تفسير سورة القمر

اللباب
تفسير سورة سورة القمر من كتاب اللباب في علوم الكتاب المعروف بـاللباب .
لمؤلفه ابن عادل الحنبلي . المتوفي سنة 775 هـ
سورة القمر مكية في قول الجمهور. وقال مقاتل : مكية إلا ثلاث آيات :﴿ أم يقولون نحن جميع منتصر ﴾ إلى قوله :﴿ والساعة أدهى وأمرّ ﴾ [ القمر ٤٤ -٤٦ ]. والصحيح الأول، وهي خمس وخمسون آية، وثلاثمائة واثنتان وأربعون كلمة وألف وأربعمائة وثلاثة وعشرون حرفا١
١ وانظر القرطبي ١٧/١٢٥..

مكية في قول الجمهور. وقال مقاتل: مكية إلا ثلاث آيات: ﴿أم يقولون نحن جميع منتصر﴾ إلى قوله ﴿والساعة أدهى وأمر﴾ [القمر: ٤٤ - ٤٦]. والصحيح الأول، وهي خمس وخمسون آية، وثلاثمائة واثنتان وأربعون كلمة وألف وأربعمائة وثلاثة وعشرون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: ﴿اقتربت الساعة وانشق القمر﴾ أول هذه السورة مناسب لآخر ما قبلها، وهو قوله تعالى: ﴿أَزِفَتِ الآزفة﴾ [النجم: ٥٧]، فكأنه أعاد ذلك مستدلاً عليه بقوله تعالى: ﴿أَزِفَتِ الآزفة﴾ [النجم: ٥٧]، وهو حقٌّ؛ إذ القمر انشق بقوله: «وَانْشَقَّ الْقَمَرُ» ماض على حقيقته، وهو قول عامة المسلمين إلا من لا يلتفت إلى قوله. وقد صح في الأخبار أن القمر انشق على عهده - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - مرتين. روى أنس بن مالك - (رَضِيَ اللَّهُ عَنْه) - أن أهل مكة سألوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أن يريهم آيةً، فأراهُمُ القمر شَقَّتَيْنِ حتى رأوا حِرَاءَ بينهما، وقال سنان عن قتادة: فأراهم انشقاق القمر مرتين. وعن ابن مسعود - (رَضِيَ اللَّهُ عَنْه) - قال: انشق القمر على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِرْقَتَيْن فرقةً فوق الجبل، وفرقةٌ دونه، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «اشْهَدُوا». وقال أبو الضحى عن مسروق عن عبد الله: لم ينشق بمكة. وقال مقاتل: انشق القمر، ثم الْتَأَمَ بعد ذلك.
وروى أبو الضحى عن مسروق عن عبد الله قال: انشق القمر على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقالت قريش: سحركم ابن أبي كبشة فقَدِموا السُّفَّار فسألوهم قالوا: نعم قد رأينا، فأنزل الله عزّ وجلّ: ﴿اقتربت الساعة وانشق القمر﴾. وقيل: انشق بمعنى سينشق يوم
229
القيامة، فأوقع الماضي موقع المستقبل لتحققه وهو خلاف الإجماع. وقيل: انشق بمعنى انفلق عنه الظلام عند طلوعه كما يسمى الصبح فلقاً وأنشد للنابغة:
٤٥٨٠ - فَلَمَّا أَدْبَرُوا وَلَهُمْ دوِيٌّ دَعَانَا عِنْدَ شَقِّ الصُّبْحِ دَاعِي
وإنما ذكرنا ذلك تنبيهاً على ضعفه.
قوله: ﴿وَإِن يَرَوْاْ آيَةً يُعْرِضُواْ وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ﴾، أي ذاهب سوف يذهب ويبطل من قولهم: مَرَّ الشَّيْءُ واسْتَمَرَّ إذا ذهب مثل قولهم: قَرَّ واسْتَقَرَّ. قال مجاهد وقتادة: مَنّوا أنفسهم بذلك. وقيل: مستمر أي دائم؛ فإن محمداً - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كان يأتي كل زمان ومكان بمعجزة فقالوا هذا سحر مستمر دائم، لا يختلف بالنسبة إلى شيء بخلاف سِحْر السَّحَرَة، فإن بعضهم يقدر على أمر وأمرين، وثلاثة، ويعجز عن غيرها وهو قادر على الكل. قاله الزمخشري. ومنه قول الشاعر:
٤٥٨١ - أَلاَ إِنَّمَا الدُّنْيَا لَيَالٍ وَأَعْصُرٌ وَلَيْسَ عَلَى شَيْءٍ قَوِيمٍ بِمُسْتَمِرْ
أي بدائم باقٍ. وقيل: معناه شديد المرارة. قال الزمخشري: أي مستبشع عندنا مرّ على لهواتنا لا نقدر أن نَسِيغَه كما لا نَسيغُ المُرَّ. انتهى.
يقال: مَرَّ الشَّيْءُ بنفسه وَمرَّهُ غَيْرُهُ؛ فيكون متعدياً ولازماً، ويقال: أَمَرَّهُ أيضاً.
وقال أبو العالية والضحاك: مستمر أي قويّ شديد، من قولهم: مَرَّ الحَبْل إذا صلب واشتد، وأَمْرَرْتُهُ إذا أحكمت فَتْلَهُ، واسْتَمرَّ إذا قَوِيَ واسْتَحكَمَ، قال لقيط - (رحمةُ اللَّهِ عليه -) :
230
والمراد بقوله: «آيةً» هي اقتراب الساعة، فإن انشقاق القمر من آياته، وقد رأوه وكذبوا فإن يروا غيرها أيضاً يعرضون، أو آية النبوة فإنه معجزة. أما كونه معجزةً ففي غاية الظهور، وأما كونه آية فلأن منكر خراب العالم ينكر انشقاق السماء، وانفطارها، وكل كوكب، فإذا انشق بعضها كان ذلك مخالفاً لقوله بجواز خراب العالم والمُرَاد بهؤلاء القائلين المعرضين هم الكفار. والتنكير في قوله (آية) للتعظيم أي آية قوية أو عظيمة يُعْرِضُوا.
قال أبو حيان: ومعنى مستمر أي يشبه بعضه بعضاً أي اشتهرت أفعاله على هذا الحال. وهذا راجع إلى الدوام المتقدم. وأتى بهذه الجملة الشرطية تنبيهاً على أن حالهم في المستقبل كحالهم في الماضي.
وقرىء: يُرَوْا مبنيًّا للمفعول من أَرَى.
قوله: ﴿وَكَذَّبُواْ واتبعوا أَهْوَآءَهُمْ﴾ أي كذبوا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وما عاينوه من قدرة الله عزّ وجلّ، واتبعوا ما زين لهم الشيطان من الباطل وكذبوا بالآية وهي انشقاق القمر، «وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ» في أنه سحر القمر، وأنه خسوف في القمر، وظهور شيء في جانب آخر من الجو يشبه نصف القمر، وأنه سحر أعيننا والقمر لم يصبه شيء، فهذه أهواؤهم.
قوله: ﴿وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ﴾ العامة على كسر القاف، ورفع الراء اسم فاعل، ورفعه خبراً «لكل» الواقع مبتدأ. وقرأ شيبة بفتح القاف وتروى عن نافع.
قال أبو حاتم: لا وجه لها، وقد وجهها غيره على حذف مضاف أي وكل أمر ذو استقرار، وزمان استقرار، أو مكان استقرار، فجاز أن يكون مصدراً، وأن يكون ظرفاً زمانياً أو مكانياً قال معناه الزمخشري. وقرأ أبو جعفر وزيد بن علي بكسر القاف وجر الراء. وفيها أوجه:
231
أحدها - ولم يذكر الزمخشري غيره -: أن تكون صفة لأَمْر، ويرتفع «كُلّ» حينئذ بالعطف على «الساعة» فيكون فاعلاً أي اقتربت الساعة وكل أمر مستقر.
قال أبو حيان: وهذا بعيد لوجود الفصل بجمل ثلاث، وبعيد أن يوجد مثل هذا التركيب في كلام العرب، نحو: «أَكَلْتُ خُبْزاً، وضَرَبْتُ خَالِداً» وأن يجيء: زيداً أكرمه ورحل إلى بني فلان ولحماً فيكون «ولحماً» معطوفاً على «خبزاً» بل لا يوجد مثله في كلام العرب. انتهى.
قال شهاب الدين: وإذا دل دليل على المعنى فلا يبالى بالفواصل، وأين فصاحة القرآن من هذا التركيب الذي ركبه هو حتى يقيسه عليه في المنع؟
الثاني: أن تكون «مستقراً» خبراً «لِكُلّ أَمْر». وهو مرفوع، إلا أنه خُفِضَ على الجِوَارِ.
قاله أبو الفضل الرازي.
وهذا لا يجوز، لأن الجِوَارَ إنما جاء في النعت أو العطف على خلاف في إتيانه كما تقدم في سورة المائدة فكيف يقال به في خبر المبتدأ؟ هذا ما لا يجوز.
الثالث: أن خبر المبتدأ قوله: «حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ» أخبر عن ﴿كُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ﴾ بأنه حكمة بالغة ويكون قوله: ﴿وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّنَ الأنبآء مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ﴾ [القمر: ٤] جملة اعتراض بين المبتدأ أو خبره.
الرابع: أن الخبر مقدر؛ فقدره أبو البقاء: معمول به أو أتى وقدره غيره: بالغوه؛ لأن قبله ﴿وكذبوا واتبعوا أهواءهم﴾ أي وكل أمر مستقر، أي لكل أمر حقيقة ما كان منه في الدنيا فسيظهر وما كان منه في الآخرة فسيعرف. وقال قتادة: وكل أمر مستقر فالخير مستقر بأهل الخير، والشر بأهل الشر. وقيل: كل أمر من خير أو شر مستقر قراره، فالخير مستقر بأهله في الجنة والشر مستقر بأهله في النار. وقيل: مستقر قول المصدقين والمكذبين حتى يعْرفوا حقيقته بالثواب والعذاب، وقال مقاتل: لكل
232
حديث منتهى. وقيل: ما قدر كائن لا محالة وقيل كل أمر مستقر على سنن الحق يثبت، والباطل يَزْهَقُ فيكون ذلك تهديداً لهم وتسلية للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وهو كقوله تعالى: ﴿ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الزمر: ٧].
وقيل: كل أمر مستقر في علم الله تعالى لا يخفى عليه شيء، فهم كذبوا واتبعوا أهواءهم، والأنبياء صدقوا وبلغوا، كقوله تعالى: ﴿لاَ يخفى عَلَى الله مِنْهُمْ شَيْءٌ﴾ [غافر: ١٦] وكقوله: ﴿وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزبر وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ﴾ [القمر: ٥٢ - ٥٣].
وقيل: هو جواب لقوله: «سِحْرٌ مُسْتَمِرّ» أي بل كل أمره مستقر.
233
قوله :﴿ وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُواْ وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ ﴾، أي ذاهب سوف يذهب ويبطل من قولهم : مَرَّ الشَّيْءُ واسْتَمَرَّ إذا ذهب مثل قولهم : قَرَّ واسْتَقَرَّ. قال مجاهد وقتادة : مَنّوا أنفسهم بذلك. وقيل : مستمر أي دائم ؛ فإن محمداً - عليه الصلاة والسلام - كان يأتي كل زمان ومكان بمعجزة فقالوا هذا سحر مستمر دائم، لا يختلف بالنسبة إلى شيء بخلاف سِحْر السَّحَرَة، فإن بعضهم يقدر على أمر وأمرين، وثلاثة، ويعجز عن غيرها وهو قادر على الكل. قاله الزمخشري١. ومنه قول الشاعر :
٤٥٨٢ - حَتَّى اسْتَمَرَّتْ عَلَى شَزْرٍ مَرِيرَتُهُ صِدْقُ الْعَزِيمَةِ لاَ رَتًّا وَلاَ ضَرَعا
أَلاَ إِنَّمَا الدُّنْيَا لَيَالٍ وَأَعْصُرٌ وَلَيْسَ عَلَى شَيْءٍ قَوِيمٍ بِمُسْتَمِرْ٢
أي بدائم باقٍ. وقيل : معناه شديد المرارة. قال الزمخشري : أي مستبشع عندنا مرّ على لهواتنا لا نقدر أن نَسِيغَه كما لا نَسيغُ٣ المُرَّ. انتهى.
يقال : مَرَّ الشَّيْءُ بنفسه وَمرَّهُ غَيْرُهُ ؛ فيكون متعدياً ولازماً، ويقال : أَمَرَّهُ أيضاً.
وقال أبو العالية والضحاك : مستمر أي قويّ شديد، من قولهم : مَرَّ الحَبْل إذا صلب واشتد، وأَمْرَرْتُهُ إذا أحكمت فَتْلَهُ، واسْتَمرَّ إذا قَوِيَ واسْتَحكَمَ، قال لقيط - ( رحمةُ اللَّهِ٤ عليه - ) :
حَتَّى اسْتَمَرَّتْ عَلَى شَزْرٍ مَرِيرَتُهُ صِدْقُ٥ الْعَزِيمَةِ لاَ رَتًّا وَلاَ ضَرَعا٦
والمراد بقوله :«آيةً » هي اقتراب الساعة، فإن انشقاق القمر من آياته، وقد رأوه٧ وكذبوا فإن يروا غيرها أيضاً يعرضون، أو آية٨ النبوة فإنه معجزة. أما كونه معجزةً ففي غاية الظهور، وأما كونه آية فلأن منكر خراب العالم ينكر انشقاق السماء، وانفطارها، وكل كوكب، فإذا انشق بعضها كان ذلك مخالفاً لقوله بجواز خراب العالم٩ والمُرَاد بهؤلاء القائلين المعرضين هم الكفار. والتنكير في قوله ( آية ) للتعظيم أي آية قوية أو عظيمة يُعْرِضُوا.
قال أبو حيان : ومعنى مستمر أي يشبه بعضه بعضاً أي اشتهرت أفعاله على هذا الحال١٠. وهذا راجع إلى الدوام المتقدم. وأتى بهذه الجملة الشرطية تنبيهاً على أن حالهم في المستقبل كحالهم في الماضي.
وقرئ : يُرَوْا مبنيًّا للمفعول من أَرَى١١.
١ قال: مستمر دائم مطرد وكل شيء قد انقادت طريقته ودامت حاله قيل فيه: قد استمر؛ لما رأوا تتابع المعجزات وترادف الآيات قالوا هذا سحر مستمر. وقيل: مستمر: قوي محكم من قوله: استمر مريره وانظر الكشاف ٤/٣٦..
٢ من الطويل لامرئ القيس. وأتى به شاهدا على أن المستمر بمعنى الدائم والباقي. وانظر القرطبي ١٧/١٢٧ والبحر ٨/١٧٤ وفتح القدير ٥/١٢٠ والديوان ١٠٩..
٣ في الكشاف: كما لا يساغ المر الممقر. وانظر الكشاف ٤/٣٦..
٤ زيادة من (أ) وانظر اللسان مرر ٤١٧٦..
٥ كذا في البحر وفي القرطبي: مر..
٦ من البسيط وروي "قحما" بدل رتًّا. والرتة ردة قبيحة في اللسان من العيب، والقحم الشيخ الهرم يعتريه خرق وخرف والضرع اللين الذليل.
وجاء بالبيت ليبين أن المراد من المستمر القوة والاستحكام من المِره وهي القوة. وقد سبق هذا البيت أول النجم. وانظر القرطبي ١٧/٨٦، و١٢٧ والبحر ٨/١٧٤ وفتح القدير ٥/١٢٠..

٧ في الرازي: وقد ردوا وكذبوا..
٨ وفيه: آية الانشقاق..
٩ انظر الرازي ١٥/٣٠..
١٠ في البحر: على هذا الوجه. وهو رأي نقله في كتابه فقد أقر بأن معنى مستمر دائم، وانظر البحر ٨/١٧٣ و١٧٤..
١١ لم تتعين في المرجع السابق..
قوله :﴿ وَكَذَّبُواْ واتّبعوا أَهْوَاءَهُمْ ﴾ أي كذبوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وما عاينوه من قدرة الله عزّ وجلّ، واتبعوا ما زين لهم الشيطان من الباطل وكذبوا بالآية وهي انشقاق القمر، «وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ » في أنه سحر القمر، وأنه خسوف في القمر، وظهور شيء في جانب آخر من الجو يشبه نصف القمر، وأنه سحر أعيننا والقمر لم يصبه شيء، فهذه أهواؤهم.
قوله :﴿ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ ﴾ العامة على كسر القاف، ورفع الراء اسم فاعل، ورفعه خبراً «لكل » الواقع مبتدأ. وقرأ شيبة بفتح القاف وتروى عن نافع١.
قال أبو حاتم : لا وجه لها، وقد وجهها غيره على حذف مضاف أي وكل أمر ذو استقرار، وزمان استقرار، أو مكان استقرار٢، فجاز أن يكون مصدراً٣، وأن يكون ظرفاً زمانياً أو مكانياً٤ قال معناه الزمخشري٥. وقرأ أبو جعفر وزيد بن علي بكسر٦ القاف وجر الراء. وفيها أوجه :
أحدها - ولم يذكر الزمخشري غيره - : أن تكون صفة لأَمْر، ويرتفع «كُلّ » حينئذ بالعطف على «الساعة » فيكون فاعلاً أي اقتربت الساعة وكل أمر مستقر.
قال أبو حيان : وهذا بعيد لوجود الفصل بجمل ثلاث، وبعيد أن يوجد مثل هذا التركيب في كلام العرب، نحو :«أَكَلْتُ خُبْزاً، وضَرَبْتُ خَالِداً »٧ وأن يجيء : زيداً أكرمه ورحل إلى بني فلان ولحماً فيكون «ولحماً » معطوفاً على «خبزاً » بل لا يوجد مثله في كلام العرب. انتهى٨.
قال شهاب الدين٩ : وإذا دل دليل على المعنى فلا يبالى بالفواصل، وأين فصاحة القرآن من هذا التركيب الذي ركبه هو حتى يقيسه عليه في المنع ؟
الثاني : أن تكون «مستقراً » خبراً «لِكُلّ أَمْر ». وهو مرفوع، إلا أنه خُفِضَ على الجِوَارِ. قاله أبو الفضل الرازي١٠.
وهذا لا يجوز، لأن الجِوَارَ إنما جاء في النعت أو العطف على خلاف في إتيانه كما تقدم في سورة المائدة فكيف يقال به في خبر المبتدأ ؟ هذا ما لا يجوز١١.
الثالث : أن خبر المبتدأ قوله :«حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ » أخبر عن ﴿ كُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ ﴾ بأنه حكمة بالغة ويكون قوله :﴿ وَلَقَدْ جَاءَهُم مِنَ الأنباء مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ ﴾ جملة اعتراض بين المبتدأ أو خبره١٢.
الرابع : أن الخبر مقدر١٣ ؛ فقدره أبو البقاء : معمول به أو أتى١٤ وقدره غيره : بالغوه١٥ ؛ لأن قبله ﴿ وكذبوا واتبعوا أهواءهم ﴾ أي وكل أمر مستقر، أي لكل أمر حقيقة ما كان منه في الدنيا١٦ فسيظهر وما كان منه في الآخرة فسيعرف. وقال قتادة : وكل أمر مستقر فالخير مستقر بأهل الخير، والشر بأهل الشر. وقيل : كل أمر من خير أو شر مستقر قراره، فالخير مستقر بأهله في الجنة والشر مستقر بأهله في النار. وقيل : مستقر قول المصدقين والمكذبين حتى يعْرفوا حقيقته بالثواب والعذاب، وقال مقاتل : لكل حديث منتهى. وقيل : ما قدر كائن لا محالة١٧ وقيل كل أمر مستقر على سنن الحق يثبت، والباطل يَزْهَقُ فيكون ذلك تهديداً لهم وتسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو كقوله تعالى :﴿ ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [ الزمر : ٧ ].
وقيل : كل أمر مستقر في علم الله تعالى لا يخفى عليه شيء، فهم كذبوا واتبعوا أهواءهم، والأنبياء صدقوا وبلغوا، كقوله تعالى :﴿ لاَ يخفى عَلَى الله مِنْهُمْ شَيْءٌ ﴾ [ غافر : ١٦ ] وكقوله :﴿ وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزبر وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرُ ﴾ [ القمر : ٥٢ - ٥٣ ].
وقيل : هو جواب لقوله :«سِحْرٌ مُسْتَمِرّ » أي بل كل أمره مستقر١٨.
١ المرجع السابق وهي شاذة ولم ترو عن نافع في المتواتر..
٢ البحر المحيط المرجع السابق والكشاف ٤/٣٦..
٣ أي ميميًّا من غير الثلاثي..
٤ أو اسم مكان أو زمان ويكونان من غير الثلاثي أيضا..
٥ الكشاف ٤/٣٦..
٦ وقد نقلها صاحب الإتحاف ٤٠٤ والبحر والكشاف المرجعان السابقان كما نقلها صاحب المحتسب ٢/٢٩٧..
٧ في البحر: وضربت زيدا..
٨ وانظر البحر ٨/١٧٤ وقد وافق الزمخشري ابن جني في المحتسب فقال: "رفعه عندي عطف على الساعة أي اقتربت الساعة وكل أمر أي اقترب استقرار الأمور في يوم القيامة..." ثم قال "هذا وجه رفعه والله أعلم" المحتسب ٢/٢٩٧..
٩ الدر المصون مخطوط بمكتبة الإسكندرية لوحة رقم ١٢٠..
١٠ البحر المرجع السابق..
١١ السابق أيضا..
١٢ نقله أبو حيان في البحر المحيط ٨/١٧٤..
١٣ وهو اختيار أبي حيان السابق والقرطبي في الجامع ١٧/١٢٨، وأول وجهي أبي البقاء في التبيان..
١٤ التبيان ١١٩٢..
١٥ وهو تقدير أبي حيان السابق..
١٦ وهذا رأي الكلبي..
١٧ وانظر هذه الأقوال في القرطبي ١٧/١٢٨، والبغوي والخازن ٦/٢٧٣، و٢٧٤..
١٨ وانظر الرازي ١٥/٣٢..
قوله: ﴿وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّنَ الأنبآء﴾ يعني أهل مكة من أخبار الأمم المكذبة والقرآن ﴿مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ﴾ أي مَنَاهِي.
قوله: «مزدجر» يجوز أن يكون فاعلاً ب «فيه» لأن «فيه» وقع صلة وأن يكون مبتدأ، و «فِيهِ» الْخبر. و «الدال» بدل من تاء الافتعال، وأصله مُزْتَجَرٌ، فقُلبت التاء دالاً.
وقد تقدم أن تاء الافتعال تقلب دالاً بعد الزاي، والدال، والذال؛ لأن الزاي حرف مجهور والتاء حرف مهموس، فأبدلوها إلى حرف مجهورٍ قريب من التاء، وهو الدال. و «مزدجر» هنا اسم مصدر أي ازدجاراً، أو اسم مكان أي موضع ازدجار. ومعناه فيه نهي وعظة، يقال: زَجَرْتُهُ وازْدَجَرْتُهُ إذا نهيته عن السوء. وقرىء: مُزَّجَر بِقلب تاء الافتعال زاياً ثم أدغم. وزيد بن علي: مُزْجِر اسم فاعل من أَزْجَرَ صار ذا زَجْرٍ، كَأَعْشَبَ أي صار ذا عُشْبٍ.
والأنباء هي الأخبار العظام التي لها وقع كقول الهدهد ﴿وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ﴾ [النمل: ٢٢]، لأنه كان خبراً عظيماً له وقع وخبر، وقال تعالى: ﴿إِن جَآءَكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ﴾ [الحجرات: ٦] أي بأمر غريب. وإنما يجب التثبُّت فيما يتعلق به حكم ويترتب عليه أمر ذو بال، وقال تعالى: ﴿تِلْكَ مِنْ أَنْبَآءِ الغيب نُوحِيهَآ إِلَيْكَ﴾ [هود: ٤٩]. والمراد بالأنباء هنا أخبار المهلكين المكذّبين.
233
وقيل: المراد القرآن.
قال ابن الخطيب: وفي (ما) وجهان:
الأول: أنها موصولة أي جاءكم الذي فيه مُزْدَجَرٌ.
الثاني: أنها نكرة موصوفة أي جاءكم من الأنباء شيء موصوف بأن فيه مزدجر.
قوله: «حكمة» فيه وجهان:
أحدهما: أنه بدل من ﴿مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ﴾ كأنه قيل: ولقد جاءهم حكمة بالغة من الأنباء، وحينئذ يكون بدل كل من كل، أو بدل اشتمال.
الثاني: أن يكون خبر مبتدأ مضمر، أي هو حكمة بالغةٌ، أي ذلك الذي جاءهم من إرسال الرسل وإيضاح الدلائل، والإنذار لمن مضى، أو إشارة لما فيه الأنباء أنه حكمة، أو إشارة إلى الساعة المقتربة. وقد تقدم أنه يجوز على قراءة أبي جعفر وزيد أن يكون خبراً ل ﴿وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ﴾ [القمر: ٣]. وقرىء «حِكْمَةً» بالنصب حالاً من «ما».
قال الزمخشري: فإن قلت: إن كانت «ما» موصولة ساغ لك أن تنصب «حكمة» حالاً فكيف تعمل إن كانتْ موصوفة وهو الظاهر؟
قلت: تَخَصُّصها بالصفة فيحسن نصب الحال عنها. انتهى.
وهو سؤال واضح؛ لأنه يصير التقدير: جاءهم من الأنْبَاء شيء فيه ازدجار فيكون منكراً، وتنكير ذِي الحال قبيحٌ.
قوله: ﴿فَمَا تُغْنِي النذر﴾ يجوز في «ما» أن تكون استفهامية، وتكون في محل نصب مفعولاً مقدماً أي أَيَّ شَيْء تُغْنِي النذر؟ وأن تكون نافية أي لم تغن النذر شيئاً.
والنذر جمع نَذِير؛ والمراد به المصدر أو اسم الفاعل كما تقدم في آخر النجم. وكتب «تغن» إتباعاً للفظ الوصل، فإنها ساقطة لالتقاء الساكنين.
قال بعض النحويين: وإنما حذفت الياء من «تغني» حملاً لها على «لَمْ» فجزمت
234
كما تجزم «لَمْ». قال مكي، وهذا خطأ، لأن «لم» تنفي الماضي وترُدُّ المستقبل ماضياً، و «ما» تنفي الحال، فلا يجوز أن يقع إحداهما موقع الأخرى لاختلاف مَعْنَيَيْهِمَا.

فصل


المعنى أن القرآن حكمة بالغة تامة قد بلغت الغاية. وقوله: ﴿فَمَا تُغْنِي النذر﴾ إن كانت «ما» نافية فالمعنى أن النذر لم يبعثوا ليغنوا ويلجئوا قومهم إلى الإيمان، وإنما أرسلوا مبلغين كقوله تعالى: ﴿فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ البلاغ﴾ [الشورى: ٤٨] ويؤيد هذا قوله: «فَتَولَّ عَنْهُمْ» وإن كانت استفهامية فالمعنى: وأي شيءٍ تغني النذر إذا خالفوهم وكذبوهم؟ كقوله: ﴿وَمَا تُغْنِي الآيات والنذر عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ﴾ [يونس: ١٠١] أي إنك أتيت بما عليك من الدعوى فكذبوا بها وأنذرتهم بما جرى على المكذبين، فلم يفدهم فهذه حكمة بالغة وما الذي تغني النذر غير هذا فلم يبق عليك شيء آخر؟ فتول عنهم.
235
قوله :«حكمة » فيه وجهان :
أحدهما : أنه بدل من ﴿ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ ﴾ كأنه قيل : ولقد جاءهم حكمة بالغة من الأنباء، وحينئذ يكون بدل كل من كل، أو بدل اشتمال.
الثاني : أن يكون خبر مبتدأ مضمر، أي هو حكمة بالغةٌ١، أي ذلك الذي جاءهم من إرسال الرسل وإيضاح الدلائل، والإنذار لمن مضى، أو إشارة لما فيه الأنباء أنه حكمة، أو إشارة إلى الساعة المقتربة. وقد تقدم أنه يجوز على قراءة أبي جعفر وزيد أن يكون خبراً ل ﴿ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ ﴾. وقرئ «حِكْمَةً » بالنصب حالاً من «ما »٢.
قال الزمخشري : فإن قلت : إن كانت «ما » موصولة ساغ لك أن تنصب «حكمة » حالاً فكيف تعمل إن كانتْ موصوفة وهو الظاهر ؟
قلت : تَخَصُّصها بالصفة فيحسن نصب الحال عنها. انتهى٣.
وهو سؤال واضح ؛ لأنه يصير التقدير : جاءهم من الأنْبَاء شيء فيه ازدجار فيكون منكراً، وتنكير ذِي٤ الحال قبيحٌ.
قوله :﴿ فَمَا تُغْنِي النذر ﴾ يجوز في «ما » أن تكون استفهامية، وتكون في محل نصب مفعولاً مقدماً أي أَيَّ شَيْء تُغْنِي النذر ؟ وأن تكون نافية أي لم تغن النذر شيئاً٥.
والنذر جمع نَذِير ؛ والمراد به المصدر أو اسم الفاعل كما تقدم في آخر النجم٦. وكتب «تغن » إتباعاً للفظ الوصل، فإنها ساقطة لالتقاء الساكنين٧.
قال بعض النحويين : وإنما حذفت الياء من «تغني » حملاً لها على «لَمْ » فجزمت كما تجزم «لَمْ ». قال مكي : وهذا خطأ، لأن «لم » تنفي الماضي وترُدُّ المستقبل ماضياً، و«ما » تنفي الحال، فلا يجوز أن يقع إحداهما موقع الأخرى لاختلاف مَعْنَيَيْهِمَا٨.

فصل


المعنى أن القرآن حكمة بالغة تامة قد بلغت الغاية. وقوله :﴿ فَمَا تُغْنِي النذر ﴾ إن كانت «ما » نافية فالمعنى أن النذر لم يبعثوا ليغنوا ويلجئوا قومهم إلى الإيمان، وإنما أرسلوا مبلغين كقوله تعالى :﴿ فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ البلاغ ﴾٩ [ الشورى : ٤٨ ] ويؤيد هذا قوله :«فَتَولَّ عَنْهُمْ » وإن كانت استفهامية فالمعنى : وأي شيءٍ تغني النذر إذا خالفوهم وكذبوهم ؟ كقوله :﴿ وَمَا تُغْنِي الآيات والنذر عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ ﴾ أي إنك أتيت بما عليك من الدعوى فكذبوا بها وأنذرتهم بما جرى على المكذبين، فلم يفدهم فهذه حكمة بالغة وما الذي تغني النذر غير هذا فلم يبق عليك شيء آخر ؟ فتول عنهم.
١ قال بهذين الوجهين الإعرابيين مكي في المشكل ٢/٣٣٥ والزمخشري في الكشاف ٤/٣٦ وأبو البقاء في التبيان ١١٩٢، وأبو حيان في البحر ١٧٤..
٢ ونسبها أبو حيان لليماني. انظر المرجع السابق والكشاف أيضا..
٣ الكشاف المرجع السابق..
٤ أي صاحب الحال..
٥ أخذه من الكشافِ للزمخشري السابق أيضا..
٦ في قوله: "هذا نذير من النّذُر الأولى"..
٧ الياء وهمزة الوصل..
٨ قاله في مشكل الإعراب له ٢/٣٣٦ و٣٣٥..
٩ وانظر هذا كله في تفسير الإمام الرازي ١٥/٣٣..
قوله: «فتول عنهم» أي أعرض عنهم. قال أكثر المفسرين: نسختها آية السيف. قال ابن الخطيب إن قول المفسرين في قوله: «فَتَوَلَّ» منسوخ ليس كذلك، بل المراد منه لا تُنَاظِرْهُمْ بالكلام.
قوله: ﴿يَوْمَ يَدْعُ الداع﴾ «يوم» منصوب إما ب «اذكر» مضمرةً وهو أقربها. وإليه ذهب الرُّمَّانيُّ، والزمخشري وإما ب «يَخْرُجُونَ» بعده. وإليه ذهب الزمخشري أيضاً، وإما بقوله: «فَمَا تُغْنِ» ويكون قوله: «فَتَوَلَّ عَنْهُمْ» اعتراضاً، وإما منصوباً بقوله: «يَقُولُ الْكَافِرُونَ». وفيه بعدٌ لبعده عنه.
وقيل: تم الكلام عند قوله: ﴿فَمَا تُغْنِ النذر﴾ [القمر: ٥] ويبتدأ بقوله: ﴿فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الداع﴾ فيكون منصوباً بقوله: «فَتَوَلَّ عَنْهُمْ». وهو ضعيف جداً؛ لأن المعنى ليس أمره بالتولية عنهم في يوم النفخ في الصور، وإمَّا منصوب بحذف الخافض أي فتول عنهم إلى يوم. قاله الحسين وضعف من حيثُ اللَّفْظ ومن حيث المعنى أما اللفظ، فلأن إسقاط الخافض غير
235
منقاس، وأما المعنى فليس تَوَلِّيهِ عنهم مُغَيًّا بذلك الزمان، وإما بانْتظرْ مضمراً، فهذه سبعة أوجه في ناصب «يوم». قال القرطبي: أو منصوب ب «خُشَّعاً» أو على حذف حرف الفاء وما عملت فيه من جواب الأمر تقديره: فتول عنهم فإن لهم يوم يدع الدَّاعِ. وقيل: أي تول عنهم يا محمد فقد أقمت الحجة، وأبصرتهم يوم يدع الداع. وقيل: أعرض عنهم يوم القيامة ولا تسأل عنهم وعن أحوالهم فإنهم يدعون إلى شيء نكر وينالهم عذاب شديد كقولك: لا تَسَلْ ما جرى على فلان إذا أخبرته بأمر عظيم.
وقيل: أي وكل أمر مستقر يوم يدع الداعي. وحذفت الواو من «يَدْعُ» خَطًّا اتباعاً للفظ كما تقدم في «تغن» و ﴿وَيَمْحُ الله الباطل﴾ [الشورى: ٢٤] وشبهه. والياء من «الدَّاع» مبالغة في التخفيف إجراء «لأل» مُجْرَى ما عاقبها وهو التنوين، فكما تحذف الياء مع التنوين كذلك مع ما عاقبها.
قوله: «الدَّاعِي» معرف كالمنادي في قوله: ﴿يَوْمَ يُنَادِ المناد﴾ [ق: ٤١] ؛ لأنه معلوم قد أخبر عنه فقيل: إن منادياً ينادي وداعياً يدعو.
قيل: الداعي: إسرافيل ينفخ قائماً على صخرة بيت المقدس، قاله مقاتل.
وقيل: جبريل.
وقيل: ملك يوكَّل بذلك. والتعريف حينئذ لا يقطع حدّ العلمية ويكون كقولنا: جَاءَ رَجُلٌ فَقَال الرَّجُلُ. قاله ابن الخطيب.
قوله: ﴿إلى شَيْءٍ نُّكُرٍ﴾ العامة على ضم الكاف، وهو صفة على فُعُلٍ، وفُعُلٌ في الصِّفات عزيزٌ منه: أمرٌ نُكُرٌ، ورجل شُلُلٌ وناقة أُجُدٌ، ورَوضةٌ أُنُفٌ ومِشْيَةٌ سُجُحٌ.
236
وقرأ ابن كثير بسكون القاف، فيحتمل أن يكون أصلاً، وأن يكون مخففاً من قراءة الجماعة.
وقد تقدم ذلك محرراً في العُسْر واليُسْر في سورة المائدة.
وسمي الشديد نكراً، لأن النفوس تنكره، قال مالك بن عوف:
٤٥٨٣ - أَقْدِمْ نَجَاحُ إنَّه يَوْمٌ نُكُرْ مِثْلِي عَلَى مِثْلِكَ يَحْمِي وَيَكِرْ
وقرأ زيد بن علي والجحدري وأبو قِلاَبَة: نُكِرَ فعلاً ماضياً مبنياً للمفعول، لأن «نكر» يتعدى؛ قال تعالى: ﴿نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً﴾ [هود: ٧٠].

