تفسير سورة النازعات

تفسير الرازي
تفسير سورة سورة النازعات من كتاب مفاتيح الغيب المعروف بـتفسير الرازي .
لمؤلفه فخر الدين الرازي . المتوفي سنة 606 هـ
سورة النازعات

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سُورَةُ النَّازِعَاتِ
(وَهِيَ أَرْبَعُونَ وَسِتُّ آيَاتٍ مَكِّيَّةٌ)
[سورة النازعات (٧٩) : الآيات ١ الى ٥]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (١) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (٢) وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (٣) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (٤)
فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (٥)
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ الْخَمْسَ، يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ صِفَاتٍ لِشَيْءٍ وَاحِدٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا تَكُونَ كَذَلِكَ، أَمَّا عَلَى الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ فَقَدْ ذَكَرُوا فِي الْآيَةِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنَّهَا بِأَسْرِهَا صِفَاتُ الْمَلَائِكَةِ، فَقَوْلُهُ:
وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً هِيَ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ يَنْزِعُونَ نُفُوسَ بَنِي آدَمَ فَإِذَا نَزَعُوا نَفْسَ الْكُفَّارِ نَزَعُوهَا بِشِدَّةٍ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ نَزَعَ فِي الْقَوْسِ فَأَغْرَقَ يُقَالُ: أَغْرَقَ النَّازِعُ فِي الْقَوْسِ إِذَا بَلَغَ غَايَةَ الْمَدَى حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى النَّصْلِ، فَتَقْدِيرُ الْآيَةِ: وَالنَّازِعَاتِ إِغْرَاقًا، وَالْغَرْقُ وَالْإِغْرَاقُ فِي اللُّغَةِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَقَوْلُهُ: وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً النَّشْطُ هُوَ الْجَذْبُ يُقَالُ: نَشَطْتُ الدَّلْوَ أَنْشِطُهَا وَأَنْشَطْتُهَا نَشْطًا نَزَعْتُهَا بِرِفْقٍ، وَالْمُرَادُ هِيَ الْمَلَائِكَةُ الَّتِي تَنْشِطُ رُوحَ الْمُؤْمِنِ فَتَقْبِضُهَا، وَإِنَّمَا خَصَصْنَا هَذَا بِالْمُؤْمِنِ وَالْأَوَّلَ بِالْكَافِرِ لِمَا بَيْنَ النَّزْعِ والنشط من الفرق فالنزاع جَذْبٌ بِشِدَّةٍ، وَالنَّشْطُ جَذْبٌ بِرِفْقٍ وَلِينٍ فَالْمَلَائِكَةُ، تَنْشِطُ أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا تُنْشَطُ الدَّلْوُ مِنَ الْبِئْرِ فَالْحَاصِلُ أَنَّ قَوْلَهُ:
وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً قَسَمٌ بِمَلَكِ الْمَوْتِ وَأَعْوَانِهِ إِلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ إِشَارَةٌ إِلَى كَيْفِيَّةِ قَبْضِ أَرْوَاحِ الْكُفَّارِ، وَالثَّانِيَ إِشَارَةٌ إِلَى كَيْفِيَّةِ قَبْضِ أَرْوَاحِ الْمُؤْمِنِينَ، أَمَّا قَوْلُهُ: وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً فَمِنْهُمْ مَنْ خَصَّصَهُ أَيْضًا بِمَلَائِكَةِ قَبْضِ الْأَرْوَاحِ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى سَائِرِ طَوَائِفِ الْمَلَائِكَةِ، أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ:
فَنُقِلَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَابْنِ عَبَّاسٍ وَمَسْرُوقٍ، أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَسُلُّونَ أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ سَلًّا رَفِيقًا،
فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ:
وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً ثُمَّ يَتْرُكُونَهَا حَتَّى تَسْتَرِيحَ رُوَيْدًا، ثُمَّ يَسْتَخْرِجُونَهَا بَعْدَ ذَلِكَ بِرِفْقٍ وَلَطَافَةٍ كَالَّذِي يَسْبَحُ فِي الْمَاءِ فَإِنَّهُ يَتَحَرَّكُ بِرِفْقٍ وَلَطَافَةٍ لِئَلَّا يَغْرَقَ، فَكَذَا هَاهُنَا يَرْفُقُونَ فِي ذَلِكَ الِاسْتِخْرَاجِ، لِئَلَّا يَصِلَ إِلَيْهِ أَلَمٌ وَشِدَّةٌ
28
فَذَاكَ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً وَأَمَّا الَّذِينَ حَمَلُوهُ عَلَى سَائِرِ طَوَائِفِ الْمَلَائِكَةِ فَقَالُوا: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ يَنْزِلُونَ مِنَ السَّمَاءِ مُسْرِعِينَ، فَجَعَلَ نُزُولَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ كَالسِّبَاحَةِ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِلْفَرَسِ الْجَوَادِ، إِنَّهُ السَّابِحُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً فَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَهُ بِمَلَائِكَةِ قَبْضِ الْأَرْوَاحِ يَسْبِقُونَ بِأَرْوَاحِ الْكُفَّارِ إِلَى النَّارِ، وَبِأَرْوَاحِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى الْجَنَّةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَهُ بِسَائِرِ طَوَائِفِ الْمَلَائِكَةِ، ثُمَّ ذَكَرُوا فِي هَذَا السَّبْقِ وُجُوهًا أَحَدُهَا:
قَالَ مُجَاهِدٌ وَأَبُو رَوْقٍ إِنَّ الْمَلَائِكَةَ سَبَقَتِ ابْنَ آدَمَ بِالْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُسَابَقَةَ فِي الْخَيْرَاتِ دَرَجَةٌ عَظِيمَةٌ قَالَ تَعَالَى: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ [الْوَاقِعَةِ: ١٠] وَثَانِيهَا: قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَسْبِقُ الشَّيَاطِينَ بِالْوَحْيِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ لِأَنَّ الشَّيَاطِينَ كَانَتْ تَسْتَرِقُ السَّمْعَ وَثَالِثُهَا: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُمْ فَقَالَ: لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ [الْأَنْبِيَاءِ: ٢٧] يَعْنِي قَبْلَ الْإِذْنِ لَا يَتَحَرَّكُونَ وَلَا يَنْطِقُونَ تَعْظِيمًا لِجَلَالِ اللَّهِ تَعَالَى وَخَوْفًا مِنْ هَيْبَتِهِ، وَهَاهُنَا وَصَفَهُمْ بِالسَّبْقِ يَعْنِي إِذَا جَاءَهُمُ الْأَمْرُ، فَإِنَّهُمْ يَتَسَارَعُونَ إِلَى امْتِثَالِهِ وَيَتَبَادَرُونَ إِلَى إِظْهَارِ طَاعَتِهِ، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً، وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً فَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُمْ هُمُ الْمَلَائِكَةُ: قَالَ مُقَاتِلٌ يَعْنِي جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ، وَإِسْرَافِيلَ وَعِزْرَائِيلَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ يُدَبِّرُونَ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى فِي أَهْلِ الْأَرْضِ، وَهُمُ الْمُقَسِّمَاتُ أَمْرًا، أَمَّا جِبْرِيلُ فَوُكِّلَ بِالرِّيَاحِ وَالْجُنُودِ، وَأَمَّا مِيكَائِيلُ فَوُكِّلَ بِالْقَطْرِ وَالنَّبَاتِ، وَأَمَّا مَلَكُ الْمَوْتِ فَوُكِّلَ بِقَبْضِ الْأَنْفُسِ، وَأَمَّا إِسْرَافِيلُ فَهُوَ يَنْزِلُ بِالْأَمْرِ عَلَيْهِمْ، وَقَوْمٌ مِنْهُمْ مُوَكَّلُونَ بِحِفْظِ بَنِي آدَمَ، وَقَوْمٌ آخَرُونَ بِكِتَابَةِ أَعْمَالِهِمْ وَقَوْمٌ آخَرُونَ بِالْخَسْفِ وَالْمَسْخِ وَالرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ وَالْأَمْطَارِ، بَقِيَ عَلَى الْآيَةِ سُؤَالَانِ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لِمَ قَالَ: فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً، وَلَمْ يَقُلْ: أُمُورًا فَإِنَّهُمْ يُدَبِّرُونَ أُمُورًا كَثِيرَةً لَا أَمْرًا وَاحِدًا؟
وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْجِنْسُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ قَامَ مَقَامَ الْجَمْعِ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ فَكَيْفَ أَثْبَتَ لَهُمْ هَاهُنَا تَدْبِيرَ الْأَمْرِ. وَالْجَوَابُ: لَمَّا كَانَ ذَلِكَ الْإِتْيَانُ بِهِ كَانَ الْأَمْرُ كَأَنَّهُ «١» لَهُ، فَهَذَا تَلْخِيصُ مَا قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذَا الْبَابِ، وَعِنْدِي فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَهَا صِفَاتٌ سَلْبِيَّةٌ وَصِفَاتٌ إِضَافِيَّةٌ، أَمَّا الصِّفَاتُ السَّلْبِيَّةُ فَهِيَ أَنَّهَا مُبَرَّأَةٌ عَنِ الشَّهْوَةِ وَالْغَضَبِ وَالْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ، وَالْمَوْتِ وَالْهِرَمِ وَالسَّقَمِ وَالتَّرْكِيبِ مِنَ الْأَعْضَاءِ وَالْأَخْلَاطِ وَالْأَرْكَانِ، بَلْ هِيَ جَوَاهِرُ رُوحَانِيَّةٌ مُبَرَّأَةٌ عَنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ، فَقَوْلُهُ: وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِهَا مَنْزُوعَةً عَنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ نَزْعًا كُلِّيًّا مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ: النَّازِعاتِ هِيَ ذَوَاتُ النَّزْعِ كَاللَّابِنِ وَالتَّامِرِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: النَّاشِطاتِ نَشْطاً إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ خُرُوجَهَا عَنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ لَيْسَ عَلَى سَبِيلِ التَّكْلِيفِ وَالْمَشَقَّةِ كَمَا فِي حَقِّ الْبَشَرِ، بَلْ هُمْ بِمُقْتَضَى مَاهِيَّاتِهِمْ خَرَجُوا عَنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ وَتَنَزَّهُوا عَنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ، فَهَاتَانِ الْكَلِمَتَانِ إِشَارَتَانِ إِلَى تَعْرِيفِ أَحْوَالِهِمُ السَّلْبِيَّةِ، وَأَمَّا صِفَاتُهُمُ الْإِضَافِيَّةُ فَهِيَ قِسْمَانِ أَحَدُهُمَا: شَرْحُ قُوَّتِهِمُ الْعَاقِلَةِ أَيْ كَيْفَ حَالُهُمْ فِي مَعْرِفَةِ مُلْكِ اللَّهِ وَمَلَكُوتِهِ وَالِاطِّلَاعِ عَلَى نُورِ جَلَالِهِ فَوَصَفَهُمْ فِي هَذَا الْمَقَامِ بِوَصْفَيْنِ/ أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ: وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً فَهُمْ يَسْبَحُونَ مِنْ أَوَّلِ فِطْرَتِهِمْ فِي بِحَارِ جَلَالِ اللَّهِ ثُمَّ لَا مُنْتَهَى لِسِبَاحَتِهِمْ، لِأَنَّهُ لَا مُنْتَهَى لِعَظَمَةِ اللَّهِ وَعُلُوِّ صَمَدِيَّتِهِ وَنُورِ جَلَالِهِ وَكِبْرِيَائِهِ، فَهُمْ أَبَدًا فِي تِلْكَ السِّبَاحَةِ وَثَانِيهُمَا: قَوْلُهُ: فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى مَرَاتِبِ الْمَلَائِكَةِ فِي تِلْكَ السِّبَاحَةِ فَإِنَّهُ كَمَا أَنَّ مَرَاتِبَ مَعَارِفِ الْبَهَائِمِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَرَاتِبِ مَعَارِفِ الْبَشَرِ نَاقِصَةٌ، وَمَرَاتِبَ
(١) في الأصل الذي أراجع عليه (كان الأمر كله له) و (قولهم) ولعل ما ذكرته هو الصواب في الموضعين.
29
مَعَارِفِ الْبَشَرِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَرَاتِبِ مَعَارِفِ الْمَلَائِكَةِ نَاقِصَةٌ، فَكَذَلِكَ مَعَارِفُ بَعْضِ تِلْكَ الْمَلَائِكَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَرَاتِبِ مَعَارِفِ الْبَاقِينَ مُتَفَاوِتَةٌ، وَكَمَا أَنَّ الْمُخَالَفَةَ بَيْنَ نَوْعِ الْفَرَسِ وَنَوْعِ الْإِنْسَانِ بِالْمَاهِيَّةِ لَا بِالْعَوَارِضِ فَكَذَا الْمُخَالَفَةُ بَيْنَ شَخْصِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَبَيْنَ شَخْصِ الْآخَرِ بِالْمَاهِيَّةِ فَإِذَا كَانَتْ أَشْخَاصُهَا مُتَفَاوِتَةً بِالْمَاهِيَّةِ لَا بِالْعَوَارِضِ كَانَتْ لَا مَحَالَةَ مُتَفَاوِتَةً فِي دَرَجَاتِ الْمَعْرِفَةِ وَفِي مَرَاتِبِ التَّجَلِّي فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً فَهَاتَانِ الْكَلِمَتَانِ الْمُرَادُ مِنْهُمَا شَرْحُ أَحْوَالِ قُوَّتِهِمُ الْعَاقِلَةِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى شَرْحِ حَالِ قُوَّتِهِمُ الْعَامِلَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ حَالٍ مِنْ أَحْوَالِ الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ مُفَوَّضٌ إِلَى تَدْبِيرِ وَاحِدٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ هُمْ عُمَّارُ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَسُكَّانُ بقاع السموات، وَلَمَّا كَانَ التَّدْبِيرُ لَا يَتِمُّ إِلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ، لَا جَرَمَ قَدَّمَ شَرْحَ الْقُوَّةِ الْعَاقِلَةِ الَّتِي لَهُمْ عَلَى شَرْحِ الْقُوَّةِ الْعَامِلَةِ الَّتِي لَهُمْ، فَهَذَا الَّذِي ذَكَرْتُهُ احْتِمَالٌ ظَاهِرٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ مِنْ كَلَامِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ أَبَا مُسْلِمٍ بْنَ بَحْرٍ الْأَصْفَهَانِيَّ طَعَنَ فِي حَمْلِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ، وَقَالَ: وَاحِدُ النَّازِعَاتِ نَازِعَةٌ وَهُوَ مِنْ لَفْظِ الْإِنَاثِ، وَقَدْ نَزَّهَ اللَّهُ تَعَالَى الْمَلَائِكَةَ عَنِ التَّأْنِيثِ، وَعَابَ قَوْلَ الْكُفَّارِ حَيْثُ قَالَ: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً [الزُّخْرُفِ: ١٩].
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا طَعْنٌ لَا يَتَوَجَّهُ عَلَى تَفْسِيرِنَا، لِأَنَّ الْمُرَادَ الْأَشْيَاءُ ذَوَاتُ النَّزْعِ، وَهَذَا الْقَدْرُ لَا يَقْتَضِي مَا ذُكِرَ مِنَ التَّأْنِيثِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ: أَنَّهَا هِيَ النُّجُومُ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَوَصْفُ النُّجُومِ بِالنَّازِعَاتِ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: كَأَنَّهَا تُنْزَعُ مِنْ تَحْتِ الْأَرْضِ فَتَنْجَذِبُ إِلَى مَا فَوْقَ الْأَرْضِ، فَإِذَا كَانَتْ مَنْزُوعَةً كَانَتْ ذَوَاتِ نَزْعٍ، فَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا نَازِعَةٌ عَلَى قِيَاسِ اللَّابِنِ وَالتَّامِرِ وَثَانِيهَا: أَنَّ النَّازِعَاتِ مِنْ قَوْلِهِمْ نَزَعَ إِلَيْهِ أَيْ ذَهَبَ نُزُوعًا، هَكَذَا قَالَهُ الْوَاحِدِيُّ: فَكَأَنَّهَا تَطْلُعُ وَتَغْرُبُ بِالنَّزْعِ وَالسَّوْقِ وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ: نَزَعَتِ الْخَيْلُ إِذَا جَرَتْ، فَمَعْنَى: وَالنَّازِعاتِ أَيْ وَالْجَارِيَاتِ عَلَى السَّيْرِ الْمُقَدَّرِ وَالْحَدِّ الْمُعَيَّنِ وَقَوْلُهُ: غَرْقاً يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ النَّازِعَاتِ أَيْ هَذِهِ الْكَوَاكِبُ كَالْغَرْقَى فِي ذَلِكَ النَّزْعِ وَالْإِرَادَةِ وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِ حَالِهَا فِي تِلْكَ الْإِرَادَةِ، فَإِنْ قِيلَ: إِذَا لَمْ تَكُنِ الْأَفْلَاكُ وَالْكَوَاكِبُ أَحْيَاءً نَاطِقَةً، فَمَا مَعْنَى وَصْفِهَا بِذَلِكَ قُلْنَا: هَذَا يَكُونُ عَلَى سَبِيلِ التَّشْبِيهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [الأنبياء: ٣٣] فَإِنَّ الْجَمْعَ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ يَكُونُ لِلْعُقَلَاءِ، ثُمَّ إِنَّهُ ذُكِرَ فِي الْكَوَاكِبِ عَلَى سَبِيلِ التَّشْبِيهِ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَعْنَى غَرْقِهَا/ غَيْبُوبَتَهَا فِي أفق الغرب، فالنازعات إشارة إلى طلوعها وغرقا إِشَارَةٌ إِلَى غُرُوبِهَا أَيْ تَنْزِعُ، ثُمَّ تُغْرَقُ إِغْرَاقًا، وَهَذَا الْوَجْهُ ذَكَرَهُ قَوْمٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ.
أَمَّا قَوْلُهُ: وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً فَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : مَعْنَاهُ أَنَّهَا تَخْرُجُ مِنْ بُرْجٍ إِلَى بُرْجٍ مِنْ قَوْلِكَ:
ثَوْرٌ نَاشِطٌ إِذَا خَرَجَ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ. وَأَقُولُ يَرْجِعُ حَاصِلُ هَذَا الْكَلَامِ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ: وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً إِشَارَةٌ إِلَى حَرَكَتِهَا الْيَوْمِيَّةِ وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً إِشَارَةٌ إِلَى انْتِقَالِهَا مِنْ بُرْجٍ إِلَى بُرْجٍ وَهُوَ حَرَكَتُهَا الْمَخْصُوصَةُ بِهَا فِي أَفْلَاكِهَا الْخَاصَّةِ، وَالْعَجَبُ أَنَّ حَرَكَاتِهَا الْيَوْمِيَّةَ قَسْرِيَّةٌ، وَحَرَكَتَهَا مِنْ بُرْجٍ إِلَى بُرْجٍ لَيْسَتْ قَسْرِيَّةً، بَلْ مُلَائِمَةً لِذَوَاتِهَا، فَلَا جَرَمَ عَبَّرَ عَنِ الْأَوَّلِ بِالنَّزْعِ وَعَنِ الثَّانِي بِالنَّشْطِ، فَتَأَمَّلْ أَيُّهَا الْمِسْكِينُ فِي هَذِهِ الْأَسْرَارِ.
