تفسير سورة القمر

الكشاف أو تفسير الزمخشري
تفسير سورة سورة القمر من كتاب الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل المعروف بـالكشاف أو تفسير الزمخشري .
لمؤلفه الزمخشري . المتوفي سنة 538 هـ
مكية وآياتها ٥٥

أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ وهو القرآن تَعْجَبُونَ إنكارا وَتَضْحَكُونَ استهزاء وَلا تَبْكُونَ والبكاء والخشوع حق عليكم. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه لم ير ضاحكا بعد نزولها «١». وقرئ: تعجبون تضحكون، بغير واو وَأَنْتُمْ سامِدُونَ شامخون مبرطمون «٢».
وقيل: لاهون لاعبون. وقال بعضهم لجاريته: اسمدى لنا، أى غنى لنا فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا ولا تعبدوا الآلهة.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة النجم أعطاه الله عشر حسنات بعدد من صدق بمحمد وجحد به بمكة» «٣»
سورة القمر
مكية [إلا الآيات ٤٤ و ٤٥ و ٤٦ فمدنية] وآياتها ٥٥ [نزلت بعد الطارق] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة القمر (٥٤) : الآيات ١ الى ٣]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (١) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (٢) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (٣)
انشقاق القمر من آيات رسول الله ﷺ ومعجزاته النيرة. عن أنس بن مالك رضى الله عنه أن الكفار سألوا رسول الله ﷺ آية فانشق القمر مرتين «٤».
(١). أخرجه أحمد في الزهد والثعلبي من حديث صالح بن أبى الخليل. ورواه ابن مردويه من طريق سعيد ابن جبير عن ابن عباس بإسناد ضعيف.
(٢). قوله «شامخون مبرطمون» في الصحاح «البرطمة» الانتفاخ من الغضب اه. وفيه «السامد» : رافع رأسه تكبرا، واللاهي، والمعنى، والقائم، والساكت، والحزين الخاشع، واسمأد الرجل بالهمز اسمئدادا: أى ورم غضبا. (ع)
(٣). أخرجه الثعلبي وابن مردويه والواحدي من حديث أبى بن كعب رضى الله عنه.
(٤). متفق عليه من رواية قتادة عن أنس رضى الله عنه.
وكذا عن ابن عباس وابن مسعود رضى الله عنهما، قال ابن عباس: انفلق فلقتين فلقة ذهبت وفلقة بقيت «١». وقال ابن مسعود: رأيت حراء بين فلقتى القمر «٢». وعن بعض الناس: أن معناه ينشق يوم القيامة، وقوله وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ يردّه، وكفى به رادّا، وفي قراءة حذيفة: وقد انشق القمر، أى: اقتربت الساعة وقد حصل من آيات اقترابها أن القمر قد انشق، كما تقول: أقبل الأمير وقد جاء المبشر بقدومه. وعن حذيفة أنه خطب بالمدائن ثم قال: ألا إن الساعة قد اقتربت وإن القمر قد انشق على عهد نبيكم «٣».
مستمر: دائم مطرد، وكل شيء قد انقادت طريقته ودامت حاله، قيل فيه: قد استمرّ. لما رأوا تتابع المعجزات وترادف الآيات: قالوا: هذا سحر مستمرّ. وقيل: مستمرّ قوى محكم، من قولهم: استمر مريره «٤». وقيل: هو من استمر الشيء إذا اشتدّت مرارته، أى: مستبشع عندنا، مرّ على لهواتنا، لا نقدر أن نسيغه كما لا يساغ المر الممقر «٥». وقيل: مستمر مارّ، ذاهب يزول ولا يبقى، تمنية لأنفسهم وتعليلا. وقرئ: وإن يروا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وما زين لهم الشيطان من دفع الحق بعد ظهوره وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ أى كل أمر لا بد أن يصير إلى غاية يستقرّ عليها، وإن أمر محمد سيصير إلى غاية يتبين عندها أنه حق، أو باطل وسيظهر لهم عاقبته. أو وكل أمر من أمرهم وأمره مستقر، أى: سيثبت ويستقر على حالة خذلان أو نصرة في الدنيا، وشقاوة أو سعادة في الآخرة. وقرئ بفتح القاف، يعنى: كل أمر ذو مستقرّ، أى:
ذو استقرار. أو ذو موضع استقرار أو زمان استقرار. وعن أبى جعفر: مستقر، بكسر القاف والجرّ عطفا على الساعة، أى: اقتربت الساعة واقترب كل أمر مستقر يستقر ويتبين حاله.
[سورة القمر (٥٤) : الآيات ٤ الى ٧]
وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (٤) حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (٥) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (٦) خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (٧)
(١). أخرجه أبو نعيم في الدلائل، من رواية الكلبي عن أبى صالح عنه، وفي الصحيحين عنه: «انشق القمر على زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم».
