تفسير سورة القلم

تفسير النسفي
تفسير سورة سورة القلم من كتاب مدارك التنزيل وحقائق التأويل المعروف بـتفسير النسفي .
لمؤلفه أبو البركات النسفي . المتوفي سنة 710 هـ
سورة ن مكية وهي اثنتان وخمسون آية

ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (١)
﴿ن﴾ الظاهر أن المراد به هذا الحرف من حروف المعجم وأما قول الحسن إنه الدواة وقول
ابن عباس إنه الحوت الذي عليه الأرض واسمه تهموت فمشكل لأنه لا بد له من الإعراب سواء كان اسم جنس أو اسم علم فالسكون دليل على أنه من حروف المعجم ﴿والقلم﴾ أي ما كتب به اللوح أو قلم الملائكة أو الذي يكتب به الناس أقسم به لما فيه من المنافع والفوائد التي لا يحيط بها الوصف ﴿وَمَا يَسْطُرُونَ﴾ أي ما يسطره الحفظة أو ما يكتب به من الخير من كتب وما موصولة أو مصدرية وجواب القسم
مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (٢)
﴿مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبّكَ﴾ أي بإنعامه عليك بالنبوة وغيرها فأنت اسم وما وخبرها ﴿بمجنون﴾ وبنعمة رَبّكَ اعتراض بين الاسم والخبر والباء في بِنِعْمَةِ رَبّكَ تتعلق بمحذوف ومحله النصب على الحال والعامل فيها بِمَجْنُونٍ وتقديره ما أنت بمجنون منعماً عليك بذلك ولم تمنع الباء أن يعمل مجنون فيما قبله لأنها زائدة لتأكيد النفي وهو جواب قولهم
518
وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الذى نُزّلَ عَلَيْهِ الذكر إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ
519
وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (٣)
﴿وَإِنَّ لَكَ﴾ على احتمال ذلك والصبر عليه ﴿لأَجْرًا﴾ لثواباً ﴿غَيْرَ مَمْنُونٍ﴾ غير مقطوع أو غير ممنون عليك به
وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (٤)
﴿وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ قيل هو ما أمره الله تعالى به في قوله خُذِ العفو وامر بالعرف وأعرض عن الجاهلين وقالت عائشة رضي الله عنها كان خلقه القرآن أي ما فيه من مكارم الأخلاق وإنما استعظم خلقه لأنه جاد بالكونين وتوكل على خالقهما
فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (٥)
﴿فستبصر ويبصرون﴾ أي على قريب ترى ويرون هذا وعد له ووعيد له ووعيد لهم
بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (٦)
﴿بأيكم المفتون﴾ المجنون لأنه فتن أي محن بالجنون والباء مزيدة أو المفتون مصدر كالمعقول أي بأيكم الجنون وقال الزجاج الباء بمعنى في تقول كنت ببلد كا أي في بلد كذا وتقديره في أيكم المفتون أي فيأي الفريقين منكم المجنون فريق الإسلام أو فريق الكفر
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٧)
﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ﴾ أي هو أعلم بالمجانين على الحقيقة وهم الذين ضلوا عن سبيله ﴿وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين﴾ أي هو أعلم بالعقلاء وهم المهتدون
فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (٨)
﴿فلا تطع المكذبين﴾ تهيج للتصميم على معاصاتهم وقد أرادوا أن يعبد الله مدة وآلهتهم مدة ويكفوا عنه غوائلهم
وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (٩)
