ﰡ
نزولها: مكية باتفاق عدد آياتها: خمس وخمسون آية عدد كلماتها: ثلاثمائة واثنتان وأربعون كلمة عدد حروفها: ألف وأربعمائة وثلاثة وعشرون حرفا.
مناسبتها لما قبلها
فى ختام سورة «ق» جاء قوله تعالى: «أَزِفَتِ الْآزِفَةُ» - منذرا بقرب يوم القيامة، ثم فى بدء سورة القمر قوله: «اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ» - مخبرا عن اقتراب الساعة، منبئا عن الأحداث التي تقع فى هذا اليوم العظيم..
وبهذا تلاقى ختام «ق» وبدء «القمر» على موضوع واحد، هو وقوع يوم القيامة، واقتراب هذا الوقوع، وأن ختام سورة «ق» يقرر هذه الحقيقة، وبدء سورة «القمر» يؤكدها، ويطلع بالإرهاصات التي تقوم بين يديها.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الآيات: (١- ٨) [سورة القمر (٥٤) : الآيات ١ الى ٨]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (١) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (٢) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (٣) وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (٤)حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (٥) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (٦) خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (٧) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ (٨)
قوله تعالى:
«اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ».
هذا خبر، عام، مرسل من غير توكيد، إشارة إلى أنه حقيقة مقررة، لا تحتمل مكابرة، ولا تقبل جدلا..
وقوله تعالى: «اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ» هو مثل قوله تعالى: «أَزِفَتِ الْآزِفَةُ» وقوله سبحانه: «اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ» (١: الأنبياء).
أما قوله تعالى: «وَانْشَقَّ الْقَمَرُ» - فهو أمارة من أمارات هذا اليوم، يوم القيامة.. الذي تتبدل فيه الأرض غير الأرض والسموات.
وفى عطف انشقاق القمر على اقتراب الساعة- إشارة إلى أن هذا الاقتراب قد أصبح لقربه كأنه واقع فعلا، وأن انشقاق القمر هو أول بوادر الوقوع، وكأن الواو هنا، واو المعية أو المصاحبة.. ومعنى انشقاق القمر ظهوره فى ذلك اليوم على حقيقته فى أعين الناس.. فالناس يرونه فى هذه الدنيا صفحة بيضاء بلورية، أشبه بالمرآة الصقيلة.. ولكنهم يوم القيامة يرونه جرما معتما، شبيها بالأرض، تختلف طبيعة سطحه بين سهول، وأودية، وأغوار، ونجود، وجبال..
هكذا القمر فى حقيقته.. كما يقرر ذلك العلم، وكما أثبتته التجربة العملية، حين صعد الإنسان إلى القمر فى هذا العام- عام ألف وثلاثمائة وتسع وثمانين من الهجرة- ومشى عليه كما يمشى على الأرض!! فلم يره إلا جرما معتما كالأرض تماما، طبيعة، وشكلا.
[النبي.. وانشقاق القمر]
ولا بد من وقفة هنا عند قوله تعالى: «وَانْشَقَّ الْقَمَرُ». فلقد كاد يجمع المفسرون على أن انشقاق القمر كان فى عهد الرسول- صلوات الله، وسلامه عليه- وأنه كان آية معجزة، وقعت على يد النبي، وهو فى مكة قبل الهجرة.
يقول القاضي عياض فى تفسير هذه الآية فى كتابه: «الشفا فى التعريف بحقوق المصطفى» :«أخبر الله تعالى بوقوع انشقاق القمر بلفظ الماضي، وإعراض الكفرة عن آياته- أي ما فى انشقاقه من آيات- وأجمع المفسرون وأهل السنة على وقوعه».
وروى البخاري عن ابن مسعود- رضى الله عنه، قال: «انشقّ القمر على عهد رسول الله ﷺ فرقتين، فرقة فوق الجبل، وفرقة دونه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اشهدوا».
وروى مسلم عن أنس، قال: «سأل أهل مكة النبي ﷺ أن يريهم آية فأراهم انشقاق القمر فرقتين حتى رأوا حراء بينهما».