30
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً فَقَالَ الْحَسَنُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: هِيَ النُّجُومُ تَسْبَحُ فِي الْفَلَكِ، لِأَنَّ مُرُورَهَا فِي الْجَوِّ كَالسَّبْحِ، وَلِهَذَا قال: كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [الأنبياء: ٣٣].
وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً فَقَالَ الْحَسَنُ وَأَبُو عبيدة: وهي النُّجُومُ يَسْبِقُ بَعْضُهَا بَعْضًا فِي السَّيْرِ بِسَبَبِ كَوْنِ بَعْضِهَا أَسْرَعَ حَرَكَةً مِنَ الْبَعْضِ، أَوْ بِسَبَبِ رُجُوعِهَا أَوِ اسْتِقَامَتِهَا.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً فَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ بِسَبَبِ سَيْرِهَا وَحَرَكَتِهَا يَتَمَيَّزُ بَعْضُ الْأَوْقَاتِ عَنْ بَعْضٍ، فَتَظْهَرُ أَوْقَاتُ الْعِبَادَاتِ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ [الروم: ١٧، ١٨] وقال: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [الْبَقَرَةِ: ١٨٩] وَقَالَ: لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ [يُونُسَ: ٥] وَلِأَنَّ بِسَبَبِ حَرَكَةِ الشَّمْسِ تَخْتَلِفُ الْفُصُولُ الْأَرْبَعَةُ، ويخلف بِسَبَبِ اخْتِلَافِهَا أَحْوَالُ النَّاسِ فِي الْمَعَاشِ، فَلَا جَرَمَ أُضِيفَتْ إِلَيْهَا هَذِهِ التَّدْبِيرَاتُ وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّ كُلَّ جِسْمٍ مُحْدَثٌ ثَبَتَ أَنَّ الْكَوَاكِبَ مُحْدَثَةٌ مُفْتَقِرَةٌ إِلَى مُوجِدٍ يُوجِدُهَا، وَإِلَى صَانِعٍ يَخْلُقُهَا، ثُمَّ بَعْدَ هَذَا لَوْ قَدَّرْنَا أَنَّ صَانِعَهَا أَوْدَعَ فِيهَا قُوًى مُؤَثِّرَةً فِي أَحْوَالِ هَذَا الْعَالَمِ، فَهَذَا يَطْعَنُ فِي الدِّينِ الْبَتَّةَ، وَإِنْ لَمْ نَقُلْ بِثُبُوتِ هَذِهِ الْقُوَى أَيْضًا، لَكِنَّا نَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَجْرَى عَادَتَهُ بِأَنْ جَعَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ أَحْوَالِهَا الْمَخْصُوصَةِ سَبَبًا لِحُدُوثِ حَادِثٍ مَخْصُوصٍ فِي هَذَا الْعَالَمِ، كَمَا جَعَلَ الْأَكْلَ سَبَبًا لِلشِّبَعِ، وَالشُّرْبَ سَبَبًا لِلرِّيِّ، وَمُمَاسَّةَ النَّارِ سَبَبًا لِلِاحْتِرَاقِ، فَالْقَوْلُ بِهَذَا الْمَذْهَبِ لَا يَضُرُّ الْإِسْلَامَ الْبَتَّةَ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ الْخَمْسَةِ أَنَّهَا هِيَ الْأَرْوَاحُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ نَفْسَ الْمَيِّتِ تَنْزِعُ، يُقَالُ فُلَانٌ فِي النَّزْعِ، وَفُلَانٌ يَنْزِعُ إِذَا كَانَ فِي سِيَاقِ الْمَوْتِ، وَالْأَنْفُسُ نَازِعَاتٌ عِنْدَ السِّيَاقِ، وَمَعْنَى غَرْقاً أَيْ نَزْعًا شَدِيدًا أَبْلَغَ مَا يَكُونُ وَأَشَدَّ مِنْ إِغْرَاقِ النَّازِعِ فِي الْقَوْسِ وَكَذَلِكَ تَنْشِطُ لِأَنَّ النَّشْطَ مَعْنَاهُ الْخُرُوجُ، ثُمَّ الْأَرْوَاحُ الْبَشَرِيَّةُ الْخَالِيَةُ عَنِ الْعَلَائِقِ الْجُسْمَانِيَّةِ الْمُشْتَاقَةُ إِلَى الِاتِّصَالِ الْعُلْوِيِّ بَعْدَ خُرُوجِهَا مِنْ ظُلْمَةِ الْأَجْسَادِ تَذْهَبُ إِلَى عَالَمِ الْمَلَائِكَةِ، وَمَنَازِلِ الْقُدْسِ عَلَى أَسْرَعِ الْوُجُوهِ فِي رَوْحٍ وَرَيْحَانٍ، فَعَبَّرَ عَنْ ذَهَابِهَا عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ بِالسِّبَاحَةِ، ثُمَّ لَا شَكَّ أَنَّ مَرَاتِبَ الْأَرْوَاحِ/ فِي النَّفْرَةِ عَنِ الدُّنْيَا وَمَحَبَّةِ الِاتِّصَالِ بِالْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ مُخْتَلِفَةٌ فَكُلَّمَا كَانَتْ أَتَمَّ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ كَانَ سَيْرُهَا إِلَى هُنَاكَ أَسْبَقَ، وَكُلَّمَا كَانَتْ أَضْعَفَ كَانَ سَيْرُهَا إِلَى هُنَاكَ أَثْقَلَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَرْوَاحَ السَّابِقَةَ إِلَى هَذِهِ الْأَحْوَالِ أَشْرَفُ فَلَا جَرَمَ وَقَعَ الْقَسَمُ بِهَا، ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ الْأَرْوَاحَ الشَّرِيفَةَ الْعَالِيَةَ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ فِيهَا مَا يَكُونُ لِقُوَّتِهَا وَشَرَفِهَا يَظْهَرُ مِنْهَا آثَارٌ فِي أَحْوَالِ هَذَا الْعَالَمِ فَهِيَ فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً أَلَيْسَ أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَرَى أُسْتَاذَهُ فِي الْمَنَامِ وَيَسْأَلُهُ عَنْ مُشْكِلَةٍ فَيُرْشِدُهُ إِلَيْهَا؟ أَلَيْسَ أَنَّ الِابْنَ قَدْ يَرَى أَبَاهُ فِي الْمَنَامِ فَيَهْدِيهِ إِلَى كَنْزٍ مَدْفُونٍ؟ أَلَيْسَ أَنَّ جَالِينُوسَ قَالَ: كُنْتُ مَرِيضًا فَعَجَزْتُ عَنْ عِلَاجِ نَفْسِي فَرَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ وَاحِدًا أَرْشَدَنِي إِلَى كَيْفِيَّةِ الْعِلَاجِ؟ أَلَيْسَ أَنَّ الْغَزَالِيَّ قَالَ: إِنَّ الْأَرْوَاحَ الشَّرِيفَةَ إِذَا فَارَقَتْ أَبْدَانَهَا، ثُمَّ اتَّفَقَ إِنْسَانٌ مُشَابِهٌ لِلْإِنْسَانِ الْأَوَّلِ فِي الرُّوحِ وَالْبَدَنِ، فَإِنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَحْصُلَ لِلنَّفْسِ الْمُفَارِقَةِ تَعَلُّقٌ بِهَذَا الْبَدَنِ حَتَّى تَصِيرَ كَالْمُعَاوِنَةِ لِلنَّفْسِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِذَلِكَ الْبَدَنِ عَلَى أَعْمَالِ الْخَيْرِ فَتُسَمَّى تِلْكَ الْمُعَاوَنَةُ إِلْهَامًا؟ وَنَظِيرُهُ فِي جَانِبِ النُّفُوسِ الشِّرِّيرَةِ وَسْوَسَةٌ، وَهَذِهِ الْمَعَانِي وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَنْقُولَةً عَنِ الْمُفَسِّرِينَ إِلَّا أَنَّ اللَّفْظَ مُحْتَمِلٌ لَهَا جِدًّا.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ الْخَمْسِ أَنَّهَا صِفَاتُ خَيْلِ الْغُزَاةِ فَهِيَ نَازِعَاتٌ لِأَنَّهَا تَنْزِعُ فِي أَعِنَّتِهَا نَزْعًا تَغْرَقُ فِيهِ الْأَعِنَّةُ لِطُولِ أَعْنَاقِهَا لِأَنَّهَا عِرَابٌ وَهِيَ نَاشِطَاتٌ لِأَنَّهَا تَخْرُجُ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ،
31
مِنْ قَوْلِهِمْ: ثَوْرٌ نَاشِطٌ إِذَا خَرَجَ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ، وَهِيَ سَابِحَاتٌ لِأَنَّهَا تَسْبَحُ فِي جَرْيِهَا وَهِيَ سَابِقَاتٌ، لِأَنَّهَا تَسْبِقُ إِلَى الْغَايَةِ، وَهِيَ مُدَبِّرَاتٌ لِأَمْرِ الْغَلَبَةِ وَالظَّفَرِ، وَإِسْنَادُ التَّدْبِيرِ إِلَيْهَا مَجَازٌ لِأَنَّهَا مِنْ أَسْبَابِهِ.
الْوَجْهُ الْخَامِسُ: وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي مُسْلِمٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أن هذه صفاة الْغُزَاةِ فَالنَّازِعَاتُ أَيْدِي الْغُزَاةِ يُقَالُ: لِلرَّامِي نَزَعَ فِي قَوْسِهِ، وَيُقَالُ: أَغْرَقَ فِي النَّزْعِ إِذَا اسْتَوْفَى مَدَّ الْقَوْسِ، وَالنَّاشِطَاتُ السِّهَامُ وَهِيَ خُرُوجُهَا عَنْ أَيْدِي الرُّمَاةِ وَنُفُوذُهَا، وَكُلُّ شَيْءٍ حَلَلْتَهُ فَقَدْ نَشَّطْتَهُ، وَمِنْهُ نَشَاطُ الرَّجُلِ وَهُوَ انْبِسَاطُهُ وَخِفَّتُهُ، وَالسَّابِحَاتُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الْخَيْلُ وَسَبْحُهَا الْعَدْوُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَعْنِيَ بِهِ الْإِبِلَ أَيْضًا، وَالْمُدَبِّرَاتُ مِثْلُ الْمُعَقِّبَاتِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ يَأْتِي فِي أَدْبَارِ هَذَا الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ نَزْعُ السِّهَامِ وَسَبْحُ الْخَيْلِ وَسَبْقُهَا الْأَمْرُ الَّذِي هُوَ النَّصْرُ، وَلَفْظُ التَّأْنِيثِ إِنَّمَا كَانَ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ جَمَاعَاتٌ، كَمَا قِيلَ: الْمُدَبِّرَاتُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْآلَةَ مِنَ الْقَوْسِ وَالْأَوْهَاقِ، عَلَى مَعْنَى الْمَنْزُوعِ فِيهَا وَالْمَنْشُوطِ بِهَا.
الْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنَّهُ يُمْكِنُ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ بِالْمَرَاتِبِ الْوَاقِعَةِ فِي رُجُوعِ الْقَلْبِ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى اللَّهِ ف النَّازِعاتِ غَرْقاً هِيَ الْأَرْوَاحُ الَّتِي تَنْزِعُ إِلَى اعْتِلَاقِ الْعُرْوَةِ الْوُثْقَى، أَوِ الْمَنْزُوعَةُ عَنْ مَحَبَّةِ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى:
وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً هِيَ أَنَّهَا بَعْدَ الرُّجُوعِ عَنِ الْجُسْمَانِيَّاتِ تَأْخُذُ فِي الْمُجَاهَدَةِ، وَالتَّخَلُّقِ بِأَخْلَاقِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِنَشَاطٍ تَامٍّ، وَقُوَّةٍ قَوِيَّةٍ: وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً ثُمَّ إِنَّهَا بَعْدَ الْمُجَاهَدَةِ تَسْرَحُ فِي أَمْرِ الْمَلَكُوتِ فَتَقْطَعُ فِي تِلْكَ الْبِحَارِ فَتَسْبَحُ فِيهَا: فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً إِشَارَةٌ إِلَى تَفَاوُتِ الْأَرْوَاحِ فِي دَرَجَاتِ سَيْرِهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى:
فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ آخِرَ مَرَاتِبِ/ الْبَشَرِيَّةِ مُتَّصِلَةٌ بِأَوَّلِ دَرَجَاتِ الْمَلَكِيَّةِ، فَلَمَّا انْتَهَتِ الْأَرْوَاحُ الْبَشَرِيَّةُ إِلَى أَقْصَى غَايَاتِهَا وَهِيَ مَرْتَبَةُ السَّبْقِ اتَّصَلَتْ بِعَالَمِ الْمَلَائِكَةِ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً فَالْأَرْبَعَةُ الْأُوَلُ هِيَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ [النُّورِ: ٣٥] والخامسة: هِيَ النَّارُ فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ [النُّورِ: ٣٥].
وَاعْلَمْ أَنَّ الْوُجُوهَ الْمَنْقُولَةَ عَنِ الْمُفَسِّرِينَ غَيْرُ مَنْقُولَةٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصًّا، حَتَّى لَا يُمْكِنَ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا، بَلْ إِنَّمَا ذَكَرُوهَا لِكَوْنِ اللَّفْظِ مُحْتَمِلًا لَهَا، فَإِذَا كَانَ احْتِمَالُ اللَّفْظِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ لَيْسَ دُونَ احْتِمَالِهِ لِلْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرُوهَا لَمْ يَكُنْ مَا ذَكَرُوهُ أَوْلَى مِمَّا ذَكَرْنَاهُ إِلَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ هَاهُنَا مِنْ دَقِيقَةٍ، وَهُوَ أَنَّ اللَّفْظَ مُحْتَمَلٌ لِلْكُلِّ، فَإِنْ وَجَدْنَا بَيْنَ هَذِهِ الْمَعَانِي مَفْهُومًا وَاحِدًا مُشْتَرَكًا حَمَلْنَا اللَّفْظَ عَلَى ذَلِكَ الْمُشْتَرَكِ: وَحِينَئِذٍ يَنْدَرِجُ تَحْتَهُ جَمِيعُ هَذِهِ الْوُجُوهِ. أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ هَذِهِ الْمَفْهُومَاتِ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ تَعَذَّرَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى الْكُلِّ، لِأَنَّ اللَّفْظَ الْمُشْتَرَكَ لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ لِإِفَادَةِ مَفْهُومَيْهِ مَعًا، فَحِينَئِذٍ لَا نَقُولُ مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى هَذَا، بَلْ نَقُولُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا هُوَ الْمُرَادَ، أَمَّا الْجَزْمُ فَلَا سَبِيلَ إِلَيْهِ هَاهُنَا.
الِاحْتِمَالُ الثَّانِي: وهو أن لا تكون الْأَلْفَاظُ الْخَمْسَةُ صِفَاتٍ لِشَيْءٍ وَاحِدٍ، بَلْ لِأَشْيَاءَ مُخْتَلِفَةٍ، فَفِيهِ أَيْضًا وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: النَّازِعَاتُ غَرْقًا، هِيَ: الْقِسِيُّ، وَالنَّاشِطَاتُ نَشْطًا هِيَ الْأَوْهَاقُ، وَالسَّابِحَاتُ السُّفُنُ، وَالسَّابِقَاتُ الْخَيْلُ، وَالْمُدَبِّرَاتُ الْمَلَائِكَةُ، رَوَاهُ وَاصِلُ بْنُ السَّائِبِ: عَنْ عَطَاءٍ الثَّانِي: نُقِلَ عَنْ مُجَاهِدٍ: فِي النَّازِعَاتِ، وَالنَّاشِطَاتِ، وَالسَّابِحَاتِ أَنَّهَا الْمَوْتُ، وَفِي السَّابِقَاتِ، وَالْمُدَبِّرَاتِ أَنَّهَا الْمَلَائِكَةُ، وَإِضَافَةُ النَّزْعِ، وَالنَّشْطِ، وَالسَّبْحِ إِلَى الْمَوْتِ مَجَازٌ بِمَعْنَى أَنَّهَا حَصَلَتْ عِنْدَ حُصُولِهِ الثَّالِثُ: قَالَ قَتَادَةُ: الْجَمِيعُ هِيَ النُّجُومُ إِلَّا الْمُدَبِّرَاتِ، فَإِنَّهَا هِيَ الْمَلَائِكَةُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرَ فَالسَّابِقَاتِ بِالْفَاءِ، وَالَّتِي قَبْلَهَا بِالْوَاوِ، وَفِي عِلَّتِهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: قَالَ صَاحِبُ «الكشاف» : إن هذه مسيبة عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَاللَّاتِي سَبَحْنَ، فَسَبَقْنَ كَمَا تَقُولُ: قَامَ فَذَهَبَ أَوْجَبَ الْفَاءُ
32
أَنَّ الْقِيَامَ كَانَ سَبَبًا لِلذَّهَابِ، وَلَوْ قُلْتَ: قَامَ وَذَهَبَ لَمْ تَجْعَلِ الْقِيَامَ سَبَبًا لِلذَّهَابِ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَوْلُ صَاحِبِ «النَّظْمِ» غَيْرُ مُطَّرِدٍ فِي قَوْلِهِ: فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً لِأَنَّهُ يَبْعُدُ أَنْ يَجْعَلَ السَّبْقَ سَبَبًا لِلتَّدْبِيرِ، وَأَقُولُ: يُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنِ اعْتِرَاضِ الْوَاحِدِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: لَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا لَمَّا أُمِرَتْ سَبَحَتْ فَسَبَقَتْ فَدَبَّرَتْ مَا أُمِرَتْ بِتَدْبِيرِهَا وَإِصْلَاحِهَا، فَتَكُونُ هَذِهِ أَفْعَالًا يَتَّصِلُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، كَقَوْلِكَ قَامَ زَيْدٌ، فَذَهَبَ، فَضَرَبَ عَمْرًا، الثَّانِي: لَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا سَابِقِينَ فِي أَدَاءِ الطَّاعَاتِ مُتَسَارِعِينَ إِلَيْهَا ظَهَرَتْ أَمَانَتُهُمْ، فَلِهَذَا السَّبَبِ فَوَّضَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ تَدْبِيرَ بَعْضِ الْعَالَمِ الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ قِسْمَانِ، الرُّؤَسَاءُ وَالتَّلَامِذَةُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ [السَّجْدَةِ: ١١] ثُمَّ قَالَ: حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا [الْأَنْعَامِ: ٦١] فَقُلْنَا فِي التَّوْفِيقِ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ: إِنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ هُوَ الرَّأْسُ، وَالرَّئِيسُ وَسَائِرُ الملائكة هم التلامذة، إذا عرفت هذا فتقول: النَّازِعَاتُ، وَالنَّاشِطَاتُ/ وَالسَّابِحَاتُ، مَحْمُولَةٌ عَلَى التَّلَامِذَةِ الَّذِينَ هُمْ يُبَاشِرُونَ الْعَمَلَ بِأَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَالسَّابِقاتِ... فَالْمُدَبِّراتِ إِشَارَةٌ إِلَى الرُّؤَسَاءِ الَّذِينَ هُمُ السَّابِقُونَ، فِي الدَّرَجَةِ وَالشَّرَفِ، وَهُمُ الْمُدَبِّرُونَ لِتِلْكَ الأحوال والأعمال.
