تفسير سورة النازعات

البحر المحيط في التفسير
تفسير سورة سورة النازعات من كتاب البحر المحيط في التفسير .
لمؤلفه أبو حيان الأندلسي . المتوفي سنة 745 هـ
سورة النازعات
هذه السورة مكية.
ولما ذكر في آخر ما قبلها الإنذار بالعذاب يوم القيامة، أقسم في هذه على البعث يوم القيامة.

سورة النّازعات
[سورة النازعات (٧٩) : الآيات ١ الى ٤٦]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (١) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (٢) وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (٣) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (٤)
فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (٥) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (٦) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (٧) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (٨) أَبْصارُها خاشِعَةٌ (٩)
يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (١٠) أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (١١) قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (١٢) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (١٣) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (١٤)
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (١٥) إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (١٦) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (١٧) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (١٨) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (١٩)
فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (٢٠) فَكَذَّبَ وَعَصى (٢١) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى (٢٢) فَحَشَرَ فَنادى (٢٣) فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (٢٤)
فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى (٢٥) إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (٢٦) أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (٢٧) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (٢٨) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (٢٩)
وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (٣٠) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (٣١) وَالْجِبالَ أَرْساها (٣٢) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (٣٣) فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (٣٤)
يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ مَا سَعى (٣٥) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (٣٦) فَأَمَّا مَنْ طَغى (٣٧) وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (٣٨) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (٣٩)
وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (٤٠) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (٤١) يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (٤٢) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (٤٣) إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (٤٤)
إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (٤٥) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (٤٦)
392
أَغْرَقَ فِي الشَّيْءِ: بَالَغَ فِيهِ وَأَنْهَاهُ، وَأَغْرَقَ النَّازِعُ فِي الْقَوْسِ: بَلَغَ غَايَةَ الْمَدِّ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى النَّصْلِ. وَالِاسْتِغْرَاقُ: الِاسْتِيعَابُ، وَالْغَرْقَى: قِشْرَةُ الْبَيْضَةِ. نَشَطَ الْبَعِيرَ وَالْإِنْسَانَ رَبَطَهُ وَأَنْشَطَهُ: حَلَّهُ، وَمِنْهُ: وَكَأَنَّمَا أُنْشِطَ مِنْ عِقَالٍ. وَنَشِطَ: ذَهَبَ مَنْ قُطْرٍ إِلَى قُطْرٍ، وَلِذَلِكَ قِيلَ لِبَقْرِ الْوَحْشِ النَّوَاشِطُ، لِأَنَّهُنَّ يَذْهَبْنَ بِسُرْعَةٍ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ، وَهُوَ هِمْيَانُ بْنُ قُحَافَةَ:
أَرَى هُمُومِي تُنْشِطُ الْمَنَاشِطَا الشَّامَ بِي طَوْرًا وَطَوْرًا وَاسِطَا
وَكَأَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ النَّشَاطِ. وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ: نَشَطْتُ الْحَبْلَ أَنْشَطُهُ نَشْطًا:
عَقَدْتُهُ أُنْشُوطَةً، وَأَنْشَطْتُهُ: حَلَلْتُهُ، وَأَنْشَطْتُ الْحَبْلَ: مَدَدْتُهُ. وَقَالَ اللَّيْثُ: أَنْشَطْتُهُ بِأُنْشُوطَةٍ: أَيْ وَثَّقْتُهُ، وَأَنْشَطْتُ الْعِقَالَ: مَدَدْتُ أُنْشُوطَتَهُ فَانْحَلَّتْ، وَيُقَالُ: نَشِطَ بِمَعْنَى أَنْشَطَ، وَالْأُنْشُوطَةُ: عُقْدَةٌ يسهل انحلالها إذا جدبت كَعُقْدَةِ التِّكَّةِ. وَجَفَ الْقَلْبُ وَجِيفًا:
اضْطَرَبَ مِنْ شَدَّةِ الْفَزَعِ، وَكَذَلِكَ وَجَبَ وَجِيبًا. وَفِي كِتَابِ لُغَاتِ الْقُرْآنِ الْمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَاجِفَةٌ: خَائِفَةٌ، بِلُغَةِ هَمْدَانَ. الْحَافِرَةُ، يُقَالُ: رَجَعَ فُلَانٌ فِي حَافِرَتِهِ: أَيْ فِي طَرِيقِهِ الَّتِي جَاءَ مِنْهَا، فَحَفَرَهَا: أَيْ أَثَّرَ فِيهَا بِمَشْيِهِ فِيهَا، جَعَلَ أَثَرَ قَدَمَيْهِ حَفْرًا، وَتُوقِعُهَا الْعَرَبُ عَلَى أَوَّلِ أَمْرٍ يُرْجَعُ إِلَيْهِ مِنْ آخِرِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
أَحَافِرَةٌ عَلَى صَلَعٍ وَشَيْبٍ مَعَاذَ اللَّهِ مِنْ سَفَهٍ وَعَارِ
أَيْ: أَأَرْجِعُ إِلَى الصِّبَا بَعْدَ الصَّلَعِ وَالشَّيْبِ؟ النَّاخِرَةُ: الْمُصَوِّتَةُ بِالرِّيحِ الْمُجَوَّفَةُ، وَالنَّخِرَةُ بِمَعْنَاهَا، كَطَامِعٍ وَطَمِعٍ، وَحَاذِرٍ وَحَذِرٍ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ وَجَمَاعَةٌ.
وَقِيلَ: النَّخِرَةُ: الْبَالِيَةُ الْمُتَعَفِّنَةُ الصَّائِرَةُ رَمِيمًا. نَخِرَ الْعُودُ وَالْعَظْمُ: بَلِيَ وَتَفَتَّتَ، فَمَعْنَاهُ مُغَايِرٌ لِلنَّاخِرَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ. وَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ: النَّاخِرَةُ: الَّتِي لَمْ تَنْخَرْ بَعْدُ، وَالنَّخِرَةُ: الَّتِي قَدْ بَلِيَتْ. قَالَ الرَّاجِزُ لِفَرَسِهِ:
أَقْدِمْ أَخَا نِهْمٍ عَلَى الْأَسَاوِرَهْ وَلَا تَهُولَنَّكَ رؤوس نَادِرَهْ
فَإِنَّمَا قَصْرُكَ تُرْبُ السَّاهِرَهْ حَتَّى تَعُودَ بَعْدَهَا فِي الْحَافِرَهْ
مِنْ بَعْدِ مَا صِرْتَ عِظَامًا نَاخِرَهْ وَقَالَ الشَّاعِرُ:
وَأَخْلَيْتُهَا مِنْ مُخِّهَا فَكَأَنَّهَا قَوَارِيرُ فِي أَجْوَافِهَا الرِّيحُ تَنْخِرُ
وَيُرْوَى: تُصَفِّرُ وَنُخْرَةُ الرِّيحِ، بِضَمِّ النُّونِ: شِدَّةُ هُبُوبِهَا، وَالنُّخْرَةُ أَيْضًا: مُقَدَّمُ أَنْفِ
393
الْفَرَسِ وَالْحِمَارِ وَالْخِنْزِيرِ، يُقَالُ: هَشَّمَ نُخْرَتَهُ. السَّاهِرَةُ: وَجْهُ الْأَرْضِ وَالْفَلَاةُ، وُصِفَتْ بِمَا يَقَعُ فِيهَا وَهُوَ السَّهَرُ لِلْخَوْفِ. وَقَالَ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ:
وَفِيهَا لَحْمُ سَاهِرَةٍ وَبَحْرٍ وَمَا فَاهُوا بِهِ لَهُمُ مُقِيمُ
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْهُذَلِيُّ:
يَرْتَدْنَ سَاهِرَةً كَأَنَّ جَمِيمَهَا وَعَمِيمَهَا أَسْدَافُ لَيْلٍ مُظْلِمِ
وَالسَّاهُورُ كَالْغِلَافِ لِلْقَمَرِ يَدْخُلُ فِيهِ إِذَا كَسَفَ. وَقَالَ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ:
وَبَثَّ الْخَلْقَ فِيهَا إِذْ دَحَاهَا فَهُمْ قُطَّانُهَا حَتَّى التَّنَادِي
وَقِيلَ: دَحَاهَا: سَوَّاهَا، قَالَ زَيْدُ بْنُ عَمْرِو:
وَأَسْلَمْتُ وَجْهِي لِمَنْ أَسْلَمَتْ لَهُ الْأَرْضُ تَحْمِلُ صَخْرًا ثِقَالَا
دَحَاهَا فَلَمَّا اسْتَوَتْ شَدَّهَا بِأَيْدٍ وَأَرْسَى عَلَيْهَا الْجِبَالَا
الطَّامَّةُ: الدَّاهِيَةُ الَّتِي تَطِمُّ عَلَى الدَّوَاهِي، أَيْ تَعْلُو وَتَغْلِبُ. وَفِي أَمْثَالِهِمْ: أَجْرَى الْوَادِيَ فَطَمَّ عَلَى الْقُرَى، وَيُقَالُ: طَمَّ السَّيْلُ الرَّكِيَّةَ إِذَا دَفَنَهَا، وَالطَّمُّ: الدَّفْنُ وَالْعُلُوُّ.
وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً، وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً، وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً، فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً، فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً، يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ، تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ، قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ، أَبْصارُها خاشِعَةٌ، يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ، أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً، قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ، فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ، فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ، هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى، إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً، اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى، فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى، وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى، فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى، فَكَذَّبَ وَعَصى، ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى، فَحَشَرَ فَنادى، فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى، فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى، إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى.
هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ. وَلَمَّا ذَكَرَ فِي آخِرِ مَا قَبْلَهَا الْإِنْذَارَ بِالْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَقْسَمَ فِي هَذِهِ عَلَى الْبَعْثِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَلَمَّا كَانَتِ الْمَوْصُوفَاتُ الْمُقْسَمُ بِهَا مَحْذُوفَاتٍ وَأُقِيمَتْ صِفَاتُهَا مَقَامَهَا، وَكَانَ لِهَذِهِ الصِّفَاتِ تَعَلُّقَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِهَا، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ وَابْنُ عَبَّاسٍ النَّازِعاتِ: الْمَلَائِكَةُ تَنْزِعُ نفوس بني آدم، وغَرْقاً: إِغْرَاقًا، وَهِيَ الْمُبَالَغَةُ فِي الفعل،
أو غرقا فِي جَهَنَّمَ، يَعْنِي نُفُوسَ الْكُفَّارِ، قَالَهُ عَلِيٌّ
وَابْنُ عَبَّاسٍ. وقال الحسن وقتادة وَأَبُو عُبَيْدَةَ وَابْنُ كَيْسَانَ وَالْأَخْفَشُ: هِيَ النُّجُومُ تَنْزِعُ مِنْ أُفُقٍ إِلَى أُفُقٍ. وَقَالَ السُّدِّيُّ وَجَمَاعَةٌ: تَنْزِعُ بِالْمَوْتِ إِلَى رَبِّهَا، وَغَرْقًا: أَيْ إِغْرَاقًا فِي الصَّدْرِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ أَيْضًا:
394
النُّفُوسُ تَحِنُّ إِلَى أَوْطَانِهَا وَتَنْزِعُ إِلَى مَذَاهِبِهَا، وَلَهَا نَزْعٌ عِنْدَ الْمَوْتِ. وَقَالَ عَطَاءٌ وَعِكْرِمَةُ:
الْقِسِيُّ أَنْفُسُهَا تُنْزَعُ بِالسِّهَامِ. وَقَالَ عَطَاءٌ أَيْضًا: الْجَمَاعَاتُ النَّازِعَاتُ بِالْقِسِيِّ وَغَيْرِهَا إِغْرَاقًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمَنَايَا تَنْزِعُ النُّفُوسَ. وَقِيلَ: النَّازِعَاتُ: الْوَحْشُ تَنْزِعُ إِلَى الْكَلَأِ، حَكَاهُ يَحْيَى بْنُ سَلَامٍ. وَقِيلَ: جَعَلَ الْغُزَاةَ الَّتِي تَنْزِعُ فِي أَعِنَّتِهَا نَزْعًا تَغْرَقُ فِيهِ الْأَعِنَّةُ لِطُولِ أَعْنَاقِهَا لِأَنَّهَا عِرَابٌ، وَالَّتِي تَخْرُجُ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ، قَالَهُ فِي الْكَشَّافِ.
وَالنَّاشِطاتِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: الْمَلَائِكَةُ تَنْشَطُ النُّفُوسَ عِنْدَ الْمَوْتِ، أَيْ تَحُلُّهَا وَتَنْشَطُ بِأَمْرِ اللَّهِ إِلَى حَيْثُ كَانَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا وقتادة وَالْحَسَنُ وَالْأَخْفَشُ:
النُّجُومُ تَنْشَطُ مِنْ أُفُقٍ إِلَى أُفُقٍ، تَذْهَبُ وَتَسِيرُ بِسُرْعَةٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا: الْمَنَايَا. وَقَالَ عَطَاءٌ: الْبَقَرُ الْوَحْشِيَّةُ وَمَا جَرَى مَجْرَاهَا مِنَ الْحَيَوَانِ الَّذِي يَنْشَطُ مَنْ قُطْرٍ إِلَى قُطْرٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: النُّفُوسُ الْمُؤْمِنَةُ تَنْشَطُ عِنْدَ الْمَوْتِ لِلْخُرُوجِ. وَقِيلَ: الَّتِي تَنْشَطُ لِلْإِزْهَاقِ.
وَالسَّابِحاتِ،
قَالَ عَلِيٌّ وَمُجَاهِدٌ: الْمَلَائِكَةُ تَتَصَرَّفُ فِي الْآفَاقِ بِأَمْرِ اللَّهِ، تَجِيءُ وَتَذْهَبُ.
وَقَالَ قَتَادَةُ وَالْحَسَنُ: النُّجُومُ تَسْبَحُ فِي الْأَفْلَاكِ. وَقَالَ أَبُو رَوْقٍ: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَاللَّيْلُ وَالنَّهَارُ. وَقَالَ عَطَاءٌ وَجَمَاعَةٌ: الْخَيْلُ، يُقَالُ لِلْفَرَسِ سَابِحٌ. وَقِيلَ: السَّحَابُ لِأَنَّهَا كَالْعَائِمَةِ فِي الْهَوَاءِ. وَقِيلَ: الْحِيتَانُ دَوَابُّ الْبَحْرِ فَمَا دُونَهَا وَذَلِكَ مِنْ عِظَمِ الْمَخْلُوقَاتِ، فَيُبْدِي أَنَّهُ تَعَالَى أَمَدَّ فِي الدُّنْيَا نَوْعًا مِنَ الْحَيَوَانِ، مِنْهَا أَرْبَعُمِائَةٍ فِي الْبَرِّ وَسِتُّمِائَةٍ فِي الْبَحْرِ.
