ﰡ
[سورة القمر]
فاتحة سورة القمر
لا يخفى على من ترقى عن حضيض الإمكان ووصل الى ذروة وجوب الوجود وتمكن في مقام الكشف والشهود مجردا عن جميع القيود والحدود المنافية لصرافة الوحدة الذاتية ان ظهور الخوارق من المعجزات والكرامات وانواع الارهاصات الصادرة من النفوس الزكية القدسية الواصلة الى المبدأ الحقيقي الفانية فيه المضمحلة دونه انما هو بمقتضى الشئون الإلهية المترتبة على الأسماء والصفات الذاتية الإلهية ولا شك ان أكمل ارباب الوصول وأفضلهم انما هو نبينا الكامل المكمل المتحقق بمرتبة الخلة والخلافة صلوات الله وسلامه عليه ولهذا قد صدر عنه صلّى الله عليه وسلّم بحيث اشارته اللطيفة الشريفة ما صدر من المعجزات سيما انشقاق القمر ليلة البدر حسب اقتراح المنكرين عليه بإظهار الآيات والحاحهم إياه صلّى الله عليه وسلّم فصار انشقاقه هذا من امارات اقتراب الساعة الموعودة والنشأة الآتية المعهودة كما اخبر سبحانه عنه بعد ما تيمن بِسْمِ اللَّهِ المتجلى بالقدرة الكاملة على عموم مقدوراته الرَّحْمنِ لجميع مخلوقاته في النشأة الاولى بافاضة الوجود عليها بمقتضى الجود الرَّحِيمِ لنوع الإنسان حيث يوقظهم من منام الغفلة ويوصلهم الى مقام الوحدة ويطلعهم على قيام الساعة والطامة الكبرى التي قد انقهرت دونها نقوش الأغيار والسوى مطلقا
[الآيات]
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وقد دنت القيامة الموعود قيامها ومن جملة علاماتها الموضوعة لها في علم الله انشقاق القمر ليلة البدر وَقد انْشَقَّ الْقَمَرُ باشارة الحضرة الختمية الخاتمية المحمدية صلّى الله عليه وسلّم معجزة له وامارة للساعة وقيامها باخبار الله إياها وقد وقع منه صلّى الله عليه وسلّم هذا الانشقاق وتواتر خبر وقوعه
وَالمنكرون المصرون على الإنكار والتكذيب المقيدون بعقال العقل الفضول المغلولون بأغلال الأحلام المشوبة بالخيالات والأوهام إِنْ يَرَوْا آيَةً معاينة دالة على قدرة الصانع الحكيم والقادر العليم يُعْرِضُوا عنها لعدم مطابقتها وموافقتها بعاداتهم واعتقاداتهم وبمقتضيات اوهامهم وخيالاتهم وَيَقُولُوا من شدة انكارهم وعنادهم هذا الذي صدر منه على خلاف العادة ما هو الا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ من زمان وقوعه لا مختلق مبتدع منه فقط
وَبالجملة قد كَذَّبُوا الآية الخارقة للعادة وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ المعتادة الفاسدة الموروثة لهم من آبائهم الضالة المضلة المسرفة وَهكذا كُلُّ أَمْرٍ رسخ وتمكن في نفوسهم سواء كان خيرا او شرا طاعة او معصية ولاية وعداوة مُسْتَقِرٌّ ثابت متمكن في مكانه بعد ما تقرر وتمرن بحيث لا يتعداه أصلا
وَمن نهاية تمكنهم ورسوخهم في الكفر والعناد وتمرنهم على البغي والفساد لَقَدْ جاءَهُمْ في القرآن المرشد لهم الى الهداية والعرفان مِنَ الْأَنْباءِ والاخبار والقصص والحكايات الجارية على القرون الماضية المصرة على العتو والعناد أمثالهم ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ اى وعيدات هائلة موجبة للانزجار الكامل والارتداع المتبالغ لأصحاب العبرة والاستبصار إذ هي كلها
حِكْمَةٌ متقنة بالِغَةٌ نهايتها في الاحكام
