تفسير سورة النازعات

غاية الأماني في تفسير الكلام الرباني
تفسير سورة سورة النازعات من كتاب غاية الأماني في تفسير الكلام الرباني المعروف بـغاية الأماني في تفسير الكلام الرباني .
لمؤلفه أحمد بن إسماعيل الكَوْرَاني . المتوفي سنة 893 هـ

سُورَةُ النَّازِعَاتِ
مكية، وهي خمس أو ست وأربعون آية

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

(وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (١) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (٢) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (٣) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (٤) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (٥) أقسم بالملائكة الموصوفة بصفات تدل على كمال قدرته ونفاذ أمره. فالنازعات: هم ملك الموت وأعوانه الذين ينزعون أرواح الكفار من أعماق أبدانهم. والغرق: اسم الإغراق، كالسلام اسم التسليم، أو مصدر بحذف الزوائد. والناشطات: الذين ينشطون أرواح المؤمنين برفق، من نشط الدلو: أخرجها من البئر. ونشّط الحبل: حلّه برفق. ويسبحون أي: يسرعون فيما أصروا به، فيسبقون بأرواح الكفار إلى النار، وبأرواح المؤمنين إلى الجنة، فيدبرون أمر ثوابها وعقابها، أو النجوم تنزع من المشرق إلى المغرب، وإغراقها: قطع الفلك بتمامه إلى أن تغرب بأن تنشط من برج إلى آخر. من نشط الثور: إذا خرج من بلد إلى آخر. فتسرع في السير، فيسبق بعضها بعضاً، فتدبر ما نيط بها من الفوائد. أو خيول الغزاة تنزع في أعنتها إغراقاً؛ لطول أعناقها؛ لأنها عِراب، فيخرج من دار الإسلام إلى دار الكفر، فيسبح في جريها فيسبق بعضها بعضاً، فتدبر أمر الظفر على المجاز، أو نفوس السالكين تنزع عن الشهوات رأساً، وتنشط إلى عالم الملكوت، فتسبع في بحر المعارف، فيسبق بعضها بعضاً بقدر القابليات، فتدبر سائر النفوس بالإرشاد والتكميل. والمقسم عليه محذوف دلّ عليه ذكر القيامة بعد. أي: لتبعثن.
(يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (٦) نصب بذلك المحذوف. الراجفة: الواقعة، وصفت بما يحدث بحدوثها من رجف الأرض والجبال مبالغة، وهي: النفخة الأولى. وإنما صحّ أن يكون وقتها ظرفاً للبعث مع أنه لا يكون بعد الثانية؛ لاتساع الوقت على أن: (تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (٧) وهي: النفخة الثانية حال منها، فلابد من الامتداد إلى وجودها. وقيل: الراجفة الأَرض والجبال، والرادفة السماء والكواكب.
(قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (٨) شديدة الاضطراب. الوجيف والوجيب أخوان.
(أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (٩) خبر قلوب؛ لأَنها نكرة موصوفة، كقوله: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (٢٢) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)، أو خبر بعد خبر؛ لأنَّ تنكير التنويع قائم مقام الوصف.
(يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (١٠) يريدون الحياة الدنيا بعد الموت، والحالة التي كانوا عليها في الدنيا؛ إنكاراً للمعاد، والحافرة: الطريقة التي حفرها، وأثر فيها بمشيه. والقياس محفورة، فإما على تقدير ذات حفر، أو على الإسناد مجازاً نحو (عيشة راضية). وعن ابن السكيت: حافرة الشيء: أوله. واستشهد بما أنشده ابن الأعرابي:
أحاَفِرَةً عَلَى ضَلَعِ وشيْبٍ مَعاذَ اللَّه من سَفهٍ وعَارِ
(أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (١١) أنى يكون ذلك. والنخرة: البالية، من النخر وهو صوت الريح، والعظم إذا بلي نخر فيه الريح؛ لصيرورته أجوف. وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر: بالمدِّ، والقصر أبلغ. وإذا منصوب بمقدر أي: تُرَدُّ وتُبْعَثُ.
قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (١٢) أي: رجعة ذات خسران، أو خاسر صاحبها إن صحّ ما يقوله محمد. قالوه استهزاء.
(فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (١٣) لا استبعاد ولا استصعاب، بل هي في غاية السهولة على اللَّه. لا توقف لها إلا على صيحة واحدة، وهي النفخة الثانية.
(فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (١٤) أحياء، كقوله: (فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ) والساهرة: الأرض البيضاء المستوية؛ لأنَّ السراب يجري فيها من قولهم: عين ساهرة أي: جارية، أو على المجاز؛ لأنَّ ساكنها لا ينام خوفاً. وعن قتادة: اسم جهنم. ولما كان الكلام من مفتتح السورة إلى هنا مسوقاً للتهديد، مدمجاً فيه تسلية رسوله، عقبّه بقصة موسى وفرعون؛ لعراقتها في هذا الباب.
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (١٥) أي: أليس قد أتاك حديثه المشتمل على نصره وقهر عدوّه؟، ففيه ما يسلّيك. ثمّ فصّله بقوله:
(إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (١٦) الذي قُدّس؛ لأنه مَهبطُ الوحي (طوًى) عطفُ بيان أو بدل. ونَوَّنَهُ الكوفيون وابن عامر بتأويل المكان.
اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (١٧) على إرادة القول: (فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (١٨) أي: هل لك رغبة في أن تتطهّر من رجس الكفر والطغيان. أرشده إلى طريق الدعوة بألطف طريق، وذلك أن يعرض عليه لِيؤامر نفسه ويرى رأيه، كما تقول للضيف: ألا تنزل بنا؟ وهذا فحوى قوله: (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا) وقرأ نافع وابن كثير: تزَّكَّى بتشديد الزاي، على إدغام إحدى التائين في الزاي. وحذفها الآخرون تخفيفاً.
(وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ... (١٩) إلى معرفته. (فَتَخْشَى) لأنَّ الخشية على قدر المعرفة. قال اللَّه تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) وروى الترمذي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - رسول اللَّه - ﷺ - يقول: " من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل ألا إنَّ سلعة اللَّه غالية ".
(فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (٢٠) أي: فذهب إليه فدعاه فأبى، فأراه المعجزة العظمى من معجزاته وهي: قلب العصا ثعباناً، أو كل معجزاته؛ لأنها كالواحدة في الدلالة.
(فَكَذَّبَ... (٢١) موسى (وَعَصَى) ربه (ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (٢٢) أي: أقبل يسعى في دفع موسى بمكائده، من قولهم: أقبل يفعل كذا، وعبّر عنه بالإدبار؛ إشارة إلى أنَّ ذلك الإقبال كان إدباراً وعليه دماراً، أو أدبر هارباً لما انقلبت العصا ثعباناً.
(فَحَشَرَ فَنَادَى (٢٣) أي: حشر السحرة، أو جنوده. فنادى بنفسه، أو من أمره به على أنه إسناد إلى السبب.
(فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (٢٤) أي: أعلى من كل ربٍّ. لما تقدّم في الأعراف أنه كان أمر قومه باتخاذ الأصنام يتقربون بها إليه.
(فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (٢٥) النّكال: كالسلام اسم للتنكيل أي: نكّل اللَّه به في الدنيا بالإغراق، وفي الآخرة بالإحراق. وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: نكال كلمته الأولى، هي قوله: (مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي) والأخرى: (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى).
(إِنَّ فِي ذَلِكَ... (٢٦) أي: فيما حكي عنه وعن ماله (لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى) لمن كان من شأنه الخشية.
أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا... (٢٧) الخطاب لمشركي مكة. (أَمِ السَّمَاءُ) ولا شكَّ أنَّ الثاني أصعب. ثم شرع يبين كيفية إيجادها من غير آلة ومعين؛ ليدل به على أن إنكار البعث إما عناد أو تعامٍ أو تصامٍ. (بَنَاهَا) خلقها على صورة القبة المبنية.
