تفسير سورة القمر

صفوة البيان لمعاني القرآن
تفسير سورة سورة القمر من كتاب صفوة البيان لمعاني القرآن .
لمؤلفه حسنين مخلوف . المتوفي سنة 1410 هـ
مكية، وآياتها خمس وخمسون

بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ اقتربت الساعة ﴾ قربت القيامة جدا. ﴿ وانشق القمر ﴾ وانفلق القمر فلقتين معجزة له صلى الله عليه وسلم وهو بمكة قبل الهجرة بنحو خمس سنين ؛ حين سأله أهل مكة أن يريهم آية تدل على صدقه، فأراهم القمر فلقتين حتى رأوا حراء بينها ؛ فقال صلى الله عليه وسلم اشهدوا ! ! وقد رآه كثير من الناس ؛ والأحاديث الصحيحة في هذه المعجزة كثيرة. وقيل : اقتربت الساعة، فإذا جاءت انشق القمر بعد النفخة الثانية.
﴿ وإن يروا آية... ﴾ أي وإن يروا كل آية يعرضوا عن التأمل فيها والإيمان بها﴿ ويقولون سحر مستمر ﴾ مار ذاهب زائل عما قريب ؛ من قولهم : مر الشيء واستمر، إذا ذهب. أو دائم، أو محكم قوي شديد ؛ من المرة بمعنى القوة ؛ وهي في الأصل من إمرار الحبل، وهو شدة فتله.
﴿ وكل أمر مستقر ﴾ أي وكل أمر لا بد أن يصير إلى غاية يستقر عليها لا محالة، وكذلك أمره صلى الله عليه وسلم سيصير إلى غاية ينتهى عندها أنه حق ؛ كما أن أمر هؤلاء المكذبين سيصير إلى وبال محقق. وهو إقناط لهم مما أملوه من عدم استقرار أمره صلى الله عليه وسلم حيث قالوا " سحر مستمر ".
﴿ ولقد جاءهم من الأنباء ﴾ أي جاءهم في القرآن من أخبار الأمم المهلكة لفرط عنادها﴿ ما فيه مزدجر ﴾ ازدجار وانتهار لهم عما هم عليه من القبائح. وأصله مزتجر ؛ من الزجر بمعنى المنع والانتهار.
يقال : زجره وازدجره فانزجر وازدجر بمعنى ؛ فأبدلت تاء الافتعال دالا.
﴿ حكمة بالغة ﴾ أي ذلك الذي جاءهم حكمة واصلة غاية الإحكام. ﴿ فما تغني النذر ﴾ فما تنفع فيهم الأمور التي أنذروا بها. أو فأي غنى تغنى النذر إذا استمروا على ما هم عليه من الكفر. و " ما " نافية أو للاستفهام الإنكاري. و " النذر " جمع نذير ؛ كجدد وجديد، بمعنى منذر. أي محذر مخوف من وقوع العذاب بهم.
﴿ يوم يدع الداع ﴾ ظرف ل " يخرجون ". والداعي : إسرافيل عليه السلام. وحذفت الواو من " يدع " لفظا لالتقاء الساكنين، ورسما تبعا للفظ. وحذفت الياء من " الداع " تخفيفا. ﴿ إلى شيء نكر ﴾ على أمر فظيع عظيم، تنكره النفوس وتكرهه ؛ لعدم العهد بمثله وهو هول القيامة، أو لشدته وهو الحساب. والنكر – بضم الكاف وسكونها - : المنكر ؛ كالنكراء. والأمر الشديد.
﴿ يخرجون من الأجداث ﴾ أي القبور أذلة أبصارهم من شدة الهول. ﴿ كأنهم جراد منتشر ﴾ في الكثرة والتموج والانتشار في الأقطار حين يتوجهون إلى المحشر.
﴿ مهطعين إلى الداع ﴾ مسرعين مادي أعناقهم إليه ؛ من الإهطاع، وهو الإسراع في المشي مع مد العنق إلى الأمام. يقال : أهطع في عدوه، أسرع. وأهطع : مد عنقه وصوب رأسه ؛ فهو مهطع. ﴿ يوم عسر ﴾ صعب شديد ؛ لما يعاينون من أهواله، ويتوقعون فيه من سوء العاقبة.
﴿ وازدجر ﴾ أي وزجروه ومنعوه عن تبليغ رسالة ربه بأنواع الأذى والتخويف.
﴿ بماء منهمر ﴾ منصب بقوة في كثرة وتتابع. يقال : همره يهمره ويهمره، صبه ؛ فهمر هو
وانهمر.
