مقصودها بيان أواخر٣أمر الإنسان بالإقسام على بعث الأنام، و٤ وقوع القيام يوم الزحام وزلل الأقدام٥، بعد البيان التام فيما مضى من هذه السور العظام، تنبيها على أنه وصل الأمر في الظهور إلى مقام ليس بعده مقام، وصور ذلك بنزع الأرواح بأيدي٦ الملائكة الكرام، ثم أمر فرعون اللعين وموسى عليه السلام، واسمها النازعات واضح في ذلك المرام، إذا تؤمل القسم وجوابه المعلوم للأئمة الأعلام، وكذا الساهرة والطامة إذا تؤمل السياق، وحصل التدبر في تقرير الوفاق ﴿ بسم الله ﴾ الظاهر الباطن الملك العلام ﴿ الرحمن ﴾ الذي عم بالإنعام ﴿ الرحيم* ﴾ الذي خص ٧أهل ولايته٨ بالتمام، فاختصوا بالإكرام في دار السلام.
٢ من ظ و م، وفي الأصل: الساهر..
٣ في ظ: آخر..
٤ زيد في الأصل: هو، ولم تكن الزيادة في ظ و م فحذفناها..
٥ من ظ و م، وفي الأصل: القيام..
٦ من ظ، وفي الأصل: ويتمنى الكافر بيد، وفي م: بيدي..
٧ من ظ و م، وفي الأصل: أولياؤه..
٨ من ظ و م، وفي الأصل: أولياؤه..
ﰡ
ولما ذكر الشد مبتدئاً به لأنه أهول، أتبعه الرفق فقال: ﴿والناشطات﴾ أي المخرجات برفق للأرواح أو لأجنحتها من محالها ﴿نشطاً *﴾ أي رفقاً فلا تدع وإن كان رفيقاً بين الروح والجسد تعلقاً كما ينشط الشيء من العقال أي يحل من عروة كانت عقدت على هيئة الأنشوطة، قال الفراء إنه سمع العرب يقولون: نشطت
ولما ذكر نوعي السل بالشدة والرفق، ذكر فعلها في إقبالها إليه ورجوعها عنه فقال: ﴿والسابحات﴾ أي من الملائكة أيضاً في الجو بعد التهيؤ للطيران إلى ما أمرهم الله به من أوامره من الروح أو غيرها ﴿سبحاً *﴾ هو في غاية السرعة لأنه لا عائق لها بل قد أقدرها الله على النفوذ في كل شيء كما أقدر السابح في الماء والهواء، ولذلك نسق عليه بالفاء قوله: ﴿فالسابقات﴾ أي بعد السبح في الطيران إلى ما أمروا به من غمس الأرواح في النعيم أو الجحيم أو غير ذلك مما أمروا به في أسرع من اللمح مع القدرة والغلبة لجميع ما يقع
ولما بان بذلك حسن امثتالها للأوامر، بان به عظيم نظرها في العواقب فدل على ذلك بالفاء في قوله: ﴿فالمدبرات﴾ أي الناظرات في أدبار الأمور وعواقبها لإتقان ما أمروا به في الأرواح وغيرها ﴿أمراً *﴾ أي عظيماً، ويصح أن يكون للشمس والقمر والكواكب والرياح والخيل السابحة في الأرض والجو لمنفعة العباد وتدبير أمورهم، وبعضها سابق لبعض، وبه قال بعض المفسرين، والجواب محذوف إشارة إلى أنه من ظهور العلم به - بدلالة ما قبله وما بعده عليه - في حد لا مزيد عليه، فهو بحيث لا يحتاج إلى ذكره فحذفه كإثباته بالبرهان فتقديره: لتذهبن بالدنيا التي أنتم بها مغترون لنزعنا لها من حالها وتقطيع أوصالها، فإن كل ما تقدم من أعمال ملائكتنا هو من مقدمات ذلك تكذيباً لقول الكفار ﴿ما هي إلا حياتنا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر﴾ [الجاثية: ٢٤] المشار إليه بتساؤلهم عنها لأنه على وجه الاستهزاء والتكذيب ولتقومن الساعة؟ أو أنكم لمبعوثون بعد الموت وانتهاء هذه الدار؟ ثم لمجازون بما عملتم بأسباب موجودة مهيأة بين أظهركم دبرناها وأوجدناها حين أوجبنا هذه الحياة الدنيا وإن كنتم لا ترونها كما أن هذه الأمور التي أخبرناكم بها في نزع الأرواح والنبات والمنافع موجودة بين أظهركم