وروى البخاري عن عبد الله بن مسعود- من رواية مسروق عنه- قال:
«انشقّ القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت قريش: هذا سحر
وروى ابن جرير عن ابن عباس، فى قوله تعالى: «اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ» قال: «قد مضى ذلك، كان قبل الهجرة، انشق القمر حتى رأوا شقيه» ويعلق القاضى «عياض» على هذه الأحاديث المروية فى انشقاق القمر، فيقول:
«وأكثر طرق هذه الأحاديث صحيحة، والآية مصرحة، ولا يلتفت إلى اعتراض مخذول بأن لو كان هذا لم يخف على أهل الأرض، إذ هو شىء ظاهر لجميعهم».
ويدفع القاضي «عياض» هذا الاعتراض بقوله: «لم ينقل إلينا عن أهل الأرض أنهم رصدوه تلك الليلة فلم يروه انشق ولو نقل إلينا- أي عدم انشقاقه- عمن لا يجوز تمالؤهم على الكذب لكثرتهم- لما كانت علينا به حجة، إذا ليس القمر فى حد واحد لجميع أهل الأرض، فقد يطلع على قوم قبل أن يطلع على الآخرين، وقد يكون من قوم بضد ما هو من مقابليهم من أقطار الأرض، أو يحول بين قوم وبينه سحاب أو جبال، ولهذا نجد الكسوفات فى بعض البلاد دون بعض، وفى بعضها جزئية، وفى بعضها كلية.. ذلك تقدير العزيز العليم.
هذا هو مجمل ما عند المفسرين فى آية القمر، قد لخصه القاضي عياض، وأيّده وقال مع القائلين، إن القمر قد انشق فى عهد النبي، كمعجزة من معجزاته.!
وإننا نخالف هذا القول بانشقاق القمر فى عهد الرسول، لأمور:
فأولا: لم يكن الرسول الكريم معجزة متحدية، قائمة على الزمن، إلا القرآن الكريم الذي تحدّى به العرب، وأفحمهم، وأقام الحجة عليهم.
وثانيا: لو صحّ أن يكون للنبى معجزات أخرى متحدية غير القرآن، لما كان انشقاق القمر واحدة منها، لأن العرب لم يتحدوه بأن يأتيهم بمعجزة معلقة فى السماء، وإنما كان من تحدّيهم له ما حكاه القرآن عنهم فى قوله تعالى:
«وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا» (٩٠- ٩٢ الإسراء).
وثالثا: لو كان انشقاق القمر معجزة متحدية، لأنذرهم النبي ﷺ بذلك، ولحدّد لهم الليلة، والساعة، حتى يشهدوا ذلك، ليكون حجة عليهم.. ولكن الذي ترويه الآحاديث لا يشير إلى شىء من هذا، ولا يدل على أن قريشا قد رصدت هذه الظاهرة المتحدية. وإنما الذي يفهم من هذه الأحاديث، أن القمر قد انشق فى ليلة ما، وأن النبي وبعض الناس قد رأوه، فقال النبي عندئذ: «اشهدوا!».
ورابعا: خسفت الشمس على عهد الرسول الكريم بالمدينة، وصادف ذلك أن كان يوم موت ابنه إبراهيم، فقال الناس خسفت الشمس لموت إبراهيم!! فدعا الرسول الناس إليه، ثم خطبهم فقال: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا يخسفان لموت أحد، ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكر الله، وإلى الصلاة».
هذا، هو رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، وذلك هو موقفه من الأحداث التي تقع فى الطبيعة.. إنه يصحح المفاهيم الخاطئة التي تقع الناس، من ربط الأحداث التي تقع لهم بالكواكب والنجوم، وأن ما يجرى على الشمس والقمر من خسوف وكسوف، ليس إلا من العوارض التي تعرض لهما فى نظام دورثهما فى الفلك.