[سورة النازعات (٧٩) : الآيات ٦ الى ١١]
يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (٦) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (٧) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (٨) أَبْصارُها خاشِعَةٌ (٩) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (١٠)
أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (١١)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ] فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: جَوَابُ الْقَسَمِ الْمُتَقَدِّمِ مَحْذُوفٌ أَوْ مَذْكُورٌ فِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَحْذُوفٌ، ثُمَّ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فِي الْآيَةِ احْتِمَالَاتٌ:
الْأَوَّلُ: قَالَ الْفَرَّاءُ التَّقْدِيرُ: لَتُبْعَثُنَّ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ، أَنَّهُمْ قَالُوا: أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً [النازعات: ١١] أَيْ أَنُبْعَثُ إِذَا صِرْنَا عِظَامًا نَخِرَةً الثَّانِي: قَالَ الْأَخْفَشُ وَالزَّجَّاجُ: لَنَنْفُخَنَّ فِي الصُّورِ نَفْخَتَيْنِ وَدَلَّ عَلَى هَذَا الْمَحْذُوفِ ذِكْرُ الرَّاجِفَةِ وَالرَّادِفَةِ وَهُمَا النَّفْخَتَانِ الثَّالِثُ: قَالَ الْكِسَائِيُّ: الْجَوَابُ الْمُضْمَرُ هُوَ أَنَّ الْقِيَامَةَ وَاقِعَةٌ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وتعالى قال: وَالذَّارِياتِ ذَرْواً [الذاريات: ١] ثُمَّ قَالَ: إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ [الذَّارِيَاتِ: ٥] وَقَالَ: وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً... إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ [الْمُرْسَلَاتِ: ١، ٧] فَكَذَلِكَ هَاهُنَا فَإِنَّ الْقُرْآنَ كَالسُّورَةِ الْوَاحِدَةِ الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْجَوَابَ مَذْكُورٌ وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ احْتِمَالَاتٌ الْأَوَّلُ: الْمُقْسَمُ عَلَيْهِ هُوَ قَوْلُهُ: قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ أَبْصارُها خاشِعَةٌ وَالتَّقْدِيرُ وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا إِنَّ يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَحْصُلُ قُلُوبٌ وَاجِفَةٌ وَأَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ الثَّانِي: جَوَابُ الْقَسَمِ هُوَ قَوْلُهُ: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى [النَّازِعَاتِ: ١٥] فَإِنَّ هَلْ هَاهُنَا بِمَعْنَى قَدْ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ [الْغَاشِيَةِ: ١] أَيْ قَدْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ الثَّالِثُ:
جَوَابُ الْقَسَمِ هُوَ قَوْلُهُ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى [النَّازِعَاتِ: ٢٦].
33
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرُوا فِي نَاصِبِ يَوْمَ بِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَنْصُوبٌ بِالْجَوَابِ الْمُضْمَرِ وَالتَّقْدِيرُ لَتُبْعَثُنَّ يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَصِحُّ هَذَا مَعَ أَنَّهُمْ لَا يُبْعَثُونَ عِنْدَ النَّفْخَةِ الْأُولَى وَالرَّاجِفَةُ هِيَ النَّفْخَةُ الْأُولَى؟ قُلْنَا الْمَعْنَى لَتُبْعَثُنَّ فِي الْوَقْتِ الْوَاسِعِ الَّذِي يَحْصُلُ فِيهِ النَّفْخَتَانِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ يُبْعَثُونَ فِي بَعْضِ ذَلِكَ الْوَقْتِ الْوَاسِعِ وَهُوَ وَقْتُ النَّفْخَةِ الْأُخْرَى، وَيَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَاهُ أَنَّ قَوْلَهُ: تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ جُعِلَ حَالًا عَنِ الرَّاجِفَةِ وَالثَّانِي: أَنْ يُنْصَبَ يَوْمَ تَرْجُفُ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ: قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ أَيْ يَوْمَ تَرْجُفُ وَجَفَتِ الْقُلُوبُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الرَّجْفَةُ فِي اللُّغَةِ تَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: الْحَرَكَةُ لِقَوْلِهِ: يَوْمَ تَرْجُفُ/ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ [الْمُزَّمِّلِ: ١٤]. الثَّانِي: الْهَدَّةُ الْمُنْكَرَةُ وَالصَّوْتُ الْهَائِلُ مِنْ قَوْلِهِمْ: رَجَفَ الرَّعْدُ يَرْجُفُ رَجْفًا وَرَجِيفًا، وَذَلِكَ تَرَدُّدُ أَصْوَاتِهِ الْمُنْكَرَةِ وَهَدْهَدَتُهُ فِي السَّحَابِ، وَمِنْهُ قوله تعالى: فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ [الأعراف:
٩١] فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ الرَّاجِفَةُ صَيْحَةٌ عَظِيمَةٌ فِيهَا هَوْلٌ وَشِدَّةٌ كَالرَّعْدِ، وَأَمَّا الرَّادِفَةُ فَكُلُّ شَيْءٍ جَاءَ بَعْدَ شَيْءٍ آخَرَ يُقَالُ رَدِفَهُ، أَيْ جَاءَ بَعْدَهُ، وَأَمَّا الْقُلُوبُ الْوَاجِفَةُ فَهِيَ الْمُضْطَرِبَةُ الْخَائِفَةُ، يُقَالُ: وَجَفَ قَلْبُهُ يَجِفُ وِجَافًا إِذَا اضْطَرَبَ، وَمِنْهُ إِيجَافُ الدَّابَّةِ، وَحَمْلُهَا عَلَى السَّيْرِ الشَّدِيدِ، وَلِلْمُفَسِّرِينَ عِبَارَاتٌ كَثِيرَةٌ فِي تَفْسِيرِ الْوَاجِفَةِ وَمَعْنَاهَا وَاحِدٌ، قَالُوا: خَائِفَةٌ وَجِلَةٌ زَائِدَةٌ عَنْ أَمَاكِنِهَا قَلِقَةٌ مُسْتَوْفِزَةٌ مُرْتَكِضَةٌ شَدِيدَةُ الِاضْطِرَابِ غَيْرُ سَاكِنَةٍ، أَبْصَارُ أَهْلِهَا خَاشِعَةٌ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ [الشُّورَى: ٤٥] إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ، اتَّفَقَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ أَحْوَالُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَزَعَمَ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ وَنَحْنُ نَذْكُرُ تَفَاسِيرَ الْمُفَسِّرِينَ ثُمَّ نَشْرَحُ قَوْلَ أَبِي مُسْلِمٍ.
أَمَّا الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْمَشْهُورُ بَيْنَ الْجُمْهُورِ، أَنَّ هَذِهِ الْأَحْوَالَ أَحْوَالُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَهَؤُلَاءِ ذَكَرُوا وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنَّ الرَّاجِفَةَ هِيَ النَّفْخَةُ الْأُولَى، وَسُمِّيَتْ بِهِ إِمَّا لِأَنَّ الدُّنْيَا تَتَزَلْزَلُ وَتَضْطَرِبُ عِنْدَهَا، وَإِمَّا لِأَنَّ صَوْتَ تِلْكَ النَّفْخَةِ هِيَ الرَّاجِفَةُ، كَمَا بَيَّنَّا الْقَوْلَ فِيهِ، وَالرَّاجِفَةُ رَجْفَةٌ أُخْرَى تَتْبَعُ الْأُولَى فَتَضْطَرِبُ الْأَرْضُ لِإِحْيَاءِ الْمَوْتَى كَمَا اضْطَرَبَتْ فِي الْأُولَى لِمَوْتِ الْأَحْيَاءِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الزُّمَرِ، ثُمَّ
يُرْوَى عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أَرْبَعِينَ عَامًا، وَيُرْوَى فِي هَذِهِ الْأَرْبَعِينَ يُمْطِرُ اللَّهُ الْأَرْضَ وَيَصِيرُ ذَلِكَ الْمَاءُ عَلَيْهَا كَالنُّطَفِ، وَأَنَّ ذَلِكَ كَالسَّبَبِ لِلْأَحْيَاءِ، وَهَذَا مِمَّا لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ فِي الْإِعَادَةِ، وَلِلَّهِ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَشَاءُ، وَيَحْكُمَ مَا يُرِيدُ
وَثَانِيهَا: الرَّاجِفَةُ هِيَ النَّفْخَةُ الْأُولَى وَالرَّادِفَةُ هِيَ قِيَامُ السَّاعَةِ مِنْ قَوْلِهِ: عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ [النَّمْلِ: ٧٢] أَيِ الْقِيَامَةُ الَّتِي يَسْتَعْجِلُهَا الْكَفَرَةُ اسْتِبْعَادًا لَهَا فَهِيَ رَادِفَةٌ لَهُمْ لِاقْتِرَابِهَا وَثَالِثُهَا: الرَّاجِفَةُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ مِنْ قَوْلِهِ: يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَالرَّادِفَةُ السَّمَاءُ وَالْكَوَاكِبُ لِأَنَّهَا تَنْشَقُّ وَتَنْتَثِرُ كَوَاكِبُهَا عَلَى أَثَرِ ذَلِكَ وَرَابِعُهَا: الرَّاجِفَةُ هِيَ الْأَرْضُ تَتَحَرَّكُ وَتَتَزَلْزَلُ وَالرَّادِفَةُ زَلْزَلَةٌ ثَانِيَةٌ تَتْبَعُ الْأُولَى حَتَّى تَنْقَطِعَ الْأَرْضُ وَتَفْنَى الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ أَنَّ هَذِهِ الْأَحْوَالَ لَيْسَتْ أَحْوَالَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّا نَقَلْنَا عَنْهُ أَنَّهُ فَسَّرَ النَّازِعَاتِ بِنَزْعِ الْقَوْسِ وَالنَّاشِطَاتِ بِخُرُوجِ السَّهْمِ، وَالسَّابِحَاتِ بِعَدْوِ الْفَرَسِ، وَالسَّابِقَاتِ بِسَبْقِهَا، وَالْمُدَبِّرَاتِ بِالْأُمُورِ الَّتِي تَحْصُلُ أَدْبَارَ ذَلِكَ الرَّمْيِ وَالْعَدْوِ، ثُمَّ بَنَى عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ الرَّاجِفَةُ هِيَ خَيْلُ الْمُشْرِكِينَ وَكَذَلِكَ الرَّادِفَةُ وَيُرَادُ بِذَلِكَ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ غَزَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَبَقَتْ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى، وَالْقُلُوبُ الْوَاجِفَةُ هِيَ الْقَلِقَةُ، وَالْأَبْصَارُ الْخَاشِعَةُ هِيَ أَبْصَارُ الْمُنَافِقِينَ كَقَوْلِهِ: الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ [مُحَمَّدٍ: ٢٠] كَأَنَّهُ قِيلَ لَمَّا جَاءَ خَيْلُ العدو يرجف، وَرَدَفَتْهَا أُخْتُهَا اضْطَرَبَ قُلُوبُ الْمُنَافِقِينَ خَوْفًا،
34
وخشعت أبصارهم جبنا وضعفا، ثم قالوا: / أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ [النازعات: ١٠] أَيْ نَرْجِعُ إِلَى الدُّنْيَا حَتَّى نَتَحَمَّلَ هَذَا الْخَوْفَ لِأَجْلِهَا وَقَالُوا أَيْضًا: تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ [النَّازِعَاتِ: ١٢] فَأَوَّلُ هَذَا الْكَلَامِ حِكَايَةٌ لِحَالِ مَنْ غَزَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَأَوْسَطُهُ حِكَايَةٌ لِحَالِ الْمُنَافِقِينَ وَآخِرُهُ حِكَايَةٌ لِكَلَامِ الْمُنَافِقِينَ فِي إِنْكَارِ الْحَشْرِ، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَجَابَ عَنْ كَلَامِهِمْ بِقَوْلِهِ: فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ [النازعات: ١٣، ١٤] وَهَذَا كَلَامُ أَبِي مُسْلِمٍ وَاللَّفْظُ مُحْتَمِلٌ لَهُ وَإِنْ كَانَ عَلَى خِلَافِ قَوْلِ الْجُمْهُورِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ أَبْصارُها خاشِعَةٌ اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَقُلِ: الْقُلُوبُ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ، فَإِنَّهُ ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّ أَهْلَ الْإِيمَانِ لَا يَخَافُونَ بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ قُلُوبُ الْكُفَّارِ، وَمِمَّا يُؤَكِّدُ ذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يقولون: أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ [النازعات: ١٠] وَهَذَا كَلَامُ الْكُفَّارِ لَا كَلَامُ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَوْلُهُ:
أَبْصارُها خاشِعَةٌ لِأَنَّ الْمَعْلُومَ مِنْ حَالِ الْمُضْطَرِبِ الْخَائِفِ أَنْ يَكُونَ نَظَرُهُ نَظَرَ خَاشِعٍ ذَلِيلٍ خَاضِعٍ يَتَرَقَّبُ مَا يَنْزِلُ بِهِ مِنَ الْأَمْرِ الْعَظِيمِ، وَفِي الْآيَةِ سُؤَالَانِ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: كَيْفَ جَازَ الِابْتِدَاءُ بِالنَّكِرَةِ؟ الْجَوَابُ: قُلُوبٌ مَرْفُوعَةٌ بِالِابْتِدَاءِ وواجفة صفتها وأبصارها خاشعة خبرها فهو كقوله: لَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ [الْبَقَرَةِ: ٢٢١].
السُّؤَالُ الثَّانِي: كَيْفَ صَحَّتْ إِضَافَةُ الْأَبْصَارِ إِلَى الْقُلُوبِ؟ الْجَوَابُ: مَعْنَاهُ أَبْصَارُ أَصْحَابِهَا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ يَقُولُونَ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى هَاهُنَا عَنْ مُنْكِرِي البعث أقوالا ثلاثة:
أولها: قوله تعالى: يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ يُقَالُ رَجَعَ فُلَانٌ فِي حَافِرَتِهِ أَيْ فِي طَرِيقِهِ الَّتِي جَاءَ فِيهَا فَحَفَرَهَا أَيْ أَثَّرَ فِيهَا بِمَشْيِهِ فِيهَا جَعَلَ أَثَرَ قَدَمَيْهِ حَفْرًا فَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ مَحْفُورَةٌ إِلَّا أَنَّهَا سُمِّيَتْ حَافِرَةٌ، كَمَا قِيلَ: فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ [الحاقة: ٢١] وماءٍ دافِقٍ [الطَّارِقِ: ٦] أَيْ مَنْسُوبَةٍ إِلَى الْحَفْرِ وَالرِّضَا وَالدَّفْقِ أَوْ كَقَوْلِهِمْ نَهَارُكَ صَائِمٌ، ثُمَّ قِيلَ لِمَنْ كَانَ فِي أَمْرٍ فَخَرَجَ مِنْهُ ثُمَّ عَادَ إِلَيْهِ رَجَعَ إِلَى حَافِرَتِهِ، أَيْ إِلَى طَرِيقَتِهِ
وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَا يُتْرَكُ عَلَى حَالِهِ حَتَّى يُرَدَّ عَلَى حَافِرَتِهِ»
أَيْ عَلَى أَوَّلِ تَأْسِيسِهِ وَحَالَتِهِ الْأُولَى وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ فِي الْحُفْرَةِ، وَالْحُفْرَةُ بِمَعْنَى الْمَحْفُورَةِ يُقَالُ: حَفَرَتْ أَسْنَانُهُ، فَحَفَرَتْ حَفْرًا، وَهِيَ حُفْرَةٌ، هَذِهِ الْقِرَاءَةُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحَافِرَةَ فِي أَصْلِ الْكَلِمَةِ بِمَعْنَى الْمَحْفُورِ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا ظَهَرَ أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ: أَنُرَدُّ إِلَى أَوَّلِ حَالِنَا وَابْتِدَاءِ أَمْرِنَا فَنَصِيرُ أَحْيَاءً كَمَا كُنَّا.