(٢). أخرجه ابن مردويه من رواية منصور عن زيد بن وهب عن ابن مسعود قال: «ولقد رأيت والله حراء بين الشقتين» وفي الصحيحين عن أبى معمر عنه «بينما نحن مع رسول الله ﷺ بمنى إذا انفلق القمر فلقتين وكان فلقة وراء الجبل وفلقة دونه. فقال: اشهدوا» وفي الباب عن ابن عمر في مسلم. وعن جبير بن مطعم عن الحاكم في المستدرك، وعن أحمد أيضا.
(٣). أخرجه الحاكم والطيراني وأبو نعيم منى رواية ابن علية عن عطاء بن السائب عن ابن عبد الرحمن بهذا وأتم. ورواه عبد الرزاق من وجه آخر عن عطاء، وكذا أخرجه أحمد من رواية شعبة عن عطاء. [.....]
(٤). قوله «استمر مريره» في الصحاح «المرير» : الغريمة وما لطف وطال واشتد فتله من الحبال. (ع)
(٥). قوله «كما يساغ المر الممقر» في الصحاح. مقر الشيء وأمقر، أى: صار مرا. (ع)
431
مِنَ الْأَنْباءِ من القرآن المودع أنباء القرون الخالية أو أنباء الآخرة، وما وصف من عذاب الكفار مُزْدَجَرٌ ازدجار أو موضع ازدجار. والمعنى: هو في نفسه موضع الازدجار ومظنة له، كقوله تعالى لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ أى هو أسوة. وقرئ مزدجر بقلب تاء الافتعال زايا وإدغام الزاى فيها حِكْمَةٌ بالِغَةٌ بدل من ما. أو على: هو حكمة.
وقرئ بالنصب حالا من ما. فإن قلت: إن كانت ما موصولة ساغ لك أن تنصب حكمة حالا، فكيف تعمل إن كانت موصوفة؟ وهو الظاهر. قلت: تخصصها الصفة: فيحسن نصب الحال عنها فَما تُغْنِ النُّذُرُ نفى أو إنكار. وما منصوبة، أى: فأى غناء تغنى النذر فَتَوَلَّ عَنْهُمْ لعلمك أن الإنذار لا يغنى فيهم. نصب يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ بيخرجون، أو بإضمار اذكر.
وقرئ بإسقاط الياء اكتفاء بالكسرة عنها، والداعي إسرافيل أو جبريل، كقوله تعالى يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ. إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ منكر فظيع تنكره النفوس لأنها لم تعهد بمثله وهو هول يوم القيامة. وقرئ: نكر بالتخفيف، ونكر بمعنى أنكر خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ حال من الخارجين فعل للأبصار وذكر، كما تقول: يخشع أبصارهم. وقرئ: خاشعة، على: تخشع أبصارهم.
وخشعا، على: يخشعن أبصارهم، وهي لغة من يقول: أكلونى البراغيث، وهم طيئ. ويجوز أن يكون في خُشَّعاً ضميرهم، وتقع أَبْصارُهُمْ بدلا عنه. وقرئ. خشع أبصارهم، على الابتداء والخبر، ومحل الجملة النصب على الحال. كقوله:
وجدته حاضراه الجود والكرم «١»
وخشوع الأبصار: كناية عن الذلة والانخزال، لأن ذلة الذليل وعزة العزيز تظهران في عيونهما. وقرئ: يخرجون من الأجداث: من القبور كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ الجراد مثل في الكثرة والتموّج. يقال في الجيش الكثير المائج بعضه في بعض: جاءوا كالجراد، وكالدبا «٢» منتشر في كل مكان لكثرته مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ مسرعين مادّى أعناقهم إليه. وقيل:
ناظرين إليه لا يقلعون بأبصارهم. قال:
(١).
إن الذي كنت أرجو فضل نائله وجدته حاضراه الجود والكرم
يقول: إن الذي كنت أرجو بقية عطائه أو زيادة عطائه: وجدته مصاحبا الجود والكرم. وهما مبتدأ خبره حاضراه، والجملة محلها نصب مفعول ثان، وحضورهما: كناية عن قيامهما به.