فصل


المعنى إلى شيء منكر فظيع، لم ير مثله فينكرونه استعظاماً، قال ابن الخطيب: وهو يحتمل وجهين:
أحدهما: أن المعنى إلى شيء نكر في يومنا هذا، لأنهم أنكروه أي يوم يدع الداعي إلى الشيء الذي أنكروه يَخْرُجُونَ.
الثاني: أن المعنى منكر أي يقول القائل كان ينبغي أن لا يقع ولا يكون لأن المنكر من شأنه أن لا يوجد يقال: فلان ينهى عن المنكر، وعلى هذا فهو عندهم كان ينبغي أن لا يقع، لأنه يُرْدِيهم في الهاوية.
فإن قيل: ما ذلك الشيء النكر؟
فأجيب: بأنه الحساب، أو الجمع له، أو النشر للجمع.
فإن قيل: النشر لا يكون منكراً، فإنه إحياء، لأن الكافر من أين يعرف وقت النشر ما يجري عليه لينكره.
فالجواب: أنه يعلم ذلك لقوله تعالى عنهم: ﴿ياويلنا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا﴾ [يس: ٥٢].
قوله: «خَاشِعاً أَبْصَارُهُمْ» قرأ أبو عمرو والأخوان خاشعاً، وباقي السبعة خُشَّعاً، فالقراءة الأولى جارية على اللغة الفصحى من حيث إنَّ الفعلَ وما جرى مجراه إذا قدم على الفاعل وُحِّدَ تقول: تَخْشَعُ أَبْصَارُهُمْ، ولا تقول: يَخْشَعْنَ أَبْصَارُهُمْ، وأنشد (- رحمةُ الله عليه -) :
237
٤٥٨٥ - وَشَبَابٍ حَسَنٍ أَوْجُهُهُمْ مِنْ إِيَادِ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدْ
وقال آخر:
٤٥٨٥ - تَلْقَى الفِجَاجَ بِهَا الرُّكْبَانُ مُعْتَرِضاً أَعْنَاقَ بُزَّلِهَا مُرْخًى لَهَا الْجُدُلُ
وأما الثانية فجاءت على لغة طَيِّىءٍ، يقولون: أَكَلُونِي الْبَرَاغِيثُ، وقد تقدم القول على ذلك في المائدة والأنبياء ومثله قوله:
٤٥٨٦ - بِمُطَّرِدٍ لَدْنٍ صِحَاحٍ كُعُوبُهُ وَذِي رَوْنَقٍ عَضْبٍ يَقُدُّ الْقَوَانِسَا
قيل: وجمع التكسير في اللغة في مثل هذا أكثر من الإفراد. وقرأ أبيّ وعبد الله: خَاشِعَةً على تَخْشَعُ هِيَ.
وقال الزمخشري: و «خُشَّعاً» على يَخْشَعْنَ أبْصَارُهُمْ. وهي لغة من يقول: أَكَلُوني البراغيثُ وهي طيىء.
قال أبو حيان: ولا يجري جمع التكسير مَجْرى جمع السلامة فيكون على تلك اللغة النادرة القليلة. وقد نص سيبويه على أن جمع التكسير أكثر في كلام العرب فكيف يكون أكثر ويكون على تلك اللغة القليلة؟ وكذا قال الفراء حين ذكر الإفْراد مذكراً
238
ومؤنثاً وجمع التكسير، قال: لأن الصِّفة متى تقدمت على الجماعة جاز فيها ذلك، والجمع موافق للفظها فكان أشْبَه.
قال أبو حيان: وإنما يخرج على تلك اللغة إذا كان الجمعُ جمعَ سلامة نحو: مَرَرْتُ بقَوْمٍ كريمين آباؤهم والزمخشري قاس جمع التكسير على جمع السلامة وهو قياس فاسد يرده النقل عن العرب أن جمع التكسير أجود من الإفراد كما ذكره سيبويه ودل عليه كلام الفراء.
قال شهاب الدين: وقد خرج الناس قول امرىء القيس:
٤٥٨٧ - وُقُوفاً بِهَا صَحْبِي عَلَى مَطِيِّهِمْ... يَقُولُون: لاَ تَهْلَكْ أَسًى وَتَجمَّلِ
على أن صحبي فاعل ب «وُقُوفاً» وهو جمع «واقف» في أحد القولين في «وُقُوفاً».
وفي انتصاب «خاشعاً وخشعاً وخاشعة» أوجهٌ:
أحدها: أنه مفعول به وناصبه (يَدْعُ الدَّاعِ). وهو في الحقيقة (صفة) لموصوف محذوف تقديره فَرِيقاً خَاشِعاً أو فَوْجاً خَاشِعاً.
والثاني: أنه حال من فاعل (يَخْرُجُونَ) المتأخر عنه، ولما كان العامل متصرفاً جاز تقدم الحال عليه، وهو رد على الجَرْمي، حيث زعم أنه لا يجوز، ورد عليه أيضاً بقول العرب: (شَتَّى تَؤُوبُ الحَلْبةُ) «فشتى» حال من الحَلْبة، وقال الشاعر:
239
الثالث: أنه حال من الضمير في (عَنْهُمْ). ولم يذكر مَكّيّ غيره.
الرابع: أنه حال من مفعول (يَدْعُو) المحذوف تقديره: يَوْمَ يَدْعُوهُمُ الدَّاعي خُشَّعاً؛ فالعامل فيها (يدعو). قاله أبو البقاء. وارتفع أبصارهم على وجهين:
أظهرهما: الفاعلية بالصفة قبله.
الثاني: على البدل من الضمير المستتر في (خُشَّعاً) ؛ لأن التقدير خُشَّعاً هُمْ، وهذا إنما يأتي على قراءة خشعاً فقط.
وقرىء خُشَّعٌ أَبْصَارُهُمْ على أن «خشعاً» خبر مقدم، و «أبصارهم» مبتدأ، والجملة في محل نصب على الحال وفيه الخلاف المذكور من قبل كقوله:
٤٥٨٩ -......................... وَجَدْتُهُ حَاضِرَاه الجُودُ وَالْكَرَمُ

فصل


قال ابن الخطيب، لما حكى نصب «خاشعاً»، قال: إنه منصوب على أنه مفعول بقوله: «يَدْعُو» أي يَوْمَ يَدْعُو الدَّاعِي خُشَّعاً.
فإن قيل: هذا فاسد من وجوه:
أحدها: أن الشخص لا فائدة فيه؛ لأن الداعي يدعو كل أحدٍ.
ثانيها: قوله: ﴿يَخْرُجُونَ مِنَ الأجداث﴾ بعد الدعاء فيكونون خشعاً قبل الخروج وهو باطل.
ثالثهما: قراءة خاشعة تبطل هذا!
نقول: أما الجواب عن الأول فإن قوله: ﴿إلى شَيْءٍ نُّكُرٍ﴾ يدفع ذلك، لأن كل أحد لا يدعى إلى شيء نكر، وعن الثاني المراد من الشيء النكر الحساب العسير يوم يدع الداعي إلى الحساب العسير خشعاً ولا يكون العامل في (يوم) يدعو «يَخْرُجُونَ» بل «اذكروا» و ﴿فَمَا تُغْنِ النذر﴾ [القمر: ٥] كقوله تعالى: ﴿فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشافعين﴾ [المدثر: ٤٨]
240
ويكون: «يَخْرُجُونَ» ابتداء كلام، وعن الثالث أنه لا منافاة بين القراءتين وخاشعاً نصب على الحال أو على أنه مفعول يدعو كأنه يقول: يدعو الداعي قوماً خاشعاً أبصارهم.
(والخشوع) السكون كما قال تعالى: ﴿وَخَشَعَتِ الأصوات﴾ [طه: ١٠٨]، وخشوع الأبصار سكونها على حال لا تتلفّت يمنة ولا يسرة كما قال تعالى: ﴿لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ﴾ [إبراهيم: ٤٣]. وقيل: خاشعة أي ذليلة خاضعة عند رؤية العذاب.
قوله: (يَخْرُجُونَ) يجوز أن يكون حالاً من الضمير في: (أبصارهم) وأن يكون مستأنفاً. والأجداث القبور وقد تقدم في يس.
وقوله: (كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ) هذه الجملة يجوز أن تكون حالاً من فاعل «يخرجون» أو مستأنفة. ومثلهم بالجراد المنتشر في الكثرة والتَّمَوج. وقيل: معنى منتشر أي منبث حَيَارَى.
ونظيره قوله تعالى: ﴿كالفراش المبثوث﴾ [القارعة: ٤]. والمعنى: أنهم يخرجون فزعين لا جهة لأحد منهم يقصدها كالجراد ولا جهة تكون مختلطةً بعضُها في بعض، وذكر المنتشر على لفظ الجراد.
قال ابن الخطيب: ويحتمل أن يقال: المنتشر مطاوع نَشَرَهُ إذا أحياه، قال تعالى: ﴿ثُمَّ إِذَآ أَنتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ﴾ [الروم: ٢٠] فكأنهم جراد متحرك من الأرض (و) يدب إشارة إلى كيفية خروجهم من الأجداث وضعفهم.
وقال القرطبي: قوله (تعالى) :﴿كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ مُّهْطِعِينَ إِلَى الداع﴾ وقال في موضع آخر: ﴿يَوْمَ يَكُونُ الناس كالفراش المبثوث﴾ [القارعة: ٤] فهما صفتان في وقتين مختلفين أحدهما عند الخروج من القبور يخرجون فزعين لا يهتدون (إلى) أين يتجهون فيدخل بعضهم في بعض فهم حينئذ كالفراش المبثوث بعضهم في بعض لا جهة له يقصدها فإذا سمعوا المنادي قصدوه فصاروا كالجراد المنتشر، لأن الجراد المنتشر لها جهة يقصدها.
قوله: «مُهْطِعِينَ» حال أيضاً من اسم كان، أو من فاعل «يَخْرُجُونَ» عند من يرى تَعَدُّدَ الحال. قال أبو البقاء: و «مهطعين» حال من الضمير في «مُنتَشِرٍ» عند قوم، وهو
241
بعيد؛ لأن الضمير في منتشر للجراد وإنما هو حال من فاعل «يخرجون» أو من الضمير المحذوف. انتهى.
وهو اعتراض حسن على هذا القول.
والإهطاع الإسراع وأنشد:
٤٥٨٨ - سَرِيعاً يَهُونُ الصَّعْبُ عِنْدَ أُولِي النُّهَى إذَا بِرَجَاءٍ صَادِقٍ قَابَلُوا الْبَأسَا
٤٥٩٠ - بِدِجْلَةَ دَارُهُمْ وَلَقَدْ أَرَاهُم بِدِجْلَةَ مُهْطِعِينَ إلَى السَّمَاعِ
وقيل: الإسراع مع مد العنق. وقيل: النظر. قاله ابن عباس وأنشدوا (- رحمة الله على من قال -) :
٤٥٩١ - تَعَبَّدَنِي نِمْرُ بْنُ سَعْدٍ وَقَدْ أَرَى وَنِمْرُ بْنُ سَعْدٍ لِي مُطِيعٌ وَمُهْطِعُ
وقد تقدم الكلام على هذه المادة في سورة إبراهيم.
قال الضحاك: مضلين. وقال قتادة: عامدين. وقال عكرمة: فاتحين آذانهم إلى المصوت.
قوله: «يَقُولُ الْكَافِرُونَ» قال أبو البقاء: حال من الضمير في «مُهْطِعِينَ».
وفيه نظر من حيث خُلُوُّ الجملة من رابط يربطها بذي الحال، وقد يجاب بأن الكافرين هم الضمير في المعنى فيكون من باب الربط بالاسم الظاهر عند من يرى ذلك كأنه قيل: يقولون هذا. وإنما أبرزهم تشنيعاً عليهم بهذه الصفة القبيحة.
وقولهم: ﴿هذا يَوْمٌ عَسِرٌ﴾ أي صعبٌ شديد.
242
قوله: «كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ» مفعوله محذوف أي كذبت الرُّسُلَ؛ لأنهم لما كذبوا نوحاً فقد كذبوا جميع الرسل. ولا يجوز أن تكون المسألة من باب التنازع؛ إذ لو كانت منه لكان التقدير: كذبت قبلهم قومُ نوح عَبْدَنا فكذبوه ولو لفظ بهذا لكان تأكيداً؛ إذ لم يفد غير الأول، وشرط التنازع أن لا يكون الثاني تأكيداً، ولذلك منعوا أن يكون قوله:
٤٥٩٢ -.......................... أَتَاكِ أَتَاكِ اللاَّحِقُونَ احْبِسِ احْبِسِ
من ذلك.
وفي كلام الزمخشري ما يجوزه، فإنه أخرجه عن التأكيد، فقال: فإن قلت: ما معنى قوله «فَكَذَّبُوا» بعد قوله: «كَذَّبَتْ» ؟
قلت: معناه كذبوا فكذبوا عبدنا أي كذبوا تكذيباً عقب تكذيب كلما مضى منهم قَرْنٌ مُكَذِّبٌ تبعه قرن مُكَذِّبٌ. هذا معنى حسن يسوغ معه التنازع.

فصل


لما فرغ من حكاية كلام الكافر، ومن ذكر علامات الساعة أعاد ذكر بعض الأنبياء فقال: كذبت قبلهم قوم نوح أي قبل أهل مكة. واعلم أن إلحاق ضمير المؤنث بالفعل قبل ذكر الفاعل جائزٌ وحسنٌ بالاتفاق وإلحاق ضمير الجمع بالفعل قبيحٌ عند أكثرهم، فلا يجوزون: كَذَّبُوا قَوْمُ نوحٍ ويجوزون: كَذَّبَتْ فما الفرق؟
243
قال ابن الخطيب: لأن التأنيث قبل الجمع، لأن الأنوثة والذكورة للفاعل أمر لا يتبدل، ولم تحصل الأنُوثَةُ للفاعل بسبب فعله بخلاف الجمع، لأن الجمع للفاعلين بسبب فعلهم.
فإن قيل: ما الفائدة في قوله تعالى: ﴿فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا﴾ بعد قوله: «كَذَّبَتْ» ؟
قال ابن الخطيب: الجواب عنه من وجوه:
الأول: أن قوله «كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ» أي بآياته فكذب هؤلاء عبدنا بآية الانشقاق فَكذَّبُوكَ.
الثاني: كذبت قوم نوح المرسلين وقالوا لم يبعث الله رسولاً وكذبوهم في التوحيد فكذبوا عبدنا كما كذبوا غيره؛ وذلك لأن قومَ نوح كانوا مشركين يعبدون الأصنام ومن يعبد الأصنام يكذب كُلَّ رسول، وينكر الرسالة، لأنَّه يقول: لا تعلق لله بالعالم السُّفْلِيِّ، وإنما أمره إلى الكواكب فكان مذهبهم التكذيبَ فكذَّبُوك.
الثالث: أن قوله تعالى: ﴿فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا﴾ للتصديق والرد عليهم تقديره: كذبت قوم نوح فكان تكذيبهم تكذيب عبدنا أي لم يكن تكذيباً بحق.
فإن قيل: لو قال: فكذبوا رسولنا كان أدلَّ على قُبْحِ فعلهم فما الفائدة في اختيار لفظ العبد؟
فالجواب: أن قوله: عَبْدَنَا أدلّ في صدقه وقبح تكذيبهم من قوله: «رسولنا» ؛ لأن العبد أخوف وأقلّ تحريفاً لكلام السيِّد من الرسول فيكون كقوله: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين﴾ [الحاقة: ٤٤ - ٤٥].
قوله: «وَقَالُوا مَجْنُونَ» مجنون خبر ابتداء مضمر أي هُو مجنون، وهذا إشارة إلى أنه أتى بالآيات الدالة على صدقه حيث رأوا ما عجزوا عنه، وقالوا مصاب الجن أو زيادة بيان لقُبْح صنيعهم حيث لم يَقْنَعُوا بتكذيبهم بل قالوا: مجنون أي تَقَوَّل ما لا يقبله عاقلٌ والكاذب العاقل يقول ما يظن به صدقهُ، فيكون قولهم: مَجْنُونٌ مبالغة في التَّكْذِيبِ.
قوله: «وَازْدُجِرَ» الدال في «ازدجر» بدل من تاء لِمَا تَقَدَّمَ.
وهل هو من مقولهم أي قالوا إنه ازدجر أي ازْدَجَرَتْهُ الجِنُّ وذهبت بُلبِّه - قاله مجاهد - أو هو من كلام الله تعالى أخبر عنه بأنه انتُهِزَ وزجر بالسبِّ وأنواع الأذى؟ وَقَالوا «لِئَنْ لَمْ تَنْتَهِ لَتَكُونَنَّ مِنَ المَرْجُومِينَ». قال ابن الخطيب: وهذا أصح؛ لأن المقصود تقوية قلب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بذكر من تقدمه، وأيضاً ترتب عليه قوله تعالى: ﴿فَدَعَا رَبَّهُ﴾، وهذا الترتب في غاية
244
الحسن، لأنهم لَمَّا زَجَرُوهُ وانْزَجَرَ هو عن دعائهم دعا ربه أَنِّي مَغْلُوبٌ.
قوله: «أَنِّي مغلوب» العامة على فتح الهمزة؛ أي دعا بأَنِّي مغلوبٌ، وجاء بهذا على حكاية المعنى ولو جاء على حكاية اللفظ لقال: إنِّي مغلوب وهما جائزان.
وعن ابن أبي إسحاق والأعمشِ - ورُوِيَتْ عن عاصمٍ - بالكسر إما على إضمار القول، أي فقال فسّر به الدعاء، وهو مذهب البَصْريّين، وإما إجراء للدعاء مُجْرَى القول. وهو مذهب الكوفيين.

فصل


في معنى مغلوب وجوه:
أحدها: غلبني الكفار فانْتَصْر لي منهم.
ثانيها: غَلَبَتْنِي نَفْسِي وَحَمَلَتْنِي على الدعاء عليهم، فانْتَصِرْ لي من نفسي. قاله ابن عطية. وهو ضعيف.
ثالثها: أن يقال: إِنَّ النبي لا يدعو على قومه ما دام في نفسه احْتِمَالٌ وحِلْمٌ، واحتمال نفسه يمتد ما دام الإيمان منهم محتملاً، ثم إنَّ يأسه يحصل والاحتمال والحلم يفر الناس مدة بدليل قوله لمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ﴾ [الشعراء: ٣] ﴿فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ﴾ [فاطر: ٨] وقال لنُوحٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: ﴿وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الذين ظلموا إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ﴾ [هود: ٣٧] و [المؤمون: ٢٧] فقال نوح: يا إِلهي إن نفسي غلبتني وقد أمَرْتَنِي بالدُّعاء عليهم فأهلكتهم فيكون معناه مغلوب بحكم البشرية أي غُلبت وعِيلَ صَبْرِي فانْتَصِرْ لي منهم لا من نفسي.
قال ابن الخطيب: وهذا الوجه مُرَكَّبٌ من الوجهين. وهو أحسنهما.
وقوله: «فَانْتَصِرْ» أي فانتصر لِي أو لنفسك، فإِنهم كفروا بك، أو انتصر للحَقِّ.
قوله: (فَفَتَحْنَا) تقدم الخلاف في فتحنا في الأنعام. والمراد من الفتح والأبواب والسماء حقائقها وأن للسماء أبواب تُفْتَحُ وتُغْلَقُ.
245
قال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: هي المَجَرَّة وهي شرع السماء ومنها فتحت بماء منهمر. وقيل: هذا على سبيل الاستعارة؛ فإِن الظاهر أن الماء كان من السحاب فهو كقول القائل في المطر الوابل: «جَرَتْ مَيَازِيبُ السَّمَاء».
وفي قوله: «فَفَتَحْنَا» بيان بأن الله انْتَصَرَ منهم، وانتقم بماء لا بجُنْدٍ أنزله ومن العجب أنهم كانوا يطلبون المطر سنين، فأهلكهم الله بمَطْلُوبِهِمْ.
قوله: (بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ) في الباء وجهان:
أظهرهما: أنها للتعدية ويكون ذلك على المبالغة في أنه جعل الماء كالآلة المُفْتَتَحِ بها، كما تقول فَتَحْتُ بالمَفَاتِيحِ.
والثاني: أنها للحال أي فتحناها ملتبسةً بهذا الماء والمُنْهَمرُ: الغزير النازل بقوة. وأنشد امرؤ القيس:
٤٥٩٣ - رَاحَ تَمْرِيهِ الصَّبَا ثُمَّ انْتَحَى فِيهِ شُؤْبُوب جَنُوبٍ مُنْهَمِرْ
واستعير ذلك في قولهم: هَمَرَ الرَّجُلُ في كلامه إذا أكثر الكلام وأسرع، وفلانٌ يُهَامِرُ الشيء أي يحرفه، وهَمَّرَ لَهُ من ماله أعطاه بكَثْرَة.
والمنهمر الكثير قاله السُّدِّيُّ (رحمة الله عليه) قال الشاعر:
٤٥٩٤ - أَعَيْنَيَّ جُودَا بالدُّمُوعِ الهَوَامِرِ عَلَى خَيْرِ بَادٍ مِنْ معَدٍّ وَحَاضِرِ
قال المفسرون: معنى منهمر أي منصب انْصباباً شديداً. قال ابن عباس: منهمر من غير سحاب لم ينقطع أربعين يوماً. وقيل: ثمان.
قوله: «وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ» قرأ عبد الله وأبو حيوة وعَاصِم - في روايةٍ - وفَجَرْنا مخففاً. والباقون مثقلاً.
246
وقوله: «عُيُوناً» فيه أوجه:
أشهرها: أنه تمييز أي فَجَّرْنَا عُيُونَ الأَرْضِ، فنقله من المفعولية إلى التمييز كما نقل من الفاعلية. ومنعه بعضهم على ما سيأتي.
وقوله: ﴿وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُوناً﴾ أبلغ من فَجَّرْنَا عُيُونَ الأَرْضِ، لما ذكر في نظيره مراراً.
الثاني: أنه منصوب على البدل من الأرض، ويُضْعِفُ هذا خلوّه من الضمير، فإِنه بدل بعض من كل ويجاب عنه بأنه محذوف أي عيوناً منها كقوله: «الأُخْدُودِ النَّارِ»، فالنار بدل اشتمال ولا ضمير فهو مقدر.
الثالث: أنه مفعول ثان؛ لأنه ضمن فَجَّرْنَا معنى صَيَّرْنَاهَا بالتفجير عُيُوناً.
الرابع: أنها حال، وفيه تجوز حذف مضاف أي ذَات عُيُونٍ، وكونها حالاً مقدرةً لا مقارنةً. قال ابن الخطيب: قوله ﴿وفجرنا الأرض عيوناً﴾ فيه من البلاغة ما ليس في قول القائل: وَفجَّرْنا من الأرض عيوناً.
وقال: وفجرنا الأرض عيوناً، ولم يقل: فَفَتَحْنَا السَّمَاءَ أبواباً؛ لأن السماء أعظمُ من الأرض وهي للمبالغة، وقال: أبواب السماء ولم يقل: أنابيب ولا منافذ ولا مَجَاري. أما قوله تعالى: ﴿فَجَّرْنَا الأرض عُيُوناً﴾ فلا غنى عنه لأن قول القائل: فجرنا من الأرض عيوناً يكون حقيقة لا مبالغة فيه ويكون في صحة ذلك القول أن يحصل في الأرض عيونٌ ثلاثٌ ولا يصلح مع هذا في السَّمَاءِ ومِيَاهِهَا.

فصل


قال ابن الخطيب: العُيُون جمع عَيْنٍ وهي حقيقية في العين التي هي آلة الإبصار ومجاز في غيرها أما في عيون الماء فلأنها تشبه العين الناظرة التي يخرج منها الدمع، لأن الماء الذي في العين كالدمع الذي في العين وهو مجاز مشهور صار غالباً حتى لا يفتقر
247
إلى قرينةٍ عند الاستعمال فكما لا يحمل اللفظ على العين الناظرة إلا بقرينة كذلك لا يحمل على الفَوَّارَةِ إلا بقرينة، مثل شَرِبْتُ مِنَ العَيْنِ واغْتَسَلْتُ مِنْهَا ونحوه.
فإِن قيل: من أين علمت أن العين حقيقة في الناظرة؟.
قلنا: لأن الأفعال أخذت منه، ولم تؤخذ من اليُنْبُوع، فيقال: عَانَهُ يَعِينُهُ إذا أصابه بالعين وعَايَنهُ مُعَايَنَةً وعِيَاناً.
قال عُبَيْدُ بْنْ عُمَيْرٍ: أوحى الله تعالى إلى الأرض أن تُخْرِجَ ماءها فتفجرت بالعيون وأي عين تأخرت غضب عليها فجعل ماءها مُرًّا إلى يوم القيامة.
قوله: «فَالتَقَى المَاءُ» لما كان المراد بالماء الجنس صَحَّ أن يقال: فَالْتَقَى الماءُ كأنه قال: فالتقى ماءُ السماء وماءُ الأرض. وهذه قراءة العامة. وقرأ الحسن والجَحْدَريُّ ومُحَمَّد بن كَعْب وتروى عن أمير المؤمنين أيضاً: «المَاءَانِ» تثنية والهمزة سالمة أي النوعان منه ماء السماء وماء الأرض؛ لأن الالتقاء إنما يكون بين اثنين. وقرأ الحسن أيضاً: «المَاوَانِ» بقلبها واواً، وهي لغةَ طيِّىءٍ. قال الزمخشري كقولهم: عِلْبَاوَانِ، يعني أنه شبه الهمزة المنقلبة عن هاء بهمزة الإِلحاق.
وروي عنه أيضاً المَايَان بقلبها ياء، وهي أشدُّ مما قبلها.
قوله: «قَدْ قُدِرَ» العامة على التخفيف. وقرأ ابن مِقْسِم وأبو حيوة بالتشديد. هما لغتان قرىء بهما في قوله: ﴿قَدَّرَ فهدى﴾ [الأعلى: ٣] ﴿فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ﴾ [الفجر: ١٦] كما سيأتي.

فصل


قيل: معنى قد قدر أي حال قدرها الله كما شاء قضى عليهم في أُمّ الكتاب. وقال مقاتل: قدَّر الله أن يكون الماءانِ سواءً، فكانا على ما قَدَّره. وقيل: على مَقَادِير؛ وذلك لأن المفسّرين اختلفوا، فمنهم من قال كان ماء السماء أكثر، ومنهم من قال: ماء الأرض. ومنهم من قال: كانا متساوِيَيْن، فقال على مقدار كان وقال قتادة: قدر لهم إذا كفروا أن يغرقوا.
248
قال ابن الخطيب: ويحتمل أن يقال: التقى الماء أي اجتمع على أمر هلاكهم وهو كأنه مقدور (مقدر). وفيه رد على المنجِّمين الذين يقولون: إن الطوفان كان بسبب اجتماع الكواكب السبعة في برج مائيّ والغرق لم يكن مقصوداً بالذات وإنما ذلك أمر لزم من الطوفان الواجب وقوعه، فرد الله عليهم بأنه لم يكن ذلك إلا لأمر قد قُدِرَ، ويدل عليه أن الله تعالى أوحى إلى نوح بأنهم مُغْرَقُونَ.
قوله: ﴿وَحَمَلْنَاهُ على ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ﴾ أي سفينة ذاتِ ألواح. قال الزمخشري: وهي من الصفات التي تقوم مقام الموصوفات فتنوب منابَها وتؤدي مُؤَدَّاها بحيث لا يُفْصَلُ بينها وبينها ونحوه:
٤٥٩٥ -......................... وَلَكن قَمِيصي مَسْرُودَة مِنْ حَدِيدِ
أراد ولكن قميصي درع، وكذلك:
٤٥٩٦ -......................... وَلَوْ فِي عُيُون النَّازِيَاتِ بِأَكْرُعِ
أراد ولو في عيون الجرار، ألا ترى أنك لو جمعت بين الصفة وبين هذه الصفة، أو بين الجرار والدرع وهاتين الصفتين لم يصح. وهذا من فصيح الكلام وبَدِيعِهِ.
والدُّسُر، قيل: المسامير جمع دِسَارٍ، نحو كُتُب في جمع كِتاب وقال الزمخشري: جمع دِسَارة، وهو المِسْمَارُ فعالة من دسره إذا دفعه، لأنه يدسر به منفذه.
وقال الراغب: الواحد دَسْرٌ فيكون مثل سَقْف وسُقُف وقال البغوي: واحدها دِسَار ودَسِيرٌ.
249
وأصل الدسر الدفع الشديد بقهر (و) دَسَرَهُ بالرمح. ومُدْسِر مثل مُطْعِن وروي: ليس في العنبر زَكاة إنَّما هُوَ شَيءٌ دَسَرَهُ البَحْرُ أي دفَعَهُ.
وقيل: إنها الخيوط التي تشد بها السفن. وقيل: هي عراض السفينة وقيل: أضلاعها. وقال الحسن الدسر صدر السفينة، سميت بذلك لأنها تَدْسُرُ الماء بجؤجؤها أي تدفع. وقال الضحاك: الدسر أَلْوَاحُ جَانِبَيْهَا.
قوله: «تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا» أي بمَرْأى منَّا. وقال مقاتل: بأعيننا أي بحفظنا، لقولك: اجْعَل هذا نصب عينك. وقيل: بالأعين النابعة من الأرض. وقيل: بأعين أوليائنا من الملائكة. فقوله: بأعيننا أي ملتبسة بحفظنا، وهو في المعنى كقوله تعالى: ﴿وَلِتُصْنَعَ على عيني﴾ [طه: ٣٩].
وقرأ زيد (بن) علي وأبو السَّمَّال بأَعْيُنَّا بالإدغام. وقال سفيان: معناه بأمرنا.
قوله: (جزاء) منصوب على المفعول له، نَاصبُهُ (فَفَتَّحْنَا) وما بعده.
وقيل: منصوب على المصدر إما بفعل مقدر أي جَازَيْنَاهُم جَزَاءً، وإما على التجوز بأن معنى الأفعال المتقدمة جازيناهم بها جزاءً.
قوله: ﴿لِّمَن كَانَ كُفِرَ﴾ العامة على كُفِرَ مبنيًّا للمفعول، والمراد بمَنْ كُفِرَ: نوح - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أو الباري تعالى.
وقرأ مُسَيْلَمَةُ بْنُ مُحَارِبٍ كُفْرَ بإسكان الفاء، كقوله:
٤٥٩٧ - لَوْ عُصْرَ مِنْهُ المِسْكُ وَالبَانُ انْعَصَرْ...
250
وقرأ يزيد بن رومان وعيسى وقتادة: كَفَرَ، مبنياً للفاعل.
والمراد ب «مَنْ» حينئذ قَومُ نوح. و «كَفَر» خبر كان. وفيه دليل على وقوع خبر كان ماضياً من غير قد. وبعضُهمْ يقول: لا بد من (قد) ظاهرةً أو مضمرة.
ويجوز أن تكون كان مزيدة، وأما كفرهم ففيه وجهان:
أحدهما: أن يكون «كَفَرَ» مثل شَكَرَ تعدى بحرف وبغير حرف، يقال: شَكَرْتُهُ وشَكَرْتُ لَهُ، قال تعالى: ﴿واشكروا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ﴾ [البقرة: ١٥٢].
وقال: ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بالطاغوت﴾ [البقرة: ٢٥٦].
الثاني: أن يكون من الكفر لا من الكُفْرَان أي جزاء لمن ستر أمره وأنكر شأنه، أو جزاء لمن كفر به.

فصل


المعنى فعلنا به من إنجاء نوح وإغراق قومه ثواباً لمن كفر به وجُحِدَ أمره وهو نوح - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -. وقيل: «مَنْ» بمعنى «ما» أي جزاء لما كان كفر من أيادي ونقمة عند الذين غرقهم، وجزاء لما صنع بنوحٍ وأصحابه.
واللام في «لِمَنْ» لام المفعول له. والجزاء هنا بمعنى العقاب أي عقاباً لكفرهم.
قوله: ﴿وَلَقَدْ تَّرَكْنَاهَا آيَةً﴾ ضمير تركناها إمَّا للقصة أو للفِعْلَة التي فعلناها آية يعتبر بها، أو السفينة. وهو الظاهر. والمعنى تركناها أي أبقاها الله بباقِرْدى من أرض الجزيرة آيةً أي عبرة حتى نظرت إليها أوائلُ هذه الأمة، وكانت على الجُوديِّ. وقيل: بأرض الهِنْدِ، ومعنى تركناها أي جعلناها، لأنها بعد الفراغ منها صارت متروكة ومجعولة.
251
قوله: ﴿فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ﴾ أصله «مُدْتَكر» فأبدلت التاء دالاً مهملة، ثم أبدلت المعجمة مهملة لمقارنتها وقد تقدم هذا في قوله: ﴿وادكر بَعْدَ أُمَّةٍ﴾ [يوسف: ٤٥]. وقد قرىء «مُدْتَكِرٍ» بهذا الأصل.
وقرأ قتادة فيما نقل عنه أبو الفضل - مُدَكَّرٍ - بفتح الدال مخففة وبتشديد الكاف، من دَكَّر بالتشديد أي دَكَّر نَفْسَه أو غَيرَه بما بمضى من قصَصِ الأولين.
ونقل عنه ابن عطية كالجماعة إلا أنه بالذَّال المعجمة، وهو شاذ لأن الأَوَّلَ يُقْلَبُ للثَّانِي، لا الثاني للأول.
روى زُهَيْرٌ عن أبي إِسْحَاقَ أنه سمعَ رجُلاً يسأل الأسود: فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ أو مِنْ مذَّكِرٍ، قال: سمعت عبد الله يقرأها: فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ دالاً.

فصل


وهذه الآية إشارة إلى أن الأمر من جانب الرسل قد تَمَّ، ولم يبق إلا جانب المُرْسَلِ إِليهم بأن يتفكروا ويهتدوا. وهذا الكلام يصلح أن يكون حثاً وأن يكون تخويفاً وزجراً، وقال ابن الخطيب: مُدَّكِرٌ مُفْتَعِلٌ من ذَكَرَ يَذْكُرُ وأصله مُذْتكرٌ. وقرأ بعضهم بهذا الأصل. ومنهم من يقلب التاء دالاً. وفي قوله: مدّكِر إشارة إلى قوله: ﴿أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى﴾ [الأعراف: ١٧٢] أي هل ممن يتذكر تلك الحالة؟ وإما إلى وضوح الأمر كأنه جعل للكل آيات الله فنَسُوها، فهل من متذكر يتذكر شيئاً منها؟.
قوله: ﴿فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ﴾ كان الظاهر فيها أنها ناقصة (و) «فَكَيْفَ» خبر مقدم. وقيل: يجوز أن تكون تامة، فتكون «كَيْفَ» في محل نصب إما على الظرف وإِمَّا على الحال كما تقدم تحقيقه في البقرة.
252

فصل


وحذفت ياء الإضافة من «نُذُر» كما حذفت ياء «يَسْر» في قوله تعالى: ﴿والليل إِذَا يَسْرِ﴾ [الفجر: ٤] ؛ وذلك عند الوقف، ومثله كثير، كقوله: ﴿فَإِيَّايَ فاعبدون﴾ [العنكبوت: ٥٦] ﴿وَلاَ يُنقِذُونَ﴾ [يس: ٢٣] ﴿ياعباد فاتقون﴾ [الزمر: ١٦] ﴿وَلاَ تَكْفُرُونِ﴾ [البقرة: ١٥٢] وقرىء بإثبات الياء في: «عَذَابِي ونُذُرِي».
قوله: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن﴾ هيأناهُ «لِلذِّكْرِ» من قولهم: «يَسَّرَ فَرَسَهُ» أي هَيَّأَهُ للركوب بإِلجامه، قال:
٤٥٩٨ - فَقُمْتُ إِلَيْهِ باللِّجَامِ مُيَسِّراً هُنَالِكَ يَجْزِيني الَّذِي كُنْتُ أَصْنَعُ
وقيل: سهلنا القرآن ليتذكر ويعتبر به. وقال سعيد بن جبير: يسرناهُ للحفظ والقراءة، وليس شيء من كتب الله يقرأ كله ظاهراً إلا القرآن.
وقوله: ﴿فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ﴾ مُتَّعِظٍ بمواعظه.
253
وأيضاً ترتب عليه قوله تعالى :﴿ فَدَعَا رَبَّهُ ﴾، وهذا الترتب في غاية الحسن، لأنهم لَمَّا زَجَرُوهُ وانْزَجَرَ هو عن دعائهم دعا ربه أَنِّي مَغْلُوبٌ١.
قوله :«أَنِّي مغلوب » العامة على فتح الهمزة ؛ أي دعا بأَنِّي مغلوبٌ، وجاء بهذا على حكاية المعنى ولو جاء على حكاية اللفظ لقال : إنِّي مغلوب وهما جائزان.
وعن ابن أبي إسحاق والأعمشِ - ورُوِيَتْ عن عاصمٍ٢ - بالكسر إما على إضمار القول٣، أي فقال فسّر به الدعاء، وهو مذهب البَصْريّين، وإما إجراء للدعاء مُجْرَى القول. وهو مذهب الكوفيين٤.

فصل


في معنى مغلوب وجوه :
أحدها : غلبني الكفار فانْتَصْر لي منهم.
ثانيها : غَلَبَتْنِي نَفْسِي وَحَمَلَتْنِي على الدعاء عليهم، فانْتَصِرْ لي من نفسي. قاله ابن عطية. وهو ضعيف٥.
ثالثها : أن يقال : إِنَّ النبي لا يدعو على قومه ما دام في نفسه احْتِمَالٌ وحِلْمٌ، واحتمال نفسه يمتد ما دام الإيمان منهم محتملاً، ثم إنَّ يأسه يحصل والاحتمال والحلم يفر الناس٦ مدة بدليل قوله لمحمد - صلى الله عليه وسلم - ﴿ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ ﴾ [ الشعراء : ٣ ] ﴿ فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ ﴾ [ فاطر : ٨ ] وقال لنُوحٍ - عليه الصلاة والسلام - :﴿ وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الذين ظلموا إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ ﴾ [ هود : ٣٧ ] و[ المؤمون : ٢٧ ] فقال نوح : يا إِلهي إن نفسي غلبتني وقد أمَرْتَنِي بالدُّعاء عليهم فأهلكتهم فيكون معناه مغلوب بحكم البشرية أي غُلبت وعِيلَ صَبْرِي فانْتَصِرْ لي منهم لا من نفسي.
قال ابن الخطيب : وهذا الوجه مُرَكَّبٌ من الوجهين. وهو أحسنهما.
وقوله :«فَانْتَصِرْ » أي فانتصر لِي أو لنفسك، فإِنهم كفروا بك، أو انتصر للحَقِّ٧.
١ السابق أيضا وانظر البغوي ٦/٢٧٤ والقرطبي ١٧/١٣١..
٢ ولم تُرْوَ عنه في المتواتر، وهي قراءة شاذة ذكرها صاحب البحر ٨/١٧٦، وصاحب الكشاف ٤/٣٧..
٣ قاله الزمخشري وأبو حيان في مرجعيهما السابقين..
٤ وقال بهذه التوجيهات ناقلا رأي البصرة والكوفة أبو حيان في بحره السابق..
٥ لما فيه من الضعف والخور من نبيٍّ كنوح –عليه السلام-. وانظر رأي ابن عطية في الرازي ١٥/٣٧..
٦ كذا في النسختين وفي الرازي: والاحتمال يفر بعد اليأس بمدّة..
٧ وانظر كل هذا في تفسير الإمام الرازي ١٥/٣٧..
قوله :( فَفَتَحْنَا ) تقدم الخلاف في فتحنا في الأنعام١. والمراد من الفتح والأبواب والسماء حقائقها وأن للسماء أبواب تُفْتَحُ وتُغْلَقُ.
قال علي - رضي الله عنه - : هي المَجَرَّة وهي شرع السماء ومنها فتحت بماء منهمر. وقيل : هذا على سبيل الاستعارة ؛ فإِن الظاهر أن الماء كان من السحاب فهو كقول القائل في المطر الوابل :«جَرَتْ مَيَازِيبُ السَّمَاء ».
وفي قوله :«فَفَتَحْنَا » بيان بأن الله انْتَصَرَ منهم، وانتقم بماء لا بجُنْدٍ أنزله ومن العجب أنهم كانوا يطلبون المطر سنين، فأهلكهم الله بمَطْلُوبِهِمْ٢.
قوله :( بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ ) في الباء وجهان :
أظهرهما : أنها للتعدية ويكون ذلك على المبالغة في أنه جعل الماء كالآلة المُفْتَتَحِ بها، كما تقول فَتَحْتُ بالمَفَاتِيحِ٣.
والثاني : أنها للحال أي فتحناها ملتبسةً بهذا الماء٤ والمُنْهَمرُ : الغزير النازل بقوة. وأنشد امرؤ القيس :
رَاحَ تَمْرِيهِ الصَّبَا ثُمَّ انْتَحَى *** فِيهِ شُؤْبُوب جَنُوبٍ مُنْهَمِرْ٥
واستعير ذلك في قولهم : هَمَرَ الرَّجُلُ في كلامه إذا أكثر الكلام وأسرع، وفلانٌ يُهَامِرُ الشيء أي يحرفه، وهَمَّرَ لَهُ من ماله أعطاه بكَثْرَة٦.
والمنهمر الكثير قاله السُّدِّيُّ ( رحمة الله عليه ) ٧ قال الشاعر :
أَعَيْنَيَّ جُودَا بالدُّمُوعِ الهَوَامِرِ *** عَلَى خَيْرِ بَادٍ مِنْ معَدٍّ وَحَاضِرِ٨
قال المفسرون : معنى منهمر أي منصب انْصباباً شديداً. قال ابن عباس : منهمر من غير سحاب لم ينقطع أربعين يوماً. وقيل : ثمان.
١ من الآية ٤٤ من الأنعام ﴿فلما نسوا ما ذُكّروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء﴾ فقد قرأ ابن عامر وأبو جعفر والأعرج ويعقوب "فتَّحنا" والجمهور مخففا وعلى كلتا القراءتين فهما متواتران..
٢ الرازي ١٥/٣٧ و٣٨..
٣ فجعل المقصود وهو الماء مقدما في الوجود على فتح الباب المغلق. وهذا رأي أبي حيان في البحر المحيط ٨/١٧٧..
٤ المرجع السابق..
٥ من الرمل ونسب لامرئ القيس ولم أجده بديوانه هكذا، وإنما ما به:
وللسّوط فيها مجال كما *** تنزل ذو برد منهمر
وراح أي عاد في الرّواح كأن المطر كان في أول النهار ثم عاد في آخره. و"تَمْرِيه" تستدره وأصله من مَرْي الضّرع وهو مسحه فيدر، والشُّؤبُوب الدّفعة من المطر. وانظر القرطبي ١٧/١٣٢، والبحر ٨/١٧٢، وفتح القدير ٥/١٢٢، والطبري ٢٧/٥٤، والديوان ١٦٦، ومجمع البيان ٩/٢٨٥..

٦ وانظر اللسان "همر" ٤٦٩٧..
٧ زيادة من (أ). وانظر القرطبي ١٧/١٣١..
٨ من الطويل وهو مجهول قائله والهوامر الكثيرة وهو محل الشاهد. وانظر البحر ٨/١٧٧ والقرطبي ١٧/١٣١ وفتح القدير ٥/١٢٣ وروح المعاني ٢٧/٨١..
قوله :«وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ » قرأ عبد الله وأبو حيوة وعَاصِم - في روايةٍ - وفَجَرْنا مخففاً١. والباقون مثقلاً.
وقوله :«عُيُوناً » فيه أوجه :
أشهرها : أنه تمييز أي فَجَّرْنَا عُيُونَ الأَرْضِ، فنقله من المفعولية إلى التمييز كما نقل من٢ الفاعلية. ومنعه بعضهم على ما سيأتي.
وقوله :﴿ وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُوناً ﴾ أبلغ من فَجَّرْنَا عُيُونَ الأَرْضِ، لما ذكر في نظيره مراراً٣.
الثاني : أنه منصوب على البدل من الأرض، ويُضْعِفُ هذا خلوّه من الضمير، فإِنه بدل بعض من كل ويجاب عنه بأنه محذوف أي عيوناً منها كقوله :«الأُخْدُودِ النَّارِ »، فالنار بدل اشتمال ولا ضمير فهو مقدر.
الثالث : أنه مفعول ثان ؛ لأنه ضمن فَجَّرْنَا معنى صَيَّرْنَاهَا بالتفجير عُيُوناً.
الرابع : أنها٤ حال، وفيه تجوز حذف مضاف أي ذَات عُيُونٍ، وكونها حالاً مقدرةً٥ لا مقارنةً٦. قال ابن الخطيب : قوله ﴿ وفجرنا الأرض عيوناً ﴾ فيه من البلاغة ما ليس في قول القائل : وَفجَّرْنا من الأرض عيوناً.
وقال : وفجرنا الأرض عيوناً، ولم يقل : فَفَتَحْنَا السَّمَاءَ أبواباً ؛ لأن السماء أعظمُ من الأرض وهي للمبالغة، وقال : أبواب السماء ولم يقل : أنابيب ولا منافذ ولا مَجَاري. أما قوله تعالى :﴿ فَجَّرْنَا الأرض عُيُوناً ﴾ فلا غنى عنه لأن قول القائل : فجرنا من الأرض عيوناً يكون حقيقة لا مبالغة فيه ويكون في صحة ذلك القول أن يحصل في الأرض عيونٌ ثلاثٌ ولا يصلح مع هذا في السَّمَاءِ ومِيَاهِهَا٧.

فصل


قال ابن الخطيب : العُيُون جمع عَيْنٍ وهي حقيقية في العين التي هي آلة الإبصار ومجاز في غيرها أما في عيون الماء فلأنها تشبه العين الناظرة التي يخرج منها الدمع، لأن الماء الذي في العين كالدمع الذي في العين وهو مجاز مشهور صار غالباً حتى لا يفتقر إلى قرينةٍ عند الاستعمال فكما لا يحمل اللفظ على العين الناظرة إلا بقرينة كذلك لا يحمل على الفَوَّارَةِ٨ إلا بقرينة، مثل شَرِبْتُ مِنَ العَيْنِ واغْتَسَلْتُ مِنْهَا ونحوه.
فإِن قيل : من أين علمت أن العين حقيقة في الناظرة ؟.
قلنا : لأن الأفعال أخذت منه، ولم تؤخذ من اليُنْبُوع، فيقال : عَانَهُ يَعِينُهُ إذا أصابه بالعين وعَايَنهُ مُعَايَنَةً وعِيَاناً٩.
قال عُبَيْدُ بْنْ عُمَيْرٍ : أوحى الله تعالى إلى الأرض أن تُخْرِجَ ماءها فتفجرت بالعيون وأي عين تأخرت غضب عليها فجعل ماءها مُرًّا إلى يوم القيامة.
قوله :«فَالتَقَى المَاءُ » لما كان المراد بالماء الجنس صَحَّ أن يقال : فَالْتَقَى الماءُ كأنه قال : فالتقى ماءُ السماء وماءُ الأرض. وهذه قراءة العامة. وقرأ الحسن والجَحْدَريُّ ومُحَمَّد بن كَعْب وتروى عن أمير المؤمنين أيضاً١٠ :«المَاءَانِ » تثنية والهمزة سالمة أي النوعان منه ماء السماء وماء الأرض ؛ لأن الالتقاء إنما يكون بين اثنين. وقرأ الحسن أيضاً :«المَاوَانِ » بقلبها واواً، وهي لغةَ طيِّىءٍ١١. قال الزمخشري كقولهم : عِلْبَاوَانِ١٢، يعني أنه شبه الهمزة المنقلبة عن هاء بهمزة الإِلحاق.
وروي عنه أيضاً المَايَان١٣ بقلبها ياء، وهي أشدُّ مما قبلها١٤.
قوله :«قَدْ قُدِرَ » العامة على التخفيف. وقرأ ابن مِقْسِم وأبو حيوة بالتشديد. هما لغتان قرئ بهما في قوله :﴿ قَدَّرَ فهدى ﴾ [ الأعلى : ٣ ] ﴿ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ ﴾ [ الفجر : ١٦ ] كما سيأتي.