وَقَالَ عَطَاءٌ أَيْضًا: السُّفُنُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا: الْمَنَايَا تَسْبَحُ فِي نُفُوسِ الْحَيَوَانِ.
فَالسَّابِقاتِ، قَالَ مُجَاهِدٌ: الْمَلَائِكَةُ سَبَقَتْ بَنِي آدَمَ بِالْخَيْرِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَقَالَهُ أَبُو رَوْقٍ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: أَنْفُسُ الْمُؤْمِنِينَ تَسْبِقُ إِلَى الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ يَقْبِضُونَهَا، وَقَدْ عَايَنَتِ السُّرُورَ شَوْقًا إِلَى لِقَاءِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ عَطَاءٌ: الْخَيْلُ، وَقِيلَ: النُّجُومُ، وَقِيلَ: الْمَنَايَا تَسْبِقُ الْآمَالَ. فَالْمُدَبِّراتِ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ لَا أَحْفَظُ خِلَافًا أَنَّهَا الْمَلَائِكَةُ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهَا الَّتِي تُدَبِّرُ الْأُمُورَ الَّتِي سَخَّرَهَا اللَّهُ تَعَالَى وَصَرَّفَهَا فِيهَا، كَالرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ وَسَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ. انْتَهَى. وَقِيلَ: الْمَلَائِكَةُ الْمُوَكَّلُونَ بِالْأَحْوَالِ: جِبْرِيلُ لِلْوَحْيِ، وَمِيكَائِيلُ لِلْمَطَرِ، وَإِسْرَافِيلُ لِلنَّفْخِ فِي الصُّورِ، وَعِزْرَائِيلُ لِقَبْضِ الْأَرْوَاحِ. وَقِيلَ: تَدْبِيرُهَا: نُزُولُهَا بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ. وَقَالَ مُعَاذٌ: هِيَ الْكَوَاكِبُ السَّبْعَةُ، وَإِضَافَةُ التَّدْبِيرِ إِلَيْهَا مَجَازٌ، أَيْ يَظْهَرُ تَقَلُّبُ الْأَحْوَالِ عِنْدَ قِرَانِهَا وَتَرْبِيعِهَا وَتَسْدِيسِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَلَفَّقَ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ أَقْوَالًا اخْتَارَهَا وَأَدَارَهَا أَوَّلًا عَلَى ثَلَاثَةٍ: الْمَلَائِكَةُ أَوِ
395
الْخَيْلُ أَوِ النُّجُومُ. وَرَتَّبَ جَمِيعَ الْأَوْصَافِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الثَّلَاثَةِ، فَقَالَ: أَقْسَمَ سُبْحَانَهُ بِطَوَائِفِ الْمَلَائِكَةِ الَّتِي هِيَ تَنْزِعُ الْأَرْوَاحَ مِنَ الْأَجْسَادِ، وَبِالطَّوَائِفِ الَّتِي تُنْشِطُهَا، أَيْ تُخْرِجُهَا مِنْ نَشَطَ الدَّلْوَ مِنِ الْبِئْرِ إِذَا أَخْرَجَهَا، وَبِالطَّوَائِفِ الَّتِي تَسْبَحُ فِي مُضِيِّهَا، أَيْ تُسْرِعُ فَتَسْبِقُ إِلَى مَا أُمِرُوا بِهِ فَتُدَبِّرُ أَمْرًا مِنْ أُمُورِ الْعِبَادِ مِمَّا يُصْلِحُهُمْ فِي دِينِهِمْ أَوْ دُنْيَاهُمْ كَمَا رُسِمَ لَهُمْ غَرْقًا، أَيْ إِغْرَاقًا فِي النَّزْعِ، أَيْ تَنْزِعُهَا مِنْ أَقَاصِي الْأَجْسَادِ مِنْ أَنَامِلِهَا وأظفارها.
أَوْ أَقْسَمَ بِخَيْلِ الْغُزَاةِ الَّتِي تَنْزِعُ فِي أَعِنَّتِهَا إِلَى آخِرِ مَا نَقَلْنَاهُ ثُمَّ قَالَ: مِنْ قَوْلِكَ: ثَوْرٌ نَاشِطٌ، إِذَا خَرَجَ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ، وَالَّتِي تَسْبَحُ فِي جِرْيَتِهَا فَتَسْبِقُ إِلَى الْغَايَةِ فَتُدَبِّرُ أَمْرَ الْغَلَبَةِ وَالظَّفَرِ، وَإِسْنَادُ التَّدْبِيرِ إِلَيْهَا لِأَنَّهَا مِنْ أَسْبَابِهِ. أَوْ أَقْسَمَ بِالنُّجُومِ الَّتِي تَنْزِعُ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ، وَإِغْرَاقُهَا فِي النَّزْعِ أَنْ تَقْطَعَ الْفَلَكَ كُلَّهُ حَتَّى تَنْحَطَّ مِنْ أَقْصَى الْمَغْرِبِ، وَالَّتِي تَخْرُجُ مِنْ بُرْجٍ إِلَى بُرْجٍ، وَالَّتِي تَسْبَحُ فِي الْفَلَكِ مِنَ السَّيَّارَةِ فَتَسْبِقُ فَتُدَبِّرُ أَمْرًا فِي عِلْمِ الْحِسَابِ.