(٢). قوله «كالجراد وكالدبا» في الصحاح «الدبا» الجراد قبل أن يطير، والواحدة دباة. (ع)
432
﴿ مُّهْطِعِينَ إِلَى الداع ﴾ مسرعين مادّي أعناقهم إليه. وقيل : ناظرين إليه لا يقلعون بأبصارهم. قال :
تَعَبَّدَنِي نِمْرُ بْنُ سَعْدِ وَقَدْ أَرَى وَنِمْرُ بْنُ سَعْدٍ لِي مُطِيعٌ وَمُهْطِعُ
تعبّدتى نمر بن سعد وقد أرى ونمر بن سعد لي مطيع ومهطع «١»
[سورة القمر (٥٤) : الآيات ٩ الى ١٧]
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (٩) فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (١٠) فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (١١) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (١٢) وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (١٣)
تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (١٤) وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٥) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٦) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٧)
قَبْلَهُمْ قبل أهل مكة فَكَذَّبُوا عَبْدَنا يعنى نوحا. فإن قلت: ما معنى قوله تعالى فَكَذَّبُوا بعد قوله كَذَّبَتْ «٢» ؟ قلت: معناه: كذبوا فكذبوا عبدنا أى: كذبوه تكذيبا على عقب تكذيب، كلما مضى منهم قرن مكذب تبعه قرن مكذب. أو كذبت قوم نوح الرسل فكذبوا عبدنا، أى: لما كانوا مكذبين بالرسل جاحدين للنبوّة رأسا: كذبوا نوحا، لأنه من جملة الرسل مَجْنُونٌ هو مجنون وَازْدُجِرَ وانتهروه بالشتم والضرب والوعيد بالرجم في قولهم لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ وقيل: هو من جملة قيلهم، أى: قالوا هو مجنون، وقد ازدجرته الجن وتخبطته وذهبت بلبه وطارت بقلبه. قرئ: أنى، بمعنى: فدعا بأنى مغلوب. وإنى: على إرادة
(١). الكلام على حذف حرف الاستفهام الإنكاري، أى: أيتخذني عبدا هذا الرجل، وحذف مفعول أرى لدلالة الحال عليه، وهو قوله: ونمر بن سعد مطيع لي ومهطع، أى: منتظر أمرى ليمتثله. أو مسرع إلى امتثاله، وأظهر في مقام الإضمار تعجبا منه واستخفافا بشأنه، ونمر: بسكون الميم.
(٢). قال محمود: «إن قلت: ما فائدة كذبوا بعد قوله كذبت قبلهم قوم نوح... الخ؟ قال أحمد: قد تقدم كلامه على قوله تعالى وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي وأجاب عنه بجوابين، أحدهما متعذر هاهنا، والآخر: ممكن وهو أن ذلك كقول القائل: أقدم فلان على الكفر فكفر بمحمد عليه الصلاة والسلام، وقد مضى لي جوابان، أحدهما: يمكن إجراؤه هنا، وحاصله منع ورود السؤال، لأن الأول مطلق والثاني مقيد، فليس تكرارا. وهو كقوله في هذه السورة فَتَعاطى فَعَقَرَ فان تعاطيه هو نفس عقره، ولكن ذكره من جهة عمومه، ثم من ناحية خصوصه إسهابا، وهو بمثابة ذكره مرتين، وجواب آخر هنا: وهو أن المكذب أولا محذوف دل عليه ذكر نوح، فكأنه قال: كذبت قوم نوح نوحا، ثم جاء بتكذيبهم ثانيا مضافا إلى قوله عَبْدَنا فوصف نوحا بخصوص العبودية، وأضافه إليه إضافة تشريف، فالتكذيب المخبر عنه ثانيا أبشع عليهم من المذكور أولا لتلك اللمحة، والله أعلم.
433
القول، فدعا فقال: إنى مغلوب «١» غلبني قومي، فلم يسمعوا منى واستحكم اليأس من إجابتهم لي فَانْتَصِرْ فانتقم منهم بعذاب تبعثه عليهم، وإنما دعا بذلك بعد ما طم عليه الأمر وبلغ السيل الربا «٢»، فقد روى: أنّ الواحد من أمّته كان يلقاه فيخنقه حتى يخر مغشيا عليه. فيفيق وهو يقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون. وقرئ: ففتحنا مخففا ومشدّدا، وكذلك وفجرنا مُنْهَمِرٍ منصب في كثرة وتتابع لم ينقطع أربعين يوما وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً وجعلنا الأرض كلها كأنها عيون تتفجر، وهو أبلغ من قولك: وفجرنا عيون الأرض ونظيره في النظم وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً. فَالْتَقَى الْماءُ يعنى مياه السماء والأرض. وقرئ: الماءان، أى: النوعان من الماء السماوي والأرضى. ونحوه قولك: عندي تمران، تريد: ضربان من التمر: برني ومعقلي. قال:
لنا إبلان فيهما ما علمتم «٣»
وقرأ الحسن: الماوان، بقلب الهمزة واوا، كقولهم: علباوان عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ على حال قدرها الله كيف شاء. وقيل: على حال جاءت مقدّرة مستوية: وهي أن قدر ما أنزل من السماء كقدر ما أخرج من الأرض سواء بسواء. وقيل: على أمر قد قدر في اللوح أنه يكون، وهو هلاك قوم نوح بالطوفان عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ أراد السفينة، وهي من الصفات التي تقوم مقام الموصوفات فتنوب منابها وتودى مؤداها. بحيث لا يفصل بينها وبينها. ونحوه:
......... ولكن... قميصي مسرودة من حديد «٤»
(١). قوله «فدعا فقال إنى مغلوب» لعله: أى فدعا فقال. (ع)
(٢). قوله «وبلغ السيل الربا» لعله جمع ربوة وهي ما ارتفع من الأرض كالرابية. أفاده الصحاح، لكن فيه في حرف الزاى: والزبية الرابية لا يعلوها الماء. وفي المثل: قد بلغ السيل الزبى. والزبية: حفرة تحفر للأسد في موضع عال لأجل صيده. اه ملخصا. (ع)
(٣).