فصل


قيل : معنى قد قدر أي حال قدرها الله كما شاء قضى عليهم في أُمّ الكتاب. وقال مقاتل : قدَّر الله أن يكون الماءانِ سواءً، فكانا على ما قَدَّره. وقيل : على مَقَادِير ؛ وذلك لأن المفسّرين اختلفوا، فمنهم من قال كان ماء السماء أكثر، ومنهم من قال : ماء الأرض. ومنهم من قال : كانا متساوِيَيْن، فقال على مقدار كان وقال قتادة : قدر لهم إذا كفروا أن يغرقوا.
قال ابن الخطيب : ويحتمل أن يقال : التقى الماء أي اجتمع على أمر هلاكهم وهو كأنه مقدور ( مقدر )١٥. وفيه رد على المنجِّمين الذين يقولون : إن الطوفان كان بسبب اجتماع الكواكب السبعة في برج مائيّ والغرق لم يكن مقصوداً بالذات وإنما ذلك أمر لزم من الطوفان الواجب وقوعه، فرد الله عليهم بأنه لم يكن ذلك إلا لأمر قد قُدِرَ، ويدل عليه أن الله تعالى أوحى إلى نوح بأنهم مُغْرَقُونَ١٦.
١ البحر المحيط ٨/١٧٧ وهي شاذة..
٢ كقول الله عز وجل في سورة مريم: ﴿واشتعل الرأس شيباً﴾ من الآية ٤ منها..
٣ لأنه يكون حقيقة لا مبالغة فيه، ويكفي في صحة ذلك القول أن يجعل في الأرض عيوبا ثلاثة، ولا يصح مع هذا في السماء إلا قول القائل: فأنزلنا من السماء ماء أو مياها. وانظر تفسير الإمام ١٥/٣٨..
٤ وقال بهذه الأوجه الإعرابية ناقلا إياها أبو حيّان في البحر ٨/١٧٧ عدا وجه البدل..
٥ والحال المقدرة هي المستقبلة كمررتُ برجل معه صقر صائدا به غدا أي مقدّرا ذلك. وهذا لا يصح مع الآية الكريمة..
٦ أما المقارنة وهي الغالبة في أقسام الحال باعتبار الزمان كـ ﴿وهذا بعلي شيخا﴾. والمحَلية؛ وهي الماضية كجاء زيد أمسٍ راكباً..
٧ بالمعنى من تفسير الرازي ١٥/٣٨..
٨ أي التي تفور..
٩ بالمعنى من الرازي ١٥/٣٩..
١٠ لعله عليّ كرم الله وجهه. وانظر البحر ٨/١٧٧، والقرطبي ١٧/١٣٢ وابن خالويه ١٧٤، والكشاف ٤/٣٧ وهي قراءات شاذة غير متواترة..
١١ الكشاف المرجع السابق..
١٢ الكشاف المرجع السابق..
١٣ المراجع السابقة عدا القرطبي والكشاف..
١٤ فالمعروف أن الهمزة المنقلبة عن أصل في التثنية والجمع السالم تبقى أو تقلب واوا فقط كما يقال: بناءان وبناوان وعلباءان وعلباوان في همزة الإلحاق أيضا..
١٥ زيادة من (أ)..
١٦ وانظر تفسير الفخر الرازي ١٥/٣٩..
قوله :﴿ وَحَمَلْنَاهُ على ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ ﴾ أي سفينة ذاتِ ألواح. قال الزمخشري : وهي من الصفات التي تقوم مقام الموصوفات فتنوب منابَها وتؤدي مُؤَدَّاها بحيث لا يُفْصَلُ بينها وبينها١ ونحوه :
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** وَلَكن قَمِيصي مَسْرُودَة مِنْ حَدِيدِ٢
أراد ولكن قميصي درع، وكذلك :
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** وَلَوْ فِي عُيُون النَّازِيَاتِ بِأَكْرُعِ٣
أراد ولو في عيون الجرار، ألا ترى أنك لو جمعت بين الصفة وبين هذه الصفة، أو بين الجرار والدرع وهاتين الصفتين لم يصح. وهذا من فصيح الكلام وبَدِيعِهِ٤.
والدُّسُر، قيل : المسامير جمع دِسَارٍ، نحو كُتُب في جمع كِتاب وقال الزمخشري : جمع دِسَارة، وهو المِسْمَارُ فعالة من دسره إذا دفعه، لأنه يدسر به منفذه٥. وقال الراغب : الواحد دَسْرٌ فيكون مثل سَقْف وسُقُف٦ وقال البغوي : واحدها دِسَار ودَسِيرٌ٧.
وأصل الدسر الدفع الشديد بقهر ( و ) دَسَرَهُ بالرمح. ومُدْسِر مثل مُطْعِن وروي : ليس في العنبر زَكاة إنَّما هُوَ شَيءٌ دَسَرَهُ٨ البَحْرُ أي دفَعَهُ.
وقيل : إنها الخيوط التي تشد بها السفن. وقيل : هي عراض السفينة وقيل : أضلاعها٩. وقال الحسن الدسر صدر السفينة، سميت بذلك لأنها تَدْسُرُ الماء بجؤجؤها أي تدفع. وقال الضحاك : الدسر أَلْوَاحُ جَانِبَيْهَا.
١ أي بين الموصوفات وبين الصفات. وانظر كشافه ٤/٣٨..
٢ هو عجز بيت من الخفيف صدره:
مفرشي صهوة الحصان ولكن ***.......................
ولم أعرف قائله. والشاهد: حذف الموصوف وإنابة الصفة منابهُ وهي من الصفات الملازمة فتنوب من الموصوف وتؤدي مؤاده، بحيث لا يفصل بينه وبينها. وانظر الكشاف ٤/٣٨ وشرح شواهده ٤/٣٨٨ و٣٨٩. وصهوة كل شيء: أعلاه والصّهوَة من النفوس موضع اللبد من ظهره. وقيل غير ذلك. انظر اللسان صها ٣٥١٨..

٣ عجز بيت من الطويل مجهول القائل وشاهده كسابقه أيضا، وصدره:
وإني لأستوفي حقوقي جاهدا ***......................
ومعناه في الوصول إلى الغرض والنزو والوثَبَان. والكراع من البقر والغنم بمنزلة الوظيف من الخيل والإبل والحمر وهو مستدقّ الساق العاري من اللحم ويذكر ويؤنث والجمع أكرع ثم أكارع. وانظر البيت في الكشاف ٤/٣٨..

٤ وانظر الكشاف المرجع السابق..
٥ السابق أيضا..
٦ مفردات الراغب "دسر"..
٧ معالم التنزيل ٦/٢٧٥..
٨ في القرطبي: يدسره..
٩ وانظر اللسان دسر ١٣٧٢..
قوله :«تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا » أي بمَرْأى منَّا. وقال مقاتل : بأعيننا أي بحفظنا، لقولك : اجْعَل هذا نصب عينك. وقيل : بالأعين النابعة من الأرض. وقيل : بأعين أوليائنا من الملائكة. فقوله : بأعيننا أي ملتبسة بحفظنا١، وهو في المعنى كقوله تعالى :﴿ وَلِتُصْنَعَ على عيني ﴾ [ طه : ٣٩ ].
وقرأ زيد ( بن ) ٢ علي وأبو السَّمَّال بأَعْيُنَّا بالإدغام٣. وقال سفيان٤ : معناه بأمرنا.
قوله :( جزاء ) منصوب على المفعول له، نَاصبُهُ ( فَفَتَّحْنَا ) وما بعده.
وقيل : منصوب على المصدر إما بفعل مقدر أي جَازَيْنَاهُم جَزَاءً، وإما على التجوز بأن معنى الأفعال المتقدمة جازيناهم بها جزاءً.
قوله :﴿ لِمَن كَانَ كُفِرَ ﴾ العامة على كُفِرَ مبنيًّا للمفعول، والمراد بمَنْ كُفِرَ : نوح - عليه الصلاة والسلام - أو الباري تعالى.
وقرأ مُسَيْلَمَةُ٥ بْنُ مُحَارِبٍ كُفْرَ بإسكان الفاء، كقوله :
لَوْ عُصْرَ مِنْهُ المِسْكُ وَالبَانُ انْعَصَرْ٦ ***. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقرأ يزيد بن رومان٧ وعيسى وقتادة : كَفَرَ، مبنياً للفاعل٨.
والمراد ب «مَنْ » حينئذ قَومُ نوح. و«كَفَر » خبر كان. وفيه دليل على وقوع خبر كان ماضياً من غير قد٩. وبعضُهمْ١٠ يقول : لا بد من ( قد ) ظاهرةً أو مضمرة١١.
ويجوز أن تكون كان مزيدة، وأما كفرهم ففيه وجهان :
أحدهما : أن يكون «كَفَرَ » مثل شَكَرَ تعدى بحرف وبغير حرف، يقال : شَكَرْتُهُ وشَكَرْتُ لَهُ، قال تعالى :﴿ واشكروا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ ﴾ [ البقرة : ١٥٢ ].
وقال :﴿ فَمَنْ يَكْفُرْ بالطاغوت ﴾ [ البقرة : ٢٥٦ ].
الثاني : أن يكون من الكفر لا من الكُفْرَان أي جزاء لمن ستر أمره وأنكر شأنه، أو جزاء لمن كفر به١٢.

فصل


المعنى فعلنا به من إنجاء نوح وإغراق قومه ثواباً لمن كفر به وجُحِدَ أمره وهو نوح - عليه الصلاة والسلام -. وقيل :«مَنْ » بمعنى «ما » أي جزاء لما كان كفر من أيادي ونقمة عند الذين غرقهم، وجزاء لما صنع بنوحٍ وأصحابه١٣.
واللام في «لِمَنْ » لام المفعول له. والجزاء هنا بمعنى العقاب أي عقاباً لكفرهم.
١ وانظر تلك الأقوال في القرطبي ١٧/١٣٣..
٢ سقطت كلمة ابن من (أ)..
٣ قراءات شاذة ذكرها صاحب البحر المحيط ٨/١٧٨، وابن خالويه في المختصر ١٤٧ ورواها صاحب الإتحاف عن المطوّعي وانظر الإتحاف ٤٠٤..
٤ بتوضيح لما في التبيان ١١٩٤. واختار الزمخشري المفعول لأجله كما في الكشاف ٤/٣٨..
٥ كذا في النسختين وفي البحر: مسلمة وقد عُرِّف به..
٦ بيت من مشطور الرجز لأبي النجم العجلي وقبله:
هيّجها نضْحٌ من الطلّ سحَرْ
وهزّت الرّيح الندى حين قطرْ
والشاهد في "عُصْرَ" فإنه أراد عُصِر. وانظر البحر ٨/١٧٨، والإنصاف ١٢٤ والمنصف ١/٢٤ و٢/١٢٤ وشرح الشافية ١٥ والتصريح ١/٢٩٤، اللسان ٢٩٧١ "عصر"..

٧ هو يزيد بن رومان أبو روح المدني مولى الزبير، ثقة، ثبت، فقيه، قارئ، محدث عرض على عبد الله بن عياش وروى القاراءات عنه عرضا نافع وأبو عمرو. مات سنة ١٢٠، انظر طبقات ابن الجوزي ٢/٣٨١..
٨ شاذه. وانظر المحتسب ٢/٢٩٨..
٩ وهو مذهب البصريين والصحيح جوازه مطلقا بكثرته في كلامهم نظما ونثرا كثرة تُوجب القياس، قال تعالى: ﴿إن كان قميصه قُدّ﴾ ﴿وإن كنت قلته﴾ ﴿إن كنتم آمنتم﴾ ﴿أوَ لم تكونوا أقسمتم﴾ وقال الشاعر:
..................... *** وقد كانوا فأمسى الحيّ ساروا
وحكى الكسائي: أصبحت نظرت إلى ذات التّنانير..

١٠ وهم الكوفيون..
١١ وحجتهم أن كان وأخواتها إنما دخلت على الجمل لتدل على الزمان، فإذا كان الخبر يعطي الزمان لم يُحتَج إليها، ألا ترى أن المفهوم من: "زيد قام" ومن" "كان زيدٌ قائما" شيء واحد، واشتراط "قد" لأنها تقرب الماضي من الحال. وانظر الهمع ١/١١٣..
١٢ قاله الرازي في التفسير الكبير ١٥/١٤١..
١٣ البغوي ٦/٢٧٥..
قوله :﴿ وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً ﴾ ضمير تركناها إمَّا للقصة أو للفِعْلَة التي فعلناها آية يعتبر بها، أو السفينة. وهو الظاهر. والمعنى تركناها أي أبقاها الله بباقِرْدى من أرض الجزيرة آيةً أي عبرة حتى نظرت إليها أوائلُ هذه الأمة، وكانت على الجُوديِّ. وقيل : بأرض الهِنْدِ، ومعنى تركناها أي جعلناها، لأنها بعد الفراغ منها صارت متروكة ومجعولة١.
قوله :﴿ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ﴾ أصله «مُدْتَكر » فأبدلت التاء دالاً مهملة، ثم أبدلت المعجمة٢ مهملة لمقارنتها وقد تقدم هذا في قوله :﴿ وادّكر بَعْدَ أُمَّةٍ ﴾ [ يوسف : ٤٥ ]. وقد قرئ «مُدْتَكِرٍ » بهذا الأصل٣.
وقرأ قتادة فيما نقل عنه أبو الفضل - مُدَكَّرٍ٤ - بفتح الدال مخففة وبتشديد الكاف، من دَكَّر بالتشديد أي دَكَّر نَفْسَه أو غَيرَه بما بمضى من قصَصِ الأولين.
ونقل عنه ابن عطية كالجماعة إلا أنه بالذَّال المعجمة، وهو شاذ لأن الأَوَّلَ يُقْلَبُ للثَّانِي، لا الثاني للأول.
روى زُهَيْرٌ عن أبي إِسْحَاقَ أنه سمعَ رجُلاً يسأل الأسود : فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ أو مِنْ مذَّكِرٍ، قال : سمعت عبد الله يقرأها : فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ دالاً٥.

فصل


وهذه الآية إشارة إلى أن الأمر من جانب الرسل قد تَمَّ، ولم يبق إلا جانب المُرْسَلِ إِليهم بأن يتفكروا ويهتدوا. وهذا الكلام يصلح أن يكون حثاً وأن يكون تخويفاً وزجراً، وقال ابن الخطيب : مُدَّكِرٌ مُفْتَعِلٌ من ذَكَرَ يَذْكُرُ وأصله مُذْتكرٌ. وقرأ بعضهم بهذا الأصل. ومنهم من يقلب التاء دالاً. وفي قوله : مدّكِر إشارة إلى قوله :﴿ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى ﴾ أي هل ممن يتذكر تلك الحالة ؟ وإما إلى وضوح الأمر كأنه جعل٦ للكل آيات الله فنَسُوها، فهل من متذكر٧ يتذكر شيئاً منها ؟.
١ القرطبي ١٧/١٢٣ والمرجع السابق أيضا..
٢ وهي التاء..
٣ كذا في النسختين نقلا عن البحر المحيط ٨/١٧٨، ولم يحدد أبو حيان من قرأ بتلك القراءة وفي الكشاف: مدتكر على الأصل ومدكر دونما تحديد أيضا لقارئهما..
٤ كذا بالدال في النسختين وما في البحر نقلا عن أبي الفضل الرازي بالذال. وهو الصحيح. وانظر البحر المرجع السابق ٨/١٧٨..
٥ نقل هذا الإمام البغوي في معالم التنزيل ٦/٢٧٥ وابن منظور في اللسان "ذكر" ١٤٠٣..
٦ في الرازي: حصل..
٧ وفيه "مدّكر"..
قوله :﴿ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ ﴾ كان الظاهر فيها أنها ناقصة ( و ) «فَكَيْفَ » خبر مقدم. وقيل : يجوز أن تكون تامة، فتكون «كَيْفَ » في محل نصب إما على الظرف١ وإِمَّا على الحال كما تقدم تحقيقه في البقرة٢.

فصل


وحذفت ياء الإضافة من «نُذُر » كما حذفت ياء «يَسْر » في قوله تعالى :﴿ والليل إِذَا يَسْرِ ﴾ [ الفجر : ٤ ] ؛ وذلك عند الوقف، ومثله كثير، كقوله :﴿ فَإِيَّايَ فاعبدون ﴾ [ العنكبوت : ٥٦ ] ﴿ وَلاَ يُنقِذُونَ ﴾ [ يس : ٢٣ ] ﴿ ياعباد فاتقون ﴾ [ الزمر : ١٦ ] ﴿ وَلاَ تَكْفُرُونِ ﴾ [ البقرة : ١٥٢ ] وقرئ بإثبات الياء في :«عَذَابِي ونُذُرِي »٣.
١ الغالب في كيف أن تكون استفهاما إما حقيقيا أو غيره، وأن تكون شرطا وتسميتها بالظرف عن سيبويه وعن الأخفش والسّيرافي أنها اسم غير ظرف وبنوا على هذا الخلاف أمورا ذكرها ابن هشام في المغني ٢٠٥ و٢٠٦..
٢ عند الآية الشهيرة ٢٨٠: ﴿وإن كان عُسرة﴾، ولعل المؤلف يقصد قوله: ﴿قل من كان عدوّا لجبريل﴾ من الآية ٩٧ من نفس السورة ففيه الشبه والتركيب اللذان في تلك الآية..
٣ ولم أعرف من قرأ بها ولا مرجعا أتى بها. وهي بلا شك شاذة..
قوله :﴿ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن ﴾ هيأناهُ «لِلذِّكْرِ » من قولهم :«يَسَّرَ فَرَسَهُ » أي هَيَّأَهُ للركوب بإِلجامه، قال :
فَقُمْتُ إِلَيْهِ باللِّجَامِ مُيَسِّراً هُنَالِكَ يَجْزِيني الَّذِي كُنْتُ أَصْنَعُ١
وقيل : سهلنا القرآن ليتذكر ويعتبر به. وقال سعيد بن جبير : يسرناهُ للحفظ والقراءة، وليس شيء من كتب الله يقرأ كله ظاهراً إلا القرآن.
وقوله :﴿ فَهَلْ مِن مُدَّكِرٍ ﴾ مُتَّعِظٍ بمواعظه.
١ من الطويل مجهول قائله واستشهد به على أن التيسير بمعنى التّهيئ كما أوضح أعلى. وانظر الكشاف ٤/٣٨ وشرح شواهده ٤٥٤ ولبحر ٨/١٧٨ والقرطبي ١٧/١٣٤..
ذكر ههنا: ﴿فكيف كان عذابي ونذر﴾ مرتين، فالأول سؤال، كقول المعلم للمتعلم: كَيْفَ المَسْأَلَةُ الفُلاَنِيَّةُ؟ ثم بين فقال: «إِنَّا أَرْسَلْنَا»، والثاني بمعنى التعظيم والتهويل.
فإن قيل: قال في قوم نوح: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ ولم يقل في عاد: كَذَّبَتْ قَوْمُ هُودٍ؛ لأن التعريف كلما أمكن أن يؤتى به على وجه أبلغ فالأولى أن يؤتى به والتعريف بالاسم العلم أقوى من التعريف بالإِضافة؛ لأنك إذا قلت: «بَيْتُ اللَّهِ» لا يفيد ما يفيد قولك: الكَعْبَةُ، وكذلك إذا قلت: رَسُولُ اللَّهِ وقلت: محمد «فَعَادٌ» اسم علمٍ للقوم.
ولا يقال: قَوْم هُودٍ أعرف لوجهين:
أحدهما: أن الله تعالى وصف عاداً بقوم هود في قوله: ﴿أَلاَ بُعْداً لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ﴾ [هود: ٦٠] ولا يوصف الأظهر بالأخفى، والأخصُّ بالأعمِّ.
ثانيهما: أن قوم هو (واحد وعَادٌ قيل:) إنه لفظٌ يقع على أقوام، ولهذا قال
253
تعالى: ﴿عَاداً الأولى﴾ [النجم: ٥٠] لأنا نقول: أما قوله تعالى: ﴿لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ﴾ [هود: ٦٠] فليس ذلك صفة، وإنما هو بدل ويجوز في البدل أن يكون دون المُبْدَل (منه) في المعرفة، ويجوز أن يبدل من المعرفة بالنكرة. وأما عاداً الأولى فهو لبيان تقدمهم أي عاداً الذين تقدموا، وليس ذلك للتمييز والتعريف كما تقول: مُحَمَّدٌ النَّبِيُّ شَفِيعِي واللَّهُ الكَرِيمُ رَبِّي وَرَبُّ الكَعْبَة المُشَرَّفَة، لبيان الشرف، لا لبيانها وتعريفها بالشرف كقولك: دَخَلتُ الدَّار المَعْمُورَة مِنَ الدَّارَيْنِ، وخَدَمْتُ الرَّجُلَ الزَّاهِدَ مِنَ الرَّجُلَيْنِ؛ فتبين المقصود بالوصف.
فإن قيل: لِمَ لَمْ يقل: فكذبوا هوداً كما قال فكذبوا عَبْدَنَا؟.
فالجواب: إِما لأن تكذيب قوم نوح أبلغُ لطول مقامه فيهم وكثرة عِنَادِهِمْ، وإما لأن قصة عادٍ ذكرت مُخْتَصَرَةً.
قوله: ﴿إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً﴾ الصَّرْصَرُ الشَّديدة الصَّوْت من صَرْصَرَ البابُ أو القَلَمُ إِذَا صَوَّت.
وقيل: الشديدة البرد من الصَّرِّ وهو البرد وهو كله أصول عند الجمهور.
وقال مكي: أصله «صَرَّراً» من صَرَّ الشيءُ إِذا صوت، لكن أبدلوا من الراء المشددة صاداً، وهذه أقوال الكُوفِيِّين. ومثله: كَبْكَبَ وكَفْكَفَ. وتقدم هذا في فُصِّلَتْ وغيرها.
وقال ابن الخطيب: الصرصر هو الدائمة الهبوب من أَصَرَّ عَلَى الشَّيْءِ إِذا دَامَ وَثَبَت.

فصل


﴿يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ﴾ شديد دائم الشُّؤم استمر عليهم بنُحُوسِهِ، ولم يُبْقِ منهم أحداً إِلا أهلكه. قيل: ذلك يوم الأربعاء في آخر الشهر.
فإن قيل: إذا كان يوم الأربعاء يَوْمَ نَحْسٍ مستمر فكيف يستجاب فيه الدعاء؟! وقد جاء أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - استجيب له فيه فيما بين الظهر والعصر.
254
فالجواب: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: «أتاني جبريل فقال:» إنَّ اللَّهَ يأمرك أَنْ تَقْضِي مع الشاهد «
وقال: يَوْمُ الأربعاء يَوْمُ نَحْسٍ مُسْتَمِرّ. ومعلوم أنه لم يرد أنه نحس على المصلحين بل على المفسدين، كما كانت الأيام النحسات على الكُفار، لا على نبيهم والمؤمنين.
واعلم أنه تعالى قال ههنا: إِنا أرسلنا عليهم ريحاً صرصراً وقال في الذاريات: ﴿إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الريح العقيم﴾ [الذاريات: ٤١] فعرَّف الريح هناك، ونكَّرَها ههنا؛ لأن العقم في الريح أظهر من البَرْد الذي يضرّ النبات أو الشدة التي تَعْصِفُ الأشجار، لأن الريح العقيم هي التي لا تُنْشِىء سحاباً، ولا تُلَقِّح شجراً وهي كثيرة الوقوع، وأما الريح المهلكة الباردة فقلما تُوجَد فقال: الريح العقيم أي هذا الجنس المعروف.
ثم زاده بياناً بقوله: ﴿مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كالرميم﴾ [الذاريات: ٤٢] فتميزت عن الريح العقيم، وأما الصرصر فقليلة الوقوع فلا تكون مشهورة فنكَّرها.
قوله: ﴿فِي يَوْمِ نَحْسٍ﴾ العامة على إضافة يَوْم إلى نَحْسٍ - بسكون الحاء - وفيه وجهان:
أحدهما: أنه من إضافة الموصوف إلى صفته.
والثاني - وهو قول البصريين - أنه صفة لموصوف محذوف أي يوم عذاب نحس.
وقرأ الحسن - (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) بتَنْوِينه ووصفه بنَحْسٍ ولم يقيِّده الزمخشري بكسر الحاء. وقيده أبو حيان. وقد قرىء قوله: ﴿في أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ﴾ [فصلت: ١٦] بسكون الحاء وكسرها، وتنوين «أيام»
عند الجميع ما تقدم تقريره، و «مُسْتَمِرٍّ» صفة «ليوم» أو «نحس». ومعناه كما تقدم أي عليهم حتى أهلكهم، أو من المرارة. قال الضحاك: كان مراً عليهم وكذا حكى الكسائي أن قوماً قالوا هو من المرارة يقال: مَرَّ الشَّيْءُ، وأَمَرَّ أي كان كالشيء المر تكرهه النفوس، وقد قال: ﴿فَذُوقُواْ﴾ [آل عمران: ١٠٦] والذي يُذَاقُ قَدْ يكونُ مُرًّا.
255
قوله: (تَنْزِعُ النَّاسَ) في موضع نصب إما نعتاً ل «رِيحاً» وإما حالاً منها لتخصصها بالصفة؛ ويجوز أن تكون مستأنفة. وقال: «الناس» ليعم ذَكَرَهُمْ وأنثاهم، فأوقع الظاهر موقع المضمر لذلك فالأصل تَنْزِعُهُمْ.

فصل


قال تعالى هنا: ﴿فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ﴾ وقال في السجدة: ﴿فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ﴾ [فصلت: ١٦] وقال في الحاقة: ﴿سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً﴾ [الحاقة: ٧]. والمراد من اليوم هنا الوقت والزمان كما في قوله: ﴿يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً﴾ [مريم: ٣٣]. وقوله «مُسْتَمِرّ» يفيد ما يفيده الأيام؛ لأن الاستمرار ينبىء عن امتداد الزمان كما تنبىء عَنْهُ الأيام. والحكاية هنا مذكورة على سبيل الاختصار فذكر الزمان ولم يذكر مقداره على سبيل الإيجاز.
قوله: «كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ» حال من الناس مقدرةً، و «مُنْقَعِرٍ» صفة للنَّخل باعتبار الجنس، ولو أنث لاعتبر معنى الجماعة كقوله: ﴿نَخْلٍ خَاوِيَةٍ﴾ [الحاقة: ٧]. وقد مضى تحقيق اللغتين فيه.
وإنما ذكر هنا وأنث في الحاقة مراعاةً للفواصل في الموضعين. وقرأ أبو نُهَيْكٍ: «أَعْجُزُ» على وزن أفْعُلٍ نحو: ضَبُع وأَضْبُع.
وقيل: الكاف في موضع نصب بفعل مقدر تقديره: تَتْرُكُهْم كَأَنَّهم أَعْجَازٌ. قاله مَكِّي.
ولو جعل مفعولاً ثانياً على التضمين أي تصيرهم بالنزع كأنهم لَكَان أقرب.
والأعجاز جمع عَجُز وهو مؤخر الشيء، ومنه العَجْز، لأنه يؤدي إلى تأخر الأمور. والمُنْقَعِرُ: المنقلع من أصله (يقال) قَعَرْتُ النَّخْلَةَ قَلَعْتُهَا من أصلها فانْقَعَرَتْ.
256
وقَعَرْتُ البئْرَ: وَصلتُ إِلى قَعْرِهَا وقَعَرْتُ الإِناء شَرِبْتُ ما فيه حتى وصلت إِلى قَعْرِهِ، وأَقْعَرْتُ البِئْرَ أي جَعَلْتُ له قَعْراً.

فصل


تنزع الناس تَقْلَعُهُمْ ثُمَّ تَرْمِي بهم على رؤوسهم فتدق رِقَابَهُمْ. وروي: أنها كانت تنزع الناس من قبورهم كأنهم أعجاز نخل. قال ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا) أصولها. وقال الضحاك: أوراك نخل منقعر منقلع من مكانه ساقطٍ على الأرض وقال: أعجاز نخل وهي أصولها التي قلعت فروعها، لأن الكفّار تبين رؤوسهم من أجسادهم فتبقى أجسادهم بلا رؤوس. قال ابن الخطيب: تَنْزِعُهُمْ بعُنْف كأنهم أعجاز نخل منقعر فينقعروا.
وهذا إشارة إلى قوتهم وثباتهم على الأرض، ويكون ذلك إشارةً إلى عظم أجسادهم أو إلى ثباتهم في الأرض فكأنهم كانوا يجعلون أرجُلهمْ في الأرض ويقصدون المنع به على الرِّيح.
قال ابن إسحاق: لما هاجت الريح قام سبعة نَفَر من عاد من أقواهُم وأحْسَمِهمْ منهم عمرو بنُ الحُلِيّ، والحارث بن شدّاد والهِلْقَامُ وابنا تِقْن وخَلْجَانُ بن سعد فألجأوا العِيَالَ في شِعْب بينٍ جَبَلَيْن ثم اصطفّوا على جانبي الشِّعْب ليردُّوا الريح عمن في الشِّعْب من العِيال فجعلت الريح تَجْعفُهُمْ رجلاً بعد رجلٍ، فقالت امرأة عاد:
٤٥٩٩ - ذَهَبَ الدَّهْرُ بِعَمْرِو بْ نِ حُلِيٍّ والهَنِيَّاتِ
ثُمَّ بالحَارِثِ والهِلْ لقَام طلاَّعِ الثَّنِيَّاتِ
والَّذِي سَدَّ مَهَبَّ الرْ رِيحِ أَيَّامَ البَلِيَّاتِ
أو يكون إشارة إلى يُبْسِهِمْ وجفافهم بالريح، فهي كانت تقتلهم وتحرقهم ببردها المفرط فيقعون كأنهم أخشاب يابسة.

فصل


(قال) المفسرون: ذكر النخل هنا، وقال: «منقعر» وأنثه في الحاقّة، وقال: أعجاز
257
نخل خاوية لأجل الفواصل كقوله: مُسْتَمِرّ، ومُنْهَمِر، ومُنْتَشِر.
وقيل: إِن النَّخْل لفظه لفظ واحد، ومعناه الجمع، فيقال: نَخْلٌ مُنْقَعِرٌ، ومُنْقَعِرَةٌ ومُنْقَعِرَاتٌ، ونَخْلٌ خاوٍ وخَاوِيةٌ وخَاوِيَاتٌ ونَخْلٌ بَاسِقٌ وبَاسِقَةٌ وبَاسِقَاتٌ.
فإِذا قيل: «منقعر أو خاو أو باسق» فبالنظر إلى اللفظ، وإذا قيل: مُنْقَعِرَاتٌ أو خاويات أو باسقاتٌ فلأجل المعنى.
قال أبو بكر بن الأنباري: سُئِلَ المُبَرِّدُ بحضرة القَاضي إسرفيل عن ألف مسألة هذه من جُمْلَتِهَا فقال: ما الفرق بين قوله تعالى: ﴿وَلِسُلَيْمَانَ الريح عَاصِفَةً﴾ [الأنبياء: ٨١] وقال: ﴿جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ﴾ [يونس: ٢٢]، وقوله: ﴿كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ﴾ [الحاقة: ٧] و ﴿أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ﴾ ؟ فقال: كلّ ما ورد عليك من هذا القرآن، فإن شئت رددته إلى اللفظ تذكيراً أو إلى المعنى تأنيثاً.
قال ابن الخطيب: ذكر الله لفظ النخل في مواضع ثلاثة ووصفها على الأوجه الثلاثة، قال: ﴿والنخل بَاسِقَاتٍ﴾ [ق: ١٠] وذلك حال عنها وهي كالوصف وقال: «نَخْلٍ خَاوِيَةٍ» و «نَخْلٍ مُنْقَعرٍ» فحيث قال: «مُنْقَعِرٍ» كان المختار ذلك، لأن المنقعر في حقيقة الأمر كالمَفْعُول؛ لأنه ورد عليه القَعْر، فهو مَقْعُورٌ، و «الخَاوِي والباسق» فاعل وإخلاء المفعول من علامة التأنيث أولى، تقول: امْرَأَةٌ قَتِيلٌ.
وأما الباسقاتُ فهي فاعلاتٌ حقيقة، لأن البُسُوقَ اسم قام بها، وأما الخاويةُ فهو من باب «حَسَنِ الوَجْهِ» ؛ لأن الخاوي موضعها فكأنه قال: نَخْلٍ خَاوِيَةِ المَوَاضع، وهذا غاية الإعجاز حيث أتى بلفظ مناسب للألفاظ السابقة واللاحقة من حيث اللفظ.
قوله: ﴿فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ﴾ قال أكثر المفسرين:
إن «النُّذُر» ههنا جمع «نَذِير» الذي هو مصدر بمعنى الإِنذار فما الحكمة في توحيد العذاب حيث لم يقال: فكيف أنواعُ عَذَابِي وَقَالَ: إِنذاري؟!.
قال ابن الخطيب: هذا إشارة إِلى غَلَبَةِ الرحمة، لأن الإِنذار إِشفاقٌ ورحمةٌ فقال:
258
الإنذاراتُ التي هي نِعَمٌ ورحمة تَوَاتَرَتْ، فلما لم ينفع وقع العذاب دفعة واحدة فكانت النعمُ كثيرةً والنقمةُ واحدةً.
259
قوله :﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً ﴾ الصَّرْصَرُ الشَّديدة الصَّوْت من صَرْصَرَ البابُ أو القَلَمُ إِذَا صَوَّت.
وقيل : الشديدة البرد من الصَّرِّ وهو البرد وهو كله أصول عند الجمهور.
وقال مكي : أصله «صَرَّراً » من صَرَّ الشيءُ إِذا صوت، لكن أبدلوا من الراء المشددة١ صاداً، وهذه أقوال الكُوفِيِّين. ومثله : كَبْكَبَ وكَفْكَفَ. وتقدم هذا في فُصِّلَتْ٢ وغيرها.
وقال ابن الخطيب : الصرصر هو الدائمة الهبوب من أَصَرَّ عَلَى الشَّيْءِ إِذا دَامَ وَثَبَت.

فصل


﴿ يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ ﴾ شديد دائم الشُّؤم استمر عليهم بنُحُوسِهِ، ولم يُبْقِ منهم أحداً إِلا أهلكه. قيل : ذلك يوم الأربعاء في آخر الشهر.
فإن قيل : إذا كان يوم الأربعاء يَوْمَ نَحْسٍ مستمر فكيف يستجاب فيه الدعاء ؟ ! وقد جاء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استجيب له فيه فيما بين الظهر والعصر.
فالجواب : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :«أتاني جبريل فقال :«إنَّ اللَّهَ يأمرك أَنْ تَقْضِي مع الشاهد » وقال : يَوْمُ الأربعاء يَوْمُ نَحْسٍ مُسْتَمِرّ. ومعلوم أنه لم يرد أنه نحس على المصلحين بل على المفسدين، كما كانت الأيام النحسات على الكُفار، لا على نبيهم والمؤمنين.
واعلم أنه تعالى قال ههنا : إِنا أرسلنا عليهم ريحاً صرصراً وقال في الذاريات :﴿ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الريح العقيم ﴾ [ الذاريات : ٤١ ] فعرَّف الريح هناك، ونكَّرَها ههنا ؛ لأن العقم في الريح أظهر من البَرْد الذي يضرّ النبات أو الشدة التي تَعْصِفُ الأشجار، لأن الريح العقيم هي التي لا تُنْشِئ سحاباً، ولا تُلَقِّح شجراً وهي كثيرة الوقوع، وأما الريح المهلكة الباردة فقلما تُوجَد فقال : الريح العقيم أي هذا الجنس المعروف٣.
ثم زاده بياناً بقوله :﴿ مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كالرميم ﴾ فتميزت عن الريح العقيم، وأما الصرصر فقليلة الوقوع فلا تكون مشهورة فنكَّرها٤.
قوله :﴿ فِي يَوْمِ نَحْسٍ ﴾ العامة على إضافة يَوْم إلى نَحْسٍ - بسكون الحاء - وفيه وجهان :
أحدهما : أنه من إضافة الموصوف إلى صفته.
والثاني - وهو قول البصريين٥ - أنه صفة لموصوف محذوف أي يوم عذاب نحس.
وقرأ الحسن - ( رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ) ٦ بتَنْوِينه ووصفه بنَحْسٍ٧ ولم يقيِّده الزمخشري بكسر الحاء٨. وقيده أبو حيان٩. وقد قرئ قوله :﴿ في أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ ﴾ [ فصلت : ١٦ ] بسكون الحاء وكسرها، وتنوين «أيام » عند الجميع ما تقدم تقريره، و«مُسْتَمِرٍّ » صفة «ليوم » أو «نحس ». ومعناه كما تقدم أي عليهم حتى أهلكهم، أو من المرارة. قال الضحاك : كان مراً عليهم وكذا حكى الكسائي أن قوماً قالوا هو من المرارة يقال : مَرَّ الشَّيْءُ، وأَمَرَّ أي كان كالشيء المر تكرهه النفوس، وقد قال :﴿ فَذُوقُواْ ﴾ [ آل عمران : ١٠٦ ] والذي يُذَاقُ قَدْ يكونُ مُرًّا١٠.
قوله :( تَنْزِعُ النَّاسَ ) في موضع نصب إما نعتاً ل «رِيحاً » وإما حالاً منها لتخصصها بالصفة ؛ ويجوز أن تكون مستأنفة١١. وقال :«الناس » ليعم ذَكَرَهُمْ وأنثاهم، فأوقع الظاهر موقع المضمر لذلك فالأصل تَنْزِعُهُمْ١٢.

فصل


قال تعالى هنا :﴿ فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ ﴾ وقال في السجدة١٣ :﴿ فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ ﴾ وقال في الحاقة :﴿ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً ﴾ [ الحاقة : ٧ ]. والمراد من اليوم هنا الوقت والزمان كما في قوله :﴿ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً ﴾ [ مريم : ٣٣ ]. وقوله «مُسْتَمِرّ » يفيد ما يفيده الأيام ؛ لأن الاستمرار ينبئ عن امتداد الزمان كما تنبئ عَنْهُ الأيام. والحكاية هنا مذكورة على سبيل الاختصار فذكر الزمان ولم يذكر مقداره على سبيل الإيجاز١٤.
قوله :«كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ » حال من الناس مقدرةً١٥، و«مُنْقَعِرٍ » صفة للنَّخل باعتبار الجنس، ولو أنث لاعتبر معنى الجماعة كقوله :﴿ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ ﴾ [ الحاقة : ٧ ]. وقد مضى تحقيق١٦ اللغتين فيه.
وإنما ذكر هنا وأنث في الحاقة مراعاةً للفواصل في الموضعين. وقرأ أبو نُهَيْكٍ :«أَعْجُزُ » على وزن أفْعُلٍ نحو : ضَبُع وأَضْبُع١٧.
وقيل : الكاف في موضع نصب بفعل مقدر تقديره : تَتْرُكُهْم كَأَنَّهم أَعْجَازٌ. قاله مَكِّي١٨.
ولو جعل مفعولاً ثانياً على التضمين أي تصيرهم بالنزع كأنهم لَكَان أقرب.
والأعجاز جمع عَجُز١٩ وهو مؤخر الشيء، ومنه العَجْز، لأنه يؤدي إلى تأخر الأمور. والمُنْقَعِرُ : المنقلع من أصله ( يقال ) قَعَرْتُ النَّخْلَةَ قَلَعْتُهَا من أصلها فانْقَعَرَتْ. وقَعَرْتُ البئْرَ : وَصلتُ إِلى قَعْرِهَا وقَعَرْتُ الإِناء شَرِبْتُ ما فيه حتى وصلت إِلى قَعْرِهِ، وأَقْعَرْتُ البِئْرَ أي جَعَلْتُ له قَعْراً٢٠.

