هذه السورة مكية فيقول الجمهور. وقيل : هي مما نزل يوم بدر. وقال مقاتل : مكية إلا ثلاث آيات، أولها :﴿ أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ ﴾، وآخرها :﴿ أَدْهَى وَأَمَرُّ ﴾. وسبب نزولها أن مشركي قريش قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم : إن كنت صادقاً فشق لنا القمر فرقتين، ووعدوه بالإيمان إن فعل. وكانت ليلة بدر، فسأل ربه، فانشق القمر نصف على الصفا ونصف على قيقعان. فقال أهل مكة : آية سماوية لا يعمل فيها السحر. فقال أبو جهل : اصبروا حتى تأتينا أهل البوادي، فإن أخبروا بانشقاقه فهو صحيح، وإلا فقد سحر محمد أعيننا. فجاءوا فأخبروا بانشقاق القمر، فأعرض أبو جهل وقال :﴿ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ ﴾. وعن ابن عباس : شق القمر شقين، شطرة على السويداء وشطرة على الحديبية. وعنه : انشق القمر بمكة مرتين. وعنه : انفلق فلقتين، فلقة ذهبت وفلقة بقيت.
ومناسبة أول السورة لآخر ما قبلها ظاهرة، قال :﴿ أَزِفَتِ الآزِفَةُ ﴾ قال :﴿ اقتربت الساعة ﴾.
ﰡ
[سورة القمر (٥٤) : الآيات ١ الى ٥٥]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (١) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (٢) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (٣) وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (٤)حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (٥) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (٦) خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (٧) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (٨) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (٩)
فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (١٠) فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (١١) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (١٢) وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (١٣) تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (١٤)
وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٥) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٦) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٧) كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٨) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (١٩)
تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (٢٠) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٢١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٢٢) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (٢٣) فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٢٤)
أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (٢٥) سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (٢٦) إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (٢٧) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (٢٨) فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ (٢٩)
فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٣٠) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (٣١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٣٢) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (٣٣) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (٣٤)
نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (٣٥) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (٣٦) وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (٣٧) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ (٣٨) فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (٣٩)
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٤٠) وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (٤١) كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (٤٢) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (٤٣) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (٤٤)
سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (٤٥) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (٤٦) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٤٧) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (٤٨) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (٤٩)
وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (٥٠) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٥١) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (٥٢) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (٥٣) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (٥٤)
فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (٥٥)
رَاحَ تُمْرِيهِ الصَّبَا ثُمَّ تَنَحَّى | فِيهِ شُؤْبُوبُ جَنُوبٍ مُنْهَمِرٍ |
دَسَرْتُ السَّفِينَةَ، إِذَا شَدَدْتُهَا بِالْمَسَامِيرِ. وَقَالَ اللَّيْثُ وَصَاحِبُ الصِّحَاحِ: الدُّسُرُ: خُيُوطٌ تُشَدُّ
الْعَجُزُ: مُؤَخَّرُ الشَّيْءِ. الْمُنْقَعِرُ: الْمُنْقَلِعُ: مِنْ أَصْلِهِ، قَعَرْتُ الشَّجَرَةَ قَعْرًا: قَلَعْتُهَا مِنْ أَصْلِهَا فَانْقَعَرَتْ، وَالْبِئْرَ: نَزَلْتُ حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى قَعْرِهَا، وَالْإِنَاءَ: شَرِبْتُ مَا فِيهِ حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى قَعْرِهِ، وَأَقْعَرْتُهُ الْبِئْرَ: جَعَلْتُ لَهَا قعرا. الأشر: البطر. وقرأ: أَشِرَ بِالْكَسْرِ يَأْشَرُ أَشَرًا، فَهُوَ أَشِرٌ وَآشِرٌ وَأَشْرَانٌ، وَقَوْمٌ أُشَارَى، مِثْلُ: سَكْرَانٍ وَسُكَارَى. سَقَرُ: عَلَمٌ لِجَهَنَّمَ مُشْتَقٌّ مِنْ سَقَرَتْهُ النَّارُ بِالسِّينِ، وَصَقَرْتُهُ بِالصَّادِ إِذَا لَوَّحْتَهُ. قَالَ ذُو الرُّمَّةِ:
إِذَا دابت الشَّمْسُ اتَّقَى صَقَرَاتِهَا | بِأَفْنَانِ مربوع الصريمة معيل |
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ، وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ، وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ، وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ، حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ، فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ، خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ، مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ، كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ، فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ، فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ، وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ، وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ، تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ، وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ، فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ، وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ.
هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ. وَقِيلَ: هِيَ مِمَّا نَزَلَ يَوْمَ بَدْرٍ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: مَكِّيَّةٌ إِلَّا ثَلَاثَ آيَاتٍ، أَوَّلُهَا: أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ، وَآخِرُهَا: أَدْهى وَأَمَرُّ.
وَسَبَبُ نُزُولِهَا أَنَّ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ قَالُوا لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنْ كُنْتُ صَادِقًا فَشُقَّ لَنَا الْقَمَرَ فِرْقَتَيْنِ، وَوَعَدُوهُ بِالْإِيمَانِ إِنْ فَعَلَ. وَكَانَتْ لَيْلَةَ بَدْرٍ، فَسَأَلَ رَبَّهُ، فَانْشَقَّ الْقَمَرُ نِصْفٌ عَلَى الصَّفَا وَنِصْفٌ عَلَى قَيْقُعَانَ.
فَقَالَ أَهْلُ مَكَّةَ: آيَةٌ سَمَاوِيَّةٌ لَا يُعْمَلُ فِيهَا السِّحْرُ. فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: اصْبِرُوا حَتَّى تَأْتِيَنَا أَهْلُ الْبَوَادِي، فَإِنْ أَخْبَرُوا بِانْشِقَاقِهِ فَهُوَ صَحِيحٌ، وَإِلَّا فَقَدَ سَحَرَ مُحَمَّدٌ أَعْيُنَنَا. فَجَاءُوا فَأَخْبَرُوا بِانْشِقَاقِ الْقَمَرِ، فَأَعْرَضَ أَبُو جَهْلٍ وَقَالَ: سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ.
وَعَنِ ابْنِ عباس: شق القمر باشين، شَطْرَةً عَلَى السُّوَيْدَاءِ وَشَطْرَةً عَلَى الْحُدَيْبِيَةِ. وَعَنْهُ: انْشَقَّ الْقَمَرُ بِمَكَّةَ مَرَّتَيْنِ.
وَعَنْهُ: انْفَلَقَ فِلْقَتَيْنِ، فِلْقَةً ذَهَبَتْ وَفِلْقَةً بَقِيَتْ.
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ. وَمِمَّنْ عَايَنَ انْشِقَاقَ الْقَمَرِ ابْنُ مَسْعُودٍ وَجُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ، وَأَخْبَرَ بِهِ ابْنُ عُمَرَ وَأَنَسٌ وَحُذَيْفَةُ وَابْنُ عَبَّاسٍ.
وَحِينَ أَرَى اللَّهُ النَّاسَ انْشِقَاقَ الْقَمَرِ، قَالَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«اشْهَدُوا»، وَقَالَ الْمُشْرِكُونَ إِذْ ذَاكَ: سَحَرَنَا مُحَمَّدٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: سَحَرَ الْقَمَرَ.