وَقِيلَ: النَّازِعَاتُ: أَيْدِي الْغُزَاةِ أَوْ أَنْفُسُهُمْ تَنْزِعُ الْقِسِيَّ بِإِغْرَاقِ السِّهَامِ وَالَّتِي تَنْشَطُ الْإِرْهَاقَ. انْتَهَى. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ مَا عُطِفَ بِالْفَاءِ هُوَ مِنْ وَصْفِ الْمُقْسَمِ بِهِ قَبْلَ الْفَاءِ، وَأَنَّ المعطوف بالواو هو مُغَايِرٌ لِمَا قَبْلَهُ، كَمَا قَرَّرْنَاهُ فِي الْمُرْسَلَاتِ، عَلَى أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ المعطوف بالواو مِنْ عَطْفِ الصِّفَاتِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ. وَالْمُخْتَارُ فِي جَوَابِ الْقَسَمِ أَنْ يَكُونَ مَحْذُوفًا وَتَقْدِيرُهُ: لَتُبْعَثُنَّ لِدَلَالَةِ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ: الْجَوَابُ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى، وَالْمَعْنَى فِيمَا اقْتَصَصْتُ مِنْ ذِكْرِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَذَكَرَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَفِرْعَوْنَ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَهَذَا قَبِيحٌ لِأَنَّ الْكَلَامَ قد طال. وقيل: الكلام الَّتِي تَلْقَى بِهَا الْقَسَمَ مَحْذُوفَةٌ مِنْ قَوْلِهِ: يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ، أَيْ لِيَوْمِ كَذَا، تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ، وَلَمْ تَدْخُلْ نُونُ التَّوْكِيدِ لِأَنَّهُ قَدْ فَصَلَ بَيْنَ اللَّامِ الْمُقَدَّرَةِ وَالْفِعْلِ وَقَوْلُ أَبِي حَاتِمٍ هُوَ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، كَأَنَّهُ قَالَ: فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ. وَالنَّازِعاتِ، قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: خَطَأٌ لِأَنَّ الْفَاءَ لَا يُفْتَتَحُ بِهَا الْكَلَامُ. وَقِيلَ:
التَّقْدِيرُ: يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ، وَالنَّازِعاتِ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ أَيْضًا وَلَيْسَ بِشَيْءٍ. وَقِيلَ: الْجَوَابُ: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى، لِأَنَّهُ فِي تَقْدِيرِ قَدْ أَتَاكَ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَهَذَا كُلُّهُ إِعْرَابُ مَنْ لَمْ يُحْكِمِ الْعَرَبِيَّةَ، وَحَذْفُ الْجَوَابِ هُوَ الْوَجْهُ، وَيُقَرِّبُ الْقَوْلَ بِحَذْفِ اللَّامِ مِنْ يَوْمَ تَرْجُفُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ: هُمَا الصَّيْحَتَانِ، أَيِ النَّفْخَتَانِ، الْأُولَى تُمِيتُ كُلَّ شَيْءٍ، وَفِي الثَّانِيَةِ تُحْيِي. وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا: الْوَاجِفَةُ:
396
الزَّلْزَلَةُ، وَالرَّادِفَةُ: الصَّيْحَةُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْوَاجِفَةُ: الْأَرْضُ، وَالرَّادِفَةُ: السَّاعَةُ، وَالْعَامِلُ فِي يَوْمَ اذْكُرْ مُضْمَرَةٌ، أَوْ لَتُبْعَثُنَّ الْمَحْذُوفُ وَالْيَوْمُ مُتَّسِعٌ تَقَعُ فِيهِ النَّفْخَتَانِ، وَهُمْ يُبْعَثُونَ فِي بَعْضِ ذَلِكَ الْيَوْمِ الْمُتَّسِعِ، وَتَتْبَعُهَا حَالٌ. قِيلَ: أَوْ مُسْتَأْنَفٌ. وَاجِفَةٌ: مُضْطَرِبَةٌ، وَوَجِيفُ الْقَلْبِ يَكُونُ مِنَ الْفَزَعِ وَيَكُونُ مِنِ الْإِشْفَاقِ، وَمِنْهُ قَوْلُ قَيْسِ بْنِ الْخَطِيمِ:
إِنَّ بَنِي حَجَبَا وَأُسْرَتَهُمْ أَكْبَادُنَا مِنْ وَرَائِهِمْ تَجِفُ
قُلُوبٌ: مُبْتَدَأٌ، واجِفَةٌ: صِفَةٌ تَعْمَلُ فِي يَوْمَئِذٍ، أَبْصارُها: أَيْ أَبْصَارُ أَصْحَابِ الْقُلُوبِ، خاشِعَةٌ: مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ فِي مَوْضِعِ خَبَرِ قُلُوبٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: رَفْعُ قُلُوبٍ بِالِابْتِدَاءِ، وَجَازَ ذَلِكَ، وَهِيَ نَكِرَةٌ لِأَنَّهَا قَدْ تَخَصَّصَتْ بِقَوْلِهِ: يَوْمَئِذٍ. انْتَهَى. وَلَا تَتَخَصَّصُ الْأَجْرَامُ بِظُرُوفِ الزَّمَانِ، وَإِنَّمَا تَخَصَّصَتْ بِقَوْلِهِ: واجِفَةٌ. يَقُولُونَ:
حِكَايَةُ حَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَالْمَعْنَى: هم الذين يقولون. والْحافِرَةِ، قَالَ مُجَاهِدٌ: فَاعِلَةٌ بِمَعْنَى مُفْعُولَةٍ. وَقِيلَ: عَلَى النَّسَبِ، أَيْ ذَاتُ حَفْرٍ، وَالْمُرَادُ الْقُبُورُ، أَيْ لَمَرْدُودُونَ أَحْيَاءً فِي قُبُورِنَا. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: الْحَافِرَةُ: النَّارُ. وَقِيلَ: جَمْعُ حَافِرَةٍ بِمَعْنَى الْقَدَمِ، أَيْ أَحْيَاءً نَمْشِي عَلَى أَقْدَامِنَا وَنَطَأُ بِهَا الْأَرْضِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْحَيَاةُ الثَّانِيَةُ هِيَ أَوَّلُ الْأَمْرِ، وَتَقُولُ التُّجَّارُ: النَّقْدُ فِي الْحَافِرَةِ، أَيْ فِي ابْتِدَاءِ السَّوْمِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
آلَيْتُ لَا أَنْسَاكُمْ فَاعْلَمُوا حَتَّى تَرِدَ النَّاسُ فِي الْحَافِرَةِ
وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ وَأَبُو بَحْرِيَّةَ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: فِي الْحَفِرَةِ بِغَيْرِ أَلِفٍ وَالْجُمْهُورُ: بِالْأَلِفِ.
وَقِيلَ: هَمَّا بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَقِيلَ: هي الأرض المنتنة الْمُتَغَيِّرَةُ بِأَجْسَادِ مَوْتَاهَا، مِنْ قَوْلِهِمْ:
حَفِرَتْ أَسْنَانُهُ إِذَا تَآكَلَتْ وَتَغَيَّرَتْ. وَقَرَأَ عُمَرُ وأبي وَعَبْدُ اللَّهِ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وابن عباس ومسروق ومجاهد وَالْأَخَوَانِ وَأَبُو بَكْرٍ: نَاخِرَةٌ بِأَلِفٍ وَأَبُو رَجَاءٍ وَالْحَسَنُ وَالْأَعْرَجُ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَالسُّلَمِيُّ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَالنَّخَعِيُّ وقتادة وَابْنُ وَثَّابٍ وَأَيُّوبُ وَأَهْلُ مَكَّةَ وَشِبْلٌ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِغَيْرِ أَلِفٍ. قالُوا تِلْكَ إِذاً: أَيِ الرِّدَّةُ إِلَى الْحَافِرَةِ إِنْ رُدِدْنَا، كَرَّةٌ خاسِرَةٌ: أَيْ قَالُوا ذَلِكَ لِتَكْذِيبِهِمْ بِالْغَيْبِ، أَيْ لَوْ كَانَ هَذَا حَقًّا، لَكَانَتْ رِدَّتُنَا خَاسِرَةً، إِذْ هِيَ إِلَى النَّارِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: خَاسِرَةٌ: كَاذِبَةٌ، أَيْ لَيْسَتْ بِكَافِيَةٍ، وَهَذَا الْقَوْلُ مِنْهُمُ اسْتِهْزَاءٌ. وَرُوِيَ أَنَّ بَعْضَ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ قَالَ ذَلِكَ. فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ لما تقدم. يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ:
تَضَمَّنُ قَوْلُهُمُ اسْتِبْعَادَ النَّشْأَةِ الثَّانِيَةِ وَاسْتِضْعَافَ أَمْرِهَا، فَجَاءَ قَوْلُهُ: فَإِنَّما مُرَاعَاةً لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ اسْتِبْعَادُهُمْ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: لَيْسَ بِصَعْبٍ مَا تَقُولُونَ، فَإِنَّمَا هِيَ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ، فَإِذَا هُمْ مَنْشُورُونَ أَحْيَاءٌ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: السَّاهِرَةُ أَرْضٌ مِنْ فِضَّةٍ يَخْلُقُهَا اللَّهُ
397
تَعَالَى. وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: جَبَلٌ بِالشَّامِ يَمُدُّهُ اللَّهَ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِحَشْرِ النَّاسِ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَسُفْيَانُ: أَرْضٌ قَرِيبَةٌ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَرْضُ مَكَّةَ. وَقَالَ قَتَادَةُ:
جَهَنَّمُ، لِأَنَّهُ لَا نَوْمَ لِمَنْ فِيهَا. رَأَى أَنَّ الضَّمَائِرَ قَبْلَهَا إِنَّمَا هِيَ لِلْكُفَّارِ فَفَسَّرَهَا بِجَهَنَّمَ. وَقِيلَ:
الْأَرْضُ السَّابِعَةُ يَأْتِي بِهَا اللَّهُ يُحَاسِبُ عَلَيْهَا الْخَلَائِقَ.