لنا إبلان فيهما ما علمتم فعن أيهما ما شئتم فتنكبوا
يقول: لنا قطيعان من الإبل فيهما قرى الأضياف وصلة الفقراء، فاحملوا ما شئتم منهما على مناكبكم، أى: خذوه وافصلوه عن الباقي. أو المعنى: اعدلوا عنهما وانصرفوا عما أردتموه منهما في مناكب الأرض، فاننا حماته.
وأيهما: بالسكون لغة في أى المشددة. وما شئتم: بدل منه. ويجوز أن «ما» زائدة، أى: ففي أيهما شئتم فانصرفوا في مناكب الأرض وطرقها مبعدين عنهما. ويجوز أن «ما شئتم» مفعول به، أو مفعول مطلق مقدم على عامله، والفاء الثانية تكرير للأولى. ويجوز أنها إشارة إلى ما في المعمول من معنى الشرط، أى: فاما عن أيهما. أو فاما ما شئتم فتنكبوا، أى: تجنبوا.
(٤).
مفرشى صهوة الحصان ولكن قميصي مسرودة من حديد
الصهوة: مقعد الفارس من ظهر الفرس. يقول: مفرشى ظهر حصانى. وقميصي: درع من حديد متتابعة النسج، يعنى أنه ليس من أهل التنعم، بل من أهل البدو والغزو. والاستدراك من باب استتباع المدح بما يشبه الذم، مبالغة في المدح.
434
أراد: ولكن قميصي درع، وكذلك:
ولو في عيون النّازيات بأكرع «١»
أراد: ولو في عيون الجراد. ألا ترى أنك لو جمعت بين السفينة وبين هذه الصفة، أو بين الدرع والجراد وهاتين الصفتين: لم يصح، وهذا من فصيح الكلام وبديعه. والدسر:
جمع دسار: وهو المسمار، فعال من دسره إذا دفعه، لأنه يدسر به منفذه جَزاءً مفعول له لما قدم من فتح أبواب السماء وما بعده، أى فعلنا ذلك جزاء لِمَنْ كانَ كُفِرَ وهو نوح عليه السلام، وجعله مكفورا لأنّ النبي نعمة من الله ورحمة. قال الله تعالى وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ فكان نوح عليه السلام نعمة مكفورة، ومن هذا المعنى ما يحكى أنّ رجلا قال للرشيد:
الحمد لله عليك، فقال: ما معنى هذا الكلام؟ قال: أنت نعمة حمدت الله عليها. ويجوز أن يكون على تقدير حذف الجار وإيصال الفعل. وقرأ قتادة: كفر، أى جزاء للكافرين. وقرأ الحسن: جزاء، بالكسر: أى مجازاة. الضمير في تَرَكْناها للسفينة. أو للفعلة، أى: جعلناها آية يعتبر بها. وعن قتادة: أبقاها الله بأرض الجزيرة. وقيل: على الجودي دهرا طويلا، حتى نظر إليها أوائل هذه الأمة. والمدكر: المعتبر. وقرئ: مذتكر، على الأصل. ومذكر، بقلب التاء ذالا وإدغام الذال فيها. وهذا نحو: مذجر. والنذر: جمع نذير وهو الإنذار وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ أى سهلناه للادكار والاتعاظ، بأن شحناه بالمواعظ الشافية وصرفنا فيه من الوعد والوعيد فَهَلْ مِنْ متعظ. وقيل: ولقد سهلناه للحفظ وأعنا عليه من أراد حفظه، فهل من طالب لحفظه ليعان عليه. ويجوز أن يكون المعنى: ولقد هيأناه للذكر، من يسر ناقته للسفر: إذا رحلها، ويسر فرسه للغزو، إذا أسرجه وألجمه. قال:
وقمت إليه باللجام ميسرا هنالك يجزيني الّذى كنت أصنع «٢»
(١).
وإنى لأستوفى حقوقي جاهدا ولو في عيون النازيات بأكرع
يقول: ولا بد من الاجتهاد في تخليص حقوقي وأخذها، ولو كانت في أخفى مكان وأبعده كعيون الجراد النازيات الواثبات بأكرع، أى أرجل دقيقة جمع كراع: فحذف الموصوف وكنى عنه بالنازيات صفته لجريانها مجرى الاسم. وقيل:
المعنى لا بد من أخذ إبلى ولو كانت هزالا جدا بحيث ترى في عيون الجراد لصغرها، أى: ولو كانت كأنها كذلك
(٢).
