تفسير سورة سورة القمر من كتاب كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل
.
لمؤلفه
أبو بكر الحدادي اليمني
.
ﰡ
﴿ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ ﴾ ؛ معناهُ : دنَتِ القيامةُ وحدَثَ عَلَمٌ من أعلامِها، وهو انشقاقُ القمرِ، ﴿ وَإِن يَرَوْاْ آيَةً ﴾ ؛ يعني أهلَ مكَّة علامةً تدلُّهم على وحدانيَّة اللهِ ونُبوَّةِ مُحَمَّد ﷺ، ﴿ يُعْرِضُواْ ﴾ ؛ أي يَجحَدُوا، ﴿ وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ ﴾ ؛ أي شديدٌ قويٌّ من الْمِرَّةِ وهي القوَّةُ.
وقولهُ تعالى :﴿ وَكَذَّبُواْ وَاتَّبَعُواْ أَهْوَآءَهُمْ ﴾ ؛ أي كذبُوا الرُّسُلَ وثَبَتوا على التكذيب وعَمِلُوا بهَوَى أنفُسِهم في عبادةِ الأصنام، ﴿ وَكُلُّ أَمْرٍ ﴾ ؛ بما أخبرَ اللهُ به من الأمُور الماضيةِ والمنتظَرَةِ، ﴿ مُّسْتَقِرٌّ ﴾ ؛ أي ثابتٌ لا تلحقهُ الزيادةُ والنقصان والتغيير والتبديلُ.
وسببُ نزولِ هذه الآياتِ، هو ما رُوي :" أنَّ أهْلَ مَكَّةَ سَأَلُوا رَسُولَ اللهِ ﷺ آيَةً وَهُمْ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حِينَ قَالَ أبُو جَهْلٍ : وَاللآتِ وَالْعُزَّى! لَئِنْ أتَيْتَ آيَةً كَمَا أتَتْ بهِ الرُّسُلُ قَبْلَكَ لَنُوْمِنَنَّ لَكَ، فَقَالَ ﷺ :" وَمَاذا عَلَيْكَ لَوْ حَلَفْتَ باللهِ الْعَظِيمِ ؟ " فَقَالَ : وَرَب هَذِهِ الْكَعْبَةِ لَئِنْ أتَيْتَ بآيَةٍ كَمَا أتَتْ بهِ الرُّسُلُ قَبْلَكَ لآمَنَّا بكَ ".
وقال ابنُ عبَّاس رضي الله عنه :" اجْتَمَعَ الْمُشْرِكُونَ إلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ فَقَالُواْ : إنْ كُنْتَ صَادِقاً فَشُقَّ لَنَا الْقَمَرَ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ ﷺ :" إنْ فَعَلْتُ تُؤْمِنُونَ ؟ " قَالُواْ : نَعَمْ، فَسَأَلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ رَبَّهُ أنْ يُعْطِيَهُ مَا قَالُواْ، فَانْشَقَّ الْقَمَرُ فِرْقَتَيْنِ، فَقَالَ ﷺ :" يَا فُلاَنُ ؛ وَيَا فُلاَنُ ؛ وَيَا فُلاَنٌ : إشْهَدُوا " ".