﴿وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ﴾ لو تلين لهم ﴿فَيُدْهِنُونَ﴾ فيلينون لك ولم ينصب بإضمار أن وهو جواب التمني لأنه عدل به إلى طريق آخر وهو ان جعل خبرا مبتدأ محذوف أي فهم يدهنون أي فهم الآن يدهنون لطمعهم في ادهانك
وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (١٠)
﴿ولا تطع كل حلاف﴾ عشير الحلف في الحق والباطل وكفى به مزجرة لمن اعتاد الحلف ﴿مَّّهِينٍ﴾ حقير في الرأي والتمييز من المهانة وهي القلة والحقارة أو كذاب لأنه حقير عند الناس
هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (١١)
﴿هَمَّازٍ﴾ عياب طعان مغتاب مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ نقال للحديث من قوم إلى قوم على موجه السعاية والإفساد بينهم والنميم والنميمة السعاية
مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢)
﴿مَّنَّاعٍ لّلْخَيْرِ﴾ بخيل والخير المال أو مناع أهله
من الخير وهو الإسلام والمراد الوليد بن المغيرة عند الجمهنور وكان يقول لبنيه العشرة من أسلم منكم منعته رفدي ﴿مُعْتَدٍ﴾ مجاوز في الظلم حده ﴿أَثِيمٍ﴾ كثير الآثام
عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (١٣)
﴿عتل﴾ غليظ جاف ﴿بعد ذلك﴾ بعد ما عد له من المثالب ﴿زَنِيمٍ﴾ دعي وكان الوليد دعياً في قريش ليس من سنخهم ادعاه أبوه بعد ثمان عشر سنة من مولده وقيل بغت أمه ولم يعرف حتى نزلت هذه الآية والنطفة إذا خبثت خبث الناشئ منها رُوي أنه دخل على أمه وقال إن محمداً وصفني بعشر صفات وجدت تسعاً فيّ فأما الزنيم فلا علم لي به فإن أخبرتني بحقيقته وإلا ضربت عنقك فقالت إن أباك عنين وخفت أن يموت فيصل ماله إلى غير ولده فدعوت راعياً إلى نفسي فأنت من ذلك الراعي
أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (١٤)
﴿أَن كَانَ ذَا مَالٍ﴾ متعلق بقوله وَلاَ تُطِعِ أي ولا تطعه مع هذه المثالب لأن كان ذا مال أي ليساره وحظه من الدنيا ويجوز أن يتعلق بما بعده أي لأن كان ذا مال ﴿وَبَنِينَ﴾ كذب بآياتنا يدل عليه
إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٥)
﴿إذا تتلى عليه آياتنا﴾ أي القرآن ﴿قَالَ أساطير الأولين﴾ ولا يعمل فيه قَالَ لأن ما بعد الشرط لا يعمل فيما قبله أأن حمزة وأبو بكر أي ألأن كان ذا مال كذب أأن شامي ويزيد ويعقوب وسهل قالوا لما عاب الوليد النبي ﷺ كاذباً باسم واحد وهو المجنون
520
سماه الله تعالى بعشرة أسماء صادقاً فإن كان من عدله أن يجزي المسيء إلى رسول الله ﷺ بعشرة كان من فضله أن من صلى عليه وسلم بها عشرا
521
سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (١٦)
﴿سَنَسِمُهُ﴾ سنكويه ﴿عَلَى الخرطوم﴾ على أنفه مهانة له وعلماً يعرف به وتخصيص الأنف بالذكر لأن الوسم عليه أبشع وقيل خطم بالسيف يوم بدر فبقيت سمة على خرطومه
إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (١٧)
﴿إِنَّا بلوناهم﴾ امتحنا أهل مكة بالقحط والجوع حتى أكلوا الجيف والرمم بدعاء النبي ﷺ حيث قال اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها سنين كسني يوسف ﴿كَمَا بَلَوْنَا أصحاب الجنة﴾ هم قوم من أهل الصلات كانت لأبيهم هذه الجنة بقربة يقال لها ضرو أن وكانت على فرسخين من صنعاء وكان يأخذ منها قوت سلته ويتصدق بالباقي على الفقراء فلما مات قال بنوه إن فعلنا ما كان يفعل أبونا ضاق علينا الامر ونحن أولو عيال فخلفوا ليصرمنها مصبحين في السدف خيفة من المساكين ولم يستثنوا في يمينهم فأحرق الله جنتهم وقال الحسن كانوا كفاراً والجمهور على الأول ﴿إِذْ أَقْسَمُواْ﴾ حلفوا ﴿لَيَصْرِمُنَّهَا﴾ ليقطعن ثمرها ﴿مُّصْبِحِينَ﴾ داخلين في الصبح قبل انتشار الفقراء حال من فاعل لَيَصْرِمُنَّهَا