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما أوضحت سورة النبأ حال الكافر في قوله ﴿يا ليتني كنت تراباً﴾ [النبأ: ٤٠] عند نظره ما قدمت يداه، ومعانيته من العذاب عظيم ما يراه، وبعد ذكر تفصيل أحوال وأهوال، أتبع ذلك ما قد كان حاله عليه في دنياه من استبعاد عودته في أخراه، وذكر قرب ذلك عليه سبحانه كما قال في الموضع الآخر ﴿وهو أهون عليه﴾ [الروم: ٢٧] وذلك بالنظر إلينا ولما عهدناه، وإلا فليس عنده سبحانه شيء أهون من شيء ﴿إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون﴾ [يس: ٨٢] فقال تعالى: ﴿والنازعات غرقاً﴾ [النازعات: ١] إلى قوله: ﴿يقولون أئنا لمردودون في الحافرة أئذا كنا عظاماً نخرة﴾ [النازعات: ١٠ - ١١] إذ يستبعدون ذلك ويستدفعونه ﴿فإنما هي زجرة واحدة﴾ [النازعات: ١٣] أي صحية ﴿فإذا هم بالساهرة﴾ [النازعات: ١٤] أي الأرض قياماً ينظرون
﴿إن في ذلك لعبرة لمن يخشي﴾ [النازعات: ٢٦] انتهى.
ولما أقسم على القيام بتلك الأفعال العظام التي ما أقدر أهلها عليها إلا الملك العلام. ذكر ما يكون فيه من الأعلام تهويلاً لأمر الساعة لأن النفوس المحسوسات نزاعة، فالغائبات عندها منسية مضاعة فقال ناصباً الظرف بذلك المحذوف لأنه لشدة وضوحه كالملفوظ به: ﴿يوم ترجف﴾ أي تضطرب اضطراباً كبيراً مزعجاً ﴿الراجفة *﴾ أي الصيحة، وهي النفخة الأولى التي هي بحيث يبلغ - من شدة إرجافها للقلوب وجميع الأشياء الساكنة من الأرض والجبال إلى نزع النفوس من جميع أهل الأرض - مبلغاً تستحق به أن توصف بالعراقة في الرجف، قال البغوي: وأصل الرجفة الصوت والحركة.
ولما ذكر الصيحة الأولى، أتبعها الثانية حالاً منها دلالة على قربها
ولما ذكر البعث، ذكر حال المكذب به لأن السياق له، فقال مبتدئاً بنكرة موصوفة: ﴿قلوب يومئذ﴾ أي إذ قام الخلائق بالصيحة التابعة للأولى ﴿واجفة *﴾ أي شديدة الاضطراب أجوافها خوفاً تكاد
ولما وصفها بالاضطراب والذل، علله ليعرف منه أن من يقول ضد قولهم يكون له ضد وصفهم من الثبات والسكون والعز الظاهر فقال: ﴿يقولون﴾ أي في الدنيا قولاً يجددونه كل وقت من غير خوف ولا استحياء استهزاءً وإنكاراً. ﴿أإنا لمردودون﴾ أي بعد الموت ممن يتصف بردنا كائناً من كان ﴿في الحافرة *﴾ أي في الحياة التي كنا فيها قبل الموت هي حالتنا الأولى، من قولهم: رجع فلان في حافرته، أي طريقته التي جاء بها فحفرها أي أثر فيها بمشيه كما تؤثر الأقدام، والحوافر في الطرق، أطلق على المفعولة فاعلة مبالغة وذلك حقيقته، ثم قيل لمن كان في أمر فخرج منه ثم رجع إليه: رجع إلى حافرته،
ولما وصف قلوبهم بهذا الإنكار الذي ينبغي لصاحبه أن يذوب منه خجلاً إذا فرط منه مرة واحدة، وأشار إلى شدة وقاحتهم بتكريره، أتبعه التصريح بتكريرهم له على وجه مشير إلى العلة الحاملة لهم على قوله وهو قولهم: ﴿أإذا كنا﴾ أي كوناً صار جبلة لنا ﴿عظاماً نخرة *﴾ أي هي في غاية الانتخار حتى تفتتت، فكان الانتخار وهو البلى والتفتت والتمزق كأنه طبع لها طبعت عليه، وهي أصلب البدن فكيف بما عداها من الجسم، وعلى قراءة «ناخرة» المعنى أنها خلا ما فيها فصار الهواء ينخر فيها أي يصوّت.