وعن ابن مسعودٍ قالَ :" أشَارَ إلَى الْقَمَرِ فَانْفَلَقَ فِلْقَتَيْنِ، فَكَانَتْ إحْدَاهُمَا فَوْقَ الْجَبَلِ، وَالأُخْرَى أسْفَلَ مِنَ الْجَبَلِ حَتَّى رَأى الْجَبَلَ بَيْنَ فِلْقَتَي الْقَمَرِ، وَقَالَ :" اشْهَدُوا " فَقَالَ أبُو جَهْلٍ : إنَّ مُحَمَّداً سَحَرَ الْقَمَرَ! ثُمَّ قَالَ أبُو جَهْلٍ لأَصْحَابهِ : ابْعَثُوا بالرُّسُلِ إلَى الْبلاَدِ فَإنْ عَايَنُواْ مِنْ ذلِكَ مَا عَايَنَّا فَهُوَ آيَةٌ، وَإلاَّ فَهُوَ سِحْرٌ. فَبَعَثُواْ الرُّسُلَ إلَى جَمِيعِ الْبلاَدِ، فَإذا النَّاسُ يَتَحَدَّثُونَ بانْشِقَاقِ الْقَمَرِ، فَلَمَّا رَجَعُواْ إلَيْهِمْ وَأخْبَرُوهُمْ بهِ قَالُوا : إنَّ هَذا سَاحِرٌ دَاهِي "
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّنَ الأَنبَآءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ ﴾ ؛ يعني أهلَ مكَّة جاءَهم من أخبار الأُمم المكذِّبة في القرآنِ ما فيه مُنتهَى لهم عمَّا هم فيه من الكُفرِ والفُسوقِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ ﴾ ؛ بدلَ من (مَا) والمعنى : جاءَهم حِكمَةٌ في نِهايَةِ الْحُكْمِ والصَّواب. وَقِيْلَ : المرادُ بالحكمةِ البالغةِ القرآنُ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ ﴾ ؛ ما تُغنِي الرُّسُل صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ عن قومٍ لا يتَدبَّرون ولا يتَفكَّرون في الآية والنُّذر.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ ﴾ ؛ أي أعرِضْ عنهم فليسَ عليكَ إجبارُهم على الدِّين، وإنَّما عليكَ إقامةُ الْحُجَّة وقد بالَغْتَ فيها، وهذه الآيةُ منسوخةٌ بآيةِ القتالِ. وهذا وقفٌ تامٌّ، وقوله تعالى ﴿ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ ﴾ ابتداءُ الكلامِ كلام.
قال مقاتلُ :(أرَادَ بالدَّاعِي إسْرَافِيلَ يَنْفُخُ قَائِماً عَلَى صَخْرَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ) ﴿ إِلَى شَيْءٍ نُّكُرٍ ﴾ ؛ أي إلى أمرٍ فَظِيعٍ لَمْ يرَوا مِثلَهُ فينكرونَهُ استِعظَاماً، وذلك قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِلَى شَيْءٍ نُّكُرٍ ﴾. وقوله تعالى :﴿ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ ﴾ منصوبٌ على معنى واذْكُرْ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ ﴾ ؛ نُصِبَ على الحالِ مِن يخرجُون، وذلك دليلٌ على تقدُّم الحالِ على الفعلِ المتصَرِّف، وكذلك يقالُ : رَاكباً جاءَ زيدٌ كما يقالُ جاء زيد راكباً، وتقديرهُ : ويُخرَجُون من الأجداثِ خُشَّعاً أبصارُهم.
قرأ أبو عمرٍو ويعقوب وحمزةُ والكسائي وخلف :(خَاشِعاً) بالألفِ، وقرأ الباقون :(خُشَّعاً) على الجمعِ. قال الفرَّاءُ :(يَجُوزُ فِي أسْمَاءِ الْفَاعِلِينَ إذا تَقَدَّمَتْ عَلَى الْجَمَاعَةِ التَّوْحِيدُ وَالْجَمْعُ وَالتَّأْنِيثُ، يُقَالُ : مَرَرْتُ بشَبَابٍ حَسَنٍ أوْجُهُهُمْ، وَحِسَانٍ أوْجُهُهُمْ، وحَسَنَةٍ أوْجُهُهُمْ). وفي قراءةِ عبدِالله :(خَاشِعَةً أبْصَارُهُمْ) أي ذليلةً خاضعةً عند رُؤية العذاب.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ ﴾ ؛ أي يَخرُجون عندَ النَّفخةِ من القُبور فَزِعِينَ لا يَهتَدُون إلى شيءٍ، يحولُ بعضُهم إلى بعضٍ مثلَ الجرادِ المنتشرِ. والمعنى : أنَّهم يخرُجون فَزِعين لا جهةَ لأحدٍ منهم فيقصِدُها، والجرادُ لا جهةَ له تكون أبداً مختلفةٌ بعضها فوقَ بعضٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ ﴾ ؛ أي مُنقَلِبينَ إلى صَوتِ إسرافيلَ نَاظِرين مُتحيِّرين مُسرِعين إليه، ﴿ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَـاذَا يَوْمٌ عَسِرٌ ﴾ ؛ أي صَعْبٌ شديدٌ، قال ابنُ عبَّاس :(عَسِرٌ عَلَى الْكَافِرِينَ وَسَهْلٌ يَسِيرٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ). والإهْطَاعُ : الإِسْرَاعُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا ﴾ ؛ أي كذبت قبلَ قومِكَ قومُ نوحٍ كما كذبَكَ قومُك، ونَسَبُوا نوحاً إلى الجنُونِ، كما نسبَكَ قومُكَ إلى الجنون، ﴿ وَقَالُواْ مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ ﴾ ؛ أي فكذبُوا عَبدَنا نُوحاً وقالوا : مجنونٌ وَزَجَرُوهُ عن دُعَائِهم إياهُم إلى الإيمانِ بالشَّتمِ والوعيدِ، فـ﴿ قَالُواْ لَئِنْ لَّمْ تَنْتَهِ يانُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ ﴾[الشعراء : ١١٦].
