ﰡ
(وهي مكية حروفها ألف وأربعمائة وثلاثة وعشرون كلماتها ثلاثمائة واثنتان وأربعون آياتها خمس وخمسون)
[سورة القمر (٥٤) : الآيات ١ الى ٥٥]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (١) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (٢) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (٣) وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (٤)حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (٥) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (٦) خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (٧) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ (٨) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (٩)
فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (١٠) فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (١١) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (١٢) وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (١٣) تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (١٤)
وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٥) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٦) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٧) كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٨) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (١٩)
تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (٢٠) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٢١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٢٢) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (٢٣) فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٢٤)
أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (٢٥) سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (٢٦) إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (٢٧) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (٢٨) فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ (٢٩)
فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٣٠) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (٣١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٣٢) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (٣٣) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (٣٤)
نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (٣٥) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (٣٦) وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (٣٧) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ (٣٨) فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (٣٩)
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٤٠) وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (٤١) كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (٤٢) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (٤٣) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (٤٤)
سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (٤٥) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (٤٦) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٤٧) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (٤٨) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (٤٩)
وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (٥٠) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٥١) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (٥٢) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (٥٣) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (٥٤)
فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (٥٥)
مُسْتَقِرٌّ بالجر: يزيد الداعي إلى الداعي بالياء في الحالين: سهل ويعقوب وابن كثير غير ابن فليح وزمعة وأفق أبو عمرو وأبو جعفر ونافع غير قالون في الوصل فيهما بالياء يَدْعُ الدَّاعِ بغير ياء في الحالين إِلَى الدَّاعِ في الوصل: قالون.
الباقون: بغير ياء في الحالين شيء نكر بسكون الكاف: ابن كثير خاشعا بالألف:
أبو عمرو وسهل ويعقوب وحمزة وعلي وخلف. الآخرون خُشَّعاً كركع. ففتحنا بالتشديد: ابن عامر ويزيد وسهل ويعقوب وفجرنا بالتخفيف: أبو زيد عن المفضل ونذري وما بعده بالياء في الحالين: يعقوب وأفق ورش وسهل وعباس في الوصل.