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ واعرض عن دعوتهم وإرشادهم وانتظر يَوْمَ يَدْعُ ويناد الدَّاعِ المنادى ألا وهو اسرافيل عليه السلام ودعاؤه كناية عن نفخه في الصور للبعث والحشر إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ فظيع فجيع تنكره النفوس إذ لم يعهد مثله ألا وهو هول يوم القيامة المعدة للحساب والجزاء بعد ما سمعوا النداء الهائل والصداء المهول
خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ اى شاخصة ذليلة كالتائه الهائب الهائل يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ اى قبورهم التي هم مدفونون فيها في عالم البرزخ ويتحركون على الأرض كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ في الكثرة والانتشار الى الأماكن فيتوجهون
مُهْطِعِينَ مسرعين إِلَى الدَّاعِ المنادى مادين أعناقهم نحوه من شدة خوفهم وهولهم ليعلموا لم يدعوهم ومن شدة تلك الساعة وأهوالها وفظاعتها يَقُولُ الْكافِرُونَ في نجواهم وفي هواجس نفوسهم هذا يَوْمٌ عَسِرٌ صعب في غاية الصعوبة والفظاعة. ثم قال سبحانه تسلية لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم حين اغتم من تكذيب قومه إياه حاكيا له صلّى الله عليه وسلّم عن احوال الأنبياء الماضين وما جرى عليهم من اقوامهم تفريجا لهمه وازالة لحزنه
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ اى قبل قومك يا أكمل الرسل قَوْمُ نُوحٍ أخاك نوحا عليه السلام يعنى لا تحزن يا أكمل الرسل من تكذيب هؤلاء الجهلة المكذبين ولا تغتم من اذياتهم إذ ما هي ببدع منهم بالنسبة إليك بل تذكر قصة قوم نوح فَكَذَّبُوا عَبْدَنا اى كيف كذبوا أخاك نوحا وَقالُوا له حين دعاهم الى الايمان على سبيل الاستهانة والاستهزاء هذا مَجْنُونٌ مخبط العقل مختل الرأى وَازْدُجِرَ وزجر لأجل دعوته وتبليغه إياهم الوحى الى حيث قد لطمه كل من يصل اليه ورماه بالحجارة كل من يمر عليه فصبر على أذاهم وبالغ في دعوته إياهم وبعد ما بلغت الاذية غايتها والاهانة نهايتها
فَدَعا رَبَّهُ دعاء مؤمل ضريع فجيع أَنِّي اى بانى على قراءة الفتح او قال انى بالكسر مَغْلُوبٌ قد غلبني هؤلاء الغواة ولم يقبلوا منى دعوتي وهدايتي فَانْتَصِرْ على يا ربي وانتقم عنى منهم وما دعا عليهم الا بعد يأسه عن ايمانهم. روى انه كان يدعو كل واحد منهم جميعا وفرادى فيضربونه ويخنقونه حتى يخر مغشيا عليه ثم لما أفاق قال اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون وبعد ما قنط وبلغ الزجر غايته تضرع نحونا مشتكيا من قومه
فَفَتَحْنا بعد ما أردنا هلاكهم وانتقامهم أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ منصب كأنه يجرى من جانب السماء على وجه الجري والتوالي بلا تقاطر
وَكذا فَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً اى قد فجرنا عيون الأرض وصيرناها كأنها عيون كلها بل عين واحدة فَالْتَقَى الْماءُ الحاصل من كلا الجانبين وبلغا عَلى أَمْرٍ شأن واحد قَدْ قُدِرَ اى قدره الحق في حضرة علمه ولوح قضائه لإهلاك أولئك الطغاة البغاة وإغراقهم
وَبعد ما طغى الماء وطاف حول الأرض قد حَمَلْناهُ اى نوحا ومن تبعه عَلى ذاتِ أَلْواحٍ اى سفينة ذات أخشاب عراض طوال وَدُسُرٍ مسامير مطولة وصيرناها بحيث
تَجْرِي السفينة بِأَعْيُنِنا وبكنف حفظنا وحضانتنا وانما فعلنا مع نوح وقومه ما فعلنا ليكون جَزاءً حسنا له وسيئا لِمَنْ كانَ كُفِرَ بنعمة هدايته وإرشاده ولم يؤمن بدينه ولم يصدقه في تبليغه
وَلَقَدْ تَرَكْناها اى السفينة وقصتها او الفعلة التي فعلناها مع المكذبين لرسلنا المجترئين علينا بالإنكار والكفران آيَةً دالة