وخامسا: إذا كان النبىّ يريد أن يتحدى قومه بمعجزة مادية، يطلب من الله سبحانه وتعالى أن يؤيده بها، فلم يختار انشقاق القمر، وتمزقه قطعا فى السماء؟
أليس الأولى من ذلك أن يريهم أثرا محسوسا بين أيديهم، كأن يفجّر لهم عين ماء، أو أن يشير إلى جبل من الجبال المحيطة بهم فيتحول عن مكانه؟
هذا، وليس فى الإخبار فى القرآن عن انشقاق القمر بلفظ الماضي قرينة على وقوع الفعل، فكما يدل الماضي على حدوث الفعل فعلا، ويخبر عن وقوعه فى الماضي كذلك يعبر بالفعل الماضي عن الأمر الذي سيقع مستقبلا، وذلك لغرض بلاغي، وهو الدلالة على أن هذا الفعل محقق الوقوع لا محالة، وأن
والقرآن الكريم يستخدم هذا الأسلوب كثيرا فى الأمور ذات الخطر، التي يقف كثير من الناس إزاءها موفف الشك والارتياب، فى إصرار وعناد، فلا يلقاهم القرآن حينئذ، اللقاء الذي ينتظرونه فى شأن هذا الأمر الخطير، ولا يجعل لقاءهم معه معلقا بالمستقبل، بل يجذبهم إليه جذبا قويا، فإذا هم فى مواجهة هذا الأمر، وجها لوجه، وقد أصبح خبرا بعد أن وقع!..
يقول سبحانه وتعالى فى شأن البعث: «وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ» (٦٨: الزمر) ويقول سبحانه عن يوم القيامة:
«وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ» (٦٩- ٧٠ الزمر)..
وأكثر ما ورد فى القرآن عن البعث، والحساب والجزاء، قد جاء فى صورة الماضي، الذي وقع فعلا، وعاش فى الناس، وعاش الناس فيه.. وذلك لتحقق وقوع هذه الأحداث..
وعلى هذا، فإن الحديث عن انشقاق القمر بالفعل الماضي، لا تقوم منه حجة على وقوع هذا الانشقاق، بل إنه إذا نظر إليه باعتبار أنه من أحداث يوم القيامة، كان التعبير عنه بالماضي دليلا على أنه مراد به الإخبار عن المستقبل الذي لم يقع..
فإذا نظرنا إلى انشقاق القمر، مع قوله تعالى: «اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ» ومع ما يقع يوم القيامة من تبدل وتحول فى العوالم السفلية والعلوية، رأينا أن انشقاق القمر لا يعدو أن يكون حدثا من الأحداث التي تقع يوم القيامة..
للقمر، ولغيره من العوالم الأخرى.. كما يقول سبحانه عن القمر يوم القيامة
وإنما الذي دعانا إلى هذه الوقفة، هو ما نجد من بعد بعيد بين مفهوم الآية الكريمة، واتساق هذا المفهوم مع موقع الآية فى النظم القرآنى، ومع ما جاء من آيات الكتاب عن يوم القيامة، وما يقع فيه من أحداث- وبين هذا التخريج الذي خرّجت عليه الآية الكريمة، وتوارد عليه المفسرون، قولا واحدا، بأن القمر قد انشق للنبى، وهو فى مكة، تحدّيا لتحدى قومه المكذبين به.. والله أعلم.
قوله تعالى:
«وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ».
هو معطوف على قوله تعالى: «اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ» أي وإن ير هؤلاء المشركون آية يعرضوا عنها، ويقولوا سحر مستمر..
فهذه كلها أخبار عن حال واقعة، هى اقتراب الساعة، وانشقاق القمر، وإصرار المشركين على التكذيب برسول الله واتهامه بالسحر، كلما جاءهم بآية من آيات الله..
فقالوا: «إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ».. وقالوا: «سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ» أي متصل، يشبه بعضه بعضا، ويلتقى لا حقه مع سابقه.. أو هو سحر مستمر، من المرّة وهى القوة، أي قوى محكم.. كما قال فرعون عن موسى وعصاه: «إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ» (١٠٩: الأعراف)..
فالآية إخبار عن المستقبل، وأن كثيرا من هؤلاء المشركين، لن يؤمنون بالله، بل يموتون على كفرهم، وأنهم كلما استمعوا إلى ما يتلو النبي من آيات الله، قالوا سحر مستمر.
