ثم تتابع الآيات بعد ذلك بالنذر والصبر، وتعرض أطرافا من أحوال الأمم السابقة مثل قوم نوح، وعاد وثمود، وقوم لوط، وفرعون وملئه، والعذاب الذي حاق بهم. وبين كل قصة وأخرى تنبه الأذهان إلى أن القرآن الكريم ميسّر لمن يطلب العظة والاعتبار.
ثم تنتهي إلى بيان أن كفار مكة ليسوا أقوى ولا أشد من الأمم السابقة، وأنه ليس لهم أمان من العذاب. ثم تُختتم السورة بتهديد المكذبين المعاندين بمصيرهم يوم يُسحبون إلى النار على وجوههم، ويقال لهم :﴿ ذوقوا مسّ سقر ﴾، وتبيّن مآل السعداء المتقين، وأنهم في منازلهم في جنات النعيم. ويظهر الفرق بالمقارنة بين الفجار المعاندين، والمؤمنين المتقين المصدقين :﴿ إن المتقين في جنات ونهر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر ﴾.
ﰡ
وقد روى الإمام أحمد عن سهلِ بن سعد، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :« بُعثتُ أنا والساعةُ هكذا، وأشار بأصبعَيه السبّابةِ والوسطَى ».
وهنا يقول : اقتربت القيامة، وسينشقُّ القمرُ لا محالة. وتشير الأبحاثُ الفلكية إلى أن القمر يدنو من الأرض ويستمرُّ بالدنوّ منها حتى يبلغَ درجةً يتمزقُ عندها ويصير قِطعاً كلّ واحدةٍ تدور في فلكها الخاص. وهذا طبعاً سيحدُث عند انتهاء هذه الحياةِ الدنيا، ولا يعلم وقتَ ذلك إلا الله.
ويقول المفسّرون الأقدمون : إن انشقاق القمر قد حدَث فعلا، ويرون عدة أحاديث أسندوها إلى أنس بن مالك وعبد الله بن عباس، وجبير بن مطعم، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم. ويقول ابن كثير : قد كان هذا في زمان رسول الله كما ورد ذلك في الأحاديث المتواترة بالأسانيد الصحيحة.
والروايةُ عن خمسة من الصحابة فقط فكيف تكون متواترة ؟ واللهُ أعلم.
مستمر : دائم.
لقد كذّب هؤلاء الكفار النبيَّ الكريم، وأعرضوا عن الإيمان به، وقالوا : إنه كاهن وساحر يُرهِب الناسَ بسحره.
مستقر : منتهٍ إلى غاية ينتهي إليها.
بذلك كذّبوا بالحق إذ جاءهم ﴿ واتبعوا أَهْوَآءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ ﴾ فهو منتهٍ إلى غاية يستقر عليها.
إن هذا الكون يا محمد يسير وفق قوانينَ منتظِمة محدّدة مستقرة. وإن أمرك أيها الرسول، سينتهي إلى الاستقرار بالنصر في الدنيا والفوزِ بالجنّة في الآخرة.
ولقد جاء لهؤلاء المكذِّبين من الأخبار عن الماضِين الذين كذّبوا الرسلَ، فهلكوا، ما يردعُهم ويزجُرهم عما هم فيه من الغيِّ والشرك والفساد.
فما تُغني النذر : فما يفيد المنذِرون لمن انصرف عنهم.
وهو ﴿ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِي النذر ﴾. إنه حكمةٌ عظيمة بالغةٌ غايتها في الهداية والإرشاد إلى طريق الحقّ لو أنهم فكّروا واستعملوا عقولهم، ولكن أيّ نفعٍ تفيد النذُر لمن اتَّبع هواه وانصرف عنها ! ؟.
أعرِضْ أيها الرسول، عن هؤلاء الكفار، وانتظِر يومَ يدعو الداعي إلى أمرٍ شديدٍ تنكره النفوس، ولم يروا مثلَه لما فيه من هول وعذاب.
قراءات :
قرأ ابن كثير : نُكْر بضم النون وإسكان الكاف، والباقون : نُكُر بضم النون والكاف.
الأجداث : القبور.
إنه يوم الفزَع الأكبر، يوم تراهم :
﴿ خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجداث كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ ﴾.
يخرجون من قبورهم في حالةِ هلع عظيم، خاشعة أبصارهم من شدة الهول، كأنهم من كثرتهم وسرعة انتشارهم جرادٌ منتشر. كما قال تعالى أيضا :﴿ يَوْمَ يَكُونُ الناس كالفراش المبثوث ﴾ [ القارعة : ٤ ]، فهم في أول أمرِهم يكونون كالفَراش حين يموجون فزِعين لا يهتدون أين يتوجهون، ثم يكونون كالجراد المنتشِر عندما يتوجهون للحشْر.
