ﰡ
أَيْ يَوَدُّ الْكَافِرُ يَوْمَئِذٍ أَنَّهُ كَانَ فِي الدَّارِ الدُّنْيَا تُرَابًا، وَلَمْ يَكُنْ خُلِقَ وَلَا خَرَجَ إِلَى الْوُجُودِ، وَذَلِكَ حِينَ عَايَنَ عَذَابَ اللَّهِ وَنَظَرَ إِلَى أَعْمَالِهِ الْفَاسِدَةِ قَدْ سُطِّرَتْ عَلَيْهِ بِأَيْدِي الْمَلَائِكَةِ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ، وَقِيلَ إِنَّمَا يَوَدُّ ذَلِكَ حِينَ يَحْكُمُ اللَّهُ بَيْنَ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي كَانَتْ فِي الدُّنْيَا فَيَفْصِلُ بَيْنَهَا بِحُكْمِهِ الْعَدْلِ الَّذِي لَا يَجُورُ، حَتَّى إِنَّهُ لِيَقْتَصَّ لِلشَّاةِ الْجَمَّاءِ مِنَ الْقَرْنَاءِ فَإِذَا فَرَغَ مِنَ الْحُكْمِ بَيْنَهَا قَالَ لَهَا: كُونِي تُرَابًا فَتَصِيرُ تُرَابًا فَعِنْدَ ذَلِكَ يَقُولُ الكافرا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً
أَيْ كُنْتُ حَيَوَانًا فَأَرْجِعُ إِلَى التُّرَابِ، وَقَدْ وَرَدَ مَعْنَى هَذَا فِي حَدِيثِ الصُّوَرِ الْمَشْهُورِ، وَوَرَدَ فِيهِ آثَارٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَغَيْرِهِمَا. آخِرُ تفسير سورة النبأ.
وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَبِهِ التَّوْفِيقُ وَالْعِصْمَةُ.
تَفْسِيرُ
سُورَةِ النَّازِعَاتِ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة النازعات (٧٩) : الآيات ١ الى ١٤]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (١) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (٢) وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (٣) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (٤)فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (٥) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (٦) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (٧) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (٨) أَبْصارُها خاشِعَةٌ (٩)
يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (١٠) أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (١١) قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (١٢) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (١٣) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (١٤)
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَمَسْرُوقٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَأَبُو صَالِحٍ وَأَبُو الضُّحَى وَالسُّدِّيُّ وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً الْمَلَائِكَةُ يَعْنُونَ حِينَ تُنْزَعُ أَرْوَاحُ بَنِي آدَمَ، فَمِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُ رُوحَهُ بعسر فتغرق في نزعها، ومنهم مَنْ تَأْخُذُ رُوحَهُ بِسُهُولَةٍ وَكَأَنَّمَا حَلَّتْهُ مِنْ نَشَاطٍ وَهُوَ قَوْلُهُ:
وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالنَّازِعاتِ هِيَ أَنْفُسُ الْكُفَّارِ تُنْزَعُ ثُمَّ تُنْشَطُ ثُمَّ تَغْرَقُ فِي النَّارِ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً الْمَوْتُ، وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً هِيَ النُّجُومُ.
وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ فِي قَوْلِهِ تعالى: وَالنَّازِعاتِ وَالنَّاشِطاتِ هِيَ الْقِسِيُّ فِي الْقِتَالِ وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ وَعَلَيْهِ الأكثرون. وأما قوله تعالى: وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: هِيَ الْمَلَائِكَةُ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَمُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَأَبِي صَالِحٍ مِثْلُ ذَلِكَ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً الْمَوْتُ، وَقَالَ قَتَادَةُ: هِيَ النُّجُومُ، وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ، هِيَ السُّفُنُ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: هِيَ النُّجُومُ، وَقَالَ عَطَاءٌ: هِيَ الْخَيْلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَقَوْلُهُ تعالى: فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً قَالَ عَلِيٌّ وَمُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ وَأَبُو صَالِحٍ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَالسُّدِّيُّ: هِيَ الْمَلَائِكَةُ، زَادَ الْحَسَنُ: تُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ يَعْنِي بِأَمْرِ رَبِّهَا عَزَّ وَجَلَّ، وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي هَذَا وَلَمْ يَقْطَعِ ابْنُ جَرِيرٍ بِالْمُرَادِ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، إلا أنه حكى في «المدبرات أَمْرًا» أَنَّهَا الْمَلَائِكَةُ وَلَا أَثْبَتَ وَلَا نَفَى.
