تفسير سورة النازعات

تفسير الألوسي
تفسير سورة سورة النازعات من كتاب روح المعاني المعروف بـتفسير الألوسي .
لمؤلفه الألوسي . المتوفي سنة 1342 هـ
سورة النازعات
وتسمى سورة الساهرة والطامة، وهي مكية بالاتفاق، وعدد آياتها ست وأربعون في الكوفي وخمس وأربعون في غيره، وعن ابن عباس، أنها نزلت عقب سورة عم، وأولها يشبه أن يكون قسما لتحقيق ما في آخ عم، أو ما تضمنته كلها. وفي البحر لما ذكر سبحانه في آخر ما قبلها الإنذار بالعذاب يوم القيامة أقسم عز وجل في هذه على البعث ذلك اليوم فقال جل شأنه ﴿ والنازعات غَرْقاً والناشطات نَشْطاً والسابحات سَبْحاً فالسابقات سَبْقاً فالمدبرات أَمْراً ﴾.

سورة النّازعات
وتسمى سورة الساهرة والطامة وهي مكية بالاتفاق وعدد آيها ست وأربعون في الكوفي وخمس وأربعون في غيره. وعن ابن عباس أنها نزلت عقب سورة عم وأولها يشبه أن يكون قسما لتحقيق ما في آخر عم أو ما تضمنته كلها وفي البحر لما ذكر سبحانه في آخر ما قبلها الإنذار بالعذاب يوم القيامة أقسم عز وجل في هذه على البعث ذلك اليوم فقال جل شأنه:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً إقسام من الله تعالى بطوائف من ملائكة الموت عليهم السلام الذين ينزعون الأرواح من الأجساد على الإطلاق كما في رواية عن ابن عباس ومجاهد، أو
أرواح الكفرة على ما أخرجه سعيد بن منصور وابن المنذر عن علي كرم الله تعالى وجهه
وجويبر في تفسيره عن الحبر وابن أبي حاتم عن ابن مسعود وعبد بن حميد عن قتادة. وروي عن سعيد بن جبير ومسروق وينشطونها أي يخرجونها من الأجساد من نشط الدلو من البئر إذا أخرجها ويسبحون في إخراجها سبح الذي يخرج من البحر ما يخرج فيسبقون ويسرعون بأرواح الكفرة إلى النار وبأرواح المؤمنين إلى الجنة فيدبرون أمر عقابها وثوابها بأن يهيئوها لإدراك ما أعد لها من الآلام واللذات. ومال بعضهم إلى تخصيص النزع بأرواح الكفار والنشط والسبح بأرواح المؤمنين لأن النزع جذب
223
بشدة وقد أردف بقوله تعالى غَرْقاً وهو مصدر مؤكد بحذف الزوائد أي إغراقا في النزع من أقاصي الأجساد. وقيل: هو نوع، والنزع جنس أي في هذا المحل وذلك أنسب بالكفار. وقال ابن مسعود: تنزع الملائكة روح الكفار من جسده من تحت كل شعرة ومن تحت الأظافر وأصول القدمين ثم تغرقها في جسده ثم تنزعها حتى إذا كادت تخرج يردها في جسده وهكذا مرارا فهذا عملها في الكفار. والنشط الإخراج برفق وسهولة وهو أنسب بالمؤمنين وكذا السبح ظاهر في التحرك برفق ولطافة. قال بعض السلف: إن الملائكة يسلون أرواح المؤمنين سلا رقيقا ثم يتركونها حتى تستريح رويدا ثم يستخرجونها برفق ولطف كالذي يسبح في الماء فإنه يتحرك برفق لئلا يغرق فهم يرفقون في ذلك الاستخراج لئلا يصل إلى المؤمن ألم وشدة وفي التاج إن النشط حل العقدة برفق ويقال كما في البحر: أنشطت العقال ونشطته إذا مددت أنشوطته فانحلت، والأنشوطة عقدة يسهل انحلالها إذا جذبت كعقدة التكة فإذا جعلت النَّاشِطاتِ من النشط بهذا المعنى كان أوفق للإشارة إلى الرفق والعطف مع اتحاد الكل لتنزيل التغاير العنواني منزلة التغاير الذاتي كما مر غير مرة للإشعار بأن كل واحد من الأوصاف المعدودة من معظمات الأمور حقيق بأن يكون على حياله مناطا لاستحقاق موصوفة للإجلال والإعظام بالإقسام به من غير انضمام الأوصاف الأخر إليه. ولو جعلت النَّازِعاتِ ملائكة العذاب والنَّاشِطاتِ ملائكة الرحمة كان العطف للتغاير الذاتي على ما هو الأصل والفاء في الأخيرين للدلالة على ترتبهما على ما قبلهما بغير مهلة. وانتصاب نَشْطاً وسَبْحاً وسَبْقاً على المصدرية كانتصاب غَرْقاً وأما انتصاب أَمْراً فعلى المفعولية للمدبرات لا على نزع الخافض أي بأمر منه تعالى كما قيل. وزعم أنه الأولى وتنكيره للتهويل والتفخيم. وجوز أن يكون غَرْقاً مصدرا مؤولا بالصفة المشبهة ونصبه على المفعولية أيضا للنازعات أو صفة للمفعول به لها أي نفوسا غرقة في الأجساد.
وحمل بعضهم غرقها فيها بشدة تعلقها بها وغلبة صفاتها عليها وكان ذلك مبني على تجرد الأرواح كما ذهب إليه الفلاسفة وبعض أجلة المسلمين. هذا ولم نقف على نص في أن الملائكة حال قبض الأرواح وإخراجها هل يدخلون في الأجساد أم لا. وظاهر تفسير النَّاشِطاتِ أنهم حالة النزع خارج الجسد كالواقف والسَّابِحاتِ دخولهم فيه لإخراجها على ما قيل وأنت تعلم أن السبح ليس على حقيقته ولا مانع من أن يراد به مجرد الاتصال ونحوه مما لا توقف له على الدخول. وجوز أن يكون المراد بالسابحات وما بعدها طوائف من الملائكة يسبحون في مضيهم فيسبقون فيه إلى ما أمروا به من الأمور الدنيوية والأخروية فيدبرون أمره من كيفيته وما لا بد منه فيه ويعم ذلك ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، والعطف عليه لتغاير الموصوفات كالصفات، وأيّا ما كان فجواب القسم محذوف يدل عليه ما بعد من أحوال القيامة ويلوح إليه الأقسام المذكورة والتقدير والنَّازِعاتِ إلخ لتبعثن وإليه ذهب الفراء وجماعة. وقيل: إقسام بالنجوم السيارة التي تنزع أي تسير من نزع الفرس إذا جرى من المشرق إلى المغرب غرقا في النزع وجدّا في السير بأن تقطع الفلك على ما يبدو للناس حتى تنحط في أقصى الغرب وتنشط من برج إلى برج أي تخرج من نشط الثور إذا خرج من مكان إلى مكان آخر ومنه قول هميان بن قحافة:
أرى همومي تنشط المناشطا الشام بي طورا وطورا واسطا
وتسبح في الفلك فيسبق بعضها في السير لكونه أسرع حركة فتدبر أمرا نيط بها كاختلاف الفصول وتقدير الأزمنة وظهور مواقيت العبادات والمعاملات المؤجلة ولما كانت حركاتها من المشرق إلى المغرب
224
سريعة قسرية وتابعة لحركة الفلك الأعظم ضرورة وحركاتها من برج إلى برج بإرادتها من غير قسر لها وهي غير سريعة أطلق على الأولى النزع لأنه جذب بشدة، وعلى الثانية النشط لأنه برفق وروي حمل النَّازِعاتِ على النجوم عن الحسن وقتادة والأخفش وابن كيسان وأبي عبيدة وحمل الناشطات عليها عن ابن عباس والثلاثة الأول وحمل السَّابِحاتِ عليها عن الأولين وحملها أبو روق على الليل والنهار والشمس والقمر منها والمدبرات عليها من معاذ وإضافة التدبير إليها مجاز وقيل: إقسام بالنفوس الفاضلة حالة المفارقة لا بد أنها بالموت فإنها تنزع عن الأبدان غرقا أي نزعا شديدا من أغرق النازع في القوس إذا بلغ غاية المدى حتى ينتهي إلى النصل لعسر مفارقتها إياها حيث ألفنه وكان مطية لها لاكتساب الخير ومظنة لازدياده فتنشط شوقا إلى عالم الملكوت وتسبح به فتسبق به إلى حظائر القدس فتصير لشرفها وقوتها من المدبرات أي ملحقة بالملائكة أو تصلح هي لأن تكون مدبرة كما قال الإمام إنها بعد المفارقة قد تظهر لها آثار وأحوال في هذا العالم فقد يرى المرء شيخه بعد موته فيرشده لما يهمه. وقد نقل على جالينوس أنه مرض مرضا عجز عن علاجه الحكماء فوصف له في منامه علاجه فأفاق وفعله فأفاق وقد ذكره الغزالي ولذا قيل: وليس بحديث كما توهم «إذا تحيرتم في الأمور فاستعينوا من أصحاب القبور» أي أصحاب النفوس الفاضلة المتوفين ولا شك في أنه يحصل لزائرهم مدد روحاني ببركتهم، وكثيرا ما تنحل عقد الأمور بأنامل التوسل إلى الله تعالى بحرمتهم. وحمله بعضهم على الأحياء منهم الممتثلين أمر موتوا وقبل أن تموتوا. وتفسير النَّازِعاتِ بالنفوس مروي عن السدّي إلّا أنه قال: هي جماعة النفوس تنزع بالموت إلى ربها والنَّاشِطاتِ بها عن ابن عباس أيضا إلّا أنه قال:
هي النفوس المؤمنة تنشط عند الموت للخروج والسابقات بها عن ابن مسعود إلّا أنه قال: هي أنفس المؤمنين تسبق إلى الملائكة عليهم السلام الذين يقبضونها وقد عاينت السرور شوقا إلى لقاء الله تعالى وقيل: إقسام بالنفوس حال سلوكها وتطهير ظاهرها وباطنها بالاجتهاد في العبادة والترقي في المعارف الإلهية فإنها تنزع عن الشهوات وتنشط إلى عالم القدس فتسبح في مراتب الارتقاء فتسبق إلى الكمالات حتى تصير من المكملات للنفوس الناقصة. وقيل: إقسام بأنفس الغزاة أو أيديهم تنزع القسي بإغراق السهام وتنشط بالسهم للرمي وتسبح في البر والبحر فتسبق إلى حرب العدو فتدبر أمرها. وإسناد السبح وما بعده إلى الأيدي عليه مجاز للملابسة وحمل النَّازِعاتِ على الغزاة مروي عن عطاء إلّا أنه قال: هي النازعات بالقسي وغيرها، وقيل: بصفات خيلهم فإنها تنزع في أعنتها غرقا أي تمد أعنتها مدّا قويا حتى تلصقها بالأعناق من غير ارتخائها فتصير كأنها انغمست فيها، وتخرج من دار الإسلام إلى دار الكفر وتسبح في جريها فتسبق إلى العدو فتدبر أمر الظفر وإسناد التدبير إليها إسناد إلى السبب. وحمل السَّابِحاتِ على الخيل مروي عن عطاء أيضا وجماعة، ولا يخفى أن أكثر هذه الأقوال لا يليق بشأن جزالة التنزيل وليس له قوة مناسبة للمقام ومنها ما فيه قول بما عليه أهل الهيئة المتقدمون من الحركة الإرادية للكوكب وهي حركته الخاصة ونحوها مما ليس في كلام السلف ولم يتم عليه برهان. ولذا قال بخلافه المحدثون من الفلاسفة وفي حمل «المدبرات» على النجوم إيهام صحة ما يزعمه أهل الأحكام وجهلة المنجمين وهو باطل عقلا ونقلا كما أوضحنا ذلك فيما تقدم وكذا في حملها على النفوس الفاضلة المفارقة إيهام صحة ما يزعمه كثير من سخفة العقول من أن الأولياء يتصرفون بعد وفاتهم بنحو شفاء المريض وإنقاذ الغريق والنصر على الأعداء وغير ذلك مما يكون في عالم الكون والفساد على معنى أن الله تعالى فوض إليهم ذلك، ومنهم من خص ذلك بخمسة من الأولياء والكل جهل وإن كان الثاني أشد جهلا. نعم لا ينبغي التوقف في أن الله تعالى قد يكرم من شاء من أوليائه بعد الموت كما يكرمه قبله بما شاء فيبرىء
225
سبحانه المريض وينقذ الغريق وينصر على العدو وينزل الغيث وكيت وكيت كرامة له وربما يظهر عز وجل من يشبهه صورة فتفعل ما سئل الله تعالى بحرمته مما لا إثم فيه استجابة للسائل، وربما يقع السؤال على الوجه المحظور شرعا فيظهر سبحانه نحو ذلك مكرا بالسائل واستدراجا له. ونقل الإمام في هذا المقام عن الغزالي أنه قال: إن الأرواح الشريفة إذا فارقت أبدانها ثم اتفق إنسان مشابه للإنسان الأول في الروح والبدن فإنه لا يبعد أن يحصل للنفس المفارقة تعلق بهذا البدن حتى تصير كالمعاونة للنفس المتعلقة بذلك البدن على أعمال الخير فتسمى تلك المعاونة إلهاما. ونظيره في جانب النفوس الشريرة وسوسة انتهى. ولم أر ما يشهد على صحته في الكتاب والسنة وكلام سلف الأمة وقد ذكر الإمام نفسه في الباحث المشرقية استحالة تعلق أكثر من نفس ببدن واحد وكذا استحالة تعلق نفس واحدة بأكثر من بدن ولم يتعقب ما نقله هنا فكأنه فهم أن التعلق فيه غير التعلق المستحيل فلا تغفل. وقال في وجه حمل المذكورات على الملائكة أن الملائكة عليهم السلام لها صفات سلبية وصفات إضافية أما الأولى فهي أنها مبرأة عن الشهوة والغضب والأخلاق الذميمة والموت والهرم والسقم والتركيب والأعضاء والأخلاط والأركان بل هي جواهر روحانية مبرأة عن هذه الأحوال «فالنازعات غرقا إشارة إلى كونها منزوعة عن هذه الأحوال نزعا كليا من جميع الوجوه على أن الصيغة للنسبة وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً إشارة إلى أن خروجها عن ذلك ليس كخروج البشر على سبيل الكلفة والمشقة بل بمقتضى الماهية، فالكلمتان إشارتان إلى تعريف أحوالهم السلبية وأما صفاتهم الإضافية فهي قسمان: الأول شرح قوتهم العاقلة وبيان حالهم في معرفة ملك الله تعالى وملكوته سبحانه والاطلاع على نور جلاله جل جلاله فوصفهم سبحانه في هذا المقام بوصفين أحدهما وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً فهم يسبحون من أول فطرتهم في بحار جلاله تعالى ثم لا منتهى لسبحهم لأنه لا منتهى لعظمة الله تعالى وعلو صمديته ونور جلاله وكبريائه فهم أبدا في تلك السباحة. وثانيهما فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً
وهو إشارة إلى تفاوت مراتبهم في درجات المعرفة وفي مراتب التجلّي والثاني شرح قوتهم العاملة وبيان حالهم فيها فوصفهم سبحانه في هذا المقام بقوله تعالى فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً ولما كان التدبير لا يتم إلّا بعد العلم قدم شرح القوة العاقلة على شرح القوة العاملة انتهى. وهو على ما في بعضه من المنع ليس بشديد المناسبة للمقام. ونقل غير واحد أقوالا غير ما ذكر في تفسير المذكورات فعن مجاهد النَّازِعاتِ المنايا تنزع النفوس. وحكى يحيى بن سلام أنها الوحش تنزع إلى الكلأ. وعن الأول تفسير النَّاشِطاتِ بالمنايا أيضا وعن عطاء تفسيرها بالبقر الوحشية وما يجري مجراها من الحيوان الذي ينشط من قطر إلى قطر. وعنه أيضا تفسير السَّابِحاتِ بالسفن وعن مجاهد تفسيرها بالمنايا تسبح في نفوس الحيوان وعن بعضهم تفسيرها بالسحاب وعن آخر تفسيرها بدواب البحر. وعن بعض تفسير «السابقات»
بالمنايا على معنى أنها تسبق الآمال وعن غير واحد تفسير «المدبرات» بجبريل يدبر الرياح والجنود والوحي وميكال يدبر القطر والنبات وعزرائيل يدبر قبض الأرواح وإسرافيل يدبر الأمر النزل عليهم لأنه ينزل به ويدبر النفخ في الصور والأكثرون تفسيرها بالملائكة مطلقا بل قال ابن عطية لا أحفظ خلافا في أنها الملائكة وليس في تفسير شيء مما ذكر خبر صحيح عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم فيما أعلم وما ذكرته أولا هو المرجح عندي نظرا للمقام والله تعالى أعلم.
وقوله سبحانه يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ منصوب بالجواب المضمر والمراد ب الرَّاجِفَةُ الواقعة أو النفخة التي ترجف الأجرام عندها على أن الإسناد إليها مجازي لأنها سبب الرجف أو التجوز في الطرف بجعل سبب
226
الرجف راجفا. وجوز أن تفسر الراجفة بالمحركة ويكون ذلك حقيقة لأن رجف يكون بمعنى حرك وتحرك كما في القاموس وهي النفخة الأولى. وقيل: المراد بها الأجرام الساكنة التي تشتد حركتها حينئذ كالأرض والجبال لقوله تعالى يوم تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ [المزمل: ١٤] وتسميتها راجفة باعتبار الأول ففيه مجاز مرسل وبه يتضح فائدة الإسناد وقوله تعالى: تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ أي الواقفة أو النفخة التي تردف وتتبع الأولى وهي النفخة الثانية. وقيل الأجرام التابعة وهي السماء والكواكب فإنها تنشق وتنتشر بعد والجملة حال من الرَّاجِفَةُ مصححة لوقوع اليوم ظرفا للبعث لإفادتها امتداد الوقت وسعته حيث أفادت أن اليوم زمان الرجفة المقيدة بتبعية الرادفة لها وتبعية الشيء الآخر فرع وجود ذلك الشيء فلا بد من امتداد اليوم إلى الرادفة واعتبار امتداده مع أن البعث لا يكون عند الرادفة أعني النفخة الثانية، وبينها وبين الأولى أربعون لتهويل اليوم ببيان كونه موقعا لداهيتين عظيمتين. وقيل: يَوْمَ تَرْجُفُ منصوب باذكر فتكون الجملة استئنافا مقرر المضمون الجواب المضمر كأنه قيل لرسول الله صلّى الله عليه وسلم اذكر لهم يوم النفختين فإنه وقت بعثهم وقيل هو منصوب بما دل عليه قوله تعالى قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ أي يوم ترجف وجفت القلوب أي اضطربت، يقال: وجف القلب وجيفا اضطرب من شدة الفزع وكذلك وجب وجيبا. وروي عن ابن عباس أن واجِفَةٌ بمعنى خائفة بلغة همدان. وعن السدّي زائلة عن مكانها ولم يجعل منصوبا بواجفة لأنه نصب ظرفه أعني يَوْمَئِذٍ والتأسيس أولى من التأكيد فلا يحمل عليه كيف، وحذف المضاف وإبدال التنوين مما يأباه أيضا ورفع قُلُوبٌ على الابتداء ويَوْمَئِذٍ متعلق ب واجِفَةٌ وهي الخبر على ما قيل وهو الأظهر كما في قوله تعالى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ [القيامة: ٢٢- ٢٤]. وجاز الابتداء بالنكرة لأن تنكيرها للتنويع وهو يقوم مقام الوصف المخصص. نعم التنويع في النظير أظهر لذكر المقابل بخلاف ما نحن فيه ولكن لا فرق بعد ما ساق المعنى إليه وإن شئت فاعتبر ذلك للتكثير كما اعتبر في: شرّ أهرّ ذا ناب وقيل: واجِفَةٌ صفة قُلُوبٌ مصححة للابتداء بها.