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ ﴾ ؛ معناهُ : فدَعَا نوحُ ربَّهُ أنِّي مغلوبٌ بينَهم ومقهورٌ، فانتَقِمْ لِي مِمَّن كذبَني، ومعنى قولهِ تعالى ﴿ فَانتَصِرْ ﴾ أي فَانتَقِمْ منهُم لدِينِكَ، وإنما دعَا عليهم بالهلاكِ بعد ما أُذِنَ له في الدُّعاء.
فأجابَ اللهُ دعاءَهُ فقالَ : اللهُ تعالى :﴿ فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السَّمَآءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ ﴾ أي بماءٍ سَيلٍ مُنْصَبٍّ انْصِبَاباً شَديداً لا ينقطعُ، متدفِّقٌ مع كثرةٍ شديدة، قال الكلبيُّ :(إنْصَبَّ أرْبَعِينَ يَوْماً). وقُرئ (فَفَتَّحْنَا) بالتشديدِ على تكثيرِ الفعل، وذكرُ الأبواب في الآية على معنى أنَّ إجراءَ الماءِ كان بمنْزِلة جَرَيانهِ كأنَّهُ فُتِحَ عنه باباً كان مانِعاً له.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُوناً ﴾ ؛ أي شقَّقنا الأرضَ عُيوناً، ﴿ فَالْتَقَى المَآءُ ﴾ ؛ ماءُ السَّماء وماءُ الأرضِ ؛ ﴿ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ﴾ ؛ في اللَّوح المحفوظِ وهو هلاكُ القومِ، وقرأ الحجدري :(فَالْتَقَى الْمَاءَانِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ ﴾ ؛ معناهُ : وحَملنا نُوحاً ومَن آمَنَ معه على سفينةٍ ذاتِ ألواحٍ وهي خشَبَاتُها، ﴿ وَدُسُرٍ ﴾ يعنِي المساميرَ يُشَدُّ بها الألواحُ واحدها دِسَارٌ، والمعنى على سفينةٍ ذات ألواحٍ ومَسامِيرَ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا ﴾ ؛ أي تجرِي بحِفظِنا، ووَحينا وأمرِنا حتى لا يقعَ فيها شيءٌ من الماءِ وتتكسَّرُ ولا تغرَقُ، وقوله تعالى :﴿ جَزَآءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ ﴾ ؛ أي فعَلنا ذلك مِن إنجائهِ وإغراقِهم ثَواباً لِمَن كُفِرَ به وجُحِدَ أمرهُ، وهو نوحُ عليه السلام كفرَهُ قومهُ وجَحَدُوا به، وقرأ مجاهدُ (جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كَفَرَ) بفتحِ الكافِ والفاء، يعني كان الغرقُ جَزاءً لِمَن كفرَ باللهِ وكذبَ رسولَهُ.
قولهُ تعالى :﴿ وَلَقَدْ تَّرَكْنَاهَا آيَةً ﴾ ؛ يعني ترَكنا هذه الفعلةَ، ويقالُ : السفينةُ التي يصنَعُها الناسُ على مثالِ سفينة نُوحٍ عليه السلام علامةٌ للناسِ ليَعتَبروا ويستَدِلُّوا بها على توحيدِ الله، ﴿ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ﴾ ؛ فهل من مُتَّعظٍ مُعتَبرٍ متدَبرٍ متفَكِّرٍ يعلمُ أنَّ ذلك حقٌّ فيعتبرُ.
قًوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ ﴾ ؛ معناهُ : فَانظُرْ يا مُحَمَّدُ كيف كان عُقوبَتي فيمَن أنذرَهم الرسلُ فلم يُؤمنوا، وهذا استفهامٌ ومعناهُ : التعظيمُ لذلكَ العذاب، وهذا تخويفٌ لِمُشرِكي مكَّة.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ ﴾ ؛ أي سهَّلنَاهُ للحِفْظِ والقراءةِ والكتابة، وقال سعيدُ بن جُبير :(لَيْسَ كِتَابٌ مِنْ كُتُب اللهِ يُقْرَأُ كُلُّهُ ظَاهِراً إلاَّ الْقُرْآنُ)، وقولهُ تعالى :﴿ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ﴾ ؛ أي فهَلْ ذاكِرٌ يذكرهُ وقَارئٌ يقرؤهُ، ومعناه : الحثُّ على قراءةِ القرآن ودَرسهِ وتعلُّمهِ، ولولا تسهيلُ اللهِ علينا ذلك لم يستطِعْ أحدٌ أن يَلْفِظَ بهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً ﴾ ؛ أي باردةٍ شَديدَةِ البردِ وشديدةِ الْهُبُوب، ﴿ فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ ﴾ ؛ أي يومٍ مَشْؤُومٍ عليهم، دائمِ الشُّؤمِ، رُوي : أنه كان يومَ الأربعاءِ الذي في آخرِ الشَّهر لا يدورُ. ويقال : معنى قولهِ ﴿ مُّسْتَمِرٍّ ﴾ استمرَّ بهم العذابُ إلى نار جهنَّم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ ﴾ ؛ أي تَقلَعُ الناسَ من الأرضِ من تحتِ أقدامِهم، ثم تَرمِي بهم على رُؤوسِهم فتدقُّ رقابَهم وتقطعُ أعناقَهم، فتُبقِي أجسادَهم كأنَّها أعجازُ نخلٍ مُقَطَّعٍ.
ويقالُ في معنى ﴿ تَنزِعُ النَّاسَ ﴾ لأنَّهم ضُرِبُوا بأرجُلِهم في الأرضِ فغَيَّبوها إلى قريبٍ مِن رُكوبهم وقالوا : قُل للرِّيحِ حتى يرفَعنا، فجُعلت الريحُ تدخلُ تحتَ أقدامِهم وترفعُ كلَّ اثنين وتضرِبُ بأحَدِهما إلى الآخرِ في الهواء، ثم تُلقِِيهما في الوادِي، والباقون ينظُرون إليهم حتى رفَعتهم كُلَّهم وصيَّرتْهم في الأرضِ ﴿ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ ﴾ أي سَاقِطٍ، ثم رَمَت بالتُّراب عليهم، فكان يُسمَعُ أنِينُهم من تحتِ التُّراب.
يقالُ : قَعَرَ النَّخلةَ إذا قلَعتَها من أصلِها حتى تسقُطَ، شبَّهَهم في طُولِهم حين صرَعتهم الريحُ وكَبَّتْهُم على وُجوهِهم بالنَّخلة الساقطةِ على الأرضِ التي ليس لها رُؤوس، وذلك أنَّ الريح قَلعَتْ رُؤوسَهم أوَّلاً ثم كبَّتهم على وُجوهِهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ﴾ ؛ إنما كرَّرَهُ لأنه ذكر في كلِّ فَصلٍ نَوعاً من الإنذار والتَّعذيب، انعقدَ التذكيرُ شيء شيء منه على التفصيلِ.
قال ابنُ الأنبَاريِّ :(وَسُئِلَ الْمُبَرِّدُ عَنْ ألْفِ مَسْأَلَةٍ هَذِهِ مِنْ جُمْلَتِهَا : وَهُوَ أنَّ السَّائِلَ قَالَ لَهُ : مَا الْفَرْقُ بَيْنَ قَوْلِهِ﴿ جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ ﴾[يونس : ٢٢] وَقَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً ﴾[الأنبياء : ٨١]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ ﴾[القمر : ٢٠] و﴿ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ ﴾[الحاقة : ٧]، فَقَالَ : كُلُّ مَا وَرَدَ عَلَيْكَ مِنْ هَذا الْبَاب فَلَكَ أنْ تَرُدَّهُ إلَى اللَّفْظِ تَذْكِيراً، وََلَكَ أنْ تَرُدَّهُ إلَى الْمَعْنَى تَأْنِيثاً).