فصل


تنزع الناس تَقْلَعُهُمْ ثُمَّ تَرْمِي بهم على رؤوسهم فتدق رِقَابَهُمْ. وروي : أنها كانت تنزع الناس من قبورهم كأنهم أعجاز نخل. قال ابن عباس ( رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ) أصولها. وقال الضحاك : أوراك نخل منقعر منقلع من مكانه ساقطٍ على الأرض٢١ وقال : أعجاز نخل وهي أصولها التي قلعت فروعها، لأن الكفّار تبين رؤوسهم من أجسادهم فتبقى أجسادهم بلا رؤوس. قال ابن الخطيب : تَنْزِعُهُمْ نزعا بعُنْف كأنهم أعجاز نخل منقعر٢٢ فينقعروا.
وهذا إشارة إلى قوتهم وثباتهم على الأرض، ويكون ذلك إشارةً إلى عظم أجسادهم أو إلى ثباتهم في الأرض فكأنهم كانوا يجعلون أرجُلهمْ في الأرض ويقصدون المنع به على الرِّيح٢٣.
قال ابن إسحاق : لما هاجت الريح قام سبعة نَفَر من عاد من أقواهُم وأحْسَمِهمْ منهم عمرو بنُ الحُلِيّ، والحارث بن شدّاد والهِلْقَامُ وابنا تِقْن وخَلْجَانُ بن سعد فألجأوا٢٤ العِيَالَ في شِعْب بينٍ جَبَلَيْن ثم اصطفّوا على جانبي الشِّعْب ليردُّوا الريح عمن في الشِّعْب من العِيال فجعلت الريح تَجْعفُهُمْ٢٥ رجلاً بعد رجلٍ، فقالت امرأة عاد :
ذَهَبَ الدَّهْرُ بِعَمْرِو بْ نِ حُلِيٍّ والهَنِيَّاتِ
ثُمَّ بالحَارِثِ والهِلْ لقَام طلاَّعِ الثَّنِيَّاتِ
والَّذِي سَدَّ مَهَبَّ الرْ رِيحِ أَيَّامَ البَلِيَّاتِ٢٦
أو يكون إشارة إلى يُبْسِهِمْ وجفافهم بالريح، فهي كانت تقتلهم وتحرقهم ببردها المفرط فيقعون كأنهم أخشاب يابسة.

فصل


( قال ) المفسرون : ذكر النخل هنا، وقال :«منقعر » وأنثه في الحاقّة، وقال : أعجاز نخل خاوية لأجل الفواصل كقوله : مُسْتَمِرّ، ومُنْهَمِر، ومُنْتَشِر.
وقيل : إِن النَّخْل لفظه لفظ واحد، ومعناه الجمع، فيقال : نَخْلٌ مُنْقَعِرٌ، ومُنْقَعِرَةٌ ومُنْقَعِرَاتٌ، ونَخْلٌ خاوٍ وخَاوِيةٌ وخَاوِيَاتٌ ونَخْلٌ بَاسِقٌ وبَاسِقَةٌ وبَاسِقَاتٌ.
فإِذا قيل :«منقعر أو خاو أو باسق » فبالنظر إلى اللفظ، وإذا قيل : مُنْقَعِرَاتٌ أو خاويات أو باسقاتٌ فلأجل المعنى٢٧.
قال أبو بكر بن الأنباري : سُئِلَ المُبَرِّدُ بحضرة القَاضي إسرفيل٢٨ عن ألف مسألة هذه من جُمْلَتِهَا فقال : ما الفرق بين قوله تعالى :﴿ وَلِسُلَيْمَانَ الريح عَاصِفَةً ﴾ [ الأنبياء : ٨١ ] وقال :﴿ جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ ﴾ [ يونس : ٢٢ ]، وقوله :﴿ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ ﴾ [ الحاقة : ٧ ] و﴿ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ ﴾ ؟ فقال : كلّ ما ورد عليك من هذا القرآن، فإن شئت رددته إلى اللفظ تذكيراً أو إلى المعنى تأنيثاً٢٩.
قال ابن الخطيب : ذكر الله لفظ النخل في مواضع ثلاثة ووصفها على الأوجه الثلاثة، قال :﴿ والنخل بَاسِقَاتٍ ﴾ [ ق : ١٠ ] وذلك حال عنها وهي كالوصف وقال :«نَخْلٍ خَاوِيَةٍ » و«نَخْلٍ مُنْقَعرٍ » فحيث قال :«مُنْقَعِرٍ » كان المختار ذلك، لأن المنقعر في حقيقة الأمر كالمَفْعُول ؛ لأنه ورد عليه القَعْر، فهو مَقْعُورٌ، و«الخَاوِي والباسق » فاعل وإخلاء المفعول من علامة التأنيث أولى، تقول : امْرَأَةٌ قَتِيلٌ٣٠. وأما الباسقاتُ فهي فاعلاتٌ حقيقة، لأن البُسُوقَ اسم قام بها، وأما الخاويةُ فهو من باب «حَسَنِ الوَجْهِ » ؛ لأن الخاوي موضعها فكأنه قال : نَخْلٍ خَاوِيَةِ المَوَاضع، وهذا غاية الإعجاز حيث أتى بلفظ مناسب للألفاظ السابقة واللاحقة من حيث اللفظ٣١.
١ في مشكل الإعراب: "الثانية" بدل المشدّدة..
٢ عند قوله: ﴿فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا﴾ من الآية ١٦. كما تقدم في الذاريات عند: ﴿فأقبلت امرأته في صرّة﴾ من الآية ٢٩، وسيجيء في الحاقة عند قوله: ﴿فأُهلكوا بريح صرصر﴾ من الآية ٦ وانظر اللسان (صرصر) ٢٤٢٩، وغريب القرآن ٤٣٢، ومجاز القرآن ٢/٢٤٠..
٣ وانظر الرازي ١٥/٤٥ و٤٦..
٤ السابق ٤٦ و٤٧ جـ ١٥..
٥ وسبق هذا الرأي رأي البصرة والكوفة في مثل هذا..
٦ زيادة من (أ) الأصل..
٧ قال القرطبي في الجامع: وقرأ هارون الأعور نحس بكسر الحاء. الجامع ١٧/١٣٥. ولم يبين ما إذا كان صفة أم لا. وقد نقل المؤلف قراءة الحسن من البحر لأبي حيان ٨/١٧٩..
٨ الكشاف ٤/٣٩..
٩ البحر المرجع السابق..
١٠ وانظر جامع القرطبي ١٧/١٣٥..
١١ قاله أبو حيان في بحره ٨/١٧٩..
١٢ انظر السابق أيضا، قال: "إذ لو عاد بضمير المذكورين لتوهم أنه خاصّ بهم"..
١٣ أي في فصّلت الآية سابقة الذكر..
١٤ الرازي ١٥/٤٧..
١٥ قاله أبو حيان في مرجعه السابق..
١٦ حيث قال في الأنعام من الآية ٩٩: ﴿ومن النخل من طلعها قِنوان﴾. وقال في نفس السورة عند الآية ١٤١: ﴿والنخل والزرع مختلفا أُكُله﴾ بالإضافة إلى الآيات الواردة في القرآن من سور الشعراء، والرحمان، والحاقة، و"ق" وهي شبيهة بتلك الآيات..
١٧ وهي شاذة. وانظر البحر المرجع السابق..
١٨ مشكل الإعراب ٢/٣٣٨..
١٩ قال في اللسان: عَجِزُ الشيء وعُجزُه وعِجزُه: آخره، ويذكّر ويؤنّث. وانظر اللسان "عجز" ٢٨١٧..
٢٠ السابق "قعر" ٣٦٩١..
٢١ وانظر هذا في البغوي والخازن ٦/٢٧٥ و٢٧٦..
٢٢ في كتابه: "التفسير الكبير" تقعرهم وكذا في ب..
٢٣ السابق ١٥/٤٨..
٢٤ في القرطبي" فأولجوا..
٢٥ تصرعهم وتضربهم في الأرض..
٢٦ من مجزوء الرمل مُسبّع الضرب. وانظر تلك القصة في القرطبي ١٧/١٣٦، وجامع البيان لابن جرير الطبري ١٧/٥٨..
٢٧ الرازي ١٥/٤٨..
٢٨ كذا في النسختين وفي تفسير القرطبي: إسماعيل القاضي. وهو الصحيح..
٢٩ نقله الإمام القرطبي في جامعه ١٧/١٣٧..
٣٠ في الرازي: امرأة كفيل، وامرأة كفيلة، وامرأة كبير، وامرأة كبيرة..
٣١ قاله العلامة الفخر الرازي في تفسيره الكبير ١٥/٤٨ و٤٩ واختتم كلامه بقوله: "فكان الدليل يقتضي ذلك، بخلاف الشاعر الذي يختار اللفظ على المذهب الضعيف لأجل الوزن والقافية"..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٩:قوله :﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً ﴾ الصَّرْصَرُ الشَّديدة الصَّوْت من صَرْصَرَ البابُ أو القَلَمُ إِذَا صَوَّت.
وقيل : الشديدة البرد من الصَّرِّ وهو البرد وهو كله أصول عند الجمهور.
وقال مكي : أصله «صَرَّراً » من صَرَّ الشيءُ إِذا صوت، لكن أبدلوا من الراء المشددة١ صاداً، وهذه أقوال الكُوفِيِّين. ومثله : كَبْكَبَ وكَفْكَفَ. وتقدم هذا في فُصِّلَتْ٢ وغيرها.
وقال ابن الخطيب : الصرصر هو الدائمة الهبوب من أَصَرَّ عَلَى الشَّيْءِ إِذا دَامَ وَثَبَت.

فصل


﴿ يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ ﴾ شديد دائم الشُّؤم استمر عليهم بنُحُوسِهِ، ولم يُبْقِ منهم أحداً إِلا أهلكه. قيل : ذلك يوم الأربعاء في آخر الشهر.
فإن قيل : إذا كان يوم الأربعاء يَوْمَ نَحْسٍ مستمر فكيف يستجاب فيه الدعاء ؟ ! وقد جاء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استجيب له فيه فيما بين الظهر والعصر.
فالجواب : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :«أتاني جبريل فقال :«إنَّ اللَّهَ يأمرك أَنْ تَقْضِي مع الشاهد » وقال : يَوْمُ الأربعاء يَوْمُ نَحْسٍ مُسْتَمِرّ. ومعلوم أنه لم يرد أنه نحس على المصلحين بل على المفسدين، كما كانت الأيام النحسات على الكُفار، لا على نبيهم والمؤمنين.
واعلم أنه تعالى قال ههنا : إِنا أرسلنا عليهم ريحاً صرصراً وقال في الذاريات :﴿ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الريح العقيم ﴾ [ الذاريات : ٤١ ] فعرَّف الريح هناك، ونكَّرَها ههنا ؛ لأن العقم في الريح أظهر من البَرْد الذي يضرّ النبات أو الشدة التي تَعْصِفُ الأشجار، لأن الريح العقيم هي التي لا تُنْشِئ سحاباً، ولا تُلَقِّح شجراً وهي كثيرة الوقوع، وأما الريح المهلكة الباردة فقلما تُوجَد فقال : الريح العقيم أي هذا الجنس المعروف٣.
ثم زاده بياناً بقوله :﴿ مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كالرميم ﴾ فتميزت عن الريح العقيم، وأما الصرصر فقليلة الوقوع فلا تكون مشهورة فنكَّرها٤.
قوله :﴿ فِي يَوْمِ نَحْسٍ ﴾ العامة على إضافة يَوْم إلى نَحْسٍ - بسكون الحاء - وفيه وجهان :
أحدهما : أنه من إضافة الموصوف إلى صفته.
والثاني - وهو قول البصريين٥ - أنه صفة لموصوف محذوف أي يوم عذاب نحس.
وقرأ الحسن - ( رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ) ٦ بتَنْوِينه ووصفه بنَحْسٍ٧ ولم يقيِّده الزمخشري بكسر الحاء٨. وقيده أبو حيان٩. وقد قرئ قوله :﴿ في أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ ﴾ [ فصلت : ١٦ ] بسكون الحاء وكسرها، وتنوين «أيام » عند الجميع ما تقدم تقريره، و«مُسْتَمِرٍّ » صفة «ليوم » أو «نحس ». ومعناه كما تقدم أي عليهم حتى أهلكهم، أو من المرارة. قال الضحاك : كان مراً عليهم وكذا حكى الكسائي أن قوماً قالوا هو من المرارة يقال : مَرَّ الشَّيْءُ، وأَمَرَّ أي كان كالشيء المر تكرهه النفوس، وقد قال :﴿ فَذُوقُواْ ﴾ [ آل عمران : ١٠٦ ] والذي يُذَاقُ قَدْ يكونُ مُرًّا١٠.
قوله :( تَنْزِعُ النَّاسَ ) في موضع نصب إما نعتاً ل «رِيحاً » وإما حالاً منها لتخصصها بالصفة ؛ ويجوز أن تكون مستأنفة١١. وقال :«الناس » ليعم ذَكَرَهُمْ وأنثاهم، فأوقع الظاهر موقع المضمر لذلك فالأصل تَنْزِعُهُمْ١٢.

فصل


قال تعالى هنا :﴿ فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ ﴾ وقال في السجدة١٣ :﴿ فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ ﴾ وقال في الحاقة :﴿ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً ﴾ [ الحاقة : ٧ ]. والمراد من اليوم هنا الوقت والزمان كما في قوله :﴿ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً ﴾ [ مريم : ٣٣ ]. وقوله «مُسْتَمِرّ » يفيد ما يفيده الأيام ؛ لأن الاستمرار ينبئ عن امتداد الزمان كما تنبئ عَنْهُ الأيام. والحكاية هنا مذكورة على سبيل الاختصار فذكر الزمان ولم يذكر مقداره على سبيل الإيجاز١٤.
قوله :«كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ » حال من الناس مقدرةً١٥، و«مُنْقَعِرٍ » صفة للنَّخل باعتبار الجنس، ولو أنث لاعتبر معنى الجماعة كقوله :﴿ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ ﴾ [ الحاقة : ٧ ]. وقد مضى تحقيق١٦ اللغتين فيه.
وإنما ذكر هنا وأنث في الحاقة مراعاةً للفواصل في الموضعين. وقرأ أبو نُهَيْكٍ :«أَعْجُزُ » على وزن أفْعُلٍ نحو : ضَبُع وأَضْبُع١٧.
وقيل : الكاف في موضع نصب بفعل مقدر تقديره : تَتْرُكُهْم كَأَنَّهم أَعْجَازٌ. قاله مَكِّي١٨.
ولو جعل مفعولاً ثانياً على التضمين أي تصيرهم بالنزع كأنهم لَكَان أقرب.
والأعجاز جمع عَجُز١٩ وهو مؤخر الشيء، ومنه العَجْز، لأنه يؤدي إلى تأخر الأمور. والمُنْقَعِرُ : المنقلع من أصله ( يقال ) قَعَرْتُ النَّخْلَةَ قَلَعْتُهَا من أصلها فانْقَعَرَتْ. وقَعَرْتُ البئْرَ : وَصلتُ إِلى قَعْرِهَا وقَعَرْتُ الإِناء شَرِبْتُ ما فيه حتى وصلت إِلى قَعْرِهِ، وأَقْعَرْتُ البِئْرَ أي جَعَلْتُ له قَعْراً٢٠.

فصل


تنزع الناس تَقْلَعُهُمْ ثُمَّ تَرْمِي بهم على رؤوسهم فتدق رِقَابَهُمْ. وروي : أنها كانت تنزع الناس من قبورهم كأنهم أعجاز نخل. قال ابن عباس ( رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ) أصولها. وقال الضحاك : أوراك نخل منقعر منقلع من مكانه ساقطٍ على الأرض٢١ وقال : أعجاز نخل وهي أصولها التي قلعت فروعها، لأن الكفّار تبين رؤوسهم من أجسادهم فتبقى أجسادهم بلا رؤوس. قال ابن الخطيب : تَنْزِعُهُمْ نزعا بعُنْف كأنهم أعجاز نخل منقعر٢٢ فينقعروا.
وهذا إشارة إلى قوتهم وثباتهم على الأرض، ويكون ذلك إشارةً إلى عظم أجسادهم أو إلى ثباتهم في الأرض فكأنهم كانوا يجعلون أرجُلهمْ في الأرض ويقصدون المنع به على الرِّيح٢٣.
قال ابن إسحاق : لما هاجت الريح قام سبعة نَفَر من عاد من أقواهُم وأحْسَمِهمْ منهم عمرو بنُ الحُلِيّ، والحارث بن شدّاد والهِلْقَامُ وابنا تِقْن وخَلْجَانُ بن سعد فألجأوا٢٤ العِيَالَ في شِعْب بينٍ جَبَلَيْن ثم اصطفّوا على جانبي الشِّعْب ليردُّوا الريح عمن في الشِّعْب من العِيال فجعلت الريح تَجْعفُهُمْ٢٥ رجلاً بعد رجلٍ، فقالت امرأة عاد :
ذَهَبَ الدَّهْرُ بِعَمْرِو بْ نِ حُلِيٍّ والهَنِيَّاتِ
ثُمَّ بالحَارِثِ والهِلْ لقَام طلاَّعِ الثَّنِيَّاتِ
والَّذِي سَدَّ مَهَبَّ الرْ رِيحِ أَيَّامَ البَلِيَّاتِ٢٦
أو يكون إشارة إلى يُبْسِهِمْ وجفافهم بالريح، فهي كانت تقتلهم وتحرقهم ببردها المفرط فيقعون كأنهم أخشاب يابسة.

فصل


( قال ) المفسرون : ذكر النخل هنا، وقال :«منقعر » وأنثه في الحاقّة، وقال : أعجاز نخل خاوية لأجل الفواصل كقوله : مُسْتَمِرّ، ومُنْهَمِر، ومُنْتَشِر.
وقيل : إِن النَّخْل لفظه لفظ واحد، ومعناه الجمع، فيقال : نَخْلٌ مُنْقَعِرٌ، ومُنْقَعِرَةٌ ومُنْقَعِرَاتٌ، ونَخْلٌ خاوٍ وخَاوِيةٌ وخَاوِيَاتٌ ونَخْلٌ بَاسِقٌ وبَاسِقَةٌ وبَاسِقَاتٌ.
فإِذا قيل :«منقعر أو خاو أو باسق » فبالنظر إلى اللفظ، وإذا قيل : مُنْقَعِرَاتٌ أو خاويات أو باسقاتٌ فلأجل المعنى٢٧.
قال أبو بكر بن الأنباري : سُئِلَ المُبَرِّدُ بحضرة القَاضي إسرفيل٢٨ عن ألف مسألة هذه من جُمْلَتِهَا فقال : ما الفرق بين قوله تعالى :﴿ وَلِسُلَيْمَانَ الريح عَاصِفَةً ﴾ [ الأنبياء : ٨١ ] وقال :﴿ جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ ﴾ [ يونس : ٢٢ ]، وقوله :﴿ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ ﴾ [ الحاقة : ٧ ] و﴿ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ ﴾ ؟ فقال : كلّ ما ورد عليك من هذا القرآن، فإن شئت رددته إلى اللفظ تذكيراً أو إلى المعنى تأنيثاً٢٩.
قال ابن الخطيب : ذكر الله لفظ النخل في مواضع ثلاثة ووصفها على الأوجه الثلاثة، قال :﴿ والنخل بَاسِقَاتٍ ﴾ [ ق : ١٠ ] وذلك حال عنها وهي كالوصف وقال :«نَخْلٍ خَاوِيَةٍ » و«نَخْلٍ مُنْقَعرٍ » فحيث قال :«مُنْقَعِرٍ » كان المختار ذلك، لأن المنقعر في حقيقة الأمر كالمَفْعُول ؛ لأنه ورد عليه القَعْر، فهو مَقْعُورٌ، و«الخَاوِي والباسق » فاعل وإخلاء المفعول من علامة التأنيث أولى، تقول : امْرَأَةٌ قَتِيلٌ٣٠. وأما الباسقاتُ فهي فاعلاتٌ حقيقة، لأن البُسُوقَ اسم قام بها، وأما الخاويةُ فهو من باب «حَسَنِ الوَجْهِ » ؛ لأن الخاوي موضعها فكأنه قال : نَخْلٍ خَاوِيَةِ المَوَاضع، وهذا غاية الإعجاز حيث أتى بلفظ مناسب للألفاظ السابقة واللاحقة من حيث اللفظ٣١.
١ في مشكل الإعراب: "الثانية" بدل المشدّدة..
٢ عند قوله: ﴿فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا﴾ من الآية ١٦. كما تقدم في الذاريات عند: ﴿فأقبلت امرأته في صرّة﴾ من الآية ٢٩، وسيجيء في الحاقة عند قوله: ﴿فأُهلكوا بريح صرصر﴾ من الآية ٦ وانظر اللسان (صرصر) ٢٤٢٩، وغريب القرآن ٤٣٢، ومجاز القرآن ٢/٢٤٠..
٣ وانظر الرازي ١٥/٤٥ و٤٦..
٤ السابق ٤٦ و٤٧ جـ ١٥..
٥ وسبق هذا الرأي رأي البصرة والكوفة في مثل هذا..
٦ زيادة من (أ) الأصل..
٧ قال القرطبي في الجامع: وقرأ هارون الأعور نحس بكسر الحاء. الجامع ١٧/١٣٥. ولم يبين ما إذا كان صفة أم لا. وقد نقل المؤلف قراءة الحسن من البحر لأبي حيان ٨/١٧٩..
٨ الكشاف ٤/٣٩..
٩ البحر المرجع السابق..
١٠ وانظر جامع القرطبي ١٧/١٣٥..
١١ قاله أبو حيان في بحره ٨/١٧٩..
١٢ انظر السابق أيضا، قال: "إذ لو عاد بضمير المذكورين لتوهم أنه خاصّ بهم"..
١٣ أي في فصّلت الآية سابقة الذكر..
١٤ الرازي ١٥/٤٧..
١٥ قاله أبو حيان في مرجعه السابق..
١٦ حيث قال في الأنعام من الآية ٩٩: ﴿ومن النخل من طلعها قِنوان﴾. وقال في نفس السورة عند الآية ١٤١: ﴿والنخل والزرع مختلفا أُكُله﴾ بالإضافة إلى الآيات الواردة في القرآن من سور الشعراء، والرحمان، والحاقة، و"ق" وهي شبيهة بتلك الآيات..
١٧ وهي شاذة. وانظر البحر المرجع السابق..
١٨ مشكل الإعراب ٢/٣٣٨..
١٩ قال في اللسان: عَجِزُ الشيء وعُجزُه وعِجزُه: آخره، ويذكّر ويؤنّث. وانظر اللسان "عجز" ٢٨١٧..
٢٠ السابق "قعر" ٣٦٩١..
٢١ وانظر هذا في البغوي والخازن ٦/٢٧٥ و٢٧٦..
٢٢ في كتابه: "التفسير الكبير" تقعرهم وكذا في ب..
٢٣ السابق ١٥/٤٨..
٢٤ في القرطبي" فأولجوا..
٢٥ تصرعهم وتضربهم في الأرض..
٢٦ من مجزوء الرمل مُسبّع الضرب. وانظر تلك القصة في القرطبي ١٧/١٣٦، وجامع البيان لابن جرير الطبري ١٧/٥٨..
٢٧ الرازي ١٥/٤٨..
٢٨ كذا في النسختين وفي تفسير القرطبي: إسماعيل القاضي. وهو الصحيح..
٢٩ نقله الإمام القرطبي في جامعه ١٧/١٣٧..
٣٠ في الرازي: امرأة كفيل، وامرأة كفيلة، وامرأة كبير، وامرأة كبيرة..
٣١ قاله العلامة الفخر الرازي في تفسيره الكبير ١٥/٤٨ و٤٩ واختتم كلامه بقوله: "فكان الدليل يقتضي ذلك، بخلاف الشاعر الذي يختار اللفظ على المذهب الضعيف لأجل الوزن والقافية"..

قوله :﴿ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ ﴾ قال أكثر المفسرين :
إن «النُّذُر » ههنا جمع «نَذِير » الذي هو مصدر بمعنى الإِنذار فما الحكمة في توحيد العذاب حيث لم يقال : فكيف أنواعُ عَذَابِي وَقَالَ١ : إِنذاري ؟ !.
قال ابن الخطيب : هذا إشارة إِلى غَلَبَةِ الرحمة، لأن الإِنذار إِشفاقٌ ورحمةٌ فقال : الإنذاراتُ التي هي نِعَمٌ ورحمة تَوَاتَرَتْ، فلما لم ينفع٢ وقع العذاب دفعة واحدة فكانت النعمُ كثيرةً والنقمةُ واحدةً.
١ الصحيح كما عبارة الرازي: ووَبالِ إنذاري..
٢ في ب يقع..
قوله: ﴿كَذَّبَتْ (ثَمُودُ بالنذر﴾ اعلم أَنَّه تعالى لم يقل في قوم نوح: «كَذَّبْت قَوْمُ نُوحِ) بالنذر» وكذلك في قصة عاد. لأن المراد بقوله: ﴿كذبت قبلهم قوم نوح﴾ أن عادتهم إنكار الرسل وتكذيبهم فكذبوا نوحاً على مذهبهم وعادتهم.
وإنما صرح ههنا، لأن كل قوم يأتون بعد قوم، فالمكذِّب المتأخر يكذب المرسلينَ جميعاً حقيقةً، والأولون يكذبون رسولاً واحداً حقيقة ويلزم منه تكذيب من بعده تبعاً، ولهذا المعنى قال في قوم نوح: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ المرسلين﴾ [الشعراء: ١٠٥] وقال في عاد: ﴿وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ﴾ [هود: ٥٩] فذكر بلفظ الجمع المُسْتَغْرق ثم إنه تعالى قال عن نوح: ﴿رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ﴾ [الشعراء: ١١٧] ولم يقل: كَذَّبُوا رُسُلَكَ إشارةً إلى ما صدر منهم حقيقة لا إلى ما لزم منه، وقوله تعالى: ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ بالنذر﴾ إن قلنا: إن النذر هم الرسل فهو كما تقدم، وإن قلنا: إن النذر هي الإنذارات فنقول: قوم نوح وعاد لم تستمر المعجزات التي ظهرت في زمانهم.
وأما ثمود فأُنْذِرُوا وأُخْرِجَ لهم ناقة من صخرةٍ وكانت تدور بينهم وكذبوا فكان تكذيبهم بإِنذاراتٍ وآياتٍ ظاهرة فصرَّح بها.
قوله: «أبَشَراً» منصوب على الاشتغال وهو الراجح، لتقدم أداة هي بالفعل أولى. و «مِنَّا» نعت له. و «وَاحِداً» فيه وجهان:
أظهرهما: أنه نعت «لِبَشَراً» إلا أنه يشكل عليه تقديم الصفة المؤولة على
259
الصريحة. ويجاب: بأن «مِنَّا» حينئذ ليس وصفاً بل حال من «وَاحِداً» قُدِّمَ عليه.
والثاني: أنه نصب على الحال من هاء «نَتَّبِعُهُ». وهو يَخْلُصُ من الإعراب المتقدم، إِلا أنَّ المرجع لكونه صفة قراءتهما مرفوعين: ﴿أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ﴾ على ما سيأتي، فهذا يرجّح كون «واحداً» نعتاً «لبَشَرٍ» لا حالاً.
وقرأ أبُو السَّمَّال فيما نقل الهُذَلِيُّ والدَّانِيّ برفعهما على الابتداء، و «وَاحِدٌ» صفته و «نَتَّبِعُهُ» خبره.
وقرأ أبو السَّمَّال أيضاً فيما نقل ابن خالويه، وأبو الفضل وابن عطية: برفع «بشر» ونصب «واحداً» وفيه أوجه:
أحدها: أن يكون «أَبَشَرٌ» مبتدأ وخبره مضمر تقديره: أَبَشَرٌ منا يُبْعَثُ إِلينا أو يُرْسَل. وأما انتصاب «واحداً» ففيه وجهان:
أحدهما: أنه حال من الضمير المستتر في (مِنَّا) لأنه وقع نعتاً.
الثاني: أنه حال من هاء «نَتَّبِعُهُ». وهذا كله تخريج أبِي الفضل الرَّازيِّ.
والثاني: أنه مرفوع بالابتداء أيضاً، والخبر «نَتَّبِعُهُ» و «واحداً» حال على الوجهين المذكورين آنفاً.
الثالث: أنه مرفوع بفعل مضمر مبني للمفعول تقديره: أَيُنَبَّأُ بَشرٌ، و (مِنَّا) نعت و (واحداً) حال أيضاً على الوجهين المذكورين آنفاً.
وإليه ذهب ابن عطية.

فصل


قال ابن الخطيب: والحكمة في تأخير الفعل في الظاهر أن البليغ يُقَدِّمُ في الكلام ما يكون تعلق غرضه به أكثر والقوم كانوا يريدون بيان كونهم محقِّين في ترك الاتّباع، فلو
260
قالوا: أَنَتَّبِعُ بَشَراً أمكن أن يقال: نعم اتَّبِعُوهُ، وماذا يمنعكم من اتباعه؟ فإذا قدمنا حاله وقالوا: هو من نوعنا بشر من صِفَتِنَا رجل ليس غريباً نعتقد فيه أنه يَعْلَمُ ما لا نَعْلَمُ أو يَقْدِرُ على ما لا نَقْدِرُ وهو واحد وليس له جندٌ ولا حَشَمٌ ولا خَدَمٌ ولا خيلٌ وهو وحيد ونحن جماعة فكيف نتبعه؟! فيكونون قد قدموا الموجب لجواز الامتناع عن اتباعه. وفي الآية إشاراتٌ إلى ذلك، منها تنكيره حيث قالوا: أَبَشَراً، ولم يقولوا: أَرَجُلاً، ومنها: قولهم: مِنَّا وهو يحتمل أمرين:
أحدهما: من صنفنا ليس غريباً.
والثاني: «مِنَّا» أي تَبَعنَا؛ لأن «مِنْ» للتبعيض والبعض يتبع الكل، لا الكل يتبع البعض.
ومنها قولهم: «واحداً»، وهو يحتمل أمرين أيضاً:
أحدهما: وحيداً إشارةً إلى ضعفه.
وثانيهما: واحداً أي هو من آحاد النَّاس أي هو ممَّنْ ليس بمشهور بحَسَبٍ ولا نَسَبٍ، إذا حَدَّث لا يُعْرَفُ ولا يمكن أن يقال عنه: قَال فلانٌ، بل يقال: قال واحدٌ، وذلك غاية الخُمول، أو لأن الأرذَلَ لا يَنْضَمُّ إليه أحد.
قوله: ﴿إِنَّآ إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ﴾ خَطَأٍ، وذهاب عن الصواب «وَسُعُرٍ» (قال ابن عباس: عذاب. وقال الحسن: شدة العذاب. وقال قتادةً: عَنَاء). «وسُعُر» يجوز أن يكون مفرداً أي جُنُون يقال: نَاقَةٌ مَسْعُورَةٌ أي كالمجنونة في سيرها، قال الشاعر (- رحمةُ اللَّهِ عَلَيْهِ -) :
٤٦٠٠ - كَأَنَّ بِهَا سُعْراً إذَا السُّعْرُ هَزَّهَا ذَمِيلٌ وَإِرْخَاءٌ مِنَ السَّيْرِ مُتْعِبُ
وأن يكون جمع «سَعِيرٍ» وهو النار. قاله سفيان بن عُيَيْنة. والاحتمالان منقولان عنه.
261
والمعنى: إِنَّا إذَنْ لَفِي عَنَاءٍ وعذاب مما يلزمنا مِنْ طاعته. وقال وَهْبٌ: معناه: بُعْدٌ عن الحَقِّ.
قوله: ﴿أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا﴾ معناه أأنزل عليه الذكر، وهُو الوحي «مِنْ بَيْنِنَا» حال من هاء «عليه»، أي ألقي عليه منفرداً من بيننا أي خصص بالرسالة من بين آلِ ثمود وفيهم من هو أكثر مالاً وأحسن حالاً. وهو استفهام بمعنى الإنكار.
قوله: ﴿بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ﴾ الأشِرُ البَطِرُ، يقال: أَشِرَ يأشَرُ أَشَراً فَهُو أشِرٌ كَفِرحَ، وآشِرٌ كَضَارِبٍ وأَشْرَانُ كَسَكْرَانَ، وأُشَارَى كَأُسَارَى.
وقرأ أبو قِلاَبَةَ: ﴿بل هو الكَذَّابُ الأَشَرُّ﴾، ﴿مَنِ الكَذَّابُ الأَشَرُ﴾ ؟ بفتح الشين وتشديد الراء، جَعَلَهُمَا أفعلَ تَفْضِيلٍ. وهو شاذ، لأنه (لم) يحْذف الهمزة من لفظ الخَيْرِ والشّرّ في «أفعل» التفضيل، تقول: زَيْدٌ خَيْرٌ مِنْ عَمْرو وشَرٌّ مِن بَكْرٍ، ولا تقول: أخْيَرُ ولا أَشَرّ إلاَّ في نُذُورٍ كهذه القراءة وكقول رؤبة:
٤٦٠١ - بِلاَلُ خَيْرُ النَّاسِ وَابْنُ الأَخْيَرِ... وتثبت فيهما في التعجب نحو: ما أَخْيَرَهُ ومَا أَشَرَّهُ. ولا يحذف إلى في نُدَورٍ عكس أفعل التفضيل، قالوا: مَا خَيْرَ اللَّبَنَ للصّحيح، وَمَا شَرَّهُ لِلْمَبطُونِ. وهذا من محاسن الصِّناعة. وقرأ أبو قَيْس الأَوْدِيُّ ومجاهدٌ الحرف الثاني الأشُرُ بثلاث ضمات، وتخريجها على أن فيه لغةً أُشُر بضم الشين كحُذُر وَحَذُر، ثم ضمت الهمزة إِتباعاً لضمِّ الشين. ونقل الكسائي عن مجاهد ضم الشين وفتح الهمزة على أصل تِيكَ اللغة كَحَذُرٍ.
262

فصل


(الأَشر) التحيّر والنشاط، يقال: فَرَسٌ أَشِرٌ إذا كان مَرِحاً نَشِطاً. قال امرؤ القيس يصف كلباً:
٤٦٠٢ - فَيُدْرِكُنَا فَغِمٌ دَاجِنٌ سَمِيعٌ بَصِيرٌ طَلُوبٌ نَكِرْ
أَلَصّ الضُّرُوسِ حَنِيُّ الضُّلُوعِ تَبُوعٌ أَرِيبٌ نَشِيطٌ أَشِرْ
(و) قيل: إنه المتعدي إلى منزلةٍ لا يستحقها. وقال ابن زيد وعبد الرحمن بن حماد: الأَشِرُ الذي لا يُبَالِي ما قال.
وفي قراءة أبي قلابة بفتح الشين وتشديد الراء فالمعنى أَشَرُّنَا وأَخْبَثُنَا.
فإن قيل: قولهم: بل هو كذاب يستدعي أمراً مضروباً عنه فما هو؟
فالجواب: قولهم: أألقي للإنكار فكأنهم قالوا: مَا ألقي، ثم إنَّ قولَهم: أألقي عليه الذكر لا يقتضي إلا أنه ليس بِنبِيٍّ، وقول القائل: ليس بِنبي لا يلزم منه أنه كاذب فكأنهم قالوا ليس بنبي، ثم قالوا: بل هو ليس بصادقٍ.
قوله: «فَسَيَعْلَمُونَ» قرأ ابنُ عامر وحمزةُ بالخطاب. وفيه وجهان:
أحدهما: أنه حكاية قول صالح لقومه.
والثاني: أنه خطاب الله على جهة الالتفات. والباقون بياء الغيبة جَرْياً على الغيب قبله في قوله: «فَقَالُوا أَبَشراً»، واختارها مَكِّيٌّ، قال: لأن عليها الأكثر.
و «غَداً» ليس المراد به الذي يلي يومك بل الزمان المستقبل، كقول الطِّرمَّاح (رحمةُ الله عليه ورضاه) :
263
والمعنى «سَيَعْلَمُون غَداً» حين يَنْزِلُ عليهم العذاب. قال الكلبي: يعني يوم القيامة. وذكر الغد للتقرِيبِ على عادة الناس يقولون: إنَّ مَعَ الْيَوْم غَداً.

فصل


الكذَّاب فعال صيغة مبالغة، لأن المنسوب إلى الشيء لا بدَّ له من أن يكثر من مزاولة الشيء، فإنَّ من خاط يوماً لا يقال له: خيَّاط فالمبالغة ههنا إما في الكثرة بأن يكون كثيرَ الكذب، وإمّا في الشدة أي شديد الكذب، يقول ما لا يقبله العقل. ويحتمل أن يكونوا وصفوه بذلك لاعتقادهم الأمرين جميعاً. وقولهم «أشِرٌ» إشارة إلى أنه كذب لا لضرورة وحاجة وإنما هو استغنى فبَطَرَ وطلب الرِّئَاسَةَ.
قوله: ﴿إِنَّا مُرْسِلُواْ الناقة﴾ أي مُخْرِجُوهَا من الهَضَبَة التي سألوا.
وأتى باسم الفاعل والإضافة مبالغة في حقيقته كأنه وقع «فِتْنَةً» مفعول به، أو مصدر من معنى الأول أو في موضع الحال.
روي
أنهم
تعنتوا
على صالح فسألوه أن يخرج لهم من صخرة ناقةً حمراءَ عُشَرَاءَ، فقال الله: ﴿إِنَّا مُرْسِلُواْ الناقة فِتْنَةً لَّهُمْ﴾ محنةً واختباراً؛ فقوله: «فتنة» مفعول له؛ لأن المعجزة فتنة؛ لأن بها يتميز المُثَابُ من المعذب، فالمعجزة تصديق، وحينئذ يفترق المصدِّق من المُكَذِّب.
أو يقال: إخراج الناقة من الصخرة معجزة، ودورانها بينهم، وقسمة الماء كان فتنةً، ولهذا قال: «إنَّا مُرْسِلُواْ» ولم يقل: مُخْرِجُو.
قوله: «فَارْتَقِبْهُمْ» أي انتظر ما يصنعون «وَاصْطَبِرْ» أي اصبر على أَذَاهُمْ وأصل الطاء في «اصْطَبِرْ» «تاء» فتحولت طاءً، لتكون موافقةً للصاد في الإطباق.
قوله: «وَنَبِّئْهُمْ» أي أخبرهم ﴿أَنَّ المآء قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ﴾ أي بين آل ثمود وبين الناقة لها يوم ولهم يوم، كقوله تعالى: ﴿لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ﴾ [الشعراء: ١٥٥] فالضمير في (بينهم) لقوم صالح والناقة فغلّب العاقل.
وقرأ العامة: قِسْمة بكسر القاف - ورُوِيَ عن أبي عمرو فَتْحُها - وهو قياس
264
المرة. والمعنى: أن الماءَ مقسومٌ بَيْنَهُمْ فوصف بالمصدر مبالغة، كقولك: فُلانٌ عَيْنُ الكرم.
قوله: ﴿كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ﴾ أي يحضره من هُو له، فالناقة تحضر الماء يوم وُرُودِهَا وتغيب عنهم يوم وُرُودِهِمْ. قاله مقاتل. وقال مجاهد: إن ثمود يحضرون الماء يوم غَبِّها عنهم فيشربون، ويحضرون اللبن يوم ورودها فيحتلبون. والشِّرْبُ - بالكسر - الحظ من الماء. وفي المثل: آخرها أقلُّها شِرْباً وأصله من سقي الإناء، لأن آخرها يرد وقد نَزفَ الحَوْضُ.
واعلم أن قسمة الماء إما لأن الناقة عظيمةُ الخَلْق ينفر منها حيواناتهم فكان يوم للناقة ويوم لهم، وإما لقلة الماء فلا يحملهم، وإما لأن الماء كان مقسوماً بينهم لكل فريق منهم فيوم وُرُودِ الناقة على هؤلاء يرجعون على الآخرين وكذلك الآخرون فيكون النُّقْصَان على الكل، ولا تختص الناقة بجميع الماء.
رُوِيَ أنهم كانوا يكتفون في يوم ورودها بلبنها، وليس في الآية إلا القسمة دون كيفيتها، وظاهر قوله تعالى: ﴿كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ﴾ يعضد الوجه الثالث، وحَضَر واحْتَضَرَ بمعنًى واحد.
قوله: «فَنَادَوْا صَاحِبَهْم» قبله محذوف أي فتمادوا على ذلك ثم عزموا على عقرها فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر. و «تعاطى» مطاوع عَاطَى كأنهم كانوا يتدافعون ذلك حتى تولاه أشقاها. والمعنى فنادوا صاحبهم نداء المُسْتَغِيث وهو قُدار بنُ سَالف وكان أشجعهم. وقيل: كان رئيسهم. فتعاطى أي آلةَ العقر أو الناقةَ، أو هو عبارة عن الإقدام على الفعل العظيم. وتحقيقه أن الفعلَ العظيمَ يتبرأ منه كُلُّ أحد ويعطيه صاحبَه أو جَعَلُوا لَهُ جُعْلاً فَتعَاطَاهُ.
قال مُحَمَّدُ بن إسْحَاقَ: كمن لها في أصل شجرة على طريقها فرماها فانتظم به عضلة ساقها ثم شد عليها بالسيف فكشف عرقوبها فخرت ورَغَتْ رغاة واحدة، ثم نَحَرَها.
قال ابن عباس: كان الذي عقرها أحمر أشقر أكشف أقعى يقال له: قُدار بن سالف. والعرب تسمي الجَزَّار قُدَاراً تشبيهاً بقُدار بْنِ سالف مشؤوم آل ثمود، قال مهلهل:
٤٦٠٣ - أَلاَ عَلِّلاَنِي قَبْلَ نَوْحِ النَّوَائِحِ وَقَبْلَ اضْطِرَابِ النَّفْسِ بَيْنَ الجَوَانِحِ
وَقَبْلَ غَدٍ يَا لَهْفَ نَفْسِي عَلَى غَدٍ إذَا رَاحَ أَصْحَابِي وَلَسْتُ بِرَائِحِ
265
قوله: ﴿إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً﴾ يريد صيحة جبريل كما تقدم ﴿فَكَانُواْ كَهَشِيمِ المحتظر﴾ العامة على كسر الظاء اسم فاعل وهو الذي يتخذه حظيرةً من حَطَب وغيره.
وقرأ أبو السَّمال وأبو حَيْوة وأبو رجاء وعمرُو بن عُبَيْد بفتحها. فقيل: هو مصدر أي كَهَشِيم الاحْتِظَارِ.
وقيل: هو اسم مكان. وقيل: هو اسم مفعول وهو الهَشِيمُ نفسه، ويكون من باب إضافة الموصوف لصفته كمَسْجِدِ الجَامِعِ. والحَظْر المَنْع، وقد تقدم تحريره في «سُبْحَانَ».