وقوله تعالى: يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَمًّا النَّفْخَتَانِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ، وَهَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، وَعَنْ مجاهد: أما الأولى وهي قوله جل وعلا: يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ فَكَقَوْلِهِ جَلَّتْ عَظَمَتُهُ: يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ [الْمُزَّمِّلِ: ١٤] وَالثَّانِيَةُ وَهِيَ الرَّادِفَةُ فَهِيَ كَقَوْلِهِ وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً [الْحَاقَّةِ: ١٤].
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «١» : حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ عَنِ الطُّفَيْلِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «جَاءَتِ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ، جَاءَ الْمَوْتُ بِمَا فِيهِ» فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ جَعَلْتُ صَلَاتَيْ كُلَّهَا عَلَيْكَ، قَالَ: «إِذًا يَكْفِيكَ اللَّهُ مَا أَهَمَّكَ مِنْ دُنْيَاكَ وَآخِرَتَكَ» «٢» وَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانِ الثَّوْرِيِّ بِإِسْنَادِهِ مِثْلِهِ، وَلَفْظُ التِّرْمِذِيِّ وَابْنِ أَبِي حَاتِمٍ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا ذَهَبَ ثُلُثَا اللَّيْلِ قَامَ فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا اللَّهَ جَاءَتِ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ جَاءَ الْمَوْتُ بما فيه».
وقوله تعالى: قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي خَائِفَةٌ، وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ أَبْصارُها خاشِعَةٌ أَيْ أَبْصَارُ أَصْحَابِهَا وَإِنَّمَا أُضِيفَ إِلَيْهَا لِلْمُلَابَسَةِ أَيْ ذَلِيلَةٌ حَقِيرَةٌ مِمَّا عَايَنَتْ مِنَ الْأَهْوَالِ. وقوله تعالى: يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ يَعْنِي مُشْرِكِي قُرَيْشٍ وَمَنْ قال بقولهم في إنكار المعاد. يستعبدون وُقُوعَ الْبَعْثِ بَعْدَ الْمَصِيرِ إِلَى الْحَافِرَةِ وَهِيَ الْقُبُورُ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَبَعْدَ تَمَزُّقِ أَجْسَادِهِمْ وَتَفَتُّتِ عظامهم ونخورها، ولهذا قالوا: أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً وَقُرِئَ نَاخِرَةً وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: أَيُّ بَالِيَةً، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَهُوَ الْعَظَمُ إِذَا بَلِيَ وَدَخَلَتْ الرِّيحُ فِيهِ.
قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ وَعِكْرِمَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَأَبِي مَالِكٍ وَالسُّدِّيِّ وَقَتَادَةَ: الْحَافِرَةُ الْحَيَاةُ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْحَافِرَةُ النار، وما أكثر
(٢) أخرجه البخاري في الرقاق باب ٤٣، والترمذي في القيامة باب ٢٣.
تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: قَالَتْ قُرَيْشٌ لَئِنْ أَحْيَانَا اللَّهُ بَعْدَ أَنْ نَمُوتَ لَنَخْسَرَنَّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ أَيْ فَإِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ لَا مَثْنَوِيَّةَ فِيهِ وَلَا تَأْكِيدَ، فَإِذَا النَّاسُ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ وَهُوَ أَنْ يَأْمُرَ الله تَعَالَى إِسْرَافِيلَ فَيُنْفَخُ فِي الصُّورِ نَفْخَةُ الْبَعْثِ، فَإِذَا الْأَوَّلُونَ وَالْآخَرُونَ قِيَامٌ بَيْنَ يَدَيِ الرَّبِّ عز وجل ينظرون، كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء: ٥٢] وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ [الْقَمَرِ: ٥٠] وَقَالَ تَعَالَى: وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ [النَّحْلِ: ٧٧].
قَالَ مُجَاهِدٌ: فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ صَيْحَةٌ وَاحِدَةٌ. وَقَالَ إبراهيم التيمي: أشد ما يكون الرب عز وجل غَضِبًا عَلَى خَلْقِهِ يَوْمَ يَبْعَثُهُمْ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: زَجْرَةٌ مِنَ الْغَضَبِ، وَقَالَ أَبُو مَالِكٍ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ هِيَ النَّفْخَةُ الآخرة.