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ ﴾ ؛ أي بالإنذار الذي جاءَهم به صالِحُ عليه السلام، ﴿ فَقَالُواْ أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ ﴾ ؛ أي هو آدَمِيٌّ مِثلُنا وهو واحدٌ فلا نكون له تَبعاً، ﴿ إِنَّآ إِذاً ﴾ ؛ إنْ فعَلنا ذلك، ﴿ لَّفِي ضَلاَلٍ ﴾ ؛ وذهابٍ عن الحقِّ، ﴿ وَسُعُرٍ ﴾ ؛ أي وشقاءٍ وشدَّةِ عذابٍ مما يُلزِمُنا من طاعتهِ، وقال عطاءُ :(مَعْنَى قَوْلِهِ ﴿ وَسُعُرٍ ﴾ أيْ وَجُنُونٍ، مِنْ قَوْلِهِمْ : نَاقَةٌ مَسْعُورَةٌ ؛ إذا كَانَ بهَا جُنُونٌ مِنَ النَّشَاطِ، وَهُوَ مِنْ سُعُرِ النَّار إذا الْتَهَبَتْ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَءُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا ﴾ ؛ أنْكَروا أنْ يكون الوحيُ يأْتِيهِ، فقالوا : كيف خُصَّ مِن بيننا بالنُّبوَّة والوحيِ، ﴿ بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ ﴾ ؛ فيما يقولُ، ﴿ أَشِرٌ ﴾ أي بَطِرٌ متَكَبرٌ يريدُ أن يتكبَّرَ علينا بالنبوَّةِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى :﴿ سَيَعْلَمُونَ غَداً ﴾ ؛ حين ينْزِلُ بهم العذابُ، يعني يومَ القيامةِ، ﴿ مَّنِ الْكَذَّابُ الأَشِرُ ﴾ ؛ أهُمْ أمْ صَالِحُ؟.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّا مُرْسِلُواْ النَّاقَةِ فِتْنَةً لَّهُمْ ﴾ ؛ أي إنَّا مُخرِجو الناقةِ من الصَّخرة تَشديداً عليهم في التكليفِ، وذلك أنَّهم تَعَنَّتُوا صَالحاً فسأَلُوا أن يُخرِجَ لَهم من صخرةٍ حمراءَ عشراءَ، وقوله :﴿ فَارْتَقِبْهُمْ ﴾ ؛ أي فانتظِرْهم ما هم صَانِعون، ﴿ وَاصْطَبِرْ ﴾ ؛ على أذاهُم ولا تَعْجَلْ حتى يَأْتِيَهُمْ أمرِي.
قوله :﴿ وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَآءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ ﴾ أي أخبرهُم أنَّ الماءَ مقسومٌ بين الناقةِ ووَلَدِها وبينهم وبين مَواشِيهم، يومٌ لَهُما ويومٌ لَهم. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ ﴾ ؛ أي كلٍّ منهم يحضرُ نَوبَتَهُ، فتحضرُ الناقةُ وولدُها يومَ نَوبَتِهما، ويحضرُ القومُ يومَ نَوبَتهم. والشِّرْبٌ : نصيبٌ من الماءِ، والشُّرْبُ - بضم الشِّين - : فعلُ الشَّارب.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَنَادَوْاْ صَاحِبَهُمْ ﴾ ؛ أي نادَوا قُدَارَ بنَ سَالِفٍ عَاقِرَ الناقةِ، ﴿ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ ﴾ وذلكَ أنَّهم لَمَّا مكَثُوا قسمةَ الماء زَماناً، ثم ضاقَ عليهم الأمرُ على مواشِيهم بسبب الناقة، غلبَ عليهم الشَّقاءُ، وتوَطَأَ طائفةٌ منهم على قَتلِها، فنادَوا صاحبَهم الذي كَمَنَ لهما.
وذلك أنه رمَاها رجُلٌ منهم يقالُ له : مصدع بن دَهْرٍ بسَهمٍ فضَرَبَها على سَاقِها، فنادَوا قُدَارَ بن سالف، وقالوا له : دونَكَ الناقةُ قد مرَّتْ بكَ فاضرِبْها، فتعاطَى قُدارُ عقرَ الناقةِ، فعقَرَها بأنْ ضربَ ساقَها الأُخرى فسَقطَتْ على جَنبها، وقطَّعُوا لَحمَها وقسَموهُ، فعاقبَهم اللهُ بصيحةٍ فأَهلَكَهم وهو قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُواْ كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ ﴾ ؛ قال عطاءُ :(يُرِيدُ صَيْحَةَ جِبْرِيلَ عليه السلام أسْمَعَهُمُ الله إيَّاهَا فَهَلَكُواْ، وَصَارُواْ كَالْوَرَقِ الْمُتَهَشِّمِ الَّذِي يَجْمَعُهُ صَاحِبُ الْحَضِيرَةِ إذا يَبسَ غَايَةَ الْيُبْسِ، وَتَحَطَّمَ غَايَةَ الانْحِطَامِ).