وَالْأُمَّةُ مُجْمِعَةٌ عَلَى خِلَافِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ قَوْلَهُ: وَانْشَقَّ الْقَمَرُ مَعْنَاهُ: أَنَّهُ يَنْشَقُّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيَرُدُّهُ مِنَ الْآيَةِ قَوْلُهُ: وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ. فَلَا يُنَاسِبُ هَذَا الْكَلَامَ أَنْ يَأْتِيَ إِلَّا بَعْدَ ظُهُورِ مَا سَأَلُوهُ مُعَيَّنًا مِنِ انْشِقَاقِ الْقَمَرِ. وَقِيلَ: سَأَلُوا آيَةً فِي الْجُمْلَةِ، فَأَرَاهُمْ هَذِهِ الْآيَةَ السَّمَاوِيَّةَ، وَهِيَ مِنْ أَعْظَمِ الْآيَاتِ، وَذَلِكَ التَّأْثِيرُ فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ. وَقَرَأَ حُذَيْفَةُ:
وَقَدِ انْشَقَّ الْقَمَرُ، أَيِ اقْتَرَبَتْ، وَتَقَدَّمَ مِنْ آيَاتِ اقْتِرَابِهَا انْشِقَاقُ الْقَمَرِ، كَمَا تَقُولُ: أَقْبَلَ الْأَمِيرُ وَقَدْ جَاءَ الْمُبَشِّرُ بِقُدُومِهِ. وَخَطَبَ حُذَيْفَةُ بِالْمَدَائِنِ، ثُمَّ قَالَ: إِلَّا أَنْ السَّاعَةَ قَدِ اقْتَرَبَتْ، وَإِنَّ الْقَمَرَ قَدِ انْشَقَّ عَلَى عَهْدِ نَبِيِّكُمْ، وَلَا الْتِفَاتَ إِلَى قَوْلِ الْحَسَنِ أَنَّ المعنى: إذ جَاءَتِ السَّاعَةُ انْشَقَّ الْقَمَرُ بَعْدَ النَّفْخَةِ الثَّانِيَةِ، وَلَا إِلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ انْشِقَاقَهُ عِبَارَةٌ عَنِ انْشِقَاقِ الظُّلْمَةِ عِنْدَ طُلُوعِهِ فِي أَثْنَائِهَا، فَالْمَعْنَى: ظَهَرَ الْأَمْرُ، فَإِنَّ الْعَرَبَ تَضْرِبُ بِالْقَمَرِ مَثَلًا فِيمَا وَضَحَ، كَمَا يُسَمَّى الصُّبْحُ فَلَقًا عِنْدَ انْفِلَاقِ الظُّلْمَةِ عَنْهُ، وَقَدْ يُعَبَّرُ عَنِ الِانْفِلَاقِ بِالِانْشِقَاقِ. قَالَ النَّابِغَةُ:
فَلَمَّا أَدْبَرُوا وَلَهُمْ دَوِيٌّ | دَعَانَا عِنْدَ شَقِّ الصُّبْحِ دَاعِي |
أَلَا إِنَّمَا الدُّنْيَا لَيَالٍ وَأَعْصُرُ | وَلَيْسَ عَلَى شَيْءٍ قَوِيمٍ بمستمر |
مُسْتَمِرٌّ: مَشْدُودٌ مُوَثَّقٌ مِنْ مَرَائِرِ الْحَبْلِ، أَيْ سِحْرٌ قَدْ أُحْكِمَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
حَتَّى اسْتَمَرَّتْ عَلَى سِرٍّ مَرِيرَتُهُ | صِدْقَ الْعَزِيمَةِ لَا رَيًّا وَلَا ضرعا |
مُسْتَمِرٌّ: يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا، أَيِ اسْتَمَرَّتْ أَفْعَالُهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنَ التَّخَيُّلَاتِ. وَقِيلَ:
مُسْتَمِرٌّ: مَارٌّ مِنَ الْأَرْضِ إِلَى السَّمَاءِ، أَيْ بَلَغَ مِنْ سِحْرِهِ أَنَّهُ سَحَرَ الْقَمَرَ. وَكَذَّبُوا: أَيْ بِالْآيَاتِ وَبِمَنْ جَاءَ بِهَا، أَيْ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ سَحَرَنَا مُحَمَّدٌ. وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ:
أَيْ شَهَوَاتِ أَنْفُسِهِمْ وَمَا يَهْوَوْنَ. وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ، بِكَسْرِ الْقَافِ وَضَمِّ الرَّاءِ: مبتدأ وخبر. قَالَ مُقَاتِلٌ: أَيْ لَهُ غَايَةٌ يَنْتَهِي إِلَيْهَا. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: مُسْتَقِرٌّ لَهُ حَقِيقَةٌ، فَمَا كَانَ فِي الدُّنْيَا فَسَيَظْهَرُ، وَمَا كَانَ فِي الْآخِرَةِ فَسَيُعْرَفُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: مَعْنَاهُ أَنَّ الْخَيْرَ يَسْتَقِرُّ بِأَهْلِ الْخَيْرِ، وَالشَّرَّ بِأَهْلِ الشَّرِّ. وَقِيلَ: يَسْتَقِرُّ الْحَقُّ ظَاهِرًا ثَابِتًا، وَالْبَاطِلُ زَاهِقًا ذَاهِبًا. وَقِيلَ: كُلُّ أَمْرٍ مِنْ أَمْرِهِمْ وَأَمْرِهِ يَسْتَقِرُّ عَلَى خُذْلَانٍ أَوْ نُصْرَةٍ فِي الدُّنْيَا وَسَعَادَةٍ، أَوْ شَقَاوَةٍ فِي الْآخِرَةِ.
وَقَرَأَ شَيْبَةُ: مُسْتَقَرٌّ بِفَتْحِ الْقَافِ، وَرُوِيَتْ عَنْ نَافِعٍ وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَا وَجْهَ لِفَتْحِ الْقَافِ.
انْتَهَى. وَخُرِّجَتْ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ ذُو اسْتِقْرَارٍ، وَزَمَانُ اسْتِقْرَارٍ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: مُسْتَقِرٍّ بِكَسْرِ الْقَافِ وَالرَّاءِ مَعًا صِفَةً لِأَمْرٍ. وَخَرَّجَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ عَلَى أَنْ يَكُونَ وَكُلُّ عَطْفًا عَلَى السَّاعَةِ، أَيِ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ، وَاقْتَرَبَ كُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٍّ يَسْتَقِرُّ وَيَتَبَيَّنُ حَالُهُ، وَهَذَا بَعِيدٌ لِطُولِ الْفَصْلِ بِجُمَلٍ ثَلَاثٍ، وَبَعِيدٌ أَنْ يُوجَدَ مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، نَحْوُ: أَكَلْتُ خُبْزًا وَضَرَبْتُ زَيْدًا، وأن يجيء زَيْدٌ أُكْرِمْهُ وَرَحَلَ إِلَى بَنِي فُلَانٍ وَلَحْمًا، فَيَكُونُ وَلَحْمًا عَطْفًا عَلَى خُبْزًا، بَلْ لَا يُوجَدُ مِثْلُهُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. وَخَرَّجَهُ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ لِكُلِّ، فَهُوَ مَرْفُوعٌ فِي الْأَصْلِ، لَكِنَّهُ جُرَّ لِلْمُجَاوَرَةِ، وَهَذَا لَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّ الْخَفْضَ عَلَى الْجِوَارِ فِي غَايَةِ الشُّذُوذِ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يُعْهَدْ فِي خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ، إِنَّمَا عُهِدَ فِي الصِّفَةِ عَلَى اخْتِلَافِ النُّحَاةِ فِي وُجُودِهِ، وَالْأَسْهَلُ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ مُضْمَرًا لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، وَالتَّقْدِيرُ:
وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ بَالِغُوهُ، لِأَنَّ قَبْلَهُ: وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ: أَيْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ لَهُمْ فِي الْقَدَرِ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ بَالِغُهُ هُمْ. وَقِيلَ: الْخَبَرُ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ، أَيْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ. وَيَكُونُ: وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْمُبْتَدَأِ وَخَبَرِهِ.
وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ: أَيْ مِنَ الْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ فِي الْقُرْآنِ فِي إِهْلَاكِ مَنْ كَذَّبَ الْأَنْبِيَاءَ وَمَا يؤولون إِلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ، مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ: أَيِ ازْدِجَارٌ رَادِعٌ لَهُمْ عَنْ مَا هُمْ فِيهِ،
ثُمَّ سَلَّى رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ أَيْ أَعْرَضَ عَنْهُمْ، فَإِنَّ الْإِنْذَارَ لَا يُجْدِي فِيهِمْ. ثُمَّ ذَكَرَ شَيْئًا مِنْ أَحْوَالِ الْآخِرَةِ وَمَا يؤولون إِلَيْهِ، إِذْ ذَاكَ مُتَعَلِّقٌ بِاقْتِرَابِ السَّاعَةِ، فَقَالَ: يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ، وَالنَّاصِبُ لِيَوْمٍ اذْكُرْ مُضْمَرَةً، قَالَهُ الرُّمَّانِيُّ، أَوْ يَخْرُجُونَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْمَعْنَى: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ إِلَى يَوْمٍ، وَهَذَا ضَعِيفٌ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ وَمِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى. أَمَّا مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ فَحَذْفُ إِلَى، وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى فَإِنَّ تَوَلِّيهِ عَنْهُمْ ليس مغيا بيوم يدع الداع.
وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِقَوْلِهِ: فَما تُغْنِ النُّذُرُ، وَيَكُونَ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ اعْتِرَاضًا، وَأَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِقَوْلِهِ: يَقُولُ الْكافِرُونَ، وَمَنْصُوبًا عَلَى إِضْمَارِ انْتَظِرْ، وَمَنْصُوبًا بِقَوْلِهِ:
فَتَوَلَّ، وَهَذَا ضَعِيفٌ جِدًّا، وَمَنْصُوبًا بِمُسْتَقِرٍّ، وَهُوَ بَعِيدٌ أَيْضًا. وَحُذِفَتِ الْوَاوُ مِنْ يَدْعُ فِي الرَّسْمِ اتِّبَاعًا لِلنُّطْقِ، وَالْيَاءُ مِنَ الدَّاعِ تَخْفِيفًا أُجْرِيَتْ أَلْ مَجْرَى مَا عَاقَبَهَا، وَهُوَ التَّنْوِينُ.