قراءات :
قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وعاصم : خُشّعاً بضم الخاء وتشديد الشين جمع خاشع. والباقون : خاشعاً أبصارهم على الأفراد.
عسر : صعب شديد الهول.
في ذلك اليوم يخرجون مسرعين إلى الداعي، ينظرون إليه في ذلٍّ وخضوع، لما يرون من الهول حتى ﴿ يَقُولُ الكافرون هذا يَوْمٌ عَسِرٌ ﴾ هذا يوم صعب شديد.
يبيّن الله تعالى هنا أن شأنَ الرسول الكريم مع قومه كشأنِ نوحٍ مع قومه. فبعد أن أخبرَ أنه جاءهم من الأخبار ما فيه زاجرٌ لو تذكّروا، ذَكَر هنا قصة قوم نوح الذين كذّبوا نبيَّهم قديماً قبل قريش، ورمَوه بالجنون ومنعوه من تبليغ رسالته بأنواع الأذى والتخويف.
فدعا نوح ربه : لقد غلبتُ على أمري، فانتقِم منهم بعذابك.
فأخبره الله تعالى أنه أجاب دعاءه فقال :
﴿ فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السمآء بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ ﴾ أي بماء متدفق من السماء،
قراءات :
قرأ ابن عامر ويعقوب : ففتّحنا بتشديد التاء، والباقون : ففتحنا بغير تشديد.
وفجَّر من الأرض عيوناً فالتقى ماءُ السماء بماءِ الأرض وأهلك الكذّابين من قوم نوحٍ بالطوفان ﴿ على أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ﴾ وفق أمرٍ قدَّره الله تعالى.
وحملنا نوحاً ومن معه على سفينة مصنوعة من الخشب والمسامير.
تجري على الماء بحِفظ اللهِ ورعايته، وذلك جزاءً منا لنوحٍ الذي كذّبه قومه ولم يؤمنوا به.
مدّكر : معتبر، متذكر، متعظ.
ثم بين الله تعالى انه أبقى أخبارَ السفينة وإغراقَهم عبرةً لمن بعدهم فقال :
﴿ وَلَقَدْ تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ﴾ فهل يوجَدُ مِن بينِهم من يتّعظ ويعتبر ! !
انظروا كيف كان العذابُ الذي حلّ بهم ما أشدَّه، وما أفظع إنذاري لهم بما أحللته بهم. وقد تقدمت قصة نوح في أكثرَ من سورة وذكر في القرآن في ثلاثةٍ وأربعين موضعا.
ولقد كذّبت عادٌ نبيَّهم هودا ولم يؤمنوا به، فانظُروا يا معشر قريش كيف أنزلتُ بهم عذاباً شديداً.
نحس : شؤم. مستمر : دائم.
ريحاً باردة مدوَّية في يومِ شؤمٍ دائم.
أعجاز نخل : أصول النخل.
منقعِر : منقلع، يقال قعرت النخلة، قلعتُها من أصلها فانقعرت.
تقتلع الناسَ من أماكنهم وترميهم كأنهم أعجازُ نخلٍ قد انقلَع من الأرض.
﴿ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ﴾
لقد أنزلناه سهلاً ميسَّراً ليبيّن للناس العبر والعظات فهل يتعظون ؟.
ثم أردف بقصة ثمود، وكيف كذّبت نبيّهم صالحا.
وكيف تعجبوا من أن يأتيه الوحي والنبوة من بينهم، وفيهم من هو أحقُّ منه، وقالوا :
﴿ إِنَّآ إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ ﴾
لو اتبعنا صالحاً هذا فيما يدعونا إليه لكُنّا ضللنا، وصرنا مجانين.
ثم شتموه بأنه كذاب أشِر.
ثم بين الله تعالى بأنهم :
﴿ سَيَعْلَمُونَ غَداً مَّنِ الكذاب الأشر ﴾
سيعلمون قريباً يوم ينزل بهم العذابُ من هو الكذّاب المنكِر للنعمة، هم أم رسولنا إليهم صالح.
قراءات :
قرأ ابن عامر وحمزة ورويس : ستعلمون بالتاء. والباقون : سيعلمون بالياء.
ثم بين الله لصالح انه مرسلٌ لهم الناقة آيةً، وامتحاناً، فانتظِرْهم يا صالح واصبر على أذاهم
وخبِّرهم أن ورود الماءِ مقسومٌ بينَهم وبين الناقة، ﴿ كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ ﴾ كل نصيب يحضره صاحبه في يومه.