وَلَمَّا أَنْكَرُوا الْبَعْثَ وَتَمَرَّدُوا، شَقَّ ذَلِكَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَصَّ تَعَالَى عَلَيْهِ قِصَّةَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَتَمَرُّدَ فِرْعَوْنَ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ حَتَّى ادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ، وَمَا آلَ إِلَيْهِ حَالُ مُوسَى مِنَ النَّجَاةِ، وَحَالُ فِرْعَوْنَ مِنَ الْهَلَاكِ، فَكَانَ ذَلِكَ مسلاة لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم وَتَبْشِيرًا بِهَلَاكِ مَنْ يُكَذِّبُهُ، وَنَجَاتِهِ هُوَ مِنْ أَذَاهُمْ. فَقَالَ تَعَالَى: هَلْ أَتاكَ، توفيقا لَهُ عَلَى جَمْعِ النَّفْسِ لِمَا يُلْقِيهِ إِلَيْهِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الْوَادِي الْمُقَدَّسِ، وَالْخِلَافُ فِي الْقِرَاءَاتِ فِي طُوىً. اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ: تَفْسِيرٌ لِلنِّدَاءِ، أَوْ عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ، فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى: لُطْفٌ فِي الِاسْتِدْعَاءِ لِأَنَّ كُلَّ عَاقِلٍ يُجِيبُ مِثْلَ هَذَا السُّؤَالِ بِنَعَمْ، وَتَزَكَّى:
تَتَحَلَّى بِالْفَضَائِلِ وَتَتَطَهَّرُ مِنَ الرَّذَائِلِ، وَالزَّكَاةُ هُنَا يَنْدَرِجُ فِيهَا الْإِسْلَامُ وَتَوْحِيدُ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ وَأَبُو عَمْرٍو: بِخِلَافٍ تَزَّكَّى وَتَصَّدَّى، بِشَدِّ الزَّايِ وَالصَّادِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ:
بِخَفِّهَا. وَتَقُولُ الْعَرَبُ: هَلْ لَكَ فِي كَذَا، أو هل لك إِلَى كَذَا؟ فَيَحْذِفُونَ الْقَيْدَ الَّذِي تَتَعَلَّقُ بِهِ إِلَى، أَيْ هَلْ لَكَ رَغْبَةٌ أَوْ حَاجَةٌ إِلَى كَذَا؟ أَوْ سَبِيلٌ إِلَى كَذَا؟ قَالَ الشَّاعِرُ:
فَهَلْ لَكُمْ فِيهَا إِلَيَّ فَإِنَّنِي بَصِيرٌ بما أعيا النطاسي خديما
وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى: هَذَا تَفْسِيرٌ لِلتَّزْكِيَةِ، وَهِيَ الْهِدَايَةُ إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَعْرِفَتِهِ، فَتَخْشى: أَيْ تَخَافُهُ، لِأَنَّ الْخَشْيَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا بِالْمَعْرِفَةِ، إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ «١». وَذَكَرَ الْخَشْيَةَ لِأَنَّهَا مِلَاكُ الْأَمْرِ، وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، أَيْ فَذَهَبَ وَقَالَ لَهُ مَا أَمَرَهُ بِهِ رَبُّهُ، وَأَتْبَعَ ذَلِكَ بِالْمُعْجِزَةِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِهِ. فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى:
وَهِيَ الْعَصَا وَالْيَدُ، جَعَلَهُمَا وَاحِدَةً، لِأَنَّ الْيَدَ كَأَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ الْعَصَا لِكَوْنِهَا تَابِعَةً لَهَا، أَوِ الْعَصَا وَحْدَهَا لِأَنَّهَا كَانَتِ الْمُقَدِّمَةَ وَالْأَصْلَ، وَالْيَدُ تَبَعٌ لَهَا، لِأَنَّهُ كَانَ يَتَّقِيهَا بِيَدِهِ. وَقِيلَ لَهُ أَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ «٢». فَكَذَّبَ: أَيْ فِرْعَوْنُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَا أَتَى بِهِ مِنَ الْمُعْجِزِ، وَجَعَلَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ السِّحْرِ، وَعَصى الله تعالى بعد ما عَلِمَ صِحَّةَ مَا أَتَى بِهِ مُوسَى، وَإِنَّمَا أُوهِمَ أَنَّهُ سِحْرٌ. ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى، قِيلَ: أَدْبَرَ حَقِيقَةً، أَيْ قَامَ مِنْ مَكَانِهِ فارا
(١) سورة فاطر: ٣٥/ ٢٨.
(٢) سورة النمل: ٢٧/ ١٢.
398
بِنَفْسِهِ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ إِعْرَاضِهِ عَنِ الْإِيمَانِ. يَسْعى: يَجْتَهِدُ فِي مكابدة مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. فَحَشَرَ: أَيْ جَمَعَ السَّحَرَةَ وَأَرْبَابَ دَوْلَتِهِ، فَنادى: أَيْ قَامَ فِيهِمْ خَطِيبًا، أَوْ فَنَادَى فِي الْمَقَامِ الَّذِي اجْتَمَعُوا فِيهِ مَعَهُ. فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَوْلُ فِرْعَوْنَ ذَلِكَ نِهَايَةٌ فِي الْمَخْرَقَةِ، وَنَحْوُهَا بَاقٍ فِي مُلُوكِ مِصْرَ وَأَتْبَاعِهِمْ. انْتَهَى.
وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّ مَلِكَ مِصْرَ فِي زَمَانِهِ كَانَ إِسْمَاعِيلِيًّا، وَهُوَ مَذْهَبٌ يَعْتَقِدُونَ فِيهِ إِلَهِيَّةَ مُلُوكِهِمْ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ مَلَكَهَا مِنْهُمُ الْمُعِزُّ بن المنصور بن القائم بن المهدي عبيد الله، ولا هم الْعَاضِدُ وَطَهَّرَ اللَّهُ مِصْرَ مِنْ هَذَا الْمَذْهَبِ الْمَلْعُونِ بِظُهُورِ الْمَلِكِ النَّاصِرِ صَلَاحِ الدِّينِ يُوسُفَ بْنِ أَيُّوبَ بْنِ سَادِي، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَجَزَاهُ عَنِ الْإِسْلَامِ خَيْرًا.
فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْآخِرَةُ قَوْلُهُ: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي «١»، وَالْأُولَى قَوْلُهُ: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى. وَقِيلَ الْعَكْسُ، وَكَانَ بَيْنَ قَوْلَتَيْهِ أَرْبَعُونَ سَنَةً. وَقَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ زَيْدٍ: نَكَالَ الْآخِرَةِ بِالْحَرْقِ، وَالْأُولَى يَعْنِي الدُّنْيَا بِالْغَرَقِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: عَذَابُ آخِرَةِ حَيَاتِهِ وَأُولَاهَا. وَقَالَ أَبُو زرين: الْأُولَى كُفْرُهُ وَعِصْيَانُهُ، وَالْآخِرَةُ قَوْلُهُ: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى. وَقَالَ مُجَاهِدٌ عِبَارَةٌ عَنْ أَوَّلِ مَعَاصِيهِ، وَآخِرِهَا: أَيْ نَكَّلَ بِالْجَمِيعِ، وَانْتَصَبَ نَكَالَ عَلَى الْمَصْدَرِ وَالْعَامِلُ فِيهِ فَأَخَذَهُ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ وَعَلَى رَأْيِ الْمُبَرِّدِ: بِإِضْمَارِ فِعْلٍ مِنْ لَفْظِهِ، أَيْ نكل نكال، وَالنَّكَالُ بِمَعْنَى التَّنْكِيلِ، كَالسَّلَامِ بِمَعْنَى التَّسْلِيمِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: نَكالَ الْآخِرَةِ هُوَ مَصْدَرٌ مُؤَكَّدٌ، كَ وَعَدَ اللَّهُ «٢»، وصِبْغَةَ اللَّهِ «٣»، كَأَنَّهُ قِيلَ: نَكَّلَ اللَّهُ بِهِ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى. انْتَهَى. وَالْمَصْدَرُ الْمُؤَكِّدِ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ يُقَدَّرُ لَهُ عَامِلٌ مِنْ مَعْنَى الْجُمْلَةِ. إِنَّ فِي ذلِكَ: فِيمَا جَرَى لِفِرْعَوْنَ وَأَخْذِهِ تِلْكَ الْأَخْذَةَ، لَعِبْرَةً: لِعِظَةً، لِمَنْ يَخْشى: أَيْ لِمَنْ يَخَافُ عُقُوبَةَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَفِي الدُّنْيَا.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها، رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها، وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها، وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها، أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها، وَالْجِبالَ أَرْساها، مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ، فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى، يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ مَا سَعى، وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى، فَأَمَّا مَنْ طَغى، وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا، فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى، وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى، يَسْئَلُونَكَ عَنِ
(١) سورة القصص: ٢٨/ ٣٨.
(٢) سورة النساء: ٤/ ١٢٢، وسورة يونس: ١٠/ ٤.
(٣) سورة البقرة: ٢/ ١٣٨.
399
السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها، فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها، إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها، إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها، كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها.
الْخِطَابُ الظَّاهِرُ أَنَّهُ عَامٌّ، والمقصود الكفار منكر والبعث، وَقَفَهُمْ عَلَى قُدْرَتِهِ تَعَالَى.
أَشَدُّ خَلْقاً: أَيْ أَصْعَبُ إنشاء، أَمِ السَّماءُ، فالمسؤول عَنْ هَذَا يُجِيبُ وَلَا بُدَّ السَّمَاءُ، لِمَا يَرَى مِنْ دَيْمُومَةِ بَقَائِهَا وَعَدَمِ تَأْثِيرِهَا. ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى كَيْفِيَّةَ خَلْقِهَا. رَفَعَ سَمْكَها: أَيْ جَعَلَ مِقْدَارَهَا بِهَا فِي الْعُلُوِّ مَدِيدًا رَفِيعًا مِقْدَارَ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، وَالسَّمْكُ: الِارْتِفَاعُ الَّذِي بَيْنَ سَطْحِ السَّمَاءِ الَّتِي تَلِيهَا وَسَطْحِهَا الْأَعْلَى الَّذِي يَلِي مَا فَوْقَهَا، فَسَوَّاها: أَيْ جَعَلَهَا مَلْسَاءَ مُسْتَوِيَةً، لَيْسَ فِيهَا مُرْتَفِعٌ وَلَا مُنْخَفِضٌ، أَوْ تَمَّمَهَا وَأَتْقَنَ إِنْشَاءَهَا بِحَيْثُ إِنَّهَا مُحْكَمَةُ الصَّنْعَةِ. وَأَغْطَشَ: أَيْ أَظْلَمَ، لَيْلَها. وَأَخْرَجَ: أَبْرَزَ ضَوْءَ شَمْسِهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالشَّمْسِ وَضُحاها «١»، وَقَوْلِهِمْ: وَقْتُ الضُّحَى: الْوَقْتُ الَّذِي تُشْرِقُ فِيهِ الشَّمْسُ. وَأُضِيفَ اللَّيْلُ وَالضُّحَى إِلَى السَّمَاءِ، لِأَنَّ اللَّيْلَ ظِلُّهَا، وَالضُّحَى هُوَ نُورُ سِرَاجِهَا.
وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ: أَيْ بَعْدَ خَلْقِ السَّمَاءِ وَمَا فَعَلَ فِيهَا، دَحاها: أَيْ بَسَطَهَا، فَخَلَقَ الْأَرْضَ ثُمَّ السَّمَاءَ ثُمَّ دَحَا الْأَرْضَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَالْأَرْضَ، وَالْجِبالَ بِنَصْبِهِمَا وَالْحَسَنُ وَأَبُو حَيْوَةَ وَعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَأَبُو السَّمَّالِ: بِرَفْعِهِمَا وَعِيسَى: بِرَفْعِ الْأَرْضِ. وَأُضِيفَ الْمَاءُ وَالْمَرْعَى إِلَى الْأَرْضِ لِأَنَّهُمَا يَظْهَرَانِ مِنْهَا.
وَالْجُمْهُورُ: مَتاعاً بِالنَّصْبِ، أَيْ فَعَلَ ذلك تمتيعا لَكُمْ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: بِالرَّفْعِ، أَيْ ذَلِكَ مَتَاعٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: فَهَلَّا أَدْخَلَ حَرْفَ الْعَطْفِ عَلَى أَخْرَجَ؟ قُلْتُ: فِيهِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَعْنَى دَحاها: بَسَطَهَا وَمَهَّدَهَا لِلسُّكْنَى، ثُمَّ فَسَّرَ التَّمْهِيدَ بِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي تَأَتِّي سُكْنَاهَا مِنْ تَسْوِيَةِ أَمْرِ الْمَأْكَلِ وَالْمُشْرَبِ وَإِمْكَانِ الْقَرَارِ عَلَيْهَا. وَالثَّانِي:
أَنْ يَكُونَ أَخْرَجَ حَالًا بِإِضْمَارِ قَدْ، كَقَوْلِهِ: أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ «٢». انْتَهَى.
وَإِضْمَارُ قَدْ قَوْلٌ لِلْبَصْرِيِّينَ وَمَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ. وَالْأَخْفَشِ: أَنَّ الْمَاضِيَ يَقَعُ حَالًا، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى إِضْمَارِ قَدْ، وَهُوَ الصَّحِيحُ. فَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَقَعَ ذَلِكَ كَثِيرًا. انْتَهَى. وَمَرْعاها:
مَفْعَلٌ مِنَ الرَّعْيِ، فَيَكُونُ مَكَانًا وَزَمَانًا وَمَصْدَرًا، وَهُوَ هُنَا مَصْدَرٌ يُرَادُ بِهِ اسْمُ الْمَفْعُولِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَمَرْعِيَّهَا: أَيِ النَّبَاتُ الَّذِي يُرْعَى. وَقَدَّمَ الْمَاءَ عَلَى الْمَرْعَى لِأَنَّهُ سَبَبٌ فِي وُجُودِ الْمَرْعَى، وَشَمِلَ وَمَرْعاها مَا يَتَقَوَّتُ بِهِ الْآدَمِيُّ وَالْحَيَوَانُ غَيْرُهُ، فَهُوَ في حق الآدمي
(١) سورة الشمس: ٩١/ ١.