وقوله تعالى: أَبْصارُها خاشِعَةٌ أي أبصار أهلها ذليلة من الخوف ولذلك أضافها إليها فالإضافة لأدنى ملابسة، وجوز أن يراد بالأبصار البصائر أي صارت البصائر ذليلة لا تدرك شيئا فكنى بذلها عن عدم إدراكها لأن عز البصيرة إنما هي بالإدراك، وبحث في كون القلوب غير مدركة يوم القيامة وأجيب بأن المراد شدة الذهول والحيرة جملة من مبتدأ وخبر في محل رفع على الخبرية لقلوب. وتعقب بأنه قد اشتهر أن حق الصفة أن تكون معلومة الانتساب إلى الموصوف عند السامع حتى قال غير واحد: إن الصفات قبل العلم بها أخبار والأخبار بعد العلم بها صفات، فحيث كان ثبوت الوجيف وثبوت الخشوع لأبصار أصحاب القلوب سواء في المعرفة والجهالة كان جعل الأول عنوان الموضوع مسلم الثبوت مفروغا عنه، وجعل الثاني مخبرا به مقصود الإفادة تحكما بحتا على أن الوجيف الذي هو عبارة عن اضطراب القلب وقلقه من شدة الخوف والوجل أشد من خشوع البصر وأهول فجعل وأهول الشرين عمدة وأشدهما فضلة مما لا عهد له في الكلام، وأيضا فتخصيص الخشوع بقلوب موصوفة بصفة معينة غير مشعرة بالعموم والشمول تهوين للخطب في موقع التهويل انتهى. وأنت تعلم أن المشتهر وما قاله غير واحد غير مجمع على اطّراده وأن بعض ما اعترض به يندفع على ما يفهمه كلام بعض الأجلّة من جواز جعل المفرد خبرا والجملة بعد صفة لكنه بعيد وما قيل على الأول من أن جعل التنوين للتنويع مع إلباسه مخالف للظاهر وكونه كالوصف معنى تعسف خروج عن الإنصاف. وزعم ابن
227
عطية أن النكرة تخصصت بقوله تعالى يَوْمَئِذٍ وتعقب بأنه لا تتخصص بالأجرام بظروف الزمان وقدر عصام الدين جواب القسم ليأتين وقال: نحن نقدره كذلك ونجعل يوم ترجف فاعلا له مرفوع المحل ونجعل تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ صفة للراجفة بجعلها في حكم النكرة لكون التعريف للعهد الذهني نحو:
أمرّ على اللئيم يسبني وفيه ما فيه وقيل إن الجواب تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ ويَوْمَ منصوب به ولام القسم محذوفة أي ليوم كذا تتبعها الرادفة ولم تدخل نون التأكيد لأنه قد فصل بين اللام المقدرة والفعل وليس بذاك. وقال محمد بن عليّ الترمذي: إن جواب القسم إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى وهو كما ترى ومثله ما قيل هو هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى لأنه في تقدير قد أتاك وقال أبو حاتم على التقديم والتأخير كأنه قيل فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ والنازعات وخطأه ابن الأنباري بأن الفاء لا يفتتح بها الكلام وبالجملة الوجه الوجيه هو ما قدمنا.
وقوله تعالى يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ حكاية لما يقوله المنكرون للبعث المكذبون بالآيات الناطقة به إثر بيان وقوعه بطريق التوكيد القسمي وذكر مقدماته الهائلة وما يعرض عند وقوعها للقلوب والأبصار أي يقولون إذا قيل لهم إنكم تبعثون منكرين له متعجبين منه أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ بعد موتنا فِي الْحافِرَةِ أي في الحالة الأولى يعنون الحياة كما قال ابن عباس وغيره. وقيل إنه تعالى شأنه لما أقسم على البعث وبيّن ذلّهم وخوفهم ذكر هنا إقرارهم بالبعث وردهم إلى الحياة بعد الموت فالاستفهام لاستغراب ما شاهدوه بعد الإنكار والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا لما يقولون إذ ذاك. والظاهر ما تقدم وإن القول في الدنيا وأيّا ما كان فهو من قولهم رجع فلان في حافرته أي طريقته التي جاء فيها فحفرها أي أثر فيها بمشيه والقياس المحفورة فهي إما بمعنى ذا حفر أو الإسناد مجازي أو الكلام على الاستعارة المكنية بتشبيه القابل بالفاعل وجعل الحافرية تخييلا. وذلك نظير ما ذكروا في عِيشَةٍ راضِيَةٍ [القارعة: ٧] ويقال لكل من كان في أمر فخرج منه ثم عاد إليه رجع إلى حافرته وعليه قوله:
أحافرة على صلع وشيب معاذ الله من سفه وعار
يريد أأرجع إلى ما كنت عليه في شبابي من الغزل والتصابي بعد أن شبت معاذ الله من ذاك سفها وعارا.
ومنه المثل: النقد عند الحافرة، فقد قيل الحافرة فيه بمعنى الحالة الأولى وهي الصفقة أي النقد حال العقد لكن نقل الميداني عن ثعلب أن معناه النقد عند السبق وذلك أن الفرس إذا سبق أخذ الرهن والحافرة الأرض التي حفرها السابق بقوائمه على أحد التأويلات. وقيل الْحافِرَةِ جمع الحافر بمعنى القدم أي يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ أحياء نمشي على أقدامنا ونطأ بها الأرض ولا يخفى أن أداء اللفظ هذا المعنى غير ظاهر. وعن مجاهد الْحافِرَةِ القبور المحفورة أي لمردودون أحياء في قبورنا. وعن زيد بن أسلم هي النار وهو كما ترى. وقرأ أبو حيوة وأبو بحرية وابن أبي عبلة «في الحفرة» بفتح الحاء وكسر الفاء على أنه صفة مشبهة من حفر اللازم كعلم مطاوع حفر بالبناء للمجهول يقال: حفرت أسنانه فحفرت حفرا بفتحتين إذا أثر الأكال في أسنانها وتغيرت، ويرجع ذلك إلى معنى المحفورة وقيل هي الأرض المنتنة المتغيرة بأجساد موتاها وقوله تعالى أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً تأكيدا لإنكار البعث بذكر حالة منافية له. والعامل في إِذا مضمر يدل عليه «مردودون» أي: أئذا كنا عظاما بالية نرد ونبعث مع كونه أبعد شيء من الحياة. وقرأ نافع وابن عامر «إذا كنا» بإسقاط همزة الاستفهام، فقيل: يكون خبر استهزاء بعد الاستفهام الإنكاري، واستظهر أنه متعلق بمردودون. وقرأ
228
عمر وأبيّ وعبد الله وابن الزبير وابن عباس ومسروق ومجاهد والأخوان وأبو بكر «ناخرة» بالألف وهو كنخرة من نخر العظم أي بلي وصار أجوف تمر به الريح فيسمع له نخير أي صوت وقراءة الأكثرين أبلغ فقد صرحوا بأن فعلا أبلغ من فاعل وإن كانت حروفه أكثر وقولهم زيادة المبني تدل على زيادة المعنى أغلبي أو إذا اتحد النوع لا إذا اختلف كأن كان فاعل اسم فاعل وفعل صفة مشبهة. نعم تلك القراءة أوفق برؤوس الآي واختيارها لذلك لا يفيد اتحادها مع الأخرى في المبالغة كما وهم وإلى الأبلغية ذهب المعظم. وفسرت النخرة عليه بالأشد بلى. وقال عمرو بن العلاء: النخرة التي قد بليت، والناخرة التي لم تنخر بعد. ونقل اتحاد المعنى عن الفراء وأبي عبيدة وأبي حاتم وآخرين. وقوله تعالى قالُوا حكاية لكفر آخر لهم متفرع على كفرهم السابق ولعل توسيط قالوا بينهما للإيذان بأن صدور هذا الكفر عنهم ليس بطريق الاطّراد والاستمرار مثل كفرهم السابق المستمر صدوره عنهم في كافة أوقاتهم حسبما ينبىء عنه حكايته بصيغة المضارع أي قالوا بطريق الاستهزاء مشيرين إلى ما أنكروه من الرد في الحافرة مشعرين بغاية بعده عن الوقوع تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ أي ذات خسر أو خاسر أصحابها أي إذا صحت تلك الرجعة فنحن خاسرون لتكذيبنا بها وأبرزوا ما قطعوا بانتفائه واستحالته في صورة ما يغلب على الظن وقوعه لمزيد الاستهزاء وقال الحسن: خاسِرَةٌ كاذبة أي بكائنة فكان المعنى تلك إِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً كرة ليست بكائنة وقوله تعالى فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ تعليل لمقدر يقتضيه إنكارهم ذلك فإنه لما كان مداره استصعابهم الكرة رد عليهم ذلك فقيل لا تحسبوا تلك الكرة صعبة فإنما هي صيحة واحدة أي حاصلة بصيحة واحدة وهي النفخة الثانية عبر عنها بها تنبيها على كمال اتصالها بها كأنها عينها، وقيل: هي راجع إلى الرادفة. وقوله تعالى: فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ حينئذ بيان لترتب الكرة على الزجرة مفاجأة أي فإذا هم أحياء على وجه الأرض بعد ما كانوا أمواتا في بطنها. وعلى الأول بيان لحضورهم الموقف عقيب الكرة التي عبر عنها بالزجرة والساهرة قيل وجه الأرض والفلاة وأنشدوا قول أمية بن أبي الصلت:
وفيها لحم ساهرة وبحر وما فاهوا به أبدا مقيم
وفي الكشاف الأرض البيضاء أي التي لا نبات فيها المستوية، سميت بذلك لأن السراب يجري فيها من قولهم: عين ساهرة جارية الماء وفي ضدها نائمة. قال الأشعث بن قيس:
وساهرة يضحي السراب مجللا لأقطارها قد جبتها متلثما
أو لأن سالكها لا ينام خوف الهلكة وفي الأول مجاز على المجاز، وعلى الثاني السهر على حقيقته والتجوز في الإسناد وحكى الراغب فيها قولين الأول أنها وجه الأرض، والثاني أنها أرض القيامة ثم قال:
وحقيقتها التي يكثر الوطء بها فكأنها سهرت من ذلك إشارة إلى نحو ما قال الشاعر:
تحرك يقظان التراب ونائمه وروى الضحاك عن ابن عباس أن الساهرة أرض من فضة لم يعص الله تعالى عليها قط يخلقها عز وجل حينئذ، وعنه أيضا أنها أرض مكة وقيل: وهي الأرض السابعة يأتي الله تعالى بها فيحاسب الخلائق عليها وذلك حين تبدل الأرض غير الأرض. وقال وهب بن منبه: جبل بالشام يمده الله تعالى يوم القيامة لحشر الناس. وقال أبو العالية وسفيان: أرض قريبة من بيت المقدس، وقيل: الساهرة بمعنى الصحراء على شفير جهنم، وقال قتادة: وهي جهنم لأنه لا نوم لمن فيها. وقوله تعالى هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى كلام مستأنف وارد لتسلية رسول الله صلّى الله عليه وسلم