قال ابنُ عبَّاس :(هُوَ رَجُلٌ يَجْعَلُ الْغَنَمَةَ حَظِيرَةً بالشَّجَرِ وَالشَّوْكِ لِيَحْرُسَهَا مِنَ السِّبَاعِ، فَمَا سَقَطَ مِنْ وَرَقِ ذلِكَ الشَّجَرِ وَيَبسَ، وَدَاسَتْهُ الْغَنَمُ وَتَحَطَّمَ وهَوَ الْهَشِيمُ). وقال ابنُ زيدٍ :(الْهَشِيمُ هُوَ الشَّجْرُ الْبَالِي الَّذِي تَهَشَّمَ حَتَّى ذرَّتْهُ الرِّيحُ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي كُلَّ شَيْءٍ كَانَ رَطِباً فَيَبسَ فَهُوَ هَشِيمٌ) ﴿ وَلَقَد يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ * إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً ﴾ ؛ أي ريحاً تَرمِيهم بالْحَصْبَاءِ، والحصباءُ : هي الحجارةُ التي هي دُونَ مِلْءِ الكَفِّ، قال ابنُ عبَّاس :(يُرِيدُ مَا صُبُّوا بهِ مِنَ السَّمَاءِ مِنَ الْحِجَارَةِ)، وقولهُ تعالى :﴿ إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ ﴾ ؛ يعنِي بنْتَيْهِ وزَوجتَهُ المؤمنةُ، نَجَّاهم اللهُ من العذاب، ﴿ نِّعْمَةً مِّنْ عِندِنَا ﴾ ؛ بأَنْ أمَرَهم بالخروجِ في وقت السَّحَر، وكانت نَجَاتُهم نعمةً من اللهِ عليهم، ﴿ كَذَلِكَ نَجْزِي مَن شَكَرَ ﴾ ؛ وكذلك يَجزِي اللهُ كُلَّ مَن عرفَ إنعَامَهُ وقابلَهُ بالشُّكرِ.
قَوْلُهُ تعَالَى :﴿ وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا ﴾ ؛ أي خوَّفَهم لوطُ عذابَنا، ﴿ فَتَمَارَوْاْ بِالنُّذُرِ ﴾ ؛ فشَكُّوا في الإنذار ؛ أي فتَدافَعوا بالْحِجَاجِ البَاطِلِ، ويقالُ : جادلوهُ في أمرِ الرِّسالةِ ولم يُصدِّقوهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ ﴾ ؛ أي طلَبُوا أن يُسَلِّمَ إليهم أضيافَهُ وهم الملائكةُ قَصْداً منهم إلى عمَلِهم الخبيث، فأمرَ اللهُ جبريلَ أن يَصْفِقَ بجناحهِ فأعمَاهُم فبَقوا حَيارَى، ومعنى :﴿ فَطَمَسْنَآ أَعْيُنَهُمْ ﴾ ؛ أي أعمَينَاهُمْ وصيَّرناهم كسائرِ الوجهِ لا يُرَى له شَقٌّ، فكانوا عُمياناً متحيِّرين لا يهتدون إلى الباب، فقيل لَهم :﴿ فَذُوقُواْ عَذَابِي وَنُذُرِ ﴾ ؛ يقال : فلانٌ مَطمُوسُ البصَرِ إذا كان موضعُ عَينَيه أملسَ، لا أثرَ به للعَينِ من الْجَفْنِ والْحَدَقَةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً ﴾ ؛ أي أتَاهم العذابُ صَباحاً، يعني أخَذهم عند الصُّبحِ، ﴿ عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ ﴾ ؛ عذابٌ دَائِمٌ متَّصِلٌ بعذاب الآخرةِ، قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَذُوقُواْ عَذَابِي وَنُذُرِ * وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُدَّكِرٍ ﴾ ؛ قد مضَى تفسيرهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَقَدْ جَآءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ ﴾ ؛ قِيْلَ : إنَّ المرادَ بالنُّذُر : موسَى عليه السلام وهارون، وأسماءُ الجمعِ يطلَقُ على الاثنين. وَقِيْلَ : أرادَ به الآياتِ التي فيها الإنذارُ، وَقِيْلَ : المواعظُ : قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ ﴾ ؛ أي فأخذنَاهم بالعذاب، ﴿ أَخْذَ عِزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ ﴾ ؛ غالبٍ في انتقامه، متقدرٍ قادرٍ على إهلاكِهم، والعزيزُ القويُّ الذي لا يلحقهُ ضَعْفٌ ولا عجزٌ، ولا يعتَريهِ منعٌ ولا دفعٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَئِكُمْ ﴾ ؛ معناهُ : أكُفَّارُكم يا أهلَ مكَّة أشدُّ وأقوَى من أُولَئِكُمْ الذين قصَصنا ذِكرَهم، وهذا استفهامٌ ومعناهُ الإنكارُ ؛ أي لَيسُوا أقوَى من قوم نوح وعادٍ وثَمود. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَمْ لَكُم بَرَآءَةٌ فِي الزُّبُرِ ﴾ ؛ معناهُ : ألَكُمْ براءةٌ من العذاب في الكُتب لن يُصيبَكم ما أصابَ الأُمم الخاليةَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ ﴾ ؛ معناهُ : أم يقولون نحنُ جميعٌ واحد ومتَّفِقُون على الانتصار من أعدائنا، ووُحِّدَ المنتصرُ للفظِ الجميع وهو واحدٌ في اللفظِ.
قَالَ اللهُ تَعَالَى :﴿ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ﴾ ؛ أي سيُهزَمُ الجمعُ كفَّارُ مكة يومَ بدرٍ، ويُوَلُّونَ الدُّبُرَ مُنهَزِمِين. ومعنى الآية : أنَّ كفار مكَّة يقولون :﴿ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ ﴾ أي جماعةٌ لا تُضَامُ ولا تُرَامَ، ولا يصُدُّنا أحدٌ بسوءٍ ولاء، ولا أحدٌ يفَرِّقُ جَمعَنا، وكان من حقِّه أن يقولَ : نحنُ جميع منتصرون ؛ إلاَّ أنه تَبعَ رؤوسَ الآيِ. وقوله تعالى :﴿ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ ﴾ قراءةُ الكافَّة بالياءِ على ما لَمْ يُسَمَّ فاعلهُ. وقرأ يعقوبُ بالنون وكسرِ الزاي (الْجَمْعَ) بالنصب.
وإنما وحَّدَ الدًُّبر لأجلِ رُؤوسِ الآي، قال مقاتلُ :(ضَرَبَ أبُو جَهْلٍ فَرَسَهُ يَوْمَ بَدْرٍ وَتََقَدَّمَ الصَّفَّ، وَقَالَ : نَحْنُ نَنْتَصِرُ الْيَوْمَ مِنْ مُحَمَّدٍ وَأصْحَابهِ، فَهَزَمَهُمُ اللهُ تَعَالَى).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ ﴾ ؛ فيه بيانُ ما نزَلَ بهم من القتلِ والأسرِ ببدرٍ لم يكن كَافياً في عُقوبَتهم، بلِ القيامةُ موعِدُهم، والقيامةُ أعظَمُ في الدَّهاءِ وأشَدُّ مَرارةً من القتلِ والأسرِ في الدُّنيا، وكلُّ دَاهِيَةٍ فمعناها الأمرُ الشَّديدُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ ﴾ ؛ أرادَ بالضَّلال الذهابَ عن الصَّواب في الدُّنيا، وبالسُّعُرِ عذابَ النار في العُقبَى.
وقولهُ تعالى :﴿ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ﴾ ؛ يوم تَجُرُّهم الملائكةُ في النار على وُجوهِهم فيقولُ لهم :﴿ ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ ﴾ ؛ وسَقَرُ اسمٌ من أسماءِ دَرَكَاتِ جهنَّم.
قال أبو أُمَامَةَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ :" إنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْقَدَريَّةِ :﴿ إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ * يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ ﴾ ".
وعن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قالت : قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ :" مَجُوسُ هَذِهِ الأُمَّةِ الْقَدَريَّةُ، وَهُمُ الْمُجْرِمُونَ الَّذِينَ سَمَّاهُمُ اللهُ ﴿ إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ ﴾ ".