﴿ فالتقى الماء ﴾ أي اجتمع ماء السماء وماء الأرض. ﴿ على أمر قد قدر ﴾ أي قد قدره الله وقضاه أزلا ؛ وهو هلاكهم بالطوفان. و " على " تعليلية.
﴿ وحملناه على ذات ألواح ودسر ﴾ أي على سفينة ذات ألواح من الخشب ومسامير تشد بها ألواحها. جمع دسار أو دسر، وهو المسمار. وأصل الدسر : الدفع الشديد بقهر فسمى به المسمار ؛ لأنه يدق فيدفع بقوة.
﴿ تجري بأعيننا ﴾ بمرأى منا، أي بكلاءة حفظ منا.
﴿ ولقد تركاها ﴾ أي أبقينا هذه الفعلة التي فعلناها بهم﴿ آية ﴾ عبرة وعظة لمن يعتبر ويتعظ بها. ﴿ فهل من مدكر ﴾ فهل من معتبر يعتبر بها ؟ استفهام بمعنى النفي ؛ أي لا معتبر ولا متعظ بها. وأصله مذتكر من الذكر. أبدلت التاء دالا مهملة وكذا الذال المعجمة وأدغمت فيها ؛ ومنه : " وادكر بعد أمة " ١ أي تذكر بعد نسيان.
١ آية ٤٥ يوسف..
﴿ فكيف كان عذابي ونذر ﴾ أي وإنذاري إياهم ؛ أي كانا على كيفية هائلة لا يحيط بها الوصف.
﴿ ولقد يسرنا القرآن للذكر... ﴾ أي والله لقد سهلنا القرآن لقومك بأن أنزلناه بلغتهم عربيا مبينا، وشحناه بأنواع المواعظ والعبر، وصرّفنا فيه من الوعد والوعيد ؛ فهل من معتبر ومتعظ ! ؟
وقد وردت هذه الجملة القسمية في آخر قصة قوم نوح، وقصة عاد، وقصة ثمود، وقصة قوم لوط ؛ تقريرا لمضمون ما سبق من قوله تعالى : " ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر. حكمة بالغة فما تغني النذر ". وتنبيها على أن كل قصة منها مستقلة بإيجاب الإدّكار، كامية في الاردجار ؛ ومع ذلك لم يحصل منهم اعتبار.
﴿ كذبت عاد فكيف كان عذابي ونذر ﴾ أي إنذاري لهم بالعذاب قبل وقوعه. وكررت في قصص السورة لتفظيع العذاب والإنذار به، ولتجديد الاتعاظ عند سماع كل قصة.
﴿ إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا ﴾ أي باردة. أو شديدة الصوت [ آية ١٦ فصلت ص ٢٧٧ ]
﴿ في يوم نحس ﴾ شؤم وشر. ﴿ مستمر ﴾ أي دائم الشؤم، استمر عليهم بنحوسته، واستمر فيه العذاب إلى الهلاك.
﴿ تنزع الناس ﴾ تقلعهم من أماكنهم. روي أنهم دخلوا الشعاب والحفر، وتمسك بعضهم ببعض ؛ فقلعتهم الريح وصرعتهم موتى. ﴿ كأنهم أعجاز نخل منقعر ﴾ الأعجاز : جمع عجز، وهو مؤخر الشيء. وأعجاز النخل : أصولها. والمراد بها : النخل بتمامه ما عدا الفروع. و " منقعر " صفة ل " نخل " أي منقلع من أصله ؛ يقال : قعر النخلة-كمنع- قلعها من أصلها ؛ فانقعرت. وقعر البئر : وصل إلى قعرها. أي كأنهم حين تقلعهم الريح من الحفر وترميهم صرعى، أعجاز نخل منقلع من مغارسه، ساقط على الأرض. وشبهوا بها لأن الريح كانت تقلع رءوسهم فتبقيهم أجسادا بلا رءوس. وكانوا ذوى أجساد عظام طوال.
﴿ إنا إذا لفي ضلال ﴾ أي إنا إذا اتبعناه لفي خطأ وذهاب عن الحق والصواب. ﴿ وسعر ﴾ جنون. يقال. ناقة مسعورة، إذا كانت تفرط في سيرها كالمجنونة. أو نيران ؛ جمع سعير وهو النار.
﴿ هو كذاب أشر ﴾ أي بطر متكبر، يريد أن يتعظم علينا بادعاء النبوة وأنه يوحى إليه ؟ والبطر : دهش يعترى الإنسان من سوء احتمال النعمة وقلة القيام بحقها، وصرفها إلى غير وجهها.