فصل


«كان» في قوله «فكانوا» قيل: بمعنى صاروا كقوله:
٤٦٠٥ -................................ كَانَت فِرَاخاً بُيُوضُهَا
أي صارت. والهشيم: المهشوم المكسور، ومنه سمي هاشِمٌ لهشمه الثَّرِيد في الجفان غير أن الهشيم يستعمل كثيراً في الحطب المتكسر اليابس.
قال المفسرون: كانوا كالخشب المُنْكَسِرِ الذي يخرج من الحظائر بدليل قوله: ﴿هَشِيماً تَذْرُوهُ الرياح﴾ [الكهف: ٤٥] وهو من باب إقامة الصّفة مقَام الموصوف.
وتشبيههم بالهشيم إما لكونهم يابسين كالموتى الذين ماتوا من زمان، أو لانضمام بعضهم إلى بعض، كما ينضم الرفقاء عند الخوف يدخل بعضهم في بعض، فاجتمعوا بعضهم فوق بعض كما يجمع الحاطب الحَطَبَ يصف شيئاً فوق شيء منتظراً حضور من يشتري منه.
ويحتمل أن يكون ذلك لبيان كونهم في الجحيم أي كانوا كالحطب اليابس الذي للوَقِيد كقوله تعالى: ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ﴾ [الأنبياء: ٩٨] وقوله: ﴿فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً﴾ [الجن: ١٥].
266

فصل


ذكر في الآية مباحث:
منها: قوله تعالى: ﴿فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ﴾. اعلم أن هذه الآية ذكرت في ثلاثة مواضع ذكرها في حكاية نوح بعد بيان العذاب، وذكرها هنا قبل بيان العذاب، وذكرها في حكاية عاد قبل بيانه وبعد بيانه، فحيث ذكر قبل بيان العذاب فَلِلْبَيَانِ كقول العارف بحكايته لغير العارف: هَلْ تَعْلَمُ كَيْفَ كَانَ أَمْرُ فُلان؟ وغرضه أن يقول: أخبرني عنه. وحيث ذكرها بعد بيان العذاب ذكرها للتعظيم كقول القائل: ضرب فُلاَنٌ أَيَّ ضَرْب وأيّما ضرب، وتقول: ضَرَبْتُهُ وكَيْفَ ضَرَبْتُهُ أي قويًّا. وفي حكاية عاد ذكرها مرتين للبيان والاستفهام ومنها في حكاية نوح ذكر الذي للتعظيم، وفي حكاية ثمود ذكر الذي للبيان، لأن عذاب قوم نوح كان بأمر عظيم عام وهو الطوفان الذي عم العالم ولا كذلك عذاب قوم (هود) فإنه كان مختصاً بهم.

فصل


اعلم أن الله تعالى ذكر في هذه السورة خمس قصص، وجعل القصة المتوسطة مذكورة على أتمِّ وجه؛ لأن حال صالح كان أكثر مشابهةً بحال محمد - عليهما الصلاة والسلام - لأنه أتى بأمر عجيب أَرْضِيٍّ، وكان أعجب مما جاء به للأنبياء، لأن عيسى عليه الصلاةُ والسَّلاَمُ، أحيا الميت لكن الميت كان محلاً للحياة فقامت الحياة بإذن الله في محل كان قابلاً لها وموسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - انقلبت عصاه ثُعْبَاناً فأثبت الله له في الخشب الحياة بإذن الله؛ لكن الخشبة نبات كان له قوة في النمو فأشبه الحيوان في النمو، وصالح - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كان الظاهر في يده خروج الناقة من الحجر، والحجر جماد، وليس محلاً للحياة، ولا محلاً للنمو والنبي - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أتى بأعجبَ من الكُلِّ، وهو التصرف في الجرْم السَّماويِّ الذي يقول المشرك: لا وصول لأحد إلى السماء، وأما الأرضيات فقالوا: إنها أجسام مشتركة المواد يقبل كلُّ واحد منها صورة الأخرى، والسماوات لا تقبل ذلك فلما أتى بما اعترفوا بأنه لا يقدر على مثله آدَمِيٌّ كان أتم وأبلغ من معجزة صالح - عليه الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ - التي هي أتم من معجزة سَائر الأنبِياء غير محمد - عليه الصَّلاة والسلام -.

فصل


من قرأ المُحْتَظَر - بفتح الظاء - أراد الحظيرة، ومن قرأ بالكسر أراد صاحب الحظيرة. ونقل القرطبي عن صاحب الصِّحَاح، قال: من كسر جعله الفاعل، ومن فتح
267
جعله المفعول، ويقال للرجل القليل الخير: إنَّه لَنَكِدُ الحَظِيرَةِ. قال أبو عبيدة: أراه سمى أمواله حظيرة، لأنه حظرها عنده ومنعها، وهي فعيلة بمعنى مفعولة. وقال المَهْدَوِيُّ: من فتح الظاء من المُحْتَظَر فهو مصدر، والمعنى كهشيم الاحتظار. ويجوز أن يكون المحتظر هو الشجر المتخذ منه الحظيرة، قال ابن عباس (- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -) : المحتظر هو الرجل يجعل لغنمه حظيرةً بالشجر والشوك فما سقط من ذلك وداسته الغَنَم فَهُوَ الهَشِيمُ قال:
٤٦٠٤ - إنَّا لَنَضْرِبُ بالسُّيُوف رُؤُوسَهُمْ ضَرْبَ القُدَارِ نَقِيعَةَ القُدَّامِ
٤٦٠٦ - أَثَرْنَ عَجَاجَةً كَدُخَانِ نَارٍ تَشِبُّ بِغَرْقَدٍ بَالٍ هَشِيمِ
وعنه: الحشيش تأكله الغنم، وعنه أيضاً: كالعظام النَّخِرة المحترقة. وهو قول قتادة. وقال سعيد بن جبير: هو الترابُ المتناثر من الحِيطَان في يوم ريح. وقال سفيان الثوري: هو ما تناثر من الحظيرة إذا ضَرَبْتَهَا بالعصا، وهو فَعِيلٌ من مَفْعُولٍ. وقال ابن زيد: العرب تسمي كل شيء كان رطباً فيَبِسَ هشيماً والحَظْر المنع. والمُحَتَظرُ المُفْتَعَلُ يقال منه: احْتَظَرَ على إِبِلِهِ، وحظر أي جمع الشجر بعضَه على بعض ليمنع برد الريح والسِّباع عن إبله، قال الشاعر:
٤٦٠٧ - تَرَى جِيفَ المَطِيِّ بِجَانِبَيْهِ كَأَنَّ عِظَامَهَا خَشَبُ الْهَشِيمِ
وعن ابن عباس - (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -) أيضاً: أنهم كانوا مثل القمح الذي دِيسَ وهُشِمَ -. (والهشيم:) فُتَات السُّنْبُلَةِ والتِّبْن.
روى أَبُو الزُّبَيْرِ عن جابر قال: «لما نزلنا الحِجْر في مَغْزَى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تبوك، قال: أيها الناس لا تسألوني الآياتِ، هؤلاء قوم صالح سألوا نبيهم أن يبعث لهم ناقةً،
268
فبعث الله عزّ وجلّ إليهم الناقةَ وكانت ترد من ذلك الفجّ فتشرب ماءهم يوم ورْدِها ويحلبون منها مثل الذي كانوا يشربون منها يوم غِبِّها».
269
قوله :«أبَشَراً » منصوب على الاشتغال وهو الراجح، لتقدم أداة١ هي بالفعل أولى. و«مِنَّا » نعت له. و«وَاحِداً » فيه وجهان :
أظهرهما : أنه نعت «لِبَشَراً » إلا أنه يشكل عليه تقديم الصفة المؤولة٢ على الصريحة٣. ويجاب : بأن «مِنَّا » حينئذ ليس وصفاً بل حال من «وَاحِداً » قُدِّمَ عليه.
والثاني : أنه نصب على الحال من هاء «نَتَّبِعُهُ »٤. وهو يَخْلُصُ من الإعراب المتقدم، إِلا أنَّ المرجع لكونه صفة قراءتهما مرفوعين :﴿ أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ ﴾ على ما سيأتي، فهذا يرجّح كون «واحداً » نعتاً «لبَشَرٍ » لا حالاً.
وقرأ أبُو السَّمَّال فيما نقل الهُذَلِيُّ٥ والدَّانِيّ٦ برفعهما٧ على الابتداء، و«وَاحِدٌ » صفته و«نَتَّبِعُهُ » خبره٨.
وقرأ أبو السَّمَّال أيضاً فيما نقل ابن خالويه٩، وأبو الفضل وابن عطية١٠ : برفع «بشر » ونصب «واحداً » وفيه أوجه :
أحدها : أن يكون «أَبَشَرٌ » مبتدأ وخبره مضمر تقديره : أَبَشَرٌ منا يُبْعَثُ إِلينا أو يُرْسَل. وأما انتصاب «واحداً » ففيه وجهان :
أحدهما : أنه حال من الضمير المستتر في ( مِنَّا ) لأنه وقع نعتاً.
الثاني : أنه حال من هاء «نَتَّبِعُهُ »١١. وهذا كله تخريج أبِي الفضل الرَّازيِّ١٢.
والثاني : أنه مرفوع بالابتداء أيضاً، والخبر «نَتَّبِعُهُ » و«واحداً » حال على الوجهين المذكورين آنفاً.
الثالث : أنه مرفوع بفعل مضمر مبني للمفعول تقديره : أَيُنَبَّأُ بَشرٌ، و( مِنَّا ) نعت و( واحداً ) حال أيضاً على الوجهين المذكورين آنفاً. وإليه ذهب ابن عطية١٣.

فصل


قال ابن الخطيب : والحكمة في تأخير الفعل في الظاهر أن البليغ يُقَدِّمُ في الكلام ما يكون تعلق غرضه به أكثر والقوم كانوا يريدون بيان كونهم محقِّين في ترك الاتّباع، فلو قالوا : أَنَتَّبِعُ بَشَراً أمكن أن يقال : نعم اتَّبِعُوهُ، وماذا يمنعكم من اتباعه ؟ فإذا قدمنا حاله وقالوا : هو من نوعنا بشر من صِفَتِنَا١٤ رجل ليس غريباً نعتقد فيه أنه يَعْلَمُ ما لا نَعْلَمُ أو يَقْدِرُ على ما لا نَقْدِرُ وهو واحد وليس له جندٌ ولا حَشَمٌ ولا خَدَمٌ ولا خيلٌ وهو وحيد ونحن جماعة فكيف نتبعه ؟ ! فيكونون قد قدموا الموجب لجواز الامتناع عن اتباعه. وفي الآية إشاراتٌ إلى ذلك، منها تنكيره حيث قالوا : أَبَشَراً، ولم يقولوا : أَرَجُلاً، ومنها : قولهم : مِنَّا وهو يحتمل أمرين :
أحدهما : من صنفنا ليس غريباً.
والثاني :«مِنَّا » أي تَبَعنَا ؛ لأن «مِنْ » للتبعيض والبعض يتبع الكل، لا الكل يتبع البعض.
ومنها قولهم :«واحداً »، وهو يحتمل أمرين أيضاً :
أحدهما : وحيداً إشارةً إلى ضعفه.
وثانيهما : واحداً أي هو من آحاد النَّاس أي هو ممَّنْ ليس بمشهور بحَسَبٍ ولا نَسَبٍ، إذا حَدَّث لا يُعْرَفُ ولا يمكن أن يقال عنه : قَال فلانٌ، بل يقال : قال واحدٌ، وذلك غاية الخُمول، أو لأن الأرذَلَ لا يَنْضَمُّ إليه أحد١٥.
قوله :﴿ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلاَلٍ ﴾ خَطَأٍ، وذهاب عن الصواب «وَسُعُرٍ » ( قال ابن عباس١٦ : عذاب. وقال الحسن : شدة العذاب. وقال قتادةً : عَنَاء ). «وسُعُر » يجوز أن يكون مفرداً أي جُنُون يقال : نَاقَةٌ مَسْعُورَةٌ أي كالمجنونة في سيرها، قال الشاعر ( - رحمةُ اللَّهِ عَلَيْهِ - )١٧ :
كَأَنَّ بِهَا سُعْراً إذَا السُّعْرُ هَزَّهَا ذَمِيلٌ وَإِرْخَاءٌ مِنَ السَّيْرِ مُتْعِبُ١٨
وأن يكون جمع «سَعِيرٍ » وهو النار. قاله سفيان بن عُيَيْنة. والاحتمالان منقولان عنه.
والمعنى : إِنَّا إذَنْ لَفِي عَنَاءٍ وعذاب مما يلزمنا مِنْ طاعته. وقال وَهْبٌ : معناه : بُعْدٌ عن الحَقِّ.
١ وهي أداة الاستفهام. والتقدير: أنتّبع بشرا نتّبعه؟.
٢ وهي منا أي كائنا منا فإن الجار والمجرور والظرف لهما متعلّقٌ دوماً..
٣ ذكر كل هذا صاحب التبيان ١١٩٤، وقد ذكر القرطبي في الجامع ١٧/١٣٧ و١٣٨ إعراب "واحداً" و"بشراً" للاشتغال والحال فقط. ولم يذكر في "واحدا" جواز كونه نعتا..
٤ التبيان السابق..
٥ صاحب القراءات الخمسين..
٦ وهو أبو عمرو الداني وقد مرّ ترجمته..
٧ وهي شاذة وانظر المحتسب ٢/٢٩٨ و٢٩٩ والبحر ٨/١٧٩..
٨ البحر المحيط السابق..
٩ قال في المختصر: "أبشرٌ منا من غير تنوين أبو السّمّال". ١٤٧ و١٤٨ ولم يذكر غير هذا..
١٠ البحر المرجع السابق أيضا..
١١ قال بوجهي النصب في "واحدا" أيضا أين ابن جني في المحتسب ٢/٢٩٨ و٢٩٩..
١٢ البحر المحيط المرجع السابق..
١٣ البحر أيضا السابق وهو اختيار أبي الفتح في محتسبه ٢/٢٩٩..
١٤ في الرازي: من صِنفِنا..
١٥ بالمعنى من تفسير العلامة الرازي ١٥/٥٠..
١٦ زيادة من تفسير البغوي لتوضيح السياق ومقابلته..
١٧ زيادة من نسخة أ الأصل..
١٨ من الطويل. والبيت مختلف في روايته فرواية المؤلف أعلى قريبة من رواية البحر لأبي حيان ٨/١٨٠ غير أنه ذكر "العيسُ" بدلا من "السّعر" الثانية في رواية المؤلف وكذا رواية الكشاف ٤/٣٩ وشرح شواهده. ورواية القرطبي في الجامع ١٧/١٣٨:
تخال بها سعرا إذا السفر هزّها ذميلٌ وإيقاع من السّذير مُتعِبُ
ولم أعرف قائل البيت، والذّميلُ: ضرب من سير الإبل. والبيت ينبئ عن معنى التعب والجنون الذي يحل بتلك الناقة إذا ما سافرت.
وانظر البيت في الكشاف والبحر والقرطبي المراجع السابقة، وفتح القدير ٥/١٢٦، وروح المعاني ٢٧/٨٨..

قوله :﴿ أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا ﴾ معناه أأنزل عليه الذكر، وهُو الوحي١ «مِنْ بَيْنِنَا » حال من هاء «عليه »، أي ألقي عليه منفرداً من بيننا أي خصص بالرسالة من بين آلِ ثمود وفيهم من هو أكثر مالاً وأحسن حالاً. وهو استفهام بمعنى الإنكار.
قوله :﴿ بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ ﴾ الأشِرُ البَطِرُ، يقال : أَشِرَ يأشَرُ أَشَراً فَهُو أشِرٌ كَفِرحَ، وآشِرٌ كَضَارِبٍ وأَشْرَانُ كَسَكْرَانَ، وأُشَارَى كَأُسَارَى.
وقرأ أبو قِلاَبَةَ :﴿ بل هو الكَذَّابُ الأَشَرُّ ﴾، ﴿ مَنِ الكَذَّابُ الأَشَرُّ ﴾ ؟ بفتح الشين وتشديد الراء، جَعَلَهُمَا أفعلَ تَفْضِيلٍ. وهو شاذ، لأنه ( لم ) ٢ يحْذف الهمزة من لفظ الخَيْرِ والشّرّ في «أفعل » التفضيل، تقول : زَيْدٌ خَيْرٌ مِنْ عَمْرو وشَرٌّ مِن بَكْرٍ٣، ولا تقول : أخْيَرُ ولا أَشَرّ إلاَّ في نُذُورٍ كهذه القراءة٤ وكقول رؤبة :
بِلاَلُ خَيْرُ النَّاسِ وَابْنُ الأَخْيَرِ٥ ***. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وتثبت فيهما في التعجب نحو : ما أَخْيَرَهُ ومَا أَشَرَّهُ. ولا يحذف إلى في نُدَورٍ عكس أفعل التفضيل، قالوا : مَا خَيْرَ اللَّبَنَ للصّحيح، وَمَا شَرَّهُ لِلْمَبطُونِ. وهذا من محاسن الصِّناعة. وقرأ أبو قَيْس الأَوْدِيُّ ومجاهدٌ الحرف الثاني الأشُرُ بثلاث ضمات، وتخريجها على أن فيه لغةً أُشُر بضم الشين كحُذُر وَحَذُر، ثم ضمت الهمزة إِتباعاً لضمِّ الشين. ونقل الكسائي عن مجاهد ضم الشين وفتح الهمزة على أصل تِيكَ اللغة كَحَذُرٍ٦.

فصل


( الأَشر ) ٧ التحيّر والنشاط، يقال : فَرَسٌ أَشِرٌ إذا كان مَرِحاً نَشِطاً. قال امرؤ القيس يصف كلباً :
فَيُدْرِكُنَا فَغِمٌ دَاجِنٌ *** سَمِيعٌ بَصِيرٌ طَلُوبٌ نَكِرْ
أَلَصّ الضُّرُوسِ حَنِيُّ الضُّلُوعِ *** تَبُوعٌ أَرِيبٌ نَشِيطٌ أَشِرْ٨
( و ) قيل : إنه المتعدي إلى منزلةٍ لا يستحقها. وقال ابن زيد وعبد الرحمان بن حماد : الأَشِرُ الذي لا يُبَالِي ما قال.
وفي قراءة أبي قلابة بفتح الشين وتشديد الراء فالمعنى أَشَرُّنَا وأَخْبَثُنَا.
فإن قيل : قولهم : بل هو كذاب يستدعي أمراً مضروباً عنه فما هو ؟
فالجواب : قولهم : أألقي للإنكار فكأنهم قالوا : مَا ألقي، ثم إنَّ قولَهم : أألقي عليه الذكر لا يقتضي إلا أنه ليس بِنبِيٍّ، وقول القائل : ليس بِنبي لا يلزم منه أنه كاذب فكأنهم قالوا ليس بنبي، ثم قالوا : بل هو ليس بصادقٍ٩.
١ القرطبي ١٧/١٣٨، والبغوي والخازن ٦/٢٧٦..
٢ زيادة لاستقامة المعنى والكلام..
٣ وقولهم في المؤنث: الخُورَى والشُّرَّى..
٤ وقد ذكر هذه القراءة وتعليقها أبو الفتح بن جني في المحتسب ٢/٢٩٩ وأبو حيان في البحر ٨/١٨٠ والزمخشري في الكشاف ٤/٣٩، بينما سكت عنها ابن خالويه في المختصر عند هذا الموضع..
٥ رجز مشطور نسب لرؤبة ولم أجده بديوانه بلفظه هذا. وما في الديوان بتصحيح وليم بن الورد مجموع أشعار العرب رؤبة بن العجاج:
يا قاسم الخيرات وابن الأخير ***....................
وانظر الديوان هذا ص ٦٢ والقرطبي ١٧/١٣٩ وروح المعاني ٢٧/٨٩ والبحر ٨/١٨٠ والأشموني ٣/٤٣ والتصريح ٢/١٠١ والهمع ٢/١٦٦، والمحتسب ٢/٢٩٩. وشاهده: وقوع الأخير من أفعل تفضيل دون حذف الهمزة وذلك نادر وقليل من الشذوذ بمكان نستطيع أن نقول عنه: فصيح استعمالا شاذٌّ قياسا..

٦ نقل القراءتين البحر المحيط ٨/١٨٠ بينما نقل القراءة الثانية ابن جني في المحتسب ٢/٢٩٩..
٧ سقط من أ..
٨ من المتقارب له. والفغمُ المولَع بالصّيد الحريصُ عليه. والدّاجن: ألوف للصيد ونكرٌ: منكر عالم وقيل: كريه الصورة، والألصّ: الذي التصقت أسنانه بعضها إلى بعض، والأريب الذكيّ. والتّذبوع: التابع الأثر. والبيتان بعد واضحان. وشاهده: في أن الأشر معناه النشيط. وانظر الديوان ١٦٠ والقرطبي ١٧/١٣٨..
٩ قال بهذا السؤال والإجابة عليه الرازي معنى من التفسير الكبير ١٥/٢٥..
قوله :«سَيَعْلَمُونَ » قرأ ابنُ عامر وحمزةُ بالخطاب. وفيه وجهان :
أحدهما : أنه حكاية قول صالح لقومه.
والثاني : أنه خطاب الله على جهة الالتفات. والباقون بياء الغيبة جَرْياً على الغيب قبله في قوله :«فَقَالُوا أَبَشراً »، واختارها مَكِّيٌّ، قال : لأن عليها الأكثر١.
و«غَداً » ليس المراد به الذي يلي يومك بل الزمان المستقبل، كقول الطِّرمَّاح ( رحمةُ الله عليه ورضاه ) ٢ :
أَلاَ عَلِّلاَنِي قَبْلَ نَوْحِ النَّوَائِحِ وَقَبْلَ اضْطِرَابِ النَّفْسِ بَيْنَ الجَوَانِحِ
وَقَبْلَ غَدٍ يَا لَهْفَ نَفْسِي عَلَى غَدٍ إذَا رَاحَ أَصْحَابِي وَلَسْتُ بِرَائِحِ٣
والمعنى «سَيَعْلَمُون غَداً » حين يَنْزِلُ عليهم العذاب. قال الكلبي : يعني يوم القيامة. وذكر الغد للتقرِيبِ على عادة الناس يقولون : إنَّ مَعَ الْيَوْم غَداً٤.

فصل


الكذَّاب فعال صيغة مبالغة، لأن المنسوب إلى الشيء لا بدَّ له من أن يكثر من مزاولة الشيء، فإنَّ من خاط يوماً لا يقال له : خيَّاط فالمبالغة ههنا إما في الكثرة بأن يكون كثيرَ الكذب، وإمّا في الشدة أي شديد الكذب، يقول ما لا يقبله العقل. ويحتمل أن يكونوا وصفوه بذلك لاعتقادهم الأمرين جميعاً. وقولهم «أشِرٌ » إشارة إلى أنه كذب لا لضرورة وحاجة وإنما هو استغنى فبَطَرَ وطلب الرِّئَاسَةَ٥.
١ وهذه قراءات سبعيّة متواترة. وانظر السبعة ٦١٨، والكشف لمكي ٢/٢٩٧ و٢٩٨، وحجة ابن خالويه ٣٣٨ والإتحاف ٤٠٥..
٢ زيادة من أ كالعادة..
٣ من الطويل هذان البيتان للطّرماح. والشاهد في "غدٍ" مكررة فإن المراد من الأيام التالية وليس اليوم التالي ليومه مباشرة. وانظر القرطبي ١٧/١٣٩ والبحر ٨/١٨٠ وأمالي الشجري ١/٢٤٧ و٢٥٦ و٢٦٨، والمغني ٩٤ وشرح شواهده للسيوطي ٢٧٤ وفتح القدير ٥/١٢٦ وروح المعاني ٢٧/٨٨..
٤ ذكره البغوي في معالم التنزيل ٦/٢٧٦..
٥ بالمعنى من تفسير الإمام ١٥/٥٢..
قوله :﴿ إِنَّا مُرْسِلُوا الناقة ﴾ أي مُخْرِجُوهَا من الهَضَبَة التي سألوا.
وأتى باسم الفاعل والإضافة مبالغة في حقيقته كأنه وقع «فِتْنَةً » مفعول به، أو مصدر من معنى الأول أو في موضع الحال.
روي أنهم تعنتوا على صالح فسألوه أن يخرج لهم من صخرة ناقةً حمراءَ عُشَرَاءَ، فقال الله :﴿ إِنَّا مُرْسِلُواْ الناقة فِتْنَةً لَهُمْ ﴾ محنةً واختباراً ؛ فقوله :«فتنة » مفعول له ؛ لأن المعجزة فتنة ؛ لأن بها يتميز المُثَابُ من المعذب، فالمعجزة تصديق، وحينئذ يفترق المصدِّق من المُكَذِّب.
أو يقال : إخراج الناقة من الصخرة معجزة، ودورانها بينهم، وقسمة الماء كان فتنةً، ولهذا قال :«إنَّا مُرْسِلُواْ » ولم يقل : مُخْرِجُو.
قوله :«فَارْتَقِبْهُمْ » أي انتظر ما يصنعون «وَاصْطَبِرْ » أي اصبر على أَذَاهُمْ وأصل الطاء في «اصْطَبِرْ » «تاء » فتحولت طاءً، لتكون موافقةً للصاد في الإطباق.
قوله :«وَنَبِّئْهُمْ » أي أخبرهم ﴿ أَنَّ الماء قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ ﴾ أي بين آل ثمود وبين الناقة لها يوم ولهم يوم، كقوله تعالى :﴿ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ﴾ فالضمير في ( بينهم ) لقوم صالح والناقة فغلّب العاقل١.
وقرأ العامة : قِسْمة بكسر القاف - ورُوِيَ عن أبي عمرو فَتْحُها٢ - وهو قياس المرة. والمعنى : أن الماءَ مقسومٌ بَيْنَهُمْ فوصف بالمصدر مبالغة، كقولك : فُلانٌ عَيْنُ الكرم.
قوله :﴿ كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ ﴾ أي يحضره من هُو له، فالناقة تحضر الماء يوم وُرُودِهَا وتغيب عنهم يوم وُرُودِهِمْ. قاله مقاتل. وقال مجاهد : إن ثمود يحضرون الماء يوم غَبِّها عنهم فيشربون، ويحضرون اللبن يوم ورودها فيحتلبون٣. والشِّرْبُ - بالكسر - الحظ من الماء. وفي المثل : آخرها أقلُّها شِرْباً وأصله من سقي الإناء٤، لأن آخرها يرد وقد نَزفَ الحَوْضُ٥.
واعلم أن قسمة الماء إما لأن الناقة عظيمةُ الخَلْق ينفر منها حيواناتهم فكان يوم للناقة ويوم لهم، وإما لقلة الماء فلا يحملهم، وإما لأن الماء كان مقسوماً بينهم لكل فريق منهم فيوم وُرُودِ الناقة على هؤلاء يرجعون على الآخرين وكذلك الآخرون فيكون النُّقْصَان على الكل، ولا تختص الناقة بجميع الماء.
رُوِيَ أنهم كانوا يكتفون في يوم ورودها بلبنها، وليس في الآية إلا القسمة دون كيفيتها، وظاهر قوله تعالى :﴿ كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ ﴾ يعضد الوجه الثالث، وحَضَر واحْتَضَرَ بمعنًى واحد.
١ وانظر الرازي السابق وتفسير البغوي والخازن ٦/٢٧٦..
٢ لم ترد عنه في المتواتر فقد قال أبو حيان في البحر ٨/١٨١: "ومعاذ عن أبي عمرو بفتحها"..
٣ وانظر القرطبي ١٧/١٤١..
٤ الصحيح: الإبل وليس الإناء..
٥ وانظر اللسان "شرب" ٢٢٢٢..
قوله :«فَنَادَوْا صَاحِبَهْم » قبله محذوف أي فتمادوا على ذلك ثم عزموا على عقرها فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر. و«تعاطى » مطاوع عَاطَى كأنهم كانوا يتدافعون ذلك حتى تولاه أشقاها. والمعنى فنادوا صاحبهم نداء المُسْتَغِيث وهو قُدار بنُ سَالف وكان أشجعهم. وقيل : كان رئيسهم. فتعاطى أي آلةَ العقر أو الناقةَ، أو هو عبارة عن الإقدام على الفعل العظيم. وتحقيقه أن الفعلَ العظيمَ يتبرأ منه كُلُّ أحد ويعطيه صاحبَه أو جَعَلُوا لَهُ جُعْلاً فَتعَاطَاهُ.
قال مُحَمَّدُ بن إسْحَاقَ : كمن لها في أصل شجرة على طريقها فرماها فانتظم به عضلة ساقها ثم شد عليها بالسيف فكشف عرقوبها فخرت ورَغَتْ رغاة واحدة، ثم نَحَرَها.
قال ابن عباس : كان الذي عقرها أحمر أشقر أكشف أقعى يقال له : قُدار بن سالف. والعرب تسمي الجَزَّار قُدَاراً تشبيهاً بقُدار بْنِ سالف مشؤوم آل ثمود١، قال مهلهل :
إنَّا لَنَضْرِبُ بالسُّيُوف رُؤُوسَهُمْ ضَرْبَ القُدَارِ نَقِيعَةَ القُدَّامِ٢
١ القرطبي ١٧/١٤٠ و١٤١..
٢ من الكامل لمهلهل ويروى صدره:
إنا لنضرب بالصّوارم هَامَهُم ......................
والقُدار: الجزار، والنقيعة ما ينحر للضيافة، والقدام: القادمون من سفر جمع قادم وقيل: القدّام الملك وجاء بالقدار جلالة على أنه هو الجزار. وانظر القرطبي ١٧/١٤١..

ذكر في الآية مباحث :
منها : قوله تعالى :﴿ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ ﴾. اعلم أن هذه الآية ذكرت في ثلاثة مواضع ذكرها في حكاية نوح بعد بيان العذاب، وذكرها هنا قبل بيان العذاب، وذكرها في حكاية عاد قبل بيانه وبعد بيانه، فحيث ذكر قبل بيان العذاب فَلِلْبَيَانِ كقول العارف بحكايته لغير العارف : هَلْ تَعْلَمُ كَيْفَ كَانَ أَمْرُ فُلان ؟ وغرضه أن يقول : أخبرني عنه. وحيث ذكرها بعد بيان العذاب ذكرها للتعظيم كقول القائل : ضرب فُلاَنٌ أَيَّ ضَرْب وأيّما ضرب، وتقول : ضَرَبْتُهُ وكَيْفَ ضَرَبْتُهُ أي قويًّا. وفي حكاية عاد ذكرها مرتين للبيان والاستفهام ومنها في حكاية نوح ذكر الذي للتعظيم، وفي حكاية ثمود ذكر الذي للبيان، لأن عذاب قوم نوح كان بأمر عظيم عام وهو الطوفان الذي عم العالم ولا كذلك عذاب قوم ( هود ) فإنه كان مختصاً بهم.

فصل


اعلم أن الله تعالى ذكر في هذه السورة خمس قصص، وجعل القصة المتوسطة مذكورة على أتمِّ وجه ؛ لأن حال صالح كان أكثر مشابهةً بحال محمد - عليهما الصلاة والسلام - لأنه أتى بأمر عجيب أَرْضِيٍّ، وكان أعجب مما جاء به للأنبياء، لأن عيسى عليه الصلاةُ والسَّلاَمُ، أحيا الميت لكن الميت كان محلاً للحياة فقامت الحياة بإذن الله في محل كان قابلاً لها وموسى - عليه الصلاة والسلام - انقلبت عصاه ثُعْبَاناً فأثبت الله له في الخشب الحياة بإذن الله ؛ لكن الخشبة نبات كان له قوة في النمو فأشبه الحيوان في النمو، وصالح - عليه الصلاة والسلام - كان الظاهر في يده خروج الناقة من الحجر، والحجر جماد، وليس محلاً للحياة، ولا محلاً للنمو والنبي - عليه الصلاة والسلام - أتى بأعجبَ من الكُلِّ، وهو التصرف في الجرْم السَّماويِّ الذي يقول المشرك : لا وصول لأحد إلى السماء، وأما الأرضيات فقالوا : إنها أجسام مشتركة المواد يقبل كلُّ واحد منها صورة الأخرى، والسماوات لا تقبل ذلك فلما أتى بما اعترفوا بأنه لا يقدر على مثله آدَمِيٌّ كان أتم وأبلغ من معجزة صالح - عليه الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ - التي هي أتم من معجزة سَائر الأنبِياء غير محمد - عليه الصَّلاة والسلام ١-.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:فصل
من قرأ المُحْتَظَر - بفتح الظاء - أراد الحظيرة، ومن قرأ بالكسر أراد صاحب الحظيرة. ونقل القرطبي عن صاحب الصِّحَاح، قال : من كسر جعله الفاعل، ومن فتح جعله المفعول، ويقال للرجل القليل الخير : إنَّه لَنَكِدُ الحَظِيرَةِ٢. قال أبو عبيدة٣ : أراه سمى أمواله حظيرة، لأنه حظرها عنده ومنعها، وهي فعيلة بمعنى مفعولة. وقال المَهْدَوِيُّ : من فتح الظاء من المُحْتَظَر فهو مصدر، والمعنى كهشيم الاحتظار. ويجوز أن يكون المحتظر هو الشجر المتخذ منه الحظيرة، قال ابن عباس ( - رضي الله٤ عنهما - ) : المحتظر هو الرجل يجعل لغنمه حظيرةً بالشجر والشوك فما سقط من ذلك وداسته الغَنَم فَهُوَ الهَشِيمُ٥ قال :
أَثَرْنَ عَجَاجَةً كَدُخَانِ نَارٍ تَشِبُّ بِغَرْقَدٍ بَالٍ هَشِيمِ٦
وعنه : الحشيش تأكله الغنم، وعنه أيضاً : كالعظام النَّخِرة المحترقة. وهو قول قتادة. وقال سعيد بن جبير : هو الترابُ المتناثر من الحِيطَان في يوم ريح. وقال سفيان الثوري : هو ما تناثر من الحظيرة إذا ضَرَبْتَهَا بالعصا، وهو فَعِيلٌ من مَفْعُولٍ. وقال ابن زيد : العرب تسمي كل شيء كان رطباً فيَبِسَ هشيماً٧ والحَظْر المنع. والمُحَتَظرُ المُفْتَعَلُ يقال منه : احْتَظَرَ على إِبِلِهِ، وحظر أي جمع الشجر بعضَه على بعض ليمنع برد الريح والسِّباع عن إبله، قال الشاعر :
تَرَى جِيفَ المَطِيِّ بِجَانِبَيْهِ كَأَنَّ عِظَامَهَا خَشَبُ الْهَشِيمِ٨
وعن ابن عباس - ( رضي الله عنهما - )٩ أيضاً : أنهم كانوا مثل القمح الذي دِيسَ وهُشِمَ -. ( والهشيم :)١٠ فُتَات السُّنْبُلَةِ والتِّبْن١١.
روى أَبُو الزُّبَيْرِ عن جابر قال :«لما نزلنا الحِجْر في مَغْزَى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تبوك، قال : أيها الناس لا تسألوني الآياتِ، هؤلاء قوم صالح سألوا نبيهم أن يبعث لهم ناقةً، فبعث الله عزّ وجلّ إليهم الناقةَ وكانت ترد من ذلك الفجّ فتشرب ماءهم يوم ورْدِها ويحلبون منها مثل الذي كانوا يشربون منها يوم غِبِّها»١٢.


١ وانظر كل ذلك السابق في تفسير العلامة الرازي ١٥/٥٦ و٥٣..
قوله :﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً ﴾ يريد صيحة جبريل كما تقدم ﴿ فَكَانُواْ كَهَشِيمِ المحتظِر ﴾ العامة على كسر الظاء اسم فاعل وهو الذي يتخذه حظيرةً من حَطَب وغيره.
وقرأ أبو السَّمال وأبو حَيْوة وأبو رجاء وعمرُو بن عُبَيْد بفتحها. فقيل : هو مصدر١ أي كَهَشِيم الاحْتِظَارِ.
وقيل : هو اسم مكان. وقيل : هو اسم مفعول وهو الهَشِيمُ نفسه، ويكون من باب إضافة الموصوف لصفته كمَسْجِدِ الجَامِعِ. والحَظْر المَنْع، وقد تقدم تحريره في «سُبْحَانَ »٢.

فصل


«كان » في قوله «فكانوا » قيل : بمعنى صاروا كقوله :
. . . . . . . . . . . . . . . . . كَانَت فِرَاخاً بُيُوضُهَا٣
أي صارت. والهشيم : المهشوم المكسور، ومنه سمي هاشِمٌ لهشمه الثَّرِيد في الجفان غير أن الهشيم يستعمل كثيراً في الحطب المتكسر اليابس.
قال المفسرون : كانوا كالخشب المُنْكَسِرِ الذي يخرج من الحظائر بدليل قوله :﴿ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرياح ﴾ وهو من باب إقامة الصّفة مقَام الموصوف.
وتشبيههم بالهشيم إما لكونهم يابسين كالموتى٤ الذين ماتوا من زمان، أو لانضمام بعضهم إلى بعض، كما ينضم الرفقاء عند الخوف يدخل بعضهم في بعض، فاجتمعوا بعضهم فوق بعض كما يجمع الحاطب الحَطَبَ يصف شيئاً فوق شيء منتظراً حضور من يشتري منه٥.
ويحتمل أن يكون ذلك لبيان كونهم في الجحيم أي كانوا كالحطب اليابس الذي للوَقِيد كقوله تعالى :﴿ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ ﴾ [ الأنبياء : ٩٨ ] وقوله :﴿ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً ﴾ [ الجن : ١٥ ].
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:فصل
من قرأ المُحْتَظَر - بفتح الظاء - أراد الحظيرة، ومن قرأ بالكسر أراد صاحب الحظيرة. ونقل القرطبي عن صاحب الصِّحَاح، قال : من كسر جعله الفاعل، ومن فتح جعله المفعول، ويقال للرجل القليل الخير : إنَّه لَنَكِدُ الحَظِيرَةِ٢. قال أبو عبيدة٣ : أراه سمى أمواله حظيرة، لأنه حظرها عنده ومنعها، وهي فعيلة بمعنى مفعولة. وقال المَهْدَوِيُّ : من فتح الظاء من المُحْتَظَر فهو مصدر، والمعنى كهشيم الاحتظار. ويجوز أن يكون المحتظر هو الشجر المتخذ منه الحظيرة، قال ابن عباس ( - رضي الله٤ عنهما - ) : المحتظر هو الرجل يجعل لغنمه حظيرةً بالشجر والشوك فما سقط من ذلك وداسته الغَنَم فَهُوَ الهَشِيمُ٥ قال :
أَثَرْنَ عَجَاجَةً كَدُخَانِ نَارٍ تَشِبُّ بِغَرْقَدٍ بَالٍ هَشِيمِ٦
وعنه : الحشيش تأكله الغنم، وعنه أيضاً : كالعظام النَّخِرة المحترقة. وهو قول قتادة. وقال سعيد بن جبير : هو الترابُ المتناثر من الحِيطَان في يوم ريح. وقال سفيان الثوري : هو ما تناثر من الحظيرة إذا ضَرَبْتَهَا بالعصا، وهو فَعِيلٌ من مَفْعُولٍ. وقال ابن زيد : العرب تسمي كل شيء كان رطباً فيَبِسَ هشيماً٧ والحَظْر المنع. والمُحَتَظرُ المُفْتَعَلُ يقال منه : احْتَظَرَ على إِبِلِهِ، وحظر أي جمع الشجر بعضَه على بعض ليمنع برد الريح والسِّباع عن إبله، قال الشاعر :
تَرَى جِيفَ المَطِيِّ بِجَانِبَيْهِ كَأَنَّ عِظَامَهَا خَشَبُ الْهَشِيمِ٨
وعن ابن عباس - ( رضي الله عنهما - )٩ أيضاً : أنهم كانوا مثل القمح الذي دِيسَ وهُشِمَ -. ( والهشيم :)١٠ فُتَات السُّنْبُلَةِ والتِّبْن١١.
روى أَبُو الزُّبَيْرِ عن جابر قال :«لما نزلنا الحِجْر في مَغْزَى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تبوك، قال : أيها الناس لا تسألوني الآياتِ، هؤلاء قوم صالح سألوا نبيهم أن يبعث لهم ناقةً، فبعث الله عزّ وجلّ إليهم الناقةَ وكانت ترد من ذلك الفجّ فتشرب ماءهم يوم ورْدِها ويحلبون منها مثل الذي كانوا يشربون منها يوم غِبِّها»١٢.


١ ميميّ: وانظر هذه القراءة الشاذة في البحر ٨/١٨١ والكشاف ٤/٤٠. واختار الزمخشري المكان في تلك القراءة..
٢ يقصد سورة الإسراء عند قوله: ﴿وما كان ربك محظورا﴾ من الآية ٢٠. وقد ذكر معنى الحَظر وقال: وكثيرا ما يرِدُ في القرآن ذكر المحظور ويُراد به الحَرام. وانظر اللباب ميكروفيلم..
٣ سبق هذا البيت وأتى به هنا دلالة على أن "كان" بمعنى "صار". والبيت لامرئ القيس وتكملته:
بتيماءَ قفرٍ والمطيّ كأنها *** قطا الحزن قد طانت فراخا بيوضُها.