أو لقي مثل أو «نبئكم» ستعلمون على الخطاب: ابن عامر وحمزة سنهزم بالنون الجمع بالنصب: روح وزيد عن يعقوب.
الوقوف
الْقَمَرُ هـ مُسْتَمِرٌّ هـ مُسْتَقِرٌّ هـ مُزْدَجَرٌ هـ لا بناء على أن قوله حِكْمَةٌ بدل من «ما» أو من مُزْدَجَرٌ النُّذُرُ هـ لا للعطف مع اتصاله المعنى عَنْهُمْ م لأنه لو وصل لأوهم أن الظرف متصل به وليس كذلك بل هو ظرف يَخْرُجُونَ نُكُرٍ هـ لا لاتصال الحال بالظرف من قبل اتحاد عاملهما مُنْتَشِرٌ هـ لا لأن مُهْطِعِينَ حال بعد حال الدَّاعِ ط عَسِرٌ هـ وَازْدُجِرَ هـ فَانْتَصِرْ هـ مُنْهَمِرٍ هـ ز للعطف مع اتحاد مقصود الكلام قُدِرَ هـ ج للعارض من الجملتين المتفقتين وللآية مع احتمال الحال أي وقد حملناه وَدُسُرٍ هـ لا لأن تَجْرِي صفة لها بِأَعْيُنِنا ج لأن جزاء مفعول له أو مصدر لفعل محذوف كُفِرَ هـ مُدَّكِرٍ هـ وَنُذُرِ هـ مُدَّكِرٍ هـ وَنُذُرِ هـ مُسْتَمِرٍّ هـ لا لأن ما بعده صفة الناس لا لأن كَأَنَّهُمْ حال مُنْقَعِرٍ هـ وَنُذُرِ هـ مُدَّكِرٍ هـ بِالنُّذُرِ هـ نَتَّبِعُهُ لا لتعلق «إذا» بها وَسُعُرٍ هـ أَشِرٌ هـ الْأَشِرُ هـ وَاصْطَبِرْ هـ لا للعطف بَيْنَهُمْ ج لأن كل مبتدأ مع أن الجملة من بيان ما تقدم مُحْتَضَرٌ هـ فَعَقَرَ هـ وَنُذُرِ هـ الْمُحْتَظِرِ هـ مُدَّكِرٍ هـ بِالنُّذُرِ هـ لُوطٍ ط
التفسير:
أول هذه السورة مناسب لآخر السورة المتقدمة أَزِفَتِ الْآزِفَةُ [النجم:
٥٧] إلا أنه ذكر هاهنا دليلا على الاقتراب وهو قوله وَانْشَقَّ الْقَمَرُ في الصحيحين عن أنس أن الكفار سألوا رسول الله ﷺ آية فانشق القمر مرتين. وعن ابن عباس: انفاق فلقتين فلقة ذهبت وفلقة بقيت. وقال ابن مسعود: رأيت حراء بين فلقتي القمر. وعن حذيفة أنه خطب بالمدائن ثم قال: ألا إن الساعة قد اقتربت وإن القمر قد انشق على عهد نبيكم ﷺ هذا قول أكثر المفسرين. وعن بعضهم أن المراد سينشق القمر وصيغة الماضي على عادة إخبار الله. ، وذلك أن انشقاق القمر أمر عظيم الوقع في النفوس فكان ينبغي أن يبلغ وقوعه حد التواتر وليس كذلك. وأجيب بأن الناقلين لعلهم اكتفوا بإعجاز القرآن عن تشهير سائر المعجزات بحيث يبلغ التواتر. وأيضا إنه سبحانه جعل انشقاق القمر آية من الآيات لرسوله ولو كانت مجرد علامة القيامة لم يكن معجزة له كما لم يكن خروج دابة الأرض وطلوع الشمس من المغرب وغيرهما معجزات له، نعم كلها مشتركة في نوع آخر من الإعجاز وهو الإخبار عن الغيوب. وزعم بعض أهل التنجيم أن ذلك كان حالة شبه الخسوف ذهب بعض جرم القمر عن البصر وظهر في الجو شيء مثل نصف جرم القمر نحن نقول: إخبار الصادق بأن يتمسك به أولى من قول الفلسفي. هذا مع أن استدلالهم على امتناع الخرق في السماويات لا يتم كما بينا في الحكمة. وكيف يدل انشقاق القمر على اقتراب الساعة نقول: من جهة إن ذلك يدل على جواز انخراق السماويات وخرابها خلاف ما زعمه منكرو الحشر من الفلاسفة وغيرهم. ومن هاهنا ظن بعضهم وإليه ميل الإمام فخر الدين الرازي أن المراد باقتراب الساعة ليس هو القرب الزماني وإنما المراد قربها في العقول وفي الأذهان كأنه لم يبق بعد ظهور هذه الآية للمنكر مجال. واستعمال لفظ الاقتراب هاهنا مع أنه مقطوع به كاستعمال «لعل» في قوله لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً [الأحزاب: ٦٣] والأمر عند الله معلوم. قال: وإنما ذهبنا إلى هذا التأويل لئلا يبقى للكافر مجال الجدال فإنه قد مضى
والجواب أن كل ما هو آت قريب وزمان العالم زمان مديد والباقي بالنسبة إلى الماضي شيء يسير قال أهل اللغة: في «افتعل» مزيد تشجم ومبالغة فمعنى اقترب دنا دنوا قريبا، وكذلك اقتدر أبلغ من قدر. ثم بين أن ظهور آيات الله لا يؤثر فيهم بل يزيد في عنادهم وتمردهم حتى سموها سحرا مستمرا أي دائما مطردا كأنهم قابلوا ترادف الآيات وتتابع المعجزات باستمرار السحر، وكان رسول الله ﷺ يأتي كل أوان بمعجزة قولية أو فعلية سماوية أو أرضية. وقيل: هو من قولهم «حبل مرير الفتل» من المرة وهي الشدة أي سحر قوي محكم. وقيل: من المرارة يقال: استمر الشيء إذا اشتد مراراته أي سحر مستبشع مر في مذاقنا. وقيل: مستمر أي مار ذاهب زائل عما قريب. عللوا أنفسهم بالأماني الفارغة فخيب الله آمالهم بإعلاء الدين وتكامل قوته كل يوم. والظاهر أن قوله وَإِنْ يَرَوْا إلى آخر الآية. جملة معترضة بيانا لما اعتادوه عند رؤية الآيات. وقوله وَكَذَّبُوا عطف على قوله اقْتَرَبَتِ كأنهم قابلوا الاقتراب والانشقاق بالتكذيب واتباع الأهواء.