ولما كان التقدير: نعم والله لتردن يا هؤلاء، إنما هذا الذي تقولونه كله استبعاد منكم كما أنكم مقرون بسهولته لو عقلتم، أما من جهة القدرة فلأن الابتداء أصعب من الإعادة وأنتم مقرون بالابتداء ولأن الاستبعاد إن كان من جهة وقوع الظن بأن من صار تراباً يصير عوده محالاً من جهة تعذر تمييز ترابه من تراب غيره، فتمييز النازع والناشط من الملائكة للروح من الجسد أصعب من ذلك بكثير، وكذا غير هذا مما تدبره الملائكة من الأمور، فكيف يصعب على ربهم سبحانه شيء يسهل مثله عليهم، وأما من جهة العوائد فإن أحداً لا يدع رعية له بغير حساب أصلاً، وأما من جهة الوعد فقد تقدم به، وليس من شيم الكرام فضلاً عن الملوك إخلاف الوعد ولا إقرار الظلم فلا تكذبوا بها ولا تستصعبوها، قال مسبباً عن هذا المقدر مهدداً لأصحاب الشبهة المقلدين: ﴿فإنما هي﴾ أي القيامة ﴿زجرة *﴾ أي صيحة بانتهار تتضمن الأمر بالقيام والسوق إلى المحشر والمنع من التخلف ﴿واحدة *﴾
ولما كانت قصة موسى عليه الصلاة والسلام مع القبط أشبه شيء بالقيامة لما حصل فيها من التقلبات والتغيرات وإيجاد المعدومات من الجراد والقمل والضفادع على تلك الهيئات الخارجة عن العادات في أسرع وقت. وقهر الجبابرة والمن على الضعفاء حتى كان آخر ذلك أن
وهو واد بالطور بين أيلة ومصر.
ولما ذكر المناداة فسر ثمرتها بقوله مستأنفاً منبهاً لأصحاب الشهوة المعجبين المتكبرين، وقد أرشد السياق إلى أن التقدير، ناداه قائلاً: ﴿اذهب إلى فرعون﴾ أي ملك مصر الذي كان استعبد بني إسرائيل ثم خوّف من واحد منهم فصار يذبح أبناءهم خوفاً منه وهو أنت فربيناك في بيته لهلاكه حتى يعلم أنه لا مفر من قدرنا، فكنت أعز بني إسرائيل، وكان سبب هلاكه معه في بيته بمرأىً منه ومسمع وهو لا يشعر بذلك ثم قتلت منهم نفساً وخرجت من بلدهم خائفاً تترقب.
