ﰡ
مكية وقيل إلا قوله تعالى (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) إلى قوله (لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) وهي ثمان وثمانون آية
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ١ الى ٤]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طسم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٤)طسم.
تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ.
نَتْلُوا عَلَيْكَ نقرؤه بقراءة جبريل، ويجوز أن يكون بمعنى ننزله مجازاً. مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بعض نبئهما مفعول نَتْلُوا. بِالْحَقِّ محقين. لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ لأنهم المنتفعون به.
إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ استئناف «مبين» لذلك البعض، والأرض أرض مصر. وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً فرقاً يشيعونه فيما يريد، أو يشيع بعضهم بعضاً في طاعته أو أصنافاً في استخدامه استعمل كل صنف في عمل، أو أحزاباً بأن أغرى بينهم العداوة كي لا يتفقوا عليه. يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ وهم بنو إسرائيل، والجملة حال من فاعل جَعَلَ أو صفة ل شِيَعاً أو استئناف، وقوله: يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ بدل منها، كان ذلك لأن كاهناً قال له يولد مولود في بني إسرائيل يذهب ملكك على يده، وذلك كان من غاية حمقه فإنه لو صدق لم يندفع بالقتل وإن كذب فما وجهه. إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ فلذلك اجترأ على قتل خلق كثير من أولاد الأنبياء لتخيل فاسد.
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٥ الى ٦]
وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (٥) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (٦)
وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ أن نتفضل عليهم بإنقاذهم من بأسه، وَنُرِيدُ حكاية حال ماضية معطوفة على إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ من حيث إنهما واقعان تفسيرا لل نَبَإِ، أو حال من يَسْتَضْعِفُ ولا يلزم من مقارنة الإِرادة للاستضعاف مقارنة المراد له، لجواز أن يكون تعلق الإِرادة به حينئذ تعلقاً استقبالياً مع أن منة الله بخلاصهم لما كانت قريبة الوقوع منه جاز أن تجري مجرى المقارن. وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً مقدمين في أمر الدين. وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ لما كان في ملك فرعون وقومه.
وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ أرض مصر والشام، وأصل التمكين أن تجعل للشيء مكاناً يتمكن فيه ثم استعير للتسليط وإِطلاق الأمر. وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ من بني إسرائيل. مَّا كانُوا يَحْذَرُونَ من ذهاب ملكهم وهلاكهم على يد مولود منهم. وقرأ حمزة والكسائي ويري بالياء وفِرْعَوْنَ وَهامانَ
بالرفع.
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٧ الى ٨]
وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (٨)
وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى بإلهام أو رؤيا. أَنْ أَرْضِعِيهِ ما أمكنك إخفاؤه. فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ بأن يحس به. فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ في البحر يريد النيل. وَلا تَخافِي عليه ضيعة ولا شدة. وَلا تَحْزَنِي لفراقه.
إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ عن قريب بحيث تأمنين عليه. وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ
روي أنها لما ضربها الطلق دعت قابلة من الموكلات بحبالى بني إسرائيل فعالجتها، فلما وقع موسى على الأرض هالها نور بين عينيه وارتعشت مفاصلها ودخل حبه في قلبها بحيث منعها من السعاية، فأرضعته ثلاثة أشهر ثم ألح فرعون في طلب المواليد واجتهد العيون في تفحصها فأخذت له تابوتاً فقذفته في النيل.
فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً تعليل لالتقاطهم إياه بما هو عاقبته ومؤداه تشبيهاً له بالغرض الحامل عليه. وقرأ حمزة والكسائي وَحَزَناً. إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ في كل شيء فليس ببدع منهم أن قتلوا ألوفاً لأجله ثم أخذوه يربونه ليكبر ويفعل بهم ما كانوا يحذرون، أو مذنبين فعاقبهم الله تعالى بأن ربى عدوهم على أيديهم، فالجملة اعتراض لتأكيد خطئهم أو لبيان الموجب لما ابتلوا به، وقرئ «خاطين» تخفيف خاطِئِينَ أو «خاطين» الصواب إلى الخطأ.
[سورة القصص (٢٨) : آية ٩]
وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٩)
وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ أي لفرعون حين أخرجته من التابوت. قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ هو قرة عين لنا لأنهما لما رأياه أخرج من التابوت أحباه، أو لأنه كانت له ابنة برصاء وعالجها الأطباء بريق حيوان بحري يشبه الإِنسان فلطخت برصها بريقه فبرئت،
وفي الحديث أنه قال: لك لا لي.
ولو قال هو لي كما هو لك لهداه الله كما هداها. لاَ تَقْتُلُوهُ خطاب بلفظ الجمع للتعظيم. عَسى أَنْ يَنْفَعَنا فإن فيه مخايل اليمن ودلائل النفع، وذلك لما رأت من نور بين عينيه وارتضاعه إبهامه لبناً وبرء البرصاء بريقه. أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً أو نتبناه فإنه أهل له. وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ حال من الملتقطين أو من القائلة والمقول له أي وهم لا يشعرون أنهم على الخطأ في التقاطه أو في طمع النفع منه والتبني له، أو من أحد ضميري نتخذه على أن الضمير للناس أي وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ أنه لغيرنا وقد تبنيناه.
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ١٠ الى ١١]
وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠) وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١١)
وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً صفراً من العقل لما دهمها من الخوف والحيرة حين سمعت بوقوعه في يد فرعون كقوله تعالى: وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ أي خلاء لا عقول فيها، ويؤيده أنه قرئ «فرغاً» من قولهم دماؤهم بينهم فرغ أي هدر، أو من الهم لفرط وثوقها بوعد الله تعالى أو سماعها أن فرعون عطف عليه وتبناه. إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ أنها كادت لتظهر بموسى أي بأمره وقصته من فرط الضجر أو الفرح لتبنيه.
لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها بالصبر والثبات. لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ من المصدقين بوعد الله، أو من الواثقين
وَقالَتْ لِأُخْتِهِ مريم. قُصِّيهِ اتبعي أثره وتتبعي خبره. فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ عن بعد وقرئ «عن جانب» «وعن جنب» وهو بمعناه. وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ أنها تقص أو أنها أخته.