وثانيها: قوله تعالى: أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حَمْزَةُ وَعَاصِمٌ نَاخِرَةً بِأَلِفٍ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ نَخِرَةً بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنِ الْكِسَائِيِّ فَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ لَا يُبَالِي كَيْفَ قَرَأَهَا، وَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ يَقْرَؤُهَا بِغَيْرِ أَلِفٍ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْأَلِفِ، وَاعْلَمْ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ اخْتَارَ نَخِرَةً، وَقَالَ: نَظَرْنَا فِي الْآثَارِ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ الْعِظَامِ الَّتِي قَدْ نَخِرَتْ، فَوَجَدْنَاهَا كُلَّهَا الْعِظَامَ النَّخِرَةَ، وَلَمْ نَسْمَعْ فِي شَيْءٍ مِنْهَا النَّاخِرَةَ، وَأَمَّا مَنْ سِوَاهُ، فَقَدِ اتَّفَقُوا/ عَلَى أَنَّ النَّاخِرَةَ لُغَةٌ صَحِيحَةٌ، ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ عَلَى قَوْلَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنِ النَّاخِرَةَ وَالنَّخِرَةَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ قَالَ الْأَخْفَشُ هُمَا جَمِيعًا لُغَتَانِ أَيَّهُمَا قَرَأْتَ فَحَسَنٌ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: النَّاخِرُ وَالنَّخِرُ سَوَاءٌ فِي الْمَعْنَى بِمَنْزِلَةِ الطَّامِعِ وَالطَّمِعِ، وَالْبَاخِلِ وَالْبَخِلِ، وَفِي كِتَابِ «الْخَلِيلِ» نَخِرَتِ الْخَشَبَةُ إِذَا بَلِيَتْ فَاسْتَرْخَتْ حَتَّى تَتَفَتَّتَ إِذَا مُسَّتْ، وَكَذَلِكَ الْعَظْمُ النَّاخِرُ، ثُمَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَالُوا: هُمَا
35
لُغَتَانِ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ اخْتَلَفُوا فَقَالَ الزَّجَّاجُ وَالْفَرَّاءُ: النَّاخِرَةُ أَشْبَهُ الْوَجْهَيْنِ بِالْآيَةِ لِأَنَّهَا تُشْبِهُ أَوَاخِرَ سَائِرِ الْآيِ نَحْوَ الْحَافِرَةِ وَالسَّاهِرَةِ، وَقَالَ آخَرُونَ: النَّاخِرَةُ وَالنَّخِرُ كَالطَّامِعِ وَالطَّمِعِ، وَاللَّابِثِ وَاللَّبِثِ وَفَعِلٌ أَبْلَغُ مِنْ فَاعِلٍ الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ النَّخِرَةَ غَيْرٌ وَالنَّاخِرَةَ غَيْرٌ، أَمَّا النَّخِرَةُ فَهُوَ مِنْ نَخِرَ الْعَظْمُ يَنْخَرُ فَهُوَ نَخِرٌ مِثْلُ عَفِنَ يَعْفَنُ فَهُوَ عَفِنٌ، وَذَلِكَ إِذَا بَلِيَ وَصَارَ بِحَيْثُ لَوْ لَمَسْتَهُ لَتَفَتَّتَ، وَأَمَّا النَّاخِرَةُ فَهِيَ الْعِظَامُ الْفَارِغَةُ الَّتِي يَحْصُلُ مِنْ هُبُوبِ الرِّيحِ فِيهَا صَوْتٌ كَالنَّخِيرِ، وَعَلَى هَذَا النَّاخِرَةُ مِنَ النَّخِيرِ بِمَعْنَى الصَّوْتِ كَنَخِيرِ النَّائِمِ وَالْمَخْنُوقِ لَا مِنَ النَّخَرِ الَّذِي هُوَ الْبِلَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إذا منصوب بمحذوف تقدير إِذَا كُنَّا عِظَامًا نُرَدُّ وَنُبْعَثُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ حَاصِلَ هَذِهِ الشُّبْهَةِ أَنَّ الَّذِي يُشِيرُ إِلَيْهِ كُلُّ أَحَدٍ إِلَى نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ: أَنَا هُوَ هَذَا الْجِسْمُ الْمَبْنِيُّ بِهَذِهِ الْبِنْيَةِ الْمَخْصُوصَةِ، فَإِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ فَقَدْ بَطَلَ مِزَاجُهُ وَفَسَدَ تَرْكِيبُهُ فَتَمْتَنِعُ إِعَادَتُهُ لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا يَكُونُ الْإِنْسَانُ الْعَائِدُ هُوَ الْإِنْسَانُ الْأَوَّلُ إِلَّا إِذَا دَخَلَ التَّرْكِيبُ الْأَوَّلُ فِي الْوُجُودِ مَرَّةً أُخْرَى، وَذَلِكَ قَوْلٌ بِإِعَادَةِ عَيْنِ مَا عُدِمَ أَوَّلًا، وَهَذَا مُحَالٌ لِأَنَّ الَّذِي عُدِمَ لَمْ يَبْقَ لَهُ عَيْنٌ وَلَا ذَاتٌ وَلَا خُصُوصِيَّةٌ، فَإِذَا دَخَلَ شَيْءٌ آخَرُ فِي الْوُجُودِ استحال أيقال بِأَنَّ الْعَائِدَ هُوَ عَيْنُ مَا فَنِيَ أَوَّلًا وَثَانِيهَا: أَنَّ تِلْكَ الْأَجْزَاءَ تَصِيرُ تُرَابًا وَتَتَفَرَّقُ وَتَخْتَلِطُ بِأَجْزَاءِ كُلِّ الْأَرْضِ وَكُلِّ الْمِيَاهِ وَكُلِّ الْهَوَاءِ فَتَمَيُّزُ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ بِأَعْيَانِهَا عَنْ كُلِّ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مُحَالٌ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْأَجْزَاءَ التُّرَابِيَّةَ بَارِدَةٌ يَابِسَةٌ قَشِفَةٌ فَتَوَلُّدُ الْإِنْسَانِ الَّذِي لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ حَارًّا رَطْبًا فِي مِزَاجِهِ عَنْهَا مُحَالٌ، هَذَا تَمَامُ تَقْرِيرِ كَلَامِ هَؤُلَاءِ الذين احتجوا على إنكار البعث بقولهم: أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً وَالْجَوَابُ: عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ مِنْ وُجُوهٍ أَوَّلُهَا: وَهُوَ الْأَقْوَى: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ لِكُلِّ أَحَدٍ بِقَوْلِهِ: أَنَا هُوَ هَذَا الْهَيْكَلُ، ثُمَّ إِنَّ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى فَسَادِهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ أَجْزَاءَ هَذَا الهيكل في الزوبان وَالتَّبَدُّلِ، وَالَّذِي يُشِيرُ إِلَيْهِ كُلُّ أَحَدٍ إِلَى نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ أَنَا لَيْسَ فِي التَّبَدُّلِ وَالْمُتَبَدِّلُ مُغَايِرٌ لِمَا هُوَ غَيْرُ مُتَبَدِّلٍ وَالثَّانِي: أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَعْرِفُ أَنَّهُ هُوَ حَالَ كَوْنِهِ غَافِلًا عَنْ أَعْضَائِهِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، وَالْمَشْعُورُ بِهِ مُغَايِرٌ لِمَا هُوَ غَيْرُ مَشْعُورٍ بِهِ وَإِلَّا لَاجْتَمَعَ النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ عَلَى الشَّيْءِ الْوَاحِدِ وَهُوَ مُحَالٌ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ لِكُلِّ أَحَدٍ بِقَوْلِهِ: أَنَا لَيْسَ هُوَ هَذَا الْهَيْكَلَ، ثُمَّ هاهنا ثلاث احْتِمَالَاتٍ أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الشَّيْءُ مَوْجُودًا قَائِمًا بِنَفْسِهِ لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا بِجُسْمَانِيٍّ عَلَى مَا هُوَ مَذْهَبُ طَائِفَةٍ عَظِيمَةٍ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ وَمِنَ الْمُسْلِمِينَ وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ جِسْمًا مُخَالِفًا بِالْمَاهِيَّةِ لِهَذِهِ الْأَجْسَامِ الْقَابِلَةِ لِلِانْحِلَالِ وَالْفَسَادِ سَارِيَةً فِيهَا سَرَيَانَ النَّارِ فِي الْفَحْمِ وَسَرَيَانَ الدُّهْنِ فِي السِّمْسِمِ وَسَرَيَانَ مَاءِ الْوَرْدِ/ فِي جِرْمِ الْوَرْدِ فَإِذَا فَسَدَ هَذَا الْهَيْكَلُ تَقَلَّصَتْ تِلْكَ الْأَجْزَاءُ وَبَقِيَتْ حَيَّةً مُدْرِكَةً عَاقِلَةً، إِمَّا فِي الشَّقَاوَةِ أَوْ فِي السَّعَادَةِ وَثَالِثُهَا: أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ جِسْمٌ مُسَاوٍ لِهَذِهِ الْأَجْسَامِ فِي الْمَاهِيَّةِ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّهَا بِالْبَقَاءِ وَالِاسْتِمْرَارِ مِنْ أَوَّلِ حَالِ تَكَوُّنِ شَخْصٍ فِي الْوُجُودِ إِلَى آخِرِ عُمْرِهِ، وَأَمَّا سَائِرُ الْأَجْزَاءِ الْمُتَبَدِّلَةِ تَارَةً بِالزِّيَادَةِ وَأُخْرَى بِالنُّقْصَانِ فَهِيَ غَيْرُ دَاخِلَةٍ فِي الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ أَنَا فَعِنْدَ الْمَوْتِ تَنْفَصِلُ تِلْكَ الْأَجْزَاءُ. وَتَبْقَى حَيَّةً، إِمَّا فِي السَّعَادَةِ أَوْ فِي الشَّقَاوَةِ، وَإِذَا ظَهَرَتْ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتُ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ فَسَادِ الْبَدَنِ وَتَفَرُّقِ أَجْزَائِهِ فَسَادُ مَا هُوَ الْإِنْسَانُ حَقِيقَةً، وَهَذَا مَقَامٌ حَسَنٌ مَتِينٌ تَنْقَطِعُ بِهِ جَمِيعُ شُبُهَاتِ مُنْكِرِي الْبَعْثِ. وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَكُونُ لِصَيْرُورَةِ الْعِظَامِ نَخِرَةً بَالِيَةً مُتَفَرِّقَةً تَأْثِيرٌ فِي دَفْعِ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ الْبَتَّةَ، سَلَّمْنَا عَلَى سَبِيلِ الْمُسَامَحَةِ أَنَّ الْإِنْسَانَ هُوَ مَجْمُوعُ هَذَا الْهَيْكَلِ، فَلِمَ قُلْتُمْ: إِنَّ الْإِعَادَةَ مُمْتَنِعَةٌ؟
[أَوَّلًا] : الْمَعْدُومُ لَا يُعَادُ: قُلْنَا: أَلَيْسَ أَنَّ حَالَ عَدَمِهِ لَمْ يَمْتَنِعْ عِنْدَكُمْ صِحَّةُ الْحُكْمِ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ عَوْدُهُ،
36
فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ لَا يَمْتَنِعَ عَلَى قولنا أيضا صحة الحكم عليه بالعود، قول: ثَانِيًا: الْأَجْزَاءُ الْقَلِيلَةُ مُخْتَلِطَةٌ بِأَجْزَاءِ الْعَنَاصِرِ الْأَرْبَعَةِ، قُلْنَا لَكِنْ ثَبَتَ أَنَّ خَالِقَ الْعَالَمِ عَالِمٌ بِجَمِيعِ الْجُزْئِيَّاتِ، وَقَادِرٌ عَلَى كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ فَيَصِحُّ مِنْهُ جَمْعُهَا بِأَعْيَانِهَا. وَإِعَادَةُ الْحَيَاةِ إِلَيْهَا. قَوْلُهُ: ثَالِثًا: الْأَجْسَامُ الْقَشِفَةُ الْيَابِسَةُ لَا تَقْبَلُ الْحَيَاةَ. قُلْنَا: نَرَى السَّمَنْدَلَ، يَعِيشُ فِي النَّارِ، وَالنَّعَامَةَ تَبْتَلِعُ الْحَدِيدَةَ الْمُحْمَاةَ، وَالْحَيَّاتِ الْكِبَارَ الْعِظَامَ مُتَوَلِّدَةً فِي الثُّلُوجِ، فَبَطَلَ الِاعْتِمَادُ عَلَى الِاسْتِقْرَاءِ، وَاللَّهُ الهادي إلى الصدق والصواب.
[سورة النازعات (٧٩) : آية ١٢]
قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (١٢)
النَّوْعُ الثَّالِثُ: مِنَ الْكَلِمَاتِ الَّتِي حَكَاهَا اللَّهُ تَعَالَى عَنْ مُنْكِرِي الْبَعْثِ قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ وَالْمَعْنَى كَرَّةٌ مَنْسُوبَةٌ إِلَى الْخُسْرَانِ، كَقَوْلِكَ تِجَارَةٌ رَابِحَةٌ، أَوْ خَاسِرٌ أَصْحَابُهَا، وَالْمَعْنَى أَنَّهَا إِنْ صَحَّتْ فَنَحْنُ إِذًا خَاسِرُونَ لِتَكْذِيبِنَا، وَهَذَا مِنْهُمُ اسْتِهْزَاءٌ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْهُمْ هَذِهِ الكلمات قال:
[سورة النازعات (٧٩) : الآيات ١٣ الى ١٤]
فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (١٣) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (١٤)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَإِذا هُمْ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ مَعْنَاهُ لَا تَسْتَصْعِبُوهَا فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ، يَعْنِي لَا تَحْسَبُوا تِلْكَ الْكَرَّةَ صَعْبَةً عَلَى اللَّهِ فَإِنَّهَا سَهْلَةٌ هَيِّنَةٌ فِي قُدْرَتِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: يُقَالُ: زَجَرَ الْبَعِيرَ إِذَا صَاحَ عَلَيْهِ، وَالْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الصَّيْحَةِ النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ صَيْحَةُ إِسْرَافِيلَ، قَالَ المفسرون: يحيهم اللَّهُ فِي بُطُونِ الْأَرْضِ فَيَسْمَعُونَهَا فَيَقُومُونَ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً مَا لَها مِنْ فَواقٍ [ص: ١٥].
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: السَّاهِرَةُ الْأَرْضُ الْبَيْضَاءُ الْمُسْتَوِيَةُ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ/ سَالِكَهَا لَا يَنَامُ خَوْفًا مِنْهَا الثَّانِي: أَنَّ السَّرَابَ يَجْرِي فِيهَا مِنْ قَوْلِهِمْ عَيْنٌ سَاهِرَةٌ جَارِيَةُ الْمَاءِ، وَعِنْدِي فِيهِ وَجْهٌ ثَالِثٌ: وَهِيَ أَنَّ الْأَرْضَ إِنَّمَا تُسَمَّى سَاهِرَةً لِأَنَّ مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ فيها يطير النوم عن الْإِنْسَانِ، فَتِلْكَ الْأَرْضُ الَّتِي يَجْتَمِعُ الْكُفَّارُ فِيهَا فِي مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ يَكُونُونَ فِيهَا فِي أَشَدِّ الْخَوْفِ، فَسُمِّيَتْ تِلْكَ الْأَرْضُ سَاهِرَةً لِهَذَا السَّبَبِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ أَرْضُ الدُّنْيَا، وَقَالَ آخَرُونَ: هِيَ أَرْضُ الْآخِرَةِ لِأَنَّهُمْ عِنْدَ الزَّجْرَةِ وَالصَّيْحَةِ يُنْقَلُونَ أَفْوَاجًا إِلَى أَرْضِ الْآخِرَةِ وَلَعَلَّ هَذَا الْوَجْهَ أَقْرَبُ.
[سورة النازعات (٧٩) : الآيات ١٥ الى ١٧]
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (١٥) إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (١٦) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (١٧)
فيه مسائل:
37
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ وَجْهَ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ هَذِهِ الْقِصَّةِ وَبَيْنَ مَا قَبْلَهَا مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ الْكُفَّارِ إِصْرَارَهُمْ عَلَى إِنْكَارِ الْبَعْثِ حَتَّى انْتَهَوْا فِي ذَلِكَ الْإِنْكَارِ إِلَى حَدِّ الِاسْتِهْزَاءِ فِي قَوْلِهِمْ: تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ [النازعات: ١٢] وَكَانَ ذَلِكَ يَشُقُّ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ قِصَّةَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ تَحَمَّلَ الْمَشَقَّةَ الْكَثِيرَةَ فِي دَعْوَةِ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ ذَلِكَ كَالتَّسْلِيَةِ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثَّانِي: أَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ أَقْوَى مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ وَأَكْثَرَ جَمْعًا وَأَشَدَّ شَوْكَةً، فَلَمَّا تَمَرَّدَ عَلَى مُوسَى أَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى، فَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ فِي تَمَرُّدِهِمْ عَلَيْكَ إِنْ أَصَرُّوا أَخَذَهُمُ اللَّهُ وَجَعَلَهُمْ نَكَالًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: هَلْ أَتاكَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَلَيْسَ قَدْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى هَذَا إِنْ كَانَ قَدْ أَتَاهُ ذَلِكَ قَبْلَ هَذَا الْكَلَامِ، أَمَّا إِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ أَتَاهُ فَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: هَلْ أَتاكَ كَذَا، أَمْ أَنَا أُخْبِرُكَ بِهِ فَإِنَّ فِيهِ عِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْوَادِي الْمُقَدَّسُ الْمُبَارَكُ الْمُطَهَّرُ، وَفِي قَوْلِهِ: طُوىً وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أنه اسم وادي بِالشَّامِ وَهُوَ عِنْدَ الطُّورِ الَّذِي أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ فِي قَوْلِهِ: وَالطُّورِ وَكِتابٍ مَسْطُورٍ [الطُّورِ: ١، ٢] وَقَوْلِهِ:
وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ [مَرْيَمَ: ٥٢] وَالثَّانِي: أَنَّهُ بِمَعْنَى يَا رَجُلُ بِالْعِبْرَانِيَّةِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: يَا رَجُلُ اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: طُوىً أَيْ نَادَاهُ طُوىً مِنَ اللَّيْلَةِ اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ لِأَنَّكَ تَقُولُ جِئْتُكَ بَعْدَ طُوىً أَيْ بَعْدَ سَاعَةٍ مِنَ اللَّيْلِ وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ الَّذِي طُوِيَ أَيْ بُورِكَ فِيهِ مَرَّتَيْنِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو طُوَى بِضَمِّ الطَّاءِ غَيْرَ مُنَوَّنٍ، وَقَرَأَ/ الْبَاقُونَ بِضَمِّ الطَّاءِ مُنَوَّنًا، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو. طِوَى بِكَسْرِ الطَّاءِ، وَطَوَى مِثْلُ ثَنَى، وَهُمَا اسْمَانِ لِلشَّيْءِ الْمَثْنِيِّ، وَالطَّيُّ بِمَعْنَى الثَّنْيِ، أَيْ ثَنَّيْتُ فِي الْبَرَكَةِ وَالتَّقْدِيسِ، قَالَ الْفَرَّاءُ: طُوىً وَادٍ بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَمِصْرَ، فَمَنْ صَرَفَهُ قَالَ: هُوَ ذَكَرٌ سَمَّيْنَا بِهِ ذَكَرًا، وَمَنْ لَمْ يَصْرِفْهُ جَعَلَهُ مَعْدُولًا عَنْ جِهَتِهِ كَعُمَرَ وَزُفَرَ، ثُمَّ قَالَ: وَالصَّرْفُ أَحَبُّ إِلَيَّ إِذْ لَمْ أَجِدْ فِي الْمَعْدُولِ نَظِيرًا، أَيْ لَمْ أَجِدِ اسْمًا مِنَ الْوَاوِ وَالْيَاءِ عُدِلَ عَنْ فَاعِلِهِ إِلَى فِعْلٍ غَيْرَ طُوىً.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: تَقْدِيرُ الْآيَةِ: إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ وَقَالَ اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ، وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ أَنِ اذْهَبْ، لِأَنَّ فِي النِّدَاءِ مَعْنَى الْقَوْلِ. وَأَمَّا أَنَّ ذَلِكَ النِّدَاءَ كَانَ بِإِسْمَاعِ الْكَلَامِ الْقَدِيمِ، أَوْ بِإِسْمَاعِ الْحَرْفِ وَالصَّوْتِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَكَيْفَ عَرَفَ مُوسَى أَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ. فَكُلُّ ذَلِكَ قَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ طه.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: أَنَّ سَائِرَ الْآيَاتِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى فِي أَوَّلِ مَا نَادَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَكَرَ لَهُ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً، كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ طه: نُودِيَ يا مُوسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ إِلَى قَوْلِهِ: لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى [طه: ٢٣، ٢٤] فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ هَاهُنَا: اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى مِنْ جُمْلَةِ مَا نَادَاهُ بِهِ رَبُّهُ، لَا أَنَّهُ كُلُّ مَا نَادَاهُ بِهِ، وَأَيْضًا لَيْسَ الْغَرَضُ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مَبْعُوثًا إِلَى فِرْعَوْنَ فَقَطْ، بَلْ إِلَى كُلِّ مَنْ كَانَ فِي ذَلِكَ الطَّرَفِ، إِلَّا أَنَّهُ خَصَّهُ بِالذِّكْرِ، لِأَنَّ دَعْوَتَهُ جَارِيَةٌ مَجْرَى دَعْوَةِ كُلِّ ذَلِكَ الْقَوْمِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: الطُّغْيَانُ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُبَيِّنْ أَنَّهُ تَعَدَّى فِي أَيِّ شَيْءٍ، فَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ تَكَبَّرَ عَلَى اللَّهِ وَكَفَرَ بِهِ، وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ طَغَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَالْأَوْلَى عِنْدِي الْجَمْعُ
38
بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ طَغَى عَلَى الْخَالِقِ بِأَنْ كَفَرَ بِهِ، وَطَغَى عَلَى الْخَلْقِ بِأَنْ تَكَبَّرَ عَلَيْهِمْ وَاسْتَعْبَدَهُمْ، وَكَمَا أَنَّ كَمَالَ الْعُبُودِيَّةِ لَيْسَ إِلَّا صِدْقَ الْمُعَامَلَةِ مَعَ الْخَالِقِ وَمَعَ الْخَلْقِ، فَكَذَا كَمَالُ الطُّغْيَانِ لَيْسَ إِلَّا الْجَمْعُ بَيْنَ سُوءِ الْمُعَامَلَةِ مَعَ الْخَالِقِ وَمَعَ الْخَلْقِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَعَثَهُ إِلَى فِرْعَوْنَ لقنه كلامين ليخاطبه بهما: فالأول: قوله تعالى:
[سورة النازعات (٧٩) : آية ١٨]
فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (١٨)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يُقَالُ هَلْ لَكَ فِي كَذَا، وَهَلْ لَكَ إِلَى كَذَا، كَمَا تَقُولُ: هَلْ تَرْغَبُ فِيهِ، وَهَلْ تَرْغَبُ إِلَيْهِ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْمُبْتَدَأُ مَحْذُوفٌ فِي اللَّفْظِ مُرَادٌ فِي المعنى، والتقدير: هل لك إلى تَزَكَّى حَاجَةٌ أَوْ إِرْبَةٌ، قَالَ الشَّاعِرُ:
فَهَلْ لَكُمْ فِيهَا إِلَيَّ فَإِنَّنِي بَصِيرٌ بِمَا أَعْيَا النِّطَاسِيَّ حِذْيَمَا
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: هَلْ لَكَ سَبِيلٌ إِلَى أَنْ تَزَكَّى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الزَّكِيُّ الطَّاهِرُ مِنَ الْعُيُوبِ كُلِّهَا، قَالَ: أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً [الْكَهْفِ: ٧٤] وَقَالَ: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها [الشَّمْسِ: ٩] وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ جَامِعَةٌ لِكُلِّ مَا يَدْعُوهُ إِلَيْهِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَفْعَلَ مَا تَصِيرُ بِهِ زَاكِيًا عَنْ كُلِّ مَا لَا يَنْبَغِي، وَذَلِكَ بِجَمْعِ كَلِّ مَا يَتَّصِلُ بِالتَّوْحِيدِ وَالشَّرَائِعِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِيهِ قِرَاءَتَانِ: التَّشْدِيدُ عَلَى إِدْغَامِ تَاءِ التَّفَعُّلِ فِي الزَّايِ لِتَقَارُبِهِمَا وَالتَّخْفِيفُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْمُعْتَزِلَةُ تَمَسَّكُوا بِهِ فِي إِبْطَالِ كَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى خَالِقًا لِفِعْلِ الْعَبْدِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَإِنَّ هَذَا اسْتِفْهَامٌ عَلَى سَبِيلِ التَّقْرِيرِ، أَيْ لَكَ سَبِيلٌ إِلَى أَنْ تَزَكَّى، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ بِفِعْلِ اللَّهِ تعالى لا نقلب الْكَلَامُ عَلَى مُوسَى، وَالْجَوَابُ عَنْ أَمْثَالِهِ تَقَدَّمَ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّهُ لَمَّا قَالَ لَهُمَا: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً [طه: ٤٤] فَكَأَنَّهُ تَعَالَى رَتَّبَ لَهُمَا ذَلِكَ الْكَلَامَ اللَّيِّنَ الرَّقِيقَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ مِنَ اللِّينِ وَالرِّفْقِ وَتَرْكِ الْغِلْظَةِ، وَلِهَذَا قَالَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آلِ عِمْرَانَ: ١٥٩] وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ يُخَاشِنُونَ النَّاسَ وَيُبَالِغُونَ فِي التَّعَصُّبِ، كَأَنَّهُمْ عَلَى ضِدِّ ما أمر الله به أنبياءه ورسله. ثم قال تعالى:
[سورة النازعات (٧٩) : آية ١٩]
وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (١٩)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْقَائِلُونَ بِأَنَّ مَعْرِفَةَ اللَّهِ لَا تُسْتَفَادُ إِلَّا مِنَ الْهَادِي تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَقَالُوا: إِنَّهَا صَرِيحَةٌ فِي أَنَّهُ يَهْدِيهِ إِلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ، ثُمَّ قَالُوا: وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَعْظَمُ مِنْ بِعْثَةِ الرُّسُلِ أَمْرَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْأُمُورِ الَّتِي لَا بُدَّ لِلْمَبْعُوثِ إِلَيْهِ مِنْهَا، فَيَدْخُلُ فِيهِ هَذِهِ الْهِدَايَةُ فَلَمَّا أَعَادَهُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلِمَ أَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَعْظَمُ مِنَ الْبَعْثَةِ وَالثَّانِي: أَنَّ مُوسَى خَتَمَ كَلَامَهُ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ
يُنَبِّهُ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ أَشْرَفُ الْمَقَاصِدِ مِنَ الْبَعْثَةِ وَالْجَوَابُ: أَنَّا لَا نَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ لِلتَّنْبِيهِ وَالْإِشَارَةِ مَعُونَةً فِي الْكَشْفِ عَنِ الْحَقِّ إِنَّمَا النِّزَاعُ فِي أَنَّكُمْ تَقُولُونَ: يَسْتَحِيلُ حُصُولُهُ إِلَّا مِنَ الْمُعْلِمِ وَنَحْنُ لَا نُحِلُّ ذَلِكَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ مَعْرِفَةَ اللَّهِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى طَاعَتِهِ، لِأَنَّهُ ذَكَرَ الْهِدَايَةَ وَجَعَلَ الْخَشْيَةَ مُؤَخَّرَةً عَنْهَا وَمُفَرَّعَةً عَلَيْهَا، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي أَوَّلِ النَّحْلِ: أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ [النَّحْلِ: ٢] وَفِي طه: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي [طه: ١٤].
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْخَشْيَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا بِالْمَعْرِفَةِ. قَالَ تَعَالَى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فَاطِرٍ: ٢٨] أَيِ الْعُلَمَاءُ بِهِ، وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْخَشْيَةَ مِلَاكُ الْخَيْرَاتِ، لِأَنَّ مَنْ خَشِيَ اللَّهَ أَتَى مِنْهُ كُلُّ خَيْرٍ، وَمَنْ أَمِنَ اجْتَرَأَ عَلَى كُلِّ شَرٍّ، وَمِنْهُ
قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ «مَنْ خَافَ أَدْلَجَ، وَمَنْ أدلج بلغ المنزل».
[سورة النازعات (٧٩) : آية ٢٠]
فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (٢٠)
وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْفَاءُ فِي فَأَراهُ مَعْطُوفٌ عَلَى مَحْذُوفٍ مَعْلُومٍ، يَعْنِي فَذَهَبَ فَأَرَاهُ، كَقَوْلِهِ: فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ [الْبَقَرَةِ: ٦٠] أَيْ فَضَرَبَ فَانْفَجَرَتْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي الْآيَةِ الْكُبْرَى عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: قَالَ مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ: هِيَ الْيَدُ، لِقَوْلِهِ فِي النمل: وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ [النمل: ١٢] آيَةٌ أُخْرَى لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى [طه: ٢٣] الْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَ عَطَاءٌ: هِيَ الْعَصَا، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْيَدِ إِلَّا انْقِلَابُ لَوْنِهِ إِلَى لَوْنٍ آخَرَ، وَهَذَا الْمَعْنَى كَانَ حَاصِلًا فِي الْعَصَا، لِأَنَّهَا لَمَّا انْقَلَبَتْ حَيَّةً فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ قَدْ تَغَيَّرَ اللَّوْنُ الْأَوَّلُ، فَإِذًا كَلُّ مَا فِي الْيَدِ فَهُوَ حَاصِلٌ فِي الْعَصَا، ثُمَّ حَصَلَ فِي الْعَصَا أُمُورٌ أُخْرَى أَزْيَدُ مِنْ ذَلِكَ، مِنْهَا حُصُولُ الْحَيَاةِ فِي الْجِرْمِ الْجَمَادِيِّ، وَمِنْهَا تَزَايُدُ أَجْزَائِهِ وَأَجْسَامِهِ، وَمِنْهَا حُصُولُ الْقُدْرَةِ الْكَبِيرَةِ وَالْقُوَّةِ الشَّدِيدَةِ، وَمِنْهَا أَنَّهَا كَانَتِ ابْتَلَعَتْ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً وَكَأَنَّهَا فَنِيَتْ، وَمِنْهَا زَوَالُ الْحَيَاةِ وَالْقُدْرَةِ عَنْهَا، وَفَنَاءُ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ الَّتِي حَصَلَ عِظَمُهَا، وَزَوَالُ ذَلِكَ اللَّوْنِ وَالشَّكْلِ اللَّذَيْنِ بِهِمَا صَارَتِ الْعَصَا حَيَّةً، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ كَانَ مُعْجِزًا مُسْتَقِلًّا فِي نَفْسِهِ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْآيَةَ الْكُبْرَى هِيَ الْعَصَا وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلُ مُجَاهِدٍ: وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ الْكُبْرَى مَجْمُوعُ الْيَدِ وَالْعَصَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ سَائِرَ الْآيَاتِ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ أَوَّلَ مَا أَظْهَرَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِفِرْعَوْنَ هُوَ الْعَصَا، ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِالْيَدِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ الْكُبْرَى مجموعهما. أحدها: قوله تعالى:
[سورة النازعات (٧٩) : آية ٢١]
فَكَذَّبَ وَعَصى (٢١)
وفيه مسائل:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَعْنَى قَوْلِهِ: فَكَذَّبَ أَنَّهُ كَذَّبَ بِدَلَالَةِ ذَلِكَ الْمُعْجِزِ عَلَى صِدْقِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَدْحَ فِي دَلَالَةِ الْمُعْجِزَةِ عَلَى الصِّدْقِ إِمَّا لِاعْتِقَادِ أَنَّهُ يُمْكِنُ مُعَارَضَتُهُ، أَوْ لِأَنَّهُ وَإِنِ امْتَنَعَتْ مُعَارَضَتُهُ لَكِنَّهُ لَيْسَ فِعْلًا لِلَّهِ بَلْ لِغَيْرِهِ، إِمَّا فِعْلُ جِنِّيٍّ أَوْ فِعْلُ مَلَكٍ، أَوْ إِنْ كَانَ فِعْلًا لِلَّهِ تَعَالَى لَكِنَّهُ مَا فَعَلَهُ لِغَرَضِ التَّصْدِيقِ، أَوْ إِنْ كَانَ فَعَلَهُ لِغَرَضِ التَّصْدِيقِ لَكِنَّهُ لَا يَلْزَمُ صِدْقُ الْمُدَّعِي، فَإِنَّهُ لَا يَقْبُحُ مِنَ اللَّهِ شَيْءٌ الْبَتَّةَ، فَهَذِهِ مَجَامِعُ الطَّعْنِ فِي دَلَالَةِ
الْمُعْجِزِ عَلَى الصِّدْقِ، وَمَا بَعْدَ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِرْعَوْنَ إِنَّمَا مُنِعَ مِنْ دَلَالَتِهِ عَنِ الصِّدْقِ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ يُمْكِنُ مُعَارَضَتُهُ بِدَلِيلِ قوله: فَحَشَرَ فَنادى [النازعات: ٢٣] وَهُوَ كَقَوْلِهِ: فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ [الشعرا: ٥٣].
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْآيَةِ سُؤَالٌ وَهُوَ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ مَنْ كَذَّبَ اللَّهَ فَقَدْ عَصَى، فَمَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ: فَكَذَّبَ وَعَصى؟ وَالْجَوَابُ: كَذَّبَ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ، وَعَصَى بِأَنْ أَظْهَرَ التَّمَرُّدَ وَالتَّجَبُّرَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَذَا الَّذِي وَصَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنَ التَّكْذِيبِ وَالْمَعْصِيَةِ مُغَايِرٌ لِمَا كَانَ حَاصِلًا قَبْلَ ذَلِكَ، لأن تكذيبه لموسى عليها لسلام وَقَدْ دَعَاهُ وَأَظْهَرَ هَذِهِ الْمُعْجِزَةَ. يُوفِي عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ التَّكْذِيبِ وَمَعْصِيَتُهُ بِتَرْكِ الْقَبُولِ مِنْهُ، وَالْحَالُ هَذِهِ مُخَالِفَةٌ لِمَعْصِيَتِهِ مِنْ قَبْلِ ذلك.
[سورة النازعات (٧٩) : آية ٢٢]
ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى (٢٢)
وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى وَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَمَّا رَأَى الثُّعْبَانَ أَدْبَرَ مَرْعُوبًا يَسْعَى يُسْرِعُ فِي مَشْيِهِ، قَالَ الْحَسَنُ كَانَ رَجُلًا طَيَّاشًا خَفِيفًا وَثَانِيهَا: تَوَلَّى عَنْ مُوسَى يَسْعَى وَيَجْتَهِدُ فِي مُكَايَدَتِهِ وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى، ثُمَّ أَقْبَلَ يَسْعَى، كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ أَقْبَلَ يَفْعَلُ كَذَا، بِمَعْنَى أَنْشَأَ يَفْعَلُ، فَوُضِعَ أدبر فوضع أقبل لئلا يوصف بالإقبال. وثالثها: قوله:
[سورة النازعات (٧٩) : الآيات ٢٣ الى ٢٤]
فَحَشَرَ فَنادى (٢٣) فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (٢٤)
فَحَشَرَ فَجَمَعَ السَّحَرَةَ كَقَوْلِهِ: فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ فَنَادَى فِي الْمَقَامِ الَّذِي اجْتَمَعُوا فِيهِ مَعَهُ، أَوْ أَمَرَ مُنَادِيًا فَنَادَى فِي النَّاسِ بِذَلِكَ، وَقِيلَ قَامَ فِيهِمْ خَطِيبًا فَقَالَ تِلْكَ الْكَلِمَةَ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَلِمَتُهُ الْأُولَى: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي [الْقَصَصِ: ٣٨] وَالْآخِرَةُ: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى.
وَاعْلَمْ أَنَّا بَيَّنَّا فِي سُورَةِ (طه) أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْتَقِدَ الإنسان في نفسه كونه خالقا للسموات وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ وَالنَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ وَالْإِنْسَانِ، فَإِنَّ الْعِلْمَ بِفَسَادِ ذَلِكَ ضَرُورِيٌّ، فَمَنْ تَشَكَّكَ فِيهِ كَانَ مَجْنُونًا، وَلَوْ كَانَ مَجْنُونًا لَمَا جَازَ مِنَ اللَّهِ بَعْثَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ إِلَيْهِ، بَلِ الرَّجُلُ كَانَ دَهْرِيًّا مُنْكِرًا لِلصَّانِعِ وَالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ، وَكَانَ يَقُولُ لَيْسَ لِأَحَدٍ عَلَيْكُمْ أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ إِلَّا لِي، فَأَنَا رَبُّكُمْ بِمَعْنَى مُرَبِّيكُمْ وَالْمُحْسِنِ إِلَيْكُمْ، وَلَيْسَ لِلْعَالَمِ إِلَهٌ حَتَّى يَكُونَ لَهُ عَلَيْكُمْ أَمْرٌ وَنَهْيٌ، أَوْ يَبْعَثَ إِلَيْكُمْ رَسُولًا، قَالَ الْقَاضِي: وَقَدْ كَانَ الْأَلْيَقُ بِهِ بَعْدَ ظُهُورِ خِزْيِهِ عِنْدَ انْقِلَابِ الْعَصَا حَيَّةً، أَنْ لَا يَقُولَ هَذَا الْقَوْلَ. لِأَنَّ عِنْدَ ظُهُورِ الذِّلَّةِ وَالْعَجْزِ، كَيْفَ يَلِيقُ أَنْ يَقُولَ: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ صَارَ كَالْمَعْتُوهِ الَّذِي لَا يَدْرِي مَا يَقُولُ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْهُ أَفْعَالَهُ وَأَقْوَالَهُ أَتْبَعَهُ بِمَا عَامَلَهُ به وهو قوله تعالى:
[سورة النازعات (٧٩) : آية ٢٥]
فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى (٢٥)
وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرُوا فِي نَصْبِ نَكَالَ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكَّدٌ لِأَنَّ معنى أخذه الله، نكل الله به، نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى. لِأَنَّ أَخَذَهُ وَنَكَلَهُ مُتَقَارِبَانِ، وَهُوَ كَمَا يُقَالُ: أَدَعُهُ تَرْكًا شَدِيدًا لِأَنَّ أَدَعُهُ وَأَتْرُكُهُ سَوَاءٌ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هُودٍ: ١٠٢]، الثَّانِي: قَالَ الْفَرَّاءُ: يُرِيدُ أَخَذَهُ اللَّهُ أَخْذًا نَكَالًا لِلْآخِرَةِ وَالْأُولَى، وَالنَّكَالُ بِمَعْنَى التَّنْكِيلِ كَالسَّلَامِ بِمَعْنَى التَّسْلِيمِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنَّ الْآخِرَةَ وَالْأُولَى صِفَةٌ لِكَلِمَتَيْ فِرْعَوْنَ إِحْدَاهُمَا قَوْلُهُ: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي [الْقَصَصِ: ٣٨] والأخرى قوله: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى [النازعات: ٢٤] قَالُوا: وَكَانَ بَيْنَهُمَا أَرْبَعُونَ سَنَةً، وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَالشَّعْبِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُقَاتِلٍ، وَرِوَايَةُ عَطَاءٍ وَالْكَلْبِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُ مَا أَخَذَهُ بِكَلِمَتِهِ الْأُولَى فِي الْحَالِ، بَلْ أَمْهَلَهُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَلَمَّا ذَكَرَ الثَّانِيَةَ أُخِذَ بِهِمَا، وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ تعالى يمهل ولا يمهل الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ:
نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى أَيْ عَذَّبَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَأَغْرَقَهُ فِي الدُّنْيَا الثَّالِثُ: الْآخِرَةُ هِيَ قَوْلُهُ: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى وَالْأُولَى هِيَ تَكْذِيبُهُ مُوسَى حِينَ أَرَاهُ الْآيَةَ، قَالَ الْقَفَّالُ: وَهَذَا كَأَنَّهُ هُوَ الْأَظْهَرُ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى فَكَذَّبَ وَعَصى ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى فَحَشَرَ فَنادى فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى [النازعات: ٢٠، ٢٤] فَذَكَرَ الْمَعْصِيَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى فَظَهَرَ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ عَاتَبَهُ عَلَى هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ اللَّيْثُ: (النكال) اسم لمن جعل نكالا لعيره، وَهُوَ الَّذِي إِذَا رَآهُ أَوْ بَلَغَهُ خَافَ أَنْ يَعْمَلَ عَمَلَهُ، وَأَصْلُ الْكَلِمَةِ مِنَ الِامْتِنَاعِ، وَمِنْهُ النُّكُولُ عَنِ الْيَمِينِ، وَقِيلَ لِلْقَيْدِ نِكْلٌ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ، فَالنَّكَالُ مِنَ الْعُقُوبَةِ هُوَ أَعْظَمُ حَتَّى يَمْتَنِعَ مَنْ سَمِعَ بِهِ عَنِ ارْتِكَابِ مِثْلِ ذَلِكَ الذَّنْبِ الَّذِي وَقَعَ التَّنْكِيلُ بِهِ، وَهُوَ فِي الْعُرْفِ يَقَعُ عَلَى مَا يَفْتَضِحُ بِهِ صَاحِبُهُ وَيَعْتَبِرُ بِهِ غَيْرُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى خَتَمَ هَذِهِ الْقِصَّةِ بِقَوْلِهِ تعالى:
[سورة النازعات (٧٩) : آية ٢٦]
إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (٢٦)
وَالْمَعْنَى أَنَّ فِيمَا اقْتَصَصْنَاهُ مِنْ أَمْرِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ، وَمَا أَحَلَّهُ اللَّهُ بِفِرْعَوْنَ مِنَ الْخِزْيِ، وَرَزَقَ مُوسَى مِنَ الْعُلُوِّ وَالنَّصْرِ عِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى وَذَلِكَ أَنْ يَدَعَ التَّمَرُّدَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالتَّكْذِيبَ لِأَنْبِيَائِهِ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَنْزِلَ بِهِ مَا نَزَلَ بِفِرْعَوْنَ، وَعِلْمًا بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَنْصُرُ أَنْبِيَاءَهُ وَرُسُلَهُ، فَاعْتَبِرُوا مَعَاشِرَ الْمُكَذِّبِينَ لِمُحَمَّدٍ بِمَا ذَكَرْنَاهُ، أَيِ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِنْ شَارَكْتُمُوهُمْ فِي الْمَعْنَى الْجَالِبِ لِلْعِقَابِ، شَارَكْتُمُوهُمْ فِي حُلُولِ العقاب بكم.