فَكَمَا تُحْذَفُ مَعَهُ حُذِفَتْ معها، والداع هُوَ إِسْرَافِيلُ، أَوْ جِبْرَائِيلُ، أَوْ مَلَكٌ غَيْرُهُمَا مُوَكَّلٌ بِذَلِكَ، أَقْوَالٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: نُكُرٍ بِضَمِّ الْكَافِ، وَهُوَ صِفَةٌ عَلَى فُعُلٍ، وَهُوَ قَلِيلٌ فِي الصِّفَاتِ، وَمِنْهُ رَجُلٌ شُلُلٌ: أَيْ خَفِيفٌ فِي الْحَاجَةِ، وَنَاقَةٌ أُجُدٌ، وَمِشْيَةٌ سُجُحٌ، وَرَوْضَةٌ أُنُفٌ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَابْنُ كَثِيرٍ: وَشِبْلٌ بِإِسْكَانِ الْكَافِ، كَمَا قَالُوا: شُغُلٌ وَشُغْلٌ، وَعُسْرٌ وَعُسُرٌ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَأَبُو قِلَابَةَ وَالْجَحْدَرِيُّ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: نُكِّرَ فِعْلًا مَاضِيًا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، أَيْ جُهِلَ فَنُكِّرَ. وَقَالَ الْخَلِيلُ: النُّكُرُ نَعْتٌ لِلْأَمْرِ الشَّدِيدِ، وَالْوَجَلُ الدَّاهِيَةُ، أَيْ تُنْكِرُهُ النُّفُوسُ لِأَنَّهَا لَمْ تَعْهَدْ مِثْلَهُ، وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. قَالَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ النَّضْرِيُّ:
أَقْدِمْ مَحَاجِ إِنَّهُ يَوْمٌ نُكُرْ | مِثْلِي عَلَى مِثْلِكَ يَحْمِي وَيَكِرْ |
بمطرد لذن صحاح كعربه | وَذِي رَوْنَقٍ عَضْبٍ يَقُدُّ الوانسا |
وَرِجَالٌ حَسَنٌ أَوْجُهُهُمْ | مِنْ أَيَادِ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدِّ |
تَرْمِي الْفِجَاجَ بِهِ الرُّكْبَانُ مُعْتَرِضًا | أَعْنَاقَ بُزَّلِهَا مُرْخًى لَهَا الْجُدْلُ |
سَرِيعًا يَهُونُ الصَّعْبُ عِنْدَ أُولِي النُّهَى | إِذَا بِرَجَاءٍ صَادِقٍ قَابَلُوهُ الْبَأْسَا |
وَقَدْ نَصَّ سِيبَوَيْهِ عَلَى أَنَّ جَمْعَ التَّكْسِيرِ أَكْثَرُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، فَكَيْفَ يَكُونُ أَكْثَرَ، وَيَكُونُ عَلَى تِلْكَ اللُّغَةِ النَّادِرَةِ الْقَلِيلَةِ؟ وَكَذَا قَالَ الْفَرَّاءُ حِينَ ذُكِرَ الْإِفْرَادُ مُذَكَّرًا وَمُؤَنَّثًا وَجَمْعُ التَّكْسِيرِ، قَالَ: لِأَنَّ الصِّفَةَ مَتَى تَقَدَّمَتْ عَلَى الْجَمَاعَةِ جَازَ فِيهَا جَمِيعُ ذَلِكَ، وَالْجَمْعُ مُوَافِقٌ لِلَفْظِهَا، فَكَانَ أَشْبَهَ. انْتَهَى. وَإِنَّمَا يُخَرَّجُ عَلَى تِلْكَ اللُّغَةِ إِذَا كَانَ الْجَمْعُ مَجْمُوعًا بِالْوَاوِ وَالنُّونِ نَحْوَ: مَرَرْتُ بِقَوْمٍ كَرِيمِينَ آبَاؤُهُمْ. وَالزَّمَخْشَرِيُّ قَاسَ جَمْعَ التَّكْسِيرِ عَلَى هَذَا الْجَمْعِ السَّالِمِ، وَهُوَ قِيَاسٌ فَاسِدٌ، ويزده النَّقْلُ عَنِ الْعَرَبِ أَنَّ جَمْعَ التَّكْسِيرِ أَجْوَدُ مِنَ
كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ: جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ أَيْضًا، شَبَّهَهُمْ بِالْجَرَادِ فِي الْكَثْرَةِ وَالتَّمَوُّجِ، وَيُقَالُ: جَاءُوا كَالْجَرَادِ فِي الْجَيْشِ الْكَثِيرِ الْمُتَمَوِّجِ، وَيُقَالُ: كَالذُّبَابِ. وَجَاءَ تَشْبِيهُهُمْ أَيْضًا بِالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ، وَكُلٌّ مِنَ الْجَرَادِ وَالْفَرَاشِ فِي الْخَارِجِينَ يَوْمَ الْحَشْرِ شَبَهٌ مِنْهُمَا. وَقِيلَ:
يَكُونُونَ أَوَّلًا كَالْفَرَاشِ حِينَ يَمُوجُونَ فَزِعِينَ لَا يَهْتَدُونَ أَيْنَ يَتَوَجَّهُونَ، لِأَنَّ الْفَرَاشَ لَا جِهَةَ لَهُ يَقْصِدُهَا، ثُمَّ كَالْجَرَادِ الْمُنْتَشِرِ إِذَا تَوَجَّهُوا إِلَى الْمَحْشَرِ وَالدَّاعِي، فَهُمَا تَشْبِيهَانِ بِاعْتِبَارِ وَقْتَيْنِ، قَالَ مَعْنَاهُ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ. مُهْطِعِينَ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مُسْرِعِينَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ:
بِدِجْلَةَ دَارُهُمْ وَلَقَدْ أَرَاهُمْ | بِدِجْلَةَ مُهْطِعِينَ إِلَى السَّمَاعِ |
فَاتِحِينَ آذَانَهُمْ إِلَى الصَّوْتِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَاظِرِينَ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
تَعَبَّدَنِي نِمْرُ بْنُ سَعْدٍ وَقَدْ أُرَى | وَنِمْرُ بْنُ سَعْدٍ لِي مُطِيعٌ وَمُهْطِعُ |
وَفِي لَفْظِ عَبْدَنَا تَشْرِيفٌ وَخُصُوصِيَّةٌ بِالْعُبُودِيَّةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ «١»، سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ «٢». وَقالُوا مَجْنُونٌ: أَيْ هُوَ مَجْنُونٌ. لَمَّا رَأَوُا الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِهِ قَالُوا: هُوَ مُصَابُ الْجِنِّ، لَمْ يَقْنَعُوا بِتَكْذِيبِهِ حَتَّى نَسَبُوهُ إِلَى الْجُنُونِ، أَيْ يَقُولُ مَا لَا يَقْبَلُهُ عَاقِلٌ، وَذَلِكَ مُبَالَغَةٌ في تكذيبهم.
(٢) سورة الإسراء: ١٧/ ١.
وَقَدْ كَانَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ،
وَمُتَعَلِّقُ فَانْتَصِرْ مَحْذُوفٌ. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ فَانْتَصِرْ لِي مِنْهُمْ بِأَنْ تُهْلِكَهُمْ. وَقِيلَ: فَانْتَصِرْ لِنَفْسِكَ، إِذْ كَذَّبُوا رَسُولَكَ فَوَقَعَتِ الْإِجَابَةُ.
وَلِلْمُتَصَوِّفَةِ قَوْلٌ فِي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ حَكَاهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، يُوقَفُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِهِ.