٤ في الرازي: كالحشيش بين الموتى..
٥ وقد قال بهذا الفصل الإمام الرازي..
قوله تعالى: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بالنذر﴾ أخبر عن قوم لوط لما كذبوا لوطاً. ثم قال: ﴿إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً﴾ والحاصب فاعل من حصب إذا رَمَى بالحَصَا وهي الحجارة. وقال النَّضْرُ: الحَاصِبُ الحَصْبَاءُ في الرِّيح. وقال أبو عبيدة: الحاصب الحِجارة. وفي الصِّحاح: الحَاصِبُ الريح الشديدة التي تثير الحَصْبَاء، وكذلك الحَصْبَةُ، قال لَبيدٌ:
٤٦٠٨ - جَرَّتْ عَلَيْهَا أَنْ خَوَتْ مِنْ أَهْلِهَا أَذْيَالَها كُلُّ عَصُوفٍ حَصِبَهْ
(يقال) : عَصَفَتِ الرِّيحُ أي اشتدت فهي ريحٌ عَاصِفٌ وعَصُوفٌ. وقال الفرزدق:
٤٦٠٩ - مُسْتَقْبِلِينَ شَمَالَ الشَّأْمِ تَضْرِبُنَا بِحَاصِبٍ كَنَدِيفِ القُطْنِ مَنْثُورِ
قوله: ﴿إِلاَّ آلَ لُوطٍ﴾ فيه وجهان:
269
أحدهما: أنه متصل ويكون المعنى: أنه أرسل الحاصب على الجميع إلا أهله، فإنه لم يرسلْ عليهم.
والثاني: أنه منقطع. قال شهاب الدين: ولا أدري ما وَجْهُهُ؛ فإن الانقطاع وعدمه عبارة عن عدم دخول المستثنى في المستثنى منه، وهذا داخلٌ ليس إلاَّ.
وقال أبو البقاء: هو استثناء منقطع. وقيل: متصل؛ لأن الجميع أرسل عليهم الحاصب فهَلَكُوا إلا آلَ لوط. وعلى الوجه الأول يكون الحاصب لم يرسل على آل لوط. انتهى. وهو كلام مُشْكِلٌ.

فصل


قال ابن الخطيب: الحاصب رامي الحَصْبَاء، وهي الحجارة؛ كقوله: ﴿وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ﴾ [الحجر: ٧٤] وقول الملائكة: ﴿لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ﴾ [الذاريات: ٣٣] مع أنَّ المرسلَ عليهم ليس بحاصب فيحتمل أن يكون المعنى: لنرسل عليهم ريحاً حاصباً بالحجارة. ويجوز تذكير الرِّيح؛ لأن تأنيثها غير حقيقي. ويحتمل أن يكون المراد عذاب حاصب لأن (أَرْسَلْنَا) يدل على مُرسلِ وهو مرسل الحجارة وحاصبها، وأفرد للجنس. وقوله: «إنَّا أَرْسَلْنَا» كأنه جواب من قال: كَيْفَ كَانَ أَمْرُهُمْ؟ والاستثناء في قوله: ﴿إِلاَّ آلَ لُوطٍ﴾ من الضمير في «عَلَيْهِمْ» وهو يعود على قوم لوط فيقتضي أن آلَهُ كَذَّبُوا، لكن قد يكون أهله قليلاً فعمهم ظاهر اللفظ فبين بالاستثناء خروجهم لأن المقصودَ بيانُ هلاكهم ومن نجا أو يكون الاستثناء من كلامٍ مدلول عليه أي فما أنجينا من الحاصب إلا آل لوط، ويكون الإرسال عليهم والإهلاك عامًّا، فكأن الحاصب أهلك من كان الإرسال عليه مقصوداً وغيرهم، كالأطفال والدَّوَابِّ.
والمراد بآل لوط: من تبع على دينه إلا بِنْتَاهُ.
قوله: «نَجَّيْنَاهُمْ» تفسير وجواب لقائل يقول: فَمَا كان من شأن آلِ لوط؟ كقوله تعالى: ﴿أبى﴾ [البقرة: ٣٤] بعد قوله: «إلاَّ إبْلِيسَ». وقد تقدم في البقرة.
قوله: «بِسَحَرٍ» الباء حالية أو ظرفية، وانصرف «سَحَرٌ» لأنه نكرة، ولو قصد به
270
وقتٌ بعينه لمنع (مِنَ) الصَّرف للتعريف والعدل عن أل هذا هو المشهور.
وزعم صَدْرُ الاَفَاضِلِ أنه مبني على الفتح كَأَمْسِ مبنياً على الكسر.
و «نِعْمَةً» إما مفعولٌ له، وإما مصدرٌ بفِعلٍ من لفظهما أو من معنى «نَجَّيْنَاهُمْ» ؛ لأن تنجيتهم إنعامٌ، فالتأويل إما في العامل وإما في المصدر.
و «مِنْ عِنْدِنَا» إما متعلق بنعْمةٍ، وإما بمحذوفٍ صفةً لها.
والكاف في «كَذَلِكَ» نعت مصدر محذوف أي مِثْلُ ذَلِكَ الْجَزَاءِ نَجْزِي.

فصل


قال الأخفش: إنّما جُرَّ سَحَر، لأنه نكرة، ولو أراد يوماً بعينه لم يَجُرَّه. وكذا قال الزجاج: سحرٌ إذا كان نكرة يراد به سحر من الأسحار يصرف، نقول: سَحرُنَا هذا، وأتيته بسَحَرٍ، والسَّحَرُ هو ما بين آخر الليل وطلوع الفجر، وهو في كلام العرب اختلاط سواد الليل بِبَيَاضِ النهار؛ لأن في هذا الوقت تكون مخاييل الليل ومخاييل النهار.
﴿نِّعْمَةً مِّنْ عِندِنَا﴾ إنعاماً على لوط وابْنَتَيْهِ.
﴿كَذَلِكَ نَجْزِي مَن شَكَرَ﴾، أي كما جازينا لوطاً وأهله بالإنجاء، فكذلك نجزي من شكر أي آمن بالله وأطاعه.
قال المفسرون: هو وعد لأمة محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - بأنه يصونهم عن الهلاك العام.
قال ابن الخطيب: ويمكن أن يقال: هو وعد لهؤلاء بالثواب يوم القيامة، كما أنجاكم في الدنيا من العذاب؛ لقوله تعالى: ﴿وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخرة نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشاكرين﴾ [آل عمران: ١٤٥].
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا﴾ هي العذاب الذي أصابهم، أو هي عذاب الآخرة، لقوله: ﴿يَوْمَ نَبْطِشُ البطشة الكبرى﴾ [الدخان: ١٦]، وقوله: «فَتَمَارَوا بِالنُّذُرِ»
271
أي فشكُّوا فيما أنذرهم به الرسول ولم يصدقوه، وهو تَفَاعَلُوا من المِرْيَة. وهذه الآية تدل على أن المراد بالنذر الإنذارات.
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ﴾ المراودة من الرَّوْدِ، يقال: رَاوَدْتُهُ عَلَى كَذَا مُرَاوَدَةً، ورَواداً أيْ أَرَدْتُهُ. وَرادَ الكَلأَ يَرُودُهُ رَوْداً وَرِياداً، وارْتَادَهُ أيضاً أي طَلَبَهُ. وفي الحديث: «إذَا بَالَ أَحَدكُمْ فَلْيَرْتَدْ لِبَوْلِهِ» أي يطلب مكاناً ليناً أو منْحَدراً. قال ابن الخطيب: ومنه الإرادة وهي المطالبة غَيْرَ أن المطالبة تستعمل في العين، يقال: طَالَبَ زَيْدٌ عَمْراً بالدَّرَاهِمِ، والمراودة لا تستعمل إلا في العمل، فيقال: رَاوَدَهُ عَنِ الْمُسَاعَدَةِ، ولهذا تعدى المراودة إلى مفعول ثانٍ والمطالبة بالباء وذلك لأن الشغل منوطٌ باختيار الفاعل، والعين قد توجد من غير اختيار منه فلهذا يفترق الحال بين قولك: أَخْبِرْنِي عَنْ أَمْرِ زَيْدٍ وأَخْبِرْنِي بأَمْر زَيْدٍ، وكذا قوله: «أَخْبَرَنِي زَيْدٌ عَنْ مَجِيءِ فُلاَنٍ» وقوله: «أَخْبَرَنِي بمجيئه» ؛ فإن من قال عن مجيئه ربما يكون الإخبار عن كيفية المجيء لا عن نفسه، وأخبرني بمجيئه، لا يكون إلا عن نفس المجيء.
والضيف يقع على الواحد والجماعة، والمعنى أرادوا منه تمكينهم ممن أتاه من الملائكة.
قوله: «فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ» قرأ العامّة فَطَمسنَا مخففاً. وابن مِقْسِم مشدَّداً على التكثير، لأجل المتعلق أو لشدة الفعل في نفسه.
والضمير في: «رَاوَدُوهُ» عائد على قومِ لوط.
وأسند إليهم لأن جميعهم راضٍ بذلك، والمراد الذين دخلوا عليه. روي أن جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ضربهم بجناحه فَعَمُوا. وقيل: صارت أعينهم كسائر الوجه لا يرى لها شِقّ، كما تطمس الريح الأثر والأعلام بما تَسْفِي عليهم من التراب، وقال الضحاك: بل أعماهم الله تعالى فلم يَرَوا الرسل. وقالوا: لقد رأيناهم حين دخلوا البيت فأين ذهبوا فرجعوا ولم يروهم. وهذا قول ابن عباس.
فإن قيل: قال ههنا: فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ، وقال في يس: ﴿وَلَوْ نَشَآءُ لَطَمَسْنَا على أَعْيُنِهِمْ﴾ [يس: ٦٦] فما الفرق؟
فالجواب: هذا يؤيد قول ابن عباس: بأن المراد من الطمس الحَجْبُ عن الإدراك، ولم يجعل على بصرهم شيء. وفي «يس» أراد أنه لو شاء لجعل على بصرهم غشاوة أو أَلْزَقَ أحد الجَفْنَيْن بالآخَرِ فتكون العينُ جلدةً.
272
وروي أنهم صارت أعينهم مع وجودهم كالصفحة الواحدة.
قوله: ﴿فَذُوقُواْ عَذَابِي وَنُذُرِ﴾ الخطاب لهم، أي قلنا على لسان الملائكة فذوقوا، وهو خطاب كل مكذب، أي إنْ كُنْتُمْ تُكَذِّبُونَ فَذُوقُوا.
قال القرطبي: والمراد من هذا الأمر الخبر أي: فَأَذَقْتُهُمْ عَذَابي الذي أنذرَهُمْ به لوطٌ.
فإن قيل: إذا كان المراد بقوله: «عذابي» هو العذاب العاجل، وبقوله: «ونُذُر» هو العذاب الآجل فهما لم يكونا في زَمَانٍ واحد فكيف قال: ذوقوا؟
فالجواب: أن العذاب الآجل أوله متصل بآخر العذاب العاجل فهما كالواقع في زمان واحد وهو كقوله تعالى: ﴿أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً﴾ [نوح: ٢٥].
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً﴾ انصرف «بكرةً» ؛ لأنه نكرة ولو قصد به وقت بعينه امتنع الصرف للتأنيث والتعريف. وهذا كما تقدم في «غَدْوَةٍ».
ومنعها زيدُ بن عليٍّ الصرف، ذهب بها إلى وقتٍ بعينه.
قال صاحب المختصر: انتصب بُكْرَة على الظرف أي بكرة من البكر كقوله: ﴿أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى﴾ [الإسراء: ١]. قال الزمخشري: والتنكير يدل على أنه كان في بعض الليل وتمسك بقراءة من قرأ: مِنَ اللِّيْلِ. قال ابن الخطيب: وهو غير ظاهر، والأظهر أن يقال: بأن الوقت المبهم يذكر لبيان أن تَعْيِينَ الوقت ليس بمقصود للمتكلم، كقوله: خَرَجْنَا فِي بَعْضِ الأَوْقَاتِ مَعَ أن الخروج لا بدّ وأن يكون في بعضِ الأوقات، وكذلك قوله: «صَبّحَهُمْ بُكْرَةً» أي بكرة من البكر، و ﴿أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً﴾ [الإسراء: ١] أي ليلاً من الليالي.
ومعنى صبحهم قال لهم: عِمُوا صباحاً، كقوله: ﴿فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [آل عمران: ٢١]. والمراد بقوله: بكرة أول أزمنة الصبح. أو انتصب «بُكْرَةً» على المصدر كقولك: ضَرَبْتُهُ سَوْطاً؛ لأن الضرب يكون بالسَّوْطِ وغيره، وكذلك الصبح يكون بكرةً وبَعْدَها.
273
ومعنى «مستقر» أي ثابت عليهم لا يدفعه أحد عنهم، أو دائم لأنهم انتقلوا منه إلى عذاب الجحيم، وهو دائم، أو بمعنى قدر الله عليهم وقوعه ولم يصبهم بطريق الاتفاق وذلك العذاب قلب قريتهم عليهم، وجعل أعلاها أسْفَلَهَا.
وقوله: ﴿فَذُوقُواْ عَذَابِي وَنُذُرِ﴾ أي العذاب الذي نزل بهم من طَمْسِ الأَعْيُن غير العذاب الذي أهلكوا به، فلذلك حسن التكرير.
274
ثم قال :﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً ﴾ والحاصب فاعل من حصب إذا رَمَى بالحَصَا وهي الحجارة. وقال النَّضْرُ١ : الحَاصِبُ الحَصْبَاءُ في الرِّيح. وقال أبو عبيدة : الحاصب الحِجارة٢. وفي الصِّحاح : الحَاصِبُ الريح الشديدة التي تثير الحَصْبَاء، وكذلك الحَصْبَةُ، قال لَبيدٌ :
جَرَّتْ عَلَيْهَا أَنْ خَوَتْ مِنْ أَهْلِهَا أَذْيَالَها كُلُّ عَصُوفٍ حَصِبَهْ٣
( يقال ) : عَصَفَتِ الرِّيحُ أي اشتدت فهي ريحٌ عَاصِفٌ وعَصُوفٌ. وقال الفرزدق :
مُسْتَقْبِلِينَ شَمَالَ الشَّأْمِ تَضْرِبُنَا بِحَاصِبٍ كَنَدِيفِ القُطْنِ مَنْثُورِ٤
قوله :﴿ إِلاَّ آلَ لُوطٍ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أنه متصل ويكون المعنى : أنه أرسل الحاصب على الجميع إلا أهله، فإنه لم يرسلْ عليهم.
والثاني : أنه منقطع٥. قال شهاب الدين : ولا أدري ما وَجْهُهُ ؛ فإن الانقطاع وعدمه عبارة عن عدم دخول المستثنى في المستثنى منه، وهذا داخلٌ ليس إلاَّ٦.
وقال أبو البقاء : هو استثناء منقطع. وقيل : متصل ؛ لأن الجميع أرسل عليهم الحاصب فهَلَكُوا إلا آلَ لوط. وعلى الوجه الأول يكون الحاصب لم يرسل على آل لوط٧. انتهى. وهو كلام مُشْكِلٌ٨.

فصل


قال ابن الخطيب : الحاصب رامي الحَصْبَاء، وهي الحجارة ؛ كقوله :﴿ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ ﴾ [ الحجر : ٧٤ ] وقول الملائكة :﴿ لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ ﴾ [ الذاريات : ٣٣ ] مع أنَّ المرسلَ عليهم ليس بحاصب فيحتمل أن يكون المعنى : لنرسل عليهم ريحاً حاصباً بالحجارة٩. ويجوز تذكير الرِّيح ؛ لأن تأنيثها غير حقيقي. ويحتمل أن يكون المراد عذاب حاصب لأن ( أَرْسَلْنَا ) يدل على مُرسلِ وهو مرسل الحجارة وحاصبها، وأفرد للجنس. وقوله :«إنَّا أَرْسَلْنَا » كأنه جواب من قال : كَيْفَ كَانَ أَمْرُهُمْ ؟ والاستثناء في قوله :﴿ إِلاَّ آلَ لُوطٍ ﴾ من الضمير في «عَلَيْهِمْ » وهو يعود على قوم لوط فيقتضي أن آلَهُ كَذَّبُوا، لكن قد يكون أهله قليلاً فعمهم ظاهر اللفظ فبين بالاستثناء خروجهم لأن المقصودَ بيانُ هلاكهم ومن نجا أو يكون الاستثناء من كلامٍ مدلول عليه أي فما أنجينا من الحاصب إلا آل لوط، ويكون الإرسال عليهم والإهلاك عامًّا، فكأن الحاصب أهلك من كان الإرسال عليه مقصوداً وغيرهم، كالأطفال والدَّوَابِّ١٠.
والمراد بآل لوط : من تبع على دينه ولم يكن إلا بِنْتَاهُ.
قوله :«نَجَّيْنَاهُمْ » تفسير وجواب لقائل يقول : فَمَا كان من شأن آلِ لوط ؟ كقوله تعالى :﴿ أبى ﴾ [ البقرة : ٣٤ ] بعد قوله :«إلاَّ إبْلِيسَ ». وقد تقدم في البقرة١١.
قوله :«بِسَحَرٍ » الباء حالية أو ظرفية، وانصرف «سَحَرٌ » لأنه نكرة، ولو قصد به وقتٌ بعينه لمنع ( مِنَ ) الصَّرف للتعريف والعدل عن أل هذا هو المشهور.
وزعم صَدْرُ الأفَاضِلِ١٢ أنه مبني على الفتح كَأَمْسِ مبنياً على الكسر١٣.
و«نِعْمَةً » إما مفعولٌ له، وإما مصدرٌ١٤ بفِعلٍ من لفظهما أو من معنى «نَجَّيْنَاهُمْ » ؛ لأن تنجيتهم إنعامٌ، فالتأويل إما في العامل وإما في المصدر. و«مِنْ عِنْدِنَا » إما متعلق بنعْمةٍ، وإما بمحذوفٍ صفةً لها.
والكاف في «كَذَلِكَ » نعت مصدر محذوف أي مِثْلُ ذَلِكَ الْجَزَاءِ نَجْزِي.

فصل


قال الأخفش : إنّما جُرَّ سَحَر، لأنه نكرة، ولو أراد يوماً بعينه لم يَجُرَّه١٥. وكذا قال الزجاج : سحرٌ إذا كان نكرة يراد به سحر من الأسحار يصرف، نقول : سَحرُنَا هذا، وأتيته بسَحَرٍ، والسَّحَرُ هو ما بين آخر الليل وطلوع الفجر، وهو في كلام العرب اختلاط سواد الليل بِبَيَاضِ النهار ؛ لأن في هذا الوقت تكون مخاييل الليل ومخاييل١٦ النهار.
﴿ نِعْمَةً مِنْ عِندِنَا ﴾ إنعاماً على لوط وابْنَتَيْهِ.
﴿ كَذَلِكَ نَجْزِي مَن شَكَرَ ﴾، أي كما جازينا لوطاً وأهله بالإنجاء، فكذلك نجزي من شكر أي آمن بالله وأطاعه.
قال المفسرون : هو وعد لأمة محمد - عليه الصلاة والسلام - بأنه يصونهم عن الهلاك العام.
قال ابن الخطيب : ويمكن أن يقال : هو وعد لهؤلاء بالثواب يوم القيامة، كما أنجاكم في الدنيا من العذاب ؛ لقوله تعالى :﴿ وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخرة نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشاكرين ﴾١٧ [ آل عمران : ١٤٥ ].
١ هو النضر بن شُميل، أخذ عن الخليل بن أحمد، وعن فصحاء العرب كأبي خيرة الأعرابي وأبي الدُّقيش. مات سنة ثلاث أو أربع ومائتين في خلافة المأمون. وانظر نزهة الألباء من ٥٨ إلى ٦١..
٢ قاله في المجاز ٢/٢٤١ قال: "والحاصب أيضا يكون من الجليد"..
٣ من الرجز وهو له كما في ديوانه ٣٩ دار صادر. وخوت: أقفرت، والعصُوف: الريح العاصفة والحَصِبةُ التي تجرف الحصباء معها. وروي "عليه" بدل "عليها". و"كل" فاعل مؤخر و"أذيالها" مفعول مقدم. وقد جاء بالبيت ليُبيّن أن الحاصب والحصبة هي الريح الشديدة المثيرة. وانظر اللسان "حصب" ٨٩٣ والقرطبي ١٧/١٤٣ والصّحاح "حصب" أيضا..
٤ من البسيط له. و"نديف القطن" الذي يباع في السوق منذوفا فالندف هو الطرق. وشاهده كسابقه من أن الحاصب هو الريح الشديدة. وانظر البيت في المجاز ٢/٢٤١ وفتح القدير ٥/١٢٧ وروح المعاني ٢٧/٩٠ والقرطبي ١٧/١٤٣، ومجمع البيان ٩/٢٩١ والديوان ١/٢١٣..
٥ نقل الوجهين العكبري في التبيان ١١٩٤ واختار الثاني..
٦ الدر المصون مخطوط بمكتبة الإسكندرية لوحة رقم ١٢٢..
٧ التبيان المرجع السابق..
٨ حيث إن آل لوط مع من عُذّبوا حينما عارضوا فكيف لم يُرسَل الحاصب على آل لوط؟.
٩ التفسير الكبير له ١٥/٨٥ و٥٧..
١٠ بالمعنى من المرجع السابق..
١١ وراجع اللباب الجزء الأول ص ٧٧ نسخة ب..
١٢ هو أبو الفتح ناصر صدر الأفاضل، ابن أبي المكارم عبد السيد الخوارزمي المُطَرّزي كان يدعو للاعتزال قرأ على أبيه وغيره فنبغ في العربية، وسار ذكره وبعد صيته. من مؤلفاته النحوية: المصباح. توفي بخوارزم سنة ٦١٠ هـ، وانظر نشأة النحو ١٧٨ و١٧٩..
١٣ وقد خالف المطرزي العامة من النحاة في هذا الرأي كما نقل ذلك السيوطي في الهمع ١/١٩٦ وانظر المشكل في إعراب القرآن لمكي بن أبي طالب ٢/٣٣٩..
١٤ التبيان ١١٩٤ واختار مكي في مرجعه السابق المفعول لأجله فقط..
١٥ لم أجده في معاني القرآن له وإنما نقله عنه القرطبي في الجامع ١٧/١٤٣..
١٦ وانظر في معاني القرن وإعرابه له ٥/٩..
١٧ وانظر التفسير الكبير للرازي بالمعنى ١٥/٦٠..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٤:ثم قال :﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً ﴾ والحاصب فاعل من حصب إذا رَمَى بالحَصَا وهي الحجارة. وقال النَّضْرُ١ : الحَاصِبُ الحَصْبَاءُ في الرِّيح. وقال أبو عبيدة : الحاصب الحِجارة٢. وفي الصِّحاح : الحَاصِبُ الريح الشديدة التي تثير الحَصْبَاء، وكذلك الحَصْبَةُ، قال لَبيدٌ :
جَرَّتْ عَلَيْهَا أَنْ خَوَتْ مِنْ أَهْلِهَا أَذْيَالَها كُلُّ عَصُوفٍ حَصِبَهْ٣
( يقال ) : عَصَفَتِ الرِّيحُ أي اشتدت فهي ريحٌ عَاصِفٌ وعَصُوفٌ. وقال الفرزدق :
مُسْتَقْبِلِينَ شَمَالَ الشَّأْمِ تَضْرِبُنَا بِحَاصِبٍ كَنَدِيفِ القُطْنِ مَنْثُورِ٤
قوله :﴿ إِلاَّ آلَ لُوطٍ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أنه متصل ويكون المعنى : أنه أرسل الحاصب على الجميع إلا أهله، فإنه لم يرسلْ عليهم.
والثاني : أنه منقطع٥. قال شهاب الدين : ولا أدري ما وَجْهُهُ ؛ فإن الانقطاع وعدمه عبارة عن عدم دخول المستثنى في المستثنى منه، وهذا داخلٌ ليس إلاَّ٦.
وقال أبو البقاء : هو استثناء منقطع. وقيل : متصل ؛ لأن الجميع أرسل عليهم الحاصب فهَلَكُوا إلا آلَ لوط. وعلى الوجه الأول يكون الحاصب لم يرسل على آل لوط٧. انتهى. وهو كلام مُشْكِلٌ٨.

فصل


قال ابن الخطيب : الحاصب رامي الحَصْبَاء، وهي الحجارة ؛ كقوله :﴿ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ ﴾ [ الحجر : ٧٤ ] وقول الملائكة :﴿ لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ ﴾ [ الذاريات : ٣٣ ] مع أنَّ المرسلَ عليهم ليس بحاصب فيحتمل أن يكون المعنى : لنرسل عليهم ريحاً حاصباً بالحجارة٩. ويجوز تذكير الرِّيح ؛ لأن تأنيثها غير حقيقي. ويحتمل أن يكون المراد عذاب حاصب لأن ( أَرْسَلْنَا ) يدل على مُرسلِ وهو مرسل الحجارة وحاصبها، وأفرد للجنس. وقوله :«إنَّا أَرْسَلْنَا » كأنه جواب من قال : كَيْفَ كَانَ أَمْرُهُمْ ؟ والاستثناء في قوله :﴿ إِلاَّ آلَ لُوطٍ ﴾ من الضمير في «عَلَيْهِمْ » وهو يعود على قوم لوط فيقتضي أن آلَهُ كَذَّبُوا، لكن قد يكون أهله قليلاً فعمهم ظاهر اللفظ فبين بالاستثناء خروجهم لأن المقصودَ بيانُ هلاكهم ومن نجا أو يكون الاستثناء من كلامٍ مدلول عليه أي فما أنجينا من الحاصب إلا آل لوط، ويكون الإرسال عليهم والإهلاك عامًّا، فكأن الحاصب أهلك من كان الإرسال عليه مقصوداً وغيرهم، كالأطفال والدَّوَابِّ١٠.
والمراد بآل لوط : من تبع على دينه ولم يكن إلا بِنْتَاهُ.
قوله :«نَجَّيْنَاهُمْ » تفسير وجواب لقائل يقول : فَمَا كان من شأن آلِ لوط ؟ كقوله تعالى :﴿ أبى ﴾ [ البقرة : ٣٤ ] بعد قوله :«إلاَّ إبْلِيسَ ». وقد تقدم في البقرة١١.
قوله :«بِسَحَرٍ » الباء حالية أو ظرفية، وانصرف «سَحَرٌ » لأنه نكرة، ولو قصد به وقتٌ بعينه لمنع ( مِنَ ) الصَّرف للتعريف والعدل عن أل هذا هو المشهور.
وزعم صَدْرُ الأفَاضِلِ١٢ أنه مبني على الفتح كَأَمْسِ مبنياً على الكسر١٣.
و«نِعْمَةً » إما مفعولٌ له، وإما مصدرٌ١٤ بفِعلٍ من لفظهما أو من معنى «نَجَّيْنَاهُمْ » ؛ لأن تنجيتهم إنعامٌ، فالتأويل إما في العامل وإما في المصدر. و«مِنْ عِنْدِنَا » إما متعلق بنعْمةٍ، وإما بمحذوفٍ صفةً لها.
والكاف في «كَذَلِكَ » نعت مصدر محذوف أي مِثْلُ ذَلِكَ الْجَزَاءِ نَجْزِي.

فصل


قال الأخفش : إنّما جُرَّ سَحَر، لأنه نكرة، ولو أراد يوماً بعينه لم يَجُرَّه١٥. وكذا قال الزجاج : سحرٌ إذا كان نكرة يراد به سحر من الأسحار يصرف، نقول : سَحرُنَا هذا، وأتيته بسَحَرٍ، والسَّحَرُ هو ما بين آخر الليل وطلوع الفجر، وهو في كلام العرب اختلاط سواد الليل بِبَيَاضِ النهار ؛ لأن في هذا الوقت تكون مخاييل الليل ومخاييل١٦ النهار.
﴿ نِعْمَةً مِنْ عِندِنَا ﴾ إنعاماً على لوط وابْنَتَيْهِ.
﴿ كَذَلِكَ نَجْزِي مَن شَكَرَ ﴾، أي كما جازينا لوطاً وأهله بالإنجاء، فكذلك نجزي من شكر أي آمن بالله وأطاعه.
قال المفسرون : هو وعد لأمة محمد - عليه الصلاة والسلام - بأنه يصونهم عن الهلاك العام.
قال ابن الخطيب : ويمكن أن يقال : هو وعد لهؤلاء بالثواب يوم القيامة، كما أنجاكم في الدنيا من العذاب ؛ لقوله تعالى :﴿ وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخرة نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشاكرين ﴾١٧ [ آل عمران : ١٤٥ ].
١ هو النضر بن شُميل، أخذ عن الخليل بن أحمد، وعن فصحاء العرب كأبي خيرة الأعرابي وأبي الدُّقيش. مات سنة ثلاث أو أربع ومائتين في خلافة المأمون. وانظر نزهة الألباء من ٥٨ إلى ٦١..
٢ قاله في المجاز ٢/٢٤١ قال: "والحاصب أيضا يكون من الجليد"..
٣ من الرجز وهو له كما في ديوانه ٣٩ دار صادر. وخوت: أقفرت، والعصُوف: الريح العاصفة والحَصِبةُ التي تجرف الحصباء معها. وروي "عليه" بدل "عليها". و"كل" فاعل مؤخر و"أذيالها" مفعول مقدم. وقد جاء بالبيت ليُبيّن أن الحاصب والحصبة هي الريح الشديدة المثيرة. وانظر اللسان "حصب" ٨٩٣ والقرطبي ١٧/١٤٣ والصّحاح "حصب" أيضا..
٤ من البسيط له. و"نديف القطن" الذي يباع في السوق منذوفا فالندف هو الطرق. وشاهده كسابقه من أن الحاصب هو الريح الشديدة. وانظر البيت في المجاز ٢/٢٤١ وفتح القدير ٥/١٢٧ وروح المعاني ٢٧/٩٠ والقرطبي ١٧/١٤٣، ومجمع البيان ٩/٢٩١ والديوان ١/٢١٣..
٥ نقل الوجهين العكبري في التبيان ١١٩٤ واختار الثاني..
٦ الدر المصون مخطوط بمكتبة الإسكندرية لوحة رقم ١٢٢..
٧ التبيان المرجع السابق..
٨ حيث إن آل لوط مع من عُذّبوا حينما عارضوا فكيف لم يُرسَل الحاصب على آل لوط؟.
٩ التفسير الكبير له ١٥/٨٥ و٥٧..
١٠ بالمعنى من المرجع السابق..
١١ وراجع اللباب الجزء الأول ص ٧٧ نسخة ب..
١٢ هو أبو الفتح ناصر صدر الأفاضل، ابن أبي المكارم عبد السيد الخوارزمي المُطَرّزي كان يدعو للاعتزال قرأ على أبيه وغيره فنبغ في العربية، وسار ذكره وبعد صيته. من مؤلفاته النحوية: المصباح. توفي بخوارزم سنة ٦١٠ هـ، وانظر نشأة النحو ١٧٨ و١٧٩..
١٣ وقد خالف المطرزي العامة من النحاة في هذا الرأي كما نقل ذلك السيوطي في الهمع ١/١٩٦ وانظر المشكل في إعراب القرآن لمكي بن أبي طالب ٢/٣٣٩..
١٤ التبيان ١١٩٤ واختار مكي في مرجعه السابق المفعول لأجله فقط..
١٥ لم أجده في معاني القرآن له وإنما نقله عنه القرطبي في الجامع ١٧/١٤٣..
١٦ وانظر في معاني القرن وإعرابه له ٥/٩..
١٧ وانظر التفسير الكبير للرازي بالمعنى ١٥/٦٠..

قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا ﴾ هي العذاب الذي أصابهم، أو هي عذاب الآخرة، لقوله :﴿ يَوْمَ نَبْطِشُ البطشة الكبرى ﴾١ [ الدخان : ١٦ ]، وقوله :«فَتَمَارَوا بِالنُّذُرِ » أي فشكُّوا فيما أنذرهم به الرسول ولم يصدقوه، وهو تَفَاعَلُوا من المِرْيَة. وهذه الآية تدل على أن المراد بالنذر الإنذارات.
١ وانظر المرجع السابق..
قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ ﴾ المراودة من الرَّوْدِ، يقال : رَاوَدْتُهُ عَلَى كَذَا مُرَاوَدَةً، ورَواداً أيْ أَرَدْتُهُ. وَرادَ الكَلأَ يَرُودُهُ رَوْداً وَرِياداً، وارْتَادَهُ أيضاً أي طَلَبَهُ. وفي الحديث :«إذَا بَالَ أَحَدكُمْ فَلْيَرْتَدْ لِبَوْلِهِ » أي يطلب مكاناً ليناً أو منْحَدراً١. قال ابن الخطيب : ومنه الإرادة وهي المطالبة٢ غَيْرَ أن المطالبة تستعمل في العين، يقال : طَالَبَ زَيْدٌ عَمْراً بالدَّرَاهِمِ، والمراودة لا تستعمل إلا في العمل، فيقال : رَاوَدَهُ عَنِ الْمُسَاعَدَةِ، ولهذا تعدى المراودة إلى مفعول ثانٍ٣ والمطالبة بالباء وذلك لأن الشغل منوطٌ باختيار الفاعل، والعين قد توجد من غير اختيار منه فلهذا يفترق الحال بين قولك : أَخْبِرْنِي عَنْ أَمْرِ زَيْدٍ وأَخْبِرْنِي بأَمْر زَيْدٍ، وكذا قوله :«أَخْبَرَنِي زَيْدٌ عَنْ مَجِيءِ فُلاَنٍ » وقوله :«أَخْبَرَنِي بمجيئه » ؛ فإن من قال عن مجيئه ربما يكون الإخبار عن كيفية المجيء لا عن نفسه، وأخبرني بمجيئه، لا يكون إلا عن نفس المجيء٤.
والضيف يقع على الواحد والجماعة، والمعنى أرادوا منه تمكينهم ممن أتاه من الملائكة.
قوله :«فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ » قرأ العامّة فَطَمسنَا مخففاً. وابن مِقْسِم مشدَّداً على التكثير، لأجل المتعلق أو لشدة الفعل في نفسه٥.
والضمير في :«رَاوَدُوهُ » عائد على قومِ لوط. وأسند إليهم لأن جميعهم راضٍ بذلك، والمراد الذين دخلوا عليه. روي أن جِبْرِيلَ - عليه الصلاة والسلام - ضربهم بجناحه فَعَمُوا. وقيل : صارت أعينهم كسائر الوجه لا يرى لها شِقّ، كما تطمس الريح الأثر والأعلام بما تَسْفِي عليها من التراب، وقال الضحاك : بل أعماهم الله تعالى فلم يَرَوا الرسل. وقالوا : لقد رأيناهم حين دخلوا البيت فأين ذهبوا فرجعوا ولم يروهم. وهذا قول ابن عباس٦.
فإن قيل : قال ههنا : فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ، وقال في يس :﴿ وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا على أَعْيُنِهِمْ ﴾ [ يس : ٦٦ ] فما الفرق ؟
فالجواب : هذا يؤيد قول ابن عباس : بأن المراد من الطمس الحَجْبُ عن الإدراك، ولم يجعل على بصرهم شيء. وفي «يس » أراد أنه لو شاء لجعل على بصرهم غشاوة أو أَلْزَقَ٧ أحد الجَفْنَيْن بالآخَرِ فتكون العينُ جلدةً٨.
وروي أنهم صارت أعينهم مع وجودهم كالصفحة الواحدة.
قوله :﴿ فَذُوقُواْ عَذَابِي وَنُذُرِ ﴾ الخطاب لهم، أي قلنا على لسان الملائكة فذوقوا، وهو خطاب مع كل مكذب، أي إنْ كُنْتُمْ تُكَذِّبُونَ فَذُوقُوا.
قال القرطبي : والمراد من هذا الأمر الخبر أي : فَأَذَقْتُهُمْ عَذَابي الذي أنذرَهُمْ به لوطٌ٩.
فإن قيل : إذا كان المراد بقوله :«عذابي » هو العذاب العاجل، وبقوله :«ونُذُر » هو العذاب الآجل فهما لم يكونا في زَمَانٍ واحد فكيف قال : ذوقوا ؟
فالجواب : أن العذاب الآجل أوله متصل بآخر العذاب العاجل فهما كالواقع في زمان واحد وهو كقوله تعالى :﴿ أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً ﴾١٠ [ نوح : ٢٥ ].
١ وانظر اللسان ورد ١٧٧٢ و١٧٧١..
٢ في الرازي: قريبة من المطالبة..
٣ في الرازي: "بعن"..
٤ وانظر تفسير الرازي ١٥/٦١ بالمعنى..
٥ وانظر البحر ٨/١٨٢. وهي قراءة شاذة..
٦ وانظر القرطبي ١٧/١٤٤..
٧ في الرازي: أي ألزَقَ..
٨ وفيه: فيكون على العين جلدة..
٩ وانظر القرطبي ١٧/١٤٤..
١٠ وانظر الرازي ١٥/٦٢..
قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً ﴾ انصرف «بكرةً » ؛ لأنه نكرة ولو قصد به وقت بعينه امتنع الصرف للتأنيث والتعريف. وهذا كما تقدم في «غَدْوَةٍ »١.
ومنعها زيدُ بن عليٍّ الصرف٢، ذهب بها إلى وقتٍ بعينه٣.
قال صاحب المختصر٤ : انتصب بُكْرَة على الظرف أي بكرة من البكر كقوله :﴿ أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ﴾ [ الإسراء : ١ ]. قال الزمخشري : والتنكير يدل على أنه كان في بعض الليل وتمسك بقراءة من قرأ : مِنَ اللِّيْلِ٥. قال ابن الخطيب : وهو غير ظاهر، والأظهر أن يقال : بأن الوقت المبهم يذكر لبيان أن تَعْيِينَ الوقت ليس بمقصود للمتكلم، كقوله : خَرَجْنَا فِي بَعْضِ الأَوْقَاتِ مَعَ أن الخروج لا بدّ وأن يكون في بعضِ الأوقات، وكذلك قوله :«صَبّحَهُمْ بُكْرَةً » أي بكرة من البكر، و﴿ أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً ﴾ أي ليلاً من الليالي٦.
ومعنى صبحهم قال لهم : عِمُوا صباحاً، كقوله :﴿ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [ آل عمران : ٢١ ]. والمراد بقوله : بكرة أول أزمنة الصبح. أو انتصب «بُكْرَةً » على المصدر كقولك : ضَرَبْتُهُ سَوْطاً ؛ لأن الضرب يكون بالسَّوْطِ وغيره، وكذلك الصبح يكون بكرةً وبَعْدَها.
ومعنى «مستقر » أي ثابت عليهم لا يدفعه أحد عنهم، أو دائم لأنهم انتقلوا منه إلى عذاب الجحيم، وهو دائم، أو بمعنى قدر الله عليهم وقوعه ولم يصبهم بطريق الاتفاق وذلك العذاب قلب قريتهم عليهم، وجعل أعلاها أسْفَلَهَا٧.
١ وكما تقدم أيضا منذ قليل في (سَحَر). وانظر المشكل لمكي ٢/٣٣٩..
٢ وانظر البحر المحيط ٨/١٨٢..
٣ المرجع السابق. وهي شاذّة..
٤ لعله المختصر في النحو لأبي جعفر بن سعدان الضرير البغدادي، وقد ترجم لابن سعدان هذا قبل..
٥ قال الزمخشري "... وذلك أن التنكير فيه قد دل على معنى البعضية، ويشهد لذلك قراءة عبد الله وحذيفة: من الليل" وانظر الكشاف ٢/٤٣٦..
٦ من كلام للرازي في تفسيره ١٥/٦٣..
٧ للرازي السابق..
وقوله :﴿ فَذُوقُواْ عَذَابِي وَنُذُرِ ﴾ أي العذاب الذي نزل بهم من طَمْسِ الأَعْيُن غير العذاب الذي أهلكوا به، فلذلك حسن التكرير١.
١ قاله القرطبي في الجامع ١٧/١٤٤..
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ جَآءَ آلَ فِرْعَوْنَ النذر﴾ المراد بآله خواصُّه، والنُّذُر مُوسَى وهَارُونُ. ولقد يطلق لفظ الجمع على الاثنين. وقيل: المراد بآل فرعون القِبط.
فإن قيل: ما الفائدة في قوله: «آلَ فِرْعَوْنَ» بدل «قَوْمِ فِرَعوْنَ» ؟
فالجواب: أن القوم أعم من الآل فالقوم كل من يقوم الرئيس بأمرهم، أو يقومون هم بأمره وقوم فرعون: كانوا تحت قهره بحيث لا يخالفونه في قليل ولا كثير، فأرسل إليه الرسول وحده غير أنه كان عنده جماعة من المقربين مثل قَارُون. مقدم عنده لمالِهِ العَظِيم، وهَامَان لِدَهَائِهِ، فاعتبرهم الله في الإرسال، حيث قال في مواضع: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بِآيَاتِنَآ إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ﴾ [الزخرف: ٤٦] وقال: ﴿إلى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ﴾ [غافر: ٢٤] وقال في العنكبوت: ﴿وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَآءَهُم موسى﴾ [العنكبوت: ٣٩] لأنهم إن آمنوا آمن الكل، بخلاف الأقوام الذين كانوا قبلهم وبعدهم، فقال: ﴿وَلَقَدْ جَآءَ آلَ فِرْعَوْنَ النذر﴾ وقال: ﴿أدخلوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العذاب﴾ [غافر: ٤٦].
فإن قيل: كيف قال: «ولقد جاءهم» ولم يقل في غيره: جاء؟
فالجواب: لأن موسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لما جاءهم كان غائباً عن القوم فقدم عليهم، كما قال: ﴿فَلَمَّا جَآءَ آلَ لُوطٍ المرسلون﴾ [الحجر: ٦١]، وقال تعالى: ﴿لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ﴾ [التوبة: ١٢٨] حقيقة أيضاً، لأنه جاءهم من الله من السموات بعد المعراج، كما جاء موسى قومه من الطور حقيقة.
والنذر: الرسل وقد جاءهم يوسف وبنوه إلى أن جاءهم موسى. وقيل: النذر الإنذاراتُ.
274
قوله: «كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا» فيه وجهان:
أحدهما: أن الكلام تمّ عند قوله: ﴿وَلَقَدْ جَآءَ آلَ فِرْعَوْنَ النذر﴾ وقوله: «كَذَّبُوا» كلام مستأنف، والضمير عائد إلى كل مَنْ تقدم ذكرهم من قوم نوح إلى آل فرعون.
والثاني: أن الحكاية مسوقةٌ على سياق ما تقدم فكأنه قيل: فَكَيْفَ كَانَ؟ فقال: كذبوا بآياتنا كلها فَأَخَذْنَاهُمْ.
فعلى الوجه الأولى آياتنا كلها ظاهر، وعلى الثاني المراد بالآيات التي كانت مع موسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كالعصا، واليد، والسِّنِينَ، والطمسِ، والجرادِ، والطوفانِ، والجرادِ، والقُمَّلِ، والضفادعِ والدَّمِ.
قوله: ﴿فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عِزِيزٍ﴾ هذا مصدر مضاف لِفاعله، والمعنى أخَذْنَاهُمْ بالعذاب أخَذْ عَزِيزٍ غالب في انتقامه (مُقْتَدِرٍ) قادرٍ على إهلاكهم، لا يُعْجِزُه مَا أرَادَ.
ثم خوف أهل مكة فقال: ﴿أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَئِكُمْ﴾ أي أشد وأقوى من الذين أحللت بهم نِقْمَتي من قوم نوح وعاد وثمود، وقم لوط. وهذا استفهام بمعنى الإنكار، أي ليسوا بأقوى منهم، فمعناه نفي أي ليس كفاركم خيراً من كفار من تقدم من الأمم الذين أهلكوا بكفرهم.
وقوله: «خَيْرٌ» مع أنه لا خير فيهم إما أن يكون كقول حسان:
٤٦١٠ -............................. فَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الْفِدَاءُ
أهو بحسب زعمهم، واعتقادهم، أو المراد بالخير شدة القوة، أو لأن كل مُمْكِن فلا بدّ وأن يكون فيه صفات محمودة، والمراد تلك الصفات.
﴿أَمْ لَكُم بَرَآءَةٌ فِي الزبر﴾ أي في الكتب المنزلة على الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - بالسلامة من العقوبة. وقال ابن عباس - (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -) أم لكم في اللوح المحفوظ براءة من العذاب.
قوله: «أَمْ يَقُولُونَ» العامة على الغيبة، وأبو حيوة وأبو البَرَهسم وموسى الأسوَاريّ بالخطاب، جرياً على ما تقدم من قوله: «كُفَّارُكُمْ خَيْرٌ»... إلى آخره. والمعنى نحن جماعة لا نُطَاقُ لكثرة عددهمْ وقوتهم، ولم يقل: منتصرين اتباعاً لرؤوس الآي.
275
وقال ابن الخطيب: قولهم: «جميعٌ» يحتمل الكثرة، والاتّفاق، ويحتمل أن يكون معناه نحن جميع الناس إشارة إلى أن من آمن لا عبرة به عندهم كقول قوم نوح: ﴿أَنُؤْمِنُ لَكَ واتبعك الأرذلون﴾ [الشعراء: ١١١] فيكون التنوين فيه عوضاً من الإضافة. وأفرد منتصر مراعاةً للفظ «جميع» أو يكون مرادهم كل واحد منتصر كقولك: كُلُّهُمْ عَالِمٌ أي كل واحد فيكون المعنى أن كل واحد منا غالب؛ فردّ الله تعالى عليهم بأنهم يهزمون جَمِيعُهُمْ.
قوله: «سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ» العامة على سَيُهْزَمُ مبنياً للمفعول و «الجَمْعُ» مرفوعٌ به. وقرىء: سَتَهْزِمُ بتاء الخطاب، خطاباً للرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - «الْجَمْعَ» مفعول به. وأبو حيوة في رواية يعقوب: سَنَهْزِمُ بنون العظمة، و «الْجَمْعَ» منصوب أيضاً. وابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: سَيَهْزِمُ بياء الغيبة مبنياً للفاعل (الجَمْعَ) منصوب أي سيَهْزِمُ اللَّهُ.
و «يُوَلُّونَ» العامة على الغيبة. وأبو حيوة وأبو عمرو - في رواية - وتُوَلُّونَ بتاء الخطاب، وهي واضحة والدُّبُر هنا اسم جنس، وحسن هنا لوقوعه فاصلةً بخلاف: ﴿لَيُوَلُّنَّ الأدبار﴾ [الحشر: ١٢].
وقال الزمخشري: أي الأدبار، كما قال:
٤٦١١ - كُلُوا فِي بَعْضِ بطْنِكُمُ تَصِحُّوا...............................
وقرىء الأدبار.
قال أبو حيان: وليس مثل بعضِ بَطْنِكُمْ؛ لأن الإفراد هنا له محسّن، ولا محسن لإِفراد بَطْنِكُمْ.
276
قال ابن الخطيب: وأفْردَ «الدُّبُرُ» هنا وجُمع في غيره؛ لأن الجمع هو الأصل، لأن الضمير ينوب مناب تَكْرار العاطف فكأنه قيل: تولى هذا وهذا. وأفرد لمناسبة المقاطع. وفيه إشارة إلى أن جميعهم يكونون في الانهزام كشخص واحد، وأما قوله: ﴿فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأدبار﴾ [الأنفال: ١٥] فجمع لأن كل واحد برأسه منهيّ عن رأسه، وأما قوله: ﴿وَلَقَدْ كَانُواْ عَاهَدُواْ الله مِن قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ الأدبار﴾ [الأحزاب: ١٥] أي كل واحد قال: أنا أثبت ولا أوَلِّي دُبُرِي.