229
من تكذيب قومه وتهديدهم عليه بأن يصيبهم مثل ما أصاب من كان أقوى منهم وأعظم. ومعنى هَلْ أَتاكَ أن اعتبر أن هذا أول ما أتاه عليه الصلاة والسلام من حديثه عليه السلام ترغيب له صلّى الله عليه وسلم في استماع حديثه كأنه قيل: هل أتاك حديثه أنا أخبرك به وإن اعتبر إتيانه قبل هذا وهو المتبادر من الإيجاز في الاقتصاص أليس قد أتاك حديثه وليس هل بمعنى قد على شيء من الوجهين. وقوله تعالى إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً ظرف للحديث لا للإتيان لاختلاف وقتيهما وجوز كونه مفعول اذكر مقدرا. وتقدم الكلام في الواد المقدس واختلاف القراء في طُوىً اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ على إرادة القول والتقدير وقال له أو قائلا له اذْهَبْ إلخ. وقيل:
هو تفسير للنداء أي ناداه اذهب وقيل: هو على حذف أن المفسرة يدل عليه قراءة عبد الله أن اذهب لأن في النداء معنى القول وجوز أن يكون بتقدير المصدرية قبلها حرف جر إِنَّهُ طَغى تعليل للأمر أو لوجوب الامتثال به فَقُلْ بعد ما أتيته هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى أي هل لك ميل إلى أن تتزكى فلك في موضع الخبر لمبتدأ محذوف وإِلى أَنْ تَزَكَّى متعلق بذلك المبتدأ المحذوف ونحوه قول الشاعر:
فهل لكم فيها إليّ فإنني بصير بما أعيا النطاسي حذيما
قد يقال هل لك في كذا فيؤتى بفي ويقدر المبتدأ رغبة ونحوه مما يتعدى بها، ومنهم من قدره هنا رغبة لأنها تعدى بها أيضا وقال أبو البقاء: لما كان المعنى أدعوك جيء بإلى ولعله جعل الظرف متعلقا بمعنى الكلام أو بمقدر يدل عليه وتَزَكَّى بحذف إحدى التاءين أي تتطهر من دنس الكفر والطغيان وقرأ الحرميان وأبو عمر بخلاف «تزّكّى» بتشديد الزاي وأصله كما أشرنا إليه تتزكى فأدغمت التاء الثانية في الزاي وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ أي أرشدك إلى معرفته عز وجل فتعرفه فَتَخْشى إذ الخشية لا تكون إلّا بعد معرفته قال الله تعالى إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر: ٢٨] وجعل الخشية غاية للهداية لأنها ملاك الأمر من خشي الله تعالى أتى منه كل خير، ومن أمن اجترأ على كل شر. ومنه
قوله صلّى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي عن أبي هريرة: «من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل».
وفي الاستفهام ما لا يخفى من التلطف في الدعوة والاستنزال عن العتو وهذا ضرب تفصيل لقوله تعالى فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى [طه: ٤٤] وتقديم التزكية على الهداية لأنها تخلية. والفاء في قوله تعالى فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى فصيحة تفصح عن جمل قد طويت تعويلا على تفصيلها في موضع آخر كأنه قيل فذهب وكان كيت وكيت فأراه. واقتصر الزمخشري في الحواشي على تقدير جملة فقال:
إن هذا معطوف على محذوف والتقدير فذهب فأراه لأن قوله تعالى اذْهَبْ يدل عليه فهو على نحو اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ والإراءة إما بمعنى التعريف فإن اللعين حين أبصرها عرفها، وادعاء سحريتها إنما كان وادعاء سحريتها إنما كان إظهارا للتجلد ونسبتها إليه عليه الصلاة والسلام بالنظر إلى الظاهر كما أن نسبتها إلى نون العظمة في قوله تعالى وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا [طه: ٥٦] بالنظر إلى الحقيقة والمراد بالآية الكبرى على ما روي عن ابن عباس قلب العصا حية فإنها كانت المقدمة والأصل والأخرى كالتبع لها، وعلى ما روي عن مجاهد ذلك واليد البيضاء فإنهما باعتبار الدلالة كالآية الواحدة وقد عبر عنهما بصيغة الجمع في قوله تعالى اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي [طه: ٤٢] باعتبار ما في تضاعيفهما من بدائع الأمور التي كل منها آية بينة لقوم يعقلون وجوز أن يراد بها مجموع معجزاته عليه السلام والوحدة باعتبار ما ذكر والفاء لتعقيب أولها أو مجموعها باعتبار أولها، وكونها كبرى باعتبار معجزات من قبله من الرسل عليهم السلام أو هو للزيادة المطلقة ولا يخفى بعده، ويزيده بعدا ترتيب حشر السحر بعد فإنه لم يكن إلّا على إراءة تينك الآيتين وإدباره
230
عن العمل بمقتضاهما وإما ما عداهما من التسع فإنما ظهر على يده عليه السلام بعد ما غلب السحرة على مهل في نحو من عشرين سنة. وزعم غلاة الشيعة أن الآية الكبرى عليّ كرم الله تعالى وجهه أراه إياه متطورة روحه الكريمة بأعظم طور وهو هذيان وراء طور العقل وطور النقل فَكَذَّبَ بموسى عليه السلام وسمى معجزته سحرا وَعَصى الله تعالى بالتمرد بعد ما علم صحة الأمر ووجوب الطاعة أشد عصيان وأقبحه حيث اجترأ على إنكار وجود رب العالمين رأسا وكان اللعين وقومه مأمورين بعبادته عز وجل وترك العظمة التي يدعيها الطاغية ويقبلها منه فئته الباغية لا بإرسال بني إسرائيل من الأسر والقسر فقط، وفي جعل متعلق التكذيب موسى عليه السلام ومتعلق العصيان الله عز وجل ما ليس في جعلهما موسى كما قيل فكذب موسى عصاه من الذم كما لا يخفى.
ثُمَّ أَدْبَرَ تولى عن الطاعة يَسْعى أي ساعيا مجتهدا في إبطال أمره عليه السلام ومعارضة الآية وثم لأن إبطال ذلك ونقضه يقتضي زمانا طويلا، وجوز أن يكون الإدبار على حقيقته أي ثم انصرف عن المجلس ساعيا في إبطال ذلك، وقيل: أدبر يسعى هاربا من الثعبان فإنه روي أنه لما ألقى العصا انقلبت ثعبانا أشعر فاغرا فاه بين لحييه ثمانون ذراعا فوضع لحيه الأسفل على الأرض والأعلى على سور القصر فهرب فرعون وأحدث وانهزم الناس مزدحمين فمات منهم خمسة وعشرون ألفا من قومه. وفي بعض الآثار أنها انقلبت حية وارتفعت في السماء قدر ميل ثم انحطت مقبلة نحو فرعون وجعلت تقول: يا موسى مرني بما شئت، يقول فرعون:
أنشدك بالذي أرسلك إلّا أخذته فأخذه فعاد عصى، وأنت تعلم أن هذا إن كان بعد حشر السحرة للمعارضة كما هو المشهور فلا تظهر صحة إرادته هاهنا إذا أريد بالحشر بعد حشرهم وإن كان بعد التكذيب والعصيان وقبل الحشر فلا يظهر تراخيه عن الأولين نعم قيل إن ثم عليه للدلالة على استبعاد إدباره مرعوبا مسرعا مع زعمه الإلهية وقيل: أريد بقوله سبحانه ثُمَّ أَدْبَرَ ثم أقبل يفعل أي أنشأ لكن جعل الإدبار موضع الإقبال تلميحا وتنبيها على أنه كان عليه دمارا وإدبارا فَحَشَرَ أي فجمع السحرة لقوله تعالى فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ [الشعراء: ٥٣] وقوله سبحانه فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى [طه: ٦٠] أي ما يكاد به من السحرة وآلاتهم وقيل جمع جنوده وجوز أن يراد جمع أهل مملكته فَنادى في المجمع نفسه أو بواسطة المنادي وأيد الأول بقوله تعالى فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى وعلى الثاني فيه تقدير أي فقال: يقول فرعون أَنَا رَبُّكُمُ إلخ مع ما في الثاني من التجوز وفي بعض الآثار أنه قام فيهم خطيبا فقال تلك العظيمة وأراد اللعين تفضيل نفسه على كل من يلي أمورهم فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى النكال بمعنى التنكيل كالسلام بمعنى التسليم وهو التعذيب الذي ينكل من رآه أو سمعه ويمنعه من تعاطي ما يفضي إليه وهو نصب على أنه مصدر مؤكد ك وَعْدَ اللَّهِ [النساء: ١٢٢ وغيرها] وصِبْغَةَ اللَّهِ [البقرة: ١٣٨] كأنه قيل نكل الله تعالى به نكال الآخرة والأولى وهو الإحراق في الآخرة والإغراق والإذلال في الدنيا، وجوز أن يكون نصبا على أنه مفعول مطلق لأخذ أي أخذه الله تعالى أخذ نكال الآخرة إلخ. وأن يكون مفعولا له أي أخذه لأجل نكال إلخ. وأن يكون نصبا بنزع الخافض أي أخذه بنكال الآخرة والأولى وإضافته إلى الدارين باعتبار وقوع نفس الأخذ فيهما لا باعتبار أن ما فيه من معنى المنع يكون فيهما فإن ذلك لا يتصور في الآخرة بل في الدنيا فإن العقوبة الأخروية تنكل من سمعها وتمنعه من تعاطي ما يؤدي إليها فيها وأن يكون في تأويل المشتق حالا وإضافته على معنى في أي منكلا لمن رآه أو سمع به في الآخرة والأولى، وجوز أن تكون الإضافة عليه لامية وحمل الآخرة والأولى على الدارين هو الظاهر. وروي عن الحسن وابن زيد وغيرهما وعن ابن عباس وعكرمة
231
والضحاك والشعبي أن الآخرة قولته أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى والأولى قولته ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي [القصص: ٣٨] وقيل بالعكس فهما كلمتان وكان بينهما على ما قالوا أربعون سنة. وقال أبو رزين الْأُولى حالة كفره وعصيانه والْآخِرَةِ قولته أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى وعن مجاهد أنهما عبارتان عن أول معاصيه وآخرها أي نكل بالجميع والإضافة على جميع ذلك من إضافة المسبب إلى السبب ومآل من يقول بقبول إيمان فرعون إلى هذه الأقوال، وجعل ذلك النكال الإغراق في الدنيا وقد قدمنا الكلام في هذا المقام.