وَلَا يَسْتَثْنُونَ (١٨)
﴿وَلاَ يَسْتَثْنُونَ﴾ ولا يقولون إن شاء الله وسمى استثناء وإن كان شرطا صورة لأن يؤدي الاستثناء من حيث إن معنى قولك لأخرجن إن شاء الله ولا أخرج إلا أن يشاء الله واحد
فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (١٩)
﴿فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ﴾ نزل عليها بلاء قيل أنزل الله تعالى عليها ناراً فأحرقتها ﴿وَهُمْ نَائِمُونَ﴾ أي في حال نومهم
فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (٢٠)
﴿فَأَصْبَحَتْ﴾ فصارت الجنة
﴿كالصريم﴾ كالليل المظلم أي احترقت فاسودت أو كالصبح أي
521
صارت أرضاً بيضاء بلا شجر وقيل كال صرومة أي كأنها صرمت لهلاك ثمرها
522
فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (٢١)
﴿فتنادوا مصبحين﴾ نادى بعضم بعضاً عند الصباح
أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (٢٢)
﴿أَنِ اغدوا﴾ باكروا ﴿على حَرْثِكُمْ﴾ ولم يقل إلى حرثكم لأن الغدوّ إليه ليصرموه كان غدوّاً عليه أو ضمن الغدوّ معنى الإقبال أي فأقبلوا على حرثكم باكرين ﴿إِن كُنتُمْ صارمين﴾ مريدين صرامه
فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (٢٣)
﴿فانطلقوا﴾ ذهبوا ﴿وَهُمْ يتخافتون﴾ يتسارّون فيما بينهم لئلا يسمع المساكين
أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (٢٤)
﴿أن لا يدخلنها﴾ أي الجنة وان مفسرة وقرئ بطرحها بإضمار القول أي يتخافتون يقولون لا يدخلنها ﴿اليوم عَلَيْكُمْ مّسْكِينٌ﴾ والنهي عن دخول المساكين نهى عن التمكين أي لا تمكنوه من الدخول ﴿اليوم عَلَيْكُمْ مّسْكِينٌ﴾ والنهي عن دخول المساكين نهى عن التمكين أي لا تمكنوه من الدخول
وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (٢٥)
﴿وَغَدَوْاْ على حَرْدٍ﴾ على جد في المنع ﴿قادرين﴾ عند أنفسهم على المنع كذا عن فطويه أو الحرد القصد والسرعة أي وغدوا قاصدين إلى جنتهم بسرعة قادرين عند أنفسهم على صرامها وزي منفعتها عن المساكين أو هو علم للجنة أي غدوا على تلك الجنة قادرين على صرامها عند أنفسهم
فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (٢٦)
﴿فَلَمَّا رَأَوْهَا﴾ أي جنتهم محترقة ﴿قَالُواْ﴾ في بديهة وصولهم ﴿إِنَّا لَضَالُّونَ﴾ أي ضللنا جنتنا وما هي بها لما رأوا من هلاكها فلما تأملوا وعرفوا أنها هي قالوا
بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٢٧)
﴿بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ﴾ حرمنا خيرها لجنايتنا على أنفسنا
قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (٢٨)
﴿قَالَ أَوْسَطُهُمْ﴾ أعدلهم وخيرهم ﴿أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبّحُونَ﴾ هلا تستثنون إذ الاستثناء التسبيح لالتقائهما في معنى التعظيم لله لأن الاستثناء تفويض إليه والتسبيح تنزيه له وكل واحد من التفويض والتنزيه تعظيم أو لولا تذكرون الله وتتوبون إليه من خبث نيتكم كان أوسطهم قال لهم حين عزموا على ذلك اذكروا الله وانتقامه من المجرمين وتوبوا عن هذه العزيمة