فصل


قال مقاتل: ضرب أبو جهل فرسه يوم بدر فتقدم من الصف وقال: نحن نَقْتَصُّ اليومَ من مُحَمَّد وأصحابِهِ فأنزل الله تعالى: ﴿نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ﴾.
وقال سعيد بن المسيب: «سمعت عمر بن الخطاب (رَضِيَ اللَّهُ عَنْه) يقول: لما نزل: سَيُهْزَمُ الجَمْعُ وَيُوَلُّون الدُّبُرَ كنت لا أدري أي جمع يهزم فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يثب في درعه ويقول: ﴿سَيُهْزَمُ الجَمْع وَيُوَلُّون الدُّبُرَ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ﴾ أعظم نائبةً وأشدّ مرارةً من الأسر والقتل يوم بدر»
، وفي رواية «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان يَثِبُ في دِرْعِهِ ويقول:» اللَّهُمَّ إنَّ قُرَيْشاً حَادَّتْكَ وتُحَادّ رَسُولَكَ بفَخْرِهَا بخَيْلِهَا فَأَخْنِهِمُ العَدَاوَةَ «، ثم قال: ﴿سَيُهْزَمُ الجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ﴾ » وقال عمر - (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) -: فَعَرَفْتُ تَأْويلهَا. وهذا من معجزات رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لأنه أخبر عن غيب فكان كما أخبر قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: كان بين نزول هذه الآية وبين بدر سبعُ سِنينَ، فالآية على هذا مكية. وفي البخاري عن عائشةَ أمِّ المؤمنين - (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) - قالت: لقد أنْزِلَ على مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بمكة، وإني لجارية ألعبُ: ﴿بَلِ الساعة مَوْعِدُهُمْ والساعة أدهى وَأَمَرُّ﴾. «وعن ابن عباس (- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -) أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال وهو في قُبَّةٍ له يوم بدر:» أَنْشُدُكَ عَهْدَك ووَعْدَكَ، اللَّهمَّ إنْ شِئْتَ لَمْ تُعْبَدْ بَعْدَ اليَوْم أبداً «. فأخذ أبو بكر بيده وقال: حَسْبُك يا رسول الله قد أَلْحَحْتَ عَلَى رَبِّك وهو في الدِّرع فخرج وهو يقول: سَيُهْزَمُ الجَمْعُ وَيولُّونَ الدُّبُرَ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ».
277
﴿بل الساعة موعدهم﴾ يريد يوم القيامة ﴿والساعة أدهى وأمر﴾ مما لَحِقَهُمْ.

فصل


«أدْهَى» من الداهية وهي الأمر العظيم يقال: أَدْهَاهُ أَمْرُ كَذَا أي أصابه دَهْواً ودَهْياً. وقال ابن السِّكِّيت: دَهَتْهُ دَاهِيَةٌ دَهْوَاءُ ودَهْيَاءُ، وهي توكيد لها.
278
قوله :«كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا » فيه وجهان :
أحدهما : أن الكلام تمّ عند قوله :﴿ وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النذر ﴾ وقوله :«كَذَّبُوا » كلام مستأنف، والضمير عائد إلى كل مَنْ تقدم ذكرهم من قوم نوح إلى آل فرعون.
والثاني : أن الحكاية مسوقةٌ على سياق ما تقدم فكأنه قيل : فَكَيْفَ كَانَ ؟ فقال : كذبوا بآياتنا كلها فَأَخَذْنَاهُمْ١.
فعلى الوجه الأولى آياتنا كلها ظاهر، وعلى الثاني المراد بالآيات التي كانت مع موسى - عليه الصلاة والسلام - كالعصا، واليد، والسِّنِينَ، والطمسِ، والجرادِ، والطوفانِ، والجرادِ، والقُمَّلِ، والضفادعِ والدَّمِ٢.
قوله :﴿ فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عِزِيزٍ ﴾ هذا مصدر مضاف لِفاعله، والمعنى أخَذْنَاهُمْ بالعذاب أخَذْ عَزِيزٍ غالب في انتقامه ( مُقْتَدِرٍ ) قادرٍ على إهلاكهم، لا يُعْجِزُه مَا أرَادَ.
١ وانظر في هذا كله تفسير العلامة الرازي ١٥/٦٤ و٦٥..
٢ المرجع السابق..
ثم خوف أهل مكة فقال :﴿ أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَئِكُمْ ﴾ أي أشد وأقوى من الذين أحللت بهم نِقْمَتي من قوم نوح وعاد، وثمود، وقم لوط. وهذا استفهام بمعنى الإنكار، أي ليسوا بأقوى منهم، فمعناه نفي أي ليس كفاركم خيراً من كفار من تقدم من الأمم الذين أهلكوا بكفرهم.
وقوله :«خَيْرٌ » مع أنه لا خير فيهم إما أن يكون كقول حسان :
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . فَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الْفِدَاءُ١
أهو بحسب زعمهم، واعتقادهم، أو المراد بالخير شدة القوة، أو لأن كل مُمْكِن فلا بدّ وأن يكون فيه صفات محمودة، والمراد تلك الصفات.
﴿ أَمْ لَكُم بَرَاءَةٌ فِي الزّبر ﴾ أي في الكتب المنزلة على الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - بالسلامة من العقوبة. وقال ابن عباس - ( رضي الله عنهما - )٢ أم لكم في اللوح المحفوظ براءة من العذاب.
١ سبق ذكره وجيء به هنا ليدل على أن المراد من خير غير التفضيل كما هي في قول حسان وانظر الرازي ١٥/٦٦..
٢ زيادة من أ..
قوله :«أَمْ يَقُولُونَ » العامة على الغيبة، وأبو حيوة وأبو البَرَهسم وموسى الأسوَاريّ بالخطاب١، جرياً على ما تقدم من قوله :«كُفَّارُكُمْ خَيْرٌ ». . . إلى آخره. والمعنى نحن جماعة لا نُطَاقُ لكثرة عددهمْ وقوتهم، ولم يقل : منتصرين اتباعاً لرؤوس الآي٢.
وقال ابن الخطيب : قولهم :«جميعٌ » يحتمل الكثرة، والاتّفاق٣، ويحتمل أن يكون معناه نحن جميع الناس إشارة إلى أن من آمن لا عبرة به عندهم كقول قوم نوح :﴿ أَنُؤْمِنُ لَكَ واتّبعك الأرذلون ﴾ [ الشعراء : ١١١ ] فيكون التنوين فيه عوضاً من الإضافة٤. وأفرد منتصر مراعاةً للفظ «جميع » أو يكون مرادهم كل واحد منتصر كقولك : كُلُّهُمْ عَالِمٌ أي كل واحد فيكون المعنى أن كل واحد منا غالب ؛ فردّ الله تعالى عليهم بأنهم يهزمون جَمِيعُهُمْ٥.
١ قراءة شاذة ذكرها صاحب البحر المحيط ٨/١٨٣..
٢ ذكره القرطبي في الجامع ١٧/١٤٥..
٣ كأنه قال: نحن كثير متفقون فلنا الانتصار، ولا يقوم غير هذه اللفظة مقامها من الألفاظ المفردة..
٤ وأسماه الرازي بقطع الإضافة قال "وعلى هذا جميع يكون التنوين فيه لقطع الإضافة كأنهم قالوا نحن جمع الناس" وانظر الرازي ١٥/٦٨..
٥ بالمعنى من الرازي المرجع السابق..
قوله :«سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ » العامة على سَيُهْزَمُ مبنياً للمفعول و«الجَمْعُ » مرفوعٌ به. وقرئ : سَتَهْزِمُ بتاء الخطاب١، خطاباً للرسول - عليه الصلاة والسلام - «الْجَمْعَ » مفعول به. وأبو حيوة في رواية يعقوب : سَنَهْزِمُ بنون٢ العظمة، و«الْجَمْعَ » منصوب أيضاً. وابْنُ أَبِي عَبْلَةَ : سَيَهْزِمُ بياء الغيبة٣ مبنياً للفاعل ( الجَمْعَ ) منصوب أي سيَهْزِمُ اللَّهُ.
و«يُوَلُّونَ » العامة على الغيبة. وأبو حيوة وأبو عمرو - في رواية٤ - وتُوَلُّونَ بتاء الخطاب، وهي واضحة والدُّبُر هنا اسم جنس، وحسن هنا لوقوعه فاصلةً بخلاف :﴿ لَيُوَلُّنَّ الأدبار ﴾ [ الحشر : ١٢ ].
وقال الزمخشري : أي الأدبار، كما قال :
كُلُوا فِي بَعْضِ بطْنِكُمُ تَصِحُّوا ***. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ٥
وقرئ الأدبار٦.
قال أبو حيان : وليس مثل بعضِ بَطْنِكُمْ ؛ لأن الإفراد هنا له محسّن، ولا محسن لإِفراد بَطْنِكُمْ٧.
قال ابن الخطيب : وأفْردَ «الدُّبُرُ » هنا وجُمع في غيره ؛ لأن الجمع هو الأصل، لأن الضمير ينوب مناب تَكْرار العاطف فكأنه قيل : تولى هذا وهذا. وأفرد لمناسبة المقاطع. وفيه إشارة إلى أن جميعهم يكونون في الانهزام كشخص واحد، وأما قوله :﴿ فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأدبار ﴾ فجمع لأن كل واحد برأسه منهيّ عن رأسه، وأما قوله :﴿ وَلَقَدْ كَانُواْ عَاهَدُواْ الله مِن قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ الأدبار ﴾ أي كل واحد قال : أنا أثبت ولا أوَلِّي دُبُرِي٨.

فصل


قال مقاتل : ضرب أبو جهل فرسه يوم بدر فتقدم من الصف وقال : نحن نَقْتَصُّ اليومَ من مُحَمَّد وأصحابِهِ فأنزل الله تعالى :﴿ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ ﴾.
وقال سعيد بن المسيب : سمعت عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ) ٩ يقول :«لما نزل : سَيُهْزَمُ الجَمْعُ وَيُوَلُّون الدُّبُرَ كنت لا أدري أي جمع يهزم فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يثب في درعه ويقول :﴿ سَيُهْزَمُ الجَمْع وَيُوَلُّون الدُّبُرَ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ ﴾ أعظم نائبةً وأشدّ مرارةً من الأسر والقتل يوم بدر »١٠، وفي رواية١١ «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يَثِبُ في دِرْعِهِ ويقول :«اللَّهُمَّ إنَّ قُرَيْشاً حَادَّتْكَ وتُحَادّ رَسُولَكَ بفَخْرِهَا بخَيْلِهَا١٢ فَأَخْنِهِمُ١٣ العَدَاوَةَ »، ثم قال :﴿ سَيُهْزَمُ الجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ﴾ ». وقال عمر١٤ - ( رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ) - : فَعَرَفْتُ تَأْويلهَا. وهذا من معجزات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنه أخبر عن غيب فكان كما أخبر قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : كان بين نزول هذه الآية وبين بدر سبعُ سِنينَ، فالآية على هذا مكية. وفي البخاري عن عائشةَ أمِّ المؤمنين - ( رضي الله عنهما ) - قالت : لقد أنْزِلَ على مُحَمَّد - صلى الله عليه وسلم - بمكة، وإني لجارية ألعبُ :﴿ بَلِ الساعة مَوْعِدُهُمْ والساعة أدهى وَأَمَرُّ ﴾. «وعن ابن عباس ( - رضي الله عنهما - ) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال وهو في قُبَّةٍ له يوم بدر :«أَنْشُدُكَ عَهْدَك ووَعْدَكَ، اللَّهمَّ إنْ شِئْتَ لَمْ تُعْبَدْ بَعْدَ اليَوْم أبداً ». فأخذ أبو بكر بيده وقال : حَسْبُك يا رسول الله قد أَلْحَحْتَ عَلَى رَبِّك وهو في الدِّرع فخرج وهو يقول : سَيُهْزَمُ الجَمْعُ وَيولُّونَ الدُّبُرَ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ ».
﴿ بل الساعة موعدهم ﴾ يريد يوم القيامة ﴿ والساعة أدهى وأمر ﴾ مما لَحِقَهُمْ١٥.

فصل


«أدْهَى » من الداهية وهي الأمر العظيم يقال : أَدْهَاهُ١٦ أَمْرُ كَذَا أي أصابه دَهْواً ودَهْياً. وقال ابن السِّكِّيت١٧ : دَهَتْهُ دَاهِيَةٌ دَهْوَاءُ ودَهْيَاءُ١٨، وهي توكيد لها.
١ في النسختين: بنون العظمة والصحيح ما كتبت أعلى، وهذه قراءة شاذة ذكرها أبو حيان في البحر ٨/١٨٣..
٢ شاذة أيضا ذكرها أبو حيان في مرجعه السابق وابن خالويه في المختصر ١٤٨..
٣ البحر المحيط السابق أيضا..
٤ ولم ترو عنه في المتواتر. وانظر البحر المحيط السابق والقرطبي ١٧/١٤٥ ونسبها القرطبي لرويس عن يعقوب..
٥ سبق أنه صدر بيت لجرير وعجزه:
فإن زمانكم زمن خميصُ ***.....................
واستشهد به على أن المراد من المفرد –وهو البطن- الجمع أي البطون..

٦ ولم يحدد الزمخشري من قرأ بها. وانظر الكشاف ٤/٤١٢..
٧ البحر ٨/١٨٣..
٨ بالمعنى من تفسير العلامة الرازي في تفسيره الكبير ١٥/٦٨ و٦٩. والآيات المذكورة في تلك الفقرة من الآية ١٥ من الأنفال ومن الآية ١٥ من الأحزاب..
٩ زيادة من أ..
١٠ وانظر البغوي ٦/٢٧٨..
١١ رواها سعد بن أبي وقاص عن سعيد بن جبير وانظر القرطبي ١٧/١٤٦..
١٢ في نسخة ابن هشام في سيرته: بفخرها وخُيلائها..
١٣ أي أهلكهم وأت عليهم..
١٤ في القرطبي أنه سعد بن أبي وقّاص..
١٥ وانظر هذا كله في تفسير العلامة القرطبي ١٧/١٤٦ وانظر بعضه في معالم التنزيل للعلامة البغوي ٦/٢٧٨..
١٦ الصحيح كما في كتب اللغة دهاه ثلاثيًّا..
١٧ يعقوب أبو يوسف بن السكيت، كان من أكابر أهل اللغة والسّكِّيت لقب أبيه إسحاق. أخذ عن أبي عمرو الشيباني والفراء وابن الأعرابي، وأخذ عنه أبو سعيد السكري وأبو عكرمة الضبّي، وكان من أصحاب الكسائي حسن المعرفة بالعربية. مات سنة ٢٤٤. وقيل غير ذلك. وانظر نزهة الألباء ص ١٢٣..
١٨ القرطبي السابق واللسان دها ١٤٤٨..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤٥:قوله :«سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ » العامة على سَيُهْزَمُ مبنياً للمفعول و«الجَمْعُ » مرفوعٌ به. وقرئ : سَتَهْزِمُ بتاء الخطاب١، خطاباً للرسول - عليه الصلاة والسلام - «الْجَمْعَ » مفعول به. وأبو حيوة في رواية يعقوب : سَنَهْزِمُ بنون٢ العظمة، و«الْجَمْعَ » منصوب أيضاً. وابْنُ أَبِي عَبْلَةَ : سَيَهْزِمُ بياء الغيبة٣ مبنياً للفاعل ( الجَمْعَ ) منصوب أي سيَهْزِمُ اللَّهُ.
و«يُوَلُّونَ » العامة على الغيبة. وأبو حيوة وأبو عمرو - في رواية٤ - وتُوَلُّونَ بتاء الخطاب، وهي واضحة والدُّبُر هنا اسم جنس، وحسن هنا لوقوعه فاصلةً بخلاف :﴿ لَيُوَلُّنَّ الأدبار ﴾ [ الحشر : ١٢ ].
وقال الزمخشري : أي الأدبار، كما قال :
كُلُوا فِي بَعْضِ بطْنِكُمُ تَصِحُّوا ***...................... ٥
وقرئ الأدبار٦.
قال أبو حيان : وليس مثل بعضِ بَطْنِكُمْ ؛ لأن الإفراد هنا له محسّن، ولا محسن لإِفراد بَطْنِكُمْ٧.
قال ابن الخطيب : وأفْردَ «الدُّبُرُ » هنا وجُمع في غيره ؛ لأن الجمع هو الأصل، لأن الضمير ينوب مناب تَكْرار العاطف فكأنه قيل : تولى هذا وهذا. وأفرد لمناسبة المقاطع. وفيه إشارة إلى أن جميعهم يكونون في الانهزام كشخص واحد، وأما قوله :﴿ فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأدبار ﴾ فجمع لأن كل واحد برأسه منهيّ عن رأسه، وأما قوله :﴿ وَلَقَدْ كَانُواْ عَاهَدُواْ الله مِن قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ الأدبار ﴾ أي كل واحد قال : أنا أثبت ولا أوَلِّي دُبُرِي٨.

فصل


قال مقاتل : ضرب أبو جهل فرسه يوم بدر فتقدم من الصف وقال : نحن نَقْتَصُّ اليومَ من مُحَمَّد وأصحابِهِ فأنزل الله تعالى :﴿ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ ﴾.
وقال سعيد بن المسيب : سمعت عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ) ٩ يقول :«لما نزل : سَيُهْزَمُ الجَمْعُ وَيُوَلُّون الدُّبُرَ كنت لا أدري أي جمع يهزم فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يثب في درعه ويقول :﴿ سَيُهْزَمُ الجَمْع وَيُوَلُّون الدُّبُرَ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ ﴾ أعظم نائبةً وأشدّ مرارةً من الأسر والقتل يوم بدر »١٠، وفي رواية١١ «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يَثِبُ في دِرْعِهِ ويقول :«اللَّهُمَّ إنَّ قُرَيْشاً حَادَّتْكَ وتُحَادّ رَسُولَكَ بفَخْرِهَا بخَيْلِهَا١٢ فَأَخْنِهِمُ١٣ العَدَاوَةَ »، ثم قال :﴿ سَيُهْزَمُ الجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ﴾ ». وقال عمر١٤ - ( رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ) - : فَعَرَفْتُ تَأْويلهَا. وهذا من معجزات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنه أخبر عن غيب فكان كما أخبر قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : كان بين نزول هذه الآية وبين بدر سبعُ سِنينَ، فالآية على هذا مكية. وفي البخاري عن عائشةَ أمِّ المؤمنين - ( رضي الله عنهما ) - قالت : لقد أنْزِلَ على مُحَمَّد - صلى الله عليه وسلم - بمكة، وإني لجارية ألعبُ :﴿ بَلِ الساعة مَوْعِدُهُمْ والساعة أدهى وَأَمَرُّ ﴾. «وعن ابن عباس ( - رضي الله عنهما - ) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال وهو في قُبَّةٍ له يوم بدر :«أَنْشُدُكَ عَهْدَك ووَعْدَكَ، اللَّهمَّ إنْ شِئْتَ لَمْ تُعْبَدْ بَعْدَ اليَوْم أبداً ». فأخذ أبو بكر بيده وقال : حَسْبُك يا رسول الله قد أَلْحَحْتَ عَلَى رَبِّك وهو في الدِّرع فخرج وهو يقول : سَيُهْزَمُ الجَمْعُ وَيولُّونَ الدُّبُرَ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ ».
﴿ بل الساعة موعدهم ﴾ يريد يوم القيامة ﴿ والساعة أدهى وأمر ﴾ مما لَحِقَهُمْ١٥.

فصل


«أدْهَى » من الداهية وهي الأمر العظيم يقال : أَدْهَاهُ١٦ أَمْرُ كَذَا أي أصابه دَهْواً ودَهْياً. وقال ابن السِّكِّيت١٧ : دَهَتْهُ دَاهِيَةٌ دَهْوَاءُ ودَهْيَاءُ١٨، وهي توكيد لها.
١ في النسختين: بنون العظمة والصحيح ما كتبت أعلى، وهذه قراءة شاذة ذكرها أبو حيان في البحر ٨/١٨٣..
٢ شاذة أيضا ذكرها أبو حيان في مرجعه السابق وابن خالويه في المختصر ١٤٨..
٣ البحر المحيط السابق أيضا..
٤ ولم ترو عنه في المتواتر. وانظر البحر المحيط السابق والقرطبي ١٧/١٤٥ ونسبها القرطبي لرويس عن يعقوب..
٥ سبق أنه صدر بيت لجرير وعجزه:
فإن زمانكم زمن خميصُ ***.....................
واستشهد به على أن المراد من المفرد –وهو البطن- الجمع أي البطون..

٦ ولم يحدد الزمخشري من قرأ بها. وانظر الكشاف ٤/٤١٢..
٧ البحر ٨/١٨٣..
٨ بالمعنى من تفسير العلامة الرازي في تفسيره الكبير ١٥/٦٨ و٦٩. والآيات المذكورة في تلك الفقرة من الآية ١٥ من الأنفال ومن الآية ١٥ من الأحزاب..
٩ زيادة من أ..
١٠ وانظر البغوي ٦/٢٧٨..
١١ رواها سعد بن أبي وقاص عن سعيد بن جبير وانظر القرطبي ١٧/١٤٦..
١٢ في نسخة ابن هشام في سيرته: بفخرها وخُيلائها..
١٣ أي أهلكهم وأت عليهم..
١٤ في القرطبي أنه سعد بن أبي وقّاص..
١٥ وانظر هذا كله في تفسير العلامة القرطبي ١٧/١٤٦ وانظر بعضه في معالم التنزيل للعلامة البغوي ٦/٢٧٨..
١٦ الصحيح كما في كتب اللغة دهاه ثلاثيًّا..
١٧ يعقوب أبو يوسف بن السكيت، كان من أكابر أهل اللغة والسّكِّيت لقب أبيه إسحاق. أخذ عن أبي عمرو الشيباني والفراء وابن الأعرابي، وأخذ عنه أبو سعيد السكري وأبو عكرمة الضبّي، وكان من أصحاب الكسائي حسن المعرفة بالعربية. مات سنة ٢٤٤. وقيل غير ذلك. وانظر نزهة الألباء ص ١٢٣..
١٨ القرطبي السابق واللسان دها ١٤٤٨..

قوله: ﴿إِنَّ المجرمين فِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ﴾ قيل: في ضلال بعد عن الحق. قال الضحاك: وسعر أي نار تسعّر عليهم. وقيل: ضلال ذهب عن طريق الجنة في الآخرة. وسُعُر جمع سَعِير: نار مستعرة. وقال الحسين بن الفضل: إن المجرمين في ضلال في الدنيا ونارٍ في الآخرة. قال قتادة: في عناء وعذاب.
ثم بين عذابهم فقال: ﴿يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النار على وُجُوهِهِمْ﴾ ويقال لهم: ﴿ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ﴾.

فصل


أكثر المفسرين على أن هذه الآية في القَدَرِيَّة. وفي الحديث: أَنَها نزلت في القَدَرِيَّة. وعن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: «مَجُوسُ هَذِه الأُمَّةِ القَدَرِيَّةُ فَهُمُ المُجُرِمُونَ الَّذِينَ سَمَّاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى في قوله: ﴿إِنَّ المجرمين فِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ﴾ ».
واعلم أن الجَبْريَّ من يقول: القدريُّ من يقول الطاعة والمعصية بفعلِي فهم ينكرون القَدَر. والفريقان متّفقان على أن السُّنِّيَّ القائلَ بأن الأفعال خلق الله وبسببٍ من العبد ليس بقَدَرٍ. قال ابن الخطيب: والحقُّ أن القَدَرِيَّ هو الذي يُنْكِرُ القَدَرَ، ويَنْسِبُ الحوادث لاتصال الكواكب لما رُوِيَ أنَّ قريشاً خَاصَمُوا في القَدَر ومذهبهم أن الله مكَّن العبد مِن الطاعة والمعصية، وهو قادر على خلق ذلك في العبد، وقادر على أن يُطْعِمَ الفَقِيرَ، ولهذا قالوا: ﴿أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَآءُ الله أَطْعَمَهُ﴾ [يس: ٤٧] منكرين لقدرته تعالى على
278
الإِطعام. وأما قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «القَدَرِيَّةُ مَجُوسُ هَذِهِ الأمة» فإِن أريد بالأمة المرسل إليهم مطلقاً كالقَوْم، فالقدرية في زمانه هم المشركون المنكرون قدرته على الحوادث، فلا يدخل فيهم المعتزلة. وإن كان المراد بالأمة من آمن به - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - فمعناه أن نسبة القدرية إليهم كنسبة المَجُوس إلى الأمة المتقدمة، فإن المجوس أضعفُ الكَفَرَة المتقدمين شبهةً وأشدّهم مخالفةً للعقل، وكذا القدرية في هذه الأمة وكونهم كذلك لا يقتضي الجَزْم بكونهم في النار. فالحق أن القدريَّ هو الذي يُنْكِر قدرةَ الله تَعَالَى.

فصل


روى مُسْلِمٌ عن أبي هريرة، قال: جاءَ مشركو قريش يخاصمون رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في القدر، فنزلت هذه الآية: ﴿إِنَّ المجرمين فِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ﴾ إلى قوله: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [القمر: ٤٩]. وروى عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يقول: «كَتَبَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الخَلاَئِقِ كُلَّهَا مِنْ قَبْلِ أن يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بخَمْسِينَ أَلْفِ سَنَةٍ قال: وَعَرْشُهُ عَلَى الماء» وعن طاوس اليماني قال: أدركت ما شاء الله من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يقولون: كُلّ شيء بقدر الله. وسمعت من عبد الله بن عمرو يقول: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
«كُلُّ شَيْءٍ بقَدَرٍ حَتَى العَجْزُ والكَيْسُ أو الكَيْسُ والعَجْزُ».
وعن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: «قال رسول الله: لا يؤمن بالله عبدٌ حتى يؤمن بأربع: يشهدُ أن لا إلهَ إلا اللَّه، وأَنِّي رسولُ الله بَعَثَنِي بالحقِّ ويؤمن بالبعث بعد الموت ويؤمن بالقَدَر. وزاد عُبَيْدُ الله: خَيْرِهِ وشَرِّهِ» وهذه الأدلة تبطل مذاهب القدرية.
قوله: «ذُوقُوا» فيه إضمار القول. وقرأ أبو عمرو - في رواية محبوب عنه - مَسَّقَرَ.
وخطَّأَهُ ابنُ مجاهد، وهو معذُورٌ؛ لأن السِّين الأخيرة من «مَسَّ» مدغم فيها فلا تدغم في غيرها لأنه متى أدغم فيها لزم تحريكها ومتى أدغمت هي لزم سكونها فتَنَافَى الجمعُ بينهما.
279
قال أبو حيان: والظَّنُّ بأبي عمرو أنه لم يُدْغِمْ حتى حذفَ أحد الحرفين لاجتماع الأمثال ثم أدغم.
قال شهاب الدين: كلام ابن مجاهد إنما هو فيما قالوه أنه أدغم أما إِذا حَذَف وأدغم فلا إِشكال.
و (سَقَرُ) علم لجهنّم أعَاذَنَا الله منها، مشتقة من سَقَرَتْهُ الشَّمْسُ والنارُ أي لَوَّحَتْهُ. ويقال: صَقَرَ بالصاد، وهي مبدلة من السين لأجلِ القاف. قال ذو الرمة:
٤٦١٢ - إِذَا ذَابَت الشَّمْسُ اتَّقَى صَقراتِهَا بِأَفْنَانِ مَرْبُوع الصَّرِيمَةِ مُعْبِل
و «سَقَرُ» متحتِّم المنع من الصرف؛ لأن حركة الوسط تنزلت منزلة الحرف الرابع، كعَقْرَبَ وزَيْنَبَ.
قال القرطبي: و «سقر» اسم من أسماء جهنم مؤنث لا ينصرف، لأنه اسم مؤنث معرفة وكذلك «لظى وجهنم». وقال عطاء: «سقر» الطابق السادس من النار. وقال قطرب: ويَوْمٌ مُسْمَقِرٌّ ومُصْمَقِرٌّ: شديد الحر.
ومسها ما يوجد من الألم عند الوقوع فيها.

فصل


العامل في (يَوْمَ يُسْحَبُونَ) يحتمل أن يكون منصوباً بعامل مفهوم غير مذكور. وهذا العالم يحتمل أن يكون سابقاً وهو قوله: ﴿إِنَّ المجرمين فِي ضَلاَلٍ﴾. والعامل في الحقيقة على هذا الوجه أيضاً مفهوم من (فِي) كأنه فيه بمعنى كائن غير أن ذلك صار نَسْياً مَنْسيًّا. ويحتمل أن يكون متأخراً وهو قوله: «ذُوقُوا» تقديره: «ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ يَوْمَ يُسْحَبُ المُجْرمُونَ». والخطاب حينئذ مع من خوطب بقوله: ﴿أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُم﴾ [القمر: ٤٣]. ويحتمل أن يكون منصوباً بالقول المقدر أي يُقَالُ لهم يَوْمَ يُسْحَبُونَ ذُوقوا. وهو المشهور.
280
والذوق استعارة للمبالغة لقوة الإدراك في الذَّوْقِ؛ فإن الإنسان يشارك غيره في اللَّمْس، ويُخْتَصُّ بإدراك المطعوم فيحصل الألم العظيم، والمعنى ذوقوا أيها المُكَذِّبُونَ بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَسَّ سَقَر يَوْم يُسحب المجرمون المتقدمون في النار.
281
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤٧:قوله :﴿ إِنَّ المجرمين فِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ ﴾ قيل : في ضلال بعد عن الحق. قال الضحاك : وسعر أي نار تسعّر عليهم. وقيل : ضلال ذهب عن طريق الجنة في الآخرة. وسُعُر جمع سَعِير : نار مستعرة. وقال الحسين بن الفضل : إن المجرمين في ضلال في الدنيا ونارٍ في الآخرة. قال قتادة : في عناء وعذاب.
ثم بين عذابهم فقال :﴿ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النار على وُجُوهِهِمْ ﴾ ويقال لهم :﴿ ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ ﴾١.

فصل


أكثر المفسرين على أن هذه الآية في القَدَرِيَّة. وفي الحديث : أَنَها نزلت في القَدَرِيَّة. وعن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال :«مَجُوسُ هَذِه الأُمَّةِ القَدَرِيَّةُ فَهُمُ المُجرِمُونَ الَّذِينَ سَمَّاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى في قوله :﴿ إِنَّ المجرمين فِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ ﴾ ».
واعلم أن الجَبْريَّ من يقول : القدريُّ من يقول الطاعة والمعصية بفعلِي فهم ينكرون القَدَر. والفريقان متّفقان على أن السُّنِّيَّ القائلَ بأن الأفعال خلق الله وبسببٍ من العبد ليس بقَدَرٍ. قال ابن الخطيب : والحقُّ أن القَدَرِيَّ هو الذي يُنْكِرُ القَدَرَ، ويَنْسِبُ الحوادث لاتصال الكواكب لما رُوِيَ أنَّ قريشاً خَاصَمُوا في القَدَر ومذهبهم أن الله مكَّن العبد مِن الطاعة والمعصية، وهو قادر على خلق ذلك في العبد، وقادر على أن يُطْعِمَ الفَقِيرَ، ولهذا قالوا :﴿ أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاءُ الله أَطْعَمَهُ ﴾ [ يس : ٤٧ ] منكرين لقدرته تعالى على الإِطعام. وأما قوله - عليه الصلاة والسلام - :«القَدَرِيَّةُ مَجُوسُ هَذِهِ الأمة ». فإِن أريد بالأمة المرسل إليهم مطلقاً كالقَوْم، فالقدرية في زمانه هم المشركون المنكرون قدرته على الحوادث، فلا يدخل فيهم المعتزلة. وإن كان المراد بالأمة من آمن به - عليه الصلاة والسلام - فمعناه أن نسبة القدرية إليهم كنسبة المَجُوس إلى الأمة المتقدمة، فإن المجوس أضعفُ الكَفَرَة المتقدمين شبهةً وأشدّهم مخالفةً للعقل، وكذا القدرية في هذه الأمة وكونهم كذلك لا يقتضي الجَزْم بكونهم في النار. فالحق أن القدريَّ هو الذي يُنْكِر قدرةَ الله تَعَالَى٢.

فصل


روى مُسْلِمٌ عن أبي هريرة، قال : جاءَ مشركو قريش يخاصمون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في القدر، فنزلت هذه الآية :﴿ إِنَّ المجرمين فِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ ﴾ إلى قوله :﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ﴾. وروى عبد الله بن عمرو بن العاص قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول :«كَتَبَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الخَلاَئِقِ كُلَّهَا مِنْ قَبْلِ أن يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بخَمْسِينَ أَلْفِ سَنَةٍ قال : وَعَرْشُهُ عَلَى الماء ». وعن طاوس اليماني قال : أدركت ما شاء الله من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقولون : كُلّ شيء بقدر الله. وسمعت من عبد الله بن عمرو يقول : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :«كُلُّ شَيْءٍ بقَدَرٍ حَتَى العَجْزُ والكَيْسُ أو الكَيْسُ والعَجْزُ »٣.
وعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال :«قال رسول الله : لا يؤمن بالله عبدٌ حتى يؤمن بأربع : يشهدُ أن لا إلهَ إلا اللَّه، وأَنِّي رسولُ الله بَعَثَنِي بالحقِّ ويؤمن بالبعث بعد الموت ويؤمن بالقَدَر. وزاد عُبَيْدُ الله : خَيْرِهِ وشَرِّهِ »٤. وهذه الأدلة تبطل مذاهب القدرية.
قوله :«ذُوقُوا » فيه إضمار القول. وقرأ أبو عمرو - في٥ رواية محبوب عنه - مَسَّقَرَ.
وخطَّأَهُ ابنُ مجاهد٦، وهو معذُورٌ ؛ لأن السِّين الأخيرة من «مَسَّ » مدغم فيها فلا تدغم في غيرها لأنه متى أدغم فيها لزم تحريكها ومتى أدغمت هي لزم سكونها فتَنَافَى الجمعُ بينهما.
قال أبو حيان : والظَّنُّ بأبي عمرو أنه لم يُدْغِمْ حتى حذفَ أحد الحرفين لاجتماع الأمثال ثم أدغم٧.
قال شهاب الدين : كلام ابن مجاهد إنما هو فيما قالوه أنه أدغم أما إِذا حَذَف وأدغم فلا إِشكال٨.
و( سَقَرُ ) علم لجهنّم أعَاذَنَا الله منها، مشتقة من سَقَرَتْهُ الشَّمْسُ والنارُ أي لَوَّحَتْهُ. ويقال : صَقَرَ بالصاد، وهي مبدلة من السين لأجلِ القاف. قال ذو الرمة :
إِذَا ذَابَت الشَّمْسُ اتَّقَى صَقراتِهَا بِأَفْنَانِ مَرْبُوع الصَّرِيمَةِ مُعْبِل٩
و«سَقَرُ » متحتِّم المنع من الصرف ؛ لأن حركة الوسط تنزلت منزلة الحرف الرابع، كعَقْرَبَ وزَيْنَبَ.
قال القرطبي : و«سقر » اسم من أسماء جهنم مؤنث لا ينصرف، لأنه اسم مؤنث معرفة وكذلك «لظى وجهنم ». وقال عطاء :«سقر » الطابق السادس من النار. وقال قطرب : ويَوْمٌ مُسْمَقِرٌّ ومُصْمَقِرٌّ : شديد الحر١٠.
ومسها ما يوجد من الألم عند الوقوع فيها.