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ١٢ الى ١٣]
وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (١٢) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (١٣)
وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ ومنعناه أن يرتضع من المرضعات، جمع مرضع أو مرضع وهو الرضاع، أو موضعه يعني الثدي. مِنْ قَبْلُ من قبل قصها أثره. فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ لأجلكم. وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ لا يقصرون في إرضاعه وتربيته،
روي أن هامان لما سمعه قال: إنها لتعرفه وأهله فخذوها حتى تخبر بحاله، فقالت: إنما أردت وهم للملك ناصحون، فأمرها فرعون أن تأتي بمن يكفله فأتت بأمها وموسى على يد فرعون يبكي وهو يعلله، فلما وجد ريحها استأنس والتقم ثديها فقال لها: من أنت منه فقد أبى كل ثدي إلا ثديك؟ فقالت: إني امرأة طيبة الريح طيبة اللبن لا أوتى بصبي إلا قبلني فدفعه إليها وأجرى عليها، فرجعت به إلى بيتها من يومها
، وهو قوله تعالى:
فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها بولدها. وَلا تَحْزَنَ بفراقه. وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ علم مشاهدة.
وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ أن وعده حق فيرتابون فيه، أو أن الغرض الأصلي من الرد علمها بذلك وما سواه تبع، وفيه تعريض بما فرط منها حين سمعت بوقوعه في يد فرعون.
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ١٤ الى ١٥]
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٤) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (١٥)
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ مبلغه الذي لا يزيد عليه نشؤه وذلك من ثلاثين إلى أربعين سنة فإن العقل يكمل حينئذ.
وروي أنه لم يبعث نبي إلا على رأس الأربعين سنة.
وَاسْتَوى قده أو عقله. آتَيْناهُ حُكْماً أي نبوة. وَعِلْماً بالدين، أو علم الحكماء والعلماء وسمتهم قبل استنبائه، فلا يقول ولا يفعل ما يستجهل فيه، وهو أوفق لنظم القصة لأن الاستنباء بعد الهجرة في المراجعة. وَكَذلِكَ ومثل ذلك الذي فعلنا بموسى وأمه. نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ على إحسانهم.
وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ ودخل مصر آتياً من قصر فرعون وقيل منف أو حائين، أو عين شمس من نواحيها.
عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها في وقت لا يعتاد دخولها ولا يتوقعونه فيه، قيل كان وقت القيلولة وقيل بين العشاءين. فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ أحدهما ممن شايعه على دينه وهم بنو إسرائيل والآخر من مخالفيه وهم القبط، والإِشارة على الحكاية. فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي هو مِنْ عَدُوِّهِ فسأله أن يغيثه بالإِعانة ولذلك عدى ب عَلى وقرئ «استعانه». فَوَكَزَهُ مُوسى فضرب القبطي بجمع كفه، وقرئ فلكزه أي فضرب به صدره. فَقَضى عَلَيْهِ فقتله وأصله فأنهى حياته من قوله وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ. قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ لأنه لم يؤمر بقتل الكفار أو لأنه كان مأموناً فيهم فلم يكن له اغتيالهم، ولا يقدح ذلك في عصمته لكونه خطأ، وإنما عده من عمل الشيطان وسماه ظلماً
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ١٦ الى ١٧]
قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٦) قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (١٧)
قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي بقتله. فَاغْفِرْ لِي ذنبي. فَغَفَرَ لَهُ لاستغفاره. إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ لذنوب عباده. الرَّحِيمُ بهم.
قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ قسم محذوف الجواب أي أقسم بإنعامك علي بالمغفرة وغيرها لأتوبن.
فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ أو استعطاف أي بحق إنعامك على أعصمني فلن أكون معيناً لمن أدت معاونته إلى جرم. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أنه لم يستثن فابتلي به مرة أخرى، وقيل معناه بما أنعمت علي من القوة أعين أولياءك فلن أستعملها في مظاهرة أعدائك.
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ١٨ الى ١٩]
فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (١٨) فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يَا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (١٩)
فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ يترصد الاستقادة. فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ يستغيثه مشتق من الصراخ. قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ بين الغواية لأنك تسببت لقتل رجل وتقاتل آخر.
فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما لموسى والإِسرائيلي لأنه لم يكن على دينهما ولأن القبط كانوا أعداء لبني إسرائيل. قالَ يَا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ قاله الإِسرائيلي لأنه لما سماه غوياً ظن أنه يبطش عليه، أو القبطي وكأنه توهم من قوله أنه الذي قتل القبطي بالأمس لهذا الإسرائيلي.
إِنْ تُرِيدُ ما تريد. إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ تطاول على الناس ولا تنظر في العواقب. وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ بين الناس فتدفع التخاصم بالتي هي أحسن، ولما قال هذا انتشر الحديث وارتقى إلى فرعون وملئه وهموا بقتله فخرج مؤمن آل فرعون وهو ابن عمه ليخبره كما قال تعالى:
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٢٠ الى ٢٢]
وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يَا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (٢٠) فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢١) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (٢٢)
وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى يسرع صفة رجل، أو حال منه إذا جعل من أقصى المدينة صفة له لا صلة لجاء لأن تخصيصه بها يلحقه بالمعارف. قالَ يَا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ يتشاورون بسببك، وإنما سمي التشاور ائتماراً لأن كلاً من المتشاورين يأمر الآخر ويأتمر. فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ اللام للبيان وليس صلة ل النَّاصِحِينَ لأن معمول الصلة لا يتقدم الموصول.
فَخَرَجَ مِنْها من المدينة. خائِفاً يَتَرَقَّبُ لحوق طالب. قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ خلصني منهم واحفظني من لحوقهم.
وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قبالة مدين قرية شعيب، سميت باسم مدين بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام ولم تكن في سلطان فرعون وكان بينها وبين مصر مسيرة ثمان. قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ توكلاً على الله وحسن ظن به، وكان لا يعرف الطريق فعن له ثلاث طرق فأخذ في أوسطها وجاء الطلاب
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٢٣ الى ٢٤]
وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لاَ نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (٢٣) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (٢٤)
وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وصل إليه وهو بئر كانوا يسقون منها. وَجَدَ عَلَيْهِ وجد فوق شفيرها. أُمَّةً مِنَ النَّاسِ جماعة كثيرة مختلفين. يَسْقُونَ مواشيهم. وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ في مكان أسفل من مكانهم.
امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ تمنعان أغنامهما عن الماء لئلا تختلط بأغنامهم. قالَ مَا خَطْبُكُما ما شأنكما تذودان.
قالَتا لاَ نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ تصرف الرعاة مواشيهم عن الماء حذراً عن مزاحمة الرجال، وحذف المفعول لأن الغرض هو بيان ما يدل على عفتهما ويدعوه إلى السقي لهما ثم دونه. وقرأ أبو عمرو وابن عامر يُصْدِرَ أي ينصرف. وقرئ «الرعاء» بالضم وهو اسم جمع كالرخال. وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ كبير السن لا يستطيع أن يخرج للسقي فيرسلنا اضطراراً.
فَسَقى لَهُما مواشيهما رحمة عليهما. قيل كانت الرعاة يضعون على رأس البئر حجراً لا يقله إلا سبعة رجال أو أكثر فأقله وحده مع ما كان به من الوصب والجوع وجراحة القدم، وقيل كانت بئراً أخرى عليها صخرة فرفعها واستقى منها. ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ لأي شيء أنزلت إلي.
مِنْ خَيْرٍ قليل أو كثير وحمله الأكثرون على الطعام. فَقِيرٌ محتاج سائل ولذلك عدى باللام، وقيل معناه إني لما أنزلت إلى من خير الدين صرت فقيراً في الدنيا، لأنه كان في سعة عند فرعون والغرض منه إظهار التبجح والشكر على ذلك.
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٢٥ الى ٢٦]
فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٥) قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (٢٦)
فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ أي مستحيية متخفرة. قيل كانت الصغرى منهما وقيل الكبرى واسمها صفوراء أو صفراء وهي التي تزوجها موسى عليه السلام. قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ ليكافئك.
أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنا جزاء سقيك لنا، ولعل موسى عليه الصلاة والسلام إنما أجابها ليتبرك برؤية الشيخ ويستظهر بمعرفته لا طمعاً في الأجر، بل
روي أنه لما جاءه قدم إليه طعاماً فامتنع عنه وقال: إنا أهل بيت لا نبيع ديننا بالدنيا حتى قال له شعيب عليه الصلاة والسلام: هذه عادتنا مع كل من ينزل بنا. هذا وأن كل من فعل معروفاً فأهدي بشيء لم يحرم أخذه.
فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ يريد فرعون وقومه.
قالَتْ إِحْداهُما يعني الّتي استدعته. يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ لرعي الغنم. إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ تعيل شائع يجري مجرى الدليل على أنه حقيق بالاستئجار وللمبالغة فيه، جعل خَيْرَ اسماً وذكر الفعل بلفظ الماضي للدلالة على أنه امرؤ مجرب معروف.
روي أن شعيباً قال لها وما أعلمك بقوته وأمانته فذكرت إقلال الحجر وأنه صوب رأسه حتى بلغته رسالته وأمرها بالمشي خلفه.
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٢٧ الى ٢٨]
قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧) قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (٢٨)
قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أي ذلك الذي عاهدتني فيه قائم بيننا لا نخرج عنه. أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ أطولهما أو أقصرهما. قَضَيْتُ وفيتك إياه. فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ لا تعتدي علي بطلب الزيادة فكما لا أطالب بالزيادة على العشر لا أطالب بالزيادة على الثمان، أو فلا أكون متعدياً بترك الزيادة عليه كقولك لا إثم علي، وهو أبلغ في إثبات الخيرة وتساوي الأجلين في القضاء من أن يقال إن قضيت الأقصر فلا عدوان علي. وقرئ «أَيَّمَا» كقوله:
تَنَظَّرْت نَصْراً وَالسماكين أَيُّمَا | عَليَّ مِنَ الغَيْثِ اسْتَهَلَّتْ مَوَاطِرُه |
[سورة القصص (٢٨) : آية ٢٩]
فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٢٩)
فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ بامرأته. روي أنه قضى أقصى الأجلين ومكث بعد ذلك عنده عشراً أخرى ثم عزم على الرجوع. آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ نَاراً أبصر من الجهة التي تلي الطور. قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ بخبر الطريق. أَوْ جَذْوَةٍ عود غليظ سواء كان في رأسه نار أو لم يكن.
قال:
بَاتَتْ حَوَاطِبُ لَيْلَى يَلْتَمِسْنُ لَهَا | جَزلَ الجذى غَيْرَ خوارٍ وَلاَ دَعِرٍ |
وَأَلْقَى عَلى قَبس مِنْ النَّارِ جَذْوَة | شَدِيداً عَلَيْهِ حَرُّهَا وَالتِهَابُهَا |
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٣٠ الى ٣١]
فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٣٠) وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (٣١)
وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ أي فألقاها فصارت ثعبانا واهتزت فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ. كَأَنَّها جَانٌّ في الهيئة والجثة أو في السرعة. وَلَّى مُدْبِراً منهزماً من الخوف. وَلَمْ يُعَقِّبْ ولم يرجع. يَا مُوسى نودي يا موسى. أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ من المخاوف، فإنه لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ.
[سورة القصص (٢٨) : آية ٣٢]
اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٣٢)
اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ أدخلها. تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ عيب. وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ يديك المبسوطتين تتقي بهما الحية كالخائف الفزع بإدخال اليمنى تحت عضد اليسرى وبالعكس، أو بإدخالهما في الجيب فيكون تكريراً لغرض آخر وهو أن يكون ذلك في وجه العدو إظهار جراءة ومبدأ لظهور معجزة، ويجوز أن يراد بالضم التجلد والثبات عند انقلاب العصا حية استعارة من حال الطائر فإنه إذا خاف نشر جناحيه وإذا أمن واطمأن ضمهما إليه. مِنَ الرَّهْبِ من أجل الرهب أي إذا عراك الخوف فافعل ذلك تجلداً وضبطاً لنفسك. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر بضم الراء وسكون الهاء، وقرئ بضمهما، وقرأ حفص بالفتح والسكون والكل لغات. فَذانِكَ إشارة إلى العصا واليد، وشدده ابن كثير وأبو عمرو ورويس. بُرْهانانِ حجتان وبرهان فعلان لقولهم أبره الرجل إذا جاء بالبرهان من قولهم بره الرجل إذا ابيض، ويقال برهاء وبرهرهة للمرأة البيضاء وقيل فعلال لقولهم برهن. مِنْ رَبِّكَ مرسلاً بهما. إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ فكانوا أحقاء بأن يرسل إليهم.