ولما أمره بالذهاب إليه، علله بما يستلزم إهلاكه على يده عليه الصلاة والسلام إشارة له بالبشارة بأنه لا سبيل له عليه، ولذلك أكده لأن مثل ذلك أمر يقتضي طبع البشر التوقف فيه فقال: ﴿إنه طغى *﴾ أي الحد وتجاوز الحد فاستحق المقابلة بالجد، ثم سبب عن الذهاب إليه قوله ﴿فقل﴾ أي له تفصيلاً لبعض ما تقدم في «طه» من لين القول ولطف الاستدعاء في الخطاب: ﴿هل لك﴾ أي ميل وحاجة ﴿إلى أن تزكّى *﴾ أي تتحلى بالفضائل، وتتطهر من الرذائل، ولو بأدنى أنواع التزكي: الطهارة الظاهرة والباطنة الموجبة للنماء والكثرة، وإفهام الأدنى بما
ولما أشار له الطهارة عن الشرك، أتبعها الأعمال فقال: ﴿وأهديك﴾ أي أبين لك بعد التزكية بالإيمان الذي هو الأساس: كيف المسير ﴿إلى ربك﴾ أي الموجد لك والمحسن إليك والمربي لك بتعريفك ما يرضيه من الأعمال وما يغضبه من الخصال بعد أن بلغك في الدنيا غاية الآمال ﴿فتخشى *﴾ أي فيتسبب عن ذلك أنك تصير تعمل أعمال من يخاف من عذابه خوفاً عظيماً، فتؤدي الواجبات وتترك المحرمات وسائر المنهيات، فتصير إلى أعلى رتب التزكية فتجمع ملك الآخرة إلى ملك الدنيا، فإن الخشية هي الحاملة على كل خير، والآمن هو الحامل على الشر.
ولما كان التمادي على التكذيب ممن رأى وعرف الحق ولا سيما إذا كان كبيراً مستبعداً جداً، أشار إليه بأداة التراخي مع دلالتها على حقيقة التراخي أيضاً فقال: ﴿ثم أدبر﴾ أي فرعون بعد المهلة والأناة إدباراً عظيماً بالتمادي على أعظم مما كان فيه من الطغيان بعد خطوب جليلة ومشاهد طويلة. حال كونه ﴿يسعى *﴾ أي يعمل بغاية جهده عمل من هو مسرع غاية الإسراع في إبطال الأمر الرباني بقلة عقله وفساد رأيه وأبى أن يقبل الحق ﴿فحشر﴾ أي فتسبب عن إدباره ساعياً وتعقبه أنه جمع السحرة طوعاً وكرهاً وزاد عليهم أيضاً جنوده ﴿فنادى *﴾ أي في المجامع ﴿فقال﴾ أي مناديه الذي لا يشك أنه عنه،
[القصص: ٤٠ - ٤٢] إلى غير ذلك من الآيات البينات والدلائل الواضحات التي لا تحصى وهي كثيرة، وأعظمها القياس البديهي الإنتاج ﴿وإن فرعون لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين﴾ [يونس: ٨٣] ﴿وإن المسرفين هم أصحاب النار﴾ [غافر: ٤٣] ويروى أن إبليس لما سمع منه قوله هذا قال: إني تجبرت على آدم فلقيت ما لقيت، وهذا يقول هذا؟ وهذا دعاه إليه الكبر الناشىء من فتنة السراء التي الصبر فيها أعظم من الصبر في الضراء، قال الإمام الغزالي في كتاب الصبر من الإحياء: فالصبر على الطاعة شديد لأن النفس بطبعها تنفر عن العبودية وتشتهي الربوبية، ولذلك قال بعض العارفين: ما من نفس إلا وهي مضمرة ما أظهره فرعون من قوله ﴿أنا ربكم الأعلى﴾ [النازعات: ٢٤] ولكن فرعون وجد له مجالاً وقبولاً فأظهره إذ استحف فأطاعوه وما من أحد إلا وهو يدعي ذلك مع عبده وخادمه وأتباعه وكل من هو تحت قهره وطاعته وإن كان ممتنعاً من إظهاره، فإن امتعاضه وغيظه عند تقصيرهم في خدمته لا يصدر إلا عن إضمار الكبر ومنازعة الربوبية في رداء الكبرياء - انتهى.