فَكَيْفَ كانَ عَذابِي للمنكرين المضرين على الإنكار والتكذيب وَنُذُرِ اى إنذاري وتخويفى على من يعتبر منهم ومما جرى عليهم من العقوبات
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ سهلناه لِلذِّكْرِ اى لانواع التذكيرات والمواعظ والعبر والأمثال فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ يتعظ به ويتذكر مما فيه ويعتبر وايضا قد
كَذَّبَتْ عادٌ كذلك لهود عليه السلام فَكَيْفَ كانَ عَذابِي إياهم وَنُذُرِ وإنذاري لمن بعدهم بما جرى عليهم وبالجملة
إِنَّا بمقتضى عظم قهرنا وجلالنا قد أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ اى على عاد حين أردنا انتقامهم وإهلاكهم رِيحاً صَرْصَراً باردة شديدة الجري والصوت فِي يَوْمِ نَحْسٍ شؤم منحوس مُسْتَمِرٍّ شؤمه ونحوسته عليهم الى ان يستأصلوا بما فيه بالمرة ومن شدة جريها وحركتها
تَنْزِعُ وتقلع النَّاسَ من أماكنهم مع انهم قد دخلوا في الحفر وتشبثوا بالأثقال كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ اى أصولها مُنْقَعِرٍ منقلب عن مغارسه ساقط على الأرض يعنى هم سقطوا على الأرض جميعا موتى بلا روح
فَكَيْفَ كانَ عَذابِي إياهم وَنُذُرِ لمن بعدهم
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ المعجز المشتمل لانواع البرهان والتبيان لِلذِّكْرِ والاتعاظ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ متذكر يتعظ به وكذا قد
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ اى بعموم الإنذارات الصادرة من لسان صالح عليه السلام بمقتضى الوحى والإلهام الإلهي
فَقالُوا في تعليل تكذيبهم على الرسول وانذاراته مستفهما مستبعدا أَبَشَراً ناشئا مِنَّا كائنا من جنسنا مع كونه واحِداً منفردا لا رهط له ولا تبع نَتَّبِعُهُ نؤمن به ونقلد له نحن مع انه لا مزية له علينا لا بالحسب ولا بالنسب والله إِنَّا ان فعلنا هكذا واتبعنا له إِذاً لَفِي ضَلالٍ عظيم وغواية بعيدة عن مقتضى العقل والدراية وَسُعُرٍ اى قد كنا حينئذ في جنون عظيم بمتابعة هذا الرذل المفضول ثم استفهموا فيما بينهم على وجه الإنكار والاستهزاء من غاية الاستبعاد والمراء فقالوا
أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ الوحى والكتاب سيما من السماء عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا مع نهاية رذالته وردائته والحال ان فينا من هو أحق به واولى منه لو فرض القاؤه ونزوله منها وبالجملة ما هو بمقتضى حاله الا مجنون مخبط مختل العقل والرأى بَلْ هُوَ كَذَّابٌ متناه في الكذب والافتراء غايته أَشِرٌ بطر مبالغ في الشرارة يريد بافترائه واختلاقه هذا ان يتكبر علينا ويتفوق بنا مع تناهيه في الشرارة والرذالة وبالجملة ما هذه الدعوى منه الا من افراط بطره وشدة شرارته وهم كانوا يقولون في حقه ما يقولون من أمثال هذه الهذيانات والمفتريات الباطلة العاطلة الا انهم
سَيَعْلَمُونَ ويفهمون غَداً عند نزول العذاب العاجل والآجل عليهم مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ البطر المباهي ببطره حيث اعرض عن الحق وأصر على الباطل أصالح هو أم من كذب وأنكر عليه. ثم قال سبحانه لنبيه صالح عليه السلام بعد ما قد بالغوا في العتو والعناد واقترحوا منه بإخراج الناقة من الصخرة تهكما وتعجيزا