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٣٣ الى ٣٥]
قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (٣٣) وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (٣٤) قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ (٣٥)
قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ بها.
وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً معيناً وهو في الأصل اسم ما يعان به كالدفء، وقرأ نافع «رداً» بالتخفيف. يُصَدِّقُنِي بتخليص الحق وتقرير الحجة وتزييف الشبهة. إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ ولساني لا يطاوعني عند المحاجة، وقيل المراد تصديق القوم لتقريره وتوضيحه لكنه أسند إليه إسناد الفعل إلى السبب، وقرأ عاصم وحمزة يُصَدِّقُنِي بالرفع على أنه صفة والجواب محذوف.
قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ سنقويك به فإن قوة الشخص بشدة اليد على مزاولة الأمور، ولذلك يعبر عنه باليد وشدتها بشدة العضد. وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً غلبة أو حجة. فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما باستيلاء أو حجاج. بِآياتِنا متعلق بمحذوف أي اذهبا بآياتنا، أو ب نَجْعَلُ أي نسلطكما بها، أو بمعنى «لا يصلون» أي تمتنعون منهم، أو قسم جوابه «لا يصلون»، أو بيان ل الْغالِبُونَ في قوله: أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ بمعنى أنه صلة لما بينه أو صلة له على أن اللام فيه للتعريف لا بمعنى الّذي.
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٣٦ الى ٣٧]
فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا مَا هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (٣٦) وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٣٧)فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا مَا هذا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً سحر تختلقه لم يفعل قبل مثله، أو سحر تعمله ثم تفتريه على الله أو سحر موصوف بالإِفتراء كسائر أنواع السحر. وَما سَمِعْنا بِهذا يعنون السحر أو ادعاء النبوة. فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ كائناً في أيامهم.
وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ فيعلم أني محق وأنتم مبطلون. وقرأ ابن كثير «قال» بغير واو لأنه قال ما قاله جواباً لمقالهم، ووجه العطف أن المراد حكاية القولين ليوازن الناظر بينهما فيميز صحيحهما من الفاسد. وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ العاقبة المحمودة فإن المراد بالدار الدنيا وعاقبتها الأصلية هي الجنة لأنها خلقت مجازاً إلى الآخرة، والمقصود منها بالذات هو الثواب والعقاب إنما قصد بالعرض.
وقرأ حمزة والكسائي يَكُونَ بالياء. إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ لا يفوزون بالهدى في الدنيا وحسن العاقبة في العقبى.
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٣٨ الى ٤٠]
وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (٣٨) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لاَ يُرْجَعُونَ (٣٩) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٤٠)
وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي نفى علمه بإله غيره دون وجوده إذ لم يكن عنده ما يقتضي الجزم بعدمه، ولذلك أمر ببناء الصرح ليصعد إليه ويتطلع على الحال بقوله: فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى كأنه توهم أنه لو كان لكان جسماً في السماء يمكن الترقي إليه ثم قال: وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ أو أراد أن يبني له رصداً يترصد منه أوضاع الكواكب فيرى هل فيها ما يدل على بعثة رسول وتبدل دولة، وقيل المراد بنفي العلم نفي المعلوم كقوله تعالى:
أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لاَ يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ فإن معناه بما ليس فيهن، وهذا من خواص العلوم الفعلية فإنها لازمة لتحقق معلوماتها فيلزم من انتفائها انتفاؤها، ولا كذلك العلوم الانفعالية، قيل أول من اتخذ الآجر فرعون ولذلك أمر باتخاذه على وجه يتضمن تعليم الصنعة مع ما فيه من تعظم ولذلك نادى هامان باسمه بيا في وسط الكلام.
وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ بغير استحقاق. وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لاَ يُرْجَعُونَ بالنشور.
وقرأ نافع وحمزة والكسائي بفتح الياء وكسر الجيم.
فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ كما مر بيانه، وفيه فخامة وتعظيم لشأن الآخذ واستحقار للمأخوذين كأنه أخذهم مع كثرتهم في كف وطرحهم في اليم، ونظيره: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ. فَانْظُرْ يا محمد. كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ وحذر قومك عن مثلها.
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٤١ الى ٤٢]
وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لاَ يُنْصَرُونَ (٤١) وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (٤٢)
وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً طرداً عن الرحمة، أو لعن اللاعنين يلعنهم الملائكة والمؤمنون. وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ من المطرودين، أو ممن قبح وجوههم.
[سورة القصص (٢٨) : آية ٤٣]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٣)
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ التوراة. مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى أقوام نوح وهود وصالح ولوط.
بَصائِرَ لِلنَّاسِ أنواراً لقلوبهم تتبصر بها الحقائق وتميز بين الحق والباطل. وَهُدىً إلى الشرائع التي هي سبل الله تعالى. وَرَحْمَةً لأنهم لو عملوا بها نالوا رحمة الله سبحانه وتعالى. لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ليكونوا على حال يرجى منهم التذكر، وقد فسر بالإِرادة وفيه ما عرفت.
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٤٤ الى ٤٥]
وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٤٤) وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٤٥)
وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ يريد الوادي، أو الطور فإنه كان في شق الغرب من مقام موسى، أو الجانب الغربي منه والخطاب لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم أي ما كنت حاضراً. إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ إذ أوحينا إليه الأمر الذي أردنا تعريفه. وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ للوحي إليه أو على الوحي إليه، وهم السبعون المختارون الميقات، والمراد الدلالة على أن إخباره عن ذلك من قبيل الإِخبار عن المغيبات التي لا تعرف إِلا بالوحي ولذلك استدرك عنه بقوله:
وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أي ولكنا أوحينا إليك لأنا أنشأنا قروناً مختلفة بعد موسى فتطاولت عليهم المدد، فحرفت الأخبار وتغيرت الشرائع واندرست العلوم، فحذف المستدرك وأقام سببه مقامه. وَما كُنْتَ ثاوِياً مقيماً. فِي أَهْلِ مَدْيَنَ شعيب والمؤمنين به. تَتْلُوا عَلَيْهِمْ تقرأ عليهم تعلماً منهم. آياتِنا التي فيها قصتهم. وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ إياك ومخبرين لك بها.