ولما أخبر سبحانه عنه بهذه الكلمة الشنعاء القادحة في الملك، وكان الملوك لا يحتملون ذلك بوجه، سبب عنها وعقب قوله: ﴿فأخذه الله﴾ أي الملك الذي لا كفوء له ولا أمر لأحد معه أخذ قهر وذل منكلاً به مخذلاً له: ﴿نكال الآخرة﴾ فهو مصدر من المعنى، أي أخذ تنكيل فيها يكون مثلاً يتقيد به ويتعظ كل من سمعه عن مثل حال فرعون، وقدمها اهتماماً بشأنها وإشارة إلى أن عظمة عذابها أعظم ولا يذوقه الإنسان إلا بكشف غطاء الدنيا بالموت، وتنبيهاً على أن المنع من مثل هذه الدعوى للصدق بها أمكن، وليس ذلك للفاصلة لأنه لو قيل: «الأخرى» لوافقت ﴿والأولى *﴾ أي ونكال الدنيا الذي هو قبل الآخرة فإن من سمع قصة غرقه ومجموع ما اتفق له كان له ذلك نكالاً مانعاً من عمل مثله أو أقل منه، قال الضحاك: أما في الدنيا فأغرقه الله تعالى وألقاه بنجوة من الأرض، أما في العقبى فيدخله الله تعالى النار ويجعله ظاهراً على تل منها
وهو مثل عندهم في الشرارة والخبث فلا يلعنه، وإن لعنه فبعد توقف.
ولما لخص سبحانه وتعالى ما مضى من قصصه في هذه الكلمات اليسيرة أحسن تلخيص وأقربه مع عدم المخالفة لشيء مما مضى لأن المفصل موضع الاختصار أما باعتبار النزول فإنه نزل أولاً فكان تقريب القصص
ولما ختم قصة فرعون - لعنه الله - بالعبرة، وكان أعظم عبرتها القدرة التامة لا سيما على البعث كما هي مشيرة إليه بأولها وآخرها، والعقوبة على التكذيب به لأن التكذيب به يجمع مجامع الشر والتصديق به يجمع مجامع الخير، وكانوا يستبعدونه لاستبعاد القدرة عليه، وصل به ما هو كالنتيجة منه، فقال مقرراً مخاطباً لأصحاب الشبهة الشاكين موقفاً لهم على القدرة منكراً عليهم استبعادهم وذلك ملتفتاً بعد تخصيص الخطاب به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما تقدم من دقة فهمه وجلالة علمه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى عموم الخطاب لوضوح هذا البرهان لكل إنسان استعطافاً بهم في توبيخ: ﴿أأنتم﴾ أي أيها الأحياء مع كونكم خلقاً ضعيفاً ﴿أشد خلقاً﴾ أي أصعب وأثقل من جهة التقدير والإيجاد ﴿أم السماء﴾ على ما فيها من السعة والكبر والعلو والمنافع.
ولما كان الجواب قطعاً: السماء - لما يرى من أعظمها لأن العالم الإنساني مختصر العالم الآفاقي، ويزيد الآفاقي طول البقاء مع عدم التأثر، وصل به قوله دليلاً على قدرته على البعث لقدرته على ما هو أشد منه لأن الذي قدر على ابتداء الأكبر هو على إعادة الأصغر أقدر، مبيناً
ولما بدأ بدلالة العالم العلوي لأنه أدل لما فيه من العجائب والمنافع مع كونه أشرف، فذكر أنه أتقن السماء التي هي كالذكر، ثنى بأنه سوى ما هي لها كالأنثى فقال: ﴿والأرض﴾ ولما كان المراد استغراق الزمان باستمرار الدحو، حذف الخافض فقال: ﴿بعد ذلك﴾ أي المذكور كله ﴿دحاها﴾ أي بسطها ومدها للسكنى وبقية المنافع بعد أن كان خلقها وأوجدها قبل إيجاد السماء غير مسواة بالفعل ولا مدحوة.
