ﰡ
مكية، وهي خمس وخمسون آية
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ... (١) أي: قد قرب قيام الساعة. (وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) وانشقاقه من آياتها. روى البخاري ومسلم عن ابن مسعود - رضي الله عنه - " أَن أَهْلَ مَكةَ سَألوا رَسُولَ اللَّه - ﷺ - أَنْ يرِيَهُمْ آيةً، فَأَرَاهُمْ القمر شقين حتى رأوا الحراء بينهما ".(وَإِنْ يَرَوْا آيَةً... (٢) أهل مكة، وإن لم يسبق لهم ذكر للعلم بهم. كقوله:
زارتْ عليها للظلامِ رُواق
(وَكَذَّبُوا... (٣) واستمروا على التكذيب ودفع الحق (وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ) ما سولت لهم أنفسهم (وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ) أي: كل أمر له نهاية يثبت فيه كلام مستقل، جاري مجرى المثل كقوله: " كل شيء له آخر والصبر نعم الناصر " أي: كل أمر ينتهي إما إلى السعادة أو إلى الشقاوة، أو كل من أمره وأمرهم يستمر على حاله من خذلان أو نصر، وقرأ أبوجعفر (مُسْتَقِرٍّ) مجروراً عطفاً على (السّاَعَة) أي: اقترب كل أمر مستقر على أن انشق القمر، حال بتقدير قد (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً) اعتراض، وفي قراءته زيادة تسلية وتهويل.
(فَتَوَلَّ عَنْهُمْ... (٦) أعرضْ (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ) إسرافيل، نصب بـ " يخرجون "، أو بـ " اذكر ". أثبت ياء (الداع) البزي عن ابن كثير في الحالين. وأبو عمرو، وورش وصلاً. (إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ) منكر تنكره النفوس لفظاعته. قرأ ابن كثير بضم الكاف.
(خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ... (٧) كناية عن الذل، لأن العز والذل يظهر آثارهما في العيون. وإسناد جمع التكسير إلى المظهر فاشٍ فصيح. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي (خاشعاً) وهو المختار. ولم يؤنث لعدم الفاصل، وانتصابه على الحال من فاعل (يَخْرُجُونَ مِنَ
(مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ... (٨) مسرعين مادِّين أعناقهم. أثبت ابن كثير ياء (الداع) في الحالين. ونافع وأبو عمرو في الوصل. (يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ) شاق.
(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ... (٩) تسلية وترهيب. (فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا) تفصيل لما أجمل، أو كذبوه تكذيباً إثر تكذيب، كلما مضى قرن تبعه آخر. وكذبوا الرسل رأساً فكذبوه؛ لأنه من جملتهم. (وَقَالُوا مَجْنُونٌ) أصابه الجنون. (وَازْدُجِرَ) زجروه شتماً وضرباً. عطف على " قالوا ". وأوثر بناء المفعول؛ تطهيراً للألسنة عن ذكرهم، ودلالة على أن فعلهم أسوء من قولهم، ولتوافق الفواصل، أو هو من قولهم: إنه لمجنون وقد ازدجرته الجن. والأول أوجه وأوفق لقوله:
(فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ (١٠) بعدما أيس وجرّب الأولاد والأحفاد (فَانْتَصِرْ) انتقم.
(فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ... (١١) أي: بعد الأمر باتخاذ السفينة والفراغ منها وركوبه بمن معه. (بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ) منصب بكثرة وتتابع. مطاوع همره. قيل: لم ينقطع أربعين يوماً.
(وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (١٣) أي: السفينة، عبر بالوصف عن الموصوف كناية كقولهم في الإنسان: " حي مستقيم القامة، عريض الأظفار، وفيه فخامة ". ليس في الأصل، وإشارة إلى كمال الاقتدار؛ لبعد عن حال الخشب والحديد عن دفع ذلك الطوفان العظيم. والدسر: جمع دسار، وهي المسمار من الدَّسر وهو الدفع.
(تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا... (١٤) محفوظة بكلائتنا. (جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ) علة للفتح وما بعده. والذي (كُفِرَ) نوح؛ لأن كل نبي نعمة من اللَّه، أو على حذف الجار وإيصال الفعل أي: كُفِرَ به.
(وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً... (١٥)
أي: الفعلة أو السفينة. تواتر خبرها في أقطار الأرض وفي الأعصار كلها إلى آخر الدهر. (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) معتبر يتعظ بها.
(فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (١٦) وإنذار جمع نذير بمعناه استفهام تعجيب وتهويل.
(كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (١٨) وإنذاراي لهم قبل نزول العذاب وبعده لمن بعدهم.
(إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا... (١٩) باردا من الصِّر بكسر الصاد، أو شديد الصوت من الصرير. (فِي يَوْمِ نَحْسٍ) شؤم (مُسْتَمِرٍّ) شؤمه، أو اليوم على إرادة الحين؛
لأنه كان سبع ليال وثمانية أيام، أو على أشخاصهم لم يدع صغيراً ولا كبيراً، أو شديد مرارته.
(تَنْزِعُ النَّاسَ... (٢٠) تقلعهم. بيان لشؤمه، (كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) أصول نخل منقلع من مغارسها. وتذكير الصفة باعتبار لفظ النخل، وتأنيثه في قوله (أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ) باعتبار المعنى. روي أنهم كانوا يصطفون آخذاً كل واحد يد الآخر، فيدخلون في الشعاب، ويحفرون فتنزعهم وتدق رقابهم. وقيل: تقلع رؤوسهم وتبقى الجثث ساقطة على الأرض.
(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٢٢) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (٢٣) بالإنذارات، أو بالآيات، أو بالرسل.
(فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ... (٢٤) أنكروا أن يكون الرسول بشراً لا سيما وهو ليس من طائفة أخرى ليكون له المزية، موصوفاً بالوحده والانفراد فكيف يبتعه الجم الغفير.
ونصب " بَشَراً " بمضمر على شريطة التفسير، وفي مثله نختار النصب لمكان الاستفهام. (إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ) وجنون، يقال: " ناقة مسعورة " أي: مجنونة، أو عكسوا عليه لما دعاهم إلى التوحيد لئلا يقعوا في سعر، قالوا: لو اتبعناه وقعنا فيها. على أن السعر جمع سعير.
(سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (٢٦) أي: يوم القيامة فإن الدنيا والآخرة يومان. وقرأ ابن عامر وحمزة بالتاء على حكاية قوم صالح، أو التفات من اللَّه تعالى إليهم كأنهم حضور ينعي عليهم جنايتهم ثم حكاه لرسول اللَّه - ﷺ - دلالةً على أنهم كانوا أحقاء بذلك الوعيد.
(إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ... (٢٧) امتحاناً. وذلك بعد أن سألوها. (فَارْتَقِبْهُمْ) انتظرهم مراقباً أحوالهم مع الناقة، (وَاصْطَبِرْ) على أذاهم.
(وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ... (٢٨) ذو قسمة لهم شِرْبٌ يوم ولها شِرْب يَوْمٍ مَعْلُومٍ. وفي الضمير تغليب العقلاء. (كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ) يحضره صاحبه خاصة.
(فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ... (٢٩) قدار بن سالف، أشقى الناس، نطق به القرآن. وقال رسول اللَّه - ﷺ -: " أشّقى الناس رجلان: عاقر الناقة، وقاتل علي - رضي الله عنه - " (فَتَعَاطَى) اجترأ
(فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (٣٠) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً | (٣١) صاح بهم جبرائيل (فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ) كالشجر المنكسر اليابس الذي مرّ عليه زمان طويل. |
(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٣٢) لم يُعِد حديث الإنذار كما أعاده في قصة هود؛ اكتفاءً به، وكذا لم يعده في قوم نوح؛ لأنهم بذلك أولى إذ هم أظلم وأطغى، وتركه رأساً في قصة لوط، لتكرره مراراً، وترك ذكر التيسير والادكار في آل فرعون؛ لأنها آخر القصص فاختصر؛ ليدل الاختصار على الاقتصار. فهذا من أسرار التنزيل للَّه دره.
(كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (٣٣) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا... (٣٤) ريحاً تحصبهم أي: ترميهم بالحجارة، وقد جمع اللَّه عليهم أنواعاً من العذاب قلب الأرض وإمطار الحجارة عليهم والرمي بالحصباء. (إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ) هو قبيل الصبح صرف، لأنه لم يرد به معين وإلا فعلم وعدل. وقد يطلق على ما بعد انصداع الفجر. فقيّد الأول بالأعلى، ومنه حديث
(نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا... (٣٥) إنعاماً عليه تفضلاً. (كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ) بالإيمان والطاعة كائناً من كان.
(وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا... (٣٦) أخذتنا بالعذاب. (فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ) كذبوا بها متشاكين.
(وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ... (٣٧) جبرائيل ومن معه من الملائكة (فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ) مسحناها بحيث لم يبق لها أثر بل بقيت كسائر أجزاء الوجه. طمسها جبرائيل لما دخلوا بيت لوط، بقوا يترددون في الأزقة لا يهتدون إلى منازلهم، وشرعوا يتهددون لوطاً أن إن أصبحنا لنفعلن بك كذا وكذا، فكانوا وقت الصبح في مهم آخر. (فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ) على تقدير القول من الملائكة.
(وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً... (٣٨) أول طلوع الفجر (عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ) لا يفارقهم حتى يسلمهم إلى النار.
(فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (٣٩) الأول قيل لهم عند الطمس، وهذا عند قلب الأرض.
(وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (٤١) الإنذارات. واكتفى بالآل؛ للعلم بأنه شر منهم.
(كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا... (٤٢) مع كثرتها، وهي الآيات التسع. لم يعطفه بالفاء، اكتفاء بالاتصال معنى، وإشارة إلى شدة كفرهم كأن تكذيبهم كان مع مجيء تلك الآيات، (فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ) بأن طبق البحر على ذلك الجيش الكثيف في لمحة طرف كأن لم يكونوا.
(أَكُفَّارُكُمْ... (٤٣) يا أهل مكة (خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ) المهلكين زينة وأموالاً وقوة وأسباباً، أو لِين شكِيمَة وعناداً، أي: ليس الأمر كذلك بل هؤلاء أقل أسباباً وأكثر كفراً وعناداً (أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ) بأن لا عذاب عليكم. الزبر: الكتب السماوية، جمع زبور من زبره: كتبه.
(أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (٤٤) أفرد الضمير باعتبار لفظ الجميع، وعدل عن الخطاب كأنه يحكي جهلهم لغيرهم كما يقول المولى بعد استيفاء عتاب عبده: أو به جنون؟!
(سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (٤٥) الأدبار، أفرده لإرادة الجنس، أو باعتبار كل واحد. روى البخاري عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: " أَن رَسُولَ اللَّه - ﷺ - خرَجَ يوْمَ بدرٍ من القُبَّةِ يَثِبُ في دِرعِهِ وهو يتلو (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) "، وعن عكرمة أن عمر قال: كنت
(بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (٤٦) من القتل والأسر. والداهية: داء لا دواء لها، وإنما أعاد لفظ الساعة، تهويلاً، ولئلا يتوهم عود الضمير إلى وقعة بدر.
(إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ... (٤٧) في الدنيا (وَسُعُرٍ) نيرانٍ في الآخرة، أو في ضلال وجنون. ناقة مسعورة أي: مجنونة.
(يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ | (٤٨) ظرف لـ (سعر)، أو بدل اشتمال منه. |
بأَفْنانِ مَرْبوع الصَّريمةِ مُعْيلِ | إذا ذابتِ الشمسُ أبقى سعراتها |
(وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ... (٥٠) إلا فعلة واحدة، دفعة بلا آلة وأسباب (كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) في سرعه التكوِّن، كقوله كن فيكون.
(وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ... (٥١) أشباهكم ومن شايعكم في الاعتقاد (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) متعظ بمصيبة أولئك.
(وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (٥٢) ثابت فيه مسطور، فيجازون به.
(وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ... (٥٣) قولاً كان أو فعلاً أو اعتقاداً (مُسْتَطَرٌ) مكتوب لا محالة.
(فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ... (٥٥) بدل من فِى جنات، سميت به؛ لأنها منزل الصادقين، أو لأنها مكان مرضي كما يقال: رجل صدق أي: مرضيّ الخصال محمود الفعال. (عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) حال من المستكن في الخبراء، مقربين ذوي رتب عند سلطان كامل الاقتدار. ولا ألذ للنفس من قرب الملوك؛ ولذا تبذل الأموال والأرواح دونه مع ملوك الدنيا.
* * *
تمت سورة القمر، وللَّه الحمد في الآصال والبكر. والصلاة على صفوة عدنان ومضر، وآله وصحبه من هاجر أو آوى ونصر.