[سورة القصص (٢٨) : آية ٤٦]
وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَّا أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٦)
وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا لعل المراد به وقت ما أعطاه التوراة وبالأول حين ما استنبأه لأنهما المذكوران في القصد. وَلكِنْ علمناك. رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وقرئت بالرفع على هذه رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ.
لِتُنْذِرَ قَوْماً متعلق بالفعل المحذوف. مَّا أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لوقوعهم في فترة بينك وبين عيسى، وهي خمسمائة وخمسون سنة، أو بينك وبين إسماعيل، على أن دعوة موسى وعيسى كانت مختصة ببني إسرائيل وما حواليهم. لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ يتعظون.
[سورة القصص (٢٨) : آية ٤٧]
وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧)وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا لَوْلا الأولى امتناعية والثانية تحضيضية واقعة في سياقها، لأنها إنما أجيبت بالفاء تشبيهاً لها بالأمر مفعول يقولوا المعطوف على تصيبهم بالفاء المعطية معنى السببيّة المنبهة على أن القول هو المقصود بأن يكون سبباً لانتفاء ما يجاب به، وأنه لا يصدر عنهم حتى تلجئهم العقوبة والجواب محذوف والمعنى: لولا قولهم إذا أصابتهم عقوبة بسبب كفرهم ومعاصيهم ربنا هلا أرسلت إلينا رسولاً يبلغنا آياتك فنتبعها ونكون من المصدقين، ما أرسلناك أي إنما أرسلناك قطعاً لعذرهم وإلزاماً للحجة عليهم. فَنَتَّبِعَ آياتِكَ يعني الرسول المصدق بنوع من المعجزات.
وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٤٨ الى ٤٩]
فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (٤٨) قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٩)
فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسى من الكتاب جملة واليد والعصا وغيرها اقتراحاً وتعنتاً. أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ يعني أبناء جنسهم في الرأي والمذهب وهم كفرة زمان موسى، أو كان فرعون عربياً من أولاد عاد. قالُوا سِحْرانِ يعني موسى وهارون، أو موسى ومحمّدا عليهما السلام. تَظاهَرا تعاوناً بإظهار تلك الخوارق أو بتوافق الكتابين. وقرأ الكوفيون «سحران» بتقدير مضاف أو جعلهما سحرين مبالغة، أو إسناد تظاهرهما إلى فعلهما دلالة على سبب الإعجاز. وقرئ ظاهراً على الإِدغام. وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ أي بكل منهما أو بكل الأنبياء.
قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما مما أنزل على موسى وعلى محمد صلّى الله عليه وسلّم وإضمارهما لدلالة المعنى، وهو يؤيد أن المراد بالساحرين موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام. أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ إنا ساحران مختلقان، وهذا من الشروط التي يراد بها الإِلزام والتبكيت، ولعل مجيء حرف الشك للتهكم بهم.
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٥٠ الى ٥١]
فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥٠) وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥١)
فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ دعاءك إِلى الإِتيان بالكتاب الأهدى فحذف المفعول للعلم به، ولأن فعل الاستجابة يعدى بنفسه إلى الدعاء وباللام إلى الداعي، فإذا عدي إليه حذف الدعا غالباً كقوله:
وَدَاعٍ دَعَا يَا مَنْ يُجِيبُ إِلَى النِّدَا | فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ |
وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ أتبعنا بعضه بعضاً في الإِنزال ليتصل التذكير، أو في النظم لتتقر الدعوة بالحجة والمواعظ بالمواعيد والنصائح بالعبر. لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ فيؤمنون ويطيعون.
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٥٢ الى ٥٣]
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (٥٢) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (٥٣)الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ نزلت في مؤمني أهل الكتاب، وقيل في أربعين من أهل الانجيل اثنان وثلاثون جاءوا مع جعفر من الحبشة وثمانية من الشام، والضمير في مِنْ قَبْلِهِ للقرآن كالمستكن في:
وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ أي بأنه كلام الله تعالى. إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا استئناف لبيان ما أوجب إيمانهم به. إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ استئناف آخر للدلالة على أن إيمانهم به ليس مما أحدثوه حينئذٍ، وإنما هو أمر تقادم عهده لما رأوا ذكره في الكتب المتقدمة وكونهم على دين الإِسلام قبل نزول القرآن، أو تلاوته عليهم باعتقادهم صحته في الجملة.
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٥٤ الى ٥٥]
أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٥٤) وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (٥٥)
أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ مرة على إيمانهم بكتابهم ومرة على إيمانهم بالقرآن. بِما صَبَرُوا بصبرهم وثباتهم على الإِيمانين، أو على الإِيمان بالقرآن قبل النزول وبعده، أو على أذى المشركين ومن هاجرهم من أهل دينهم. وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ ويدفعون بالطاعة المعصية
لقوله صلّى الله عليه وسلّم «أتبع السيئة الحسنة تمحها».
وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ في سبيل الخير.
وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ تكرماً. وَقالُوا للاغين. لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ متاركة لهم وتوديعاً، أو دعاء لهم بالسلامة عما هم فيه. لاَ نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ لا نطلب صحبتهم ولا نريدها.
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٥٦ الى ٥٧]
إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٥٦) وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (٥٧)
إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ لا تقدر على أن تدخلهم في الإِسلام. وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ فيدخله في الإِسلام. وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ بالمستعدين لذلك. والجمهور على
أنها نزلت في أبي طالب فإنه لما احتضر جاءه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله، قال: يا ابن أخي قد علمت إنك لصادق ولكن أكره أن يقال خدع عند الموت.
وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا نخرج منها. نزلت في الحرث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف، أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: نحن نعلم أنك على الحق ولكنا نخاف إن اتبعناك وخالفنا العرب وإنما نحن أكلة رأس أن يتخطفونا من أرضنا فرد الله عليهم بقوله: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً أو لم نجعل مكانهم حرماً ذا أمن بحرمة البيت الذي فيه يتناحر العرب حوله وهم آمنون فيه. يُجْبى إِلَيْهِ يحمل إليه ويجمع فيه، وقرأ نافع ويعقوب في رواية بالتاء. ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ من كل أوب. رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا فإذا كان هذا حالهم وهم عبدة الأصنام فكيف نعرضهم للتخوف والتخطف إذا ضموا إلى حرمة البيت حرمة التوحيد. وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ جهلة لا يتفطنون له ولا يتفكرون ليعلموه، وقيل إنه متعلق بقوله مِنْ لَدُنَّا أي قليل منهم يتدبرون فيعلمون أن ذلك رزق من عند الله، وأكثرهم لا يعلمون إذ لو علموا لما خافوا غيره، وانتصاب رِزْقاً على المصدر من معنى يُجْبى، أو حال من ال ثَمَراتُ لتخصصها بالإِضافة، ثم بين أن الأمر
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٥٨ الى ٥٩]
وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (٥٨) وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ (٥٩)
وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها أي وكم من أهل قرية كانت حالهم كحالهم في الأمن وخفض العيش حتى أشروا فدمر الله عليهم وخرب ديارهم. فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ خاوية. لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا من السكنى إذ لا يسكنها إلا المارة يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، أو لا يبقى من يسكنها من شؤم معاصيهم.
وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ منهم إذ لم يخلفهم أحد يتصرف تصرفهم في ديارهم وسائر متصرفاتهم، وانتصاب مَعِيشَتَها بنزع الخافض أو بجعلها ظرفاً بنفسها كقولك: زيد ظني مقيم، أو بإضمار زمان مضاف إليها أو مفعولاً على تضمين بطرت معنى كفرت.
وَما كانَ رَبُّكَ وما كانت عادته. مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها في أصلها التي هي أعمالها، لأن أهلها تكون أفطن وأنبل. رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا لإِلزام الحجة وقطع المعذرة. وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ بتكذيب الرسل والعتو في الكفر.
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٦٠ الى ٦١]
وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٠) أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٦١)
وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ من أسباب الدنيا. فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها تمتعون وتتزينون به مدة حياتكم المنقضية. وَما عِنْدَ اللَّهِ وهو ثوابه. خَيْرٌ في نفسه من ذلك لأنه لذة خالصة وبهجة كاملة. وَأَبْقى لأنه أبدى. أَفَلا تَعْقِلُونَ فتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير، وقرأ أبو عمرو بالياء وهو أبلغ في الموعظة.
أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً وعداً بالجنة فإن حسن الوعد بحسن الموعود. فَهُوَ لاقِيهِ مدركه لا محالة لامتناع الخلف في وعده، ولذلك عطفه بالفاء المعطية معنى السببية. كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا الذي هو مشوب بالآلام مكدر بالمتاعب مستعقب بالتحسر على الانقطاع. ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ للحساب أو العذاب، وثُمَّ للتراخي في الزمان أو الرتبة، وقرأ نافع وابن عامر في رواية والكسائي ثُمَّ هُوَ بسكون الهاء تشبيهاً للمنفصل بالمتصل، وهذه الآية كالنتيجة للتي قبلها ولذلك رتبت عليها بالفاء.
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٦٢ الى ٦٣]
وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٦٢) قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ مَا كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ (٦٣)
وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ عطف على يوم القيامة أو منصوب باذكر. فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أي الذين كنتم تزعمونهم شركائي، فحذف المفعولان لدلالة الكلام عليهما.
قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ بثبوت مقتضاه وحصول مؤداه وهو قوله تعالى: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ وغيره من آيات الوعيد. رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أي هؤُلاءِ الَّذِينَ أغويناهم فحذف الراجع إلى الموصول. أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا أي أَغْوَيْناهُمْ فغووا غياً مثل ما غوينا، وهو استئناف للدلالة على أنهم غووا باختيارهم وأنهم لم يفعلوا بهم إلا وسوسة وتسويلاً، ويجوز أن يكون الَّذِينَ صفة
تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ منهم ومما اختاروه من الكفر هوى منهم، وهو تقرير للجملة المتقدمة ولذلك خلت عن العاطف وكذا. مَا كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ أي ما كانوا يعبدوننا، وإنما كانوا يعبدون أهواءهم. وقيل مَا مصدرية متصلة ب تَبَرَّأْنا أي تبرأنا من عبادتهم إيانا.
[سورة القصص (٢٨) : آية ٦٤]
وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ (٦٤)
وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ من فرط الحيرة. فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ لعجزهم عن الإِجابة والنصرة.
وَرَأَوُا الْعَذابَ لازماً بهم. لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ لوجه من الحيل يدفعون به العذاب، أو إلى الحق لما رأوا العذاب وقيل لَوْ للتمني أي تمنوا أنهم كانوا مهتدين.
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٦٥ الى ٦٦]
وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (٦٥) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ (٦٦)
وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ عطف على الأول فإنه تعالى يسأل أولاً عن إشراكهم به ثم عن تكذيبهم الأنبياء.
فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فصارت الأنباء كالعمي عليهم لا تهتدي إليهم، وأصله فعموا عن الأنباء لكنه عكس مبالغة ودلالة على أن ما يحضر الذهن إنما يقبض ويرد عليه من خارج فإذا أخطأه لم يكن له حيلة إلى استحضاره، والمراد بالأنباء ما أجابوا به الرسل أو ما يعمها وغيرها، فإذا كانت الرسل يتتعتعون في الجواب عن مثل ذلك من الهول ويفوضون إلى علم الله تعالى فما ظنك بالضلال من أممهم، وتعدية الفعل بعلى لتضمنه معنى الخفاء. فَهُمْ لاَ يَتَساءَلُونَ لا يسأل بعضهم بعضاً عن الجواب لفرط الدهشة والعلم بأنه مثله في العجز.
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٦٧ الى ٦٨]
فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (٦٧) وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ وَيَخْتارُ مَا كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللَّهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٨)
فَأَمَّا مَنْ تابَ من الشرك. وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً. وجمع بين الإِيمان والعمل الصالح. فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ عند الله وعسى تحقيق على عادة الكرام، أو ترج من التائب بمعنى فليتوقع أن يفلح.
وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ وَيَخْتارُ لا موجب عليه ولا مانع له. مَا كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ أي التخير كالطيرة بمعنى التطير، وظاهرة نفي الاختيار عنهم رأساً والأمر كذلك عند التحقيق، فإن اختيار العباد مخلوق باختيار الله منوط بدواع لا اختيار لهم فيها، وقيل المراد أنه ليس لأحد من خلقه أن يختار عليه ولذلك خلا عن العاطف، ويؤيده ما روي أنه نزل في قولهم لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ. وقيل مَا موصولة مفعول ل يَخْتارُ والراجع إليه محذوف والمعنى: ويختار الذي كان لهم فيه الخيرة أي الخير والصلاح. سُبْحانَ اللَّهِ تنزيه له أن ينازعه أحد أو يزاحم اختياره اختيار. وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ عن إشراكهم أو مشاركة ما يشركونه به.
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٦٩ الى ٧٠]
وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٦٩) وَهُوَ اللَّهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٧٠)
وَهُوَ اللَّهُ المستحق للعبادة. لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لا أحد يستحقها إلا هو. لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ لأنه المولى للنعم كلها عاجلها وآجلها يحمده المؤمنون في الآخرة كما حمدوه في الدنيا بقولهم الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ. الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ ابتهاجاً بفضله والتذاذاً بحمده. وَلَهُ الْحُكْمُ القضاء النافذ في كل شيء. وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ بالنشور.
[سورة القصص (٢٨) : آية ٧١]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (٧١)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً دائماً من السرد وهو المتابعة والميم مزيدة كميم دلامص.
إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ بإِسكان الشمس تحت الأرض أو تحريكها حول الأفق الغائر. مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ كان حقه هل إله فذكر ب مَنْ على زعمهم أن غيره آلهة. وعن ابن كثير «بضئاء» بهمزتين. أَفَلا تَسْمَعُونَ سماع تدبر واستبصار.
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٧٢ الى ٧٣]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٧٢) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٣)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ باسكانها في وسط السماء أو تحريكها على مدار فوق الأفق. مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ استراحة عن متاعب الأشغال، ولعله لم يصف الضياء بما يقابله لأن الضوء نعمة في ذاته مقصود بنفسه ولا كذلك الليل، ولأن منافع الضوء أكثر مما يقابله ولذلك قرن به أَفَلا تَسْمَعُونَ وبالليل. أَفَلا تُبْصِرُونَ لأن استفادة العقل من السمع اكثر من استفادته من البصر.
وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ في الليل وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ في النهار بأنواع المكاسب. وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ولكي تعرفوا نعمة الله في ذلك فتشكروه عليها.
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٧٤ الى ٧٥]
وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٧٤) وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (٧٥)
وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ تقريع بعد تقريع للإشعار بأنه لا شيء أجلب لغضب الله من الإِشراك به، أو الأول لتقرير فساد رأيهم والثاني لبيان أنه لم يكن عن سند وإنما كان محض تشه وهوى.
وَنَزَعْنا وأخرجنا. مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً وهو نبيهم يشهد عليهم بما كانوا عليه. فَقُلْنا للأمم.
هاتُوا بُرْهانَكُمْ على صحة ما كنتم تدينون به. فَعَلِمُوا حينئذ. أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ في الألوهية لا يشاركه فيها أحد. وَضَلَّ عَنْهُمْ وغاب عنهم غيبة الضائع. مَّا كانُوا يَفْتَرُونَ من الباطل.
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٧٦ الى ٧٨]
إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (٧٦) وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٧٧) قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (٧٨)
روي أنه قال لموسى عليه السلام: لك الرسالة ولهارون الحبورة وأنا في غير شيء إلى متى أصبر قال موسى هذا صنع الله.
وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ من الأموال المدخرة. مَا إِنَّ مَفاتِحَهُ مفاتيح صناديقه جمع مفتح بالكسر وهو ما يفتح به، وقيل خزائنه وقياس واحدها المفتح. لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ
خبر إن والجملة صلة ما وهو ثاني مفعولي آتى، وناء به الحمل إذا أثقله حتى أماله، والعصبة والعصابة الجماعة الكثيرة واعصوصبوا اجتمعوا. وقرئ «لينوء» بالياء على إعطاء المضاف حكم المضاف إليه. إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ منصوب ب «تنوء». لاَ تَفْرَحْ لا تبطر والفرح بالدنيا مذموم مطلقاً لأنه نتيجة حبها والرضا بها والذهول عن ذهابها، فإن العلم بأن ما فيها من اللذة مفارقة لا محالة يوجب الترح كما قيل:
أَشد الغَمَّ عِنْدِي فِي سُرُور | تَيَقّن عَنْهُ صَاحِبهُ انتِقَالاَ |
إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ أي بزخارف الدنيا.
وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ من الغنى. الدَّارَ الْآخِرَةَ بصرفه فيما يوجبها لك فإن المقصود منه أن يكون وصلة إليها. وَلا تَنْسَ ولا تترك ترك المنسي. نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وهو أن تحصل بها آخرتك وتأخذ منها ما يكفيك. وَأَحْسِنْ إلى عباد الله. كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ فيما أنعم الله عليك. وقيل أَحْسِنْ بالشكر والطاعة كَما أَحْسَنَ إليك بالإِنعام. وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ بأمر يكون علة للظلم والبغي، نهي له عما كان عليه من الظلم والبغي. إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ لسوء أفعالهم.
قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي فضلت به على الناس واستوجبت به التفوق عليهم بالجاه والمال، وعَلى عِلْمٍ في موضع الحال وهو علم التوراة وكان أعلمهم بها، وقيل هو الكيمياء وقيل علم التجارة والدهقنة وسائر المكاسب، وقيل العلم بكنوز يوسف، وعِنْدِي صفة له أو متعلق ب أُوتِيتُهُ كقولك:
جاز هذا عندي أي في ظني واعتقادي. أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً تعجب وتوبيخ على اغتراره بقوته وكثرة ماله مع علمه بذلك لأنه قرأه في التوراة وسمعه من حفاظ التواريخ، أو رد لادعائه للعلم وتعظمه به بنفي هذا العلم عنه أي أعنده مثل ذلك العلم الذي ادعى ولم يعلم هذا حتى يقي به نفسه مصارع الهالكين. وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ سؤال استعلام فإنه تعالى مطلع عليها أو معاتبة فإنهم يعذبون بها بغتة، كأنه لما هدد قارون بذكر إهلاك من قبله ممن كانوا أقوى منه واغنى أكد ذلك بأن بين أنه لم يكن مطلعاً على ما يخصهم بل الله مطلع على ذنوب المجرمين كلهم معاقبهم عليها لا محالة.