وعن هشامِ بن حسَّان قالَ : سَمِعْتُ الْحَسَنَ يَقُولُ :(وَاللهِ لَوْ أنَّ قدرياً صَامَ حَتَّى يَصِيرَ كالْجَبَلِ، ثُمَّ صَلَّى حَتَّى يَصِيرَ كَالْوَتَرِ، ثُمَّ أُخِذ ظُلْماً وَزُوراً حَتَّى ذُبحَ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ، لَكَبَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى وَجْهِهِ فِي سَقَرٍ، ثُمَّ قِيلَ لَهُ : ذُقْ مَسَّ سَقَرْ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ﴾ ؛ معناهُ : كلُّ ما خلَقْنا فمَقدورٌ ومكتوبٌ في اللوحِ المحفوظِ قبل وُقوعهِ.
عن رسولِ الله ﷺ أنه قالَ :" إنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ قَدَّرَ الْمَقَادِيرَ وَتَدَبَّرَ التَّقْدِيرَ قَبْلَ أنْ يَخْلُقَ آدَمَ عليه السلام بأَلْفَي عَامٍ " وَقَالَ عليه السلام :" الإيْمَانُ بالْقَدَر يُذْهِبُ الْهَمَّ وَالْحَزَنَ " وانتصبَ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ بفِعلٍ مُضمَرٍ ؛ كأنه قالَ : إنَّا خلَقنَا كلَّ شيءٍ بقَدَرٍ.
وعن عمر رضي الله عنه قالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ :" إذا جَمَعَ اللهُ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، نَادَى مُنَادٍ يَسْمَعُهُ الأَوَّلُونَ وَالآخِرُونَ : أيْنَ خُصَمَاءُ اللهِ ؟ فَتَقُومُ الْقَدَريَّةُ فَيُقَالُ لَهُمْ : ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرٍ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ﴾ ؛ معناهُ : وما أمرُنا بقيامِ السَّاعة أو غيرِ ذلك إلاَّ كلمةً واحدةً لا تُثنَّى كطَرفِ البصرِ، بل هو أسرَعُ، ومعنى اللَّمْحِ : النَّظرُ بالعجَلةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَآ أَشْيَاعَكُمْ ﴾ ؛ معناهُ : ولقد أهلَكنا أشبَاهَكُم ونُظرَاءَكم في الكُفرِ من الأُممِ الماضية، ﴿ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ﴾، هل من مُتَّعِظٍ يتَّعِظُ بهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ ﴾ ؛ ومعناهُ : كلُّ شيءٍ فعَلوهُ وقالوا مِن خيرٍ أو شرٍّ ؛ يعني الأشياعَ ؛ مكتوبٌ في اللَّوحِ المحفوظِ قبلَ أنْ يفعلوهُ، ﴿ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ ﴾ ؛ من الذُّنوب والخلقِ والأعمال، ﴿ مُّسْتَطَرٌ ﴾ ؛ مكتوبٌ على فَاعلهِ قبلَ أنْ يفعلوهُ، تكتبهُ الملائكةُ في ديوانٍ ليَجزِيَهم اللهُ على أفعالِهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ ﴾ ؛ معناهُ : إنَّ الذين يتَّقُونَ الشِّركَ والكبائرَ والفواحشَ في بساتين وأنْهَار جاريةٍ من الماءِ والخمرِ واللَّبن والعسلِ، قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ ﴾ ؛ أي مجلسٍ حَسَنٍ وموضعٍ قرارٍ وأمنٍ من وُقوعِ الحوادثِ، ﴿ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ ﴾ ؛ أي عند مَلِيكٍ قادرٍ على الثَّواب والعقاب، قادرٍ لا يعجزهُ شيءٌ وهو الله عَزَّ وَجَلَّ، ومَقْعَدُ الصِّدقِ هو الجنَّةُ، مدحَ اللهُ المكان بالصِّدقِ، ولا يقعدُ فيه إلاَّ أهلُ الصِّدقِ.
وإنما قال (وَنَهَرٍ) مُوَحِّداً لأجلِ رُؤوسِ الآيِ كقوله تعالى :﴿ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ﴾[القمر : ٤٥]، وقال الضحَّاكُ :(مَعْنَاهُ : فِي فَضَاءٍ وَسِعَةٍ وَنُورٍ وَمِنْهُ النَّهَارُ، وَمِنْ ذلِكَ نَهَرْتُ الْفِضَّةَ إذا وَسَّعْتَهَا)، وقرأ الأعرجُ وطلحة (وَنُهُرٍ) بضمَّتين كأنه جمعُ نَهَارٍ لا ليلٍ.