تفسير سورة النازعات

صفوة البيان لمعاني القرآن
تفسير سورة سورة النازعات من كتاب صفوة البيان لمعاني القرآن .
لمؤلفه حسنين مخلوف . المتوفي سنة 1410 هـ
سورة النازعات
وتسمى سورة الساهرة والطامة

﴿ والنازعات غرقا ﴾ أقسم الله تعالى في الآيات الخمس بطوائف من الملائكة موكلين بأعمال جسام بأمره تعالى – على أن الخلق لا بد أن يبعثوا ويحاسبوا في اليوم الآخر. وحذف جواب القسم لدلالة ما بعده عليه، والتقدير لتبعثن. فأقسم الله تعالى بالملائكة التي تنزع أرواح الكافر من أقاصي أجسامهم نزعا بالغ الغاية في الشدة ؛ من النزع، وهو جذب الشيء من مقره بشدة، كنزع القوس عن كبده. " وغرقا " أي إغراقا ونزعا شديدا. يقال : أغرق في الشيء يغرق فيه إذا أوغل وبلغ أقصى غايته. ومنه قولهم : نزع في القوس فأغرق، أي بلغ غاية المد حتى انتهى إلى النصل. منصوب على المصدرية، كذلك " نشطا " و " سبحا " و " سبقا ".
﴿ والناشطات نشطا ﴾ ثم أقسم بطائفة أخرى من الملائكة تنشط أرواح المؤمنين برفق ولين، دون تلك الشدة التي تنزع بها أرواح الكفار نزعا ؛ من النشط، وهو الإخراج برفق وسهولة. يقال : نشطت الدلو من البئر – من باب ضرب – إذا
نزعتها بلا بكرة ؛ ومنه بئر أنشاط : قريبة القعر يخرج منها الدلو بجذبة واحدة.
﴿ والسابحات سبحا ﴾ ثم أقسم بطائفة أخرى من الملائكة تنزل من السماء مسرعة بما أمرت به لتدبيره ؛ كالفرس الجواد إذا أسرع في جريه يقال له : سابح.
﴿ فالسابقات سبقا ﴾ صفة للنازعات والناشطات ؛ أي المسرعات بأرواح الكفار التي نزعتها إلى النار. وبأرواح المؤمنين التي نشطتها إلى الجنة. والعطف بالفاء للدلالة على ترتيب ما بعدها على ما قبلها بغير مهلة.
﴿ فالمدبرات أمرا ﴾ صفة للسابحات. و " أمرا " مفعول به. ونسبة التدبير إلى الملائكة مجاز ؛ فإن كل المحدثات بقضاء الله وتقديره وتدبيره. وللمفسرين أقوال أخرى في تفسير هذه الأقسام.
﴿ يوم ترجف الراجفة ﴾ أي لتبعثن يوم النفخة الأولى التي تضطرب الأرض بها فيموت كل شيء عليها بأمره تعالى. وسميت راجفة من الرجف، وهو الاضطراب الشديد ؛ لأن بها يضطرب الأمر ويختل النظام.
﴿ تتبعها الرادفة ﴾ هي النفخة الثانية التي تردف الأولى ويبعث فيها الموتى بأمره تعالى. يقال : ردفه – كسمعه ونصره – إذا تبعه ؛ كأردفه. وسميت رادفة لمجيئها بعد الأولى. والجملة حال من " الراجفة ".
﴿ قلوب يومئذ واجفة ﴾ أي قلوب في ذلك اليوم شديدة الاضطراب من الخوف والفزع. يقال : وجف القلب يجف وجفا ووجيفا، إذا اضطرب من شدة الفزع، وأصل الوجف : سرعة السير. يقال : أوجفت البعير، أي أسرعته واستعمل فيها ذكر مجازا لعلاقة اللزوم.
﴿ أبصارها خاشعة ﴾ أي أبصار أهلها – وهم منكرو البعث – ذليلة مما قد علاهم من الكآبة والحزن ؛ لما يرون من عظيم الهول. والجملة خبر " قلوب " و " واجفة " صفة لها.
﴿ يقولون أئنا... ﴾ أي يقولون إذا قيل لهم إنكم تبعثون – منكرين له ومتعجبين منه - : أنرد إلى الحياة التي كنا فيها بعد أن نموت ونفنى ! ؟ يقال : رجع فلان في حافرته وعلى حافرته، أي طريقه التي جاء فيها فحفرها بمشيه ؛ ثم كنى به عن الرجوع إلى الأحوال التي كان عليها الإنسان من قبل. ثم أكدوا ذلك بقولهم :﴿ أإذا كنا عظاما نخرة ﴾
أي أئذا صرنا عظاما بالية : نرد ونبعث مع كونها أبعد شيء من الحياة ؟ ! والاستفهام بمعنى الإنكار ؛ من نخر العظم – من باب تعب – بلى وتفتت. وقرئ " ناخرة " بمعنى نخرة. أو بمعنى فارغة جوفاء، يجئ منها عند هبوب الريح نخير، أي صوت.