(٢) سورة النساء: ٤/ ٩٠. [.....]
400
اسْتِعَارَةٌ، وَلِهَذَا قِيلَ: دَلَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِذِكْرِ الْمَاءِ وَالْمَرْعَى عَلَى عَامَّةِ مَا يُرْتَفَقُ بِهِ وَيُتَمَتَّعُ مِمَّا يَخْرُجُ مِنَ الْأَرْضِ حَتَّى الْمِلْحِ، لِأَنَّهُ مِنَ الْمَاءِ.
فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ: الْقِيَامَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَالْحَسَنُ: النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ. وَقَالَ الْقَاسِمُ: وَقْتُ سَوْقِ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِلَيْهَا، وَأَهْلِ النَّارِ إِلَيْهَا، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ. يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ مَا سَعى: أَيْ عَمَلَهُ الَّذِي كَانَ سَعَى فِيهِ فِي الدُّنْيَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَبُرِّزَتِ مبني لِلْمَفْعُولِ مُشَدَّدَ الرَّاءِ، لِمَنْ يَرى بِيَاءِ الْغَيْبَةِ:
أَيْ لِكُلِّ أَحَدٍ، فَيَشْكُرُ الْمُؤْمِنُ نِعْمَةَ اللَّهِ. وَقِيلَ: لِمَنْ يَرى هُوَ الْكَافِرُ وَعَائِشَةُ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَعِكْرِمَةُ وَمَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ مُخَفَّفًا وَبِتَاءٍ، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ لِمَنْ تَرَى مِنْ أهلها، وأن يكون إخبار عَنِ الْجَحِيمِ، فَهِيَ تَاءُ التَّأْنِيثِ. قَالَ تَعَالَى: إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ «١». وَقَالَ أَبُو نَهِيكٍ وَأَبُو السَّمَّالِ وَهَارُونَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو: وَبَرَزَتْ مَبْنِيًّا وَمُخَفَّفًا، ويَوْمَ يَتَذَكَّرُ: بَدَلٌ مِنْ فَإِذا وَجَوَابُ إِذَا، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ. وَقِيلَ: عَايَنُوا وَعَلِمُوا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: انقسم الراؤول قِسْمَيْنِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ: فَأَمَّا وَمَا بَعْدَهُ، كَمَا تَقُولُ: إِذَا جَاءَكَ بَنُو تَمِيمٍ، فَأَمَّا الْعَاصِي فَأَهِنْهُ، وَأَمَّا الطَّائِعُ فَأَكْرِمْهُ.
طَغى: تَجَاوَزَ الْحَدَّ فِي عِصْيَانِهِ، وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ، وَهِيَ مُبْتَدَأٌ أَوْ فَصْلٌ. وَالْعَائِدُ عَلَى مَنْ مِنَ الْخَبَرِ مَحْذُوفٌ عَلَى رَأْيِ الْبَصْرِيِّينَ، أَيِ الْمَأْوَى لَهُ، وَحَسَّنَ حَذْفَهُ وُقُوعُ الْمَأْوَى فَاصِلَةً. وَأَمَّا الْكُوفِيُّونَ فَمَذْهَبُهُمْ أَنَّ أَلْ عِوَضٌ مِنَ الضَّمِيرِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْمَعْنَى فَإِنَّ الْجَحِيمَ مَأْوَاهُ، كَمَا تَقُولُ لِلرَّجُلِ: غُضَّ الطَّرْفَ، تُرِيدُ طَرْفَكَ وَلَيْسَ الْأَلِفُ وَاللَّامُ بَدَلًا مِنِ الْإِضَافَةِ، وَلَكِنْ لَمَّا عُلِمَ أَنَّ الطَّاغِيَ هُوَ صَاحِبُ الْمَأْوَى، وَأَنَّهُ لَا يَغُضُّ الرَّجُلُ طَرْفَ غَيْرِهِ، تُرِكَتِ الْإِضَافَةُ. وَدُخُولُ حَرْفِ التَّعْرِيفِ فِي الْمَأْوَى، وَالطَّرْفِ لِلتَّحْرِيفِ لِأَنَّهُمَا مُعَرَّفَانِ. انْتَهَى. وَهُوَ كَلَامٌ لَا يَتَحَصَّلُ مِنْهُ الرَّابِطُ الْعَائِدُ عَلَى الْمُبْتَدَأِ، إِذْ قَدْ نَفَى مَذْهَبَ الْكُوفِيِّينَ، وَلَمْ يُقَدِّرْ ضَمِيرًا مَحْذُوفًا، كَمَا قَدَّرَهُ الْبَصْرِيُّونَ، فَرَامَ حُصُولَ الرَّبْطِ بِلَا رَابِطٍ.
وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ: أَيْ مَقَامًا بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلْجَزَاءِ وَفِي إِضَافَةِ الْمَقَامِ إِلَى الرَّبِّ تَفْخِيمٌ لِلْمَقَامِ وَتَهْوِيلٌ عَظِيمٌ وَاقِعٌ مِنَ النُّفُوسِ مَوْقِعًا عظيما. قال ابن
(١) سورة الفرقان: ٢٥/ ١٢.
401
عباس: خافه عند ما هَمَّ بِالْمَعْصِيَةِ فَانْتَهَى عَنْهَا. وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى: أَيْ عَنْ شَهَوَاتِ النَّفْسِ، وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالِ الْهَوَى فِيمَا لَيْسَ بِمَحْمُودٍ. قَالَ سَهْلٌ: لَا يَسْلَمُ مِنَ الْهَوَى إِلَّا الْأَنْبِيَاءُ وَبَعْضُ الصِّدِّيقِينَ. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: إِذَا أَرَدْتَ الصَّوَابَ فَانْظُرْ هَوَاكَ فَخَالِفْهُ. وَقَالَ عِمْرَانُ الْمِيرِتْلِيُّ:
فَخَالِفْ هَوَاهَا وَاعْصِهَا إِنَّ مَنْ يُطِعْ هَوَى نَفْسِهِ تَنْزِعُ بِهِ كُلَّ مَنْزَعِ
وَمَنْ يُطِعِ النَّفْسَ اللَّجُوجَةَ تَرُدُّهُ وَتَرْمِ بِهِ فِي مَصْرَعٍ أَيَّ مَصْرَعِ
وَقَالَ الْفُضَيْلُ: أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ خِلَافُ الْهَوَى، وَهَذَا التَّفْضِيلُ هُوَ عَامٌّ فِي أَهْلُ الْجَنَّةِ وَأَهْلُ النَّارِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: نَزَلَ ذَلِكَ فِي أَبِي جَهْلٍ وَمُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ الْعَبْدَرِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ.