إِنَّا بمقتضى كمال قدرتنا وقوتنا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ ومخرجوها من الصخرة المعهودة وباعثوها فِتْنَةً عظيمة واختبارا وابتلاء لَهُمْ واوحيناهم في شأنها ما اوحيناهم فَارْتَقِبْهُمْ أنت يا صالح وانتظر ماذا يفعلون بها وَاصْطَبِرْ على اذياتهم بك واستهزائهم ومرائهم معك
وَنَبِّئْهُمْ اى خبرهم وعلمهم منا وبمقتضى وحينا أَنَّ الْماءَ الذي به معاشهم ومعاش مواشيهم قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ اى مقسومة بين الناقة وبينهم ومواشيهم لها يوم ولهم يوم كُلُّ
اى كل صاحب شرب يحضر الماء في يومه ولا يحضره غيره فيه على سبيل التوبة بلا تزاحم وتدافع. ثم لما قبلوا هذه القسمة بعد خروج الناقة من الصخرة المعهودة وصاروا عليها زمانا اضطروا وتضجروا من امر الناقة
فَنادَوْا صاحِبَهُمْ قدار بن سالف فتشاوروا معه في امر الناقة واضطرارهم ومواشيهم عن هذه القسمة فَتَعاطى اى أخذ سيفه قدار مغاضبا وكان من اجرئهم وأشجعهم في الوقائع والخطوب فَعَقَرَ اى قدار الناقة باتفاق القوم معه واستصوابهم ولم يبال بالقسمة والوصاية الإلهية في شأنها
فَكَيْفَ كانَ يعنى انظر ايها الناظر المعتبر كيف وقع وحل عَذابِي عليهم وَلحق نُذُرِ إياهم بعد عقر الناقة وبالجملة
إِنَّا بمقتضى قهرنا وجلالنا قد أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً هائلة مهولة فَكانُوا اثر سماع تلك الصيحة الهائلة كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ اى مثل الأشجار اليابسة البالية في حظائر الأموال تتناثر اجسادهم كالتراب
وَبالجملة لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ المشتمل على انواع الرشد والهداية لِلذِّكْرِ والعظة فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ يتذكر ويهتدى بهدايته وتذكيره
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ ايضا أمثال هؤلاء المكذبين بِالنُّذُرِ الواردة النازلة عليهم بلسان نبيهم لوط عليه السلام وبعد ما أصروا على تكذيبه وإنكاره
إِنَّا بمقتضى قهرنا وغضبنا قد أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ من جانب السماء حاصِباً ريحا صرصرا شديدة عظيمة ترميهم بالحصباء اى الأحجار الصغار الى ان هلكوا بالمرة إِلَّا آلَ لُوطٍ هو لوط وبنتاه قد نَجَّيْناهُمْ من هذه الوقعة الهائلة والكرب العظيم بِسَحَرٍ اى وقت الصبح وانما نجيناهم ليكون انجاؤنا إياهم
نِعْمَةً منا واصلة ناشئة مِنْ عِنْدِنا ورحمة شاملة نازلة من لدنا عليهم بسبب ايمانهم وعرفانهم كَذلِكَ اى مثل ما فعلنا مع آل لوط نَجْزِي بمقتضى جودنا عموم مَنْ شَكَرَ لنعمنا ولم يكفر بموائد كرمنا
وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ لوط عليه السلام بمقتضى وحينا والهامنا إياه بَطْشَتَنا اى عن شدة بطشتنا وأخذنا إياهم بسبب فعلتهم القبيحة وديدنتهم الشنيعة فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ اى كذبوه في انذاراته ووعيداته مراء ومجادلة واستهزؤا معه وبعموم ما أوحينا اليه من الوعيد
وَمن شدة مرائهم واجترائهم عليه لَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ وترددوا حول بيته حين نزول الملائكة عليه في صورة صبيان صباح ملاح اضيافا وقصدوا فجورهم ويمموا تفضيحهم فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ ومسحناها وصيرناها مستوية مع وجوههم فصاروا ممسوحة العيون.