أرى أم سهل لا تزال نفجع تلوم وما أدرى علام توجع
تلوم على أن أمنح الورد لقحة وما تستوي والورد ساعة تفزع
إذا هي قامت حاسرا مشمعلة نخيب الفؤاد رأسها ما يقنع
وقمت إليه باللجام مبسرا هنالك يجزيني الذي كنت أصنع
للأعرج المعنى الخارجي. وتفجع وتوجع: أصلها بتاءين حذفت إحداهما تخفيفا. وعلام: استفهام عن علة التوجع.
وأسنح: أعطى والورد: اسم فرسه. واللقحة: اللبن الحليب. والحاسر: العريانة الوجه. والمشمعلة: السريعة الجري. والنخيب: الخالية المجوفة. والمراد: التي ذهب عقلها ورأسها، ما يقنع: أى ما يستر بالقناع لدهشتها وخجلتها. وقوله «الورد الأول» مفعول به، والثاني مفعول معه: هذا حال أم سهل. وأما حال مهره، فبينها في قوله: وقمت إليه مهيئا ومعدا له باللجام. أو مسهلا له به، دلالة على أنه كان صعبا لولا اللجام. وهنالك إشارة إلى مكان الحرب، أو إلى زمانها، يجزيني: أى يعطيني جزاء صنعي معه، وشبهه بمن تصح منه المجازاة على طريق المكنية، وصنعه: هو سقيه اللبن.
435
ويروى: أن كتب أهل الأديان نحو التوراة والإنجيل لا يتلوها أهلها إلا نظرا ولا يحفظونها ظاهرا كما القرآن.
[سورة القمر (٥٤) : الآيات ١٨ الى ٢٢]
كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٨) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (١٩) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (٢٠) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٢١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٢٢)
وَنُذُرِ وإنذارى لهم بالعذاب قبل نزوله. أو إنذار أتى في تعذيبهم لمن بعدهم فِي يَوْمِ نَحْسٍ في يوم شؤم. وقرئ: في يوم نحس، كقوله فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ. مُسْتَمِرٍّ قد استمر عليهم ودام حتى أهلكهم. أو استمر عليهم جميعا كبيرهم وصغيرهم، حتى لم يبق منهم نسمة، وكان في أربعاء في آخر الشهر لا تدور. ويجوز أن يريد بالمستمر: الشديد المرارة والبشاعة تَنْزِعُ النَّاسَ تقلعهم عن أماكنهم، وكانوا يصطفون آخذين أيديهم بأيدى بعض «١».
ويتدخلون في الشعاب، ويحفرون الحفر فيندسون فيها فتنزعهم وتكبهم وتدق رقابهم كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ يعنى أنهم كانوا يتساقطون على الأرض أمواتا وهم جثث طوال عظام، كأنهم أعجاز نخل وهي أصولها بلا فروع، منقعر: منقلع: عن مغارسه. وقيل: شبهوا بأعجاز النخل، لأنّ الريح كانت تقطع رؤوسهم فتبقى أجسادا بلا رؤوس. وذكر صفة نَخْلٍ على اللفظ، ولو حملها على المعنى لأنث، كما قال أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ.
(١). قوله «آخذين أيديهم بأيدى بعض» عبارة النسفي: آخذين بعضهم بأيدى بعض. (ع)
.

[سورة القمر (٥٤) : الآيات ٢٣ الى ٣٢]

كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (٢٣) فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٢٤) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (٢٥) سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (٢٦) إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (٢٧)
وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (٢٨) فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ (٢٩) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٣٠) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (٣١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٣٢)
أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نصب بفعل مضمر يفسره نَتَّبِعُهُ وقرئ: أبشر منا واحد، على الابتداء. ونتبعه: خبره، والأوّل أوجه للاستفهام. كان يقول: إن لم تتبعوني كنتم في ضلال عن الحق، وسعر: ونيران، جمع سعير، فعكسوا عليه فقالوا: إن اتبعناك كنا إذن كما تقول. وقيل: الضلال: الخطأ والبعد عن الصواب. والسعر: الجنون. يقال: ناقة مسعورة. قال:
كأنّ بها سعرا إذا العيس هزّها ذميل وإرخا من السّير متعب «١»
فإن قلت: كيف أنكروا أن يتبعوا بشرا منهم واحدا؟ قلت: قالوا أبشرا: إنكارا لأن يتبعوا مثلهم في الجنسية، وطلبوا أن يكون من جنس أعلى من جنس البشر وهم الملائكة «٢»، وقالوا مِنَّا لأنه إذا كان منهم كانت المماثلة أقوى، وقالوا واحِداً إنكارا لأن تتبع الأمّة رجلا واحدا. أو أرادوا واحدا من أفنائهم «٣» ليس بأشرفهم وأفضلهم، ويدل عليه قولهم أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا أى أأنزل عليه الوحى من بيننا وفينا من هو أحق منه بالاختيار للنبوّة أَشِرٌ بطر متكبر، حمله بطره وشطارته وطلبه التعظم علينا على ادعاء ذلك سَيَعْلَمُونَ غَداً عند نزول العذاب بهم أو يوم القيامة مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ أصالح أم من كذبه. وقرئ: ستعلمون بالتاء على حكاية ما قال لهم صالح مجيبا لهم. أو هو كلام
(١). السعر: الجنون، والمسعور: المجنون والذي ضربته السموم. يقول: كأن بناقتي جنون لقوة سيرها، فالعيس: جمع عيساء وهي النوق البيض، حركها ذميل وإرخاء: وهما نوعان من السير متعب كل منهما. وإسناد الهز إليهما مجاز عقلى من باب الاسناد للسبب، وإن أريد بالهز التسيير فيكون من الاسناد للمصدر، كجد جده، لكن المسند هنا من المتعدي، والمسند إليه من اللازم. [.....]