[سورة النازعات (٧٩) : الآيات ٢٧ الى ٢٨]
أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (٢٧) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (٢٨)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها] ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا خَتَمَ هَذِهِ الْقِصَّةَ رَجَعَ إِلَى مُخَاطَبَةِ مُنْكِرِي الْبَعْثِ، فَقَالَ: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْمَقْصُودِ مِنْ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ عَلَى مُنْكِرِي الْبَعْثِ فَقَالَ:
أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ فَنَبَّهَهُمْ عَلَى أَمْرٍ يُعْلَمُ بِالْمُشَاهَدَةِ. وَذَلِكَ لِأَنَّ خِلْقَةَ الْإِنْسَانِ عَلَى صِغَرِهِ وَضَعْفِهِ، إِذَا
42
أُضِيفَ إِلَى خَلْقِ السَّمَاءِ عَلَى عِظَمِهَا وَعِظَمِ أَحْوَالِهَا يَسِيرٌ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ خَلْقَ السَّمَاءِ أَعْظَمُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَخَلْقُهُمْ عَلَى وَجْهِ الْإِعَادَةِ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَقْدُورًا لِلَّهِ تَعَالَى فَكَيْفَ يُنْكِرُونَ ذَلِكَ؟ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى / أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ [يس: ٨١] وَقَوْلُهُ: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غَافِرٍ: ٥٧] وَالْمَعْنَى أَخَلْقُكُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ أَشَدُّ أَمْ خَلْقُ السَّمَاءِ أَيْ عِنْدَكُمْ، وَفِي تَقْدِيرِكُمْ، فَإِنَّ كِلَا الْأَمْرَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قُدْرَةِ اللَّهِ وَاحِدٌ وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ بَيَانُ كَوْنِهِمْ مَخْلُوقِينَ، وَهَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَنْ أَنْكَرَ كَوْنَ الإنسان مخلوقا فبأن ينكر [هـ] في السماء كان أولى أَنَّ أَوَّلَ السُّورَةِ كَانَ فِي بَيَانِ مَسْأَلَةِ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ، فَحَمْلُ هَذَا الْكَلَامِ عَلَيْهِ أَوْلَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: هَذَا الْكَلَامُ تَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ: أَمِ السَّماءُ.
ثُمَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: بَناها ابْتِدَاءُ كَلَامٍ آخَرَ، وَعِنْدَ أَبِي حَاتِمٍ الْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ: بَناها قَالَ: لِأَنَّهُ مِنْ صِلَةِ السَّمَاءِ، وَالتَّقْدِيرُ: أَمِ السَّمَاءُ الَّتِي بَنَاهَا، فَحَذَفَ الَّتِي، وَمِثْلُ هَذَا الْحَذْفِ جَائِزٌ، قَالَ الْقَفَّالُ: يُقَالُ: الرَّجُلُ جَاءَكَ عَاقِلٌ، أَيِ الرَّجُلُ الَّذِي جَاءَكَ عَاقِلٌ إِذَا ثَبَتَ أَنَّ هَذَا جَائِزٌ فِي اللُّغَةِ فَنَقُولُ: الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: بَناها صِلَةٌ لِمَا قَبْلَهُ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ صِلَةً لَكَانَ صِفَةً، فَقَوْلُهُ: بَناها صِفَةٌ، ثُمَّ قَوْلُهُ: رَفَعَ سَمْكَها صِفَةٌ، فَقَدْ تَوَالَتْ صِفَتَانِ لَا تَعَلُّقَ لِإِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى، فَكَانَ يَجِبُ إِدْخَالُ الْعَاطِفِ فِيمَا بَيْنَهُمَا، كما في قوله: وَأَغْطَشَ لَيْلَها [النازعات: ٢٩] فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ قَوْلَهُ: بَناها صِلَةٌ لِلسَّمَاءِ، ثُمَّ قَالَ: رَفَعَ سَمْكَها ابْتِدَاءٌ بِذِكْرِ صِفَتِهِ، وَلِلْفَرَّاءِ أَنْ يَحْتَجَّ عَلَى قَوْلِهِ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ قَوْلُهُ: بَناها صِلَةً لِلسَّمَاءِ لَكَانَ التَّقْدِيرُ: أَمِ السَّمَاءُ [الَّتِي] «١» بَنَاهَا، وَهَذَا يَقْتَضِي وُجُودَ سَمَاءٍ مَا بَنَاهَا اللَّهُ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي بَنَى السَّمَاءَ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّ السَّمَاءَ جِسْمٌ، وَكُلُّ جِسْمٍ مُحْدَثٌ، لِأَنَّ الْجِسْمَ لَوْ كَانَ أَزَلِيًّا لَكَانَ فِي الْأَزَلِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَحَرِّكًا أَوْ سَاكِنًا، وَالْقِسْمَانِ بَاطِلَانِ، فَالْقَوْلُ بِكَوْنِ الْجِسْمِ أَزَلِيًّا بَاطِلٌ. أَمَّا الْحَصْرُ فَلِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسْتَقِرًّا حَيْثُ هُوَ فَيَكُونَ سَاكِنًا، أَوْ لَا يَكُونَ مُسْتَقِرًّا حَيْثُ هُوَ فَيَكُونَ مُتَحَرِّكًا، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ مُتَحَرِّكًا، لِأَنَّ مَاهِيَّةَ الْحَرَكَةِ تَقْتَضِي الْمَسْبُوقِيَّةَ بِالْغَيْرِ، وَمَاهِيَّةَ الْأَزَلِ تُنَافِي الْمَسْبُوقِيَّةَ بِالْغَيْرِ وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُحَالٌ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ سَاكِنًا، لِأَنَّ السُّكُونَ وَصْفٌ ثُبُوتِيٌّ وَهُوَ مُمْكِنُ الزَّوَالِ، وَكُلُّ مُمْكِنِ الزَّوَالِ مُفْتَقِرٌ إِلَى الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مُحْدَثٌ، فَكُلُّ سُكُونٍ مُحْدَثٌ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ أَزَلِيًّا، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ السُّكُونَ وَصْفٌ ثُبُوتِيٌّ، لِأَنَّهُ يَتَبَدَّلُ كَوْنُ الْجِسْمِ مُتَحَرِّكًا بِكَوْنِهِ سَاكِنًا مَعَ بَقَاءِ ذَاتِهِ، فَأَحَدُهُمَا لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ أَمْرًا ثُبُوتِيًّا، فَإِنْ كَانَ الثُّبُوتِيُّ هُوَ السُّكُونَ فَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ، وَإِنْ كَانَ الثُّبُوتِيُّ هُوَ الْحَرَكَةَ وَجَبَ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ السُّكُونُ ثُبُوتِيًّا، لِأَنَّ الْحَرَكَةَ عِبَارَةٌ عَنِ الْحُصُولِ فِي الْمَكَانِ بَعْدَ أَنْ كَانَ فِي غَيْرِهِ، وَالسُّكُونُ عِبَارَةٌ عَنِ الْحُصُولِ فِي الْمَكَانِ بَعْدَ أَنْ كَانَ فِيهِ بِعَيْنِهِ، فَالتَّفَاوُتُ بَيْنَ الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ لَيْسَ فِي/ الْمَاهِيَّةِ، بَلْ فِي الْمَسْبُوقِيَّةِ بِالْغَيْرِ وَعَدَمِ الْمَسْبُوقِيَّةِ بِالْغَيْرِ، وَذَلِكَ وَصْفٌ عَارِضِيٌّ خَارِجِيٌّ عَنِ الْمَاهِيَّةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ تِلْكَ الْمَاهِيَّةَ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ فِي إِحْدَى الصُّورَتَيْنِ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ كذلك في سورة أُخْرَى، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ سُكُونَ السَّمَاءِ جَائِزُ الزَّوَالِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ وَاجِبًا لِذَاتِهِ لَامْتَنَعَ زَوَالُهُ، فَكَانَ يَجِبُ أَنْ لَا تَتَحَرَّكَ السَّمَاءُ لَكِنَّا نَرَاهَا الْآنَ مُتَحَرِّكَةً، فَعَلِمْنَا أَنَّهَا لَوْ كانت ساكنة في الأزل،
(١) ما بين القوسين المربعين زيادة اقتضاها الكلام إذ لا معنى له بدونها (عبد الله الصاوي).
43
لَكَانَ ذَلِكَ السُّكُونُ جَائِزَ الزَّوَالِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ ذَلِكَ السُّكُونَ لَمَّا كَانَ مُمْكِنًا لِذَاتِهِ، افْتَقَرَ إِلَى الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُمْكِنًا لِذَاتِهِ، فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُؤَثِّرٍ، وَذَلِكَ الْمُؤَثِّرُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا، لِأَنَّ ذَلِكَ الْمُوجِبَ إِنْ كَانَ وَاجِبًا، وَكَانَ غَنِيًّا فِي إِيجَابِهِ لِذَلِكَ الْمَعْلُولِ عَنْ شَرْطٍ لَزِمَ مِنْ دَوَامِهِ دَوَامُ ذَلِكَ الْأَثَرِ، فَكَانَ يَجِبُ أَنْ لَا يَزُولَ لِلسُّكُونِ وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا وَمُفْتَقِرًا فِي إِيجَابِهِ لِذَلِكَ الْمَعْلُولِ إِلَى شَرْطٍ وَاجِبٍ لِذَاتِهِ، لَزِمَ مِنْ دَوَامِ الْعِلَّةِ وَدَوَامِ الشَّرْطِ دَوَامُ الْمَعْلُولِ، أَمَّا إِنْ كَانَ الْمُوجِبُ غَيْرَ وَاجِبٍ لِذَاتِهِ، أَوْ كَانَ شَرْطُ إِيجَابِهِ غَيْرَ وَاجِبٍ لِذَاتِهِ كَانَ الْكَلَامُ فِيهِ كَالْكَلَامِ فِي الْأَوَّلِ، فَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ، وَهُوَ مُحَالٌ أَوِ الِانْتِهَاءُ إِلَى مُوجِبٍ وَاجِبٍ لِذَاتِهِ، وَإِلَى شَرْطٍ وَاجِبٍ لِذَاتِهِ، وَحِينَئِذٍ يَعُودُ الْإِلْزَامُ الْأَوَّلُ، فَثَبَتَ أَنَّ ذَلِكَ الْمُؤَثِّرَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ فَاعِلًا مُخْتَارًا، فَإِذًا كَلُّ سُكُونٍ، فَهُوَ فِعْلُ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مُحْدَثٌ، لِأَنَّ الْمُخْتَارَ إِنَّمَا يَفْعَلُ بِوَاسِطَةِ الْقَصْدِ، وَالْقَصْدُ إِلَى تَكْوِينِ الْكَائِنِ، وَتَحْصِيلِ الْحَاصِلِ مُحَالٌ، فَثَبَتَ أَنَّ كُلَّ سُكُونٍ فَهُوَ مُحْدَثٌ، فَثَبَتَ أَنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْجِسْمُ فِي الْأَزَلِ لَا مُتَحَرِّكًا وَلَا سَاكِنًا، فَهُوَ إِذًا غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْأَزَلِ، فَهُوَ مُحْدَثٌ، وَإِذَا كَانَ مُحْدَثًا افْتَقَرَ فِي ذَاتِهِ، وَفِي تَرْكِيبِ أَجْزَائِهِ إِلَى مُوجِدٍ، وَذَلِكَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، فَثَبَتَ بِالْعَقْلِ أَنَّ بَانِيَ السَّمَاءِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: كُلُّ مَا سِوَى الْوَاجِبِ فَهُوَ مُمْكِنٌ وَكُلُّ مُمْكِنٍ مُحْدَثٌ وَكُلُّ مُحْدَثٍ فَلَهُ صَانِعٌ، إِنَّمَا قُلْنَا: كُلُّ مَا سِوَى الْوَاجِبِ مُمْكِنٌ، لِأَنَّا لَوْ فَرَضْنَا مَوْجُودَيْنِ وَاجِبَيْنِ لِذَاتَيْهِمَا لَاشْتَرَكَا فِي الْوُجُودِ وَلَتَبَايَنَا بِالتَّعْيِينِ، فَيَكُونُ كُلٌّ مِنْهُمَا مُرَكَّبًا مِمَّا بِهِ الْمُشَارَكَةُ، وَمِمَّا بِهِ الْمُمَايَزَةُ، وَكُلُّ مُرَكَّبٍ مُفْتَقِرٌ إِلَى جُزْئِهِ وَجُزْؤُهُ غَيْرُهُ فَكُلُّ مُرَكَّبٍ فَهُوَ مُفْتَقِرٌ إِلَى غَيْرِهِ، وَكُلُّ مُفْتَقِرٍ إِلَى غَيْرِهِ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْوَاجِبَيْنِ بِالذَّاتِ مُمْكِنٌ بِالذَّاتِ هَذَا خَلْفٌ، ثُمَّ يَنْقُلُ الْكَلَامَ إِلَى ذَيْنِكَ الجز أين، فَإِنْ كَانَا وَاجِبَيْنِ، كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ مُرَكَّبًا وَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ، وَإِنْ لَمْ يَكُونَا وَاجِبَيْنِ كَانَ الْمُفْتَقِرُ إِلَيْهِمَا أَوْلَى بِعَدَمِ الْوُجُودِ فَثَبَتَ أَنَّ مَا عَدَا الْوَاجِبَ مُمْكِنٌ وَكُلُّ مُمْكِنٍ فَلَهُ مُؤَثِّرٌ وَكُلُّ مَا افْتَقَرَ إِلَى الْمُؤَثِّرِ مُحْدَثٌ، لِأَنَّ الِافْتِقَارَ إِلَى الْمُؤَثِّرِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَحَقَّقَ حَالَ الْبَقَاءِ لِاسْتِحَالَةِ إِيجَادِ الْمُوجِدِ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ إِمَّا حَالَ الْحُدُوثِ أَوْ حَالَ الْعَدَمِ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَالْحُدُوثُ لَازِمٌ فَثَبَتَ أَنَّ مَا سِوَى الْوَاجِبِ مُحْدَثٌ وَكُلُّ مُحْدَثٍ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُحْدِثٍ، فَلَا بُدَّ لِلسَّمَاءِ مِنْ بَانٍ.
الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: صَرِيحُ الْعَقْلِ يَشْهَدُ بِأَنَّ جِرْمَ السَّمَاءِ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ أَكْبَرَ مِمَّا هُوَ الْآنَ بِمِقْدَارِ خَرْدَلَةٍ، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ أَصْغَرَ بِمِقْدَارِ خَرْدَلَةٍ، فَاخْتِصَاصُ هَذَا الْمِقْدَارِ بِالْوُقُوعِ دُونَ/ الْأَزْيَدِ وَالْأَنْقَصِ، لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ بِمُخَصِّصٍ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلسَّمَاءِ مِنْ بَانٍ: فَإِنْ قِيلَ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ شَيْئًا وَأَعْطَاهُ قُدْرَةً يَتَمَكَّنُ ذَلِكَ الْمَخْلُوقُ بِتِلْكَ الْقُدْرَةِ مِنْ خَلْقِ الْأَجْسَامِ فَيَكُونُ خَالِقُ السَّمَاءِ وَبَانِيهَا هُوَ ذَلِكَ الشَّيْءَ؟ الْجَوَابُ: مِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ: الْمَعْلُومُ بِالْعَقْلِ أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلسَّمَاءِ مِنْ مُحْدِثٍ وَأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الِانْتِهَاءِ آخِرِ الْأَمْرِ إِلَى قَدِيمٍ وَالْإِلَهُ قَدِيمٌ وَاجِبُ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ وَاحِدٌ وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَأَمَّا نَفْيُ الْوَاسِطَةِ فَإِنَّمَا يُعْلَمُ بِالسَّمْعِ فَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: بَناها يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَانِيَ السَّمَاءِ هُوَ اللَّهُ لَا غَيْرُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بَلِ الْعَقْلُ يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِهِ لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ كُلَّ مَا عَدَاهُ مُحْدَثٌ ثَبَتَ أَنَّهُ قَادِرٌ لَا مُوجَبٌ، وَالَّذِي كَانَ مَقْدُورًا لَهُ إِنَّمَا صَحَّ كَوْنُهُ مَقْدُورًا لَهُ بِكَوْنِهِ مُمْكِنًا، فَإِنَّكَ لَوْ رَفَعْتَ الْإِمْكَانَ بَقِيَ الْوُجُوبُ أَوِ الِامْتِنَاعُ وَهُمَا يُحِيلَانِ الْمَقْدُورِيَّةَ، وَإِذَا كَانَ مَا لِأَجْلِهِ صَحَّ فِي الْبَعْضِ أَنْ يَكُونَ مَقْدُورًا لِلَّهِ وَهُوَ الْإِمْكَانُ وَالْإِمْكَانُ عَامٌّ فِي الْمُمْكِنَاتِ وَجَبَ أَنْ يَحْصُلَ فِي كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ صِحَّةُ أَنْ تَكُونَ مَقْدُورَةً لِلَّهِ تَعَالَى، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ وَنِسْبَةُ قُدْرَتِهِ إِلَى الْكُلِّ عَلَى السَّوِيَّةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى الْكُلِّ، وإذا ثبت
44
أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى الْمُمْكِنَاتِ فَلَوْ قَدَّرْنَا قَادِرًا آخَرَ قَدَرَ عَلَى بَعْضِ الْمُمْكِنَاتِ، لَزِمَ وُقُوعُ مَقْدُورٍ وَاحِدٍ بَيْنَ قَادِرَيْنِ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، وَذَلِكَ مُحَالٌ، لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَقَعَ بِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ وَهُوَ مُحَالٌ، لِأَنَّهُمَا لَمَّا كَانَا مُسْتَقِلَّيْنِ بِالِاقْتِضَاءِ فَلَيْسَ وُقُوعُهُ بِهَذَا أَوْلَى مِنْ وُقُوعِهِ بِذَاكَ أَوْ بِهِمَا مَعًا، وَهُوَ أَيْضًا مُحَالٌ لِأَنَّهُ يَسْتَغْنِيَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَيَكُونُ مُحْتَاجًا إِلَيْهِمَا مَعًا وَغَنِيًّا عَنْهُمَا مَعًا وَهُوَ مُحَالٌ، فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ وُقُوعُ مُمْكِنٍ آخَرَ بِسَبَبٍ آخَرَ سِوَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا الْكَلَامُ جَيِّدٌ، لَكِنْ عَلَى قَوْلِ مَنْ لَا يُثْبِتُ فِي الْوُجُودِ مُؤَثِّرًا سِوَى الْوَاحِدِ، فَهَذَا جملة ما في هذا الباب.