ولما ذكر الدحو، أتبعه ما استلزمه من المنافع لتوقف السكنى المقصودة بالدحو عليه فقال كالمبين له من غير عاطف: ﴿أخرج منها﴾ أي الأرض ﴿ماءها﴾ بتفجير العيون، وإضافته إليها دليل على أنه فيها ﴿ومرعاها *﴾ الذي يخرج بالماء، والمراد ما يرعى منها ومكانه وزمانه.
ولما ذكر الأرض ومنافعها، ذكر المراسي التي تم بها نفعها فقال: ﴿والجبال﴾ أي خاصة ﴿أرساها *﴾ أي أثبتها وأقرها ومع كونها ثابتة لا تتحول فإنه سبحانه جعلها مراسي للأرض تكون سبباً
ولما ذكر ما دل على البعث، أتبعه ما يكون عن البعث مسبباً عنه دلالة على أن الوجود ما خلق إلا لأجل البعث لأنه محط الحكمة: ﴿فإذا جاءت﴾ أي بعد الموت ﴿الطامة الكبرى *﴾ أي الداهية الدهياء التي تطم - أي تعلو - على سائر الدواهي وتغطيها فتكون أكبر داهية توجد، وهي البعث بالنفخة الثانية - كما قاله ابن عباس رضي الله عنهما، والعامل في «إذا» محذوف تقديره: فصل الناس إلى شقي وسعيد.
ولما كان الشيء لا يعرف قدره إذا كان غائباً إلا بما يكون فيه، قال مبدلاً منه: ﴿يوم يتذكر﴾ أي تذكراً عظيماً ظاهراً - بما أشار إليه الإظهار ﴿الإنسان﴾ أي الخلق الآنس بنفسه الغافل عما
ولما أشار إلى الحساب ذكر ما بعده فقال: ﴿وبرزت﴾ أي أظهرت إظهاراً عظيماً، وبناه للمفعول لأن الهائل مطلق تبريزها لا كونه من معين، مع الدلالة على الخفة والسهولة لكونه على طريقة كلام القادرين ﴿الجحيم﴾ أي النار التي اشتد وقدها وحرها ﴿لمن يرى *﴾ أي كائناً من كان لأنه لا حائل بين أحد وبين رؤيتها، لكن الناجي لا يصرف بصره إليها فلا يراها كما قال تعالى: ﴿لا يسمعون حسيسها﴾ [الأنبياء: ١٠٢].
ولما كان جواب «إذا» كما مضى محذوفاً، وكان تقديره أن قسم الناس قسمين: قسم للجحيم وقسم للنعيم، قال تعالى مسبباً عنه مفصلاً: ﴿فأما من طغى *﴾ أي تجاوز الحد في العدوان فلم يخش مقام ربه، قال في القاموس: طغى: جاوز القدر وارتفع وطغى: غلا في الكفر وأسرف في المعاصي والظلم، والماء: ارتفع.
ولما كان الإنسان مؤاخذاً بما اكتسب، سبب عن أعماله هذه قوله مؤكداً لتكذيبهم ذلك: ﴿فإن الجحيم﴾ أي النار الشديدة التوقد العظيمة الجموع على من يدخلها ﴿هي﴾ أي لا غيرها ﴿المأوى *﴾ أي المسكن له - هذا مذهب البصريين أن الضمير محذوف، وعند الكوفيين أن «أل» نائب عن الضمير - قاله أبو حيان.
ولما ذكر الطاغي، أتبعه المتقي فقال: ﴿وأما من خاف﴾ ولما كان ذلك الخوف مما يتعلق بالشيء لأجل ذلك الشيء أعظم من ذكر الخوف من ذلك الشيء نفسه فقال: ﴿مقام ربه﴾ أي قيامه بين يدي المحسن إليه عند تذكر إحسانه فلم يطغ فكيف عند تذكر جلاله وانتقامه، أو المكان الذي يقوم فيه بين يديه والزمان، وإذا خاف ذلك المقام فما ظنك بالخوف من صاحبه، وهذا لا يفعله إلا من تحقق المعاد.