(رَفَعَ سَمْكَهَا... (٢٨) أي: جعل مقدار ذهابها في سمت العلو مديداً رفيعاً مقدار خمسمائة عام. (فَسَوَّاهَا) فعدلها مستوية الأجزاء مزينة بالكواكب على ما اقتضته الحكمة.
(وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا... (٢٩) أظلمه. يقال: غطش الليلَ وأغطشه اللَّه كظلم وأظلمه. ويقال: أغطش الليلُ أيضاً لازماً. (وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا) وأبرز ضوء شمسها. وإنما أضاف الليل والشمس إلى السماء؛ لأنَّ الليل ظلّ السماء في المرأي، وإن كان ظلّ الأرض حقيقة، أو لأنهما يحصلان بغروب الشمس وطلوعها.
(وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (٣٠) بسطها. وقد سبق الكلام في سبق خلق الأرض في أوائل البقرة في قوله: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ) بما لا مزيد عليه.
(أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (٣١) أي: رعيها تفسير للدحوّ بما لابدّ؛ لتأتي السكنى منه من المأكل والمشرب، أو حال بإضمارِ " قد ". ودلّ بالماء والمرعى على كل ما يرتفق به من أمر المعاش.
(وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (٣٢) أثبتها كالأوتاد لتستقر الأرض (مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (٣٣) لسائر الحيوانات، ففيه تغليب.
(فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (٣٤) الداهية العظمى التي تطمِّ على سائر الدواهي. من طمِّ الشيء: علاه. وعليه فالوصف للتأكيد والمراد: النفخة الثانية، أو الساعة التي يساق الفريقان إلى دار الخلود.
(يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (٣٥) بدل من " إذا جاءت ". أي: يتذكر أعماله السيئة إذا رأي الكتاب منشوراً، وأنى له الذكرى و " ما " موصولة، أو مصدرية.
(وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (٣٦) لكل راء لا يخفى على أحد.
(فَأَمَّا مَنْ طَغَى (٣٧) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (٣٨) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (٣٩) إما مع جوابه جواب (إذا جاءت)، أي: (فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى). فالطاغي مأواه الجحيم، أو جواب " إذا " محذوف أي: كان كيت وكيت، والمذكور بعد " أمّا " تفصيل له.
(وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ... (٤٠) أي: بين يديه للحساب. (وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى) لعلمه بأنه بجانب الهدى (فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (٤١) هي مأواه لا غير.
(يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ... (٤٢) تعنُّتاً (أَيَّانَ مُرْسَاهَا) أي: أقامها، من أرسيت الشيء: أثبته، أو متى استقرارها؟ كما أنَّ مرسى السفينة استقرارها وانتهاؤها.
(فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (٤٣) أي: في أي شيء أنت من ذكر الساعة لهم؟ فإنَّ علمها من أمِّهات الغيوب لا ينفد فيه إلا علمه تعالى، أو (فِيمَ) إنكار لسؤالهم، و (أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا) ابتداء كلام. والمعنى: في أي شيء هم من سؤال الساعة، أنت من علاماتها فإنك بعثت في نسيم الساعة، واسمك نبي آخر الزمان فقد دنت الساعة (إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (٤٤) انتهاء علمها.
(إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ... (٤٥) ما أنت إلا منذر. (مَنْ يَخْشَاهَا) من يخاف هولها. ولست مبعوثاً لتعليمهم بوقت الساعة. وعن أبي عمرو: (مُنْذِرٌ) بالتنوين.
(كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا... (٤٦) في الدنيا، أو في القبور. (إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا) عشية يوم أو ضحاه كقوله: (لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ)؛ ولذلك أضاف الضحى، ولو قطع لاحتُمل عشية يوم وضحى آخر، فيتوهم الاستمرار في ذلك الزمان إلى مثله من اليوم الآخر. واحتمل أيضاً أن يراد بالعشية أو الضحى كل اليوم؛ تجوزاً.
* * *
Icon