(٢). قوله «أعلى من جنس البشر وهم الملائكة» تفضيل الملك على البشر مذهب المعتزلة. وأهل السنة يفضلون البشر على الملك. (ع)
(٣). قوله «واحدا من أفنائهم» وفي الصحاح: يقال هو من أفناء الناس، إذا لم يعلم ممن هو. اه، ولم يذكر له واحدا. (ع)
الله تعالى على سبيل الالتفات. وقرئ: الأشر، بضم الشين، كقولهم حدث وحدث. وحذر وحذر، وأخوات لها. وقرئ: الأشر، وهو الأبلغ في الشرارة. والأخير والأشر: أصل قولهم: هو خير منه وشر منه، وهو أصل مرفوض، وقد حكى ابن الأنبارى قول العرب:
هو أخير وأشر، وما أخيره وما أشره مُرْسِلُوا النَّاقَةِ باعثوها ومخرجوها من الهضبة «١» كما سألوا فِتْنَةً لَهُمْ امتحانا لهم وابتلاء فَارْتَقِبْهُمْ فانتظرهم وتبصر ما هم صانعون وَاصْطَبِرْ على أذاهم ولا تعجل حتى يأتيك أمرى قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ مقسوم بينهم: لها شرب يوم ولهم شرب يوم. وإنما قال: بينهم، تغليبا للعقلاء مُحْتَضَرٌ محضور لهم أو للناقة. وقيل: يحضرون الماء في نوبتهم واللبن في نوبتها صاحِبَهُمْ قدار بن سالف أحيمر ثمود فَتَعاطى فاجترأ على تعاطى الأمر العظيم غير مكترث له، فأحدث العقر بالناقة. وقيل فتعاطى الناقة فعقرها، أو فتعاطى السيف صَيْحَةً واحِدَةً صيحة جبريل. والهشيم، الشجر اليابس المتهشم المتكسر. والمحتظر: الذي يعمل الحظيرة وما يحتظر به ييبس بطول الزمان وتتوطؤه البهائم فيتحطم ويتهشم. وقرأ الحسن بفتح الظاء وهو موضع الاحتظار، أى: الحظيرة.
[سورة القمر (٥٤) : الآيات ٣٣ الى ٤٠]
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (٣٣) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (٣٤) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (٣٥) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (٣٦) وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (٣٧)
وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ (٣٨) فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (٣٩) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٤٠)
حاصِباً ريحا تحصبهم بالحجارة، أى: ترميهم بِسَحَرٍ بقطع من الليل، وهو السدس الأخير منه. وقيل: هما سحران، فالسحر الأعلى قبل انصداع الفجر، والآخر عند انصداعه. وأنشد:
مرّت بأعلى السّحرين تذأل «٢»
(١). قوله «ومخرجوها من الهضبة» في الصحاح «الهضبة» الجبل المنبسط على وجه الأرض. (ع)
(٢).
يا سائلي إن كنت عنها تسأل مرت بأعلى السحرين تذأل
يقول: يا من تسألنى إن كنت تسألنى عن الحمر الوحشية لا غير، فقد مرت بأعلى السحرين وهو السحر الذي قبل انصداع الفجر. والأدنى: هو الذي عند انصداعه، أى مرت في السحر الأول تذأل بالهمز، أى: تسرع في المشي من ذأل كمنع: إذا مشى في خفة. ومنه: ذؤالة الذئب، وبين تسأل وتذأل الجناس المضارع.
وصرف لأنه نكرة. ويقال: لقيته سحر: إذا لقيته في سحر يومه نِعْمَةً إنعاما، مفعول له مَنْ شَكَرَ نعمة الله بإيمانه وطاعته وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ لوط عليه السلام بَطْشَتَنا أخذتنا بالعذاب فَتَمارَوْا فكذبوا بِالنُّذُرِ متشاكين فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فمسحناها وجعلناها كسائر الوجه لا يرى لها شق. روى أنهم لما عالجوا باب لوط عليه السلام ليدخلوا قالت الملائكة خلهم يدخلوا، إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فصفقهم جبريل عليه السلام بجناحه صفقه فتركهم يتردّدون لا يهتدون إلى الباب حتى أخرجهم لوط فَذُوقُوا فقلت لهم: ذوقوا على ألسنة الملائكة بُكْرَةً أوّل النهار وباكره، كقوله: مشرقين، ومصبحين.