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٧٩ الى ٨٠]
فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٧٩) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ (٨٠)
وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ بأحوال الآخرة للمتمنين. وَيْلَكُمْ دعاء بالهلاك استعمل للزجر عما لا يرتضى. ثَوابُ اللَّهِ في الآخرة. خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً مما أوتي قارون بل من الدنيا وما فيها.
وَلا يُلَقَّاها الضمير فيه للكلمة التي تكلم بها العلماء أو لل ثَوابُ، فإنه بمعنى المثوبة أو الجنة أو للإيمان والعمل الصالح فإنهما في معنى السيرة والطريقة. إِلَّا الصَّابِرُونَ على الطاعات وعن المعاصي.
[سورة القصص (٢٨) : آية ٨١]
فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (٨١)
فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ
روي أنه كان يؤذي موسى عليه السلام كل وقت وهو يداريه لقرابته حتى نزلت الزكاة، فصالحه عن كل ألف على واحد فحسبه فاستكثره، فعمد إلى أن يفضح موسى بين بني إسرائيل ليرفضوه، فبرطل بغية لترميه بنفسها فلما كان يوم العيد قام موسى خطيباً فقال: من سرق قطعناه، ومن زنى غير محصن جلدناه ومن زنى محصناً رجمناه، فقال قارون ولو كنت قال: ولو كنت، قال إن بني إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة فأحضرت، فناشدها موسى عليه السلام بالله أن تصدق فقالت: جعل لي قارون جعلاً على أن أرميك بنفسي، فخر موسى شاكياً منه إلى ربه فأوحى الله إليه أن مر الأرض بما شئت فقال: يا أرض خذيه فأخذته إلى ركبتيه، ثم قال خذيه فأخذته إلى وسطه، ثم قال خذيه فأخذته إلى عنقه، ثم قال خذيه فخسفت به وكان قارون يتضرع إليه في هذه الأحوال فلم يرحمه، فأوحى الله إليه ما أفظك استرحمك مراراً فلم ترحمه، وعزتي وجلالي لو دعاني مرة لأجبته، ثم قال بنو إسرائيل: إنما فعله ليرثه، فدعا الله تعالى حتى خسف بداره وأمواله.
فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ أعوان مشتقة من فأوت رأسه إذا ميلته. يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ فيدفعون عنه عذابه. وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ الممتنعين منه من قولهم نصره من عدوه فانتصر إذا منعه منه فامتنع.
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٨٢ الى ٨٣]
وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (٨٢) تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (٨٣)
وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ منزلته. بِالْأَمْسِ منذ زمان قريب. يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ يَبْسُطُ وَيَقْدِرُ بمقتضى مشيئته لا لكرامة تقتضي البسط ولا لهوان يوجب القبض، ووَيْكَأَنَّ عند البصريين مركب من «وي» للتعجب «وكأن» للتشبيه والمعنى: ما أشبه الأمر أَنَّ الله يَبْسُطُ الرزق. وقيل من «ويك» بمعنى ويلك و «أن» تقديره ويك اعلم أن الله. لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا فلم يعطنا ما تمنينا. لَخَسَفَ بِنا لتوليده فينا ما ولده فيه فخسف بنا لأجله. وقرأ حفص بفتح الخاء والسين. وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكافِرُونَ لنعمة الله أو المكذبون برسله وبما وعدوا لهم ثواب الآخرة.
تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ إشارة تعظيم كأنه قال: تلك الّتي سمعت خبرها وبلغك وصفها، والدَّارُ صفة والخبر: نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ غلبة وقهرا. وَلا فَساداً ظلما على الناس كما أراد فرعون وقارون. وَالْعاقِبَةُ المحمودة. لِلْمُتَّقِينَ ما لا يرضاه الله.
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٨٤ الى ٨٥]
مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٤) إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨٥)مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها ذاتا وقدرا ووصفا. وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ وضع فيه الظاهر موضع الضمير تهجينا لحالهم بتكرير إسناد السيئة إليهم. إِلَّا مَا كانُوا يَعْمَلُونَ أي إلا مثل ما كانوا يعملون فحذف المثل وأقيم ما كانُوا يَعْمَلُونَ مقامة مبالغة في المماثلة.
إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ أوجب عليك تلاوته وتبليغه والعمل بما فيه. لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ أي معاد وهو المقام المحمود الّذي وعدك أن يبعثك فيه، أو مكة الّتي اعتدت بها على أنه من العادة رده إليها يوم الفتح، كأنه لما حكم بأن الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ وأكد ذلك بوعد المحسنين ووعيد المسيئين وعده بالعاقبة الحسنى في الدارين.
روي أنه لما بلغ جحفة في مهاجره اشتاق إلى مولده ومولد آبائه فنزلت.
قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وما يستحقه من الثواب والنصر ومن منتصب بفعل يفسره أعلم. وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ وما استحقه من العذاب والإذلال يعني به نفسه والمشركين، وهو تقرير للوعد السابق وكذا قوله:
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٨٦ الى ٨٧]
وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (٨٦) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٨٧)
وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ أي سيردك إلى معادك كما ألقى إليك الكتاب وما كنت ترجوه.
إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ولكن ألقاه رحمة منه، ويجوز أن يكون استثناء محمولا على المعنى كأنه قال: وما ألقي إليك الكتاب إلا رحمة. فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ بمداراتهم والتحمل عنهم والإجابة إلى طلبتهم.
وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ عن قراءتها والعمل بها. بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وقرئ يَصُدُّنَّكَ من أصد. وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إلى عبادته وتوحيده. وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بمساعدتهم.
[سورة القصص (٢٨) : آية ٨٨]
وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٨)
وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ هذا وما قبله للتهييج وقطع أطماع المشركين عن مساعدته لَهُمْ. لاَ إِلهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ إلا ذاته فإن ما عداه ممكن هالك في حد ذاته معدوم. لَهُ الْحُكْمُ القضاء النافذ في الخلق. وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ للجزاء بالحق.
عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «من قرأ طسم القصص كان له من الأجر بعدد من صدق موسى وكذب ولم يبق ملك في السموات والأرض إلا شهد له يوم القيامة أنه صادقا».