هذا هو موقف المعاندين الضالين من المشركين، فى الوقت الذي تطرقهم فيه الأنباء بأن يوم القيامة قد قرب، بل إن إرهاصاته قد أخذت تظهر فى الوجود..
والآية التي يرونها، هى آيات الله التي تتلى عليهم، وعبر عن سماعها بالرؤية، إشارة إلى أنها من الوضوح، والبيان، بحيث تبدو كأنها حاضر شاخص يرى، لا حديث يسمع.
ويجوز أن تكون الآية هنا آية محسوسة، مما يقترحه المشركون على النبي، وقد أبى الله سبحانه وتعالى أن يجيبهم إلى ما سألوا، لأنهم لن يؤمنوا بأية آية
الأنعام). ويقول سبحانه: «وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ» (١٥: الحجر)..
فهذه آيات محسوسة، لو طلعت عليهم ورأوها رأى العين، لأعرضوا عنها، وكذبوا بها، وقالوا سحر مستمر.
قوله تعالى:
«وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ».
الواو الحال، والجملة بعدها حال من الفاعل فى قوله تعالى «وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا». أي أنهم يقفون هذا الموقف من آيات الله إذا تليت عليهم، والحال أنهم قد كذبوا بها من قبل واتبعوا أهواءهم.. فهذا الذي هم فيه حالا أو مستقبلا مع آيات الله، ليس جديدا عليهم، بل هو داء يعيش معهم إلى أن يجىء أجلهم.
وقوله تعالى: «وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ».. تهديد ووعيد لهؤلاء المشركين، وأن هذا الذي هم فيه من كفر وضلال، له نهاية ينتهى إليها، وقرار يستقر عنده..
وليس لما هم فيه من نهاية، إلا العذاب الأليم فى نار جهنم، وليس لأمرهم هذا من مستقر، إلّا سواء الجحيم.. وهذا مثل قوله تعالى: «لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ» (٦٧: الأنعام).
قوله تعالى:
«وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ».
أي أن هؤلاء المشركين، قد كذبوا، واتبعوا أهواءهم، وقد جاءتهم النذر من بين أيديهم ومن خلفهم، ولفتتهم آيات الله التي يتلوها الرسول عليهم،
قوله تعالى:
«حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ».
«حِكْمَةٌ بالِغَةٌ» بدل من «ما» فى قوله تعالى: «وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ».. فالذى فيه مزدجر، هو حكمة بالغة، يجدها ذوو العقول فى أخبار الماضين، وما حل بأهل الكفر والضلال منهم.
وقوله تعالى: «فَما تُغْنِ النُّذُرُ».. «ما» نافية، أي لا تغنى النذر، ولا تنفع عند من هم فى غفلة ساهون.. وهذا مثل قوله تعالى: «وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ» (١٠١: يونس)..
فهؤلاء الضالون المعاندون من المشركين، لا ينتفون بهذه النذر، ولا يستيقظون من غفلتهم على صوتها المجلجل المدوىّ..
قوله تعالى:
«فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ»..
هو دعوة إلى النبي الكريم أن يدع هؤلاء الضالين، الذين لا تنفع معهم النذر، ولا يزيدهم النور إلا عمى وضلالا.. فليدعهم النبي، حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون..
وقوله تعالى: «يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ».. الداعي، هو نافخ النفخة الثانية فى الصور، وهى نفخة البعث.. كما يقول سبحانه:
والشيء النكر الذي يدعو إليه الداعي، هو هذا البلاء الذي يساق إليه أهل الضلال.. «يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ» (١٣، ١٤: الطور)..
وفى قوله تعالى: «شَيْءٍ نُكُرٍ» مع تجهيل هذا الشيء وتنكيره، ثم وصفه بهذا الوصف الذي يلقى عليه ظلالا كثيفة من السواد- فى هذا إشارة إلى شناعة هذا الشيء، وما يخفى فى أطوائه من أهوال، لا يحيط بها وصف..