فتعاطى : فاجترأ على هذه الجريمة.
فعقر : فضرب قوائم الناقة بالسيف.
فلم تعجبْهم القِسمة، فدعوا صاحبَهم ( وهو الذي عبَّر الله عنه في سورة الشّمس بقوله تعالى :﴿ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَآ إِذِ انبعث أَشْقَاهَا ﴾ [ الشمس : ١١-١٢ ] ) ليفعل فِعْلته.
﴿ فتعاطى فَعَقَرَ ﴾
فتهيأ لعقر الناقة وضرَب قوائمها بالسيف فعقَرها.
ثم أخذتهم صيحةُ العذاب فكانوا مثلَ الهشيم اليابس الذي يجمعه صاحبُ الحظيرة لماشيته.
السحَر : آخر الليل.
فأرسل الله عليهم ريحاً شديدةً ترميهم بالحصى، ونجّى آل لوط المؤمنين من هذا العذاب في آخر الليل.
فتماروا بالنذر : فشكّوا وجادلوا في الإنذارات.
لقد أنذرهم رسولُهم لوط من عذابِ الله فشكّوا في ذلك وسخِروا منه، بل توعّدوه كما جاء في سورة الشعراء :﴿ قَالُواْ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يا لوط لَتَكُونَنَّ مِنَ المخرجين ﴾ [ الشعراء : ١٦٧ ].
فطمسنا أعينهم : حجبناها عن الإبصار فلم تر شيئا.
ثم طلبوا منه ضيوفَه ليأخذوهم ويفجُروا بهم لَمّا رأوهم على صورة شبابٍ مُرْدٍ حسان، فَطَمَسَ الله أعينَهم وحجَبها عن الإبصار. وذهبَ الملائكةُ بعدَ أن أفهموا لوطاً بأنْ يخرج ليلاً من تلك القرية الظالمة.
مستقر : دائمٌ وثابتٌ مستمر.
وصبَّحَهم عذابٌ مستقر أهلكهم ودمّر بلادَهم.
يسّرناهُ على الأفهام للاتعاظ والتذكُّر من قبل أصحابها.
﴿ فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عِزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ ﴾
لقد أهلكهم الله إهلاك قويّ لا يُغلب، عظيمِ القدرة على ما يشاء. وقد ذُكرت قصة فرعون وموسى بعدد من السور بين مطول ومختصر.
الزُبُر : جمع زبور، وهي الكتب السماوية.
يوجَّه الخطابُ هنا إلى قريشٍ ومن والاهم. أكفاركم يا معشَر قريشٍ، أقوى من تلك الأقوامِ التي ذُكرت، فأنتم لستم بأكثرَ منهم قوة، ولا أوفرَ عددا. وهل عندكم صكٌّ مكتوب فيه براءتكم من العذاب !.
وقد ردّ الله عليهم مقالَهم بأنهم سيُهزمون ويولّون الدبُر. وقد صدق الله وعدَه فهزمهم جميعاً ونصرَ رسولَه الكريم صلى الله عليه وسلّم.
وأمر : أشد مرارة.
ثم بيّن الله أن الهزيمةَ هي عذابُ الدنيا، وأن موعدَهم يومُ القيامة، فيه العذاب الشديد الذي ليس له مثيل، وكل عذابٍ دون جهنمَ بسيط وقليل.
ففي ذلك اليوم يكون المجرمون من المشركين في هلاكٍ وجحيم مستعر.
﴿ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النار على وُجُوهِهِمْ ﴾ ويقال لهم :﴿ ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ ﴾ قاسوا عذابَ جهنم.
ثم بين الله تعالى أن كلّ ما يوجد في هذا الكون يحدُث بقضائه وأمرِه وتقديره على ما تقتضيه حكمته.
كلمح بالبصر : كلمح البصر لشدة سرعته.
وإن أمْرَه ينفَذُ بكلمة ﴿ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [ البقرة : ١١٧ ] بأسرعَ من لمح البصر.
ثم بين لهم أنه أهلكَ أقواماً كثيرا أشباههم فهل يعتبرون ؟
كلّ صغيرٍ وكبير من الأعمال مسجَّل مسطور.
وبعد أن بين مقام الكافرين وما ينتظرهم من عذاب يوم القيامة، ذكر ما ينالُه المتقون من الكرامة عند ربهم في جنّاتٍ وأنهارٍ متعددة.
عند مليكٍ مقتدر : عظيم القدرة.
في مجلسٍ كريم في ضيافةِ الرحمن الرحيم، القويّ العزيز، عظيمِ القدرة جلّ جلاله.