روى انه لما دخلوا داره عنوة صفتهم جبرائيل عليه السلام صفقة فأعماهم دفعة فَذُوقُوا اى فقلنا لهم حينئذ ذوقوا عَذابِي وَنُذُرِ المنذر به على لسان نبينا لوط عليه السلام
وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ ولحق بهم بُكْرَةً قريبة من الصبح عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ مستمر عليهم الى ان يستأصلهم بالمرة ويسلمهم الى النار
فَذُوقُوا عَذابِي اى قلنا لهم حينئذ ذوقوا عذابي ايها المفسدون المسرفون وَذوقوا نُذُرِ ايها المنكرون المكذبون المفرطون
وَبالجملة لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ المبين لانواع الوعيدات الهائلة الجارية على اصحاب السرف والفساد لِلذِّكْرِ اى للعبرة والعظة فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ معتبر متعظ متيقظ يعتبر من وعيدات القرآن وانذاراته وما ذكر فيه من الحكايات. ثم قال سبحانه
وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ اى الإنذارات الواردة من لدنا على لسان كليمنا المؤيد من عندنا بالمعجزات الباهرة والآيات الظاهرة وبالجملة
كَذَّبُوا بِآياتِنا المنزلة من عندنا كُلِّها سيما بعد اقتراحهم والحاحهم عليها ونسبوها
أَكُفَّارُكُمْ يا معشر العرب خَيْرٌ وأفضل مطلقا مِنْ أُولئِكُمْ الكفار المعدودين المذكورين وجاهة وثروة ومالا ومظاهرة ومكنة ومكانة مع انكم لستم أمثالهم وهم مع شدة قوتهم وشوكتهم ما نجوا من عذاب الله أتنجون أنتم ايها الحمقى البطرون أَمْ قد نزل لَكُمْ بَراءَةٌ من العذاب مكتوبة فِي الزُّبُرِ السماوية والكتب الإلهية بان من كفر منكم وخرج عن مقتضى الحدود الإلهية فهو ناج من عذاب الله برئ عن انتقامه
أَمْ يَقُولُونَ من شدة حماقتهم وسخافة فطنتهم نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ اى نحن جماعة مجتمعون ومتفقون أمرنا ورأينا متفق ننصر وننتصر بعضنا ببعض بحيث لا نغالب ولا نرام أصلا وهم من غاية بطرهم ونهاية غفلتهم وغرورهم يقولون أمثال هذه الهذيانات الباطلة ولم يعلموا انه
سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ ويفرد جنس المجموع اى جميعهم على وجه الهزيمة وَهم قد يُوَلُّونَ الدُّبُرَ اى ينصرف كل منهم عن عدوه مستدبرا منه منهزما عنه في الدنيا
بَلِ السَّاعَةُ الموعودة مَوْعِدُهُمْ العظيم لتعذيبهم في العقبى وَبالجملة السَّاعَةُ والعذاب الموعود فيها أَدْهى اى أشد واعيى من دواهيها لا دواء لها ولا نجاة عنها وَأَمَرُّ مذاقا من عذاب الدنيا بل هي بأضعاف ما فيها من البليات والمصيبات وآلافها وبالجملة
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ المتصفين بالجرائم المستلزمة للخروج عن الحدود الإلهية وعن مقتضى الأوامر والنواهي المنزلة من عنده سبحانه فِي ضَلالٍ مبين عن الحق واهله في العاجل وَسُعُرٍ نيران مسعرة معدة لهم في الآجل اذكر يا أكمل الرسل
يَوْمَ يُسْحَبُونَ ويجرون فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ صاغرين مهانين فيقال لهم حينئذ ذُوقُوا ايها المفسدون المسرفون مَسَّ سَقَرَ اى مساس جهنم وشدة حرها وحرقها بدل ما تتنعمون في دار الدنيا بلذاتها الشهية وشهواتها البهية البهيمية وكيف لا ندخل المجرمين في نيران القطيعة ولا نجرهم نحوها مهانين صاغرين فإنهم قد خرجوا عن مقتضى تدبيرنا واوضاعنا الناشئة منا على مقتضى الحكمة المتقنة البالغة المعتدلة
إِنَّا بمقتضى كمال علمنا وشمول قدرتنا وارادتنا المقتضية للحكم والمصالح قد خلقنا وأظهرنا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ وأظهرناه من كتم العدم مقرونا معلوما بِقَدَرٍ اى بمقدار نقدره في حضرة علمنا ولوح قضائنا ونرتب على المقدار المقدر وجود المقدور المخلوق فنظهره على وفقه