والظرف «يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ» متعلق بمحذوف دل عليه سياق النظم، أي فتول عنهم، وانتظر ما يحل بهم يوم يدعو الداعي إلى الحساب والجزاء، وهو يوم عسير على الكافرين غير يسير..
قوله تعالى:
«خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ»..
أي فتول عنهم، وانتظرهم يوم يدعوهم الداعي إلى شىء نكر، فتراهم وقد خشعت أبصارهم، ذلة وانكسارا، كما يقول سبحانه وتعالى:
«وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ» (٤٥: الشورى)..
فقوله تعالى «خشعا» حال من مفعول فعل محذوف، وتقديره تراهم..
وقوله تعالى: «يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ» حال
والأجداث: جمع جدث، وهو القبر الذي يلحد فيه الميت..
وقد أشرنا من قبل إلى دلالة هذا التشبيه، الذي شبّه به الموتى فى خروجهم من أجداثهم يوم البعث «١»..
قوله تعالى:
«مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ»..
هو حال ثالثة من أحوال الناس يوم البعث، أي تراهم فى هذا اليوم مهطعين إلى الداعي، أي مسرعين إليه، مستجيبين لدعوته، منقادين لأمره.. وهو أمر الله، الذي به يبعث الموتى من القبور: كما يقول سبحانه.
«ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ» وقوله تعالى: «يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ» مقولة من مقولات الكافرين حين يلقاهم هذا اليوم.. إذ ما أكثر مقولات الندم والحسرة، التي يتنادون بها فى هذا اليوم.. «يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ».. «يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا»..
الآيات: (٩- ٤٢) [سورة القمر (٥٤) : الآيات ٩ الى ٤٢]
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (٩) فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (١٠) فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (١١) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (١٢) وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (١٣)
تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (١٤) وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٥) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٦) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٧) كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٨)
إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (١٩) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (٢٠) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٢١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٢٢) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (٢٣)
فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٢٤) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (٢٥) سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (٢٦) إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (٢٧) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (٢٨)
فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ (٢٩) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٣٠) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (٣١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٣٢) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (٣٣)
إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (٣٤) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (٣٥) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (٣٦) وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (٣٧) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ (٣٨)
فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (٣٩) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٤٠) وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (٤١) كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (٤٢)
قوله تعالى: «كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ... الآيات» فى هذه الآيات أمور، نود أن نقف عندها، ولكن بعد أن نشرح بعض مفرداتها:
- ازدجر: أي طرد من بين العقلاء، لأنه ليس له إلا الزجر.
- أبواب السماء: مواقع المطر منها.. حيث يبدو المطر المنهمر أيام الطوفان، وكأنه متدفق من فتحات أبواب سدّ عظيم قد احتجز وراءه قدرا كبيرا من الماء..
- والمنهمر: المتدفق فى كثرة..
- فالتقى الماء على أمر قد قدر: أي فالتقى ماء السماء المتدفق من أبوابها، مع ماء الأرض المتفجر من عيونها، فى ميقات معلوم، وبقدر مقدور، لا يزيد، ولا ينقص..
- ذات الألواح: هى السفينة.. والألواح، هى قطع الخشب التي بنيت منها..
- والدسر: ما يمسك هذه الألواح، ويشدّ بعضها إلى بعض..
- لمن كان كفر: أي لمن كان قد كفر به، وكذب فى رسالته..
وهو نوح عليه السلام..
- ريحا صرصرا: أي ريحا عاصفة، شديدة البرد، ذات صرير وزمجرة.
- أعجاز نخل منقعر: أعجاز النخل، قاعدتها التي تقوم عليها، وهى ما بين الساق، والجذر مما على الأرض من النخلة.. والمنقعر: المنقلع من أصوله.
- كذاب أشر: أي كذاب مفضوح الكذب ظاهره، كذاب يريد بكذبه البطر والتعالي على قومه.
- كل شرب محتضر: أي كل شرب لهم، أو للناقة، يحضره صاحبه، من غير عدوان.. كما يقول سبحانه: «لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ» (١٥٥: الشعراء)..