[في قوله تعالى رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها] وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فِي السَّمَاءِ أَنَّهُ بَنَاهَا، بَيَّنَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ كَيْفَ بَنَاهَا، وَشَرَحَ تِلْكَ الْكَيْفِيَّةَ مِنْ وُجُوهٍ:
أَوَّلُهَا: مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَكَانِ، فَقَالَ تَعَالَى: رَفَعَ سَمْكَها.
وَاعْلَمْ أَنَّ امْتِدَادَ الشَّيْءِ إِذَا أُخِذَ مِنْ أَعْلَاهُ إِلَى أَسْفَلِهِ سُمِّيَ عُمْقًا، وَإِذَا أُخِذَ مِنْ أَسْفَلِهِ إِلَى أَعْلَاهُ سُمِّيَ سَمْكًا، فَالْمُرَادُ بِرَفْعِ سَمْكِهَا شِدَّةُ عُلُوِّهَا حَتَّى ذَكَرُوا أَنَّ مَا بَيْنَ الْأَرْضِ وَبَيْنَهَا مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، وَ [قَدْ] بَيَّنَ أَصْحَابُ الْهَيْئَةِ مَقَادِيرَ الْأَجْرَامِ الْفَلَكِيَّةِ وَأَبْعَادَ مَا بَيْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا وَبَيْنَ الْأَرْضِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْمُرَادُ: رَفْعُ سَمْكِهَا مِنْ غَيْرِ عَمَدٍ. وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَصِحُّ إِلَّا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى.
الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَسَوَّاها وَفِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ تَسْوِيَةُ تَأْلِيفِهَا، وَقِيلَ: بَلِ الْمُرَادُ نَفْيُ الشُّقُوقِ عَنْهَا، كَقَوْلِهِ: مَا تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ [الْمُلْكِ: ٣] وَالْقَائِلُونَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ قَالُوا:
فَسَوَّاها عَامٌّ فَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِالتَّسْوِيَةِ فِي بعض الأشياء، ثم قال هَذَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ/ السَّمَاءِ كُرَةً، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ كُرَةً لَكَانَ بَعْضُ جَوَانِبِهِ سَطْحًا، وَالْبَعْضُ زَاوِيَةً، وَالْبَعْضُ خَطًّا، وَلَكَانَ بَعْضُ أَجْزَائِهِ أَقْرَبَ إِلَيْنَا، وَالْبَعْضُ أَبْعَدَ، فَلَا تَكُونُ التَّسْوِيَةُ الْحَقِيقَةُ حَاصِلَةً، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ كُرَةً حَتَّى تَكُونَ التَّسْوِيَةُ الْحَقِيقَةُ حَاصِلَةً، ثُمَّ قَالُوا لَمَّا ثَبَتَ أَنَّهَا مُحْدَثَةٌ مُفْتَقِرَةٌ إِلَى فَاعِلٍ مُخْتَارٍ، فَأَيُّ ضَرَرٍ فِي الدِّينِ يَنْشَأُ مِنْ كونها كرة؟.
[سورة النازعات (٧٩) : آية ٢٩]
وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (٢٩)
الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَغْطَشَ قَدْ يَجِيءُ لَازِمًا، يُقَالُ: أَغْطَشَ اللَّيْلُ إِذَا صَارَ مُظْلِمًا وَيَجِيءُ مُتَعَدِّيًا يُقَالُ: أَغَطَشَهُ اللَّهُ إِذَا جَعَلَهُ مُظْلِمًا، وَالْغَطَشُ الظُّلْمَةُ، وَالْأَغْطَشُ شِبْهُ الْأَعْمَشِ، ثُمَّ هَاهُنَا سُؤَالٌ وَهُوَ أَنَّ اللَّيْلَ اسْمٌ لِزَمَانِ الظُّلْمَةِ الْحَاصِلَةِ بِسَبَبِ غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَقَوْلُهُ: وَأَغْطَشَ لَيْلَها يَرْجِعُ مَعْنَاهُ إِلَى أَنَّهُ جَعَلَ الْمُظْلِمَ مُظْلِمًا، وَهُوَ بَعِيدٌ وَالْجَوَابُ: مَعْنَاهُ أَنَّ الظُّلْمَةَ الْحَاصِلَةَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ إِنَّمَا حَصَلَتْ بِتَدْبِيرِ اللَّهِ وَتَقْدِيرِهِ: وَحِينَئِذٍ لَا يَبْقَى الْإِشْكَالُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَأَخْرَجَ ضُحاها أَيْ أَخْرَجَ نهارا، وَإِنَّمَا عَبَّرَ عَنِ النَّهَارِ بِالضُّحَى، لِأَنَّ الضُّحَى أَكْمَلُ أَجْزَاءِ النَّهَارِ فِي النُّورِ وَالضَّوْءِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِنَّمَا أَضَافَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِلَى السَّمَاءِ، لِأَنَّ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّمَا يَحْدُثَانِ بِسَبَبِ غُرُوبِ الشَّمْسِ وَطُلُوعِهَا، ثُمَّ غُرُوبُهَا وَطُلُوعُهَا إِنَّمَا يَحْصُلَانِ بِسَبَبِ حَرَكَةِ الْفَلَكِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ أَضَافَ اللَّيْلَ والنهار إلى
السَّمَاءِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَ كَيْفِيَّةَ خَلْقِ السَّمَاءِ أَتْبَعَهُ بِكَيْفِيَّةِ خَلْقِ الْأَرْضِ وَذَلِكَ من وجوه: الصفة الأولى:
قوله تعالى:
[سورة النازعات (٧٩) : آية ٣٠]
وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (٣٠)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: دَحَاهَا بَسَطَهَا، قَالَ زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ:
دَحَاهَا فَلَمَّا رَآهَا اسْتَوَتْ عَلَى الْمَاءِ أَرْسَى عَلَيْهَا الْجِبَالَا
وَقَالَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ:
دَحَوْتَ الْبِلَادَ فَسَوَّيْتَهَا وَأَنْتَ عَلَى طَيِّهَا قَادِرٌ
قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ لُغَتَانِ دَحَوْتُ أَدْحُو، وَدَحَيْتُ أَدْحَى، وَمِثْلُهُ صَفَوْتُ وَصَفَيْتُ وَلَحَوْتُ الْعُودَ وَلَحَيْتُهُ وَسَأَوْتُ الرَّجُلَ وَسَأَيْتُهُ وَبَأَوْتُ عَلَيْهِ وَبَأَيْتُ، وَفِي
حَدِيثِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ «اللَّهُمَّ دَاحِيَ الْمَدْحِيَّاتِ»
أَيْ بَاسِطَ الْأَرَضِينَ السَّبْعِ وَهُوَ الْمَدْحُوَّاتُ أَيْضًا، وَقِيلَ: أَصْلُ الدَّحْوِ الْإِزَالَةُ لِلشَّيْءِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ، وَمِنْهُ يُقَالُ:
إِنَّ الصَّبِيَّ يَدْحُو بِالْكُرَةِ أَيْ يَقْذِفُهَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَأَدْحَى النَّعَامَةُ مَوْضِعَهُ الذي يكون فيه أي بسطته وأزلت مَا فِيهِ مِنْ حَصَى، حَتَّى يَتَمَهَّدَ لَهُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَعْنَى الدَّحْوِ يَرْجِعُ إِلَى الْإِزَالَةِ وَالتَّمْهِيدِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي كَوْنَ الْأَرْضِ بَعْدَ السَّمَاءِ، وَقَوْلُهُ: فِي حم السَّجْدَةِ، ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ [فُصِّلَتْ: ١١] يَقْتَضِي كَوْنَ السَّمَاءِ بَعْدَ الْأَرْضِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي تَفْسِيرِ قوله: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ [البقرة: ٢٩] وَلَا بَأْسَ بِأَنْ نُعِيدَ بَعْضَ تِلْكَ الْوُجُوهِ أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْأَرْضَ أَوَّلًا ثُمَّ خَلَقَ السَّمَاءَ ثَانِيًا ثُمَّ دَحَى الْأَرْضَ أَيْ بَسَطَهَا ثَالِثًا، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا كَانَتْ أَوَّلًا كَالْكُرَةِ الْمُجْتَمِعَةِ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَدَّهَا وَبَسَطَهَا، فَإِنْ قِيلَ الدَّلَائِلُ الِاعْتِبَارِيَّةُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ الْآنَ كُرَةٌ أَيْضًا، وَإِشْكَالٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الْجِسْمَ الْعَظِيمَ يَكُونُ ظَاهِرُهُ كَالسَّطْحِ الْمُسْتَوِي، فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْجِسْمُ مَخْلُوقًا وَلَا يَكُونُ ظَاهِرُهُ مَدْحُوًّا مَبْسُوطًا وَثَانِيهَا: أَنْ لَا يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ دَحاها: مُجَرَّدَ الْبَسْطِ، بَلْ يَكُونُ الْمُرَادُ أَنَّهُ بَسَطَهَا بَسْطًا مُهَيَّأً لِنَبَاتِ الْأَقْوَاتِ وَهَذَا هُوَ الَّذِي بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها [النازعات: ٣١] وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا الِاسْتِعْدَادَ لَا يَحْصُلُ لِلْأَرْضِ إِلَّا بَعْدَ وُجُودِ السَّمَاءِ فَإِنَّ الْأَرْضَ كَالْأُمِّ وَالسَّمَاءَ كَالْأَبِ، وَمَا لَمْ يَحْصُلَا لَمْ تَتَوَلَّدْ أَوَّلًا الْمَعَادِنُ وَالنَّبَاتَاتُ وَالْحَيَوَانَاتُ وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ أَيْ مَعَ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ: عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ [الْقَلَمِ: ١٣] أَيْ مَعَ ذَلِكَ، وَقَوْلُكَ لِلرَّجُلِ أَنْتَ كَذَا وَكَذَا ثُمَّ أَنْتَ بَعْدَهَا كَذَا لَا تُرِيدُ بِهِ التَّرْتِيبَ، وَقَالَ تَعَالَى: فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ إِلَى قَوْلِهِ: ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا [الْبَلَدِ: ١٧] وَالْمَعْنَى وَكَانَ مَعَ هَذَا مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ، فَهَذَا تَقْرِيرُ مَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَالسُّدِّيِّ وَابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّهُمْ قَالُوا فِي قَوْلِهِ: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها أَيْ مَعَ ذَلِكَ دَحَاهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْأَرْضَ أَوَّلًا ثُمَّ خَلَقَ السَّمَاءَ ثَانِيًا، ثُمَّ دَحَى الْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ ثَالِثًا، ذَكَرُوا فِي تَقْدِيرِ تِلْكَ الْأَزْمِنَةِ وُجُوهًا.
رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ «خَلَقَ اللَّهُ الْبَيْتَ قَبْلَ الْأَرْضِ بِأَلْفَيْ سنة،
وَمِنْهُ دُحِيَتِ الْأَرْضُ»
وَاعْلَمْ أَنَّ الرُّجُوعَ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ إِلَى كُتُبِ الْحَدِيثِ أَوْلَى.
[سورة النازعات (٧٩) : آية ٣١]
أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (٣١)
الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَاؤُهَا عُيُونُهَا الْمُتَفَجِّرَةُ بِالْمَاءِ وَمَرْعَاهَا رَعْيُهَا، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مَوْضِعُ الرَّعْيِ، وَنَصْبُ الْأَرْضِ وَالْجِبَالِ بِإِضْمَارِ دَحَا وَأَرْسَى عَلَى شَرِيطَةِ التَّفْسِيرِ، وَقَرَأَهُمَا الْحَسَنُ مَرْفُوعَيْنِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، فَإِنْ قِيلَ:
هَلَّا أَدْخَلَ حَرْفَ الْعَطْفِ عَلَى أَخْرَجَ قُلْنَا لِوَجْهَيْنِ؟ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ مَعْنَى دَحَاهَا بَسَطَهَا وَمَهَّدَهَا لِلسُّكْنَى، ثُمَّ فَسَّرَ التَّمْهِيدَ بِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي تَأَتِّي سُكْنَاهَا مِنْ تَسْوِيَةِ أَمْرِ الْمَشَارِبِ وَالْمَآكِلِ وَإِمْكَانِ الْقَرَارِ عَلَيْهَا بِإِخْرَاجِ الْمَاءِ وَالْمَرْعَى وَإِرْسَاءِ الْجِبَالِ وَإِثْبَاتِهَا أَوْتَادًا لَهَا حَتَّى تَسْتَقِرَّ وَيُسْتَقَرَّ عَلَيْهَا وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ أَخْرَجَ حَالًا، وَالتَّقْدِيرُ وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا حَالَ مَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَرَادَ بِمَرْعَاهَا مَا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ فِي النَّحْلِ: أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ [النَّحْلِ: ١٠] وَقَالَ فِي سُورَةٍ أُخْرَى: أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا إلى قوله: مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ [عبس: ٢٥- ٣٢] فَكَذَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَاسْتُعِيرَ الرَّعْيُ لِلْإِنْسَانِ كَمَا اسْتُعِيرَ الرَّتْعُ فِي قَوْلِهِ: يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ [يُوسُفَ: ١٢] وَقُرِئَ نَرْتَعْ مِنَ الرَّعْيِ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ قَالَ تَعَالَى:
وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الْأَنْبِيَاءِ: ٣٠] فَانْظُرْ كَيْفَ دَلَّ بِقَوْلِهِ: ماءَها وَمَرْعاها عَلَى جَمِيعِ مَا أَخْرَجَهُ مِنَ الْأَرْضِ قُوتًا وَمَتَاعًا لِلْأَنَامِ مِنَ الْعُشْبِ وَالشَّجَرِ، وَالْحَبِّ وَالثَّمَرِ وَالْعَصْفِ وَالْحَطَبِ، وَاللِّبَاسِ وَالدَّوَاءِ حَتَّى النَّارِ وَالْمِلْحِ، أَمَّا النَّارُ فَلَا شَكَّ أَنَّهَا مِنَ الْعِيدَانِ قَالَ تَعَالَى: أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ [الْوَاقِعَةِ: ٧١، ٧٢] وَأَمَّا الْمِلْحُ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ مُتَوَلِّدٌ مِنَ الْمَاءِ، وَأَنْتَ إِذَا تَأَمَّلْتَ عَلِمْتَ أَنَّ جَمِيعَ مَا يَتَنَزَّهُ بِهِ النَّاسُ فِي الدُّنْيَا وَيَتَلَذَّذُونَ بِهِ، فَأَصْلُهُ الْمَاءُ وَالنَّبَاتُ، وَلِهَذَا السَّبَبِ تَرَدَّدَ فِي وَصْفِ الْجَنَّةِ ذِكْرُهُمَا، فَقَالَ: جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ [البقرة: ٢٥] ثُمَّ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ بِالْمَرْعَى كُلَّ مَا يَأْكُلُهُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ قَوْلُهُ فِي آخِرِ هَذِهِ الْآيَةِ: مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ [النازعات: ٣٣].
[سورة النازعات (٧٩) : الآيات ٣٢ الى ٣٣]
وَالْجِبالَ أَرْساها (٣٢) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (٣٣)
الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْجِبالَ أَرْساها وَالْكَلَامُ فِي شَرْحِ مَنَافِعِ الْجِبَالِ قَدْ تَقَدَّمَ.
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ كَيْفِيَّةَ خَلْقِهِ الْأَرْضَ وَكَمِّيَّةَ مَنَافِعِهَا قَالَ: مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ وَالْمَعْنَى أَنَّا إِنَّمَا خَلَقْنَا هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مُتْعَةً وَمَنْفَعَةً لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ، وَاحْتَجَّ بِهِ مَنْ قَالَ: أَنَّ أَفْعَالَ اللَّهِ وَأَحْكَامَهُ مُعَلَّلَةٌ بِالْأَغْرَاضِ وَالْمَصَالِحِ، وَالْكَلَامُ فِيهِ قَدْ مَرَّ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَاعْلَمْ أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا ذَكَرَ كَيْفِيَّةَ خَلْقِهِ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ لِيُسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى كَوْنِهِ قَادِرًا عَلَى الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ، فَلَمَّا قَرَّرَ ذَلِكَ وَبَيَّنَ إِمْكَانَ الْحَشْرِ عَقْلًا أَخْبَرَ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ وقوعه. فقال تعالى:
[سورة النازعات (٧٩) : آية ٣٤]
فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (٣٤)
وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الطَّامَّةُ عِنْدَ الْعَرَبِ الدَّاهِيَةُ الَّتِي لَا تُسْتَطَاعُ وَفِي اشْتِقَاقِهَا وُجُوهٌ، قَالَ الْمُبَرِّدُ: أُخِذَتْ فِيمَا أَحْسَبُ مِنْ قَوْلِهِمْ: طَمَّ الْفَرَسُ طَمِيمًا، إِذَا اسْتَفْرَغَ جُهْدَهُ فِي الْجَرْيِ، وَطَمَّ الْمَاءُ إِذَا مَلَأَ النَّهْرَ كُلَّهُ، وَقَالَ اللَّيْثُ:
الْطَّمُ طَمُّ الْبِئْرِ بِالتُّرَابِ، وَهُوَ الْكَبْسُ، وَيُقَالُ: طَمَّ السَّيْلُ الرَّكِيَّةَ إِذَا دَفَنَهَا حَتَّى يُسَوِّيَهَا، وَيُقَالُ لِلشَّيْءِ الَّذِي يَكْبُرُ حَتَّى يَعْلُوَ قَدْ طَمَّ، وَالطَّامَّةُ الْحَادِثَةُ الَّتِي تَطِمُّ عَلَى مَا سِوَاهَا وَمِنْ ثَمَّ قِيلَ: فَوْقَ كُلِّ طَامَّةٍ طَامَّةٌ، قَالَ الْقَفَّالُ:
أَصْلُ الْطَّمِّ الدَّفْنُ وَالْعُلُوُّ، وَكُلُّ مَا غَلَبَ شَيْئًا وَقَهَرَهُ وَأَخْفَاهُ فَقَدْ طَمَّهُ، وَمِنْهُ الْمَاءُ الطَّامِي وَهُوَ الْكَثِيرُ الزَّائِدُ، وَالطَّاغِي وَالْعَاتِي وَالْعَادِيُّ سَوَاءٌ وَهُوَ الْخَارِجُ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُتَكَبِّرُ، فَالطَّامَّةُ اسْمٌ لِكُلِّ دَاهِيَةٍ عَظِيمَةٍ يُنْسَى مَا قَبْلَهَا في جنبها.