522
الخبيثة فعصوه فعيرهم ولهذا
523
قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (٢٩)
﴿قَالُواْ سبحان رَبّنَا إِنَّا كُنَّا ظالمين﴾ فتكلموا بعد خراب البصرة بما كان يدعوهم إلى التكلم به أولاً وأقروا على أنفسهم بالظلم في منع المعروف وترك الاستثناء ونزهوه عن أن يكون ظالماً
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (٣٠)
﴿فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يتلاومون﴾ يلوم بعضهم بعضاً بما فعلوا من الهرب من المساكين ويحيل كل واحد منهم اللائمة على الآخر ثم اعترفوا جميعا بأنهم تجاوزا الحد بقوله
قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (٣١)
﴿قالوا يا ويلنا إِنَّا كُنَّا طاغين﴾ بمنع حق الفقراء وترك الاستثناء
عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (٣٢)
﴿عسى ربنا أن يبدلنا﴾ وبالتشديد مدني وابوعمر ﴿خَيْراً مّنْهَا﴾ من هذه الجنة ﴿إِنَّا إلى ربنا راغبون﴾ طالبون منه الخير راجعون لعفوه عن مجاهد تابوا فأبدلوا خيراً منها وعن ابن مسعود رضي الله عنه بلغني أنهم أخلصوا
فأبدلهم بها جنة تسمى الحيوان فيها عنب يحمل البغل منه عنقوداً
كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (٣٣)
﴿كَذَلِكَ العذاب﴾ أي مثل ذلك العذاب الذي ذكرناه ممن عذاب الدنيا لمن سلك سبيلهم ﴿وَلَعَذَابُ الآخرة أَكْبَرُ﴾ أعظم منه ﴿لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ﴾ لما فعلوا ما يفضي إلى هذا العذاب ثم ذكر ما عنده للمؤمنين فقال
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٣٤)
﴿إِنَّ لّلْمُتَّقِينَ﴾ عن الشرك ﴿عِندَ رَبِّهِمْ﴾ أي في الآخرة ﴿جنات النعيم﴾ جنات ليس فيها إلا التنعم الخالص بخلاف جنات الدنيا
أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (٣٥)
﴿أَفَنَجْعَلُ المسلمين كالمجرمين﴾ استفهام إنكار على قولهم لو كان مايقول محمد حقاً فنحن نعطي في الآخرة خيراً مما يعطي هو ومن معه كم في الدنيا فقيل لهم نحيف في الحكم فنجعل المسلمين كالكافرين ثم قيل هم على طريقة الالتفات
مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٦)
﴿مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ هذا الحكم الأعوج وهو
523
التسوية بين المطيبع والعاص كأن أمر الجزاء مفوض إليكم حتى تحكموا فيه بما شئتم
524
أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (٣٧)
﴿أَمْ لَكُمْ كتاب﴾ من السماء ﴿فِيهِ تَدْرُسُونَ﴾ تقرءون في ذلك الكتاب
إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (٣٨)
﴿إنّ لكم فيه لما تخيّرون﴾ أي إن ما تختارونه وتشتهونه لكم والأصل تدرسون أن لكم ما تخيرون بفتح أن لأنه مدروس لوقوع الدرس عليه إنما كسرت لمجئ اللام ويجوز أن يكون حكاية للمدروس كما هو كقوله وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الآخرين سلام على نوح وتخير الشيء واختاره أخذ خيره
أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (٣٩)
﴿أَمْ لَكُمْ أيمان عَلَيْنَا﴾ عهود مؤكدة بالأيمان ﴿بالغة﴾ نعت أيمان ويتعلق ﴿إلى يَوْمِ القيامة﴾ ببالغة أي أنها تبلغ ذلك لايوم وتنتهي إليه وافرة لم تبطل منه يمين إلى أن يحصل المقسم عليه من التحيكم أو بالمقدر في الظرف أي هي ثابتة لكم علينا إلى يوم القيامة لا تخرج عن عهدتها إلا يومئذ إذا حكمناكم وأعطيناكم ما تحكمون ﴿إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ﴾ به لأنفسكم وهو جواب القسم لأن معنى أَمْ لَكُمْ أيمان علينا أم أفسمنا لكم بأيمان مغلظة متناهية في التوكيد
سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (٤٠)
﴿سَلْهُمْ﴾ أي المشركين ﴿أَيُّهُم بذلك﴾ الحكم ﴿زَعِيمٌ﴾ كفيل بأنه يكون ذلك
أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (٤١)
﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ﴾ أي ناس يشاركونهم في هذا القول ويذهبون مذهبهم فيه ﴿فَلْيَأتُواْ بِشُرَكَائِهِمْ إِن كَانُواْ صادقين﴾ في دعواهم يعني أن أحداً لا يسلم لهم هذا ولا يساعدهم عليه كما أنه لا كتاب لهم ينطق به ولا عهد لهم به عند الله ولا زعيم لهم يضمن لهم من الله بهذا
يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (٤٢)
﴿يوم يكشف عن ساق﴾ ناسب الظرف فَلْيَأْتُواْ أو اذكر مضمراً والجمهور على أن الكشف عن الساق عبارة عن شدة الامر وصعوبة الخطب فمعنى يوم ينكشف عَن سَاقٍ يوم يشتد الأمر ويصعب ولا كشف ثمة
524
ولا ساق ولكن كنى به عن الشدة لأنهم إذا ابتلوا بشدة كشفوا عن الساق وهذا كما تقول للأقطع الشحيح يده مغلولة ولا يد ثمة ولا غل وإنما هو كناية عن البخل وأما من شبه فلضيق عطنه وقلة نظر في علم البيان ولو كان الأمر كما زعم المشبهة لكان من حق الساق أن يعرف لأنها ساق معهودة عنده ﴿وَيُدْعَوْنَ﴾ أي الكفار ثمة
﴿إلى السجود﴾ لا نكليفا ولكن توبيخاً على تركهم السجود في الدنيا ﴿فلا يستطيعون﴾ ذلك لأن ظهورهم تصير كصيا البقر لا تنثني عند الخفض والرفع
525
خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (٤٣)
﴿خاشعة﴾ ذليلة حال من الضمير في يُدْعَونَ ﴿أبصارهم﴾ أي يدعون في حال خشوع أبصارهم ﴿تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ﴾ يغشاهم صغار ﴿وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ﴾ على ألسن الرسل ﴿إِلَى السجود﴾ في الدنيا ﴿وَهُمْ سالمون﴾ أي وهم أصحاء فلا يسجدون فلذلك منعوا عن السجود ثَمَّ
فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (٤٤)
﴿فَذَرْنِى﴾ يقال ذرني وإياه أي كله إليّ فإني أكفيكه ﴿وَمَن يُكَذِّبُ﴾ معطوف على المفعول أو مفعول معه ﴿بهذا الحديث﴾ بالقرآن والمراد كل أمره إليَّ وخل بيني وبينه فإني عالم بما ينبغي أن يفعل به مطيق له فلا تشغل قلبك بشأنه وتوكل عليّ في الانتقام منه تسلية لرسول الله ﷺ وتهديد المكذبين ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُم﴾ سندنيهم من العذاب درجة درجة يقال استدرجه إلى كذا أي استنزله إليه درجة درجة حتى يورط فيه واستدراج الله تعالى العصاة أن يرزقهم الصحة والنعمة فيجعلون رزق الله ذريعة إلى ازدياد المعاصي ﴿مّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ من الجهة التي لا يعشرون انه استدراج قيل كما جددوا معصية جددنا لهم نعمة وأنسيناهم شكرها قال عليه السلام إذا رأيت الله تعالى ينعم على عبد وهو مقيم على معصيته فاعلم أنه مستدرج وتلا الآية
وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (٤٥)