- فنادوا صاحبهم: أي نادى القوم صاحبهم، أي رجلهم الذي أعدوه للعدوان على الناقة. فتعاطى: أي تداول الحديث معهم، فأخذ، وأعطى..
- هشيم المحنظر: أي الحطب الذي يضمه جامعه فى حظيرة، فيشتد يبسه، مع الزمن، ثم يتحول إلى هشيم، هشّ، لا وزن له..
صبحهم بكرة عذاب مستقر: أي وقع بهم العذاب فى بكور الصبح، أي مع مطلع الفجر..
أما هذه الأمور التي نودّ أن نقف عندها من هذه الآيات، فهى:
أولا: مناسبة هذه الآيات لما قبلها..
وفى هذه الآيات، عرض لأحوال جماعات من المكذبين المعاندين فى الأمم السابقة، وقد جاءتهم رسل الله بالبينات، فبهتوهم، وكذبوهم، وتهددوهم بالمساءة والأذى..
فكان أن أخذهم الله بالبلاء فى الدنيا، والعذاب الأليم فى الآخرة..
وفى هذا تهديد للمشركين، وأنهم سيسلكون فى سلك الذين كذبوا رسل الله من قبلهم.. قوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم لوط، وفرعون..
وثانيا: فى أعقاب كل قصة، يجىء قوله تعالى: «وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ».. ولقد تكرر هذا فى قصص قوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم لوط.. فما سرّ هذا؟ ولماذا لم يجىء هذا التعقيب، فى قصة فرعون؟
السرّ فى هذا- والله أعلم- أن هذا التعقيب على كل قصة من تلك القصص، هو دعوة إلى هؤلاء المشركين أن يتدبروا هذه الآيات التي بين أيديهم من كتاب الله.. فهذه الآيات تكشف للناظر فيها، أو المستمع إليها- فى يسر وعن قرب- الدلائل الواضحة الهادية إلى الحق.. ولكن هل من مدّكر من هؤلاء الضالين المعاندين؟ ستكشف الأيام عن جواب هذا السؤال..
أما السرّ فى أنه لم يذكر مع قصة فرعون هذا التعقيب الذي لازم القصص الأربع السابقة، فذلك- والله أعلم- ليصل مشركى قريش بفرعون، وليجعل
وثالثا: تكرر فى هذه الآيات قوله تعالى: «فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ» أربع مرات، كما تكرر قوله تعالى: «وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ» أربع مرات كذلك..
وداعية هذا التكرار، هو التعقيب على هذه الأحداث، بإشارتين؟
الإشارة الأولى، إلى مواقع نقمة الله، وما أخذ به المكذبين برسله من بلاء «فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ»..
والإشارة الثانية، هى دعوة إلى طريق الخلاص والنجاة من نقمة الله وبلائه: «وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ».. فهذا هو طريق النجاة، وهو الاستماع إلى القرآن الكريم، وإلى الإيمان به، والعمل بما يدعو إليه..
فهل من مدّكر؟.
الآيات: (٤٣- ٥٥) [سورة القمر (٥٤) : الآيات ٤٣ الى ٥٥]
أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (٤٣) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (٤٤) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (٤٥) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (٤٦) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٤٧)
يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (٤٨) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (٤٩) وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (٥٠) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٥١) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (٥٢)
وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (٥٣) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (٥٤) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (٥٥)
قوله تعالى:
«أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ»..
كان المتوقع بعد ذكر فرعون، وما أخذه الله به من نكال، أن يجىء هذان التعقيبان: «فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ».. «وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ».. وذلك على نسق النظم الذي جاءت عليه الآيات التي سبقت الحديث عن فرعون، بالحديث عن قوم نوح وعاد وثمود، وقوم لوط- كان هذا هو المتوقع، ولكن جاء قوله تعالى: «أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ» - ليصل- كما قلنا- مشركى قريش، بفرعون، ويجعلهم هذا التعقيب المباشر لقصته امتدادا له، حتى إنهم ليأخذون المكان الذي كان من المتوقع أن يأخذه قوله تعالى: «فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ»..