﴿ كرة خاسرة ﴾ رجعة خائبة غير رابحة ! والكرة من الكر، أي الرجوع، وجمعها كرات. والخسران : ضد الربح، ونسبته إليها مجاز. والأصل خاسر أصحابها. وهو استهزاء منهم.
﴿ فإنما هي زجرة واحدة ﴾ أي لا تحسبوا هذه الكرة صعبة على الله ! فإنما هي حاصلة بصيحة واحدة وهي النفخة الثانية، وهي أهون شيء ؛ من قولهم : زجر البعير – من باب نصر – إذا صاح عليه.
﴿ فإذا هم بالساهرة ﴾ فإذا هم حضور بالموقف في الأرض المستوية الخالية من النبات. وسميت ساهرة لأن السراب يجري فيها ؛ من قولهم : عين ساهرة، أي جارية الماء. وفي ضدها : عين نائمة. وقيل الساهرة : وجه الأرض. والعرب تسمية ساهرة ؛ لأن فيه نوم الحيوان ؛ وسهره، فوصف بصفة ما فيه. وقيل الساهرة : أرض الشام.
﴿ هل أتاك حديث موسى... ﴾ تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم، وتهديد لقومه أن يصيبهم بتكذيبهم مثل ما أصاب من كان أقوى وأعظم منهم. أي أليس قد أتاك حديثه !
﴿ طوى ﴾ اسم للوادي المقدس بأرض الشام.
﴿ إنه طغى ﴾ جاوز الحد في الطغيان والضلال، بالتكبر على الله، والتجبر على الخلق واستعبادهم.
﴿ هل لك إلى أن تزكى ﴾ هل لك ميل إلى التزكية وتطهير النفس من الرجس والعناد. وهو طلب ودعاء إلى التزكية في تلطف ورفق ؛ كما يقال : هل لك في الخير ! وهل لك إلى الخير ! أي ميل إليه وانعطاف.
﴿ فأراه الآية الكبرى ﴾ هي قلب العصا حية. أو هي واليد البيضاء. وأطلق عليهما آية لا تحادهما مقصدا.
﴿ ثم أدبر يسعى ﴾ ثم تولى وأعرض عن الإيمان والطاعة، مجدا في إبطال أمره ومعارضة آيته.
﴿ فحشر ﴾ فجمع السحرة من المدائن. أو الجند. أو هما ؛ من الحشر، وهو إخراج الجماعة من مقرهم، وإزعاجهم عنه إلى الحرب ونحوه.
﴿ فأخذه الله نكال... ﴾ أي نكل الله به نكال الآخرة بالإحراق، والأولى بالإغراق. والنكال : مصدر بمعنى التنكيل، وهو التعذيب الذي ينكل من رآه أو سمعه، ويمنعه من تعاطي ما يفضي إليه. يقال : نكل فلان بفلان، إذا أثخنه عقوبة. وهو منصوب على أنه مصدر مؤكد ل " فأخذه " لأن معناه نكل به.
﴿ أأنتم أشد خلقا ﴾ أي أخلقكم بعد موتكم أصعب وأشق ! ﴿ أم السماء ﴾ نبههم فيه إلى أمر معلوم بالمشاهدة، وهو أن خلق السماء أعظم وأبلغ في القدرة. وإذا كان الله قادرا على إنشاء العالم الأكبر، فيكون على خلق العالم الأصغر بل على إعادته أقدر. ثم أشار كيفية خلق السماء بقوله :﴿ بناها ﴾ بهيئة بديعة محكمة.
﴿ رفع سمكها ﴾ أي جعل مقدار ارتفاعها عن الأرض مديدا رفيعا. يقال : سمكت الشيء، رفعته في الهواء. وسمك الشيء سموكا : ارتفع. وبناء مسموك : عال. ﴿ فسواها ﴾ جعلها ملساء مستوية، ليس في سطحها ما يحول دون الاستقرار عليها. أو جعلها متشابهة الأجزاء والشكل.
﴿ وأغطش ليلها ﴾ أظلمه بمغيب شمسها. يقال : غطش الليل – من باب ضرب -، أظلم. وأغطشه الله ؛ من الغطش وهو الظلمة.
﴿ وأخرج ضحاها ﴾ أبرز نهارها. والضحى في الأصل : انبساط الشمس وامتداد النهار ؛ ثم سمي به الوقت المعروف، وشاع في ذلك وتجوز به عن النهار بقرينة مقابلته بالليل. وعبر عن النهار بالضحى لأنه أشرف أوقاته وأطيبها. وأضيف الليل والضحى إلى السماء لأنهما يحدثان بسبب غروب شمسها وطلوعها.
﴿ والأرض بعد ذلك دحاها ﴾ أي ودحا الأرض – بمعنى بسطها – وأوسعها، بعد ذكر ذلك الذي ذكره من بناء السماء ورفع سمكها وتسويتها وإغطاش ليلها وإظهار نهارها. وقد بين الله الدحو بقوله :﴿ أخرج منها ماءها ﴾
بتفجير العيون، وإجراء الأنهار والبحار العظام. ﴿ ومرعاها ﴾ أي جميع ما يقتات به الناس والدواب بقرينة قوله بعد : " متاعا لكم ولا نعلمكم ".