والمعنى وكذبوا بالأخبار عن اقتراب الساعة وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ في أن محمد ﷺ ساحر أو كاهن أو كذبوا بانشقاق القمر واتبعوا آراءهم الفاسدة في أنه خسوف عرض للقمر وكذلك كل آية وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ صائر إلى غاية وأن أمر محمد ﷺ سيصير إلى حد يعرف منه حقيقته وكذلك أمرهم مستقر على حالة البطلان والخذلان. ومن قرأ بالجر فلعطف كُلُّ على الساعة أي اقتربت الساعة واقترب كل أمر مستقر وبين حاله. ثم أشار بقوله وَلَقَدْ جاءَهُمْ إلى أن كل ما هو لطف بالعباد قد وجد فأخبرهم الرسول باقتراب القيامة وأقام الدليل على صدقه ووعظهم بأحوال القرون الخالية وأهوال الدار الآخرة.
وفي كل ذلك مُزْدَجَرٌ لهم أي ازدجار أو موضع ازدجار ومظنة ادكار وهو افتعال من الزجر قلبت التاء دالا. وقوله حِكْمَةٌ يحتمل أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هذا الترتيب في إرسال الرسول وإيضاح الدليل والإنذار بمن مضى من القرون حكمة بالغة كاملة قد بلغت منتهى البيان فما تغنى نفي أو استفهام إنكار معناه أنك أتيت بما عليك من دعوى النبوة مقرونة بالآية الباهرة وأنذرتهم بأحوال الأقدمين فلم يفدهم فأي غناء تغنى النذر أي الإنذارات بعد هذا فَتَوَلَّ عَنْهُمْ لعلمك أن الإنذار لا يفيد فيهم ولا يظهر الحق لهم إلى يوم البعث والنشور. والداعي إسرافيل أو جبريل ينادي إلى شيء منكر فظيع تنكره النفوس لأنها لم تعهد بمثله وهو هول يوم القيامة. وتخصيص المدعوين بالكافرين من حيث إنهم هم الذين يكرهون ذلك اليوم من ضيق العطن قوله خاشِعاً حال من الخارجين والفعل للأبصار. وليس قراءة من قرأ خُشَّعاً على الجمع من باب «أكلوني
ثم إنه سبحانه أعاد بعض الأنباء وقدم قصة نوح على عاد وفائدة، قوله فَكَذَّبُوا عَبْدَنا بعد قوله كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ هي فائدة التخصيص بعد التعميم أي كذبت الرسل أجمعين فلذلك كذبوا نوحا. ويجوز أن يكون المراد التكرير أي تكذيبا عقيب تكذيب، كلما مضى منهم قرن تبعه قرن آخر مكذب. وقوله عَبْدَنا تشريف وتنبيه على أنه هو الذي حقق المقصود من الخلق وقتئذ ولم يكن على وجه الأرض حينئذ عابد لله سواه فكذبوه وَقالُوا هو مَجْنُونٌ وازدجروه أي استقبلوه بالضرب والشتم وغير ذلك من الزواجر عن تبليغ ما أمر به. وجوز أن يكون من جملة قولهم أي قالوا ازدجرته الجن ومسته وذهبت بلبه فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ غلبني قومي بالإيذاء والتكذيب. وقيل:
غلبتني نفسي بالدعاء عليهم حين أيست من إجابتهم لي فَانْتَصِرْ منهم فانتقم منهم لي أو لدينك روي أن الواحد من قومه كان يلقاه فيخنقه حتى يخر مغشيا عليه فيفيق وهو يقول:
اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون. وأبواب السماء وفتحها حقيقة عند من يجوز لها أبوابا وفيها مياها. وعند أهل البحث والتدقيق هو مجاز عن كثرة انصباب الماء من ذلك الصوب كما يقال في المطر الوابل «جرت ميازيب السماء وفتحت أفواه القرب». والباء للآلة نحو:
فتحت الباب بالمفتاح. ونظيره قول القائل «يفتح الله لك بخير». وفيه لطيفة هي جعل المقصود مقدما في الوجود والتقدير يفيض الله لك خيرا يأتي ويفتح لك الباب. ويجوز أن يراد فتحنا أبواب السماء مقرونة بِماءٍ مُنْهَمِرٍ منصب في كثرة وتتابع أربعين يوما. قال علماء البيان: قوله فَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً أبلغ من أن لو قال «وفجرنا عيون الأرض» أي جعلنا الأرض كلها كأنها عيون منفجرة نظيره وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً [مريم: ٤] وقد مر فَالْتَقَى الْماءُ أي جنسه يعني مياه السماء والأرض يؤيده قراءة من قرأ فالتقى الماءان عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ أي على حال قدرها الله عز وجل كيف شاء، أو على حال جاءت
فسئل عن معناه قال: أنت نعمة حمدت الله عليها. والضمير في تَرَكْناها للسفينة أو للفعلة كما مر في «العنكبوت» فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ [الآية:
١٥] والمدكر المعتبر وأصله «مذتكر» افتعال من الذكر والاستفهام فيه وفي قوله فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ أي إنذاراتي للتوبيخ والتخويف وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ سهلناه للادّكار والاتعاظ بسبب المواعظ الشافية والبيانات الوافية. وقيل: للحفظ والأول أنسب بالمقام. وإن
روي أنه لم يكن شيء من كتب الله محفوظا على ظهر القلب سوى القرآن.
سؤال: ما الحكمة في تكرير ما كرر في هذه السورة من الآي؟ والجواب أن فائدته تجديد التنبيه على الادكار والاتعاظ والتوقيف على تعذيب الأمم السالفة ليعتبروا بحالهم، وطالما قرعت العصا لذوي الحلوم وأصحاب النهي وهكذا حكم التكرير في سورة الرحمن عند عد كل نعمة، وفي سورة المرسلات عند عد كل آية لتكون مصورة للأذهان محفوظة في كل أوان. ونفس هذه القصص كم كررت في القرآن بعبارات مختلفة أوجز وأطنب لأن التكرير يوجب التقرير والتذكير ينبه الغافل على أن كل موضع مختص بمزيد فائدة لمن يعرف من غيره، وإنما كرر قوله فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ مرتين في قصة عاد لأن الاستفهام الأول أورده للبيان كما يقول المعلم لمن لا يعرف كيف المسألة الفلانية ليصير المسئول سائلا فيقول: كيف هي؟ فيقول المعلم: إنها كذا وكذا. والاستفهام الثاني للتوبيخ والتخويف. فأما في قصة ثمود فاقتصر على الأول للاختصار وفي قصة نوح اقتصر على الثاني لذلك. ولعله ذكر الاستفهامين معا في قصة عاد لفرط عتوهم وقولهم مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً [فصلت: ١٥] وقد مر في حم السجدة تفسير الصرصر والأيام النحسات. وإنما وحد هاهنا لأنه أراد مبدأ الأيام ووصفه بالمستمر أغنى عن جمعه أي استمر عليهم ودام حتى أهلكهم. قيل: استمر عليهم جميعا على كبيرهم وصغيرهم حتى لم يبق منهم نسمة.