وقرأ زيد بن على رضى الله عنهما: بكرة، غير منصرفة، تقول: أتيته بكرة وغدوة بالتنوين.
إذا أردت التنكير، وبغيره إذا عرّفت وقصدت بكرة نهارك وغدوته عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ ثابت قد استقرّ عليهم إلى أن يفضى بهم إلى عذاب الآخرة. فإن قلت: ما فائدة تكرير قوله فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ؟ قلت: فائدته أن يجدّدوا عند استماع كل نبا من أنباء الأوّلين ادكارا واتعاظا، وأن يستأنفوا تنبها واستيقاظا، إذا سمعوا الحث على ذلك والبعث عليه، وأن يقرع لهم العصا مرات، ويقعقع لهم الشن «١» تارات، لئلا يغلبهم السهو ولا تستولى عليهم الغفلة، وهكذا حكم التكرير، كقوله فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ عند كل نعمة عدّها في سورة الرحمن، وقوله فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ عند كل آية أوردها في سورة والمرسلات، وكذلك تكرير الأنباء والقصص في أنفسها لتكون تلك العبر حاضرة القلوب، مصورة للأذهان، مذكورة غير منسية في كل أوان.
[سورة القمر (٥٤) : الآيات ٤١ الى ٤٢]
وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (٤١) كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (٤٢)
النُّذُرُ موسى وهرون وغيرهما من الأنبياء، لأنهما عرضا عليهم ما أنذر به المرسلون.
أو جمع نذير وهو الإنذار بِآياتِنا كُلِّها بالآيات التسع أَخْذَ عَزِيزٍ لا يغالب مُقْتَدِرٍ لا يعجزه شيء.
[سورة القمر (٥٤) : الآيات ٤٣ الى ٤٦]
أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (٤٣) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (٤٤) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (٤٥) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (٤٦)
(١). قوله «ويقعقع لهم الشن» القربة الخلق، كذا في الصحاح. (ع)
أَكُفَّارُكُمْ يا أهل مكة خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ الكفار المعدودين: قوم نوح وهود وصالح ولوط وآل فرعون، أى أهم خير قوّة وآلة ومكانة في الدنيا، أو أقل كفرا وعنادا يعنى: أنّ كفاركم مثل أولئك بل شر منهم أَمْ أنزلت عليكم يا أهل مكة بَراءَةٌ في الكتب المتقدّمة.
أنّ من كفر منكم وكذب الرسل كان آمنا من عذاب الله، فأمنتم بتلك البراءة نَحْنُ جَمِيعٌ جماعة أمرنا مجتمع مُنْتَصِرٌ ممتنع لا نرام ولا نضام. وعن أبى جهل أنه ضرب فرسه يوم بدر، فتقدّم في الصف وقال: نحن ننتصر اليوم من محمد وأصحابه، فنزلت سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ عن عكرمة:
لما نزلت هذه الآية قال عمر: أى جمع يهزم، فلما رأى رسول الله ﷺ يثب في الدرع ويقول: «سيهزم الجمع» عرف تأويلها «١» وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ أى الأدبار كما قال:
كلوا في بعض بطنكم تعفوا «٢»
وقرئ: الأدبار أَدْهى أشدّ وأفظع. والداهية: الأمر المنكر لذي لا يهتدى لدوائه وَأَمَرُّ من الهزيمة والقتل والأسر. وقرئ: سنهزم الجمع.
[سورة القمر (٥٤) : الآيات ٤٧ الى ٥٠]
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٤٧) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (٤٨) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (٤٩) وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (٥٠)
فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ في هلاك ونيران. أو في ضلال عن الحق في الدنيا، ونيران في الآخرة مَسَّ سَقَرَ كقولك: وجد مس الحمى وذاق طعم الضرب، لأنّ النار إذا أصابتهم بحرها ولقحتهم بإيلامها، فكأنها تمسهم مسا بذلك، كما يمس الحيوان ويباشر بما يؤذى ويؤلم. وذوقوا:
على إرادة القول. وسقر: علم لجهنم. من سقرته النار وصقرته إذا لوحته. قال ذو الرمّة:
(١). أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن قتادة، وعن أيوب عن عكرمة «أن عمر- فذكره» وأتم منه، ورواه من هذا الوجه إسحاق والطبري وابن أبى حاتم، ورواه الطبري في الأوسط من رواية عبد المجيد بن أبى رواد عن معمر عن قتادة عن أنس عن عمر موصولا.
(٢). تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة ٤٧٩ فراجعه إن شئت اه مصححه.
إذا ذابت الشّمس اتّقى صقراتها بأفنان مربوع الصّريمة معبل «١»
وعدم صرفها للتعريف والتأنيث كُلَّ شَيْءٍ منصوب بفعل مضمر يفسره الظاهر «٢».