فقوله تعالى: «أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ» خطاب لمشركى قريش، فى صورة استفهام إنكارى، ينكر عليهم هذه المشاعر الخاطئة التي يعيشون فيها، وهى أنهم لن يؤخذوا بما أخذ به الكافرون المكذبون من قبلهم..
«أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ» ؟ أي فلا تحل بهم النقم كما حلت بأشياعهم من قبل؟..
والزبر: جمع زبور، وهو القطعة من الشيء، والمراد به هنا الكتاب، والمراد بالزبر: كتب الله المنزلة على رسله، إذ كان كلّ منها قطعة من الكتاب الأم.. وهو أم الكتاب، أو القرآن الكريم، الذي جمع ما تفرق فى الكتب السماوية، والذي به كمل دين الله قوله تعالى:
«أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ»..
أم هنا حرف عطف، حيث يجمع هذا السؤل الموجه المشركين، إلى السؤالين السابقين:
«أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ؟ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ؟».
وعدل عن الخطاب إلى الغيبة، استخفافا بشأن هذا الجمع المتحدّى، الذي ملأه العجب والغرور، فلم ير أية قوة تقف له، وتأخذ النصر منه..
والجميع، بمعنى الجمع، وعبر عن الجمع بالجميع، إشارة إلى استطالتهم فى الغرور، وإدلالهم بكثرة جمعهم..
قوله تعالى:
«سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ».
أي إن هذا الجمع المفتون بكثرته، المغرور بقوته، سيهزم ويولى الدبر.. تلك هى آخرة مطافه..
وعدل عن لفظ «الجميع» الذي هو من مقول قول المشركين، إلى لفظ «الجمع» استصغارا لهم، وأنهم جمع لا جميع..
ما كنت أدرى: «من هذا الجمع الذي سيهزم»، حتى كان يوم بدر فرأيت رسول الله ﷺ يثب فى الدرع وهو يتلو قوله تعالى: «سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ» فعلمت تأويلها..
قوله تعالى:
«بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ»..
إضراب على الهزيمة التي ستحل بهؤلاء المشركين، واعتبارها كأن لم تكن، لأنها لا تعدّ شيئا إلى ما ينتظر المشركين من عذاب الله يوم القيامة..
إن هزيمتهم فى الحرب، وإن كانت خزيا يلبسهم، وعارا يتجللهم، وحسرة تملأ قلوبهم- فإنها إلى ما يلقاهم من عذاب الله فى الآخرة، تعدّ عافية، وتحسب رحمة..!!
قوله تعالى:
«إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ».
هو تعقيب على قوله تعالى: «بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ».. أي إن ما يلقى هؤلاء المشركين من عذاب يوم القيامة، هو مما أعد للمجرمين، وهؤلاء المشركون هم رأس من رءوس المجرمين، يردون
إذ يسحبون على وجوههم فى النار، ويدعّون إلى جهنم دعّا- يشيعون من الزبانية الموكلين بسوقهم إلى النار، بتلك الكلمات القاتلة: «ذوقوا مس سقر».. اى انعموا بهذا النعيم، واهنئوا به..
والمس: اللفح، والعذاب الوارد عليهم من جهنم، ومنه قوله تعالى:
«وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ» (٤١: ص).
وسقر: واد من أودية جهنم، ومنزل من منازلها، نعوذ بالله منها، ومن عذاب الله وسخطه.
قوله تعالى:
«إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ» أي إنا خلقنا كل شىء بقدر.. أي بحساب وتقدير..
فما من ذرة فى السماء أو فى الأرض، إلا وهى فى علم الله، وفى تصريف قدرته، وإلا هى آخذة مكانها فى هذا الوجود، كما يأخذ كل عضو فى الجسد مكانه منه..
قوله تعالى:
«وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ».
أي ما أمرنا لشىء إذا أردناه، إلا أن نقول له كن فيكون.. فبكلمة واحدة، يدعى أي أمر، فيجيب فى لمحة كلمح البصر.. وفى هذا إشارة إلى أن الموجودات كلها واقعة فى علم الله، فى كل حال من أحوالها،
قوله تعالى:
«وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ».