وقيل: المستمر الشديد المرارة. تَنْزِعُ النَّاسَ تقلعهم عن أماكنهم فتكبهم وتدق رقابهم
محضور لهم وللناقة وفيه إبهام. وقيل: يحضرون الماء في نوبتهم واللبن في شربها فَنادَوْا صاحِبَهُمْ وهو قدار نداء المستغيث وكان أشجع وأهجم على الأمور أو كان رئيسهم.
فَتَعاطى فاجترأ على الأمر العظيم فتناول العقر وأحدثه بها أو تعاطى الناقة أو السيف أو
والحاصب الريح التي ترميهم بالحجارة وقد مرّ في «العنكبوت». ولعل التذكير بتأويل العذاب. والسحر القطعة من الليل وهو السدس الآخر كما مر في «هود» و «الحجر». وصرف لأنه نكرة وإذا أردت سحر يومك لم تصرفه. والظاهر أن الاستثناء من الضمير في عَلَيْهِمْ لأنه أقرب ولأنه المقصود. وجوز أن يكون استثناء من فاعل كذبت وهو بعيد نِعْمَةً مفعول له أي إنعاما.
وقوله كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ أكثر المفسرين على أنه إشارة إلى أنه تعالى يصون من عذاب الدنيا كل من شكر نعمة الله بالطاعة والإيمان. وقيل: إنه وعد بثواب الآخرة أي كما نجيناهم من عذاب الدنيا ننعم عليهم يوم الحساب بالثواب.
وحين أجمل قصتهم فصلها بعض التفصيل قائلا وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ أي لوط بَطْشَتَنا شدة أخذنا بالعذاب فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ فتشاكوا بالإنذارات وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ معناها قريب من المطالبة كما مر في «يوسف». والضمير للقوم باعتبار البعض لأن بعضهم راودوه وكان غيرهم راضين بذلك فكانوا جميعا على مذهب واحد. فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ مسخناها وجعلناها مع الوجه صفحة ملساء لا يرى لها شق. وإنما قال في «يس» وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ [الآية: ٦٦] بزيادة حرف الجر لأنه أراد به إطباق الجفنين على العين وهو أمر كثير الوقوع قريب الإمكان بخلاف ما وقع للمراودين من قوم لوط فإنه أنذر وأبعد والكل بالإضافة إلى قدرة الله تعالى واحد، إلا أنه حين علق الطمس بالمشيئة ذكر ما هو أقرب إلى الوقوع كيلا يكون للمنكر مجال كثير. ونقل عن ابن عباس أن المراد بالطمس المنع عن الإدراك فما جعل على بصرهم شيئا غير أنهم دخلوا ولم يروا هناك شيئا. ولعل في هذا النقل خللا لأنه لا يناسب قوله عقيب ذكر الطمس فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ أي فقلت لهم على ألسنة الملائكة ذوقوا ألم عذابي وتبعة إنذاراتي. ثم حكى العذاب الذي عم الكل بقوله وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ ولقائل أن يسأل: مع الفائدة في قوله بُكْرَةً مع قوله صَبَّحَهُمْ والجواب أن صَبَّحَهُمْ يشمل من أول الصبح إلى آخر الإسفار وأنه تعالى وعدهم أول الصبح كما قال إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ [هود: ٨١] فأراد بقوله بُكْرَةً تحقيق ذلك الوعد. ويمكن أن يقال: قد يذكر الوقت المبهم لبيان أن تعيين الوقت غير مقصود كما تقول: خرجنا في بعض الأوقات ولا فائدة فيه إلا قطع المسافة. فإنه ربما يقول السامع متى
روى الواحدي في تفسيره بإسناده عن أبي هريرة قال: جاء مشركو قريش يخاصمون رسول الله ﷺ في القدر فأنزل الله تعالى هذه الآية إلى قوله خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ
وعن عائشة أن النبي ﷺ قال «مجوس هذه الأمة القدرية»
وهو المجرمون الذين سماهم الله في قوله إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ عن الحق في الدنيا وَسُعُرٍ وهو نيران في الآخرة أو في ضلال وجنون في الدنيا لا يهتدون ولا يعقلون. أو في ضلال وسعر في الآخرة لأنهم لا يجدون إلى مقصودهم وإلى الجنة سبيلا. والنيران ظاهر أنها في الآخرة، وسقر علم لجهنم من سقرته النار وصقرته إذا لوحته، والمشهور بناء على الحديث المذكور أن قوله إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ متعلق بما قبله كأنه قال: إن مس النار جزاء من أنكر هذا المعنى وهو منصوب بفعل مضمر يفسره الظاهر. قال النحويون: النصب في مثل هذا الصور لازم لئلا يلتبس
أحدهما كل شيء فإنه مخلوق بقدر وهو يؤدي مؤدى النصب، والآخر كل شيء مخلوق لنا فإنه بقدر وهذا غير مقصود بل فاسد إذ يفهم منه أن شيئا من الأشياء غير مخلوق لله ليس بقدر والقدر التقدير أي كل شيء خلقناه مرتبا على وفق الحكمة أو مقدرا مكتوبا في اللوح ثابتا في سابق العلم الأزلي.