﴿وَأُمْلِى لَهُمْ﴾ وأمهلهم ﴿إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ﴾ قوي شديد فسمى إحسانه وتمكينه كيداً كما سماه استدراجاً لكونه في صورة الكيد حيث كان سبباً للهلاك والأصل أن معنى الكيد والمكر والاستدراج هو الأخذ من جهة الأمن ولا يجوز أن يسمى الله كائداً وماكراً ومستدرجاً
أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٦)
﴿أم تسألهم﴾ على تبليغ الرسالة ﴿أَجْراً فَهُم مّن مَّغْرَمٍ﴾ غرامة ﴿مُّثْقَلُونَ﴾ فلا يؤمنون استفهام بمعنى النفي أي لست تطلب أجراً على تبليغ الوحي فيثقل عليهم ذلك فيمتنعوا لذلك
أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤٧)
﴿أَمْ عِندَهُمُ الغيب﴾ أي اللوح المحفوظ عند الجمهور ﴿فَهُمْ يَكْتُبُونَ﴾ منه ما يحكمون به
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (٤٨)
﴿فاصبر لِحُكْمِ رَبّكَ﴾ وهو إمهالهم وتأخير نصرتك علهيم لأنهم وإن أمهلوا لم يهملوا ﴿وَلاَ تَكُن كصاحب الحوت﴾ كيونس عليه السلام في العجلة والغضب على القوم حتى لا تبتلى ببلائه والوقف على الحوت لأن إذ ليس بظرف لما تقدمه إذ النداء طاعة فلا ينهى عنه بل مفعول محذوف أي اذكر ﴿إِذْ نادى﴾ دعا ربه في بطن الحوت بلا إله إِلاَّ أَنتَ سبحانك إِنّى كُنتُ مِنَ الظالمين ﴿وَهُوَ مَكْظُومٌ﴾ مملوء غيظاً من كظم السقاء إذا ملأه
لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (٤٩)
﴿لَّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ﴾ رحمة ﴿مّن رَّبِّهِ﴾ أي
لولا أن الله أنعم عليه بإجابة دعائه وقبول عذره ﴿لَنُبِذَ﴾ من بطن الحوت ﴿بالعرآء﴾ بالفضاء ﴿وَهُوَ مَذْمُومٌ﴾ معاتب بزلته لكنه رحم فنبذ غير مذموم
فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٥٠)
﴿فاجتباه رَبُّهُ﴾ اصطفاه لدعائه وعذره ﴿فَجَعَلَهُ مِنَ الصالحين﴾ من المستكملين لصفات الصلاح ولم يبق له زلة وقيل من الأنبياء وقيل من المرسلين والوجه هو الأول لأنه كان مرسلاً ونبياً قبله
526
لقوله تعالى وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ المرسلمين إذ أبق إلى الفلك المشحون الآيات
527
وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (٥١)
﴿وَإِن يَكَادُ الذين كَفَرُواْ لَيُزْلِقُونَكَ بأبصارهم﴾ وبفتح الياء مدني إن مخففة من الثقيلة واللام علمها زلقه وازلقه ازاله عن مكانك أو يهلكوك لشدة حنقهم عليك وكانت العين في بني أسد فكان الرجل منهم يتجوع ثلاثة أيام فلايمر به شيء فيقول فيه لم أر كاليوم مثله إلا هلك فأريد بعض العيّانين على أن يقول في رسول الله مثل ذلك فقال لم أر كاليوم مثله رجلاً فعصمه الله من ذلك وفي الحديث العين حق وإن العين لتدخل الجمل القدر والرجل القبر وعن الحسن رقية العين هذه الآية ﴿لَمَّا سَمِعُواْ الذكر﴾ القرآن ﴿وَيَقُولُونَ﴾ حسداً على ما أوتيت من النبوة ﴿إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ﴾ إن محمداً لمجنون حيرة في أمره وتنفيراً عنه
وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (٥٢)
﴿وَمَا هُوَ﴾ أي القرآن ﴿إِلاَّ ذِكْرٌ﴾ وعظ ﴿للعالمين﴾ للجن والإنس يعني أنهم جننوه لأجل القرآن وما القرآن إلا موعظة للعالمين فكيف يجنن من جاء بمثله وقيل لما سمعوا الذكر أي ذكره عليه السلام وما هو أي محمد عليه السلام إلا ذكر شرف العالمين فكيف ينسب إليه الجنون والله اعلم
527
سورة الحاقة احدى وخمسون آية مكية

بسم الله الرحمن الرحيم

528
Icon