هو عودة بهؤلاء المشركين من مشاهد القيامة، وما سيلقاهم هناك من بلاء وضنك- عودة بهم إلى حيث هم فى هذه الدنيا.. فإن تلك هى فرصتهم، إن أرادوا أن يصلحوا ما أفسدوا، وأن يتجنبوا هذا الطريق الذي ينتهى بهم إلى جهنم..
فليعيدوا النظر فى موقفهم هذا، وليتدبروا ما حل بأشياعهم، ومن هم على شاكلتهم من الأمم السابقة، الذين كفروا بآيات الله، وكذبوا رسله، وكيف أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر.. ولكن أين من يتدبر، ويتذكر؟..
والأشياع: جمع شيعة، وشيعة المرء أنصاره، ومن هم على طريقته..
وأهل الضلال جميعا شيعة، وإن لم يجمعهم زمان أو مكان.. لأنهم جميعا على طريق الغواية، والبوار..
ومدّكر: بمعنى متذكر، وفعله ادّكر، الذي أصله إذ دكر، فقلبت الذال دالا وأدغمت فى الدال..
قوله تعالى:
«وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ».
أي كل شىء فعله هؤلاء الضالون وأشياعهم، مسجل عليهم فى الزبر، أي الكتب التي تكتب فيها أعمالهم.. فكل إنسان له كتابه الذي
قوله تعالى:
«وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ».
أي وكل صغير من أعمال الناس وكبيرها مستطر، أي مكتوب فى أسطر، على صفحات هذا الكتاب الذي يعطاه كل إنسان يوم القيامة.
قوله تعالى:
«إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ».
وإذا كانت تلك هى حال الضالين والمكذبين، فى الآخرة، وهى حال تشيب لها الولدان، فإن هناك حالا أخرى، هى حال أهل الإيمان والتقوى، حيث النعيم المقيم، والرضوان العظيم.. إن أهل التقوى فى جنات وأنهار تجرى من تحت هذه الجنات، وإنهم فى منزل كريم عند مليك مقتدر، بيده كل شىء.
وفى وصف المقعد بالصدق، إشارة إلى أنه منزل شريف كريم، شرف الصدق وكرامته، وأنه دائم باق دوام الصدق وبقاءه..
وفى وصف مقعد الصدق بأنه «عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ» أي عند الله المالك لكل شىء، المقتدر على كل شىء- فى هذا الوصف إشارة إلى قرب هؤلاء المتقين من ربهم، وأنهم فى ساحة فضله وإحسانه، فهو قرب رضا ورضوان، وإدناء فضل وإحسان.. جعلنا الله سبحانه من عبادة المقربين المكرمين..
عروس القرآن نزولها: مدينة عدد آياتها: ثمان وسبعون آية
مناسبتها لما قبلها
بين سورة «الرحمن» هذه، والسورة التي قبلها «القمر» - أكثر من مناسبة:
فأولا: ختمت سورة «القمر» بهذه الآية: «إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ، فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ».. ومن صفات المليك المقتدر، الرحمة، لا الجبروت، شأن المالكين المقتدرين، وبهذه الرحمة التي وسعت كل شىء أرسل الرسل يدعون عباده إليه، ويطبّون للآفات والعلل التي أوردتهم موارد الضلال.. فاستجاب كثير منهم، ووجد السلامة والعافية فى هذه الرحمة المرسلة من الله سبحانه على يد رسله.. فكان بدء سورة «الرحمن» بهذا الاسم الكريم موصولا بختام سورة «القمر»، جاعلا منهما سورة واحدة..
وثانيا: النظم الذي جاءت عليه سورة «القمر»، يشابه النظم الذي جاءت عليه سورة «الرحمن»، من حيث تكرار بعض المقاطع مرات متعددة..
فقد كرو فى سورة «القمر» قوله تعالى: «فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ» أربع مرات، وكذلك قوله تعالى: «وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ».. كرر أربع مرات أيضا..
وفى سورة «الرحمن» كرر قوله تعالى «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» إحدى وثلاثين مرة!