وَعَنْهُ أَيْضًا: فَأَمَّا مَنْ طَغى، فَهُوَ أَخٌ لِمُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ، أُسِرَ فَلَمْ يَشُدُّوا وَثَاقَهُ، وَأَكْرَمُوهُ وَبَيَّتُوهُ عِنْدَهُمْ فَلَمَّا أَصْبَحُوا حَدَّثُوا مُصْعَبًا، فَقَالَ: مَا هُوَ لِي بِأَخٍ، شُدُّوا أَسِيرَكُمْ، فَإِنَّ أُمَّهُ أَكْثَرُ أَهْلِ الْبَطْحَاءِ حُلِيًّا وَمَالًا فَأَوْثَقُوهُ. وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ فَمُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَقَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم بِنَفْسِهِ يَوْمَ أُحُدٍ حِينَ تَفَرَّقَ النَّاسُ عَنْهُ حَتَّى نَفَذَتِ الْمَشَاقِصُ فِي جَوْفِهِ، وَهِيَ السِّهَامُ. فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلّم مُتَشَحِّطًا فِي دَمِهِ قَالَ: «عِنْدَ اللَّهِ أَحْتَسِبُكَ»، وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: «لَقَدْ رَأَيْتُهُ وَعَلَيْهِ بُرْدَانِ مَا تُعْرَفُ قِيمَتُهُمَا، وَإِنَّ شِرَاكَ نَعْلِهِ مِنْ ذَهَبٍ». قِيلَ: وَاسْمُ أَخِيهِ عَامِرٌ.
وَفِي الْكَشَّافِ،
وَقِيلَ: الْآيَتَانِ نَزَلَتَا فِي أَبِي عزيز بْنِ عُمَيْرٍ وَمُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَقَدْ قَتَلَ مُصْعَبٌ أخاه أبا عزيز يَوْمَ أُحُدٍ، وَوَقَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم بِنَفْسِهِ حَتَّى نَفَذَتِ الْمَشَاقِصُ في جوفه.
انتهى.
يَسْئَلُونَكَ: أَيْ قُرَيْشٌ، وَكَانُوا يُلِحُّونَ فِي الْبَحْثِ عَنْ وَقْتِ السَّاعَةِ، إِذْ كَانَ يَتَوَعَّدُهُمْ بِهَا وَيُكْثِرُ مِنْ ذَلِكَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. أَيَّانَ مُرْساها: مَتَى إِقَامَتُهَا؟ أَيْ متى يقيهما اللَّهُ وَيُثْبِتُهَا وَيُكَوِّنُهَا؟ وَقِيلَ: أَيَّانَ مُنْتَهَاهَا وَمُسْتَقَرُّهَا؟ كَمَا أَنَّ مَرْسَى السَّفِينَةِ وَمُسْتَقَرَّهَا حَيْثُ تَنْتَهِي إِلَيْهِ. فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها،
قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُ عَنِ السَّاعَةِ كَثِيرًا، فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.
انْتَهَى. وَالْمَعْنَى: فِي أَيِّ شَيْءٍ أَنْتَ مِنْ ذِكْرِ تَحْدِيدِهَا وَوَقْتِهَا؟ أَيْ لَسْتَ مِنْ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ، إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ.
إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها: أَيِ انْتِهَاءُ عِلْمِ وَقْتِهَا، لَمْ يُؤْتَ علم ذلك أحدا مِنْ خَلْقِهِ. وَقِيلَ:
فِيمَ إِنْكَارٌ لِسُؤَالِهِمْ، أَيْ فِيمَ هَذَا السُّؤَالُ؟ ثُمَّ قَالَ: أَنْتَ مِنْ ذِكْراها، وَعَلَامَةٌ مِنْ عَلَامَاتِهَا، فَكَفَاهُمْ بِذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى دُنُوِّهَا وَمُشَارَفَتِهَا وَوُجُوبِ الِاسْتِعْدَادِ لَهَا، وَلَا مَعْنَى لِسُؤَالِهِمْ عَنْهَا.
402
إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها: أَيْ لَمْ تُبْعَثْ لِتُعْلِمَهُمْ بِوَقْتِ السَّاعَةِ الَّذِي لَا فَائِدَةَ لَهُمْ فِي عِلْمِهِ، وَإِنَّمَا بُعِثْتَ لِتُنْذِرَ مِنْ أَهْوَالِهَا مَنْ يَكُونُ إِنْذَارُكَ لُطْفًا بِهِ فِي الْخَشْيَةِ مِنْهَا.
انْتَهَى. وَهَذَا الْقَوْلُ حَكَاهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَزَمَّكَهُ بِكَثْرَةِ أَلْفَاظِهِ، وَهُوَ تَفْكِيكٌ لِلْكَلَامِ وَخُرُوجٌ عَنِ الظَّاهِرِ الْمُتَبَادِرِ إِلَى الْفَهْمِ، وَلَمْ يُخْلِهِ مِنْ دَسِيسَةِ الِاعْتِزَالِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مُنْذِرُ مَنْ بِالْإِضَافَةِ. وَقَرَأَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَخَالِدٌ الْحَذَّاءُ وَابْنُ هُرْمُزَ وَعِيسَى وَطَلْحَةُ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَأَبُو عُمَرَ فِي رِوَايَةٍ وَابْنُ مِقْسَمٍ: مُنْذِرٌ بالتنوين. وقال الزمخشري:
وقرىء مُنْذِرٌ بِالتَّنْوِينِ، وَهُوَ الْأَصْلُ وَالْإِضَافَةُ تَخْفِيفٌ، وَكِلَاهُمَا يَصْلُحُ لِلْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ فَإِذَا أُرِيدَ الْمَاضِي، فَلَيْسَ إِلَّا الْإِضَافَةُ، كَقَوْلِكَ: هُوَ مُنْذِرُ زَيْدٍ أَمْسَ. انْتَهَى. أَمَّا قَوْلُهُ وَهُوَ الْأَصْلُ، يَعْنِي التَّنْوِينَ، فَهُوَ قَوْلٌ قَدْ قَالَهُ غَيْرُهُ مِمَّنْ تَقَدَّمَ. وَقَدْ قَرَّرْنَا فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَفِيمَا كَتَبْنَاهُ فِي هَذَا الْعِلْمِ أَنَّ الْأَصْلَ الْإِضَافَةُ، لِأَنَّ الْعَمَلَ إِنَّمَا هُوَ بِالشَّبَهِ، وَالْإِضَافَةُ هِيَ أَصْلٌ فِي الْأَسْمَاءِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَإِذَا أُرِيدَ الْمَاضِي، فَلَيْسَ إِلَّا الْإِضَافَةُ، فَهَذَا فِيهِ تَفْصِيلٌ وَخِلَافٌ مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَخَصَّ مَنْ يَخْشاها لِأَنَّهُ هُوَ الْمُنْتَفِعُ بِالْإِنْذَارِ. كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها: تَقْرِيبٌ وَتَقْرِيرٌ لِقِصَرِ مُقَامِهِمْ فِي الدُّنْيَا. لَمْ يَلْبَثُوا: لَمْ يُقِيمُوا فِي الدُّنْيَا، إِلَّا عَشِيَّةً: يَوْمٌ أَوْ بُكْرَتُهُ، وَأَضَافَ الضُّحَى إِلَى الْعَشِيَّةِ لِكَوْنِهَا طَرَفَيِ النَّهَارِ. بَدَأَ بِذِكْرِ أَحَدِهِمَا، فَأَضَافَ الْآخَرَ إِلَيْهِ تَجَوُّزًا وَاتِّسَاعًا، وَحَسَّنَ الْإِضَافَةَ كَوْنُ الْكَلِمَةِ فَاصِلَةً، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
403
Icon