﴿ والجبال أرساها ﴾ أي وأرسى الجبال، أي أثبتها في الأرض كيلا تميد وتضطرب. وقوله :
" أرساها " تفسير للفعل المضمر قبله.
﴿ متاعا لكم ولأنعامكم ﴾ أي تمتيعا لكم ولأنعامكم. والآية تقريع لكفار مكة المنكرين للبعث، زاعمين صعوبته، بعد أن بين الله كمال سهولته بالنسبة إلى قدرته بقوله : " فإنما هي زجرة واحدة ". وبيان لدليلين مشاهدين، وهما : السماء وما فيها والأرض وما فيها، لا يسعهم إنكارهم ؛ ناطقين بكمال قدرته سبحانه ! فأخبر الله بأنه هو الذي بنى السموات السبع ورفعها وسواها، وخلق ظلمة الليل، وأبرز النهار، وأخبرنا بعد ذلك بأنه هو الذي بسط الأرض، ومهدها لسكنى أهلها ومعيشتهم فيها. وقدم الخبر الأول لأنه أدل على القدرة الباهرة لعظم السماء، وانطوائها على الأعاجيب التي تحار فيها العقول. فبعدية الدحو إنما هي في الذكر لا في الإيجاد، ويجعل المشار إليه هو ذكر المذكورات من البناء وما عطف عليه لا أنفسها، لا يكون في الآية دليل على تأخر الدحو عن خلق السموات وما فيها، ويكون الترتيب بين خلق الأرض وخلق السموات مستفادا من دليل آخر. وقد ذهب جمهور المفسرين إلى تقدم خلق الأرض وما فيها على خلق السماء وما فيها ؛ أخذنا بظاهر آيتي البقرة وفصلت ١ بناء على تفسير الخلق فيهما بالإيجاد، وهو معناه الظاهر، " وتفسير ما عطف عليه من الأمور الثلاثة في آية فصلت بمعانيها الظاهرة، وعلى أن " ثم " للتراخي في الزمان. وأما إذا فسر الخلق فيهما بالتقدير، أو بالإيجاد مع تقدير الإرادة وكذلك ما عطف عليه. أو حملت " ثم " فيهما على التراخي في الرتبة فلا يكون فيهما أيضا دليل على الترتيب في الإيجاد.
١ آية ٢٩ البقرة. وآيات ٣ – ١٢ فصلت..
﴿ فإذا جاءت الطامة الكبرى ﴾ بيان لأحوالهم في المعاد إثر بيان أحوالهم في المعاش. والطامة : الداهية التي تغلب وتعلو على ما سواها من الدواهي ؛ من طم الشيء طما : غمره. وكل ما كثر وعلا حتى غلب فقد طم. وهي كالعلم على القيامة ؛ بل روي أنها اسم من أسمائها. وقيل هي النفخة الثانية. وجواب الشرط محذوف تقديره : وقع مالا يدخل تحت الوصف. وقوله : " فأما " تفصيل له.
﴿ وبرزت الجحيم ﴾ أظهرت إظهارا بينا لا خفاء فيه على أحد.
﴿ خاف مقام ربه ﴾ أي عظمته وجلاله. أو قيامه بين يدي ربه عز وجل للحساب يوم الطامة الكبرى. ﴿ ونهى النفس... ﴾ زجرها وكفها عن الميل إلى الشهوات المردية وضبطها بالصبر، ولم يغتر بزهرة الدنيا وزينتها ؛ لعلمه بوخامة عاقبته. وأصل الهوى : مطلق الميل ؛ وشاع في الميل إلى الشهوات. وسمى هوى لأنه يهوى بصاحبه في الدنيا إلى كل داهية، وفي الآخرة إلى الهاوية.
﴿ أيان مرساها ﴾ [ آية ١٨٧ الأعراف ص ٢٨٩ ].
﴿ فيم أنت... ﴾ في أي شيء أنت من أن تذكر لهم وقتا وتعلمهم به حتى تسأل عن بيانه ! وهو مما استأثر الله بعلمه ؛ كما قال تعالى :﴿ إلى ربك منتهاها ﴾
والاستفهام للإنكار.
﴿ منذر من يخشاها ﴾ أي من يخاف أهوالها. وظيفتك امتثال ما أمرت به من بيان اقترابها وتفصيل أهوالها، لا تعيين وقتها الذي لم يفوض إليك ؛ فما لهم يسألونك عما لم تبعث له ! ولم يفوض إليك أمره ! وتخصيص الإنذار بمن يخشى من عمومه للناس كافة لأنه هو الذي ينتفع به.
﴿ عشية أو ضحاها ﴾ العشية : من الزوال إلى الغروب. والضحى : البكرة إلى الزوال. والمراد : كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا بعد الإنذار إلا ساعة من نهار.
والله أعلم.
Icon