فَفَتَحْنا: بَيَانٌ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى انْتَصَرَ مِنْهُمْ وَانْتَقَمَ. قِيلَ: وَمِنَ الْعَجَبِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَطْلُبُونَ الْمَطَرَ سِنِينَ، فَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِمَطْلُوبِهِمْ. أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ: جَعَلَ الْمَاءَ كَأَنَّهُ آلَةٌ يُفْتَحُ بِهَا، كَمَا تَقُولُ: فَتَحْتُ الْبَابَ بِالْمِفْتَاحِ، وَكَأَنَّ الْمَاءَ جَاءَ وَفَتَحَ الْبَابَ، فَجَعَلَ الْمَقْصُودَ، وَهُوَ الْمَاءُ، مُقَدَّمًا فِي الْوُجُودِ عَلَى فَتْحِ الْبَابِ الْمُغْلَقِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ لِلْحَالِ، أَيْ مُلْتَبِسَةً بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَالْأَعْرَجُ وَيَعْقُوبُ: فَفَتَّحْنَا مُشَدَّدًا وَالْجُمْهُورُ: مُخَفَّفًا، أَبْوابَ السَّماءِ، هَذَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ مَجَازٌ وَتَشْبِيهٌ، لِأَنَّ الْمَطَرَ كَثَّرَهُ كَأَنَّهُ نَازِلٌ مِنْ أَبْوَابٍ، كَمَا تَقُولُ: فُتِحَتْ أَبْوَابُ الْقِرَبِ، وَجَرَتْ مَزَارِيبُ السَّمَاءِ. وَقَالَ عَلِيٌّ، وَتَبِعَهُ النَّقَّاشُ: يَعْنِي بِالْأَبْوَابِ الْمَجَرَّةَ، وَهِيَ سَرْعُ السَّمَاءِ كَسَرْعِ الْعَيْبَةِ. وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهَا حَقِيقَةٌ فُتِحَتْ فِي السَّمَاءِ أَبْوَابٌ جَرَى مِنْهَا الْمَاءُ، وَمِثْلُهُ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أَبْوَابُ السَّمَاءِ فُتِحَتْ مِنْ غَيْرِ سَحَابٍ، لَمْ تُغْلَقْ أَرْبَعِينَ يَوْمًا. قَالَ السُّدِّيُّ: مُنْهَمِرٍ: أَيْ كَثِيرٍ. قَالَ الشَّاعِرُ:
أَعَيْنَيَّ جُودَا بِالدُّمُوعِ الْهَوَامِرِ | عَلَى خَيْرِ بَادٍ مِنْ معد وحاضر |
وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَالْحَسَنُ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وَالْجَحْدَرِيُّ: الماءان.
وَقَرَأَ الْحَسَنُ أَيْضًا:
الْمَاوَانِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَرَأَ الْحَسَنُ مَاوَانِ، بِقَلْبِ الْهَمْزَةِ وَاوًا، كَقَوْلِهِمْ: عِلْبَاوَانِ.
انْتَهَى. شَبَّهَ الْهَمْزَةَ الَّتِي هِيَ بَدَلٌ مِنْ هَاءٍ فِي الْمَاءِ بهمزة الإلحاق في علبا. وَعَنِ الْحَسَنِ أَيْضًا: الْمَايَانِ، بِقَلْبِ الْهَمْزَةِ يَاءً، وَفِي كِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ شُذُوذٌ. عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ: أَيْ عَلَى حَالَةٍ وَرُتْبَةٍ قَدْ فُصِلَتْ فِي الْأَزَلِ. وَقِيلَ: عَلَى مَقَادِيرَ قَدْ رُتِّبَتْ وَقْتَ الْتِقَائِهِ، فَرُوِيَ أَنَّ مَاءَ الْأَرْضِ كَانَ عَلَى سَبْعَةَ عَشَرَ ذِرَاعًا، وَنَزَلَ مَاءُ السَّمَاءِ عَلَى تَكْمِلَةِ أَرْبَعِينَ ذِرَاعًا. وَقِيلَ:
كَانَ مَاءُ الْأَرْضِ أَكْثَرَ. وَقِيلَ: كَانَا مُتَسَاوِيَيْنِ، نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ قَدْرُ مَا خَرَجَ مِنَ الْأَرْضِ.
وَقِيلَ: عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ: فِي اللَّوْحِ أَنَّهُ يَكُونُ، وَهُوَ هَلَاكُ قَوْمِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالطُّوفَانِ، وَهَذَا هُوَ الرَّاجِحُ، لِأَنَّ كُلَّ قِصَّةٍ ذُكِرَتْ بَعْدَ هَذِهِ الْقِصَّةِ ذَكَرَ اللَّهُ هَلَاكَ مُكَذِّبِي الرُّسُلِ فِيهَا، فَيَكُونُ هَذَا كِنَايَةً عَنْ هَلَاكِ قَوْمِ نُوحٍ، وَلِذَلِكَ ذَكَرَ نَجَاةَ نُوحٍ بَعْدَهَا فِي قَوْلِهِ:
وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ: قُدِّرَ بِشَدِّ الدَّالِ وَالْجُمْهُورُ بِتَخْفِيفِهَا، وَذَاتُ الْأَلْوَاحِ وَالدُّسُرِ هِيَ السَّفِينَةُ الَّتِي أَنْشَأَهَا نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَيُفْهَمُ مِنْ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ أَنَّهَا السَّفِينَةُ، فَهِيَ صِفَةٌ تَقُومُ مَقَامَ الْمَوْصُوفِ وَتَنُوبُ عَنْهُ، وَنَحْوُهُ: قَمِيصِي مَسْرُودَةٌ مِنْ حَدِيدٍ، أَيْ دِرْعٌ، وَهَذَا مِنْ فَصِيحِ الْكَلَامِ وَبَدِيعِهِ. وَلَوْ جَمَعْتَ بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ فِيهِ، لَمْ يَكُنْ بِالْفَصِيحِ وَالدُّسُرُ الْمَسَامِيرُ، قَالَهُ الْجُمْهُورُ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ عَبَّاسٍ: مَقَادِيمُ السَّفِينَةِ لِأَنَّهَا تَدْسُرُ الْمَاءَ، أَيْ تَدْفَعُهُ، وَالدَّسْرُ: الدَّفْعُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ:
بَطْنُ السَّفِينَةِ. وَعَنْهُ أَيْضًا: عَوَارِضُ السَّفِينَةِ. وَعَنْهُ أَيْضًا: أَضْلَاعُ السَّفِينَةِ، تَجْرِي في ذلك الماء المتلقي بِحِفْظٍ مِنَّا وَكِلَاءَةٍ، بِحَيْثُ نَجَا مَنْ كَانَ فِيهَا وَغَرِقَ غَيْرُهُمْ.
وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ: بِأَعْيُنِنا: بِوَحْيِنَا. وَقِيلَ: بِأَمْرِنَا. وَقِيلَ: بِأَوْلِيَائِنَا. يُقَالُ:
فُلَانٌ عَيْنٌ مِنْ عُيُونِ اللَّهِ تَعَالَى: أَيْ وَلِيٌّ مِنْ أَوْلِيَائِهِ. وَقِيلَ: بِأَعْيُنِ الْمَاءِ الَّتِي أَنْبَعْنَاهَا.
لَوْ عُصْرَ مِنْهُ الْبَانُ وَالْمِسْكُ انْعَصَرْ يُرِيدُ: لَوْ عُصِرَ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ رُومَانَ وَقَتَادَةُ وَعِيسَى: كَفَرَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، فَمَنْ يُرَادُ بِهِ قَوْمُ نُوحٍ: أَيْ إِنَّ مَا نَشَأَ مِنْ تَفْتِيحِ أَبْوَابِ السَّمَاءِ بِالْمَاءِ، وَتَفَجُّرِ عُيُونِ الْأَرْضِ، وَالْتِقَاءِ الْمَاءَيْنِ مِنْ غَرَقِ قَوْمِ نُوحٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، كَانَ جَزَاءً لَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ. وَكُفِرَ: خَبَرٌ لِكَانَ، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى وُقُوعِ الْمَاضِي بِغَيْرِ قَدْ خَبَرًا لِكَانَ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ. يَقُولُ: لَا بُدَّ مِنْ قَدْ ظَاهِرَةً أَوْ مُقَدَّرَةً، عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ كَانَ هُنَا زَائِدَةً، أَيْ لِمَنْ كُفِرَ، وَالضَّمِيرُ فِي تَرَكْناها عَائِدٌ عَلَى الْفِعْلَةِ وَالْقِصَّةِ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَالنَّقَّاشُ وَغَيْرُهُمَا:
عَائِدٌ عَلَى السَّفِينَةِ، وَأَنَّهُ تَعَالَى أَبْقَى خَشَبَهَا حَتَّى رَآهُ بَعْضُ أَوَائِلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَقَالَ قَتَادَةُ:
وَكَمْ مِنْ سَفِينَةٍ بَعْدَهَا صَارَتْ رَمَادًا! وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مُدَّكِرٍ، بِإِدْغَامِ الذَّالِ فِي الدَّالِ الْمُبْدَلَةِ مِنْ تَاءِ الِافْتِعَالِ وَقَتَادَةُ: فِيمَا نَقَلَ ابْنُ عَطِيَّةَ بِالذَّالِ، أَدْغَمَهُ بَعْدَ قَلْبِ الثَّانِي إِلَى الْأَوَّلِ. وَقَالَ صَاحِبُ كِتَابِ اللَّوَامِحِ قتادة: فَهَلْ مِنْ مُذَكِّرٍ، فَاعِلٌ مِنَ التَّذْكِيرِ، أَيْ مَنْ يُذَكِّرُ نَفْسَهُ أَوْ غَيْرَهُ بِمَا مَضَى مِنَ الْقِصَصِ. انتهى. وقرىء: مُدْتَكِرٍ عَلَى الْأَصْلِ.
فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ: تَهْوِيلٌ لِمَا حَلَّ بِقَوْمِ نُوحٍ مِنْ الْعَذَابِ وَإِعْظَامٌ لَهُ، إِذْ قَدِ اسْتَأْصَلَ جَمِيعَهُمْ وَقَطَعَ دَابِرَهُمْ، فَلَمْ يَنْسُلْ مِنْهُمْ أَحَدٌ أَيْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ إِنْذَارِي؟
وَالنُّذُرُ: جَمْعُ نَذِيرٍ وَهُوَ الْإِنْذَارُ، وَفِيهِ تَوْقِيفٌ لِقُرَيْشٍ عَلَى مَا حَلَّ بِالْمُكَذِّبِينَ أَمْثَالِهِمْ. وَكَانَ، إِنْ كَانَتْ نَاقِصَةً، كَانَتْ كَيْفَ فِي مَوْضِعِ خَبَرِ كَانَ وَإِنْ كَانَتْ تَامَّةً، كَانَتْ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ. وَالِاسْتِفْهَامُ هُنَا لَا يُرَادُ بِهِ حَقِيقَتُهُ، بَلِ الْمَعْنَى عَلَى التَّذْكِيرِ بِمَا حَلَّ بِهِمْ.
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا: أَيْ سَهَّلْنَا، الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ: أَيْ لِلْإِذْكَارِ وَالِاتِّعَاظِ، لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الْوَعْظِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ. فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: مِنْ مُتَّعِظٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ: فَهَلْ مِنْ
وَقُمْتُ إِلَيْهِ بِاللِّجَامِ مُيَسَّرًا | هُنَالِكَ يَجْزِينِي الَّذِي كُنْتُ أَصْنَعُ |
تَقَدَّمَتْ قِصَّةُ عَادٍ مُطَوَّلَةً وَمُتَوَسِّطَةً، وَهُنَا ذَكَرَهَا تَعَالَى مُوجَزَةً، كَمَا ذَكَرَ قِصَّةُ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُوجَزَةً. وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لِقَوْمِ نُوحٍ عِلْمٌ، ذَكَرَ قَوْمُ مُضَافًا إِلَى نُوحٍ. وَلَمَّا كَانَتْ عَادٌ عَلَمًا لِقَوْمِ هُودٍ، ذَكَرَ الْعَلَمَ، لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الذِّكْرِ مِنَ التَّعْرِيفِ بِالْإِضَافَةِ. وَتَكَرَّرَ التَّهْوِيلُ بِالِاسْتِفْهَامِ قَبْلَ ذِكْرِ مَا حَلَّ بِهِمْ وَبَعْدَهُ، لِغَرَابَةِ مَا عُذِّبُوا بِهِ مِنْ الرِّيحِ، وَانْفِرَادِهِمْ بِهَذَا النَّوْعِ مِنَ الْعَذَابِ، وَلِأَنَّ الِاخْتِصَارَ دَاعِيَةُ الِاعْتِبَارِ وَالتَّدَبُّرِ وَالصَّرْصَرِ الْبَارِدَةِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ وَقَتَادَةُ. وَقِيلَ، الْمُصَوِّتَةُ وَالْجُمْهُورُ: عَلَى إِضَافَةِ يَوْمٍ إِلَى نَحْسٍ، وَسُكُونِ الْحَاءِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: بِتَنْوِينِ يَوْمٍ وَكَسْرِ الْحَاءِ، جَعَلَهُ صِفَةً لِلْيَوْمِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ «١». مُسْتَمِرٍّ، قَالَ قَتَادَةُ: اسْتَمَرَّ بِهِمْ حَتَّى بَلَّغَهُمْ جَهَنَّمَ. وَعَنِ الْحَسَنِ وَالضَّحَّاكِ: كَانَ مَرًّا عَلَيْهِمْ. وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ لَيْسَ يَوْمًا مُعَيَّنًا، بَلْ أُرِيدَ بِهِ الزَّمَانُ وَالْوَقْتُ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فِي وَقْتِ نَحْسٍ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ فِي سُورَةِ
تَنْزِعُ النَّاسَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِلرِّيحِ، وَأَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْهَا، لِأَنَّهَا وُصِفَتْ فَقُرِّبَتْ مِنَ الْمَعْرِفَةِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَنْزِعُ مُسْتَأْنَفًا، وَجَاءَ الظَّاهِرُ مَكَانَ الْمُضْمَرِ لِيَشْمَلَ ذُكُورَهُمْ وَإِنَاثَهُمْ، إِذْ لَوْ عَادَ بِضَمِيرِ الْمَذْكُورِينَ، لَتُوُهِّمَ أَنَّهُ خَاصٌّ بِهِمْ، أَيْ تَقْلَعُهُمْ مِنْ أَمَاكِنِهِمْ. قَالَ مُجَاهِدٌ: يُلْقَى الرَّجُلُ عَلَى رَأْسِهِ، فَتُفَتَّتُ رَأْسُهُ وَعُنُقُهُ وَمَا يَلِي ذَلِكَ مِنْ بَدَنِهِ.
وَقِيلَ: كَانُوا يَصْطَفُّونَ آخِذِي بَعْضِهِمْ بِأَيْدِي بَعْضٍ، وَيَدْخُلُونَ فِي الشِّعَابِ، وَيَحْفِرُونَ الْحُفَرَ فَيَنْدَسُّونَ فِيهَا، فَتَنْزِعُهُمْ وَتَدُقُّ رِقَابَهُمْ. وَالْجُمْلَةُ التَّشْبِيهِيَّةُ حَالٌ مِنَ النَّاسِ، وَهِيَ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: فَتَتْرُكُهُمْ. كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ:
فَالْكَافُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِالْمَحْذُوفِ شَبَّهَهُمْ، بِأَعْجَازِ النَّخْلِ الْمُنْقَعِرِ، إِذْ تَسَاقَطُوا عَلَى الْأَرْضِ أَمْوَاتًا وَهُمْ جُثَثٌ عِظَامٌ طِوَالٌ. وَالْأَعْجَازُ: الْأُصُولُ بِلَا فُرُوعٍ قَدِ انْقَلَعَتْ مِنْ مَغَارِسِهَا. وَقِيلَ: كانت الريح تقطع رؤوسهم، فتبقى أجسادا بلا رؤوس، فَأَشْبَهَتْ أَعْجَازَ النَّخْلِ الَّتِي انْقَلَعَتْ مِنْ مَغْرِسِهَا. وَقَرَأَ أبو نهيك: أعجز على وَزْنِ أَفْعُلٍ، نَحْوُ ضَبُعٍ وَأَضْبُعٍ. وَالنَّخْلُ اسْمُ جِنْسٍ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ، وَإِنَّمَا ذُكِّرَ هُنَا لِمُنَاسَبَةِ الْفَوَاصِلِ، وَأُنِّثَ فِي قَوْلِهِ:
أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ «٣» فِي الْحَاقَّةِ لِمُنَاسَبَةِ الْفَوَاصِلِ أَيْضًا. وَقَرَأَ أَبُو السَّمَّالِ، فِيمَا ذَكَرَ الْهُذَلِيُّ فِي كِتَابِهِ الْكَامِلِ، وَأَبُو عمر والداني: برفعهما. فأبشر: مُبْتَدَأٌ، وَوَاحِدٌ صِفَتُهُ، وَالْخَبَرُ نَتَّبِعُهُ. وَنَقَلَ ابْنُ خَالَوَيْهِ، وَصَاحِبُ اللَّوَامِحِ، وَابْنُ عَطِيَّةَ رَفْعَ أَبَشَرٌ وَنَصْبَ وَاحِدًا عَنْ أَبِي السَّمَّالِ. قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: فَأَمَّا رَفْعُ أَبَشَرٌ فَبِإِضْمَارِ الْخَبَرِ بِتَقْدِيرِ: أَبَشَرٌ مِنَّا يُبْعَثُ إِلَيْنَا، أَوْ يُرْسَلُ، أَوْ نَحْوُهُمَا؟ وَأَمَّا انْتِصَابُ وَاحِدًا فَعَلَى الْحَالِ، إِمَّا مِمَّا قَبْلَهُ بِتَقْدِيرِ: أَبَشَرٌ كَائِنٌ مِنَّا فِي الْحَالِ تُوَحِّدُهُ، وَإِمَّا مِمَّا بَعْدَهُ بِمَعْنَى: نَتَّبِعُهُ فِي تَوَحُّدِهِ، أَوْ فِي انْفِرَادِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَرَفْعُهُ إِمَّا عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ مَبْنِيٍّ لِلْمَفْعُولِ، التَّقْدِيرُ: أَيُنَبَّأُ بَشَرٌ؟ وَإِمَّا عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ فِي قَوْلِهِ: نَتَّبِعُهُ، وَوَاحِدًا عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ حَالٌ إِمَّا مِنَ الضَّمِيرِ فِي نَتَّبِعُهُ، وَإِمَّا مِنَ الْمُقَدَّرِ مَعَ مِنَّا، كَأَنَّهُ يَقُولُ: أَبَشَرٌ كَائِنٌ مِنَّا وَاحِدًا؟ وَفِي هَذَا نَظَرٌ. وَقَوْلُهُمْ ذَلِكَ حَسَدٌ مِنْهُمْ وَاسْتِبْعَادُ أَنْ يَكُونَ نَوْعُ الْبَشَرِ يَفْضُلُ بَعْضُهُ بَعْضًا هَذَا الْفَضْلَ، فَقَالُوا:
(٢) سورة الحاقة: ٦٩/ ٧.