﴿ ولقد أنذرهم بطشتنا ﴾ خوفهم أخذتنا الشديدة لهم بالعذاب. ﴿ فتماروا بالنذر ﴾ فشكوا في الإنذار ولم يصدقوه.
﴿ فتنة لهم ﴾ ابتلاء وامتحانا لهم ؛ ليظهر للناس هل يؤمنون أم يكفرون. ﴿ فارتقبهم ﴾ فانتظر ما هم صانعون وما يصنع بهم. ﴿ واصطبر ﴾ اصبر على أذاهم حتى يأتي أمر الله.
﴿ ونبئهم أن الماء قسمة بينهم ﴾ أي مقسوم بينهم وبين الناقة : لهم يوم لا تشاركهم فيه، ولها يوم لا يشاركونها فيه ؛ كما قال تعالى : " لها شرب ولكم شرب يوم معلوم " ١. ﴿ كل شرب محتضر ﴾ أي كل نصيب من الماء يحضره من هو له. فالناقة تحضر الماء يوما، وهم يحضرونه يوما آخر.
١ آية ١٥٥ الشعراء..
﴿ فنادوا صاحبهم ﴾ قدار بن سالف، أحيمر ثمود. ﴿ فتعاطى ﴾ فتناول السيف. ﴿ فعقر ﴾ الناقة.
﴿ صيحة واحدة ﴾ من السماء صاح بهم جبريل عليه السلام في طرف منازلهم. ﴿ فكانوا كهشيم المحتظر ﴾ أي ما تهشم وتفتتا من الشجر اليابس عند ما يعمل المحتظر حظيرة لماشيته منه. والهيشم : يابس كل كلأ وكل شجر ؛ من الهشم وهو كسر الشيء اليابس أو الأجوف. والمحتظر : الذي يعمل الحظيرة، وهي الزريبة التي يصنعها العرب وأهل البادية للمواشي والسكنى من يابس الأغصان والأشجار ؛ من الحظر وهو المنع.
﴿ حاصبا ﴾ أي ريحا شديدة ترميهم بالحصباء، وهي الحجارة الصغيرة. ﴿ بسحر ﴾ أي في سحر، وهو الوقت الذي يختلط فيه سواد آخر الليل ببياض أول النهار، وهو قبيل الصبح.
﴿ ولقد راودوه عن ضيفه ﴾ أرادوا منه تمكينهم من أضيافه ليخبثوا بهم. يقال : راودته على كذا مراودة وروادا، أي أردته. وعدي ب " عن " لما فيه من معنى البعد ؛ أي أن يبعد عن الأضياف بألا يمنعهم عنهم. ﴿ فطمسنا أعينهم ﴾ فحجبنا أبصارهم ؛ فدخلوا المنزل فلم يروا شيئا. وكنى عن ذلك بالطمس، وهو المحو وإذهاب الأثر.
﴿ ولقد صبحهم ﴾ أتاهم وقت الصباح﴿ بكرة ﴾ أي في البكرة وهي أول النهار. وهو كالتأكيد لما يفيده " صبحهم ". ﴿ عذاب مستقر ﴾ دائم لا ينفك عنهم ؛ إلى أن يفضي إلى عذاب الآخرة.
﴿ أخذ عزيز مقتدر ﴾ أخذ غالب في انتقامه ؛ من العزة بمعنى الغلبة. قادر على إهلاكهم، لا يعجزه شيء.
﴿ أكفاركم خير من أولئك ﴾ أي أكفاركم يا أهل مكة أقوى وأشد وأقدر ! أو أقل كفرا وعنادا من أولئك الكفار الماضين ؛ ليكون ذلك سببا لأمنكم من حلول مثل عذابهم بكم ؟ ليس الأمر كذلك ! فلم لا تخافون أن يحل بكم مثل ما حل بهم من العذاب ! ؟ والخطاب لهم على ضرب من التجريد ؛ فكأنه جرد منهم كفار وأضيفوا إليهم مبالغة في كفرهم. ﴿ أم لكم براءة في الزبر ﴾ أي بل الكفاركم براءة فيما نزل من الكتب من العذاب على الكفر فلذلك لا تخافون ؟ ! ليس الأمر كذلك !
﴿ أم يقولون ﴾ أي بل أيقول هؤلاء الكفار واثقين بشوكتهم :﴿ نحن جميع ﴾ أي نحن يد واحدة، على من خالفنا﴿ منتصر ﴾ أي ممتنع على من عادانا فلا نغلب. يقال : نصره الله فانتصر، أي منعه فامتنع. أو معان على عدوه ؛ من النصر بمعنى العون. وقد رد الله تعالى عليهم بقوله :﴿ سيهزم الجمع ويولون الدبر ﴾
﴿ سيهزم الجمع ويولون الدبر ﴾ وقد كان ذلك يوم بدر. وهو من أعلام النبوة، فإن الآية مكية، وقد نزلت قبل فرض الجهاد.