فصل


العامل في ( يَوْمَ يُسْحَبُونَ ) يحتمل أن يكون منصوباً بعامل مفهوم غير مذكور. وهذا العالم يحتمل أن يكون سابقاً وهو قوله :﴿ إِنَّ المجرمين فِي ضَلاَلٍ ﴾. والعامل في الحقيقة على هذا الوجه أيضاً مفهوم من ( فِي ) كأنه فيه بمعنى كائن غير أن ذلك صار نَسْياً مَنْسيًّا. ويحتمل أن يكون متأخراً وهو قوله :«ذُوقُوا » تقديره :«ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ يَوْمَ يُسْحَبُ المُجْرمُونَ ». والخطاب حينئذ مع من خوطب بقوله :﴿ أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُم ﴾. ويحتمل أن يكون منصوباً بالقول المقدر أي يُقَالُ لهم يَوْمَ يُسْحَبُونَ ذُوقوا. وهو المشهور.
والذوق استعارة للمبالغة لقوة الإدراك في الذَّوْقِ ؛ فإن الإنسان يشارك غيره في اللَّمْس، ويُخْتَصُّ بإدراك المطعوم فيحصل الألم العظيم، والمعنى ذوقوا أيها المُكَذِّبُونَ بمحمد - صلى الله عليه وسلم - مَسَّ سَقَر يَوْم يُسحب المجرمون المتقدمون في النار١١.
١ البغوي ٦/٢٧٨..
٢ وانظر تفسير الإمام ١٥/٧١..
٣ وانظر في هذا تفسير القرطبي ١٧/١٤٧ والرازي السابق والبغوي ٦/٢٧٩ و٢٨٠..
٤ البغوي المرجع السابق..
٥ نسب أبو حيان هذه القراءة لمحبوب..
٦ رجعت إلى السبعة له فلم أجده تكلم عند هذه النقطة فقد نقل عنه أبو حيان ذلك، ولعل له كلاما في كتاب آخر لم يصل إلينا..
٧ البحر المحيط ٨/١٨٣ وفي مختصر ابن خالويه: مستقرّ. وأعتقد أنه لحن من الناسخ والمحقق معا؛ فلم يفطنا إلى مقصود أبي عمرو. وانظر مختصر ابن خالويه ١٤٨..
٨ نقله في الدر المصون له لوحة رقم ١٢٣..
٩ من الطويل له وجاء به ليبين أنه من الإمكان أن نقول في سقر بالسين: (صَقَرَ) بالصاد كما يدل على ذلك "صقراتها" والصقر شدة وقع الشمس وحدّة حرِّها. ومربوع أصابه مطر الربيع. ومُعبِل إذا طلع ورقه. فالوحش يتقي حر الشمس بأفنان الأرطاة التي طلع ورقا وذلك حين ينكس في حمراء القيظ، وإنما يسقط ورقها إذ برد الزمان ولا يكنِس الوحش حينئذ ولا في حر الشمس. وانظر اللسان "عبل" ٢٧٨٩ و"صقر" ٢٤٧١ و"ذوب" ١٥٢٤ و"ربع" ١٥٦٩ وأمالي القالي ١/١٤٤ والمنصف ٣/٩٢..
١٠ الجامع لأحكام القرآن للعلامة القرطبي ١٧/١٤٧ وانظر اللسان "سقر وصقر"..
١١ قال بهذه التأويلات والاحتمالات فخر الدين الرّازي فقد نقل عنه المؤلف معنى من هذا التفسير وانظر التفسير الكبير ١٥/٧٢..

قوله: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ﴾ العامة على نصب «كل» على الاشتغال. وأبو السَّمَّالِ بالرفع وقد رجح الناس - بل بعضُهُمْ أَوْجَبَ - النَّصَب، قال: لأن الرفع يوهم ما لا يجوز على قواعد أهل السنة، وذلك أنه إذا رفع: «كل شيء» كان مبتدأ، و «خلقناه» صفة ل «كُلّ» أو «شَيْء» و «بِقَدَرٍ» خبره.
وحيئنذ يكون له مفهومٌ لا يخفى على مُتَأَمِّلِهِ، فيلزم أن يكون الشيء الذي ليس مخلوقاً لله تعالى لا بقدر كذا قدره بعضهم. وقال أبو البقاء: وإنما كان النصب أولى لدلالته على عموم الخلق، والرفع لا يدل على عمومية بل يفيد أن كل شيء مخلوق فهو بقدر.
وقال مكي بن أبي طالب: كان الاختيار على أصول البصريين رفع «كُلّ» كما أن الاختيار عندهم في قولك: «زَيْدٌ ضَرَبْتُهُ» الرفع والاختيار عند الكوفيين النصب فيه بخلاف قولنا: زَيْد أَكْرَمْتُهُ، لأنه قد تقدم في الآية شيء عمل فيما بعده وهو «إنَّ». والاختيار عندهم النصب فيه. وقد أجمع القراء على النصب في (كُلَّ) على الاختيار فيه عند الكوفيين ليدل ذلك على عموم الأشياء المخلوقات أنها لله تعالى بخلاف ما قاله أهلُ الزَّيْغِ من أن ثَمَّ مخلوقاتٍ لغير الله تعالى. وإنما دل النصب في «كل» على
281
العموم، لأن التقدير: إنّا خَلَقْنَا كُلَّ شَيْء خَلَقْنَاهُ بِقَدَر «فخلقناه» تأكيد وتفسير «لخَلَقْنَا» المضمر الناصب ل «كُلَّ شَيْءٍ» فهذا لفظ عام يَعُمُّ جميع المخلوقات.
ولا يجوز أن يكون «خَلَقْنَاهُ» صفة ل «شَيْءٍ» ؛ لأن الصفة والصلة لا يعملان قبل فيما قبل الموصوف ولا الموصول، ولا يكونان تفسيراً لما يعمل فيما قبلهُما، فإذا لم يبق «خَلَقْنَاهُ» صفة لم يبق إلا أنَّه تأكيدٌ وتفسيرٌ للمضمر الناصب وذلك يدل على العموم.
وأيضاً فإن النصب هو الاختيار؛ (لأن «إنَّا» عندهم تطلب الفعل، فهُو أولى به فالنصب عندهم في «كل» هو الاختيار) فإذا انضاف إليه معنى العموم والخروج عن الشبه كان النصب أولى من الرفع.
وقال ابن عطيه وقومٌ من أهل السنة: بالرفع. قال أبو الفتح: هو الوجهُ في العربية وقراءتنا بالنصب مع الجماعة.
وقال الزمخشري: كل شيء منصوب بفعل مضمر يفسره الظاهر.
وقرىء: كُلُّ شَيْءٍ بالرفع. والقَدَرُ والقَدْرُ: التقديرُ. وقرىء بهما أي خَلَقْنَا كل شيء مقدَّراً محكماً مرتباً على حَسْب ما اقتضته الحكمة أو مقدراً مكتوباً في اللوح المحفوظ معلوماً قبل كونه قد علمنا حاله وزمانه انتهى.
وهو هنا يتعصب للمعتزلة لضعْف وجه الرفع.
وقال قومٌ: إذا كان الفعل يتوهم فيه الوصف، وأن ما بعده يَصْلُحُ للخبر وكان المعنى على أن يكون الفعل هو الخبر اختار النصب في الاسم الأول حتى يتضح أن الفعل ليس بوصف. ومنه هذا الموضع، لأن قراءة الرفع تخيل أن النصب وصف وأن الخبر: «بَقَدَرٍ».
282
وقد تنازع أهل السنة والقدرية في الاستدلال بهذه الآية، فأهل السنة يقولون: كُلّ شيء مخلوق لله تعالى، ودليلهم قراءة النصب؛ لأنه لا يفسر في هذا التركيب إلا ما يَصِحُّ أن يكون خبراً لو رفع الأول على الابتداء.
وقال القَدَريَّة: القراءة برفع «كل» و «خَلَقْنَاهُ» في موضع الصفة ل «كُلّ» أي أمْرُنَا أو شَأْنُنَا كُلُّ شيء خَلَقْنَاه فهو بقدر أو بمقدار. وعلى حد ما في هيئَتِهِ وزمنِهِ (وَغيْرِ ذَلِكَ).
وقال بعض العلماء في القدر هنا وجوه:
أحدها: أنه المقدار في ذاته وفي صفاته.
الثاني: (أنه) التقدير لقوله: ﴿فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ القادرون﴾ [المرسلات: ٢٣] وقال الشاعر:
٤٦١٤ -............................... وَقَدْ قَدَرَ الرَّحْمَنُ مَا هُوَ قَادِرُ
أي ما هو مقدِّر.
الثالث: القدر الذي يقال مع القضاء، كقولك: كَان بِقَضَاءِ اللَّهِ وقَدَرِهِ، فقوله: (بقَدَرٍ) على قراءة الناصب متعلق بالفعل الناصب، وفي قراءة الرفع في محلّ رفع، لأنه خبرٌ ل «كُلّ» و «كُلّ» وخبرها في محل رفع خبر «لإِنَّ». وسيأتي قريباً أنه عكس هذه؛ أعني في اختيار الرفع وهي قوله تعالى: ﴿وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزبر﴾ [القمر: ٥٢]، فإنه يختلف في رفعه، قالوا: لأن نَصْبَه يؤدي إلى فساد المعنى لأن الواقع خلافه، وذلك أنك لو نصبته لكان التقدير: فَعلُوا كُلَّ شَيْءٍ فِي الزُّبُرِ. وهو خلافُ الواقع، إذ في الزبر أشياء كثيرة جداً لم يَفْعَلُوها. وأما قراءة الرفع فتؤدي إلى أن كل شيء فعلوه هو ثابتٌ في الزُّبُرِ. وهو المقصود فلذلك اتفق على رَفْعِهِ.
وهذان الموضعان من نُكَت المسائل الغَريبة التي اتُّفِقَ مجيئُها في سورة واحدةٍ ومَكَانَيْن مُتَقَارِبَيْن، ومما يدل على جلالة علم الإعراب وإفهامِهِ المعانيَ الغَامِضَة.
283

فصل


قال أهل السنة: إن الله تعالى قدر الأشياء أَيْ أي علم مقاديرها وأحوالها وأزمانها قبل إيجادها ثم أوجد منها ما سبق في علمه فلا محدث في العالم العلويّ والسفليّ إلا وهو صادرٌ عن علمِهِ تعالى وقدرتِهِ وإرادته دون خلقه، وأن الخلق ليس لهم فيها إلا نوعُ اكتساب ومحاولةٍ ونسبةٍ وإضافةٍ، وأن ذلك كله إنما جُعِلَ لهم بتيسير الله وبقدرة الله وإلهامه سبحانه وتعالى لا إله إلا هو ولا خالقَ غيره كما نص عليه القرآن والسنة. لا كما قال القَدَريَّة وغيرهمُ من أن الأعمال إلينا، والآجال بيد غَيرِنا.
قال أبو ذرٍّ: «قَدِمَ وَفْد نَجْرَانَ على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقالوا: الأعمال إلينا والآجال بيد غيرِنا، فنزلت هذه الآيات إلى قوله: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ فقالوا يا محمد: يكتب علينا الذنب ويعذبنا؟ فقال: أنتم خصماء الله يَوْمَ القيامة».

فصل


روى أبو الزُّبَيْر عن جابرِ بنِ عبد الله قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «إِنَّ مَجُوسَ هَذِهِ الأُمَّةِ المُكَذِّبُونَ لِقَدَر اللَّهِ، إنْ مَرِضُوا فَلاَ تَعُودُوهُم وإنْ مَاتُوا فَلاَ تَشْهَدُوهُم وإنْ لَقِيتُمُوهم فَلاَ تُسَلِّمُوا عَلَيْهِمْ» أخرجه ابن ماجه في سننه. وخرج أيضاً عن ابن عباس وجابر قالا: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «صِنْفَانِ مِنْ أُمَّتِي لَيْسَ لهم في الإِسْلاَم نَصِيبٌ أَهْلُ الإرْجَاء والقَدَر».
قوله: ﴿وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ﴾ أي إلا كلمة واحدة وهو قوله «كُنْ». «كَلَمْحِ بِالبَصَرِ» أي قضائي في خلقي أسرع من لمح البصر. واللمح: النظر بالعَجَلة يقال: لَمَحَ البَرْق ببَصَره؛ وفي الصحاح: لَمَحَهُ وأَلْمَحَهُ إِذا أبصره بنظرٍ خفيف، والاسم اللَّمْحَة، ولَمَحَ البَرْقُ والنَّجْمُ لَمحاً، أي لَمَعَ.
قال البغوي: قوله «وَاحِدَةٌ» يرجع إلى المعنى دون اللفظ أي وما أمرنا إلا واحدة.
وقيل: معناه وأما أمرنا للشيء إذا أردنا تكوينه إلا كلمة واحدة كما تقدم، وهي رواية عَطَاءٍ عن ابْن عبَّاس، وروى الكلبي عنه: وما أمرنَا بمجيء الساعة في السرعة إلاَّ كَطَرْف البَصَر.

فصل


قال ابن الخطيب: إنَّ الله تعالى إذا أراد شيئاً قال له: كُنْ فهناك شيئان الإرادة والقَوْل، فالإرادة قَدَر، والقول قضاء، وقوله: «وَاحِدَةٌ» يحتمل أمرين:
284
أحدهما: بيان أنه لا حاجة إلى تكرير القول إشارة إلى نَفَاذِ القَوْل.
ثانيهما: بيان عدم اختلاف الحال فأمره عند خلق العرش العظيم كأمره عند خلق النَّمْلَة الصغيرة فأمره عند الكل واحد. وقوله: «كَلَمْحٍ بالبَصَرِ» تشبيه للكون لا تشبيه الأَمْر، فكأنه قال: أمرنا واحدة، فإذا المأمور كائنٌ كلمح بالبصر، لأنه لو كان راجعاً إلى الأمر لا يكون ذلك صفة مدح يليق به، فإن كلمة «كُنْ» شيء أيضاً يوجد كلمح بالبصر. ومعنى «كَلَمْحٍ بالبصَرِ» أي كنَظَر العَيْن. والباء للاستعانة مثل: كَتَبْتُ بالقَلَم، دخلت على الآلة ومثل بها؛ لأنها أسرع حركة في الإنسان؛ لأن العين وجد فيها قرب المحرَّك منها، ولا يفضل عليه بخلاف العِظام، واستدارة شكلها، فإن دَحْرَجَةَ الكُرَة أسرع من دحرجة المُثَلَّثِ والمربَّعِ، ولأنها في رُطُوبةٍ مخلوقة في العضو الذي هو موضعها، وهو الحكمة في كثرة المرئيَّات بخلاف المأكولات والمسموعات والمفاصل التي تُفْصَل بالأرجل والمذُوقات فلَوْلاَ سرعة حركة الآلة التي بها إدراك المبْصرات لما وصل إلى الكل إلا بعد طول بَيَان.
وقيل: معنى: «كلمح بالبصر» البرق يمر به سريعاً، فالباء تكون للإلصاق، نحو: مَرَرْتُ بِهِ، وفي قوله: «كَلَمْحِ بِالبَصَرِ» ولم يقل: كلمح البرق فائدةٌ، وهي أن لَمْحَ البرق له مبدأٌ ونهاية فالذي يمر بالبصر منه يكون أدل من جملته مبالغة في القلة، ونهاية السرعة.
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَآ أَشْيَاعَكُمْ﴾ أي أشباهكم ونظراءكم في الكفر من الأمم السابقة.
وقيل: أتباعكم وأعوانكم.
﴿فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ﴾، أي يتذكر ويعلم أن ذلك حق فيخاف ويعتبر.
(قوله) ﴿وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزبر﴾ أي جميع مَا فَعَلَتْهُ الأمم قبلهم من خير وشر فإنه مكتوب عليهم أي في كتب الحفظة. وقيل: في اللوح المحفوظ.
وقيل: في أم الكتاب. قال القرطبي: وهذا بيان لقوله: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ أي «في الزُّبُرِ» أي في اللوح المحفوظ.
قوله: ﴿وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ﴾ أي كل صغير وكبير مكتوب على عامله قبل أن يفعلوه.
وقرأ العامة مُسْتَطَرٌ بتخفيف الراء من السَّطْر وهو الكَتْب أي مُكْتَتَبٌ يقال: سَطَرْتُ واسْتَطَرْتُ وكَتَبْتُ وَاكْتَتَبْتُ وقرأ الأعمش وعِمْرَانُ بنُ حُدَيْر - وتروى عن عاصمٍ - بتشديدها، وفيه وجهان:
285
أحدهما: أنه مشتق من طَرّ الشاربُ والنباتُ أي ظَهَرَ وثَبَتَ بمعنى أن كل شيء قَلّ أو كَثُر ظاهرٌ في اللّوح غير خفي، فوزنه مُسْتَفْعَلٌ كمُسْتَخْرجٍ.
والثاني: أنه من الاسْتِطَار كقراءة العامة، وإنما شددت الراء من أجل الوقوف كقولهم: هذا جَعْفَرّ ونفعلّ، ثم أجري الوصل مجرى الوقف فوزنه مُفْتَعَلٌ كقراءة الجمهور.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ﴾ العامة بالإفراد، وهو اسم جنس بدليل مقارنته للجمع والهاء مفتوحة كما هو الفصيح.
وسكّنها مجاهدٌ والأعرج وأبو السَّمَّال «والفَيَّاض». وهي لغة تقدم الكلام عليها أول البقرة.
قال ابن جُرَيْجٍ: معنى (نهر) أنهار الماء والخَمْر والعَسَل. ووُحِّدَ؛ لأنه رأس آية. ثم الواحد قد ينبىء عن الجمع. وقال الضحاك ليس المراد هنا نهر الماء، وإنما المراد سَعَةُ الأرزاق؛ لأن المادة تدل على ذلك كقول قَيْس بن الخَطِيمِ:
٤٦١٥ - مَلَكْتُ بِهَا كَفِّي فَأَنْهَرْتُ فَتْقَهَا يَرَى قَائِمٌ مِنْ دُونها مَا وَرَاءَهَا
أي وسعته. ومنه: أَنْهَرْتُ الجُرْحَ. ومنه: النَّهَار، لضيائه.
وقرأ أبو نهيك وأبو مجْلَز والأعمش وزهير الفُرْقُبيّ - ونقله القرطبي أيضاً عن طَلْحَة بن مُصَرِّف والأعرج وقتادة -: «ونُهُر» بضم النون والهاء وهي تحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون نهر بالتحريك وهو الأولى نحو: أُسُد في أَسَدٍ.
286
والثاني: أن يكون جمع الساكن نحو: سُقُف في سَقْفٍ، ورُهُن في رَهْن. والجمع مناسب للجمع قبله في جَنَّات. وقراءة العامة بإفراده أبلغ، وقد تقدم كلام ابن عباس في قوله تعالى آخر البقرة ﴿وَمَلائكته وكتابه﴾ [البقرة: ٢٨٥] بالإِفراد أنه أكثر من الكُتُب، وتقدم أيضاً تقرير الزمخشري لذلك. قال القرطبي (رحمةُ الله عليه) كأَنه جمع نهار لا ليل لهم كسَحَاب وسُحُب. قال الفراء: أنشدني بعض العرب:
٤٦١٦ - إِنْ تَك لَيْلِيًّا فَإِنِّي نَهِرُ مَتَى أَرَى الصُّبْحَ فَلاَ أَنْتَظِرُ
أي صاحب النهار. وقال آخر:
٤٦١٧ - لَوْلاَ الثَّرِيدُ إِنْ هَلَكْنَا بِالضُّمُرْ ثَرِيدُ لَيْلٍ وَثَرِيدٌ بِالنُّهُرْ

فصل


لما وصف الكفار وصف المؤمنين أيضاً، فقال: ﴿إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ﴾ الجنات: اسم للأشجار أي هم خلالها وكذلك الأنهر، والمعنى: جنات وعند عيون كقوله:
٤٦١٨ - عَلَفْتُهَا تِبْناً وَمَاءً بَارِداً...........................
وجمعت الجنات إشارة إلى سَعَتِها وتنوعها، وأفرد النَّهَر؛ لأن المعنى في خلاله، فاستغني عن جمعه، وجمع في قوله: ﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ﴾ لئلا يتوهم أنه ليس في الجنة إلاّ نهر فيه. والتنكير فيه للتعظيم.
287
قوله: «فِي مَقْعَدِ» يجوز أن يكون خبراً ثانياً وهو الظاهر، وأن يكون حالاً من الضمير في الجار لوقوعه خبراً، وجوّز أبو البقاء: أن يكون بدلاً من قوله: «فِي جَنَّاتٍ». وحيئنذ يجوز أن يكون بدلَ بعض، لأن المقعد بعضها، وأن يكون اشتمالاً، لأنها مشتملة، والأول أظهر. والعامة على إفراد مَقْعَدٍ مراداً به الجنس كما تقدم في: «نَهَر». وقرأ عُثْمَانُ البَتِّيُّ: مَقَاعِدَ. وهو مناسب للجمع قبله.
و «مَقْعَدُ صِدْقٍ» من باب رَجُلُ صِدْقٍ في أنه يجوز أن يكون من إضافة الموصوف لصفته والصدق يجوز أن يراد به ضد الكذب أي صدقوا في الإخبار عنه. وأن يراد به الجَوْدَة والخَيْرِيَّة. وَمَلِيكٍ مثال مُبالغة، وهو مناسب هنا ولا يتوهم أن أصله «ملك» ؛ لأنه هو الوارد في غير موضع وأن الكسرة أُشْبِعَتْ فتولد منها ياء؛ لأن الإشباع لم يرد إلا ضرورةً أو قليلاً وإن كان قد وقع في قراءة هشام: ﴿أفئدة﴾ [إبراهيم: ٤٣] في آخر إبراهيم. فَلْيُلْتَفَتْ إليه.

فصل


قال: في مقعد صدق ولم يقل: في مجلس صدق؛ لأن القعود جلوس فيه مكثٌ ومنه: «قَوَاعِدَ البَيْتِ» [و] ﴿والقواعد مِنَ النسآء﴾ [النور: ٦٠]، ولا يقال جوالس فأشار إلى دَوَامِه وثَبَاتِهِ، ولأن حروف «ق ع د» كيف دارتْ تدل على ذلك والاستعمال في القعود يدل على ذلك ومنه: ﴿لاَّ يَسْتَوِي القاعدون مِنَ المؤمنين﴾ [النساء: ٩٥]، وقوله ﴿مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ﴾ [آل عمران: ١٢١] إشارة إلى الثبات وكذا قوله: ﴿عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال قَعِيدٌ﴾ [ق: ١٧]، فذكر المقعد لدوامه أو لطوله وقال في المجلس: ﴿تَفَسَّحُواْ فِي المجالس﴾ [المجادلة: ١١] إشارة إلى الحركة، وقال ﴿انشزوا﴾ [المجادلة: ١١] إشارة إلى ترك الجلوس أي هو مجلس فلا يجب ملازمته بخلاف المقعد.

فصل


قال المفسِّرون: في مقعد صدق أي حق لا لغو فيه ولا تأثيم ﴿عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ﴾ أي مالك قادر لا يعجزه شيء و «عِندَ» ههنا عندية القُرْبَة والزُّلْفَةِ والمكانة والرتبة والكرامة والمنزلة. قال (جَعفرُ) الصادق: مَدَحَ الله المكانَ بالصِّدق فلا يقع فيه إلا أهل الصدق.
288
وروى الثعلبي في تفسيره عن أبيّ بن كعب (رَضِيَ اللَّهُ عَنْه) قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ اقْتَرَبَت السَّاعَةُ فِي كُلّ غِبٍّ بُعِثَ يَوْمَ القِيَامَةِ وَوَجْهُهُ عَلَى صُورَةِ القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ. وَمَنْ قَرَأَهَا كُلَّ لَيْلَةٍ كَانَ أَفْضَلَ وَجَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ وَوَجْهُهُ مُسفرٌ عَلَى وُجُوهِ الخَلاَئِقِ».
(اللَّهُمّ ارحمْنا، وارزقْنَا واسْتُرْنَا). (واللَّهُ أَعْلَمُ).
289
سورة الرحمن
مكية كلها في قول الحسن، وعروة بن الزبير، وعكرمة، وعطاء، وجابر.
وقال ابن عباس: إلا آية منها، وهي قوله تعالى: ﴿يسئله من في السماوات والأرض﴾ [الرحمن: ٢٩] الآية.
وقال ابن مسعود ومقاتل: هي مدنية كلها.
والأول أصح، لما روى عروة بن الزبير، قال: أول من جهر بالقرآن ب " مكة " بعد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابن مسعود، وذلك أن الصحابة - رضي الله عنهم - قالت: ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر به قط، فمن رجل يسمعموه، فقال ابن مسعود: أنا، فقالوا: نخشى عليك، وإنما نريد رجلا له عشيرة يمنعونه، فأبى ثم قام عند المقام، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم. " الرحمن، علم القرآن " ثم تمادى بها رافعا صوته، وقريش في أنديتها، فتأملوا، وقالوا: ما يقول ابن أم عبد؟ قالوا: هو يقول: الذي يزعم محمد أنه أنزل عليه، ثم ضربوه حتى أثروا في وجهه.
وصح أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قام يصلي الصبح ب " نخلة "، فقرأ سورة " الرحمن "، ومن النفير من الجن فآمنوا به.
290
قوله :﴿ وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ ﴾ أي إلا كلمة واحدة وهو قوله «كُنْ ». «كَلَمْحِ بِالبَصَرِ » أي قضائي في خلقي أسرع من لمح البصر. واللمح : النظر بالعَجَلة يقال : لَمَحَ البَرْق ببَصَره ؛ وفي الصحاح : لَمَحَهُ وأَلْمَحَهُ إِذا أبصره بنظرٍ خفيف، والاسم اللَّمْحَة، ولَمَحَ البَرْقُ والنَّجْمُ لَمحاً، أي لَمَعَ١.
قال البغوي : قوله «وَاحِدَةٌ » يرجع إلى المعنى دون اللفظ أي وما أمرنا إلا واحدة.
وقيل : معناه وأما أمرنا للشيء إذا أردنا تكوينه إلا كلمة واحدة٢ كما تقدم، وهي رواية عَطَاءٍ عن ابْن عبَّاس، وروى الكلبي عنه : وما أمرنَا بمجيء الساعة في السرعة إلاَّ كَطَرْف البَصَر٣.

فصل


قال ابن الخطيب : إنَّ الله تعالى إذا أراد شيئاً قال له : كُنْ فهناك شيئان الإرادة والقَوْل، فالإرادة قَدَر، والقول قضاء، وقوله :«وَاحِدَةٌ » يحتمل أمرين :
أحدهما : بيان أنه لا حاجة إلى تكرير القول إشارة إلى نَفَاذِ القَوْل٤.
ثانيهما : بيان عدم اختلاف الحال فأمره عند خلق العرش العظيم كأمره عند خلق النَّمْلَة الصغيرة فأمره عند الكل واحد. وقوله :«كَلَمْحٍ بالبَصَرِ » تشبيه للكون لا تشبيه الأَمْر، فكأنه قال : أمرنا واحدة، فإذا المأمور كائنٌ كلمح بالبصر، لأنه لو كان راجعاً إلى الأمر لا يكون ذلك صفة مدح يليق به، فإن كلمة «كُنْ » شيء أيضاً يوجد كلمح بالبصر٥. ومعنى «كَلَمْحٍ بالبصَرِ » أي كنَظَر العَيْن. والباء للاستعانة مثل : كَتَبْتُ بالقَلَم، دخلت على الآلة ومثل بها ؛ لأنها أسرع حركة في الإنسان ؛ لأن العين وجد فيها قرب المحرَّك منها، ولا يفضل عليه بخلاف العِظام، واستدارة شكلها، فإن دَحْرَجَةَ الكُرَة أسرع من دحرجة المُثَلَّثِ والمربَّعِ، ولأنها في رُطُوبةٍ مخلوقة في العضو الذي هو موضعها، وهو الحكمة في كثرة المرئيَّات بخلاف المأكولات والمسموعات والمفاصل التي تُفْصَل بالأرجل والمذُوقات فلَوْلاَ سرعة حركة الآلة التي بها إدراك المبْصرات لما وصل إلى الكل إلا بعد طول بَيَان.
وقيل : معنى :«كلمح بالبصر » البرق يمر به سريعاً، فالباء تكون للإلصاق، نحو : مَرَرْتُ بِهِ، وفي قوله :«كَلَمْحِ بِالبَصَرِ » ولم يقل : كلمح البرق فائدةٌ، وهي أن لَمْحَ البرق له مبدأٌ ونهاية فالذي يمر بالبصر منه يكون أدل من جملته مبالغة في القلة، ونهاية السرعة٦.
١ وانظر في هذا كله القرطبي ١٧/١٤٨ واللغة فيه وفي الصحاح لمح..
٢ وهي: "كن فيكون"..
٣ وانظر البغوي ٦/٢٨٠..
٤ في الرازي: نافذ الأمر..
٥ الرازي ١٥/٧٥..
٦ بالمعنى من المرجع السابق أيضا ١٥/٧٨..
قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَآ أَشْيَاعَكُمْ ﴾ أي أشباهكم ونظراءكم في الكفر من الأمم السابقة.
وقيل : أتباعكم وأعوانكم.
﴿ فَهَلْ مِن مُدَّكِرٍ ﴾، أي يتذكر ويعلم أن ذلك حق فيخاف ويعتبر.
( قوله ) ﴿ وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبر ﴾ أي جميع مَا فَعَلَتْهُ الأمم قبلهم من خير وشر فإنه مكتوب عليهم أي في كتب الحفظة. وقيل : في اللوح المحفوظ١.
وقيل : في أم الكتاب. قال القرطبي : وهذا بيان لقوله :﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ﴾ أي «في الزُّبُرِ » أي في اللوح المحفوظ٢.
١ الجامع لأحكام القرآن ١٧/١٤٩..
٢ في الرازي: نافذ الأمر..
قوله :﴿ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ ﴾ أي كل صغير وكبير مكتوب على عامله قبل أن يفعلوه.
وقرأ العامة مُسْتَطَرٌ بتخفيف الراء من السَّطْر وهو الكَتْب أي مُكْتَتَبٌ يقال : سَطَرْتُ واسْتَطَرْتُ وكَتَبْتُ وَاكْتَتَبْتُ وقرأ الأعمش وعِمْرَانُ بنُ حُدَيْر - وتروى عن عاصمٍ - بتشديدها١، وفيه وجهان :
أحدهما : أنه مشتق من طَرّ الشاربُ والنباتُ أي ظَهَرَ وثَبَتَ بمعنى أن كل شيء قَلّ أو كَثُر ظاهرٌ في اللّوح غير خفي، فوزنه مُسْتَفْعَلٌ كمُسْتَخْرجٍ.
والثاني : أنه من الاسْتِطَار كقراءة العامة، وإنما شددت الراء من أجل الوقوف كقولهم : هذا جَعْفَرّ ونفعلّ، ثم أجري الوصل مجرى٢ الوقف فوزنه مُفْتَعَلٌ كقراءة الجمهور.
١ قراءة شاذة ذكرها صاحب البحر المحيط ٨/١٨٥ وصاحب المختصر ١٤٨..
٢ نقل هذين الوجهين صاحب البحر المحيط عن صاحب اللوامح ٨/١٨٥، وعمران بن حُدير: السدوسي البصري، ثقة، روى الحروف عن لاحق بن حميد، وعكرمة روى عنه الحروف عباس بن الفضل. مات في سنة ١٤٩ هـ. وانظر الغاية ١/٦٠٤..
قوله تعالى :﴿ إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ ﴾ العامة بالإفراد، وهو اسم جنس بدليل مقارنته للجمع والهاء مفتوحة كما هو الفصيح.
وسكّنها مجاهدٌ والأعرج وأبو السَّمَّال «والفَيَّاض »١. وهي لغة تقدم الكلام عليها أول البقرة.
قال ابن جُرَيْجٍ : معنى ( نهر ) أنهار الماء والخَمْر والعَسَل. ووُحِّدَ ؛ لأنه رأس آية. ثم الواحد قد ينبىء عن الجمع٢. وقال الضحاك ليس المراد هنا نهر الماء، وإنما المراد سَعَةُ الأرزاق٣ ؛ لأن المادة تدل على ذلك كقول قَيْس بن الخَطِيمِ :
مَلَكْتُ بِهَا كَفِّي فَأَنْهَرْتُ فَتْقَهَا *** يَرَى قَائِمٌ مِنْ دُونها مَا وَرَاءَهَا٤
أي وسعته. ومنه : أَنْهَرْتُ الجُرْحَ. ومنه : النَّهَار، لضيائه.
وقرأ أبو نهيك وأبو مجْلَز والأعمش وزهير الفُرْقُبيّ - ونقله القرطبي أيضاً عن طَلْحَة بن مُصَرِّف والأعرج وقتادة - :«ونُهُر » بضم النون والهاء٥ وهي تحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون نهر بالتحريك وهو الأولى نحو : أُسُد في أَسَدٍ.
والثاني : أن يكون جمع الساكن نحو : سُقُف في سَقْفٍ، ورُهُن في رَهْن. والجمع مناسب للجمع قبله في جَنَّات٦. وقراءة العامة بإفراده أبلغ، وقد تقدم كلام ابن عباس في قوله تعالى آخر البقرة ﴿ وَمَلائكته وكتابه ﴾ [ البقرة : ٢٨٥ ] بالإِفراد أنه أكثر من الكُتُب، وتقدم أيضاً تقرير الزمخشري لذلك٧. قال القرطبي ( رحمةُ الله عليه ) ٨ كأَنه جمع نهار لا ليل لهم كسَحَاب وسُحُب٩. قال الفراء : أنشدني بعض العرب :
إِنْ تَك لَيْلِيًّا فَإِنِّي نَهِرُ *** مَتَى أَرَى الصُّبْحَ فَلاَ أَنْتَظِرُ١٠
أي صاحب النهار. وقال آخر :
لَوْلاَ الثَّرِيدُ إِنْ هَلَكْنَا بِالضُّمُرْ *** ثَرِيدُ لَيْلٍ وَثَرِيدٌ بِالنُّهُرْ١١

فصل


لما وصف الكفار وصف المؤمنين أيضاً، فقال :﴿ إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ ﴾ الجنات : اسم للأشجار أي هم خلالها وكذلك الأنهر، والمعنى : جنات وعند عيون كقوله :
عَلَفْتُهَا تِبْناً وَمَاءً بَارِداً ***. . . . . . . . . . . . . . . . . . ١٢
وجمعت الجنات إشارة إلى سَعَتِها وتنوعها، وأفرد النَّهَر ؛ لأن المعنى في خلاله، فاستغني عن جمعه، وجمع في قوله :﴿ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ﴾ لئلا يتوهم أنه ليس في الجنة إلاّ نهر فيه. والتنكير فيه للتعظيم.
١ هو الفيّاضُ بن غزوان كما ذكره صاحب البحر. وهذه قراءة شاذة. انظر البحر المحيط ٨/١٨٤ وابن خالويه في المختصر ١٤٨. وفياض بن غزوان الضّبي الكوفي مقرئ موثق، أخذ القراءة عرضا عن طلحة بن مصرف. وسمع من زبيد اليمامي، روى الحروف عنه طلحة بن سليمان، وانظر الغاية ٢/١٣..
٢ القرطبي ١٧/١٤٩..
٣ نقله صاحب البحر المرجع السابق..
٤ من الطويل له وهو في الديوان ص ٣ بلفظ: ترى قائما من خلفها. ونسبه صاحب الدر المنثور للبيد.
والشاهد في: انهرت أي وسّعت. ومعنى: ملكت: شددت وقويت. وهو يصف طعنة. وانظر البحر ٨/١٨٤. والقرطبي ١٧/١٤٩ وروح المعاني ٢٧/٩٥ والدر المنثور ٧/٦٨٧، وتأويل المشكل ١٧٤ واللسان "نهر" ٤٥٥٦..

٥ الجامع لأحكام القرآن له ١٧/١٤٩ و١٥٠. وهي شاذة وانظر المختصر ١٤٨..
٦ نقله أبو حيان في البحر ٨/١٨٤..
٧ قال الزمخشري في الكشاف ١/٤٠٧: "وقرأ ابن عباس وكتابه يريد القرآن أو الجنس وعنه الكتاب أكثر من الكتب. فإن قلت: كيف يكون الواحد أكثر من الجمع؟ قلت: لأنه إذا أريد بالواحد الجنس والجنسية قائمة في وحدان الجنس كلها لم يخرج منه شيء فأما الجمع فلا الجمع يدخل تحته إلا ما فيه الجنسية من الجموع"..
٨ زيادة من أ..
٩ الجامع ١٧/١٥٠..
١٠ من الرجز وفي الطبري: "متى أتى" بدل "متى أرى". والبيت مجهول قائله. والشاهد في: نهر أي صاحب النهار فهو في مقالة "ليليًّا". وانظر البيت في القرطبي ١٧/١٥٠ واللسان "نهر" ٤٥٥٧ والطبري ٢٧/٦٨ دار المعرفة ومعاني الفراء ٣/١١١..
١١ كسابقه في البحر والجهل بقائله. وشاهده في كلمة: بالمهر فإنه بمعنى النهار، أو جمع نهار كسحاب وسُحب، وانظر اللسان "نهر" ٤٥٥٧ والقرطبي ١٧/١٥٠. وروى البيت صاحي التهذيب والصحاح كما يلي:
لولا الثريد إن لُمتنا بالضُّمُر ***......................
انظر التهذيب والصحاح "نهر"..

١٢ صدر بيت من الرجز عجزه:
حتى شتت همّالة عيناها ***..................
والشاهد: إضمار الفعل للتناسب أي علفتُها تِبناً وسقيتها ماءاً. وقد تقدم..

قوله :«فِي مَقْعَدِ » يجوز أن يكون خبراً ثانياً وهو الظاهر، وأن يكون حالاً من الضمير في الجار لوقوعه خبراً، وجوّز أبو البقاء١ : أن يكون بدلاً من قوله :«فِي جَنَّاتٍ ». وحيئنذ يجوز أن يكون بدلَ بعض، لأن المقعد بعضها، وأن يكون اشتمالاً، لأنها مشتملة، والأول أظهر. والعامة على إفراد مَقْعَدٍ مراداً به الجنس كما تقدم في :«نَهَر ». وقرأ عُثْمَانُ٢ البَتِّيُّ : مَقَاعِدَ٣. وهو مناسب للجمع قبله.
و«مَقْعَدُ صِدْقٍ » من باب رَجُلُ صِدْقٍ في أنه يجوز أن يكون من إضافة الموصوف لصفته والصدق يجوز أن يراد به ضد الكذب أي صدقوا في الإخبار عنه. وأن يراد به الجَوْدَة والخَيْرِيَّة. وَمَلِيكٍ مثال مُبالغة، وهو مناسب هنا ولا يتوهم أن أصله «ملك » ؛ لأنه هو الوارد في غير موضع وأن الكسرة أُشْبِعَتْ فتولد منها ياء ؛ لأن الإشباع لم يرد إلا ضرورةً أو قليلاً وإن كان قد وقع في قراءة هشام :﴿ أفئدة ﴾ [ إبراهيم : ٤٣ ] في آخر إبراهيم. فَلْيُلْتَفَتْ إليه.

فصل


قال : في مقعد صدق ولم يقل : في مجلس صدق ؛ لأن القعود جلوس فيه مكثٌ ومنه :«قَوَاعِدَ البَيْتِ » [ و ] ﴿ والقواعد مِنَ النساء ﴾ [ النور : ٦٠ ]، ولا يقال جوالس فأشار إلى دَوَامِه وثَبَاتِهِ، ولأن حروف «ق ع د » كيف دارتْ تدل على ذلك والاستعمال في القعود يدل على ذلك ومنه :﴿ لاَّ يَسْتَوِي القاعدون مِنَ المؤمنين ﴾ [ النساء : ٩٥ ]، وقوله ﴿ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ ﴾ [ آل عمران : ١٢١ ] إشارة إلى الثبات وكذا قوله :﴿ عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال قَعِيدٌ ﴾ [ ق : ١٧ ]، فذكر المقعد لدوامه أو لطوله وقال في المجلس :﴿ تَفَسَّحُواْ فِي المجالس ﴾ [ المجادلة : ١١ ] إشارة إلى الحركة، وقال ﴿ انشزوا ﴾ [ المجادلة : ١١ ] إشارة إلى ترك الجلوس أي هو مجلس فلا يجب ملازمته بخلاف المقعد٤.

فصل


قال المفسِّرون : في مقعد صدق أي حق لا لغو فيه ولا تأثيم ﴿ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ ﴾ أي مالك قادر لا يعجزه شيء و«عِندَ » ههنا عندية القُرْبَة والزُّلْفَةِ والمكانة والرتبة والكرامة والمنزلة. قال ( جَعفرُ ) الصادق : مَدَحَ الله المكانَ بالصِّدق فلا يقع فيه إلا أهل الصدق٥.
١ التبيان ١١٩٦..
٢ لم أقف عليه..
٣ وهي شاذة وانظر البحر ٨/١٨٤، والقرطبي ١٧/١٥٠..
٤ بالمعنى من الرازي ١٥/٨٢..
٥ وانظر القرطبي ١٧/١٥٠ والبغوي والخازن ٦/٢٨١..
Icon