(٣) سورة الحاقة: ٦٩/ ٧.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ أَنْكَرُوا أَنْ يَتَّبِعُوا بَشَرًا مِنْهُمْ وَاحِدًا؟ قُلْتُ: قَالُوا:
أَبَشَرًا إِنْكَارًا؟ لِأَنْ يَتَّبِعُوا مِثْلَهُمْ فِي الْجِنْسِيَّةِ، وَطَلَبُوا أَنْ يَكُونُوا مِنْ جِنْسٍ أَعْلَى مِنْ جِنْسِ الْبَشَرِ، وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَقَالُوا مِنَّا، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مِنْهُمْ، كَانَتِ الْمُمَاثَلَةُ أَقْوَى، وَقَالُوا وَاحِدًا إِنْكَارًا، لِأَنْ تَتَّبِعَ الْأُمَّةُ رَجُلًا وَاحِدًا، وَأَرَادُوا وَاحِدًا مِنْ أَبْنَائِهِمْ لَيْسَ بِأَشْرَفِهِمْ وَلَا أَفْضَلِهِمْ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ. أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا: أَيْ أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ مِنْ بَيْنِنَا؟ وَفِينَا مَنْ هُوَ أَحَقُّ مِنْهُ بِالِاخْتِيَارِ لِلنُّبُوَّةِ. انْتَهَى، وَهُوَ حَسَنٌ، عَلَى أَنَّ فِيهِ تَحْمِيلَ اللَّفْظَ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ. إِنَّا إِذاً: أَيْ إِنِ اتَّبَعْنَاهُ، فَنَحْنُ فِي ضَلَالٍ: أَيْ بُعْدٍ عَنِ الصَّوَابِ وَحَيْرَةٍ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: فِي تِيهٍ. وَقَالَ وَهْبٌ: بُعْدٌ عَنِ الْحَقِّ، وَسُعُرٍ: أَيْ عَذَابٍ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَعَنْهُ وَجُنُونٍ يُقَالُ: نَاقَةٌ مَسْعُورَةٌ إِذَا كَانَتْ تُفْرِطُ فِي سَيْرِهَا كَأَنَّهَا مَجْنُونَةٌ، وَقَالَ الشَّاعِرُ:
كَأَنَّ بِهَا سُعُرًا إِذَا الْعِيسُ هَزَّهَا | زَمِيلٌ وَإِزْجَاءٌ مِنَ السَّيْرِ مُتْعِبُ |
وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لَهُمْ: إِنْ لَمْ تَتَّبِعُونِي، كُنْتُمْ فِي ضَلَالٍ عَنِ الْحَقِّ وَسُعُرٍ: أَيْ نِيرَانٍ، فَعَكَسُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا: إِنِ اتَّبَعْنَاكَ كُنَّا إِذًا كَمَا تَقُولُ.
ثُمَّ زَادُوا فِي الْإِنْكَارِ وَالِاسْتِبْعَادِ فَقَالُوا: أَأُلْقِيَ: أَيْ أَأُنْزِلَ؟ قِيلَ: وَكَأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ الْعَجَلَةَ فِي الْفِعْلِ، وَالْعَرَبُ تَسْتَعْمِلُ هَذَا الْفِعْلَ، وَمِنْهُ: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي «١»، إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا «٢». وَالذِّكْرُ هُنَا: الْوَحْيُ وَالرِّسَالَةُ وَمَا جَاءَهُمْ مِنَ الْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ. ثُمَّ قَالُوا: لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا تَزْعُمُ بَلْ هُوَ الْقُرْآنُ. أَشِرٌ: أَيْ بَطِرٌ، يُرِيدُ الْعُلُوَّ عَلَيْنَا، وَأَنْ يَقْتَادَنَا وَيَتَمَلَّكَ طَاعَتَنَا. وَقَرَأَ قَتَادَةُ وَأَبُو قِلَابَةَ: بَلْ هُوَ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ، بِلَامِ التَّعْرِيفِ فِيهِمَا وَبِفَتْحِ الشِّينِ وَشَدِّ الرَّاءِ، وَكَذَا الْأَشِرُ الْحَرْفُ الثَّانِي. وَقَرَأَ الْحَرْفَ الثَّانِيَ مُجَاهِدٌ، فِيمَا ذَكَرَ صَاحِبُ الْلَوَامِحِ وَأَبُو قَيْسٍ الْأَوْدِيُّ الْأُشُرُ بِثَلَاثِ ضَمَّاتٍ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ. وَيُقَالُ: أَشِرٌ وَأَشُرٌ، كَحَذِرٍ وَحَذُرٍ، فَضَمَّةُ الشِّينِ لُغَةٌ وَضَمُّ الْهَمْزَةِ تَبَعٌ لِضَمَّةِ الشِّينِ. وَحَكَى الْكِسَائِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ: ضَمَّ الشِّينِ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ: هَذَا الْحَرْفَ الْآخِرَ الْأَشِرُ أَفْعَلَ تَفْضِيلٍ، وَإِتْمَامُ خَيْرٍ، وَشَرٍّ فِي أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ قَلِيلٌ. وَحَكَى ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ أَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: هُوَ أَخْيَرُ وَهُوَ أَشَرُّ. قَالَ الراجز.
(٢) سورة المزمل: ٧٣/ ٥. [.....]
وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَالْجُمْهُورُ: سَيَعْلَمُونَ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ
، وَهُوَ مِنْ إِعْلَامِ اللَّهِ تَعَالَى لِصَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَطَلْحَةُ وَابْنُ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشُ: بِتَاءِ الْخِطَابِ: أَيْ قُلْ لَهُمْ يَا صَالِحُ وَعْدًا يُرَادُ بِهِ الزَّمَانُ الْمُسْتَقْبَلُ، لَا الْيَوْمُ الَّذِي يَلِي يَوْمَ خِطَابِهِمْ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ يَوْمَ الْعَذَابِ الْحَالِّ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَأَنْ يَكُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقَالَ الطِّرِمَّاحُ:
أَلَا عَلِّلَانِي قَبْلَ نَوْحِ النَّوَائِحِ | وَقَبْلَ اضْطِرَابِ النَّفْسِ بَيْنَ الْجَوَانِحِ |
وَقَبْلَ غَدٍ يَا لَهْفَ نَفْسِي فِي غَدٍ | إِذَا رَاحَ أَصْحَابِي وَلَسْتُ بِرَائِحِ |
فَلَئِنْ لَقِيتُكَ خَالِيَيْنِ لَتَعْلَمَنَّ | أَنِّي وَأَيُّكَ فَارِسُ الْأَحْزَابِ |
(٢) سورة هود: ١١/ ٩٣.
يُرْوَى أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ صَاحَ فِي طَرَفِ مَنَازِلِهِمْ، فَتَفَتَّتُوا وَهَمَدُوا وَصَارُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ وَهُوَ مَا تَفَتَّتَ وَتَهَضَّمَ مِنَ الشَّجَرِ.