واعلم أنه قد مر في هذا الكتاب أن الجبري يقول القدرية التي ذمها النبي ﷺ هو المعتزلي الذي ينفي كون الطاعة والمعصية بتقدير الله. والمعتزلة تقول: الجبري الذي يدعي أن الزنا والسرقة وغيرهما من القبائح كلها بتقدير الله تعالى. وكذا حال السني لأنه وإن كان يثبت للعبد كسبا إلا أنه يسند الخير والشر إلى القضاء والقدر وقال بعض العلماء:
إن كل واحد من الفريقين لا يدخل في اسم القدرية إلا إذا كان النافي نافيا لقدرة الله لا أن يقول: هو قادر على أن يجلىء العبد إلى الطاعة ولكن حكمته اقتضت بناء التكليف على الاختيار وإلا كان المثبت منكرا للتكليف وهم أهل الإباحة القائلين بأن الكل إذا كان بتقدير الله فلا فائدة في التكليف. ولعل وجه تشبيههم بالمجوس أنهم في أمة محمد ﷺ كالمجوس فيما بين الكفار المتقدمين فكما أن المجوس نوع من الكفرة أضعف شبهة وأشد مخالفة للعقل فكذلك القدرية في هذه الأمة وبهذا التأويل لا يلزم الجزم بأنهم من أهل النار، وأيضا لعل اسم القدرية لأهل الإثبات أولى منه لأهل النفي كما تقول: دهري لأنه يقول بالدهر والثنوية لإثباتهم إلهين اثنين أو نورا وظلمة. وقال بعضهم: هذا الاسم بأهل النفي أولى لأن الآية نزلت في منكري القدرة وهم المشركون القائلون بأن الحوادث كلها مستندة إلى اتصالات الكواكب وانصرافاتها فلا قدرة لله على شيء من ذلك. قوله وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ أي إلا كلمة واحدة وهي «كن» تأكيد لإثبات القدرة له وقد مر مثله في «النحل». وقوله كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ تأكيد على تأكيد وهذا تمثيل وإلا فتكوينه وإيجاده عين مشيئته وأرادته. ومعنى الخلق والأمر أيضا تقدم مشتبعا في «الأعراف» ثم هددهم مرة أخرى بقوله وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ أي أشباهكم في الكفر من الأمم. ثم ذكر نوعا آخر من التهديد مع بيان كمال القدرة والعلم فقال وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ أي في صحف الحفظة. قال النحويون: هذا مما التزم فيه الرفع لأن النصب يكون نصا في معنى غير مقصود بل فاسد إذ يلزم منه أن يكون كُلُّ شَيْءٍ مفعولا فِي الزُّبُرِ وهذا معنى غير مستقيم كما ترى. وأما الرفع فيحتمل معنيين. أحدهما صحيح مقصود وهو أن يقدر قوله فعلوهن صفة ل شَيْءٍ والظرف خبر أي كل شيء مفعول للناس فإنه في الزبر. والآخر أن