﴾ أَيْ: العدل والمعنى: إنَّ الله تعالى أمر أن يقتدي بكتابه في أوامره ونواهيه وأن يعامل بالنَّصفة والسَّويَّة وآلةُ ذلك الميزان ثمَّ قال: ﴿وما يدريك لعلَّ الساعة قريب﴾ أَيْ: فاعمل بالعدل والكتاب فلعلَّ السَّاعة قد قربت منك وأنت لا تدري
﴿يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها﴾ ظنَّاً منهم أنَّها غير كائنة ﴿والذين آمنوا مشفقون﴾ خائفون منها لأنَّهم يعلمون أنَّهم مبعوثون ومحاسبون ﴿ألا إنَّ الذين يمارون﴾ تدخلهم المِرية والشَّكُّ ﴿في الساعة لفي ضلال بعيد﴾ لأنَّهم لو فكَّروا لعلموا أنَّ الذي أنشأهم أوَّلاً قادرٌ على إعادتهم
﴿الله لطيف بعباده﴾ حفيٌّ بارٌّ بهم بَرِّهم وفاجرِهم حيث لم يقتلهم جُوعاًَ بمعاصيهم
﴿مَنْ كان يريد حرث الآخرة﴾ من أراد بعمله الآخرة ﴿نزد له في حرثه﴾ أَيْ: كسبه بالتَّضعيف بالواحدة عشراً ﴿ومَنْ كان يريد حرث الدنيا﴾ بعمله الدنيا ﴿نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب﴾ أَيْ: مَنْ آثر دنياه على آخرته لم نجعل له نصيباً في الآخرة
﴿أم لهم﴾ بل أَلهم ﴿شركاء﴾ آلهةٌ ﴿شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ولولا كلمة الفصل﴾ أَيْ: القَدَر السَّابق بأنَّ القضاء والجزاء يوم القيامة ﴿لقضي بينهم﴾ في الدُّنيا
﴿ترى الظالمين﴾ المشركين يوم القيامة ﴿مشفقين﴾ خائفين ﴿ممَّا كسبوا﴾ أَيْ: من جزائه ﴿وهو واقع بهم﴾ لا محالة وقوله:
﴿قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا﴾ أَيْ: على تبليغ الرِّسالة ﴿أجراً إلاَّ المودَّة في القربى﴾ أيْ: إلاَ أن تحفظوا قرابتي وتَوَدُّوني وتصلوا رحمي وذلك أنَّه لم يكن حيٌّ من قريش إلا وللنبي ﷺ فيهم قرابةٌ فكأنًّه يقول: إذا لم تؤمنوا بي فاحفظوا قرابتي ولا تُؤذوني وقيل: معناه: إلاَّ أَنْ تتودَّدُوا إلى الله عزَّ وجل بما يُقرِّبكم منه وقوله: ﴿إلاَّ المودة﴾ استثناءٌ ليس من الأوَّل ﴿ومن يقترف﴾ يعمل ﴿حسنة نزدْ له فيها حسناً﴾ نضاعفها له
﴿أم يقولون﴾ بل أيقولون يعني: أهل مكَّة ﴿افترى على الله كذباً﴾ تقوَّل القرآن من قبل نفسه ﴿فإنْ يشأ اللَّهُ يختم على قلبك﴾ يربط على قلبك بالصَّبر على أذاهم ثم ابتدأ فقال ﴿ويمح الله الباطل﴾ أَيْ: الشِّرك ﴿ويحق الحق بكلماته﴾ بما أنزله الله من كتابه على لسان نبيِّه عليه السَّلام وهو القرآن
﴿وهو الذي يقبل التوبة عن عباده﴾ إذا رجع العبد عن معصية الله تعالى إلى طاعته قَبِلَ ذلك الرُّجوع وعفا عنه ما سلف وهو قوله: ﴿ويعفو عن السيئات﴾
﴿ويستجيب الذين آمنوا﴾ أَيْ: يُجيبهم إلى ما يسألون
﴿ولو بسط الله الرزق لعباده﴾ أَيْ: وسَّع عليهم الرِّزق ﴿لبغوا في الأرض﴾ لطغوا وعصوا ﴿ولكن ينزِّل بقدر ما يشاء﴾ فيجعل واحداً فقيراً وآخر غنيَّاً ﴿إنَّه بعباده خبيرٌ بصير﴾
﴿وهو الذي ينزل الغيث﴾ المطر ﴿من بعد ما قنطوا﴾ من بعدِ يأسِ العباد من نزوله ﴿وينشر رحمته﴾ ويبسط مطره
﴿ومن آياته﴾ دلائل قدرته ﴿خلق السماوات والأرض وما بثَّ﴾ فرَّق ونشر ﴿فيهما من دابة وهو على جمعهم﴾ للحشر ﴿إذا يشاء قدير﴾
﴿وما أصابكم من مصيبة﴾ بليَّةٍ وشدَّةٍ ﴿فبما كسبت أيديكم﴾ فهي جزاء ما اكتسبتم من الإِجرام ﴿ويعفو عن كثير﴾ فلا يُجازي عليه
﴿وما أنتم بمعجزين في الأرض﴾ هرباَ اَيْ: إنِْ هربتم لم تعجزوا الله في أخذكم
﴿ومن آياته الجوار﴾ السُّفن التي تجري ﴿في البحر كالأعلام﴾ كالجبال في العظم
﴿إن يشأ يسكن الريح فيظللن﴾ فيصرن ﴿رواكد﴾ ثوابت على ظهر البحر لا تجري ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾ لكلِّ مؤمنٍ