ولما ذكر الخوف ذكر ما يتأثر عنه ولم يجعله مسبباً عنه ليفهم أن كلاًّ منهما فاصل على حياله وإن انفصل عن الآخر فقال:
ولما كان إيراد هذا هكذا مفهماً للإنكار عليهم في هذا السؤال، وكان من المعلوم أنه يقول: إنهم ليسألونني وربما تحركت نفسه الشريفة صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى إجابتهم لحرصه على إسلامهم شفقة عليهم، فطمه عن ذلك وصرح بالإنكار بقوله: ﴿فيم﴾ أي في أي شيء ﴿أنت من ذكراها *﴾ أي ذكرها العظيم لتعرفها وتبين وقتها لهم حرصاً على إسلامهم، وذلك لا يفيد علمها، ثم عرفها بما لا يمكن المزيد عليه مما أفادته الجملة التي قبل من أنه لا يمكن علمها لغيره سبحانه وتعالى فقال: ﴿إلى ربك﴾ أي المحسن إليك وحده ﴿منتهاها *﴾ أي منتهى علمها وجميع أمرها.
ولما كان غاية أمرهم أنهم يقولون: إنه متقول من عند نفسه، قلب عليهم الأمر فقال: ﴿إنما أنت﴾ أي يا أشرف المرسلين ﴿منذر﴾ أي مخوف على سبيل الحتم الذي لا بد منه مع علمك بما تخوف به العلم الذي لا مرية فيه ﴿من يخشاها *﴾ أي فيه أهلية أن يخافها خوفاً عظيماً فيعمل لها لعلمه بإتيانها لا محالة وعلمه بموته لا محالة وعلمه بأن كل ما
ولما أثبت أنه منذر، وكان أخوف الإنذار الإسراع، قال مستأنفاً محقراً لهم الدنيا مزهداً لهم فيها: ﴿كأنهم﴾ أي هؤلاء المنكرين لصحة الإنذار بها ﴿يوم يرونها﴾ أي يعلمون قيامها علماً هو كالرؤية ويرون ما يحدث فيها بعد سماع الصيحة وقيامهم من القبور من علمهم بما مر من زمانهم وما يأتي منه ﴿لم يلبثوا﴾ أي في الدنيا وفي القبور ﴿إلا عشية﴾ أي من الزوال إلى غروب الشمس.
ولما كانوا على غير ثقة من شيء مما يقولونه قال: ﴿أو ضحاها *﴾ أي ضحى عشية من العشايا
وتسمى الصاخة.
مقصودها شرح) إنما أنت منذر من يخشاها) [النازعات: ٤٥] بأن المراد الأعظم تزكية القابل للخشية بالتخويف بالقيامة التي قام الدليل على القدرة عليها بابتداء الخلق من الإنسان، وبكل من الابتداء والإعادة لطعامه والتعجيب ممن أعرض مع قيام الدليل والإشارة إلى أن الاستغناء والترف أمارة الإعراض وعدم القابلية والتهيؤ للكفر والفجور، وإلى أن المصائب أمارة للطهارة والإقبال واستكانة القلوب وسمو النفوس لشريف الأ " مال، فكل من كان فيها أرسخ كان قلبيه أرق وألطف فكان أخشى، فكان الإقبال عليه أحب وأولى، واسمها عبس هو الدال على ذلك بتأمل آياته وتدبر فواصله وغاياته، وكذا الصاخة النافخة بشرها وشررها والباخة) بسم الله (الذي له القدرة البالغة والحكمة الباهرة) الرحمن (الذي عم بنعمة الإيجاد الظاهرة ثم بآيات البيان الزاهرة، ا) الرحيم (الذي خص أولياءه بأن أتم نعمته عليهم، فكانت بهم إلى مرضاته سائرة.