وَالْمُحْتَظِرُ: الَّذِي يَعْمَلُ الْحَظِيرَةَ، فَإِنَّهُ تَتَفَتَّتُ مِنْهُ حَالَةَ الْعَمَلِ وَتَتَسَاقَطُ أَجْزَاءٌ مِمَّا يَعْمَلُ بِهِ، أَوْ يَكُونُ الْهَشِيمُ مَا يَبِسَ مِنَ الْحَظِيرَةِ بِطُولِ الزَّمَانِ، تَطَأُهُ الْبَهَائِمُ فَيَتَهَشَّمُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِكَسْرِ الظَّاءِ وَأَبُو حَيْوَةَ وَأَبُو السَّمَّالِ وَأَبُو رَجَاءٍ وَأَبُو عَمْرٍو بْنُ عُبَيْدٍ: بِفَتْحِهَا، وَهُوَ مَوْضِعُ الِاحْتِظَارِ. وَقِيلَ: هُوَ مَصْدَرٌ، أَيْ كَهَشِيمِ الِاحْتِظَارِ، وَهُوَ مَا تَفَتَّتَ حَالَةَ الِاحْتِظَارِ. وَالْحَظِيرَةُ تَصْنَعُهَا الْعَرَبُ وَأَهْلُ الْبَوَادِي لِلْمَوَاشِي وَالسُّكْنَى مِنَ الْأَغْصَانِ وَالشَّجَرِ الْمُورِقِ وَالْقَصَبِ. وَالْحَظْرُ: الْمَنْعُ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ، أَنَّ الْمُحْتَظِرَ هُوَ الْمُحْتَرِقُ. قَالَ قَتَادَةُ: كَهَشِيمٍ مُحْتَرِقٍ وعن ابن ابْنِ جُبَيْرٍ: هُوَ التُّرَابُ الَّذِي يَسْقُطُ مِنَ الْحَائِطِ الْبَالِي. وَقِيلَ: الْمُحْتَظَرُ بِفَتْحِ الظَّاءِ هُوَ الْهَشِيمُ نَفْسُهُ، فَيَكُونُ مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى صِفَتِهِ، كَمَسْجِدِ الْجَامِعِ عَلَى مَنْ تَأَوَّلَهُ كَذَلِكَ، وَكَانَ هُنَا قِيلَ: بِمَعْنَى صَارَ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ، إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ، نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ، وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ، وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ، وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ، فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ، وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ، وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ، كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ، أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ، أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ، سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ، بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ، إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ، يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ، إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ، وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ، وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ، وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ، وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ، إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ، فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ.
تَقَدَّمَتْ قِصَّةُ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَوْمِهِ. وَالْحَاصِبُ مِنَ الْحَصْبَاءِ، وَهُوَ الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ «٣». إِلَّا آلَ لُوطٍ، قِيلَ: إِلَّا ابْنَتَاهُ،
(٢) سورة الشمس: ٩١/ ١٤.
(٣) سورة الحجرة: ١٥/ ٧٤.
قِيلَ: لَمَّا صَفَقَهُمْ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِجَنَاحِهِ، تَرَكَهُمْ يَتَرَدَّدُونَ لَا يَهْتَدُونَ إِلَى الْبَابِ، حَتَّى أَخْرَجَهُمْ لُوطٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ: هَذِهِ اسْتِعَارَةٌ، وَإِنَّمَا حَجَبَ إِدْرَاكَهُمْ، فَدَخَلُوا الْمَنْزِلَ وَلَمْ يَرَوْا شَيْئًا، فَجُعِلَ ذَلِكَ كَالطَّمْسِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَطَمَسْنَا بِتَخْفِيفِ الْمِيمِ وَابْنُ مِقْسَمٍ: بِتَشْدِيدِهَا. فَذُوقُوا: أَيْ فَقُلْتُ لَهُمْ عَلَى أَلْسِنَةِ الْمَلَائِكَةِ: ذُوقُوا.
وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً: أَيْ أَوَّلَ النَّهَارِ وَبَاكِرَهُ، لِقَوْلِهِ: مُشْرِقِينَ «١» ومُصْبِحِينَ «٢». وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بُكْرَةً بِالتَّنْوِينِ، أَرَادَ بُكْرَةً مِنَ الْبِكْرِ، فَصُرِفَ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: بِغَيْرِ تَنْوِينٍ. عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ: أَيْ لَمْ يَكْشِفْهُ عَنْهُمْ كَاشِفٌ، بَلِ اتَّصَلَ بِمَوْتِهِمْ، ثُمَّ بِمَا بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، ثُمَّ عَذَابِ جَهَنَّمَ. فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ:
تَوْكِيدٌ وَتَوْبِيخٌ ذَلِكَ عِنْدَ الطَّمْسِ، وَهَذَا عِنْدَ تَصْبِيحِ الْعَذَابِ. قِيلَ: وَفَائِدَةُ تَكْرَارِ هَذَا، وَتَكْرَارِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا، التَّجَرُّدُ عِنْدَ اسْتِمَاعِ كُلِّ نَبَأٍ مِنْ أَنْبَاءِ الْأَوَّلِينَ، لِلِاتِّعَاظِ وَاسْتِئْنَافِ التَّيَقُّظِ إِذَا سَمِعُوا الْحَثَّ عَلَى ذَلِكَ لِئَلَّا تَسْتَوْلِيَ عَلَيْهِمُ الْغَفْلَةُ، وَهَكَذَا حُكْمُ التَّكْرِيرِ لِقَوْلِهِ:
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ «٣» عِنْدَ كُلِّ نِعْمَةٍ عَدَّهَا فِي سُورَةِ الرحمن. وقوله: فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ «٤» عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ أَوْرَدَهَا فِي سُورَةِ وَالْمُرْسَلَاتِ، وَكَذَلِكَ تَكْرِيرُ الْقَصَصِ فِي أَنْفُسِهَا، لِتَكُونَ الْعِبْرَةُ حَاضِرَةً لِلْقُلُوبِ، مَذْكُورَةً فِي كُلِّ أَوَانٍ.
وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ: هُمْ مُوسَى وَهَارُونُ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، لِأَنَّهُمَا عَرَضَا عَلَيْهِمْ مَا أَنْذَرَ بِهِ الْمُرْسَلُونَ، أو يكون جمع نذير الْمَصْدَرَ بِمَعْنَى الْإِنْذَارِ. كَذَّبُوا بِآياتِنا
(٢) سورة الحجر: ١٥/ ٦٦- ٨٣، وسورة الصافات: ٣٧/ ١٣٧، وسورة القلم: ٦٨/ ١٧.
(٣) سورة الرحمن: ٥٥/ الآية مكررة.
(٤) سورة المرسلات: ٧٧/ الآية مكررة.
أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ: أَيْ أَلَكُمْ فِي الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ بَرَاءَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ تَعَالَى؟ قَالَهُ الضَّحَّاكُ وَعِكْرِمَةُ وَابْنُ زَيْدٍ.
أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ أَيْ وَاثِقُونَ بِجَمَاعَتِنَا، مُنْتَصِرُونَ بِقُوَّتِنَا، تَقُولُونَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْإِعْجَابِ بِأَنْفُسِكُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَمْ يَقُولُونَ، بِيَاءِ الْغَيْبَةِ الْتِفَاتًا، وَكَذَا مَا بَعْدَهُ لِلْغَائِبِ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ وَمُوسَى الْأَسْوَارِيُّ وَأَبُو الْبَرَهْسَمِ: بِتَاءِ الْخِطَابِ لِلْكُفَّارِ، اتِّبَاعًا لِمَا تَقَدَّمَ من خطابهم. وقرأوا: سَتَهْزِمُ الْجَمْعَ، بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِ الزَّايِ وَفَتْحِ الْعَيْنِ، خِطَابًا لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو حَيْوَةَ أَيْضًا وَيَعْقُوبُ: بِالنُّونِ مَفْتُوحَةً وَكَسْرِ الزَّايِ وَفَتْحِ الْعَيْنِ وَالْجُمْهُورُ: بِالْيَاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَضَمِّ الْعَيْنِ. وَعَنْ أَبِي حَيْوَةَ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ أَيْضًا: بِفَتْحِ الْيَاءِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ وَنَصْبِ الْعَيْنِ: أَيْ سَيَهْزِمُ اللَّهُ الْجَمْعَ. وَالْجُمْهُورُ: وَيُوَلُّونَ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ وَأَبُو حَيْوَةَ وَدَاوُدُ بْنُ أَبِي سَالِمٍ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو: بِتَاءِ الْخِطَابِ. وَالدُّبُرُ هُنَا: اسْمُ جِنْسٍ، وَجَاءَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ «٢»، وَهُوَ الْأَصْلُ، وَحَسَّنَ اسْمَ الْجِنْسِ هُنَا كَوْنُهُ فَاصِلَةً. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ: أَيِ الْأَدْبَارَ، كَمَا قَالَ: كُلُوا فِي بَعْضِ بَطْنِكُمْ تعفوا. وقرىء: الْأَدْبَارَ. انْتَهَى، وَلَيْسَ مِثْلَ بَطْنِكُمْ، لِأَنَّ مَجِيءَ الدُّبُرِ مُفْرَدًا لَيْسَ بِحَسَنٍ، وَلَا يَحْسُنُ لِإِفْرَادِ بَطْنِكُمْ. وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ عِدَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَزِيمَةِ جَمْعِ قُرَيْشٍ وَالْجُمْهُورُ: عَلَى أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ، وَتَلَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَشْهِدًا بِهَا. وَقِيلَ: نَزَلَتْ يَوْمَ بَدْرٍ.
بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ: انْتَقَلَ مِنْ تِلْكَ الْأَقْوَالِ إِلَى أَمْرِ السَّاعَةِ الَّتِي عَذَابُهَا أَشُدُّ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ هَزِيمَةٍ وَقِتَالٍ. وَالسَّاعَةُ أَدْهى: أَيْ أَفْظَعُ وَأَشَدُّ، والداهية الأمر: المنكر
(٢) سورة الحشر: ٥٩/ ١٢.