وقوله تعالى: فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ قال ابن عباس: الساهرة الْأَرْضُ كُلُّهَا، وَكَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةُ وَأَبُو صَالِحٍ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَالْحَسَنُ وَالضَّحَّاكُ وابن زيد: الساهرة وَجْهُ الْأَرْضِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَانُوا بِأَسْفَلِهَا فَأُخْرِجُوا إلى أعلاها، قال والساهرة المكان المستوي، وقال الثوري: الساهرة أَرْضُ الشَّامِ، وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاتِكَةِ: الساهرة أَرْضُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: السَّاهِرَةُ جَبَلٌ إِلَى جَانِبِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَقَالَ قتادة أيضا:
الساهرة جَهَنَّمُ، وَهَذِهِ أَقْوَالٌ كُلُّهَا غَرِيبَةٌ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا الْأَرْضُ وَجْهُهَا الْأَعْلَى.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا خَزْرُ بْنُ الْمُبَارَكِ الشَّيْخُ الصَّالِحُ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ السَّرِيِّ، حَدَّثَنَا مُصْعَبُ بْنُ ثَابِتٍ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ قَالَ: أَرْضٌ بَيْضَاءُ عَفْرَاءُ خَالِيَةٌ كَالْخُبْزَةِ النَّقِيِّ، وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ يقول اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ [إِبْرَاهِيمَ: ٤٨] ويقول تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُها قَاعًا صَفْصَفاً لَا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً [طَهَ: ١٠٥- ١٠٧] وَقَالَ تَعَالَى: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً [الْكَهْفِ: ٤٧] وَبَرَزَتِ الْأَرْضُ الَّتِي عَلَيْهَا الْجِبَالُ وَهِيَ لَا تُعَدُّ مِنْ هَذِهِ الْأَرْضِ وَهِيَ أَرْضٌ لَمْ يَعْمَلْ عَلَيْهَا خَطِيئَةٌ ولم يهراق عليها دم.
[سورة النازعات (٧٩) : الآيات ١٥ الى ٢٦]
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (١٥) إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (١٦) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (١٧) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (١٨) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (١٩)
فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (٢٠) فَكَذَّبَ وَعَصى (٢١) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى (٢٢) فَحَشَرَ فَنادى (٢٣) فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (٢٤)
فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى (٢٥) إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (٢٦)
يُخْبِرُ تَعَالَى رَسُولَهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ ابتعثه إلى فرعون،
فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى أَيْ قُلْ لَهُ هَلْ لَكَ أَنْ تُجِيبَ إِلَى طَرِيقَةٍ وَمَسْلَكٍ تَزَّكَّى به وتسلم وَتُطِيعُ وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ أَيْ أَدُلُّكَ إِلَى عِبَادَةِ رَبِّكَ فَتَخْشى أَيْ فَيَصِيرُ قَلْبُكَ خَاضِعًا له مطيعا خاشعا بعد ما كَانَ قَاسِيًا خَبِيثًا بَعِيدًا مِنَ الْخَيْرِ فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى يَعْنِي فَأَظْهَرَ لَهُ مُوسَى مَعَ هَذِهِ الدَّعْوَةِ الْحَقِّ حُجَّةً قَوِيَّةً وَدَلِيلًا وَاضِحًا عَلَى صِدْقِ مَا جَاءَهُ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَكَذَّبَ وَعَصى أَيْ فَكَذَّبَ بِالْحَقِّ وَخَالَفَ مَا أَمَرَهُ بِهِ مِنَ الطَّاعَةِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ كفر بقلبه فَلَمْ يَنْفَعِلْ لِمُوسَى بِبَاطِنِهِ وَلَا بِظَاهِرِهِ وَعِلْمُهُ بأن ما جاء به حَقٌّ لَا يُلْزِمُ مِنْهُ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ بِهِ، لِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ عِلْمُ الْقَلْبِ وَالْإِيمَانُ عَمَلُهُ وَهُوَ الانقياد للحق والخضوع له.
وقوله تعالى: ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى أَيْ فِي مُقَابَلَةِ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ وَهُوَ جَمْعُهُ السَّحَرَةَ لِيُقَابِلُوا مَا جَاءَ بِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ المعجزات الباهرات فَحَشَرَ فَنادى أَيْ فِي قَوْمِهِ فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ قَالَهَا فِرْعَوْنٌ بَعْدَ قَوْلِهِ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي [الْقَصَصِ: ٣٨] بِأَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى أَيْ انْتَقَمَ اللَّهُ مِنْهُ انْتِقَامًا جَعَلَهُ بِهِ عِبْرَةً وَنَكَالًا لِأَمْثَالِهِ مِنَ الْمُتَمَرِّدِينَ فِي الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ [هُودٍ: ٩٩] كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ [القصص: ٤١] وهذا هُوَ الصَّحِيحُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى أَيْ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ، وَقِيلَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ كَلِمَتَاهُ الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ، وَقِيلَ كُفْرُهُ وَعِصْيَانُهُ وَالصَّحِيحُ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ الْأَوَّلُ، وَقَوْلُهُ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى أي لمن يتعظ وينزجر.