وَلا تستبعدوا من حيطة حضرة علمنا الشامل وقدرتنا الكاملة تفاصيل عموم المظاهر والمخلوقات والمقدورات وترتب وجوداتها على مقاديرها المقدرة لها في لوح قضائنا المحفوظ وحضرة علمنا المحيط إذ ما أَمْرُنا وحكمنا المبرم الصادر منا في السرعة والمضاء بالنسبة الى عموم الكوائن والفواسد الواقعة في عموم الازمنة والآنات وبالنسبة الى جميع الخواطر والخواطف والاختلافات الواقعة في حركات العروق الضوارب في هياكل الهويات واشكال الحيوانات بل بالنسبة الى ما في عموم الاستعدادات والقابليات ما هي إِلَّا فعلة واحِدَةٌ صادرة منا بلا توقف وتراخ وبلا تعقيب ومهلة بل كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ اى كنظرة سريعة بالطرف هيهات هيهات والله ما هذا التمثيل لسرعة نفوذ القضاء الإلهي الا بحسب احلام الأنام وبمقتضى افهامهم
وَكيف لا تخافون ايها المسرفون المفرطون عن شدة بطشنا وانتقامنا لَقَدْ أَهْلَكْنا واستأصلنا أَشْياعَكُمْ واشباهكم وأمثالكم في الكفر والعناد وانواع الفسوق والفساد بأصناف العقوبات والبليات الهائلة فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ متذكر يتعظ من إهلاكهم وهلاكهم ويعتبر مما جرى عليهم من الشدائد
وَكما عذبناهم بجرائمهم وآثامهم في النشأة الاولى كذلك بل بأضعافه وآلافه نعذبهم في النشأة الاخرى ايضا بها إذ كُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فيما مضى وصدر عنهم في النشأة الاولى محفوظ مثبت فِي الزُّبُرِ اى كتب الحفظة المراقبين عليهم من لدنا المحافظين على عموم أحوالهم وأفعالهم وأطوارهم
وَكيف لا يحفظ إذ كُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ وقليل وكثير على التفصيل مُسْتَطَرٌ اى مثبت مسطور في لوح القضاء أولا وفي صحائف أعمالهم ثانيا وبالجملة لا يعزب عن حيطة حضرة علمه سبحانه شيء من أعمالهم وأقوالهم وأطوارهم وأحوالهم مطلقا ولو طرفة وخطرة. ثم عقب سبحانه وعيد المجرمين بوعد المؤمنين على سنته المستمرة في كتابه فقال
إِنَّ الْمُتَّقِينَ المتحفظين نفوسهم عن مطلق المحرمات والمنهيات متنعمون فِي جَنَّاتٍ متنزهات العلم والعين والحق وَنَهَرٍ جداول جاريات من المعارف والحقائق منتشآت من بحر الحياة التي هي العلوم اللدنية المتجددة حسب تجددات التجليات الإلهية متمكنون
فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ هو مقام التسليم والرضاء بعموم مقتضيات القضاء عِنْدَ مَلِيكٍ يملك رقابهم يتكفل على عموم أمورهم وحوائجهم مُقْتَدِرٍ على تدابيرها حسب الحكمة البالغة المتقنة. جعلنا الله من زمرة المتقين المتمكنين في مقعد الصدق عند المليك المقتدر العليم الحكيم
خاتمة سورة القمر
عليك ايها المريد القاصد المتمكن في مقعد الصدق والمتحقق في مرتبة اليقين الحقي وفقك الله للوصول الى غاية مقصدك ومرماك ان تقى نفسك عن مطلق المحظورات والمنهيات المنافية لسلوك طريق الحق وتوحيده سيما من الرياء والرعونات المنتشئة من ظلمات الطبيعة والهيولى المتفرعة عن التعينات العدمية المستلزمة للكثرة الوهمية المنافية لصرافة الوحدة الذاتية الإلهية وتلازم العزلة والفرار عن أبناء الدنيا الدنية وأمانيها مطلقا وتقنع منها بضرورياتها المقومة لهيكل هويتك الظاهرة لمصلحة المعرفة والتوحيد حتى يتيسر لك الوقوف بين يدي ملك مقتدر متوحد في الوجود والقيومية متفرد في الثبوت والديمومية. ثبتنا على منهج اليقين والتمكين وجنبنا بجودك عن امارات التخمين والتلوين بحولك يا ذا القوة المتين
[سورة الرحمن]
فاتحة سورة الرحمن
لا يخفى على من تحقق بفسحة قلب الإنسان المصور على وسعة عرش الرحمن ان حكمة خلق الإنسان على فطرة المعرفة والايمان وتعليم القرآن عليه انما هو للبيان والبرهان على ثبوت خلافته ونيابته للحق وتنبهه برفعة درجته وعلو شأنه ومكانته من بين عموم الأكوان لذلك قال سبحانه في مقام الانعام والامتنان عليه تنبيها له وتعليما بعد ما تيمن بِسْمِ اللَّهِ الذي ظهر على قلب