وقرئ: كل شيء بالرفع. والقدر والقدر: التقدير. وقرئ بهما، أى: خلقنا كل شيء مقدّرا محكما مرتبا على حسب ما اقتضته الحكمة. أو مقدّرا مكتوبا في اللوح.
معلوما قبل كونه، قد علمنا حاله وزمانه وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ إلا كلمة واحدة سريعة التكوين كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ أراد قوله كن، يعنى أنه إذا أراد تكوين شيء لم يلبث كونه.
[سورة القمر (٥٤) : الآيات ٥١ الى ٥٣]
وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٥١) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (٥٢) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (٥٣)
أَشْياعَكُمْ أشباهكم في الكفر من الأمم فِي الزُّبُرِ في دواوين الحفظة وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ من الأعمال ومن كل ما هو كائن مُسْتَطَرٌ مسطور في اللوح.
(١). لذي الرمة يصف بقر الوحش، يقال: ذابت الشمس إذا اشتد حرها حتى يتساقط من شعاعها مثل اللعاب، وصقر الصخرة بالمصقر: ضربها بالمعول ليكسرها. وصقرته الشمس: إذا ضربته فغيرت لونه. وصقرة الشمس: اشتداد وقعها على الأرض. والأفنان، جمع فنن وهو مجتمع الورق الملتف المتكاثف في الغصن.
والمربوع: الذي أصابه مطر الربيع. والصريمة: الرملة المتصرمة من الرمال. والمعبل: كثير الورق مفتوله.
يقول: إذا اشتد حر الشمس توقى شدائده بأغصان شجر سقاه الربيع في هذا الموضع من الرمال. والمعبل: كثير الورق. ومعبل: بدل من مربوع، كأنه جامد. ويجوز أنه نعت له، على أن إضافته من إضافة الوصف إلى الظرف، فلا تفيده التعريف، فيصح وصفه بالنكرة.
(٢). قال محمود: «منصوب بمضمر يفسره الظاهر» قال أحمد: كان قياس ما مهده النحاة: اختيار رفع كُلُّ لكن لم يقرأ بها واحد من السبعة، وإنما كان كذلك، لأن الكلام مع الرفع جملة واحدة، ومع النصب جملتان، فالرفع أخصر، مع أنه لا مقتضى النصب هاهنا من أحد الأصناف الستة، أعنى: الأمر، والنهى... إلى آخرها، ولا أجد هنا مناسب عطف ولا غيره مما يعدونه من محال اختيارهم للنصب، فإذا تبين ذلك فاعلم أنه إنما عدل عن الرفع إجماعا لسر لطيف يعين اختيار النصب: وهو أنه لو رفع لوقعت الجملة التي هي خَلَقْناهُ صفة لشيء، ورفع قوله بِقَدَرٍ خيرا عن كل شيء المقيد بالصفة، ويحصل الكلام على تقدير: إنا كل شيء مخلوق لنا بقدر، فأفهم ذلك أن مخلوقا ما يضاف إلى غير الله تعالى ليس بقدر، وعلى النصب يصير الكلام: إنا خلقنا كل شيء بقدر، فيفيد عموم نسبة كل مخلوق إلى الله تعالى، فلما كانت هذه الفائدة لا توازيها الفائدة اللفظية على قراءة الرفع مع ما في الرفع من نقصان المعنى ومع ما في هذه القراءة المستفيضة من مجيء المعنى تاما واضحا كفلق الصبح، لا جرم أجمعوا على العدول عن الرفع إلى النصب، لكن الزمخشري لما كان من قاعدة أصحابه تقسيم المخلوقات إلى مخلوق الله ومخلوق لغير الله، فيقولون: هذا لله بزعمهم، هذا لنا: فغرت هذه الآية فاه، وقام إجماع القراء حجة عليه، فأخذ يستروح إلى الشقاء، وينقل قراءتها بالرفع، فليراجع له ويعرض عليه إعراض القراء السبعة عن هذه الرواية، مع أنها هي الأولى في العربية، لولا ما ذكرناه، أيجوز في حكمه حينئذ الإجماع على خلاف الأولى لفظا ومعنى من غير معنى اقتضى ذلك أم لا؟ وهو المخير فيما يحكم به، فالى الله ترجع الأمور.
«ونهر » وأنهار، اكتفى باسم الجنس. وقيل : هو السعة والضياء من النهار. وقرىء : بسكون الهاء. «ونهَر » جمع نهر، كأسد وأسد.
﴿ فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ ﴾ في مكان مرضيّ. وقرىء :«في مقاعد صدق » ﴿ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ ﴾ مقرّبين عند مليك مبهم أمره في الملك والاقتدار، فلا شيء إلا وهو تحت ملكه وقدرته، فأي منزلة أكرم من تلك المنزلة وأجمع للغبطة كلها والسعادة بأسرها.
Icon