﴿ والساعة أدهى وأمر ﴾ أي وعذاب الساعة أعظم داهية وأشد مرارة مما يصيبهم من عذاب الدنيا. " وأدهى " من الداهية، وهي الأمر المنكر الفظيع الذي لا يهتدى للخلاص منه. يقال : دهاه أمر كذا، أي أصابه. و " أمر " من مر الشيء : إذا صار مرا.
﴿ في ضلال وسعر ﴾ [ آية ٢٤ من هذه السورة ].
﴿ ذوقوا مس سقر ﴾ أي يقال لهم : قاسوا ألمها وعذابها. و " سقر " علم على جهنم ؛ من سقرته الشمس وصفرته : إذا لوحته وأذابته. وهو ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث.
﴿ إنا كل شيء خلقناه بقدر ﴾ أي مقدرا محكما، مستوفى فيه ما تقتضيه الحكمة التي عليها مدار التكوين ؛ وهو كقوله تعالى : " وخلق كل شيء فقدره تقديرا " ١. والقدر : اسم لما صدر عن القادر مقدرا. يقال : قدرت الشيء وقدرته – بالتخفيف والتثقيل – بمعنى واحد. أو المعنى : خلقناه مقدرا مكتوبا في اللوح قبل حدوثه ؛ فهو بالمعنى المشهور الذي يقابل القضاء. وقال النووي : القدر تقدير الله الأشياء في القدم، وعلمه تعالى أنها ستقع في أوقات معلومة عنده سبحانه، وعلى صفات مخصوصة ؛ فهي تقع على حسب ما قدرها الله تعالى. اه. وفي شرح المواقف : قضاء الله هو إرادته الأزلية المتعلقة بالأشياء على ما هي عليه فيما لا يزال. وقدره : إيجاده إياها على قدر مخصوص وتقدير معين في ذواتها وأحوالها. وقد ناقشه محشيه المولى حسن جلبي، واختار : أن القضاء هو الفعل مع الإتقان ؛ بحيث يأتي على ما تقتضيه الحكمة. والقدر : تحديد كل محدود بحده الذي يوجد به.
١ آية ٢ الفرقان..
﴿ وما أمرنا إلا واحدة كلمح البصر ﴾ وما أمرنا في خلق الأشياء إلا كلمة واحدة، وهي قول : " كن " ؛ فتوجد كلمح البصر في السرعة. وهو نظير قوله تعالى : " إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون " ١. والمراد : التقريب للعقول في سرعة تعلق القدرة بالمقدور على وفق الإرادة الأزلية. واللمح : النظر بالعجلة. يقال : لمح الشيء، إذا أبصره بنظر خفيف ؛ والاسم اللمحة. أو وما أمرنا في قيام الساعة إلا كلمة واحدة فتقوم كلمح البصر ؛ فهو كقوله تعالى : " وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب " ٢.
١ آية ٨٢ يس..
٢ آية ٧٧ النحل..
﴿ ولقد أهلكنا أشياعكم ﴾ أشباهكم في الكفر من الأمم السابقة ؛ فاحذروا أن يصيبكم مثل ما أصابهم. وأصل الأشياع : الأتباع ؛ أريد به ما ذكر مجازا.
﴿ وكل شيء فعلوه في الزبر ﴾ أي مكتوب ومحفوظ في كتب الحفظة، فلا مفر منه.
﴿ وكل صغير وكبير مستطر ﴾ أي وكل صغير وكبير من الأمور والأعمال، ومنها الذنوب : مسطور عندنا، ومحصي على صاحبه. يقال : سطر يسطر سطرا، كتب. واستطر مثله. وهو كيد لما قبله.
﴿ في جنات ونهر ﴾ أي وأنهار ؛ فالمراد به الجنس، وأفرد في اللفظ لموافقة رءوس الآي.
﴿ في معد صدق ﴾ في مكان مرضي. أو مجلس حق لا لغو فيه ولا تأثيم، وهو الجنة.
﴿ عند مليك مقتدر ﴾ أي مقربين عند ملك عظم الملك، قادر عظيم القدرة ؛ تعالى أمره في الملك والاقتدار ! بحيث أبهم على ذوى الأفهام. والله أعلم.
Icon