[سورة النازعات (٧٩) : الآيات ٢٧ الى ٣٣]
أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (٢٧) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (٢٨) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (٢٩) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (٣٠) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (٣١)
وَالْجِبالَ أَرْساها (٣٢) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (٣٣)
يَقُولُ تَعَالَى مُحْتَجًّا عَلَى مُنْكِرِي الْبَعْثِ فِي إِعَادَةِ الْخَلْقِ بَعْدَ بَدْئِهِ: أَأَنْتُمْ أَيُّهَا النَّاسُ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ يَعْنِي بَلِ السَّمَاءُ أَشَدُّ خَلْقًا مِنْكُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غَافِرٍ: ٥٧] وَقَالَ تَعَالَى: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ [يس: ٨١] وقوله تعالى: بَناها فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ:
رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها أَيْ جَعَلَهَا عَالِيَةَ الْبِنَاءِ بَعِيدَةَ الْفَنَاءِ مُسْتَوِيَةَ الْأَرْجَاءِ مكللة بالكواكب في
وقوله تعالى: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها فسره بقوله تعالى: أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ حم السَّجْدَةِ أَنَّ الْأَرْضَ خُلِقَتْ قَبْلَ خلق السَّمَاءِ وَلَكِنْ إِنَّمَا دُحِيَتْ بَعْدَ خَلْقِ السَّمَاءِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ أَخْرَجَ مَا كَانَ فِيهَا بِالْقُوَّةِ إِلَى الْفِعْلِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ الرَّقِّيُّ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ يَعْنِي ابْنَ عَمْرٍو عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ دَحاها وَدَحْيُهَا أَنْ أَخْرَجَ مِنْهَا الْمَاءَ وَالْمَرْعَى وَشَقَّقَ فِيهَا الْأَنْهَارَ، وَجَعَلَ فِيهَا الْجِبَالَ وَالرِّمَالَ وَالسُّبُلَ وَالْآكَامَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها وَقَدْ تَقَدَّمَ تقرير ذلك هنالك.
وقوله تعالى: وَالْجِبالَ أَرْساها أَيْ قَرَّرَهَا وَأَثْبَتَهَا وَأَكَّدَهَا فِي أماكنها وهو الحكيم العليم، الرؤوف بِخَلْقِهِ الرَّحِيمُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَخْبَرَنَا الْعَوَّامُ بْنُ حَوْشَبٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْأَرْضَ جَعَلَتْ تَمِيدُ فَخَلَقَ الْجِبَالَ فَأَلْقَاهَا عَلَيْهَا فَاسْتَقَرَّتْ فَتَعَجَّبَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ خَلْقِ الْجِبَالِ فَقَالَتْ يَا رَبِّ فَهَلْ مِنْ خَلْقِكَ شَيْءٌ أَشَدُّ مِنَ الْجِبَالِ؟ قَالَ نَعَمْ: الْحَدِيدُ، قَالَتْ يَا رَبِّ فَهَلْ مِنْ خَلْقِكَ شَيْءٌ أَشَدُّ مِنَ الْحَدِيدِ؟ قَالَ نَعَمْ: النَّارُ، قَالَتْ يَا رَبِّ فَهَلْ مِنْ خَلْقِكَ شَيْءٌ أَشَدُّ مِنَ النَّارِ، قَالَ: نَعَمْ الْمَاءُ، قَالَتْ يَا رَبِّ فَهَلْ مِنْ خَلْقِكَ شَيْءٌ أَشَدُّ مِنَ الْمَاءِ؟ قَالَ: نَعَمْ الرِّيحُ، قَالَتْ يَا رَبِّ فَهَلْ مِنْ خَلْقِكَ شَيْءٌ أَشَدُّ مِنَ الرِّيحِ؟ قَالَ: نَعَمْ، ابْنُ آدَمَ يَتَصَدَّقُ بيمينه يخفيها عن شَمَالِهِ» «١».
وَقَالَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ «٢» : حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْأَرْضَ قَمَصَتْ وَقَالَتْ تَخْلُقُ عَلَيَّ آدَمَ وَذُرِّيَّتَهُ يُلْقُونَ عَلَيَّ نَتَنَهُمْ وَيَعْمَلُونَ عَلَيَّ بِالْخَطَايَا، فَأَرْسَاهَا اللَّهُ بِالْجِبَالِ فَمِنْهَا مَا تَرَوْنَ وَمِنْهَا مَا لَا تَرَوْنَ، وَكَانَ أَوَّلُ قَرَارِ الْأَرْضِ كَلَحْمِ الْجَزُورِ إِذَا نُحِرَ يَخْتَلِجُ لحمه. غريب جدا.