[سورة النازعات (٧٩) : الآيات ٣٥ الى ٣٦]
يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ مَا سَعى (٣٥) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (٣٦)
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَدْ ظَهَرَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَعْنَى الطَّامَّةِ الْكُبْرَى الدَّاهِيَةُ الْكُبْرَى، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهَا أَيُّ شَيْءٍ هِيَ، فَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّهَا يَوْمُ الْقِيَامَةِ لِأَنَّهُ يُشَاهَدُ فِيهِ مِنَ النَّارِ، وَمِنَ الْمَوْقِفِ الْهَائِلِ، وَمِنَ الْآيَاتِ الْبَاهِرَةِ الْخَارِجَةِ عَنِ الْعَادَةِ مَا يُنْسَى مَعَهُ كُلُّ هَائِلٍ، وَقَالَ الْحَسَنُ: إِنَّهَا هِيَ النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ الَّتِي عِنْدَهَا تُحْشَرُ الْخَلَائِقُ إِلَى مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ، وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ تَعَالَى فَسَّرَ الطَّامَّةَ الْكُبْرَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ مَا سَعى وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى فَالطَّامَّةُ تَكُونُ اسْمًا لِذَلِكَ الْوَقْتِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْوَقْتُ وقت قراءة الكتاب على ما قَالَ تَعَالَى: وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً [الْإِسْرَاءِ: ١٣] وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ السَّاعَةُ هِيَ السَّاعَةَ الَّتِي يُسَاقُ فِيهَا أَهْلُ الْجَنَّةِ إِلَى الْجَنَّةِ وَأَهْلُ النَّارِ إِلَى النَّارِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ ذَلِكَ الْيَوْمَ بِوَصْفَيْنِ:
الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ مَا سَعى يَعْنِي إِذَا رَأَى أَعْمَالَهُ مُدَوَّنَةً فِي كِتَابِهِ تَذَكَّرَهَا، وَكَانَ قَدْ نَسِيَهَا، كَقَوْلِهِ: أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ [الْمُجَادَلَةِ: ٦].
الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: لِمَنْ يَرى أَيْ أَنَّهَا تَظْهَرُ إِظْهَارًا مَكْشُوفًا لِكُلِّ نَاظِرٍ ذِي بَصَرٍ ثُمَّ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ اسْتِعَارَةٌ فِي كَوْنِهِ مُنْكَشِفًا ظَاهِرًا كَقَوْلِهِمْ: تَبَيَّنَ الصُّبْحُ لِذِي عَيْنَيْنِ «١».
وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ لَا يَجِبُ أَنْ يَرَاهُ كُلُّ أَحَدٍ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهَا بُرِّزَتْ لِيَرَاهَا كُلُّ مَنْ لَهُ عَيْنٌ وَبَصَرٌ، وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّ كُلَّ النَّاسِ يَرَوْنَهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارِ، إِلَّا أَنَّهَا مَكَانُ الْكُفَّارِ وَمَأْوَاهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا، وَهَذَا التَّأْوِيلُ مُتَأَكِّدٌ بقوله تعالى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها إِلَى قَوْلِهِ: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا [مَرْيَمَ:
٧١، ٧٢] فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ [الشعراء: ٩٠، ٩١] فخص الغاوين بتبريرها لَهُمْ، قُلْنَا: إِنَّهَا بُرِّزَتْ لِلْغَاوِينَ، وَالْمُؤْمِنُونَ يَرَوْنَهَا أَيْضًا فِي الْمَمَرِّ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ.
(١) هذا شطر بيت حرف لفظه وبقي معناه وصوابه: قد وضح الصبح لذي عينين.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ أَبُو نَهِيكٍ وَبَرَزَتْ وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: لِمَنْ رَأَى، وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ: لِمَنْ تَرَى، وَالضَّمِيرُ لِلْجَحِيمِ، كَقَوْلِهِ: إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ [الْفُرْقَانِ: ١٢] وَقِيلَ: لِمَنْ تَرَى يَا مُحَمَّدُ مِنَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ يُؤْذُونَكَ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَ حَالَ الْقِيَامَةِ فِي الْجُمْلَةِ قَسَّمَ الْمُكَلَّفِينَ قِسْمَيْنِ: الْأَشْقِيَاءُ وَالسُّعَدَاءُ، فَذَكَرَ حَالَ الأشقياء. فقال تعالى:
[سورة النازعات (٧٩) : الآيات ٣٧ الى ٣٩]
فَأَمَّا مَنْ طَغى (٣٧) وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (٣٨) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (٣٩)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي جَوَابِ قَوْلِهِ: فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى [النازعات: ٣٤] وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: إِنَّهُ مَحْذُوفٌ عَلَى تَقْدِيرِ إِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ دَخَلَ أَهْلُ النَّارِ النار، وأهل الجنة الجنة، ودلى عَلَى هَذَا الْمَحْذُوفِ، مَا ذُكِرَ فِي بَيَانِ مَأْوَى الْفَرِيقَيْنِ، وَلِهَذَا كَانَ يَقُولُ مَالِكُ بْنُ معول فِي تَفْسِيرِ الطَّامَّةِ الْكُبْرَى، قَالَ:
إِنَّهَا إِذَا سَبَقَ أَهْلُ الْجَنَّةِ إِلَى الْجَنَّةِ، وَأَهْلُ النَّارِ إِلَى النَّارِ وَالثَّانِي: أَنَّ جَوَابَهُ قَوْلُهُ: فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى وَكَأَنَّهُ جَزَاءٌ مُرَكَّبٌ عَلَى شَرْطَيْنِ نَظِيرُهُ إِذَا جَاءَ الْغَدُ، فَمَنْ جَاءَنِي سَائِلًا أَعْطَيْتُهُ، كَذَا هَاهُنَا أَيْ إِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى فَمَنْ جَاءَ طَاغِيًا فَإِنَّ الْجَحِيمَ مَأْوَاهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: طَغى وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا النَّضْرُ وَأَبُوهُ الْحَارِثُ فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ عِنْدَ صُدُورِ بَعْضِ الْمُنْكِرَاتِ مِنْهُ فَجَيِّدٌ وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ تَخْصِيصُهَا بِهِ، فَبَعِيدٌ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، لَا سِيَّمَا إِذَا عُرِفَ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ أَنَّ الْمُوجِبَ لِذَلِكَ الْحُكْمِ هُوَ الْوَصْفُ الْمَذْكُورُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قوله صغى، إِشَارَةٌ إِلَى فَسَادِ حَالِ الْقُوَّةِ النَّظَرِيَّةِ، لِأَنَّ كُلَّ مَنْ عَرَفَ اللَّهَ عَرَفَ حَقَارَةَ نَفْسِهِ، وَعَرَفَ اسْتِيلَاءَ قُدْرَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَلَا يَكُونُ لَهُ طُغْيَانٌ وَتَكَبُّرٌ، وَقَوْلُهُ: وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا إِشَارَةٌ إِلَى فَسَادِ حَالِ الْقُوَّةِ الْعَمَلِيَّةِ، وَإِنَّمَا ذُكِرَ ذَلِكَ لِمَا
رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «حُبُّ الدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ»
وَمَتَى كَانَ الْإِنْسَانُ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ مَوْصُوفًا بِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ، كَانَ بَالِغًا فِي الْفَسَادِ إِلَى أَقْصَى الْغَايَاتِ، وَهُوَ الْكَافِرُ الَّذِي يَكُونُ عِقَابُهُ مُخَلَّدًا، وَتَخْصِيصُهُ بِهَذِهِ الْحَالَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَاسِقَ الَّذِي لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، لَا تَكُونُ الْجَحِيمُ مَأْوًى لَهُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: تَقْدِيرُ الْآيَةِ: فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى لَهُ، ثُمَّ حُذِفَتِ الصِّلَةُ لِوُضُوحِ الْمَعْنَى كَقَوْلِكَ لِلرَّجُلِ غُضَّ الطَّرْفَ أَيْ غُضَّ طَرْفَكَ، وَعِنْدِي فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى، اللَّائِقُ بِمَنْ كَانَ مَوْصُوفًا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ والأخلاق. ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى حَالَ السُّعَدَاءِ فَقَالَ تَعَالَى:
[سورة النازعات (٧٩) : الآيات ٤٠ الى ٤١]
وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (٤٠) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (٤١)
واعلم أن هذين الوصفين مضادات لِلْوَصْفَيْنِ اللَّذَيْنِ وَصَفَ اللَّهُ أَهْلَ النَّارِ بِهِمَا فَقَوْلُهُ: وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ ضِدُّ قوله: فَأَمَّا مَنْ طَغى [النازعات: ١٧] وقوله: وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى ضد ققوله: وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا [النازعات: ٣٨] وَاعْلَمْ أَنَّ الْخَوْفَ مِنَ اللَّهِ، لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَسْبُوقًا بِالْعِلْمِ بِاللَّهِ عَلَى مَا قَالَ:
إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فَاطِرٍ: ٢٨] وَلَمَّا كَانَ الْخَوْفُ مِنَ اللَّهِ هُوَ السَّبَبَ الْمُعِينَ لِدَفْعِ الْهَوَى، لَا جَرَمَ قَدَّمَ العلة على المعلول، وَكَمَا دَخَلَ فِي ذَيْنِكَ الصِّفَتَيْنِ جَمِيعُ الْقَبَائِحِ دَخَلَ/ فِي هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ جَمِيعُ الطَّاعَاتِ وَالْحَسَنَاتِ، وَقِيلَ: الْآيَتَانِ نَزَلَتَا فِي أَبِي عَزِيزِ بْنِ عُمَيْرٍ وَمُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَقَدْ قَتَلَ مُصْعَبٌ أَخَاهُ أَبَا عَزِيزٍ يَوْمَ أُحُدٍ، وَوَقَى رَسُولَ اللَّهِ بِنَفْسِهِ حَتَّى نَفَذَتِ الْمَشَاقِصُ فِي جَوْفِهِ.
[سورة النازعات (٧٩) : الآيات ٤٢ الى ٤٤]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (٤٢) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (٤٣) إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (٤٤)
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ بِالْبُرْهَانِ الْعَقْلِيِّ إِمْكَانَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ وُقُوعِهَا، ثُمَّ ذَكَرَ أَحْوَالَهَا الْعَامَّةَ، ثُمَّ ذَكَرَ أَحْوَالَ الْأَشْقِيَاءِ والسعداء فيها، قال تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَسْمَعُونَ إِثْبَاتَ «١» الْقِيَامَةِ، وَوَصْفَهَا بِالْأَوْصَافِ الْهَائِلَةِ، مِثْلُ أَنَّهَا طَامَّةٌ وَصَاخَّةٌ وَقَارِعَةٌ، فَقَالُوا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ: أَيَّانَ مُرْساها فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْإِيهَامِ لِأَتْبَاعِهِمْ أَنَّهُ لَا أَصْلَ لِذَلِكَ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْأَلُونَ الرَّسُولَ عَنْ وَقْتِ الْقِيَامَةِ اسْتِعْجَالًا، كَقَوْلِهِ: يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِها [الشُّورَى: ١٨] ثُمَّ فِي قَوْلِهِ: مُرْساها قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: مَتَى إِرْسَاؤُهَا، أَيْ إِقَامَتُهَا أَرَادُوا مَتَى يُقِيمُهَا اللَّهُ وَيُوجِدُهَا وَيُكَوِّنُهَا وَالثَّانِي: أَيَّانَ مُنْتَهَاهَا وَمُسْتَقَرُّهَا، كَمَا أَنَّ مَرْسَى السَّفِينَةِ مُسْتَقَرُّهَا حَيْثُ تَنْتَهِي إِلَيْهِ.
ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجَابَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها وَفِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: مَعْنَاهُ فِي أَيِّ شَيْءٍ أَنْتَ عَنْ تَذَكُّرِ وَقْتِهَا لَهُمْ، وَتَبَيُّنِ ذَلِكَ الزَّمَانِ الْمُعَيَّنِ لَهُمْ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُ الْقَائِلِ: إِذَا سَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ شَيْءٍ لَا يَلِيقُ بِهِ مَا أَنْتَ وَهَذَا، وَأَيُّ شَيْءٍ لَكَ فِي هَذَا،
وَعَنْ عَائِشَةَ «لَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ السَّاعَةَ وَيَسْأَلُ عَنْهَا حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ»
فَهُوَ عَلَى هَذَا تَعْجِيبٌ مِنْ كَثْرَةِ ذِكْرِهِ لَهَا، كَأَنَّهُ قِيلَ: فِي أَيِّ شُغُلٍ وَاهْتِمَامٍ أَنْتَ مِنْ ذِكْرِهَا وَالسُّؤَالِ عَنْهَا، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَسْأَلُونَكَ عَنْهَا، فَلِحِرْصِكَ عَلَى جَوَابِهِمْ لَا تَزَالُ تَذْكُرُهَا وَتَسْأَلُ عَنْهَا.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها أَيْ مُنْتَهَى عِلْمِهَا لَمْ يُؤْتِهِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ الْوَجْهُ الثَّانِي: قَالَ بَعْضُهُمْ:
فِيمَ إِنْكَارٌ لِسُؤَالِهِمْ، أَيْ فِيمَ هَذَا السُّؤَالُ، ثُمَّ قِيلَ: أَنْتَ مِنْ ذِكْراها أَيْ أرسلك «٢» وأنت خاتم الأنبياء وآخر الرسل ذاكرا مِنْ أَنْوَاعِ عَلَامَاتِهَا، وَوَاحِدًا مِنْ أَقْسَامِ أَشْرَاطِهَا، فَكَفَاهُمْ بِذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى دُنُوِّهَا وَوُجُوبِ الِاسْتِعْدَادِ لها، ولا فائدة في سؤالهم عنها.
(١) لعل (إثبات) محرفة عن (أنباء) بمعنى أخبار.
(٢) لعل (أرسلك) محرفة عن (إرسالك).
ثم قال تعالى:
[سورة النازعات (٧٩) : آية ٤٥]
إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (٤٥)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّكَ إِنَّمَا بُعِثْتَ لِلْإِنْذَارِ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى عِلْمِكَ/ بِوَقْتِ قِيَامِ الْقِيَامَةِ، بَلْ لَوْ أَنْصَفْنَا لَقُلْنَا: بِأَنَّ الْإِنْذَارَ وَالتَّخْوِيفَ إِنَّمَا يَتِمَّانِ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْعِلْمُ بِوَقْتِ قِيَامِ الْقِيَامَةِ حَاصِلًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مُنْذِرٌ لِلْكُلِّ إِلَّا أَنَّهُ خُصَّ بِمَنْ يَخْشَى، لِأَنَّهُ الَّذِي يَنْتَفِعُ بِذَلِكَ الْإِنْذَارِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قُرِئَ مُنْذِرٌ بِالتَّنْوِينِ وَهُوَ الْأَصْلُ، قَالَ الزَّجَّاجُ: مُفْعِلٌ وَفَاعِلٌ إِذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِمَا يُسْتَقْبَلُ أَوْ لِلْحَالِ يُنَوَّنُ، لِأَنَّهُ يَكُونُ بَدَلًا مِنَ الْفِعْلِ، وَالْفِعْلُ لَا يَكُونُ إِلَّا نَكِرَةً وَيَجُوزُ حَذْفُ التَّنْوِينِ لِأَجْلِ التَّخْفِيفِ وَكِلَاهُمَا يَصْلُحُ لِلْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ، فَإِذَا أُرِيدَ الْمَاضِي فَلَا يَجُوزُ إِلَّا الإضافة كقوله هو منذر زيد أمس. ثم قال تعالى:
[سورة النازعات (٧٩) : آية ٤٦]
كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (٤٦)
وَتَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَدْ مَضَى ذِكْرُهُ فِي قَوْلِهِ: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ [الْأَحْقَافِ: ٣٥] وَالْمَعْنَى أَنَّ مَا أَنْكَرُوهُ سَيَرَوْنَهُ حَتَّى كَأَنَّهُمْ أَبَدًا فِيهِ وَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَلْبَثُوا فِي الدُّنْيَا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ثُمَّ مَضَتْ فَإِنْ قِيلَ قَوْلُهُ: أَوْ ضُحاها مَعْنَاهُ ضُحَى الْعَشِيَّةِ وَهَذَا غَيْرُ مَعْقُولٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْعَشِيَّةِ ضُحًى:
قُلْنَا الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: قَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْهَاءُ وَالْأَلِفُ صِلَةٌ لِلْكَلَامِ يُرِيدُ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحًى وَثَانِيهَا: قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: الْمُرَادُ بِإِضَافَةِ الضُّحَى إِلَى الْعَشِيَّةِ إِضَافَتُهَا إِلَى يَوْمِ الْعَشِيَّةِ كَأَنَّهُ قِيلَ: إِلَّا عَشِيَّةَ أَوْ ضُحَى يَوْمِهَا، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: آتِيكَ الْعَشِيَّةَ أَوْ غَدَاتَهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَثَالِثُهَا: أَنَّ النَّحْوِيِّينَ قَالُوا يَكْفِي فِي حُسْنِ الْإِضَافَةِ أَدْنَى سَبَبٍ، فَالضُّحَى الْمُتَقَدِّمُ عَلَى عَشِيَّةٍ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ ضُحَى تِلْكَ الْعَشِيَّةِ، وَزَمَانُ الْمِحْنَةِ قَدْ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْعَشِيَّةِ وَزَمَانُ الرَّاحَةِ قَدْ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالضُّحَى، فَالَّذِينَ يُحْضَرُونَ فِي مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ يُعَبِّرُونَ عَنْ زَمَانِ مِحْنَتِهِمْ بِالْعَشِيَّةِ وَعَنْ زَمَانِ رَاحَتِهِمْ بِضُحَى تِلْكَ الْعَشِيَّةِ فَيَقُولُونَ: كَأَنَّ عُمْرَنَا فِي الدُّنْيَا مَا كَانَ إِلَّا هَاتَيْنِ السَّاعَتَيْنِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصحبه وسلم.
Icon