اسْتِعَارَةٌ لِصُعُوبَةِ الشَّيْءِ عَلَى النَّفْسِ. إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ: أَيْ فِي حَيْرَةٍ وَتَخَبُّطٍ فِي الدُّنْيَا. وَسُعُرٍ: أَيِ احْتِرَاقٍ فِي الْآخِرَةِ، جُعِلُوا فِيهِ مِنْ حَيْثُ مَصِيرُهُمْ إِلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَخُسْرَانٍ وَجُنُونٍ، وَالسُّعُرُ: الْجُنُونُ، وَتَقَدَّمَ مِثْلُهُ فِي قِصَّةِ صَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
يَوْمَ يُسْحَبُونَ: يُجَرُّونَ فِي النَّارِ، وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ: إِلَى النَّارِ. عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا: أَيْ مَقُولًا لَهُمْ: ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ. وَقَرَأَ مَحْبُوبٌ عَنْ أَبِي عَمْرٍو: مَسَّقَرٍ، بِإِدْغَامِ السِّينِ فِي السِّينِ. قَالَ ابْنُ مُجَاهِدٍ: إِدْغَامُهُ خَطَأٌ لِأَنَّهُ مُشَدَّدٌ. انْتَهَى. وَالظَّنُّ بِأَبِي عَمْرٍو أَنَّهُ لَمْ يُدْغِمْ حَتَّى حَذَفَ إِحْدَى السِّينَيْنِ لِاجْتِمَاعِ الْأَمْثَالِ، ثُمَّ أَدْغَمَ.
إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ، قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ: كُلَّ شَيْءٍ بِالنَّصْبِ. وَقَرَأَ أَبُو السَّمَّالِ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَقَوْمٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ: بِالرَّفْعِ. قَالَ أَبُو الْفَتْحِ: هُوَ الْوَجْهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ، وَقِرَاءَتُنَا بِالنَّصْبِ مَعَ الْجَمَاعَةِ. وَقَالَ قَوْمٌ: إِذَا كَانَ الْفِعْلُ يُتَوَهَّمُ فِيهِ الْوَصْفُ، وَأَنَّ مَا بَعْدَهُ يَصْلُحُ لِلْخَبَرِ، وَكَانَ الْمَعْنَى عَلَى أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ هُوَ الْخَبَرَ، اخْتِيرَ النَّصْبُ فِي الِاسْمِ الْأَوَّلِ حَتَّى يَتَّضِحَ أَنَّ الْفِعْلَ لَيْسَ بِوَصْفٍ، وَمِنْهُ هَذَا الْمَوْضِعُ، لِأَنَّ فِي قِرَاءَةِ الرَّفْعِ يُتَخَيَّلُ أَنَّ الْفِعْلَ وَصْفٌ، وَأَنَّ الْخَبَرَ يُقَدَّرُ. فَقَدْ تَنَازَعَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْقَدَرِيَّةُ الِاسْتِدْلَالَ بِهَذِهِ الْآيَةِ. فَأَهْلُ السُّنَّةِ يَقُولُونَ: كُلُّ شَيْءٍ فَهُوَ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ تَعَالَى بِقُدْرَةٍ دَلِيلُهُ قِرَاءَةُ النَّصْبِ، لِأَنَّهُ لَا يُفَسِّرُ فِي مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ إِلَّا مَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا لَوْ وَقَعَ الْأَوَّلُ عَلَى الِابْتِدَاءِ. وَقَالَتِ الْقَدَرِيَّةُ: الْقِرَاءَةُ بِرَفْعِ كُلِّ، وَخَلَقْنَاهُ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِكُلِّ، أَيْ إِنْ أَمْرُنَا أَوْ شَأْنُنَا كُلُّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ فَهُوَ بِقَدَرٍ أَوْ بِمِقْدَارٍ، عَلَى حَدِّ مَا فِي هَيْئَتِهِ وَزَمَنِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كُلَّ شَيْءٍ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ يُفَسِّرُهُ الظَّاهِرُ. وقرىء: كُلُّ شَيْءٍ بِالرَّفْعِ، وَالْقَدَرُ والقدر هو التقدير. وقرىء:
بِهِمَا، أَيْ خَلَقْنَا كُلَّ شَيْءٍ مُقَدَّرًا مُحْكَمًا مُرَتَّبًا عَلَى حَسَبِ مَا اقْتَضَتْهُ الْحِكْمَةُ، أَوْ مُقَدَّرًا مَكْتُوبًا فِي اللَّوْحِ، مَعْلُومًا قَبْلَ كَوْنِهِ قَدْ عَلِمْنَا حَالَهُ وَزَمَانَهُ. انْتَهَى. قِيلَ: وَالْقَدَرُ فِيهِ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْمِقْدَارِ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ. وَالثَّانِي: التَّقْدِيرُ، قَالَ تَعَالَى: فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ «١». وَقَالَ الشَّاعِرُ:
وَمَا قَدَّرَ الرَّحْمَنُ مَا هُوَ قَادِرُ أَيْ مَا هُوَ مَقْدُورٌ. وَالثَّالِثُ: الْقَدَرُ الَّذِي يُقَالُ مَعَ الْقَضَاءِ، يُقَالُ: كَانَ ذَلِكَ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْقَضَاءَ مَا فِي الْعِلْمِ، وَالْقَدَرَ مَا فِي الْإِرَادَةِ، فَالْمَعْنَى في الآية:
أَيِ الْفِرَقَ الْمُتَشَايِعَةَ فِي مَذْهَبٍ وَدِينٍ. وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ: أَيْ فَعَلَتْهُ الْأُمَمُ الْمُكَذِّبَةُ، مَحْفُوظٌ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمٍ الْقِيَامَةِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ وَقَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ. وَمَعْنَى فِي الزُّبُرِ: فِي دَوَاوِينِ الْحَفَظَةِ. وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَمِنْ كُلِّ مَا هُوَ كَائِنٌ، مُسْتَطَرٌ: أَيْ مَسْطُورٌ فِي اللَّوْحِ. يُقَالُ: سَطَّرْتُ وَاسْتَطَرْتُ بِمَعْنًى. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَعِمْرَانُ بْنُ حُدَيْرٍ وَعِصْمَةُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ: بِشَدِّ رَاءِ مُسْتَطَرٌّ. قَالَ صَاحِبُ الَّلَوَامِحِ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ طُرَّ النَّبَاتُ، وَالشَّارِبُ إِذَا ظَهَرَ وَثَبَتَ بِمَعْنَى: كُلُّ شَيْءٍ ظَاهِرٌ فِي اللَّوْحِ مُثْبَتٌ فِيهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الِاسْتِطَارِ، لَكِنْ شَدَّدَ الرَّاءَ لِلْوَقْفِ عَلَى لُغَةِ مَنْ يَقُولُ: جَعْفَرٌّ وَنَفْعَلُّ بِالتَّشْدِيدِ وَقْفًا. انْتَهَى، وَوَزْنُهُ عَلَى التَّوْجِيهِ الْأَوَّلِ اسْتَفْعَلَ، وَعَلَى الثَّانِي افْتَعَلَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَنَهَرٍ عَلَى الْإِفْرَادِ، وَالْهَاءُ مَفْتُوحَةٌ وَالْأَعْرَجُ وَمُجَاهِدٌ وَحُمَيْدٌ وَأَبُو السَّمَالِ وَالْفَيَّاضُ بْنُ غَزَوَانَ: بِسُكُونِهَا، وَالْمُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ، إِنْ أُرِيدَ بِهِ الْأَنْهَارُ، أَوْ يَكُونُ مَعْنَى وَنَهَرٍ: وَسَعَةً فِي الْأَرْزَاقِ وَالْمَنَازِلِ، وَمِنْهُ قَوْلُ قَيْسِ بْنِ الحطيم:
مَلَكْتُ بِهَا كَفِّي فأَنْهَرْتُ فَتْقَهَا | يَرَى قَائِمٌ مِنْ دُونِهَا مَا وَرَاءَهَا |
وَقِيلَ: نُهُرٌ جَمْعُ نَهَارٍ، وَلَا لَيْلَ فِي الْجَنَّةِ، وَهُوَ بَعِيدٌ. فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضِدَّ الْكَذِبِ، أَيْ فِي الْمَقْعَدِ الَّذِي صَدَقُوا فِي الْخَبَرِ بِهِ، وَأَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِكَ: رَجُلُ صِدْقٍ: أَيْ خَيْرٍ وَجُودٍ وَصَلَاحٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فِي مَقْعَدِ، عَلَى الْإِفْرَادِ، يُرَادُ بِهِ اسْمُ الْجِنْسِ وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ: فِي مَقَاعِدِ على الجمع وعند تَدُلُّ عَلَى قُرْبِ الْمَكَانَةِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.