﴿أو يوبقهن﴾ يُهلكهنَّ يعني: أهلها ﴿بما كسبوا﴾ من الذُّنوب ﴿ويعف عن كثير﴾ فلا يعاقب عليها
﴿ويعلم الذين يجادلون في آياتنا﴾ أَيْ: في دفعها وإبطالها ﴿ما لهم من محيص﴾ مهربٍ من عذاب الله
﴿فما أوتيتم من شيء﴾ من أثاثِ الدُّنيا ﴿فمتاع الحياة الدنيا﴾ يتمتَّع به في هذه الدَّار ﴿وَمَا عِنْدَ اللَّهِ﴾ من الثَّواب ﴿خير وأبقى للذين آمنوا﴾ نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين أنفق جميع ماله وتصدَّق به فلامه النَّاس
﴿والذين يجتنبون﴾ عطفٌ على قوله: ﴿للذين آمنوا﴾ ﴿كبائر الإِثم والفواحش﴾ الشِّرك وموجبات الحدود ﴿وإذا ما غضبوا هم يغفرون﴾ يتجاوزون ويحملون
﴿والذين استجابوا لربهم﴾ أجابوه بالإِيمان والطَّاعة ﴿وأمرهم شورى بينهم﴾ لا ينفردون برأيهم بل يتشاورون
﴿والذين إذا اصابهم البغي﴾ الظُّلم ﴿هم ينتصرون﴾ ينتقمون ممَّن ظلمهم ثمَّ بيَّن حدَّ الانتصار فقال:
﴿وجزاء سيئة سيئة مثلها﴾ أَيْ: إنما يُجازى السُّوء بمثله فيقتصُّ من الجاني بمقدار جنايته ﴿فمن عفا﴾ ترك الانتقام ﴿وأصلح﴾ بينه وبين الظَّالم عليه بالعفو ﴿فأجره على الله﴾ أَيْ: إنَّ الله يأجره على ذلك ﴿إنَّه لا يحب الظالمين﴾ الذين يبدؤون بالظُّلم
﴿ولمن انتصر بعد ظلمه﴾ أَيْ: بعد أنْ ظُلم ﴿فأولئك ما عليهم من سبيل﴾ باللَّوم ولا القصاص لأنه أخذ حقه
﴿إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم﴾
﴿ولمن صبر﴾ على الأذى ﴿وغفر﴾ ولم يكافئ ﴿إن ذلك﴾ أَيْ: الصَّبر والغفران ﴿لمن عزم الأمور﴾ لأنَّه يوجب الثَّواب فهو أتم عزم وقوله:
﴿ومن يضلل الله فما له من ولي من بعده وترى الظالمين لما رأوا العذاب يقولون هل إلى مرد من سبيل﴾
﴿وتراهم يعرضون عليها﴾ على النَّار ﴿خاشعين من الذل﴾ مُتواضعين ساكنين ﴿ينظرون﴾ إلى النَّار ﴿من طرف خفي﴾ مسارقة
﴿وما كان لهم من أولياء ينصرونهم من دون الله ومن يضلل الله فما له من سبيل﴾
﴿استجيبوا لربكم﴾ بالإيمان والطَّاعة ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ له من الله﴾ أَيْ: إنَّ الله تعالى إذا أتى به لم يرده ﴿ما لكم من ملجأ يومئذٍ﴾ مهربٍ من العذاب ﴿وما لكم من نكير﴾ إنكارٌ على ما ينزل بكم من العذاب لا تقدرون أن تنكروه فتغيروه وقوله:
﴿فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً إن عليك إلا البلاغ وإنا إذا أذقنا الإنسان منا رحمة فرح بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فإن الإنسان كفور﴾
﴿لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور﴾
﴿أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً﴾ أَيْ: يجعل ما يهب من الولد بعضه ذكوراً وبعضه إناثاً ﴿ويجعل من يشاء عقيماً﴾ لا يُولد له
﴿وما كان لبشر أن يكلمه الله إلاَّ وحياً﴾ بأن يوحي إليه في منامه ﴿أو من وراء حجاب﴾ كما كلَّم موسى عليه السَّلام ﴿أو يرسل رسولاً﴾ مَلَكاً ﴿فيوحيَ بإذنه ما يشاء﴾ فيكلِّمه عنه بما يشاء
﴿وكذلك﴾ وكما أوحينا إلى سائر الرُّسل ﴿أوحينا إليك روحاً﴾ ما يحيا به الخلق أَيْ: يهتدون به وهو القرآن ﴿من أمرنا﴾ : أَيْ: فِعْلِنا في الوحي إليك ﴿ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان﴾ قبل الوحي ويعني بالإيمان شرائعه ومعالمه ﴿ولكن جعلناه﴾ جعلنا الكتاب ﴿نوراً﴾ وقوله: ﴿وإنك لتهدي﴾ بوحينا إليك ﴿إلى صراط مستقيم﴾ يعني الإسلام
﴿صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور﴾
Icon