إِنَّ فِي ذلِكَ أي فيما ذكر من قصة فرعون وما فعل وما فعل به لَعِبْرَةً عظيمة لِمَنْ يَخْشى أي لمن شأنه أن يخشى وهو من من شأنه المعرفة وهذا إما لأن من كان في خشية لا يحتاج للاعتبار أو ليشمل من يخشى بالفعل ومن كان من شأنه ذلك على ما قيل. وقوله تعالى أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً خطاب للمخاطبين في جواب القسم أعني لتبعثن من أهل مكة المنكرين للبعث بناء على صعوبته في زعمهم بطريق التوبيخ والتبكيت بعد ما بيّن كمال سهولته بالنسبة إلى قدرة الله تعالى بقوله سبحانه فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ [الصافات: ٨٩، النازعات: ١٣] ونصب خَلْقاً على التمييز وهو محول عن المبتدأ أي أخلقكم بعد موتكم أَشَدُّ أي أشق وأصعب في تقديركم أَمِ السَّماءُ أي أم خلق السماء على عظمها وانطوائها على تعاجيب البدائع التي تحار العقول عن ملاحظة أدناها وقوله تعالى: بَناها إلخ بيان وتفصيل لكيفية خلقها المستفاد من قوله تعالى أَمِ السَّماءُ
وفي عدم ذكر الفاعل فيه وفيما عطف من الأفعال من التنبيه على تعيينه وتفخيم شأنه عز وجل ما لا يخفى. وقوله سبحانه رَفَعَ سَمْكَها بيان للبناء أي جعل مقدار ارتفاعها من الأرض وذهابها إلى سمت العلو مديدا رفيعا، وجوز أن يفسر السمك بالثخن فالمعنى جعل ثخنها مرتفعا في جهة العلو. ويقال للثخن سمك لما فيه من ارتفاع السطح الأعلى عن السطح الأسفل وإذا لوحظ هذا الامتداد العلو للسفل قيل له عمق ونظير ذلك الدرج والدرك وقد جاء في الأخبار الصحيحة أن ارتفاع السماء الدنيا عن الأرض خمسمائة عام وارتفاع كل سماء عن سماء وثخن كل كذلك، والظاهر تقدير ذلك بالسير المتعارف وأن المراد بالعدد المذكور التحديد دون التكثير ونحن مع الظاهر إلّا أن يمنع عنه مانع فَسَوَّاها أي جعلها سواء فيما اقتضته الحكمة فلم يخل عز وجل قطعة منها عما تقتضيه الحكمة فيها، ومن ذلك تزيينها بالكواكب وقيل تسويتها جعلها ملساء ليس في سطحها انخفاض وارتفاع. وقيل: جعلها بسيطة متشابهة الأجزاء والشكل فليس بعضها سطحا وبعضها زاوية وبعضها خطا وهو قول بكريتها الحقيقية وإليه ذهب كثير. وقالوا: وحكاه الإمام لما ثبت أنها محدثة مفتقرة إلى فاعل مختار فأي ضرر في الدين ينشأ من كونها كرية وقيل تسويتها
232
تتميمها بما يتم به كمالها من الكواكب والمتممات والتداوير وغيرها مما بيّن في علم الهيئة من قولهم: سوّى أمره أي أصلحه أو من قولهم: استوت الفاكهة إذا نضجت، وأنت تعلم أن هذا مع بنائه على اتحاد السماوات والأفلاك غير معروف في الصدر الأول من المسلمين لعدم وروده عن صاحب المعراج رسول الله صلّى الله عليه وسلم وعدم ظهور الدليل عليه والأدلة التي يذكرها الهيئة لتلك الأمور لا يخفى حالها ولذا لم يقل بما تقتضيه مخالفوهم من أهل الهيئة اليوم والله تعالى أعلم بحقيقة الحال وَأَغْطَشَ لَيْلَها أي جعله مظلما، يقال: غطش الليل وأغطشه الله تعالى كما يقال: ظلم وأظلمه، ويقال أيضا: أغطش الليل كما يقال أظلم وجاء ليلة غطشاء وليل أغطش وغطش. قال الأعشى:
عقرت لهم ناقتي موهنا... فليلهم مدلهم غطش
وفي البحر عن كتاب اللغات في القرآن أَغْطَشَ أظلم بلغة أنمار وأشعر وَأَخْرَجَ ضُحاها أي أبرز نهارها، والضحى في الأصل على ما يفهم من كلام الراغب انبساط الشمس وامتداد النهار ثم سمّي به الوقت المعروف وشاع في ذلك وتجوز به عن النهار بقرينة المقابلة. وقيل: الكلام على حذف مضاف أي ضحى شمسها أي ضوء شمسها وكنى بذلك عن النهار والأول أقرب، وعبر عن النهار بالضحى لأنه أشرف أوقاته وأطيبها وفيه من انتعاش الأرواح ما ليس في سائرها فكان أوفق لمقام تذكير الحجة على منكري البعث وإعادة الأرواح إلى أبدانها. وقيل: إنه لذلك كان أحق بالذكر في مقام الامتنان وإضافة الليل والضحى إلى السماء لأنهما يحدثان بسبب غروب الشمس وطلوعها وهي سماوية أو وهما إنما يحصلان بسبب حركتها على القول بحركتها لاتحادها مع الفلك أو وهما إنما يحصلان بسبب حركة الشمس في فلكها فيها على القول بأن السماء والفلك متغايران والمتحرك إنما هو الكوكب في الفلك كما يقتضيه ظاهر قوله تعالى كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [الأنبياء: ٣٣، يس: ٤٠] وإن الفلك ليس إلّا مجرى الكوكب في السماء، وقيل: أضيفا إليها لأنهما أول ما يظهران منها إذ أول الليل بإقبال الظلام من جهة المشرق، وأول النهار بطلوع الفجر وإقبال الضياء منه. وفي الكشاف أضيف الليل والشمس إلى السماء لأن الليل ظلها والشمس هي السراج المثقب في جوّها، واعترض بأن الليل ظل الأرض وأجيب بأنه اعتبار بمرأى الناظر كذلك كما أن زينة السماء الدنيا أيضا اعتبار بمرأى الناظر. وقيل إضافتهما إليها باعتبار أنهما إنما يحدثان تحتها وشملا بهذا الاعتبار ما لم يكد يخطر في أذهان العرب من ليل ونهار طول كل منهما ستة أشهر وهما ليل ونهار عرض تسعين حيث الدور رحوي وتعقب بأنهم قالوا: إن ظل الأرض المخروطي ينتهي إلى فلك الزهرة وهي في السماء الثالثة فالحصر غير تام وفيه نظر فتأمل، وبالجملة الإضافة لأدنى ملابسة. وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ الظاهر أنه إشارة إلى ما تقدم من خلق السماء وإغطاش الليل وإخراج النهار دون خلق السماء فقط، وانتصاب الْأَرْضَ بمضمر قيل على شريطة التفسير وقيل تقديره تذكر أو تدبر أو اذكر وستعلم ما في ذلك إن شاء الله تعالى. ومعنى قوله تعالى دَحاها بسطها ومدها لسكنى أهلها وتقلبهم في أقطارها من الدحو أو الدحي بمعنى البسط وعليه قول أمية بن أبي الصلت:
وبث الخلق فيها إذ دحاها... فهم قطانها حتى التنادي
وقيل: دَحاها سواها. وأنشدوا قول زيد بن عمرو بن نفيل:
وأسلمت وجهي لمن أسلمت... له الأرض تحمل صخرا ثقالا
دحاها فلما استوت شدها... بأيد وأرسى عليها الجبالا
233
والأكثرون على الأول. وأنشد الإمام بيت زيد فيه والظاهر أن دحوها بعد خلقها وقيل مع خلقها فالمراد خلقها مدحوة وروي الأول عن ابن عباس ودفع به توهم تعارض بين آيتين. أخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عنه أن رجلا قال له: آيتان في كتاب الله تعالى تخالف إحداهما الأخرى، فقال: إنما أتيت من قبل رأيك اقرأ قال قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ- حتى بلغ- ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ [فصلت: ٩- ١١] وقوله تعالى وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها قال: خلق الله تعالى الأرض قبل أن يخلق السماء، ثم خلق السماء ثم دحا الأرض بعد ما خلق السماء، وإنما قوله سبحانه دَحاها بسطها وتعقبه الإمام بأن الجسم العظيم يكون ظاهره كالسطح المستوي ويستحيل أن يكون هذا الجسم العظيم مخلوقا ولا يكون ظاهره مدحوا مبسوطا. وأجيب أنه لعل مراد القائل بخلقها أولا ثم دحوها ثانيا خلق مادتها أولا ثم تركيبها وإظهارها على هذه الصورة والشكل مدحوة مبسوطة وهذا كما قيل في قوله تعالى ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ [البقرة: ٢٩] إن السماء خلقت مادتها أولا ثم سويت وأظهرت على صورتها اليوم. وعن الحسن ما يدل على أنها كانت يوم خلقت قبل الدحو كهيئة الفهر ويشعر بأنها لم تكن على عظمها اليوم وتعقبه بعضهم بشيء آخر وهو أنه يأبى ذلك قوله تعالى خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ [البقرة: ٢٩] الآية فإنه يفيد أن خلق ما في الأرض قبل خلق السماوات، ومن المعلوم أن خلق ما فيها إنما هو بعد الدحو فكيف يكون الدحو بعد خلق السماوات. وأجيب بأن خَلَقَ في الآية بمعنى قدر أو أراد الخلق ولا يمكن أن يراد به فيها الإيجاد بالفعل ضرورة أن جميع المنافع الأرضية يتجدد إيجادها أولا فأولا سلمنا أن المراد الإيجاد بالفعل لكن يجوز أن يكون المراد خلق مادة ذلك بالفعل، ومن الناس من حمل ثُمَّ على التراخي الرتبي لأن خلق السماء أعجب من خلق الأرض. وقال عصام الدين إن بَعْدَ ذلِكَ هنا كما في قوله تعالى عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ [القلم: ١٣] يعني فعل بالأرض ما فعل بعد ما سمعت في السماء. والمراد التأخير في الأخبار فخلق الأرض ودحوها وإخراج مائها ومرعاها وإرساء الجبال عليها عنده قبل خلق السماء كما يقتضيه ظاهر آية البقرة وظاهر آية الدخان، وأيد حمل البعدية على ما ذكر بأن حملها على ظاهرها مع حمل الإشارة على الإشارة إلى مجموع ما تقدم مما سمعت يلزم عليه أن إغطاش الليل وإبراز النهار كانا قبل خلق الأرض ودحوها وذلك مما لا يتسنى على تقدير أنها غير مخلوقة أصلا ومما يبعد على تقدير أنها مخلوقة غير عظيمة، وأيضا قيل لو لم تحمل البعدية ما ذكر وقيل بنحو ما قال ابن عباس من تأخر الدحو عن خلق السماء مع تقدم خلق الأرض من غير دحو على خلقها لم تنحسم مادة الإشكال إذ آية الدخان ظاهرة في أن جعل الرواسي في الأرض قبل خلق السماء وتسويتها، وهذه الآية إلى آخرها ظاهرة في أن جعل الرواسي بعد وبالجملة أنه قد اختلف أهل التفسير في أن خلق السماء مقدم على خلق الأرض أو مؤخر؟ فقال ابن الطاشكبري: نقل الواحدي عن مقاتل أن خلق السماء مقدم على خلق الأرض واختاره جمع لكنهم قالوا إن خلق ما فيها مؤخر وأجابوا عما هنا وآية البقرة بأن الخلق فيها بمعنى التقدير أو بمعنى الإيجاد وتقدير الإرادة، وأن البعدية هاهنا لإيجاد الأرض وجميع ما فيها وعما هنا وآية الدخان بنحو ذلك فقدروا الإرادة في قوله تعالى خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ [فصلت: ٩] وكذا في قوله سبحانه وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وقالوا: يؤيد ما ذكر قوله تعالى فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [فصلت: ١١] فإن الظاهر أن المراد ائْتِيا في الوجود ولو كانت الأرض موجودة سابقة لما صح هذا فكأنه قال سبحانه: أئنكم لتكفرون بالذي أراد إيجاد الأرض وما فيها من الرواسي والأقوات في أربعة أيام ثم قصد إلى السماء فتعلقت إرادته بإيجاد السماء والأرض فأطاعا لأمر التكوين فأوجد سبع
234
سماوات في يومين، وأوجد الأرض وما فيها في أربعة أيام ونكتة تقديم خلق الأرض وما فيها في الظاهر في سورتي البقرة والدخان على
خلق السماوات والعكس هاهنا أن المقام في الأولين مقام الامتنان وتعداد النعم على أهل الكفر والإيمان فمقتضاه تقديم ما هو نعمة بالنظر إلى المخاطبين من الفريقين فكأنه قال سبحانه هو الذي دبر أمركم قبل السماء ثم خلق السماء. والمقام هنا مقام بيان كمال القدرة فمقتضاه تقديم ما هو أدل انتهى. وفي الكشف أطبق أهل التفسير أنه تم خلق الأرض وما فيها في أربعة أيام ثم خلق السماء في يومين إلّا ما نقل الواحدي في البسيط عن مقاتل أن خلق السماء مقدم على إيجاد الأرض فضلا عن دحوها. والكلام مع من فرق بين الإيجاد والدحو وما قيل إن دحو الأرض متأخر عن خلق السماء لا عن تسويتها يرد عليه بعد ذلك فإنه إشارة إلى السابق وهو رفع السمك والتسوية والجواب بتراخي الرتبة لا يتم لما نقل من إطباق المفسرين فالوجه أن يجعل الْأَرْضَ منصوبا بمضمر نحو تذكر وتدبر واذكر الأرض بعد ذلك وإن جعل مضمرا على شريطة التفسير جعل بعد ذلك إشارة إلى المذكور سابقا من ذكر خلق السماء لا خلق السماء نفسه ليدل على أنه متأخر في الذكر عن خلق السماء تنبيها على أنه قاصر في الدلالة عن الأول لكنه تتميم كما تقول جملا ثم تقول بعد ذلك كيت وكيت، وهذا كثير في استعمال العرب والعجم وكان بعد ذلك بهذا المعنى عكسه إذا استعمل لتراخي الرتبة وقد تستعمل ثُمَّ بهذا المعنى وكذا الفاء وهذا لا ينافي قول الحسن إنه تعالى خلق الأرض في موضع بيت المقدس كهيئة الفهر عليها دخان ملتزق بها ثم أصعد الدخان وخلق منه السماوات وأمسك الفهر في موضعها وبسط منها الأرض وذلك قوله تعالى كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما [الأنبياء: ٣٠] الآية فإنه يدل على أن كون السماء دخانا سابق على دحو الأرض وتسويتها وهو كذلك بل ظاهر قوله تعالى ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ [فصلت: ١١] يدل على ذلك وإيجاد الجوهرة النورية والنظر إليها بعين الجلال المبطن بالرحمة والجمال وذوبها وامتياز لطيفها عن كثيفها وصعود المادة الدخانية اللطيفة وبقاء الكثيف هذا كله سابق على الأيام الستة، وثبت في الخبر الصحيح ولا ينافي الآيات وأما ما نقله الواحدي عن مقاتل واختاره الإمام فلا إشكال فيه ويتعين ثم في سورتي البقرة والسجدة على تراخي الرتبة وهو أوفق لمشهور قواعد الحكماء لكن لا يوافق ما روي أنه تعالى خلق جرم الأرض يوم الأحد ويوم الاثنين، ودحاها وخلق ما فيها يوم الثلاثاء ويوم الأربعاء، وخلق السماوات وما فيها في يوم الخميس والجمعة، وفي آخر يوم الجمعة ثم خلق آدم عليه السلام انتهى. والذي أميل إليه أن تسوية السماء بما فيها سابقة على تسوية الأرض بما فيها لظهور أمر العلية في الأجرام العلوية وأمر المعلولية في الأجرام السفلية ويعلم تأويل ما ينافي ذلك مما سمعت. وأما الخبر الأخير ففي صحته مقال والله تعالى أعلم بحقيقة الحال وقد مر شيء مما يتعلق بهذا المقام وإنما أعدنا الكلام فيه تذكيرا لذوي الأفهام فتأمل والله تعالى الموفق لتحصيل المرام.
وقوله تعالى أَخْرَجَ مِنْها ماءَها بأن فجّر منها عيونا وأجرى أنهارا وَمَرْعاها يقع على الرعي بالكسر وهو الكلأ والرعي بالفتح وهو المصدر وكذا على الموضع والزمان، وزعم بعضهم أنه في الأصل للموضع ولعله أراد أنه أشهر معانيه والمناسب للمقام المعنى الأول لكنه قيل إنه خاص بما يأكله الحيوان غير الإنسان وتجوز به عن مطلق المأكول للإنسان وغيره فهو مجاز مرسل من قبيل المرسن. وقال الطيبي: يجوز أن يكون استعارة مصرحة لأن الكلام مع منكري الحشر بشهادة أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً كأنه قيل أيها المعاندون الملزوزون في قرن البهائم في التمتع بالدنيا والذهول عن الآخرة بيان وتفسير لدحاها وتكملة له فإن السكنى لا تتأتى بمجرد البسط والتمهيد بل لا بد من تسوية أمر المعاش من المأكل والمشرب أو حال من فاعله بإضمار قد أو بدونه
235
وكلا الوجهين مقتض لتجريد الجملة عن العاطف. وقوله تعالى وَالْجِبالَ منصوب بمضمر يفسره قوله سبحانه أَرْساها أي أثبتها وفيه تنبيه على أن الرسو المنسوب إليها في مواضع كثيرة من التنزيل ليس من مقتضيات ذاتها وللفلاسفة المحدثين كلام في أمر الأرض وكيفية بدئها لا مستند لهم فيه إلّا آثار أرضية يزعمون دلالتها على ذلك هي في أسفل الأرض عن ساحة القبول. وقرأ عيسى برفع «الأرض» والحسن وأبو حيوة وعمرو بن عبيد وابن أبي عبلة وأبو السمال برفع «الأرض» «والجبال» وهو على ما قيل على الابتداء، وتعقبه الزجاج بأن ذلك مرجوح لأن العطف على فعلية وأورد عليه أن قوله تعالى بَناها بيان لكيفية خلق السماء وقوله سبحانه رَفَعَ سَمْكَها بيان للبناء وليس لدحو الأرض وما بعده دخل في شيء من ذلك فكيف يعطف عليه ما هو معطوف على المجموع عطف القصة على القصة والمعتبر فيه تناسب القصتين وهو حاصل هنا فلا ضير في الاختلاف بل فيه نوع تنبيه على ذلك. وقيل: إن جملة قوله تعالى وَالْأَرْضَ إلخ على القراءتين ليست معطوفة على قوله سبحانه رَفَعَ سَمْكَها لأنها لا تصلح بيانا لبناء السماء فلا بد من تقدير معطوف عليه وحينئذ يقدر جملة فعلية على قراءة الجمهور أي فعل ما فعل في السماء، وجملة اسمية على قراءة الآخرين أي السماء وما يتعلق بها مخلوق له تعالى. وجوز عطف «الأرض» بالرفع على «السماء» من حيث المعنى كأنه قيل السماء أشد خلقا والأرض بعد ذلك أي والأرض بعد ما ذكر من السماء أشد خلقا فيكون وزان قوله تعالى دَحاها إلخ وزان قوله تعالى بَناها إلخ وحينئذ فلا يكون بعد ذلك مشعرا بتأخر دحو الأرض عن بناء السماء. وقوله تعالى مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ قيل مفعول له أي فعل ذلك تمتيعا لكم ولأنعامكم لأن فائدة ما ذكر من الدحو وإخراج الماء والمرعى واصلة إليهم ولأنعامهم فإن المرعى كما سمعت مجاز عما يأكله الإنسان وغيره، وقيل: مصدر مؤكد لفعله المضمر أي متعكم بذلك متاعا أو مصدر من غير لفظه فإن قوله تعالى أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها في معنى