وقوله تعالى: مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ أَيْ دَحَا الْأَرْضَ فَأَنْبَعَ عُيُونَهَا، وَأَظْهَرَ مَكْنُونَهَا، وَأَجْرَى أَنْهَارَهَا، وَأَنْبَتَ زُرُوعَهَا وَأَشْجَارَهَا وَثِمَارَهَا. وَثَبَّتَ جِبَالَهَا لِتَسْتَقِرَّ بِأَهْلِهَا وَيَقَرُّ قَرَارُهَا، كُلُّ ذَلِكَ مَتَاعًا لِخَلْقِهِ وَلِمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنَ الْأَنْعَامِ الَّتِي يَأْكُلُونَهَا وَيَرْكَبُونَهَا مُدَّةَ احتياجهم إليها
(٢) تفسير الطبري ١٢/ ٤٣٩.
[سورة النازعات (٧٩) : الآيات ٣٤ الى ٤٦]
فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (٣٤) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ مَا سَعى (٣٥) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (٣٦) فَأَمَّا مَنْ طَغى (٣٧) وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (٣٨)
فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (٣٩) وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (٤٠) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (٤١) يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (٤٢) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (٤٣)
إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (٤٤) إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (٤٥) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (٤٦)
يَقُولُ تَعَالَى: فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تَطُمُّ عَلَى كُلِّ أَمْرٍ هَائِلٍ مُفْظِعٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ [الْقَمَرِ: ٤٦] يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ مَا سَعى أَيْ حِينَئِذٍ يَتَذَكَّرُ ابْنُ آدَمَ جميع عمله خيره وشره كما قال تَعَالَى: يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى [الْفَجْرِ: ٢٣] وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى أَيْ أَظْهَرَتْ لِلنَّاظِرِينَ فَرَآهَا النَّاسُ عِيَانًا فَأَمَّا مَنْ طَغى أَيْ تَمَرَّدَ وَعَتَا وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا أَيْ قَدَّمَهَا عَلَى أَمْرِ دِينِهِ وَأُخْرَاهُ.
فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى أَيْ فَإِنَّ مَصِيرَهُ إِلَى الْجَحِيمِ وَإِنَّ مَطْعَمَهُ مِنَ الزَّقُّومِ وَمَشْرَبَهُ مِنَ الْحَمِيمِ وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى أَيْ خَافَ الْقِيَامَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَخَافَ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِ وَنَهَى نَفْسَهُ عَنْ هَوَاهَا وَرَدَّهَا إِلَى طَاعَةِ مَوْلَاهَا فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى أَيْ مُنْقَلَبُهُ وَمَصِيرُهُ وَمَرْجِعُهُ إِلَى الْجَنَّةِ الْفَيْحَاءِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها أَيْ لَيْسَ عِلْمُهَا إِلَيْكَ وَلَا إِلَى أَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ بَلْ مَرَدُّهَا وَمَرْجِعُهَا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَهُوَ الَّذِي يَعْلَمُ وَقْتَهَا عَلَى التَّعْيِينِ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ [الْأَعْرَافِ: ١٨٧] وَقَالَ هَاهُنَا إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها وَلِهَذَا لَمَّا سَأَلَ جِبْرِيلُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ وَقْتِ السَّاعَةُ قَالَ: «مَا الْمَسْؤُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السائل» «١».
وقوله تعالى: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها أَيْ إِنَّمَا بَعَثْتُكَ لِتُنْذِرَ النَّاسَ وَتُحَذِّرَهُمْ مِنْ بَأْسِ اللَّهِ وَعَذَابِهِ فَمَنْ خَشِيَ اللَّهَ وَخَافَ مَقَامَهُ وَوَعِيدَهُ اتَّبَعَكَ فَأَفْلَحَ وَأَنْجَحَ، وَالْخَيْبَةُ وَالْخَسَارُ عَلَى مَنْ كذبك وخالفك. وقوله تَعَالَى: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها أَيْ إِذَا قَامُوا مِنْ قُبُورِهِمْ إِلَى الْمَحْشَرِ يَسْتَقْصِرُونَ مُدَّةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا حَتَّى كَأَنَّهَا عِنْدَهُمْ كَانَتْ عَشِيَّةً مِنْ يَوْمٍ أَوْ ضحى من يوم، وَقَالَ جُوَيْبِرٌ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها أَمَّا عَشِيَّةً فَمَا بَيْنَ الظَّهْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ أَوْ ضُحاها مَا بَيْنَ طُلُوعِ