متع بذلك وأورد على الأول أن الخطاب لمنكري البعث والمقصود هو تمتيع المؤمنين فلا يلائم جعل تمتيع الآخرين كالغرض فالأولى ما بعده. وأجيب بأن خطاب المشافهة وإن كان خاصا بالحاضرين إلّا أن حكمه عام كما تقرر في الأصول فالمآل إلى تمتيع الجنس وأيضا النصب على المصدرية بفعله المقدر لا يدفع المحذور لكونه استئنافا لبيان المقصود ولا يخفى أن كون المقصود هو تمتيع المؤمنين محل بحث. وقوله سبحانه فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى إلخ شروع في بيان معادهم إثر بيان أحوال معاشهم بقوله عز وجل مَتاعاً إلخ والفاء للدلالة على ترتب ما بعدها على ما قبلها على ما قيل كما ينبىء عنه لفظ المتاع، والطامة أعظم الدواهي لأنه من طم بمعنى علا كما ورد في المثل: جرى الوادي فطمّ على القرى، وجاء السيل فطمّ الركيّ. وعلوها على الدواهي غلبتها عليها فيرجع لما ذكر قيل، فوصفها «بالكبرى» للتأكيد ولو فسر كونها طامة بكونها غالبة للخلائق لا يقدرون على دفعها لكان الوصف مخصصا، وقيل كونها طامة باعتبار أنها تغلب وتفوق ما عرفوه من دواهي الدنيا وكونها كبرى باعتبار أنها أعظم من جميع الدواهي مطلقا وقيل غير ذلك. وأنت تعلم أن الطَّامَّةُ الْكُبْرى صارت كالعلم للقيامة وروي كونها اسما من أسمائها هنا عن ابن عباس
وعنه أيضا وعن الحسن أنها النفخة الثانية. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن القاسم بن الوليد الهمداني أنها الساعة التي يساق فيها أهل الجنة إلى الجنة، وأهل النار إلى النار. وأخرجا عن عمرو بن قيس الكندي أنها ساعة يساق أهل النار إلى النار وفي معناه قول مجاهد هي إذا دفعوا إلى مالك خازن جهنم يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى بدل كل أو بعض من إذا جاءت على ما قيل، وقيل: بدل من الطَّامَّةُ الْكُبْرى فيكون مرفوع المحل وفتح لإضافته إلى الفعل على رأي الكوفيين
236
وتكون الطامة حقيقة التذكر البروز لأن حسن العمل يغلب كل لذة وسواه كل مشقة وكذا بروز الجحيم مع الابتلاء به يغلب كل مشقة ومع النجاة عنه كل لذة إلا يخفى تعسفه. وقيل: ظرف ل جاءَتِ وعليه الطبرسي واستظهر أنه منصوب بأعني تفسيرا للطامة الكبرى وما موصولة وسَعى بمعنى عمل والعائد مقدر أي له والمراد يوم يتذكر كل أحد ما عمله من خير أو شر بأن يشاهده مدوّنا في صحيفته وقد كان نسيه من فرط الغفلة أو طول الأمد أو شدة ما لقي أو كثرته التي تعجز الحافظ عن الضبط لقوله تعالى أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ [المجادلة: ٦] ويمكن أن يكون تذكره بوجه آخر، وجوّز أن تكون ما مصدرية أي يتذكر فيه سعيه.
وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ عطف على جاءَتِ وقيل على يَتَذَكَّرُ وقيل حال من الإنسان بتقدير قد أو بدونه، والموصول بعد مغن عن العائد، وكلا القولين على ما في الإرشاد على تقدير الجواب يتذكر الإنسان ونحوه وسيأتي إن شاء الله تعالى فلا تغفل. ومعنى بُرِّزَتِ أظهرت إظهارا بيّنا لا يخفى على أحد لِمَنْ يَرى كائنا من كان يروي أنه يكشف عنها فتتلظى فيراها كل ذي بصر وخص بعض من بالكافر وليس بشيء.
وقرأت عائشة وزيد بن علي وعكرمة ومالك بن دينار «وبرزت» مبنيا للفاعل مخففا لمن ترى بالتاء الفوقية على أن فيه ضمير جهنم كما في قوله تعالى إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ [الفرقان: ١٢] وإسناد الرؤية لها مجازا وهو حقيقة على أن يخلق الله تعالى ذلك فيها، ويجوز أن تكون خطابا لسيد المخاطبين صلّى الله عليه وسلم أو لكل راء كقوله تعالى وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ [السجدة: ١٢] أي لمن تراه من الكفار. وقرأ أبو نهيك وأبو السمال وهارون عن أبي عمرو «وبرزت» مبنيا للمفعول مخففا وقوله تعالى فَأَمَّا مَنْ طَغى إلخ جواب «إذا» على أنها شرطية لا ظرفية كما جوز على طريقة قوله تعالى فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً [البقرة: ٣٨، طه: ١٢٣] الآية.
وقولك إذا جاءك بنو تميم فأما العاصي فأهنه وأما الطائع فأكرمه. واختاره أبو حيان وقيل: جوابها محذوف كأنه قيل فإذا جاءت وقع ما لا يدخل تحت الوصف. وقوله سبحانه فَأَمَّا إلخ تفصيل لذلك المحذوف وفي جعله جوابا غموض وهو وجه وجيه بيد أنه لا غموض في ذاك بعد تحقق استقامة أن يقال فإذا جاءت فإن الطاغي الجحيم مأواه وغيره في الجنة مثواه وزيادة أما لم تفد إلّا زيادة المبالغة وتحقيق الترتب والثبوت على كل تقدير، وقيل: هو محذوف لدلالة ما قبل والتقدير ظهرت الأعمال ونشرت الصحف أو يتذكر الإنسان ما سعى أو لدلالة ما بعد والتقدير انقسم الراؤون قسمين وليس بذاك أي فأما من عتا وتمرد عن الطاعة وجاوز الحد في العصيان حتى كفر وَآثَرَ أي اختار الْحَياةَ الدُّنْيا الفانية التي هي على جناح الفوات فانهمك فيما متع به فيها ولم يستعد للحياة الآخرة الأبدية بالإيمان والطاعة فَإِنَّ الْجَحِيمَ التي ذكر شأنها هِيَ الْمَأْوى أي مأواه على ما رآه الكوفيون من أن أل في مثله عوض عن المضاف إليه الضمير وبها يحصل الربط أو المأوى له على رأي البصريين من عد كونها عوضا ورابطا، وهذا الحذف هنا للعلم بأن الطاغي هو صاحب المأوى وحسنه وقوع المأوى فاصلة وهو الذي اختاره الزمخشري. وهي إما ضمير فصل لا محل له من الإعراب أو ضمير جهنم مبتدأ والكلام دال على الحصر أي كأنه قيل فإن الجحيم هي مأواه أو المأوى له لا مأوى له سواها. وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ أي مقامه بين يدي مالك أمره يوم الطامة الكبرى يوم يتذكر الإنسان ما سعى على أن الإضافة مثلها في رقود حلب أو وأما من خاف ربه سبحانه على أن لفظ مَقامَ مقحم والكلام معه كناية عن ذلك وإثبات للخوف من الرب عز وجل بطريق برهاني بليغ نظير ما قيل في قوله
237
تعالى أَكْرِمِي مَثْواهُ [يوسف: ٢١]. وتمام الكلام في ذلك قد تقدم في سورة الرحمن وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى أي زجرها وكفها عن الهوى المردي وهو الميل إلى الشهوات وضبطها بالصبر والتوطين على إيثار الخيرات ولم يعتد بمتاع الدنيا وزهرتها ولم يغتر بزخارفها وزينتها علما بوخامة عاقبتها. وعن ابن عباس ومقاتل إنه الرجل يهم بالمعصية فيذكر مقامه للحساب بين يديّ ربه سبحانه فيخاف فيتركها، وأصل الهوى مطلق الميل وشاع في الميل إلى الشهوة وسمي بذلك على ما قال الراغب لأنه يهوي بصاحبه في الدنيا إلى كل واهية وفي الآخرة إلى الهاوية ولذلك مدح مخالفه. قال بعض الحكماء: إذا أردت الصواب فانظر هواك فخالفه.
وقال الفضيل: أفضل الأعمال مخالفة الهوى وقال أبو عمران الميرتلي:
فخالف هواها واعصها إن من يطع هوى نفسه تنزع به شر منزع
ومن يطع النفس اللجوجة ترده وترم به في مصرع أي مصرع
إلى غير ذلك. وقد قارب أن يكون قبح موافقة الهوى وحسن مخالفته ضروريين إلّا أن السالم من الموافقة قليل قال سهل: لا يسلم من الهوى إلّا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وبعض الصديقين فطوبى لمن سلم منه. فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى له لا غيرها، والظاهر أن هذا التفصيل عام في أهل النار وأهل الجنة.
وعن ابن عباس أن الآيتين نزلتا في أبي عزير بن عمير وأخيه مصعب بن عمير رضي الله تعالى عنه كان الأول طاغيا مؤثر الحياة الدنيا وكان مصعب خائفا مقام ربه ناهيا النفس عن الهوى وقد وقى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بنفسه يوم أحد حين تفرق الناس عنه حتى نفذت المشاقص أي السهام في جوفه فلما رآه عليه الصلاة والسلام متشحطا في دمه قال: «عند الله تعالى احتسبك» وقال لأصحابه: «لقد رأيته وعليه بردان ما تعرف قيمتهما وإن شراك نعله من ذهب ولما أسر أخوه أبو عزيز ولم يشد وثاقه إكراما له وأخبر بذلك قال: ما هو لي بأخ شدوا أسيركم فإن أمه أكثر أهل البطحاء حليا ومالا.
وفي الكشاف أنه قتل أخاه أبا عزيز يوم أحد وعن ابن عباس أيضا أنهما نزلتا في أبي جهل وفي مصعب وقيل نزلت الأولى في النضر وابنه الحارث المشهورين بالغلو في الكفر والطغيان.
يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها أي متى إرساؤها أي إقامتها يريدون متى يقيمها الله تعالى ويكونها ويثبتها، فالمرسى مصدر ميمي من سار بمعنى ثبت ومنه الجبال الرواسي وحاصل الجملة الاستفهامية السؤال عن زمان ثبوتها ووجودها، وجوز أن يكون المرسى بمعنى المنتهى أي متى منتهاها ومستقرها كما أن مرسى السفينة حيث تنتهي إليه وتستقر فيه كذا قيل. وتقدير الاستفهام بمتى يقتضي أن المرسى اسم زمان وقوله: كما أن إلخ ظاهر في أنه اسم مكان ولذا قيل الكلام على الاستعارة يجعل اليوم المتباعد فيه كشخص سائر لا يدرك ويوصل إليه ما لم يستقر في مكان فجعل الظاهر على ما قيل. وقوله تعالى كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها إما تقرير وتأكيد لما ينبىء عنه الإنذار من سرعة مجيء المنذر به لا سيما على الوجه الثاني والمعنى كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا بعد الإنذار إلّا قليلا، وإما رد لما أدمجوه في سؤالهم فإنهم كانوا يسألون عنها بطريق الاستبطاء مستعجلين بها وإن كان على نهج الاستهزاء بها وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [يونس: ٤٨، النمل: ٧١، سبأ: ٢٩، يس: ٤٨، الملك: ٢٥] والمعنى كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا بعد الوعيد بها إلّا عشية إلخ. وهذا الكلام على ما نقل عن الزمخشري له أصل وهو لم يلبثوا إلّا ساعة من نهار عشيته أو ضحاه فوضع هذا المختصر موضعه وإنما أفادت الإضافة ذلك كما في الكشف من حيث
238
إنك إذا قلت «لم يلبثوا إلّا عشية أو ضحى» احتمل أن تكون العشية من يوم والضحى من آخر فيتوهم الاستمرار من ذلك الزمان إلى مثله من اليوم الآخر، أما إذا قلت عشيته أو ضحاه لم يحتمل ذلك البتة وفي قولك ضحى تلك العشية ما يغني عن قولك عشية ذلك النهار أو ضحاه. وقال الطيبي: إنه من المحتمل أن يراد بالعشية أو الضحى كل اليوم مجازا، فلما أضيف أفاد التأكيد ونفي ذلك الاحتمال وجعله من باب رأيته بعيني وهو حسن ولكن السابق أبعد من التكلف ولا منع من الجمع وزاد الإضافة حسنا كون الكلمة فاصلة واعتبر جمع كون اللبث في الدنيا وبعضهم كونه في القبور وجوز كونه فيهما واحتار في الإرشاد ما قدمنا وقال: إن الذي يقتضيه المقام اعتبار كونه بعد الإنذار أو بعد الوعيد تحقيقا للإنذار وردا لاستبطائهم والجملة على الوجه الأول حال من الموصول كأنه قيل: تنذرهم مشبهين يوم يرونها في الاعتقاد بمن لم يلبث بعد الإنذار بها إلّا تلك المدة اليسيرة، وعلى الثاني مستأنفة لا محل لها من الإعراب، هذا ولا يخفى عليك أن الوجه الثاني وإن كان حسنا في نفسه لكنه مما لا يتبادر إلى الفهم وعليه يحسن الوقف على فِيمَ ثم يستأنف أنت من ذكراها لئلا يلبس وقيل إن قوله تعالى فِيمَ إلخ متصل بسؤالهم على أنه بدل من جملة يسألونك إلخ أو هو بتقدير القول أي يسألونك عن زمان قيام الساعة ويقولون لك في أي مرتبة أَنْتَ مِنْ ذِكْراها أي علمها أي ما مبلغ علمك فيها أو يسألونك عن ذلك قائلين لك في أي مرتبة أنت إلخ. والجواب عليه قوله تعالى إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها ولا يخفى ضعف ذلك.
وأخرج البزار وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه والحاكم وصححه عن عائشة قالت: ما زال رسول الله صلّى الله عليه وسلم يسأل عن الساعة حتى أنزل الله تعالى عليه فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها فانتهى عليه الصلاة والسلام فلم يسأل بعدها
وأخرج النسائي وغيره عن طارق بن شهاب قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يكثر ذكر الساعة حتى نزلت فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها فكف عنها
وعلى هذا فهو تعجيب من كثرة ذكره صلّى الله عليه وسلم لها كأنه قيل في أي شغل واهتمام أنت من ذكرها والسؤال عنها، والمعنى أنهم يسألونك عنها فلحرصك على جوابهم لا تزال تذكرها وتسأل عنها ونظر فيه ابن المنير بأن قوله عز وجل يَسْئَلُونَكَ كأنك وقت إدراكه مستقرا له فتدبر.
وقوله تعالى فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها إنكار ورد لسؤال المشركين عنها أي في أي شيء أنت من أن تذكر لهم وقتها وتعلمهم به حتى يسألوك بيانها كقوله تعالى يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها [الأعراف: ١٨٧] فالاستفهام للإنكار وفِيمَ خبر مقدم وأَنْتَ مبتدأ مؤخر ومِنْ ذِكْراها على تقدير مضاف أي ذكرى وقتها متعلق بما تعلق به الخبر وقيل فِيمَ إنكار لسؤالهم وما بعده استئناف تعليل للإنكار وبيان لبطلان السؤال أي فيم هذا السؤال ثم ابتدئ فقيل أَنْتَ مِنْ ذِكْراها أي إرسالك وأنت خاتم الأنبياء المبعوث في نسم الساعة علامة من علامتها ودليل يدلهم على العلم بوقوعها عن قريب فحسبهم هذه المرتبة من العلم، فمعنى قوله تعالى إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها على هذا الوجه إليه تعالى يرجع منتهى علمها أي علمها بكنهها وتفاصيل أمرها ووقت وقوعها لا إلى أحد غيره سبحانه وإنما وظيفتهم أن يعلموا باقترابها ومشارفتها وقد حصل لهم ذلك بمبعثك فما معنى سؤالهم عنها بعد ذلك؟ وأما على الوجه الأول فمعناه إليه عز وجل انتهاء علمها ليس لأحد منه شيء كائنا ما كان فلأي شيء يسألونك عنها. وقوله تعالى إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها عليه تقرير لما قبل من قوله سبحانه فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها وتحقيق لما هو المراد منه وبيان لوظيفته عليه الصلاة والسلام في ذلك الشأن فإن إنكار كونه صلّى الله عليه وسلم في شيء من ذكراها مما يوهم بظاهره أن
239
ليس له عليه الصلاة والسلام ان يذكرها بوجه من الوجوه فأزيح ذلك ببيان أن المنفي عنه صلّى الله عليه وسلم ذكراها لهم بتعيين وقتها حسبما كانوا يسألونه عنها، فالمعنى إنما أنت منذر من يخشاها ويخاف أهوالها وظيفتك الامتثال بما أمرت به من بيان اقترابها وتفصيل ما فيها من فنون الأهوال كما تحيط به لا معلم بتعيين وقتها الذي لم يفوض إليك فما لهم يسألونك عما لم تبعث له ولم يفوض إليك أمره، وعلى الوجه الثاني هو تقرير لقوله تعالى أَنْتَ مِنْ ذِكْراها ببيان أن إرساله عليه الصلاة والسلام وهو خاتم الأنبياء عليهم السلام منذر بمجيء الساعة كما ينطق به
قوله صلّى الله عليه وسلم: «بعثت أنا والساعة كهاتين إن كادت لتسبقني»
والظاهر على الأول أن القصر من قصر الموصوف على الصفة والمعنى ما أنت إلّا منذر لا معلم بالوقت مبين له. وإنما ذكر صلة المنذر إظهارا لكونها ذات مدخل في القصر لكون الكلام في القصر على منذر خاص ونفي إعلام خاص يقابله وكونه من قصر الصفة على الموصوف بناء على ما يتبادر إلى الفهم من كلام السكاكي أن المعنى إنما أنت منذر الخاشي دون من لا يخشى، أي ما أنت منذر إلّا من يخشى دون غيره مناسب للمقام على أنه قيل عليه إن من يخشى مَنْ صلة مُنْذِرُ ليس من متعلق إنما في شيء ليجعل الجزء الأخير المقصور عليه الإنذار وهذا إن صح استلزم عدم صحة ما قرر لكن في صحته مقال إذ يستلزم أيضا أن لا يصح إنما هو غلام زيد لا عمرو وإنما هو ضارب عمرا لا زيدا مع شهرة استعمال ذلك من غير نكير فتأمل. والظاهر على الثاني أن إِنَّما لمجرد التأكيد زيادة في الاعتناء بشأن الخبر وليست للحصر إذ لا يتعلق به غرض عليه بحسب حَفِيٌّ عَنْها يرده إذ المراد أنك لا تحتفي بالسؤال عنها ولا تهتم بذلك وهم يسألونك كما يسأل الحفي عن الشيء أي الكثير السؤال عنه، وأجيب بأنه يحتمل أنه لم يكن منه صلّى الله عليه وسلم أو لا احتفاه ثم كان وإن سؤالهم هذا ونزول الآية بعد وقوع الاحتفاء وأنت تعلم ما في ذلك من البعد. وقرأ أبو جعفر وشيبة وخالد الحذّاء وابن هرمز وعيسى وطلحة وابن محيصن وابن مقسم وأبو عمرو في رواية «منذر» بالتنوين والإعمال وهو الأصل في مثله بعد اعتبار المشابه والإضافة للتخفيف فلا ينافي أن الأصل في الأسماء عدم الإعمال والإعمال عارض للشبه والوصف عند إعماله وإضافته للتخفيف صالح للحال والاستقبال، وإذا أريد الماضي فليس إلّا الإضافة كقولك: هو منذر زيد أمس وهو هنا على ما قيل للحال لمقارنة «يخشى» ولا ينافي أنه صلّى الله عليه وسلم منذر في الماضي والمستقبل حتى يقال المناسب لحال الرسالة الاستمرار ومثله ويجوز فيه الإعمال وعدمه ثم المراد بالحال حال الحكم لا حال التكلم وفي ذلك كلام في كتب الأصول فلا تغفل والله تعالى أعلم.
240
Icon